سورة ص

مكية وهي ثمانون وثمان آيات

١

قوله اللّه سبحانه تعالى { ص والقرآن } قرأ الحسن صاد بالكسر وجعلها من المصاداة يقول عارض القرآن أي عارض عملك بالقرآن

ويقال بقلبك

وروى معمر عن قتادة في قوله { ص والقرآن } قال هو كما تقول تلق كذا أي هيء نفسك بقدوم فلان يعني طهر نفسك بآداب القرآن كما قال صلى اللّه عليه وسلم ( القرآن مأدبة اللّه فتطعموا من مأدبته ) وكان عيسى بن عمر يقرأ صاد بالنصب وكذلك يقرأ قاف ونون بالنصب ومعناه اقرأ صاد وقراءة العامة بسكون الدال لأنها حروف هجاء فلا يدخلها الإعراب وتقديرها الوقف عليها

وقيل في التفسير قول اللّه تعالى { ص } يعني الصادق وهو اللّه

ويقال هو قسم

{ والقرآن } عطف عليه فقسم بعد قسم ومعناه أقسمت ب ( ص ) وبالقرآن وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه الصاد اسم بحر في السماء

وقال ابن مسعود في قوله { ص والقرآن } يعني صادقوا القرآن حتى تعرفوا الحق من الباطل

وقال الضحاك معناه صدق اللّه

ثم قال { والقرآن ذي الذكر } يعني والقرآن ذي الشرف

ويقال فيه ذكر من كان قبله وجواب القسم عند قوله { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص ٦٤ ] والجواب قد يكون مؤخرا عن الكلام كما قال { والفجر وليال عشر } [ الفجر ١ ، ٢ ] وجوابه قوله { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر ١٤ ] وقوله { والسماء ذات البروج } [ البروج ١ ] وجوابه قوله { إن بطش ربك لشديد } [ البروج ١٢ ]

وقال بعضهم جواب القسم ههنا { كم أهلكنا } ومعناه لكم أهلكنا فلما طال الكلام حذف اللام

٢

ثم قال { بل الذين كفروا في عزة } أي في حمية كقوله { أخذته العزة } [ البقرة ٢٠٦ ] يعني الحمية

ويقال { في عزة } يعني في تكبر { وشقاق } يعني في خلاف من الدين ويقال في عداوة ومباعدة وتكذيب

وقال القتبي { بل } في اللغة على وجهين أحدهما لتدارك كلام غلط فيه تقول رأيت زيدا بل عمروا والثاني أن يكون لترك شيء وأخذ غيره من الكلام كقوله { بل الذين كفروا في عزة وشقاق }

٣

ثم خوفهم فقال عز وجل { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } يعني من أمة { فنادوا } يعني فنادوا في الدنيا واستغاثوا { ولات حين مناص } يعني وليس تحين فرار

قال الكلبي وكانوا إذا قاتلوا قال بعضهم لبعض { ولات حين مناص } يقول احمل حملة واحدة فينجو من نجا ويهلك من هلك فلما أتاهم العذاب قالوا { مناص } مثل ما كانوا يقولون

فقال اللّه تعالى لهم ليس بحين فرار وهي لغة اليمن

وقال القتبي النوص التأخر والبوص التقدم في كلام العرب

وروى معمر عن قتادة في قوله { فنادوا ولات حين مناص } قال نادوا على غير حين النداء

وقال عكرمة نادوا وليس تحين انفلات

وقال أبو عبيدة اختلفوا في الوقف فقال بعضهم يوقف عند قوله { ولات } يم يبتدئ { تحين مناص } على خط الكتاب والذي عندنا أن الوقف عند قوله ولا ثم يبتدأ حين مناص لأنا لا نجد في اليوم شيء من كلام العرب ولات أما المعروف لا ولأن تفسير ابن عباس يشهد لها وذلك أنه قال ليس تحين فرار وليس هي أخت لا ولا بمعناها

قال أبو عبيدة ومع هذا تعمدت النظر في الذي يقال له مصحف الإمام وهو مصحف عثمان بن عفان رضي اللّه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين

٤

ثم قال عز وجل { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } يعني مخوف منهم ورسول منهم يعني من العرب وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم { وقال الكافرون هذا ساحر كذاب } يكذب على اللّه تعالى أنه رسوله

٥

 { أجعل الآلهة إلها واحدا } يعني كيف يتسع لحاجتنا إله واحد { إن هذا لشيء عجاب } يعني لأمر عجيب والعرب تحول فعيلا إلى فعال وههنا أصله شيء عجيب كما قال في سورة ق { عجيب } [ هود ٧٢ ، ق ٢ ] { وانطلق الملأ منهم }

قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه أخبرنا الثقة بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما مرض أبو طالب دخل عليه نفر من قريش فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويقول ويقول ويفعل ويفعل فأرسل إليه فانهه عن ذلك فلما فأرسل إليه أبو طالب قام النبي صلى اللّه عليه وسلم وجاء إلى عمه أبي طالب وكان إلى جنب أبي طالب موضع رجل فخشي أبو جهل إن جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم يجلس إلى جنب عمه أن يكون أرق له عليه فوثب أبو جهل فجلس في ذلك المجلس فلما جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يجد مجلسا إلا عند الباب فلما دخل قال له أبو طالب يا ابن أخي إن قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول وتفعل وتفعل فقال ( يا عم إني إنما أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها والعجم الجزية ) فقالوا وما هي فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( لا إله إلا اللّه ) فقاموا فزعين ينقضون ثيابهم ويقولون { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب }

٦

قوله عز وجل { وانطلق الملأ منهم } يعني الأشراف من قريش { إن امشوا } يعني امكثوا { واصبروا } يعني اثبتوا { على آلهتكم } يعني على عبادة آلهتكم { إن هذا لشيء يراد } يعني لأمر يراد كونه بأهل الأرض

٧

ويقال إن هذا لشيء يراد يعني لا يكون ولا يتم له { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } يعني في اليهود والنصارى { إن هذا إلا اختلاق } يعني يختلقه من قبل نفسه

ويقال في قوله { إن هذا لشيء يراد } يعني أراد أن يكون

٨

ثم قال عز وجل { أأنزل عليه الذكر من بيننا } يعني أخص بالنبوة من بيننا يقول اللّه عز وجل { بل هم في شك من ذكري } يعني في ريب من القرآن والتوحيد { بل لما يذوقوا عذاب } أي لم يذوقوا عذابي كقوله { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات ١٤ ] أي لم يدخل فهذا تهديد لهم أي سيذوقون عذابي

٩

ثم قال { أم عندهم خزائن رحمة ربك } يعني مفاتيح رحمة ربك يعني مفاتيح النبوة بأيديهم يعني ليس ذلك بأيديهم وإنما ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء { العزيز الوهاب } يعني بيد اللّه { العزيز } في ملكه { الوهاب } لمن يشاء

١٠

قوله عز وجل { أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } يعني ألهم ملكنا فيختاروا النبوة من يشاء بل اللّه يختار من يشاء يوحي إليه بالرسالة أي يوحي اللّه عز وجل بالرسالة لمن يشاء { فليرتقوا في الأسباب } يعني إن لم يرضوا بما فعل اللّه تعالى فليتكلفوا الصعود إلى السماء

وقال القتبي أسباب السماء أي أبواب السماء كما قال القائل أسباب السماء بسلم قال ويكون أيضا { فليرتقوا في الأسباب } يعني في الجبال إلى السماء كما سألوك أن ترقى في السماء فتأتيهم بكتابة وهذا كله توبيخ وتهديد بالعج

١١

ثم قال عز وجل { جند ما هنالك } يعني جند عند ذلك و { ما } زائدة يعني حين أرادوا قتل النبي { مهزوم } يعني مغلوب { من الأحزاب } يعني من الكفار

وقال مقاتل فأخبر اللّه تعالى بهزيمتهم ببدر

وقال الكلبي يعني عند ذلك إن أرادوه { مهزوم } مغلوب

١٢

ثم قال عز وجل { كذبت قبلهم } يعني من قبل أهل مكة { قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } يعني ذو ملك ثابت شديد دائم ويقال ذو بناء محكم ويقال يعني في عز ثابت والعرب تقول فلان في عز ثابت الأوتاد يريدون دائما شديدا وأصل هذا أن بيوت العرب تثبت بأوتاد ويقال هي أوتاد كانت لفرعون يعذب بها وكان إذا غضب على أحد شده بأربعة أوتاد

١٣

ثم قال { وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة } يعني الغيضة وهم قوم شعيب عليه السلام { أولئك الأحزاب } يعني الكفار سموا أحزابا لأنهم تحزبوا على أنبيائهم أي تجمعوا وأخبر في الابتداء أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب

١٤

 { إن كل } يعني ما كل { إلا كذب الرسل فحق عقاب } يعني وجب عذابي عليهم

١٥

قوله عز وجل { وما ينظر هؤلاء } يعني قومك { إلا صيحة واحدة } يعني النفخة الأولى { ما لها من فواق } يعني من نظرة ومن رجعة

قرأ حمزة والكسائي { فواق } بضم الفاء وقرأ الباقون بالنصب

ويقال ومعناهما واحد يسمى ما بين حلبتي الناقة { فواق } لأن اللبن يعود إلى الضرع وكذلك إفاقة المريض يعني يرجع إلى الصحة

فقال { ما لها من فواق } يعني من رجوع

وقال أبو عبيدة من فتحها أراد ما لها من راحة ولا إفاقة يذهب بها إلى إفاقة المريض ومن ضمها جعلها من فواق الناقة وهو ما بين الحلبتين يعني ما لها من انتظار

وقال القتبي الفواق والفواق واحد وهو ما بين الحلبتين

١٦

ثم قال تعالى { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا } قال ابن عباس وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لقريش ( من لم يؤمن باللّه أعطي كتابه بشماله ) فقالوا { ربنا عجل لنا قطنا } يعني صحيفتنا وكتابنا في الدنيا { قبل يوم الحساب } والقط في اللغة الصحيفة المكتوبة ويقال لما نزل قوله { فأما من أوتي كتابه بيمينه } [ الحاقة ١٩ ] فقالوا { ربنا عجل لنا } هذا الكتاب { قبل يوم الحساب } استهزاء

١٧

ثم عزى نبيه صلى اللّه عليه وسلم فقال عز وجل { اصبر على ما يقولون } من التكذيب { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } يعني ذا القوة على العبادة { إنه أواب } يعني مقبل على طاعة اللّه عز وجل

وقال مقاتل { أواب } يعني مطيع

١٨

قوله عز وجل { إنا سخرنا الجبال معه } يعني ذللنا الجبال { يسبحن } مع داود عليه السلام { بالعشي والإشراق } يعني في آخر النهار وأوله

وروى طاوس أن ابن عباس قال لأصحابه هل تجدون صلاة الضحى في القرآن قالوا لا قال بلى قوله { يسبحن بالعشي والإشراق } كانت صلاة الضحى يصليها داود عليه السلام

١٩

ثم قال عز وجل { والطير محشورة } يعني مجموعة { كل له أواب } يعني مطيع

وقال عمرو بن شرحبيل الأواب بلغة الحبشة المسيح وقال الكلبي المقبل على طاعة اللّه تعالى

٢٠

قوله عز وجل { وشددنا ملكه } يعني قوينا حراسه

قال مقاتل والكلبي كان يحرسه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل ويقال قوينا ملكه وأثبتناه وحفظناه عليه

وروي في الخبر أن غلاما استعدى على رجل وادعى عليه بقرا فأنكر المدعى عليه وقد كان لطمه لطمة حين ادعى عليه فسأل داود من الغلام البينة فلم يقمها فرأى داود في منامه أن اللّه عز وجل يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقر إلى الغلام

فقال داود هو منام ثم أتاه الوحي بذلك فأخبر بذلك بنو إسرائيل فجزعت بنو إسرائيل وقالوا رجل لطم غلاما لطمة فتقتله بذلك فقال داود عليه السلام هذا أمر اللّه تعالى به فسكتوا

ثم أحضر الرجل فأخبره أن اللّه تعالى أمره بقتله فقال الرجل صدقت يا نبي اللّه إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقر فقتله داود فعظمت هيبته وشدد ملكه وقالوا إنه يقضي بوحي اللّه تعالى

ثم إن اللّه تعالى أرخى سلسلة من السماء وأمره بأن يقضي بها بين الناس فمن كان على الحق يأخذ السلسلة ومن كان ظالما لا يقدر على أخذ السلسلة

وقد كان غصب رجل من رجل لؤلؤا فجعل اللؤلؤ في جوف عصا له ثم خاصمه المدعي إلى داود عليه السلام فقال المدعي إن هذا أخذ مني لؤلؤا وإني لصادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة ثم قال المدعى عليه خذ مني العصا فأخذ عصاه وقال إني قد دفعت إليه اللؤلؤ وإني لصادق في مقالتي فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود عليه السلام في ذلك فرفعت السلسلة وأمره بأن يقضي بالبينات والأيمان فذلك قوله عز وجل { وآتيناه الحكمة } يعني الفهم والعلم

ويقال يعني النبوة { وفصل الخطاب } يعني القضاء بالبينات والأيمان

وقال قتادة والحسن { وفصل الخطاب } يعني البينة على الطالب واليمين على المطلوب

٢١

ثم قال عز وجل { وهل أتاك نبأ الخصم } يعني خبر الخصم

ويقال خبر الخصوم { إذ تسوروا المحراب } والتسور أن يصعد في مكان مرتفع وإنما سمي المحراب سورا لارتفاعه من الأرض

ويقال { تسوروا } يعني دخلوا عليه من فوق الجدار

وقال الحسن البصري جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أيام فيوما لنسائه ويوما لقضائه ويوما يخلو فيه لعبادة ربه ويوما لبني إسرائيل ليسألونه

٢٢

فقال يوما لبني إسرائيل أيكم يستطيع أن يتفرغ لعبادة ربه يوما لا يصيب الشيطان منه شيئا فقالوا يا نبي اللّه لا يستطيع ذلك أحد

فحدث نفسه أنه يستطيع ذلك فدخل محرابه وأغلق أبوابه فقام يصلي في المحراب فجاء طائر في أحسن صورة مزين كأحسن ما يكون فوقع قريبا منه فنظر إليه فأعجبه فوقع في نفسه منه شيء فدنا منه ليأخذه فوقع قريبا منه وأطمعه وأراد أن يأخذه ففعل ذلك ثلاث مرات حتى إذا كان في الرابعة ضرب يده عليه فأخطأه ووقع على سور المحراب

قال وخلف المحراب حوض تغتسل فيه النساء فضرب يده عليه وهو على سور المحراب فأخطأه وهرب الطائر فأشرف داود فإذا بامرأة تغتسل فلما رأته نقضت شعرها فغطت جسدها فوقع في نفسه منها ما يشغله عن صلاته فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها فخرج حتى عرف بيتها وسألها من أنت فأخبرته فقال هل لك زوج قالت نعم

قال أين هو فقالت في بعث كذا وكذا وجند كذا وكذا فرجع وكتب إلى عامله إذا جاءك كتابي هذا فاجعل فلانا في أول الخيل فقدم في فوارس فقاتل فقتل

ثم انتظر حتى انقضت عدتها فخطبها وتزوجها فبينما هو في المحراب إذا تسور عليه ملكان وكان الباب مغلقا ففزع منهما فقالا لا تخف

{ خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق } يعني اقض بيننا بالعدل

٢٣

ثم خاصم أحدهما الآخر فقال { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } إلى آخره فعلم داود عليه السلام أنه مراد بذلك فخر راكعا وأناب

قال الحسن سجد أربعين ليلة لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة قال ولم يذق طعاما ولا شرابا حتى أوحى اللّه عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك وهكذا ذكر في رواية الكلبي عن ابن عباس أنه سجد أربعين يوما حتى سقط جلد وجهه ونبت العشب من دموعه قال يا رب كيف ترحمني وأنا أعلم أنك منتقم مني بخطيئتي وذكر أن جبريل عليه السلام قال له اذهب إلى أوريا فاستحل منه فإنك تسمع صوته في يوم كذا

فأتاه ذات ليلة فناداه فأجابه فاستحل منه فقال أنت في حل

فلما رجع قال له جبريل هل أخبرته بجرمك

قال لا

قال فإنك لم تفعل شيئا

قال فارجع فأخبره بالذي صنعت

فرجع داود فأخبره بذلك فقال أنا خصمك يوم القيامة

فرجع مغتما وبكى أربعين يوما فأتاه جبريل عليه السلام فقال إن اللّه تعالى يقول إني أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسري عنه ذلك وكان محزونا في عمره باكيا على خطيئته

وروي في خبر آخر أن داود سمع بني إسرائيل كانوا يقولون في دعائهم يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود فيستجاب لهم

فقال لهم داود عليه السلام اذكروني فيهم فقولوا يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود فقالوا اللّه أمرك بهذا قال لا

فقالوا لا نزيد فيهم مالم يأمرك اللّه تعالى بذلك

فسأل داود ربه أن يجعله فيهم فأوحى اللّه تعالى إليه وذكر له ما لقي إبراهيم من الشدائد وما لقي إسحاق ويعقوب عليهم السلام

فسأل داود ربه أن يبتليه ببلية لكي يبلغ منزلتهم فابتلي بذلك حتى بلغ مبلغهم

وقال بعضهم هذه القصة لا تصح لأنه لا يظن بالنبي أنه يفعل مثل ذلك ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه فقال للمدعي لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فنسبه إلى الظلم بقول المدعي وكان ذلك منه زلة فاستغفر ربه عن زلته فذلك قوله { إذ دخلوا على داود }

وقال بعضهم كانوا اثنين فذكر بلفظ الجماعة فقال { إذ دخلوا على داود }

وقال بعضهم كانوا جماعة ولكنهم كانوا فريقين فقال { إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض } يعني استطال وظلم بعضنا بعضا { فاحكم بيننا بالحق } يعني اقض بيننا بالعدل { ولا تشطط } أي ولا تجر في الحكم والقضاء

ويقال أشططت إذا جرت { واهدنا إلى سواء الصراط } يعني أرشدنا إلى أعدل الطريق

قوله عز وجل { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها } يعني أعطني هذه النعجة وهذا قول الكلبي ومقاتل

وقال القتبي {أكفلنيها } يعني ضمها إلي واجعلن كافلها { وعزني في الخطاب } يعني غلبني في الكلام

٢٤

{ قال } داود { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} أي مع نعاجه { وإن كثيرا من الخلطاء } يعني من الإخوان والشركاء { ليبغي بعضهم على بعض } يعني ليظلم بعضهم بعضا { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم لا يظلمون { وقليل ما هم } يعني قليل منهم الذين لا يظلمون

فلما قضى بينهما داود عليه السلام أحب أن يعرفهما فصعدا إلى السماء حيال وجهه { وظن داود } يعني علم داود

ويقال ظن بمعنى أيقن إلا أنه ليس بيقين عيان لأن العيان لا يقال فيه إلا العلم

{ أنما فتناه } يعني ابتليناه واختبرناه

ويقال إنهما ضحكا وذهبا فعلم داود أن اللّه عز وجل ابتلاه بذلك

وروي عن أبي عمرو في بعض الروايات أنه قرأ { أنما فتناه } بالتخفيف ومعناه ظن أن الملكين اختبراه وامتحناه في الحكم وقراءة العامة { فتناه } بالتشديد يعني أن اللّه عز وجل قد اختبره وامتحنه بالملكين

{ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } يعني أقبل إلى طاعة اللّه بالتوبة

وروى عطاء بن السائب عن أبي عبد اللّه الجبلي قال إن داود عليه السلام لم يرفع رأسه إلى السماء مذ أصاب الخطيئة حتى مات وذكر في الخبر أن داود عليه السلام كان له تسع وتسعون امرأة فتزوج امرأة أوريا على شرط أن يكون ولدها خليفة بعده فولد له منها سليمان عليه السلام وكان خليفته بعده

٢٥

يقول اللّه عز وجل { فغفرنا له ذلك } يعني ذنبه { وإن له عندنا لزلفى } لقربة { وحسن مآب } أي المرجع في الآخرة

وروي أن كاتبا كان يكتب قوله تعالى { وخر راكعا وأناب } وكان تحت شجرة فقرأها وكتبها فخرت الشجرة ساجدة للّه تعالى وهي تقول اللّه م اغفر بها ذنبا وخرت الدواة ساجدة كذلك وهي تقول اللّه م أحطط عني بها وزرا وكذلك الصحيفة التي في يده وهي تقول اللّه م أحدث مني بها شكرا

وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول اللّه م اكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود

قال ابن عباس فقرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم آية سجدة ثم سجد فسمعته وهو يقول مثلما أخبره الرجل عن قول الشجرة

وأيضا سئل ابن عباس عن سجدة { ص } من أين سجدت قال أما تقرأ هذه الآية { ومن ذريته داود وسليمان } ثم قال { فبهداهم اقتده } فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدى به فسجدها داود فسجدها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقتداء به

٢٦

قوله عز وجل { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } يعني أكرمناك بالنبوة وجعلناك خليفة والخليفة الذي يقوم مقام الذي قبله فقام مقام الخلفاء الذين قبله وكان قبله النبوة في سبط والملك في سبط آخر فأعطاهما اللّه تعالى لداود

{ فاحكم بين الناس بالحق } يعني بالعدل { ولا تتبع الهوى } أي لا تمل إلى هوى نفسك فتقضي بغير عدل

ويقال لا تعمل بالجور في القضاء { ولا تتبع الهوى } كما اتبعت في بتشايع وهي امرأة أوريا { فيضلك عن سبيل اللّه } يعني عن طاعة اللّه تعالى

ويقال يعني الهوى يستزلك عن دين اللّه { إن الذين يضلون عن سبيل اللّه } يعني عن دين اللّه الإسلام { لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } يعني بما تركوا من العمل ليوم القيامة فلم يخافوه

ويقال بما تركوا الإيمان بيوم القيامة

٢٧

قوله عز وجل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما } من الخلق { باطلا } يعني عبثا لغير شيء بل خلقناهما لأمر هو كائن { ذلك ظن الذين كفروا } يعني يظنون أنهما خلقتا لغير شيء وأنكروا البعث { فويل للذين كفروا من النار } يعني جحدوا من النار يعني من عذاب النار

ثم قال { أم نجعل الذي آمنوا وعملوا الصالحات } وذلك أن كفار مكة قالوا إنا نعطى في الآخرة من الخير أكثر مما تعطون فنزل { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } في الثواب { كالمفسدين في الأرض } يعني كالمشركين

وقال في رواية الكلبي نزلت في مبارزي يوم بدر { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي اللّه عنهم { كالمفسدين في الأرض } يعني عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد

ويقال نزلت في جميع المسلمين وجميع الكافرين يعني لا نجعل جزاء المؤمنين كجزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما قال في آية أخرى { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء } [ الجاثية ٢١ ]

٢٨

ثم قال عز وجل { أم نجعل المتقين كالفجار } يعني كالكفار في الثواب اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الوعيد

٢٩

ثم قال عز وجل { كتاب أنزلناه إليك مبارك } يعني أنزلنا جبريل عليه السلام به إليك { مبارك } يعني كتاب مبارك فيه مغفرة للذنوب لمن آمن به وصدقه وعمل بما فيه { ليدبروا آياته } لكي يتفكروا آياته

قرأ عاصم في إحدى الروايتين { لتدبروا } بالتاء مع النصب وتخفيف الدال وهو بمعنى لتتدبروا

فحذفت إحدى التاءين وتركت الأخرى خفيفة وقراءة العامة { ليدبروا } بالياء وتشديد الدال وهو بمعنى ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال وشددت

ثم قال عز وجل { وليتذكر } يعني وليتعظ بالقرآن { أولو الألباب } يعني ذوي العقول من الناس

٣٠

قوله عز وجل { ووهبنا لداود سليمان } يعني أعطينا لداود سليمان

وروي عن ابن عباس أنه قال أولادنا من مواهب اللّه عز وجل لنا ثم قرأ و { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } [ الشورى ٤٩ ] فوهب اللّه تعالى لداود سليمان { نعم العبد إنه أواب } يعني مقبلا إلى طاعة اللّه تعالى

٣١

قوله عز وجل { إذ عرض عليه بالعشي } يعني في آخر النهار { الصافنات الجياد } يعني الخيل

قال الكلبي ومقاتل صفن الفرس إذا رفع إحدى رجليه فيقوم على طرف حافره

وقال أهل اللغة الصافن الواقف من الخيل وفي الخبر ( من أحب أن يقوم له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار ) يعني يديمون له القيام والجياد الحسان ويقال الإسراع في المشي

وقال ابن عباس في رواية الكلبي إن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعا وأقبلوا ليقاتلوا سليمان فقهرهم سليمان وأصاب منهم ألف فرس عراب فعرضت على سليمان الخيل فجعل ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى شغلته عن صلاة العصر وغربت الشمس ثم ذكرها بعد ذلك فغضب وقال { ردوها علي } فضرب سوقها وأعناقها بالسيف حتى عقر منها تسعمائة فرس وهي التي كانت عرضت عليه وبقيت مائة فرس لم تعرض عليه فما كان في أيدي الناس فهو منها من نسل المائة الباقية

٣٢

فقال { إني أحببت حب الخير } يعني آثرت حب المال

{ عن ذكر ربي } يعني عن الصلاة وهي صلاة العصر { حتى توارت بالحجاب } يعني حتى غابت الشمس وهذا إضمار لما لم يسبق ذكرها يعني ذكر الشمس لأن في الكلام دليلا فاكتفى بالإشارة عن العبارة

٣٣

قوله عز وجل { ردوها علي } يعني قال سليمان ردوا الخيل علي فردت عليه { فطفق مسحا بالسوق } يعني يضرب السوق وهو جماعة الساق { والأعناق } جمع العنق

وروي عن إبراهيم النخعي قال كانت عشرين ألف فرس

وقال السدي كانت خيل لها أجنحة

وقال أبو الليث يجوز أن يكون مراده في سرعة السير كأن لها أجنحة

وقال بعضهم كانت الشياطين والجن أخرجتها من البحر

وقال عامة المفسرين في قوله { فطفق مسحا بالسوق والأعناق }يعني يضرب سوقها وأعناقها

وقال بعضهم لم يعقر ولكن جعل على سوقهن وعلى أعناقهن سمة وجعلها في سبيل اللّه قال لأن التوبة لا تكون بأمر منكر ولكن الجواب عنه أن يقال له يجوز أن يكون ذلك مباحا في ذلك الوقت وإنما أراد بذلك الاستهانة بمال الدنيا لمكان فريضة اللّه تعالى

٣٤

قوله عز وجل { ولقد فتنا سليمان } ابتليناه { وألقينا على كرسيه جسدا } يعني شيطانا

قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن سليمان أمر بأن لا يتزوج إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل فعاقبه اللّه تعالى فأخذ شيطان يقال له صخر خاتمه وجلس على كرسيه أربعين يوما وقد ذكرنا قصته في سورة البقرة { ثم أناب } يعني رجع إلى ملكه وأقبل على طاعة اللّه تعالى

وقال الحسن في قوله تعالى { وألقينا على كرسيه جسدا } قال شيطانا

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال سألت كعبا عن قوله { وألقينا على كرسيه جسدا } قال شيطانا يعني أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه فقذفه في البحر فوقع في بطن سمكة وانطلق سليمان يطوف فتصدق عليه بسمكة فشواها ليأكل فإذا فيها خاتمه

قوله { ثم أناب } يعني رجع إلى ملكه

وقال وهب بن منبه إن سليمان تزوج امرأة من أهل الكتاب وكان لها عبد فطلبت منه أن يجزرها لعبدها يعني ينحر الجزور فأجزرها فكره ذلك منه ثم ابتلي بالجسد الذي ألقي على كرسيه

وروى معمر عن قتادة في قوله { وألقينا على كرسيه جسدا } قال كان الشيطان جلس على كرسيه أربعين ليلة حتى رد اللّه تعالى إليه ملكه

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { وألقينا على كرسيه جسدا } قال شيطان يقال له صخر قال له سليمان يوما كيف تفتنون الناس فقال له أرني خاتمك أخبرك

فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد صخر على كرسيه ومنعه اللّه تعالى نساء سليمان فلم يقربهن

فأنكرته أم سليمان أهو سليمان أم آصف فكان يقول أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوما حوتا فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه ودخل صخر البحر فارا

وذكر شهر بن حوشب نحو هذا وقال لما جلس سليمان على سريره بعث في طلب صخر فأتي به فأمر به فقورت له صخرة وأدخله فيها ثم أطبق عليها وألقاه في البحر وقال هذا سجنك إلى يوم القيامة

وقال بعضهم هذا التفسير الذي قاله هؤلاء الذين ذكروا أنه شيطان لا يصح لأنه لا يجوز من الحكيم أن يسلط شيطانا من الشياطين على أحكام المسلمين ويجلسه على كرسي نبي من الأنبياء عليهم السلام ولكن تأويل الآية واللّه أعلم أن سليمان كان له ابن فجاء ملك الموت يوما زائرا لسليمان فرآه ابنه فخافه وتغير لونه ومرض من هيبته فأمر سليمان عليه السلام الريح بأن تحمل ابنه فوق السحاب ليزول ذلك عنه فلما رفعته الريح فوق السحاب ودنا أجله فقبض ابنه وألقي على كرسيه فذلك قوله { وألقينا على كرسيه جسدا } يعني ابنه الميت

قال والدليل على ذلك أن الجسد في اللغة هو الميت الذي لا يأكل الطعام والشراب كالميت ونحوه

وذكر أن سليمان جزع على ابنه إذ لم يكن له ابن إلا إياه فدخل عليه ملكان فقال أحدهما إن هذا مشى في زرعي فأفسده فقال له سليمان لم مشيت في زرعه فقال لأن هذا الرجل زرع في طريق الناس ولم أجد مسلكا غير ذلك

فقال سليمان للآخر لم زرعت في طريق الناس أما علمت أن الناس لا بد لهم من طريق يمشون فيه فقال لسليمان صدقت لم ولدت على طريق الموت أما علمت أن ممر الخلق على الموت ثم غابا عنه فاستغفر سليمان فذلك قوله { ثم أناب } يعني تاب ورجع إلى طاعة اللّه عز وجل

٣٥

قوله عز وجل { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } قال سعيد بن جبير أعطني ملكا لا تسلبه كما سلبت المرة الأولى

ويقال إنما تمنى ملكا لا يكون لأحد من بعده حتى يكون ذلك معجزة له وعلامة لنبوته

{ إنك أنت الوهاب } يعني المعطي الملك

٣٦

قوله عز وجل { فسخرنا له الريح تجري بأمره } وكان من قبل ذلك لم تسخر له الريح والشياطين فلما دعا بذلك سخرت له الريح والشياطين

فقال { فسخرنا له الريح تجري بأمره } يعني بأمر سليمان

ويقال بأمر اللّه تعالى { رخاء } يعني لينة مطيعة { حيث أصاب } يعني حيث أراد من الأرض والنواحي { أصاب } يعني أراد

وقال الأصمعي العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب يعني أراد الصواب وأخطأ الجواب

٣٧

{ والشياطين } يعني سخرنا له كل شيء وسخرنا له الشياطين أيضا { كل بناء وغواص } يعني يغوصون في البحر ويستخرجون اللؤلؤ

وقال مقاتل وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر

٣٨

{ وآخرين مقرنين } يعني مردة الشياطين موثقين { في الأصفاد } يعني في الحديد ويقال { الأصفاد } الأغلال

٣٩

ثم قال عز وجل { هذا عطاؤنا } يعني هذا عطاؤنا لك وكرامتنا عليك { فامنن } يعني اعتق من شئت منهم فخل سبيله من الشياطين { أو أمسك } يعني احبس في العمل والوثاق والسلاسل من شئت منهم { بغير حساب } أي فلا تبعة عليك في الآخرة فيمن أرسلته وفيمن حبسته

٤٠

ويقال ليس عليك بذلك إثم { وإن له عندنا لزلفى } يعني لقربى { وحسن مآب } يعني حسن المرجع

٤١

قوله عز وجل { واذكر عبدنا أيوب } يعني واذكر صبر عبدنا أيوب { إذ نادى ربه } يعني دعا ربه { أني مسني الشيطان } يعني أصابني الشيطان { بنصب وعذاب } وهو المشقة والعناء والأمراض وعذاب في ماله يعني هلاك أهله وماله وقد ذكرناه في سورة الأنبياء

٤٢

قوله عز وجل { اركض برجلك هذا } يعني قال له جبريل عليه السلام اضرب الأرض برجلك فضرب فنبعت عين من تحت قدميه فاغتسل منها فخرج منها صحيحا ثم ضرب برجله الأخرى فنبعت عين أخرى ماء عذب بارد فشرب منها فذلك قوله { هذا مغتسل } يعني الذي اغتسل منها

ثم قال { بارد وشراب } يعني الذي شرب منها

٤٣

قوله عز وجل { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا } يعني قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة

وقال الكلبي { ضغثا } أي مجتمعا

وقال مقاتل الضغث القبضة الواحدة فأخذ عيدانا رطبة وهي الآس فيه مائة عود

٤٤

وقال القتبي الضغث الحزمة من الكلأ أو العيدان { فاضرب به } يعني اضرب به امرأتك { ولا تحنث } في يمينك

وقال الزجاج قالت امرأته لو ذبحت عناقا باسم الشيطان فقال لا ولا كفا من تراب وحلف أنه يضربها مائة سوط وأمر بأن يبر في يمينه { إنا وجدناه صابرا } على البلاء الذي ابتليناه { نعم العبد إنه أواب } يعني مقبلا على طاعة ربه

وقال وهب بن منبه أصاب أيوب البلاء سبع سنين ومكث يوسف في السجن سبع سنين ويقال لأنه أواب لما هلك ماله قال كان ذلك من عطاء اللّه

ولما هلك أولاده قال إن للّه وإن إليه راجعون

ولما ابتلي بالنفس قال أنى له ويقال واذكر أنت يا محمد صبر عبدنا أيوب إذ ضاق صدرك من أذى الكفار وأمر أمتك ليذكروا صبره ويعتبروا ويصبروا

٤٥

ثم قال عز وجل { واذكر عبادنا إبراهيم } قرأ إبن كثير { واذكر عبدنا } بغير ألف وقرأ الباقون { عبادنا } بالألف فمن قرأ عبدنا فمعناه { واذكر عبدنا إبراهيم } فجعل العبد نعتا لإبراهيم خاصة فكأنه قال { واذكر عبدنا إبراهيم } { و } اذكر { إسحاق ويعقوب }ومن قرأ { عبادنا } يعني ما بعده مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب { أولي الأيدي والأبصار } يعني أولي القوة في العبادة والأبصار يعني ذوي البصر في أمر اللّه تعالى

٤٦

قوله عز وجل { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } يعني اختصصناهم بذكر اللّه تعالى وبذكر الجنة وليس لهم هم إلا هم الآخرة

ويقال معناه واذكر صبر إبراهيم وصبر إسحاق وصبر يعقوب ولم يذكر صبر إسماعيل لأنه لم يبتل بشيء

قرأ نافع { بخالصة } بغير تنوين على معنى الإضافة وقرأ الباقون بالتنوين

وروى مالك بن دينار قال نزع اللّه ما في قلوبهم من حب الدنيا وذكرها وقد أخلصهم بحب الآخرة وذكرها

ومن قرأ { بخالصة } بالتنوين جعل قوله { ذكرى الدار } بدلا من خالصة والمعنى { إنا أخلصناهم } بذكر الدار والدار هاهنا دار الآخرة يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يكثرون ذكر الدار الآخرة والرجوع إلى اللّه تعالى

٤٧

ثم قال عز وجل { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } يعني المختارين بالرسالة الأخيار في الجنة

٤٨

ثم قال { واذكر إسماعيل } قال مقاتل واذكر صبر إسماعيل وهو أشمويل بن هلقانا وقال غيره هو إسماعيل بن إبراهيم يعني اذكر لقومك إسماعيل وصدق وعده { واليسع وذا الكفل } { واليسع } كان خليفة إلياس { وذا الكفل } كفل مائة نبي أطعمهم وكساهم { وكل من الأخيار }

٤٩

{ هذا ذكر } يعني هذا الذي ذكرنا من الأنبياء عليهم السلام في هذه السورة { ذكر } يعني بيان لعظمته { وإن للمتقين } من هذه الأمة { لحسن مآب } يعني حسن المرجع

٥٠

ثم وصف الجنة فقال عز وجل { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } يعني تفتح لهم الأبواب فيدخلونها يعني الجنة كما قال تعالى في آية أخرى { حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } [ الزمر ٧٣ ] فإذا دخلوها وجلسوا على السرر وكانوا

٥١

 { متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب } يعني ألوان الفاكهة والشراب

٥٢

{ وعندهم قاصرات الطرف } يعني غاضات أعينهن عن غير أزواجهن { أتراب } يعني ذات أقران يعني مستويات على سن واحد

٥٣

 { هذا ما توعدون ليوم الحساب } يقول إن هذا الثواب الذي توعدون بأنه يكون لكم في يوم الحساب وقرأ إبن كثير وأبو عمرو بالياء على معنى الإخبار وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة

٥٤

يقول اللّه تعالى { إن هذا لرزقنا } يعني هذا الذي ذكرنا لعطاؤنا للمتقين { ما له من نفاد } يعني لا يكون له فناء ولا انقطاع عنهم وهذا كما قال تعالى في آية أخرى { لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة ٣٣ ] ثم قال { هذا } يعني هذا الرزق للمتقين فيتم الكلام عند قوله { هذا }

٥٥

ثم ذكر ما أوعد الكفار فقال عز وجل { وإن للطاغين لشر مآب } يعني للكافرين لبئس المرجع في الآخرة

٥٦

ثم بين مرجعهم فقال عز وجل { جهنم يصلونها } يعني يدخلونها { فبئس المهاد } يعني فبئس موضع القرار

٥٧

 { هذا } يعني العذاب { فليذوقوه حميم وغساق } وهو ماء حار قد انتهى حره قرأ حمزة والكسائي وحفص { غساق } بتشديد السين وقرأ الباقون بالتخفيف وعن عاصم روايتان

فمن قرأ بالتشديد فهو بمعنى سيال وهو ما يسيل من جلود أهل النار

ومن قرأ بالتخفيف جعله مصدر غسق يغسق غساقا أي سال

وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قرأ { غساق } بالتشديد وفسراه بالزمهرير

وقال مقاتل { الغساق } البارد الذي انتهى برده

وقال الكلبي الحميم هو ماء حار قد انتهى حره وأما غساق فهو الزمهرير يعني برد يحرق كما تحرق النار

وقال بعضهم الغساق المنتن بلفظ التخاوية

٥٨

ثم قال عز وجل { وأخر من شكله أزواج } يعني وعذاب آخر من نحوه يعني من نحو الحميم والزمهرير

قرأ أبو عمر وإبن كثير في إحدى الروايتين { وأخر من شكله } بضم الألف وقرأ الباقون { وآخر } بالنصب فمن قرأ بالضم فهو لفظ الجماعة ومعناه وأنواع أخر ومن قرأ { وأخر } بنصب الألف بلفظ الواحد يعني وعذاب آخر من شكله أي مثل عذابه الأول { أزواج } يعني ألوان

٥٩

 { هذا فوج مقتحم معكم } يعني جماعة داخلة معكم النار يقال اقتحم إذا دخل في المهالك وأصله الدخول فتقول الخزنة للقادة وهذه جماعة داخلة معكم النار وهم الأتباع { لا مرحبا بهم } يعني لا وسع اللّه لهم { إنهم صالوا النار } يعني داخل النار معكم فردت الأتباع على القادة

٦٠

{ قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم } يعني لا وسع اللّه عليكم { أنتم قدمتموه لنا } يعني أسلفتموه لنا وبدأتم بالكفر قبلنا فاتبعناكم { فبئس القرار } يعني بئس موضع القرار في النار

 ٦١

قوله عز وجل { قالوا ربنا من قدم لنا هذا } يعني هذا الأمر الذي كنا فيه { فزده عذابا ضعفا في النار}

٦٢

{ وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } يعني فقراء المسلمين

٦٣

قوله عز وجل { أتخذناهم سخريا } قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو { سخريا اتخذناهم } بالوصل وقرأ الباقون { اتخذناهم } بالقطع

فمن قرأ بالقطع فهو على معنى الاستفهام بدليل قوله { أم زاغت عنهم الأبصار } لأن { أم } تدل على الاستفهام

ومن قرأ بالوصل فمعناه أنا { اتخذناهم سخريا } وجعل { أم } بمعنى بل وقرأ حمزة والكسائي ونافع { سخريا } بضم السين وقرأ الباقون بالكسر

قال القتبي فمن قرأ بالضم جعله من السخرة يعني تستذلهم ومن قرأ بالكسر فمعناه إنا كنا نسخر منهم

ثم قال { أم زاغت عنهم الأبصار } يعني مالت وحادت أبصارنا عنهم فلا نراهم

٦٤

قال اللّه سبحانه وتعالى { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } يعني يتكلم به أهل النار ويتخاصمون فيما بينهم

٦٥

{ قل } يا محمد { إنما أنا منذر } يعني رسول أخوفكم عذاب اللّه تعالى وأبين لكم أن اللّه تعالى واحد { وما من إله إلا اللّه الواحد القهار } يعني قاهر لخلقه

٦٦

 { رب السموات والأرض وما بينهما العزيز } بالنقمة { الغفار } للمؤمنين

٦٧

قوله عز وجل { قل هو نبأ عظيم } يقول القرآن حديث عظيم لأنه كلام رب العالمين

٦٨

 { أنتم عنه معرضون } يعني تاركون فلا تؤمنون به

وقال الزجاج { قل هو نبأ عظيم } يعني قل إن النبأ الذي أنبأتكم عن اللّه عز وجل { نبأ عظيم } فيه دليل نبوتي مما ذكر فيه من قصة آدم عليه السلام فإن ذلك لا يعرف إلا بوحي أو بقراءة كتب ولم يكن قرأ الكتب

٦٩

ثم قال { ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } يعني الملائكة عليهم السلام { إذ يختصمون } يعني يتكلمون حين قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة ٣٠ ] وإنما عرفت ذلك بالوحي

٧٠

{إن يوحى إلي } يعني مايوحي إلي { إلا أنما أنا نذير مبين } إلا أنا رسول بين

٧١

ثم قال عز وجل { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين } يعني آدم

٧٢

 { فإذا سويته } يعني جمعت خلقه { ونفخت فيه من روحي } يعني وجعلت الروح فيه { فقعوا له ساجدين } يعني اسجدوا له

٧٣

{ فسجد الملائكة كلهم أجمعون } سجدوا كلهم دفعة واحدة

٧٤

 { إلا إبليس } أبى عن السجود { استكبر وكان من الكافرين } يعني صار من الكافرين

٧٥

 { قال يا إبليس ما منعك } يعني يا خبيث { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } يعني الذي خلقته بيدي

قال بعضهم نؤمن بهذه الآية ونقرؤها هنا ولا نعرف تفسيرها يعني قوله { بيدي }

وقال بعضهم تفسيرها كما قال اللّه تعالى { خلقته بيدي }ولا نفسر اليد ونقول يد لا كالأيدي وهذا قول أهل السنة والجماعة

وقال بعضهم نفسرها بما يليق من صفات اللّه تعالى يعني خلقه بقدرته وقوته وإرادته

فإن قيل قد خلق اللّه عز وجل سائر الأشياء بقوته وقدرته وإرادته فما الفائدة في التخصيص هاهنا قيل له قد قدذكر اليد في خلق سائر الأشياء أيضا وهو قوله { أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما } [ يس ٧١ ] ويقال { لما خلقت بيدي } أي بقوتي قوة العلم وقوة القدرة

ويقال { خلقت بيدي } أي بماء السماء وتراب الأرض كما قال عليه السلام خلق اللّه الخلق من ماء

وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن وكذلك الأخبار قد جاء فيها أيضا ما له ظهر وبطن وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( لا تقولوا فلان قبيح فإن اللّه عز وجل خلق آدم على صورته )

ومن قال إن اللّه صورة كصورة آدم فهو كافر ولكن المعنى في الخبر ما روي عن بعض المتقدمين أنه قال إن اللّه تبارك وتعالى اختار من الصور صورة وخلق آدم عليه السلام بتلك الصورة فمن ذلك قال ( إن اللّه تعالى خلق آدم على صورته ) أي على تلك الصورة التي اختارها اللّه

روى شبل عن إبن كثير أنه قرأ { بيدي استكبرت } موصولة الألف وقراءة العامة بقطع الألف على الاستفهام بدليل قوله عز وجل { أم كنت من العالين } ومن قرأ موصولة فهو على معنى الوجوب وتكون { أم } بمعنى بل { استكبرت } يعني تعظمت عن السجود { أم كنت من العالين } بل كنت من العالين يعني من المخالفين لأمري

٧٦

 قال { إبليس } أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

٧٧

قوله عز وجل { قال فاخرج منها فإنك رجيم }

٧٨

{ وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين }

٧٩

{ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون }

٨٠

{ قال فإنك من المنظرين }

٨١

{ إلى يوم الوقت المعلوم } وقد ذكرناه من قبل

٨٢

 {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين }

٨٣

{ إلا عبادك منهم المخلصين }

٨٤

{ قال } اللّه تعالى { فالحق والحق أقول } يقال معناه قولي الحق وأقول الحق والحق قولي قرأ حمزة وعاصم { فالحق } بالضم القاف وقرأ الباقون بالنصب واتفقوا في الثاني أنه بالنصب فمن قرأ بالضم فمعناه أنا الحق والحق أقول

ويقال فمعناه فالحق مني والحق أقول

ويقال معناه فقولنا الحق وأقول الحق

٨٥

 { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } يعني من ذريتك ومن تبعك في دينك

ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الإغراء يعني الزموا الحق واتبعوا الحق

ثم قال { والحق أقول } يعني وأقول الحق كقوله عز وجل { ومن أصدق من اللّه قيلا } [ النساء ١٢٢ ] ثم قال عز وجل { لأملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } يعني من ذريتك ومن تبعك في دينك

٨٦

ثم قال عز وجل { قل } يا محمد { ما أسألكم عليه } يعني على الذي أتيتكم به من القرآن { من أجر } ولكن أعلمكم بغير أجر { وما أنا من المتكلفين } يعني ما أتيتكم به من قبل نفسي وما تكلفته من تلقاء نفسي

٨٧

 { إن هو } يعني ما هذا القرآن { إلا ذكر للعالمين } يعني إلا عظة للجن والإنس

٨٨

 { ولتعلمن نبأه بعد حين } يعني خبر هذا القرآن أنه حق بعد حين يعني بعد الموت

ويقال بعد الإسلام ويقال بعد ظهور الإسلام واللّه أعلم بالصواب

﴿ ٠