سورة يسكلها مكية وهي ثمانون وثلاث آيات ١قول اللّه سبحانه وتعالى { يس } قرأ حمزة بين الكسر والفتح وقرأ الكسائي بالإمالة وقرأ الباقون بالفتح وقرأ ابن عامر والكسائي { يس} ٢{والقرآن } مدغم النون وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع وحمزة بإظهار النون وكل ذلك جائز في اللغة وقرئ في الشاذ { ياسين } بنصب النون ومعناه اتل ياسين لأن يس اسم السورة وقراءة العامة بالتسكين لأنها حروف هجاء ولا تحتمل الإعراب مثل قوله تعالى { الم } وروي عن ابن عباس في تفسير قوله { يس } يعني يا إنسان بلغة طيئ وهكذا قال مقاتل عن قتادة والضحاك وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال { يس } يعني يا محمد وروى معمر عن قتادة قال { يس } اسم من أسماء القرآن ويقال افتتاح السورة وقال مجاهد هذه فواتح السور يفتتح بها كلام رب العاليمن وقال شهر بن حوشب قال كعب { يس } قسم أقسم اللّه تعالى به قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام يا محمد ٣{ إنك لمن المرسلين } وقال ابن عباس في قوله { والقرآن الحكيم } أي أحكم حلاله وحرامه وأمره ونهيه ويقال حكيم يعني محكم من التناقض والعيب ويقال { الحكيم } أي الحاكم كالعليم يعني العالم يعني القرآن حاكم على جميع الكتب التي أنزلها اللّه تعالى من قبل { إنك لمن المرسلين } فهذا جواب القسم ومعناه يا إنسان { والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } يعني رسولا كسائر المرسلين جوابا لقولهم لست مرسلا ٤{ على صراط مستقيم } يعني أي على طريق الإسلام ٥ثم قال عز وجل { تنزيل العزيز الرحيم } قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في إحدى الروايتين { تنزيل } بضم اللام ومعناه هذا القرآن تنزيل أو هو تنزيل العزيز الرحيم وقرأ الباقون { تنزيل } بالنصب ومعناه نزله تنزيلا فصار نصبا بالمصدر ٦{ لتنذر } يعني لتخوف بالقرآن { قوما ما أنذر آباؤهم } يعني لم ينذر آباؤهم ولم يرسل إليهم رسولا منهم { فهم غافلون } عن ذلك ويقال { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم } يعني كما أنذر آباؤهم الأولون { فهم غافلون } عن ذلك يعني عما أنذر آباؤهم ٧ثم قال عز وجل { لقد حق القول } أي وجب القول بالعذاب { على أكثرهم } أي على الكفار ويقال { لقد حق القول } وهو قوله { لأملأن جهنم } [ الأعراف ١٨ ] ويقال { القول } كناية عن العذاب أي وجب عليهم العذاب { فهم لا يؤمنون } يعني لا يصدقون بالقرآن ٨{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } قال مقاتل وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ليدمغنه بحجر فأتاه وهو يصلي فرفع الحجر ليدمغه فيبست يده إلى عنقه والتزق الحجر بيده ورجع إلى أصحابه فخلصوا الحجر من يده ورجل آخر من بني المغيرة أتاه ليقتله فطمس اللّه على بصره فلم ير النبي صلى اللّه عليه وسلم وسمع قوله فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فذلك قوله { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } ٩{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا } وذكر في رواية الكلبي نحو هذا وقال بعضهم { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } أي جعلنا أيديهم ممسكة عن الخيرات مجازاة لكفرهم{ وجعلنا من بين أيديهم سدا } أي حائلا لا يهتدون إلى الإسلام ولا يبصرون الهدى وقال بعضهم { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } يعني أيديهم ولم يذكر في الآية اليد وفيها دليل لأن الغل لا يكون إلا باليد إلى العنق فلما ذكر العنق فكأنما ذكر اليد وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرأ { إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا }وقرأ بعضهم { في أيديهم }وكل ذلك يرجع إلى معنى واحد لأنه لا يجوز أن يكون الغل بأحدهما دون الآخر كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل ٨١ ] ولم يذكر البرد لأن في الكلام دليلا عليه ثم قال { فهي إلى الأذقان } أي تلك الأغلال إلى الأذقان { فهم مقمحون } أي الحنك الأيسر { مقمحون } أي رافع الرأس إلى السماء غاض الطرف لا يبصر موضع قدميه وقال قتادة أي مغلولين من كل خير ثم قال عز وجل { وجعلنا من بين أيديهم سدا } أي ظلمة { ومن خلفهم سدا } أي ظلمة { فأغشيناهم } بالظلمة { فهم لا يبصرون} ١٠{ وسواء عليهم أأنذرتهم } يعني خوفتهم اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التوبيخ { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } يعني سواء خوفتهم أم لم تخوفهم { فهم لا يؤمنون } يعني لا يصدقون وإنما نزلت الآية في شأن الذين ماتوا على كفرهم أو قتلوا على كفرهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { سدا } بنصب السين في كلاهما وقرأ الباقون بالضم وقال أبو عبيدة قراءتنا بالضم لأنهما من فعل اللّه تعالى وليس من فعل بني آدم وقال القتبي المقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره يقال بعير قامح إذا روي من الماء فقمحت عيناه وقال والسد الجبل { فأغشيناهم } قال أعمينا أبصارهم عن الهدى ١١ثم قال عز وجل { إنما تنذر من اتبع الذكر } يعني تخوف بالقرآن من اتبع الذكر يعني من قبل الموعظة وسمع القرآن { وخشي الرحمن بالغيب } يعني أطاعه في الغيب { فبشره بمغفرة } في الدنيا { وأجر كريم } في الآخرة ١٢ثم قال عز وجل { إنا نحن نحيي الموتى } يعني نبعثهم في الآخرة { ونكتب ما قدموا } يعني نحفظ ما اعملوا وما أسلفوا من أعمالهم ويقال { ونكتب ما قدموا } يعني تكتب أعمالهم الكرام الكاتبون ما عملوا من خير أو شر { وآثارهم } يعني ما استنوا من سنة خيرا أو شرا عملوه واقتدى بهم من بعدهم فلهم مثل أجورهم أو عليهم مثل أوزارهم من غير أن ينقص منه شيئا وهذا كقوله عز وجل { ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } [ القيامة ١٤ ] وهذا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( من سن سنة حسنة ) إلى آخره وقال مجاهد { وآثارهم } يعني خطاهم وروى مسروق أنه قال ما خطا عبد خطوة إلا كتبت له بها حسنة أو سيئة وروي عن جابر بن عبد اللّه أنه قال إن بني سلمة ذكروا للنبي صلى اللّه عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( يا بني سلمة دياركم فإنما تكتب آثاركم ) ثم قال { وكل شيء أحصيناه } أي حفظناه وبيناه { في إمام مبين } يعني في اللوح المحفوظ ١٣قوله عز وجل { واضرب لهم مثلا } أي وصف لهم شبها { أصحاب القرية } أهل القرية وهي أنطاكية { إذ جاءها المرسلون } يعني رسل عيسى عليهم السلام { إذ أرسلنا إليهم اثنين } قال مقاتل هما تومان وطالوس { فكذبوهما فعززنا بثالث } يعني قويناهما بثالث وهو شمعون رضي اللّه عنه وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { فعززنا } بالتخفيف ومعناهما غلبنا نقول عزه يعزه إذا غلبه ومنه قوله تعالى { وعزني في الخطاب } [ ص ٢٣ ] يعني غلبني في القول وقرأ الباقون { فعززنا } بالتشديد ومعناه قوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث وذلك أن عيسى ابن مريم عليهما السلام بعث رسولين إلى أنطاكية وإنما كان إرساله بإذن اللّه عز وجل فأضاف إليه حيث قال { إذ أرسلنا إليهم اثنين } ثم بعث بعد ذلك شمعون وروي في بعض الروايات أن عيسى عليه السلام أوصى إلى الحواريين أن يتفرقوا في البلدان ثم رفع عيسى إلى السماء وكان مجيء الرسل بعدما رفع عيسى وفي بعض الروايات أنه أرسل الرسل ثم رفع وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء عليهم السلام بدعاء عيسى عليه السلام فلما جاء الرسولان الأولان ودخلا أنطاكية وجعلا يناديان فيها بالإيمان بالرحمن يدعوان إلى الإيمان باللّه عز وجل ويزجران أهلها عن عبادة الأصنام والشيطان فأخذوهما شرط الملك وأتوا بهما إلى الملك فلما دخلا على الملك قالا إن الأوثان التي تعبدون ليست بشيء وإن إلهكم اللّه الذي في السماء وأن من مات منكم صار إلى النار فغضب الملك وجلدهما وسجنهما ثم حضر شمعون ودخل أنطاكية وجاء إلى السجن فقال للسجان ائذن لي حتى أدخل السجن فإني أريد أن أدفع إلى كل واحد فهما كسرة خبز فأذن له فدخل وجعل يعطي لكل واحد كسرة خبز حتى انتهى إلى صاحبيه فقال لهما إني أريد أن آتي الملك وأطلب فكاكما حتى أخلصكما فإنكما لم تأتيا الأمر من قبل وجهه ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زمانا من دهرها ثم ولدت غلاما فأسرعت لشبابه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغض بلقمة فمات فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء فأصابكما البلاء ثم انطلق شمعون وتركهما فقعد حتى إذا دخلوا بيت الأصنام دخل في صلاتهم فقام بين يدي تلك الأصنام يصلي ويتضرع ويسجد للّه تعالى ولا يشكون أنه على ملتهم وأنه إنما يدعو آلهتهم ففعل ذلك أياما فذكروا ذلك للملك فدعاه وكلمه وقال له من أين أنت فقال أنا رجل من بني إسرائيل وقد انقرضوا وكنت بقيتهم وجئت إلى أصحابك آنس بكم وأسكن إليكم فسأله الملك عن أشياء فوجده حسن الرأي فلبث فيهم ما شاء اللّه فلما رأى أمره قد استقام قال يا أيها الملك قد بلغني أنك سجنت رجلين منذ زمان يدعوانك إلى غير إلهك فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلاهما وأخاصمهما عنك فقال الملك نعم فدعاهما وأقيما بين يديه فقال لهما شمعون أخبراني عن إلهكما فقالا إنه يبرئ الأكمه والأبرص فدعي برجل ولد أعمى فدعوا اللّه تعالى فأبصر الأعمى قال شمعون فأنا أفعل مثل ذلك فأتي بآخر فدعا شمعون رضي اللّه عنه فبرئ فقال لهما شمعون لا فضل لكما علي بهذا ثم أتي برجل أبرص فدعا شمعون فبرئ وفعل شمعون بآخر مثل ذلك فقال لهما شمعون فهل عندكما شيء غير هذا فقالا نعم إن ربنا يحيي الميت فقال شمعون أنا لا أقدر على ذلك ثم قال للملك هل لك أن تأتي بالصنم فلعله يحيي الميت فيكون لك الفضل عليهما ولإلاهك فقال الملك إنك تعلم أنه لا يسمع ولا يبصر فكيف يحيي الموتى ثم قال له شمعون سلهما هل يستطيعان أن يفعلا مثل ما قالا فقال الملك عندما ميت قد مات منذ سبعة أيام وكان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه واستأذنوا في دفنه فأمرهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه فأمرهم بإحضار ذلك الميت فلم يزالا يدعوان اللّه تعالى وشمعون يعينهما بالدعاء في نفسه حتى أحياه اللّه تعالى فقال شمعون أنا أشهد أنهما صادقان وأن إلههما حق فاجتمع أهل المصر وقالوا إن كلمتهم كانت واحدة فرجموهم بالحجارة وجاء أب الغلام فأسلم وقتل أب الغلام أيضا وهو حبيب النجار ثم إن اللّه عز وجل بعث جبريل عليه السلام فصاح صيحة فماتوا كلهم فذلك ١٤قوله تعالى { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذوبهما فعززنا بثالث فقالوا } يعني هؤلاء الثلاثة { إنا إليكم مرسلون } وأروهم العلامات ١٥قوله عز وجل { قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا } يعني آدميا مثلنا { وما أنزل الرحمن من شيء } يعني لم يرسل الرسل من الآدميين { إن أنتم إلا تكذبون } بأنكم رسل اللّه تعالى يعني أرسلكم عيسى بأمر اللّه تعالى فأنكروا ذلك { قالوا ربنا يعلم } يعني الرسل ١٦قالوا { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } يعني أرسلنا عيسى عليه السلام بأمر اللّه تعالى ١٧{ وما علينا إلا البلاغ المبين } ١٨قوله عز وجل { قالوا إنا تطيرنا بكم } يعني قال أهل أنطاكية إنا تشاءمنا بكم وهذا الذي يصيبنا من شؤمكم وهو قحط المطر { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } يعني لنقتلنكم { وليمسنكم منا عذاب أليم} ١٩{قالوا طائركم معكم } يعني شؤمكم معكم وبأعمالكم الخبيثة ويقال إن الذي يصيبكم كان مكتوبا في أعناقكم { أئن ذكرتم } يعني إن وعظتم باللّه قرأ نافع وأبو عمرو { آين ذكرتم } بهمزة واحدة ممدودة وقرأ الباقون بهمزتين وقرأ زر بن حبيش { أن ذكرتم } بهمزة واحدة مع الفتح يعني لأنكم وعظتم فلم تتعظوا ومن قرأ بالاستفهام فمعناه إن وعظتم تطيرتم هذا جوابا لقولهم { إنا تطيرنا بكم } ويقال معناه { أئن ذكرتم }يعني حين وعظتم باللّه تعالى تشاءمتم بنا ثم قال { بل أنتم قوم مسرفون } يعني مشركون ٢٠قوله عز وجل { وجاء من أقصى المدينة } يعني من وسط المدينة وهو حبيب النجار { رجل يسعى } يعني يسعى في مشيه وقال بعضهم هو الذي عاش ابنه بعد الموت بدعاء الرسل فجاء وأسلم وقال بعضهم كان ابنه مريضا فبرئ بدعوة الرسل فصدق بهم فلما بلغه أن القوم أرادوا قتل الرسل جاء إليهم ليمنع الناس عن قتلهم وقال قتادة كان في غار يدعو ربه فلما بلغه مجيء الرسل أتاهم { قال يا قوم اتبعوا المرسلين } يعني دين المرسلين ثم قال للرسل هل تسألون على هذا أجرا فقالوا لا ٢١فقال القوم { اتبعوا من لا يسألكم أجرا } يعني على الإيمان { وهم مهتدون } يدعوكم إلى التوحيد فقال له قومه تبرأت عن ديننا واتبعت دين غيرنا ٢٢قوله عز وجل { وما لي لا أعبد الذي فطرني } يعني خلقني قرأ حمزة وابن عامر في إحدى الروايتين { وما لي } بسكون الياء وقرأ الباقون بالفتح { ومالي } وهما لغتان وكلاهما جائز ثم قال { وإليه ترجعون } يعني تصيرون إليه بعد الموت وهذا كقوله { وللّه ميراث السموات والأرض } [ آل عمران ١٨٠ ] فقالوا له ارجع إلى ديننا ٢٣فقال حبيب { أأتخذ من دونه آلهة } يعني أعبد من دونه أصناما { إن يردن الرحمن بضر } يعني ببلاء وشدة يعني إذا فعلت ذلك { لا تغن عني شفاعتهم شيئا } يعني لا تقدر الآلهة أن يشفعوا لي { ولا ينقذون } يعني لا يدفعون عني الضرر ٢٤{ إني } { لفي ضلال مبين } يعني إذا فعلت ذلك لفي خسران بين ٢٥{ إني آمنت بربكم فاسمعون } يعني فاشهدوني وأعينوني بقول لا إله إلا اللّه وقال ابن عباس ألقي في البئر وهو الرس كما قال { وأصحاب الرس } [ ق ١٢ ] وقال قتادة قتلوه بالحجارة وهو يقول رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون وقال مقاتل أخذوه ووطوؤه تحت أقدامهم حتى خرجت أمعاؤه ثم ألقي في البئر وقتلوا الرسل الثلاثة ٢٦فلما ذهب بروح حبيب النجار إلى الجنة { قيل } له { أدخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون } وذلك حين دخلها وعاين ما فيها من النعيم تمنى أن يسلم قومه فقال { يا ليت قومي يعلمون} ٢٧{بما غفر لي ربي} بالذي غفر لي ربي ويقال بمغفرتي ويقال بماذا غفر لي ربي فلو علموا لآمنوا بالرسل وقال { وجعلني من المكرمين } أي الموحدين في الجنة فنصح لهم في حياته وبعد وفاته ٢٨يقول اللّه تعالى { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } يعني من بعد حبيب النجار { من جند } من السماء يعني الملائكة { وما كنا منزلين } يعني لم نبعث إليهم أحدا ٢٩{ إن كانت إلا صيحة واحدة } يعني ما كانت إلا صيحة جبريل عليه السلام { فإذا هم خامدون } يعني ميتين لا يتحركون ٣٠قوله عز وجل { يا حسرة على العباد } يعني يا ندامة على العباد في الآخرة يعني يقولون يا حسرتنا على ما فعلنا بالأنبياء عليهم السلام { ما يأتيهم من رسول } في الدنيا { إلا كانوا به يستهزئون } ٣١ثم خوف المشركين بمثل عذاب الأمم الخالية ليعتبروا فقال { ألم يروا كم أهلكنا } يعني ألم يعلموا ويقال ألم يخبروا كم أهلكنا { قبلهم من القرون } يعني كم عاقبنا من القرون الماضية { أنهم إليهم لا يرجعون } إلى الدنيا ٣٢قوله عز وجل { وإن كل لما جميع لدينا محضرون } قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف فمن قرأ بالتشديد فمعناه وما كل إلا جميع ومن قرأ بالتخفيف فما زائدة مؤكدة والمعنى { وإن كل لجميع لدينا محضرون }يعني يوم القيامة محضرون عندنا ثم وعظهم كي يعتبروا من صنعه فيعرفوا توحيده ٣٣فقال تعالى { وآية لهم } يعني علامة وحدانيته { الأرض الميتة أحييناها } يعني الأرض اليابسة أحييناها بالمطر لتنبت { وأخرجنا منها حبا } يعني الحبوب كلها { فمنه يأكلون } ٣٤{ وجعلنا فيها } يعني وخلقنا الأرض { جنات } يعني البساتين { من نخيل وأعناب } وهي والكروم { وفجرنا فيها من العيون } يعني أجرينا في الأرض الأنهار تخرج من العيون ٣٥{ ليأكلوا من ثمره } يعني من الثمرات { وما عملته أيديهم } يعني لم تعمل أيديهم ويقال والذي عملت أيديهم مما يزرعون { أفلا يشكرون } رب هذه النعم فيوحدوه وقرأ حمزة والكسائي { ثمره } بالضم وقرأ الباقون بالنصب والثمر بالنصب جماعة الثمرة والثمرات جمع الجمع وهو الثمر مثل كتاب وكتب والثمر بالضم جمع الثمرات قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وما عملت } بغير هاء وقرأ الباقون بالهاء ومعناهما واحد ثم قال { أفلا يشكرون } اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر يعني اشكروا رب هذه النعم ووحدوه ٣٦ثم قال عز وجل { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } يعني تنزيها للّه عز وجل الذي خلق الأصناف كلها { مما تنبت الأرض } يعني ألوانا من النبات والثمار ففي كل شيء خلق اللّه تعالى دليل على وحدانيته تعالى وربوبيته ثم قال { ومن أنفسهم } يعني خلق من جنسهم أصنافا فالذكر والأنثى وألوانا مختلفة { ومما لا يعلمون } يعني وخلق من الخلق ما لا يعلمون وهذا كقوله { ويخلق ما لا تعلمون } [ النحل ٨ ] ٣٧ثم ذكر لهم دلالة أخرى ليعتبروا بها فقال عز وجل { وآية لهم الليل } يعني علامة وحدانيته الليل { نسلخ منه النهار } يعني نخرج ونميز منه النهار { فإذا هم مظلمون } يعني داخلون في الظلمة ويقال يبقون في الظلمة ويقال إن الذي خلق الدنيا مظلمة هو اللّه تعالى ٣٨ثم قال { والشمس } سراجا فإذا طلعت الشمس صارت الدنيا مضيئة وإذا غربت الشمس بقيت الظلمة كما كانت وهو قوله تعالى { نسلخ منه النهار } يعني ننزع الضوء منه { فإذا هم مظلمون } يعني يبقون في الظلمة ويقال { نسلخ الليل }يعني نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى منه شيء يعني من ضوء النهار كما نسلخ النهار من الليل فكذلك نسلخ الليل من النهار فكأنه يقول الليل نسلخ منه النهار والنهار نسلخ منه الليل فاكتفى بذكر أحدهما لأن في الكلام دليلا وقد ذكر في آية أخرى قال { يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل } [ الزمر ٥ ] ثم قال عز وجل { والشمس تجري لمستقر لها } قال مقاتل يعني لوقت لها وقال الكلبي تسير في منازلها وقال القتبي { والشمس تجري لمستقر لها } ومستقرها أقصى منازلها في الغروب وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزها وطريق آخر ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي اللّه عنه قال كنت جالسا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم عند غروب الشمس فقال ( يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ) قلت اللّه ورسوله أعلم قال ( فإنها تغرب وتذهب حتى تسجد تحت العرش وتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها حتى تستشفع وتطلب فإذا طال عليها قيل لها اطلعي مكانك فذلك قوله { والشمس تجري لمستقر لها } قال مستقرها تحت العرش ) ثم قال { ذلك تقدير العزيز العليم } { العزيز } بالنقمة { العليم } بما قدره من أمرها وخلقها وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ { والشمس تجري لا مستقر لها } يعني لا تقف ولا تستقر ولكنها جارية أبدا ٣٩ثم قال عز وجل { والقمر قدرناه منازل } قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { والقمر } بالضم وقرأ الباقون بنصب الراء فمن قرأ بالضم فله وجهان أحدهما أن يكون على الابتداء والثاني معناه { وآية لهم } القمر عطف على قوله { وآية لهم الليل } ومن قرأ بالنصب فمعناه وقدرنا القمر وقال مقاتل في قوله { والقمر قدرناه منازل } يعني قدرنا منازل في السماء يبدو رقيقا ثم يستوي ثم ينقص في آخر الشهر وقال الكلبي { قدرناه منازل } أي قدرناه منازل بالليل ينزل كل ليلة في منزل ويصعد في منزل حتى ينتهي إلى مستقره الذي لا يجاوزه ثم يعود إلى أدنى منازله ويقال إن القمر يدور في منازله في شهر واحد مثل ما تدور الشمس في منازلها في سنة واحدة قال مقاتل وذلك أن القمر عرضه ثمانون فرسخا مستديرة والشمس هكذا وكان ضوؤهما واحدا فأخذ تسعة وتسعون جزءا من القمر فألحقت بالشمس وروي عن ابن عباس أنه قال القمر أربعون فرسخا في أربعين فرسخا والشمس ستون فرسخا في ستين فرسخا وقال بعضهم القمر والشمس عرض كل واحد منهما مثل الدنيا كلها ثم قال تعالى { حتى عاد كالعرجون القديم } يعني صار كالعذق اليابس المتقوس الذي حال عليه الحول ويقال للقمر ثمانية وعشرون منزلا فإذا صار في آخر منازله دق حتى يعود كالعذق اليابس والعرجون إذا يبس دق واستقوس فشبه القمر به يعني صار في عين الناظر كالعرجون وإن كان هو في الحقيقة عظيم بنفسه إلا أنه في عين الناظر يراه دقيقا ٤٠ثم قال عز وجل { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } يعني أن تطلع في سلطان القمر وقال عكرمة كل واحد منهما سلطان للشمس سلطان بالنهار وللقمر سلطان بالليل فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل { ولا الليل سابق النهار } يعني لا يدرك سواد الليل ضوء النهار فيغلبه على ضوئه { وكل في فلك يسبحون } يعني في دوران يجرون ويدورون ويقال { يسبحون } يعني يسيرون فيه بالانبساط وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه وقال بعضهم السماء كالموج المكفوف والشمس والقمر والكواكب الدوارة يسبحون فيها وقال بعضهم الأفلاك كثيرة مختلفة في السير يقطع القمر في ثمانية وعشرين يوما والشمس تقطع في سنة وقال بعضهم الفلك واحد وجريهن مختلف والفلك في اللغة كل ما يدور ٤١ثم قال عز وجل { وآية لهم } يعني علامة لكفار مكة على معرفة وحدانية اللّه تعالى { أنا حملنا ذريتهم } آباءهم واسم الذرية يقع على الآباء والنسوة والصبيان وأصله الخلق كقوله عز وجل { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا } [ الأعراف ١٧٩ ] يعني خلقنا { ذريتهم } خاصة ثم قال عز وجل { في الفلك المشحون } يعني في سفينة نوح عليه السلام الموقرة المملوءة يعني حملنا ذريتهم في أصلاب آبائهم قرأ نافع وابن عامر { ذرياتهم } بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { ذريتهم } وأراد به الجنس ٤٢ثم قال عز وجل { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } يعني من مثل سفينة نوح عليه السلام ما يركبون في البحر وقال قتادة يعني الإبل يركب عليها في البر كما تركب السفن في البحر وقال السدي { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } فقال هذه السفن الصغار يعني الزوارق وقال عبد اللّه بن سلام هي الإبل قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه أخبرني الثقة بإسناده عن أبي صالح قال قال لي ابن عباس ما تقول في قوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } قلت هي السفن قال خذ مني إنما هي الإبل فلقيني بعد ذلك فقال إني ما رأيتك إلا وقد غلبتني فيها هي كما قلت ألا ترى أنه يقول ٤٣{ وإن نشأ نغرقهم } يعني إن نشأ نغرقهم في الماء { فلا صريخ لهم } يعني لا مغيث لهم { ولا هم ينقذون } يعني لا يمنعون فلا ينجون من الغرق ٤٤قوله عز وجل { إلا رحمة منا } يعني إلا نعمة منا حين لم نغرقهم ويقال معناه لكن رحمة منا بحيث لم نغرقهم { ومتاعا إلى حين } يعني بلاغا إلى آجالهم ٤٥ثم قال عز وجل { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } يعني { ما بين أيديكم } من أمر الآخرة فاعملوا لها { وما خلفكم } من أمر الدنيا فلا تغتروا بها وقال مقاتل { اتقوا ما بين أيديكم } لكيلا يصيبكم مثل عذاب الأمم الخالية { وما خلفكم } يعني واتقوا ما بعدكم أي من عذاب الآخرة والأول قول الكلبي ثم قال { لعلكم ترحمون } يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا ٤٦قوله عز وجل { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } مثل انشقاق القمر { إلا كانوا عنها معرضين } يعني مكذبين وهذا جواب لقوله عز وجل { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم } الآية ٤٧ثم أخبر عن حال زنادقة الكفار فقال عز وجل { وإذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم اللّه } يعني تصدقوا من المال الذي أعطاكم اللّه عز وجل { قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه } على وجه الاستهزاء منهم { إن أنتم إلا في ضلال مبين } يعني في خطأ بين قال بعضهم هذا قول الكفار الذين أمرهم بالنفقة وقال بعضهم هذا قول اللّه تعالى يعني قل لهم يا محمد { إن أنتم إلا في ضلال مبين } وروي عن ابن عباس مثل هذا ٤٨ثم قال عز وجل { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } يعني متى هذا الوعد الذي تعدنا به يوم القيامة { إن كنتم صادقين } بأنا نبعث بعد الموت ٤٩فيقول اللّه تعالى { ما ينظرون } بالعذاب { إلا صيحة واحدة } يعني لا خطر لإهلاكهم فليس إلا صيحة واحدة { تأخذهم وهم يخصمون } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { يخصمون } بكسر الياء والخاء وقرأ نافع { يخصمون } بنصب الياء وسكون الخاء وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص بنصب الياء وكسر الخاء وقرأ إبن كثير وأبو عمرو بنصب الياء والخاء وقراءة حمزة { يخصمون } بنصب الياء وجزم الخاء بغير تشديد ومعناه تأخذهم وبعضهم يخصم بعضا ومن قرأ بالتشديد فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد وشددت ومن قرأ بنصب الخاء طرح فتحة التاء على الخاء ومن قرأ بكسر الخاء فلسكونها وسكون الصاد وروي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال لينفخن في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله واحد منهما حتى ينفخ في الصور فيصعق بها فيضعونه وهي التي قال اللّه تعالى { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون } قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه وأخبرني الثقة بإسناده عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فلا يطويانه ولا يتبايعانه وتقوم الساعة والرجل يحلب الناقة فلا يصل الإناء على فيه وتقوم الساعة وهو يلوط الحوض فلا يسقى فيه ) ٥٠ثم قال تعالى { فلا يستطيعون توصية } يعني يموتون من ساعتهم بغير وصية فلا يستطيعون أن يوصوا إلى أهلهم بشيء { ولا إلى أهلهم يرجعون } يعني ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق فأخبر اللّه تعالى بما يلقون في النفخة الأولى ثم أخبر بما يلقون في النفخة الثانية يعني إذا بعثوا من قبورهم بعد الموت فذلك ٥١قوله { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث } من القبور { إلى ربهم ينسلون } يعني يخرجون من قبورهم أحياء وكان بين النفختين أربعين عاما في رواية ابن عباس وقيل أكثر من ذلك ورفع العذاب عن الكفار بين النفختين فكأنهم رقدوا فلما بعثوا ٥٢{ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } يعني من أيقظنا من منامنا قال لهم الحفظة من الملائكة { هذا ما وعد الرحمن } على ألسنة الرسل { وصدق المرسلون } بأن البعث حق ويقال إن المؤمنين هم الذين يقولون { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } بأن البعث كائن ٥٣ثم قال عز وجل { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } قال الكلبي يعني في الآخرة وقال مقاتل في بيت المقدس يجاء بهم ٥٤ثم قال { فاليوم لا تظلم نفس شيئا } يعني يوم القيامة لا تنقص نفس مؤمنة ولا كافرة من أعمالهم شيئا { ولا تجزون } يعني ولا تثابون { إلا ما كنتم تعملون } من خير أو شر ٥٥ثم قال { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } يعني في شغل مما هم فيه أي عن الذي هم فيه { فاكهون } يعني ناعمين قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { في شغل } بجزم الغين وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان يقال شغل وشغل مثل عذر وعذر وعمر وعمر قرأ أبو جعفر المدني { فكهون } بغير ألف وقراءة العامة ( فاكهون ) بالألف فمن قرأ بغير ألف يعني يتفكهون قال أبو عبيد يقال للرجل إذا كان يتفكه بالطعام أو بالفاكهة أو بأعراض الناس إن فلانا يتفكه ومنه يقال للمزاحة فكاهة ومن قرأ بالألف يعني ذوي فاكهة وفكهة وقال الفراء فاكهة وفكهة لغتان كما يقال حذر وحاذر وروي في التفسير { فاكهون } ناعمون وفكهون معجبون وقال الكلبي ومقاتل في قوله { إن أصحاب الجنة } يعني شغلوا بالنعم في افتضاض العذارى الأبكار عن أهل النار فلا يذكرونهم يعني معجبين بما هم فيه من النعم والكرامة قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثنا محمد بن الفضل بإسناده عن عكرمة { في شغل فاكهون } قال افتضاض الأبكار وروى زيد بن أرقم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( إن الرجل ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع ) فقال رجل من أهل الكتاب إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة فقال صلى اللّه عليه وسلم ( يفيض من جسد أحدهم عرق مثل المسك أذفر فيضمر بذلك بطنه ) ٥٦ثم قال تعالى { هم وأزواجهم في ظلال } قرأ حمزة والكسائي { في ظلل } وقرأ الباقون { في ظلال } فمن قرأ { في ظلل } فهو جمع الظلة يقال ظلة وظلل مثل حلة وحلل ومن قرأ بكسر الظاء فهو جمع الظل يعني هم في ظلال العرش والشجر ويقال معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني إن أهل الجنة { هم وأزواجهم } الحور العين في القصور { على الأرائك متكئون } يعني على السرر عليها الحجال وروى مجاهد عن ابن عباس قال الأرائك سرر في الحجال وقال الكلبي لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا فإذا تفرقا فليست بأريكة { متكئون } يعني ناعمون وإنما سمي هذا لأن الناعم يكون متكئا ٥٧ثم قال { لهم فيها فاكهة } يعني لهم في الجنة من أنواع الفاكهة { ولهم ما يدعون } يعني ما يتمنون مما شاءوا من الخير { سلام قولا من رب رحيم } يعني يرسل إليهم ربهم بالتحية والسلام والعرب تقول ادعي ما شئت { يدعون } يتمنون ٥٨فقوله عز وجل { سلام قولا } يعني يقال لهم سلام كأنهم يتلقونه بالسلام { من رب رحيم } ويقال { ولهم ما يدعون سلام } يعني لهم ما يشاؤون خالصا ثم قال { قولا من رب رحيم } ٥٩يقول اللّه تعالى { وامتازوا اليوم } وذلك أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } يعني اعتزلوا أيها الكفار من المؤمنين فإنهم قد تأذوا منكم في الدنيا فاعتزلوهم حتى ينجوا منكم ويقال إن المنادي ينادي { أيها المجرمون } امتازوا فإن المؤمنين قد فازوا وأيها المنافقون امتازوا فإن المخلصين قد فازوا ويا أيها الفاسقون امتازوا فإن الصالحين قد فازوا ويا أيها العاصون امتازوا فإن المطيعين قد فازوا ٦٠ثم يقول للكفار والمنافقين بعدما امتازوا { ألم أعهد إليكم } يعني ألم أتقدم إليكم ويقال ألم أبين لكم في القرآن ويقال ألم أوضح لكم { يا بني آدم } بالكتاب والرسل وقال القتبي العهد يكون لمعان يكون للأمانة كقوله { فأتموا إليهم عهدهم } [ التوبة ٤ ] ويكون لليمين ويكون للوثاق للميثاق ويكون للزمان كما يقال كان ذلك في عهد فلان أي في زمانه ويكون العهد للوصية { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } يعني أن لا تطيعوا الشيطان ٦١قال ابن عباس من أطاع شيئا فقد عبده { إنه لكم عدو مبين } يعني بين العداوة { وأن اعبدوني } يعني أطيعوني ووحدوني { هذا صراط مستقيم }يعني هذا التوحيد طريق مستقيم ويقال دين الإسلام هو طريق مستقيم لا عوج فيه وهو طريق الجنة ٦٢قوله عز وجل { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا } يعني خلقا كثيرا وقرأ نافع وعاصم { جبلا } بكسر الجيم والباء والتشديد وقرأ أبو عمرو وابن عامر { جبلا } بضم الجيم وجزم الباء والباقون بضم الجيم والباء ومعنى ذلك كله واحد وقال أهل اللغة الجبل والجبلة واحد يعني الناس الكثير { أفلم تكونوا تعقلون } ما فعل من كان قبلكم فتعتبروا فلم تطيعوه فلما دنوا من الباب قال لهم الخزنة ٦٣{ هذه جهنم التي كنتم توعدون } في الدنيا فلم تصدقوا بها ٦٤{ اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } في الدنيا يعني عقوبة لكم بما كفرتم ٦٥قوله عز وجل { اليوم نختم على أفواههم } وذلك حين قالوا { واللّه ربنا ما كنا مشركين } { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } يعني تعملون من الشرك والمعاصي ٦٦ثم قال { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } قال مقاتل يعني لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى { فاستبقوا الصراط } أي لجازوا { الصراط } الطريق { فأنى يبصرون } يعني فمن أين يبصرون الهدى بعدما جعلت قلوبهم قاسية وجعلت أعمالهم غطاء وأكنة على قلوبهم قال الكلبي { ولو نشاء } لفقأنا أعين الضلالة فأبصروا الطريق و { استبقوا } يعني الطريق { فأنى يبصرون } الطريق وقفأنا أعينهم وقال بعضهم ولو نشاء لأعمينا أبصارهم في أسواقهم ومجالسهم كما فعلنا بقوم لوط عليه السلام حين كذبوه وراودوه عن ضيفه { فاستبقوا الصراط } يعني فابتدروا الطريق هربا إلى منازلهم لو فعلنا ذلك بهم ٦٧ثم قال عز وجل { ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } يعني إن شئت لمسختهم حجارة في ضلالتهم أي منازلهم ليس فيها أرواح { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون } ولا يتقدمون ولا يتأخرون وهذا قول مقاتل وقال الكلبي لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير { فما استطاعوا مضيا } يعني فما قدروا ذهابا { ولا يرجعون } ٦٨قوله عز وجل { ومن نعمره } يعني من أطلنا عمره في الدنيا { ننكسه في الخلق } يعني نرده إلى أرذل العمر فلا يعقل فيه كعقله الأول قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر { ننكسه } بضم النون الأولى ونصب الثانية وكسر الكاف مع التشديد وقرأ الباقون ( ننكسه ) بنصب النون الأولى وجزم الثانية وضم الكاف والتخفيف ومعناهما واحد يقال نكسه ونكسه وأنكسه بمعنى واحد ومعناه من أطلنا عمره نكسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفا وبدل الشباب هرما وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { مكاناتهم } وقرأ الباقون { مكانتهم } والمكانة والمكان واحد مثل المنزل والمنزلة والمكانات جمع المكانة ثم قال { أفلا يعقلون } يعني أفلا تفهمون أن اللّه هو الذي يفعل ذلك فتوحدوه وليس لمعبودهم قدرة ذلك قرأ نافع وأبو عمرو { أفلا تعقلون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة { وأن اعبدوني } بالياء وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه ٦٩ثم قال عز وجل { وما علمناه الشعر } جوابا لقولهم إنه شاعر يعني أرسلنا إليه القرآن ولم نرسل إليه الشعر { وما ينبغي له } يعني لم يكن أهلا لذلك وقال ما يسهل له وما يحضره الشعر { إن هو إلا ذكر } يعني القرآن عظة لكم { وقرآن مبين } يعني يبين الحق من الضلالة وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال سألت عائشة رضي اللّه عنها هل كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت كان أبغض الحديث إليه الشعر ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة ( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود ) فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول ( ويأتيك بالأخبار من لم تزود بالأخبار ) فقال أبو بكر رضي اللّه عنه ليس هكذا يا رسول اللّه فقال ( لست بشاعر ولا ينبغي لي أن أتكلم بالشعر ) فإن قيل روي عنه أنه كان يتكلم بالشعر لأنه ذكر أنه قال ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وذكر أنه عثر يوما فدميت أصبعه فقال ( هل أنت إلا إصبع دميت وفي كتاب اللّه ما لقيت ) وذكر أنه قال يوم الخندق ( بسم الإله وبه هدينا ولو عبدنا غيره شقينا ) قيل له هذه كلمات تكلم بها فصارت موافقة للشعر وليست بشعر ٧٠ثم قال عز وجل { لينذر من كان حيا } يعني من كان مؤمنا لأن المؤمن هو الذي يقبل الإنذار ويقال { من كان حيا } يعني عاقلا راغبا في الطاعة قرأ نافع وابن عامر { لتنذر } بالتاء على معنى المخاطبة يقول لتنذر يا محمد وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنه يعني لينذر محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقال يعني لتنذر بالقرآن من كان مهتديا في علم اللّه تعالى { ويحق القول } يعني وجب العذاب { على الكافرين } يعني قوله { لأملأن جهنم } [ الأعراف ١٨ ] ثم وعظهم ليعتبروا ٧١ثم وعظهم ليعتبروا فقال { أو لم يروا أنا خلقنا لهم } يعني أو لم ينظروا فيعتبروا فيما أنعم اللّه عز وجل عليهم { إنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا } يعني أنا خلقنا بقوتنا وبقدرتنا وبأمرنا { أنعاما } يعني الإبل والبقر والغنم { فهم لها مالكون } يعني الأنعام ٧٢وقال قتادة يعني ما في بطونها { وذللناها لهم } يعني سخرناها لهم فيحملون عليها ويسوقونها حيث شاؤوا فلا تمتنع منهم { فمنها ركوبهم } في انتفاعهم وحوائجهم { ومنها يأكلون } من الإبل والبقر والغنم ٧٣{ ولهم فيها } يعني في الأنعام { منافع } في الركوب والحمل والصوف والوبر { ومشارب } يعني ألبانها { أفلا يشكرون } رب هذه النعمة فيوحدونه يعني اشكروا ووحدوا ٧٤قوله عز وجل { واتخذوا من دون اللّه آلهة } يعني تركوا عبادة رب هذه النعم وعبدوا الآلهة { لعلهم ينصرون } يعني لعل هذه الآلهة تمنعهم من العذاب في ظنهم ٧٥يقول اللّه عز وجل { لا يستطيعون نصرهم } يعني منعهم من العذاب { وهم لهم جند محضرون } يعني الكفار للأصنام جند يغضبون لها ويحضرونها للآلهة كالعبيد والخدم ويحضرونها في الدنيا ويقال { وهم لهم جند محضرون } في النار ٧٦ثم قال عز وجل { فلا يحزنك قولهم } يعني لا يحزنك يا محمد تكذيبهم إياك { إنا نعلم ما يسرون } من التكذيب { وما يعلنون } يعني ما يظهرون لك من العداوة ٧٧قوله عز وجل { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } روي سفيان عن الكلبي عن مجاهد قال أتى أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بعظم بالي قد أتى عليه حين ففته بيده ثم قال يا محمد أتعدنا أنا إذا متنا وكنا مثل هذا بعثنا فأنزل اللّه تعالى { أو لم ير الإنسان } الآية وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال لما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرون الماضية أنهم يبعثون بعد الموت وأنكم يا أهل مكة معهم فأخذ أبي بن خلف الجمحي عظما باليا فجعل يفته بيده ويذروه في الرياح ويقول عجبا يا أهل مكة إن محمدا يزعم أنا إذا متنا وكنا عظاما بالية مثل هذا العظم وكنا ترابا أنا نعاد خلقا جديدا وفينا الروح وذلك ما لا يكون أبدا فنزل { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } يعني أو لم يعلم هذا الكافر أنا خلقناه أول مرة من نطفة { فإذا هو خصيم مبين } يجادل بالباطل ويقال { خصيم } بين الخصومة فيما يخاصم { مبين } أي بين ٧٨ثم قال عز وجل { وضرب لنا مثلا } يعني وصف لنا شبها في أمر العظام ويقال وصف لنا بالعجز { ونسي خلقه } يعني وترك ابتداءه حين خلقه من نطفة ويقال ترك النظر في خلق نفسه فلم يعتبر و { قال من يحيي العظام وهي رميم } يعني بالية والرميم العظم البالي يقال رم العظم إذا بلي ٧٩قال اللّه تعالى لنبيه { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } يعني قل يا محمد العظام يحييها الذي { أنشأها } يعني خلقها أول مرة يعني في أول مرة ولم تكن شيئا ثم قال عز وجل { وهو بكل خلق عليم } يعني عليما ببعثهم وبخلقهم في الدنيا ٨٠ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا في البعث فقال { الذي جعل لكم } يعني قل يا محمد العظام يحييها { الذي جعل لكم } { من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } قال الكلبي كل شجرة يقدح منها النار إلا شجرة العناب فمن ذلك القصارون يدقون عليه { فإذا أنتم منه توقدون } يعني تقدحون يعني فهو الذي يقدر على أن يبعثكم ٨١ثم قال عز وجل { أو ليس الذي خلق السموات والأرض } وهي أعظم خلقا { بقادر على أن يخلق مثلهم } في الآخرة والكلام يخرج على لفظ الاستفهام ويراد به التقرير ثم قال { بلى } هو قادر على ذلك { وهو الخلاق العليم } يعني الباعث { العليم } ببعثهم ٨٢قوله عز وجل { إنما أمره إذا أراد شيئا } من أمر البعث وغيره { إن يقول له كن فيكون } خلقا قرأ ابن عامر والكسائي { فيكون } بالنصب وقد ذكرناه في سورة البقرة ٨٣ثم قال عز وجل { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } يعني خلق كل شيء من البعث وغيره ويقال خزائن كل شيء ويقال له القدرة على كل شيء { وإليه ترجعون } بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان بإسناده عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس فمن قرأ يس يريد بها وجه اللّه تعالى غفر له وأعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة وإيما مسلم قرئت عنده سورة يس حين ينزل به ملك الموت ينزل إليه بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبضه ويشهدون غسله ويشيعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه وأيما مسلم مريض قرئ عنده سورة يس وهو في سكرات الموت لا يقبض ملك الموت روحه حتى يجيء رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض ملك الموت روحه وهو ريان ويدخل قبره وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ويخرج من القبر وهو ريان ويحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء عليهم السلام حتى يدخل الجنة وهو ريان. واللّه تعالى أعلم بالصواب و صلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأداب وعلى آله وسلم |
﴿ ٠ ﴾