سورة الجاثيةمكية وهي ثلاثون وسبع آيات ١قوله تبارك وتعالى { حم } ٢{ تنزيل الكتاب } يعني هذا الكتاب تنزيل { من اللّه العزيز الحكيم } وقد ذكرناه ٣{ إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين } يعني لعبرات للمؤمنين في خلقهن ويقال معناه أن ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم وفي الأرض من الجبال والأشجار والأنهار وغيرها من العجائب لعبرات ودلائل واضحات للمؤمنين يعني للمقرين المصدقين ويقال { للمؤمنين } يعني لمن أراد أن يؤمن ويتقي الشرك ٤قوله عز وجل { وفي خلقكم وما يبث من دابة } يعني وفيما خلق من الدواب { آيات لقوم يوقنون } يعني عبرات ودلائل لمن كان له يقين قرأ حمزة والكسائي { آيات } بالكسر والباقون بالضم وكذلك الاختلاف في الذي بعده فمن قرأ بالكسر فإن المعنى إن في خلقكم آيات لقوم يوقنون فهو في موضع النصب إلا أن هذه التاء تصير خفضا في موضع النصب وإنما أضمر فيه إن لأن قوله { إن في السموات والأرض لآيات } في موضع النصب فكذلك في الثاني معناه إن في خلقكم آيات ومن قرأ بالضم فهو على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آيات ٥قوله عز وجل { واختلاف الليل والنهار } يعني في اختلاف الليل والنهار في سواد الليل وبياض النهار يعني في اختلاف ألوانهما وذهاب الليل ومجيء النهار { آيات لقوم يعقلون } لمن كان له ذهن الإنسانية { وما أنزل اللّه من السماء من رزق } وهو المطر { فأحيا به الأرض بعد موتها } يعني بعد يبسها وقحطها { وتصريف الرياح } مرة رحمة ومرة عذابا ويقال مرة جنوبا ومرة شمالا ٦ثم قال { تلك آيات اللّه } يعني هذه دلائل اللّه وعلامة وحدانيته { نتلوها عليك بالحق } يعني يقرأ عليك جبريل من القرآن بأمر اللّه { فبأي حديث بعد اللّه وآياته يؤمنون } قال مقات إن لم تؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعد توحيد اللّه وبعد القرآن تؤمنون يعني تصدقون ٧قوله تعالى { ويل لكل أفاك أثيم } يعني كذابا فاجرا ٨{ يسمع آيات اللّه } يعني القرآن { تتلى عليه } يعني يعرض عليه ويقرأ عليه { ثم يصر مستكبرا } يعني يقيم على الكفر متكبرا عن الإيمان { كأن لم يسمعها } يعني كأن لم يعقلها ولم يفهمها { فبشره } يا محمد { بعذاب أليم } يعني شديدا قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وآياته تؤمنون } بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم ٩قوله عز وجل { وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا } يعني إذا سمع من آياتنا يعني من القرآن اتخذها { هزوا } يعني سخرية ويقال مثل حديث رستم وإسنفديار وهو النضر بن الحارث { أولئك لهم عذاب مهين } يهانون فيه ١٠قوله تعالى { من ورائهم جهنم } يعني أمامهم جهنم ويقال من بعدهم في الآخرة جهنم { ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا } يعني لا ينفعهم ما جمعوا من المال { ولا ما اتخذوا من دون اللّه أولياء } يعني لا ينفعهم ما عبدوا دونه من الأصنام { ولهم عذاب عظيم } في الآخرة ١١قوله تعالى { هذا هدى } يعني هذا القرآن بيان من الضلالة ويقال هذا العذاب الذي ذكر حق { والذين كفروا } يعني جحدوا { بآيات ربهم } القرآن { لهم عذاب من رجز أليم } يعني وجيعا في الآخرة قرأ إبن كثير وعاصم في رواية حفص { أليم } بضم الميم والباقون { أليم } بالكسر كما ذكرنا في سورة سبأ ١٢ثم ذكرهم النعم ليعتبروا فقال تعالى { اللّه الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } وقد ذكرناه ١٣ثم قال { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض } يعني ذلل لكم ما في السموات وما في الأرض لصلاحكم ثم قال تعالى { جميعا منه } يعني جميع ما سخر اللّه تعالى وهو من قدرة ورحمته ويقال { جميعا منه } يعني منة منه قال مقاتل يعني جميعا من أمره وروى عكرمة عن ابن عباس قال { جميعا منه } منه النور ومنه الشمس ومنه القمر { إن في ذلك } يعني فيما ذكر { لآيات } يعني له دلالات وعبرات { لقوم يتفكرون } يعتبرون في صنعه وتوحيده وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه مر بقوم يتفكرون في الخالق فقال ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق ) وروى وكيع عن هشام عن عروة عن أبيه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق السماء فيقول اللّه فيقول من خلق الأرض فيقول اللّه فيقول من خلق اللّه تعالى فإذا افتتن أحدكم بذلك فليقل آمنت باللّه ورسوله) ١٤قول اللّه تعالى { قل للذين آمنوا } قال مقاتل والكلبي وذلك أن رجلا من الكفار من قريش شتم عمر رضي اللّه عنه بمكة فهم عمر بأن يبطش به فأمره اللّه بالتجاوز عنه فقال { قل للذين آمنوا } يعني عمر رضي اللّه عنه { يغفروا للذين } يعني يتجاوزوا ولا يعاقبوا الذين { لا يرجون أيام اللّه } يعني لا يخافون عقوبته التي أهلك بها عادا وثمودا والقرون التي أهلكت قبلهم يعني لا يخشون مثل أيام الأمم الخالية قال قتادة ثم نسختها آية القتال { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة ٣٦ ] ثم قال { ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } يعني يجزيهم بأعمالهم في الآخرة قال مجاهد { لا يرجون أيام اللّه } يعني لا ينالون نعم اللّه قرأ حمزة والكسائي وابن عامر { لنجزي } بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه والباقون { لنجزي } بالياء أي ليجزي اللّه ١٥قوله عز وجل { من عمل صالحا فلنفسه } يعني ثوابه لنفسه { ومن أساء فعليها } يعني عقوبته عليها { ثم إلى ربكم ترجعون } في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم ١٦قال اللّه تعالى { ولقد آتينا بني إسرائيل } يعني أولاد يعقوب { الكتاب } أي التوراة والزبور والإنجيل لأن موسى وداود وعيسى كانوا في بني إسرائيل { والحكم } يعني الفهم والعلم { والنبوة } يعني جعلنا فيهم النبوة فكان فيهم ألف نبي { ورزقناهم من الطيبات } يعني الحلال من الرزق وهو المن والسلوى ويقال { رزقناهم من الطيبات } يعني أورثناهم أموال فرعون { وفضلناهم على العالمين } يعني فضلناهم بالإسلام على عالمي زمانهم ١٧{ وآتيناهم بينات من الأمر } يعني الحلال والحرام وبيان ما كان قبلهم ثم اختلفوا بعده قوله تعالى { فما اختلفوا } يعني في الدين { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم في كتبهم { بغيا بينهم } يعني حسدا منهم وطلبا للعز والملك ويقال اختلفوا في الدين فصاروا أحزابا فيما بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من دين بعض قال اللّه تعالى { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة } يعني يحكم بينهم { فيما كانوا فيه يختلفون } في الكتاب والدين ١٨قوله عز وجل { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } يعني أمرناك وألزمناك وأثبتناك على شريعة يعني على سنة من الأمر وذلك حين دعوه إلى ملتهم ويقال { على شريعة } يعني على ملة ومذهب ويقال { جعلناك على شريعة من الأمر } أي أمرناك وألزناك على شريعة وقال قتادة الشريعة الفرائض والحدود والأحكام { فاتبعها } يعني اثبت عليها { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } يعني لا يصدقون بالتوحيد ١٩{ إنهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئا } يعني إن تركت الإسلام إنهم لا يمنعوك من عذاب اللّه شيئا { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } يعني بعضهم على دين بعض { واللّه ولي المتقين } أي ناصر الموحدين المخلصين ٢٠قوله تعالى { هذا بصائر للناس } يعني هذا بيان للناس ويقال { بصائر للناس } يبصرهم ما لهم وما عليهم والواحدة بصيرة يعني يبين لهم الحلال والحرام ويقال هذا القرآن دلائل للناس ويقال دعوة وكرامة { وهدى ورحمة } يعني هدى من الضلالة ورحمة من العذاب { لقوم يوقنون } يعني يصدقون بالرسل والكتاب ويوقنون أن اللّه تعالى أنزل نعمة وفضلا ٢١
قوله عز وجل { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } يعني اكتسبوا السيئات وذلك أنهم كانوا يقولون إنا نعطى في الآخرة من الخير ما لم تعطوا قال اللّه تعالى { أم حسب } يعني أيظن الذين عملوا الشرك وهو عتبة وشيبة والوليد وغيرهم { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي اللّه عنهم { سواء محياهم ومماتهم } يعني يكونون سواء في نعم الآخرة وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { سواء } بالنصب والباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه أحسبوا أن نجعلهم سواء أي مستويا فيجعل { أن نجعلهم } متعديا إلى مفعولين ومن قرأ بالضم جعل تمام الكلام عند قوله { وعملوا الصالحات } ثم ابتدأ فقال { سواء محياهم ومماتهم } خبر الابتداء وقال مجاهد { سواء محياهم ومماتهم } قال المؤمنون في الدنيا والآخرة مؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر في الدنيا والآخرة كافر يموت على الكفر ويبعث على الكفر وروى أبو الزبير عن جابر قال يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه ثم قال { ساء ما يحكمون } أي بئس ما يقضون الخير لأنفسهم حين يرون أن لهم ما في الآخرة ما للمؤمنين ٢٢قوله عز وجل { وخلق اللّه السموات والأرض بالحق } وقد ذكرناه { ولتجزي كل نفس بما كسبت } يعني ما عملت { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم ولا يزادون على سيئاتهم ٢٣قوله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى حجره وعبد الأخر وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } قال يعمل بهواه ولا يهوى شيئا إلا ركبه ولا يخاف اللّه ثم قال { وأضله اللّه على علم } يعني علم منه أنه ليس من أهل الهدى { وختم على سمعه وقلبه } يعني خذله اللّه فلم يسمع الهدى قلبه يعني ختم على قلبه فلا يرغب في الحق { وجعل على بصره غشاوة } يعني غطاء كي لا يعتبر في دلائل اللّه تعالى قرأ حمزة والكسائي { غشوة } بنصب الغين بغير ألف والباقون غشاوة كما اختلفوا في سورة البقرة ومعناهما واحد ثم قال { فمن يهديه من بعد اللّه } يعني من بعد ما أضله اللّه { أفلا تذكرون } أن من لا يقبل إلى دين اللّه ولا يرغب في طاعته لا يكرمه بالهدى والتوحيد
٢٤قوله تعالى { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } يعني آجالنا تنقضي { نموت ويحيي } آخرون يعني نموت نحن ويحيا أولادنا ويقال يموت قوم ويحيا آخرون ووجه آخر { نموت ونحيا } يعني نحيا ونموت لأن الواو للجمع لا للتأخير ووجه آخر { نموت ونحيا } أي كنا أمواتا في أصل الخلقة ثم نحيا ثم يهلكنا الدهر فذلك قوله { وما يهلكنا إلا الدهر } يعني لا يميتنا إلا مضي الأيام وطول العمر قال تعالى { وما لهم بذلك من علم } يعني يقولون قولا بغير حجة ويتكلمون بالجهل { إن هم إلا يظنون } يعني ما هم إلا جاهلون ٢٥قوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني القرآن آياته { بينات } واضحات بين فيه الحلال والحرام { ما كان حجتهم } يعني لم تكن حجتهم وجوابهم { إلا أن قالوا ائتوا بآيائنا } يعني أحيوا لنا آباءنا { إن كنتم صادقين } بأن نبعث ٢٦{ قل اللّه يحييكم } يخلقكم من النطفة { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم { ثم يجمعكم إلى يوم القيامة } يعني يوم القيامة يجمع أولكم وآخركم { لا ريب فيه } لا شك فيه عند المؤمنين ويقال لا ينبغي أن يشك فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني أهل مكة لا يعلمون بالبعث بعد الموت ٢٧قوله عز وجل { وللّه ملك السموات والأرض } يعني خزائن السموات والأرض ويقال له نفاذ الأمر في السموات والأرض { ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون } يعني يخسر المكذبون بالبعث وهم أهل الباطل والكذب ٢٨ثم قال { وترى كل أمة جاثية } يعني مجتمعة للحساب على الركب { كل أمة تدعى إلى كتابها } يعني إلى ما في كتابها من خير أو شر وهذا كقوله { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم }[ الإسراء ٧١ ] يعني بكتابهم { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } يعني يقال لهم اليوم تثابون بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر ٢٩قوله تعالى { هذا كتابنا ينطق عليكم } يعني الذي كتب عليكم الحفظة { ينطق عليكم } { بالحق } يعني يشهد عليكم بالصدق يعني أنتم تقرأونه فيذكركم فكأنه ينطق عليكم ثم قال { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } يعني نستنسخ عملكم من اللوح المحفوظ نسخة أعمالكم { ما كنتم تعملون } من الحسنات والسيئات قال أبو الليث رحمه اللّه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني أرطأة بن المنذر عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( أول ما خلق اللّه القلم فكتب ما يكون في الدنيا من عمل معمول برا وفاجرا وأحصاه في الذكر فاقرؤوا إن شئتم { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } فهل يكون النسخ إلا من شيء قد فرغ منه ) وروى الضحاك عن ابن عباس قال أن اللّه تعالى وكل ملائكته يستنسخون عن ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة فيعارضون به حفظه اللّه تعالى على عبادة كل عشية خميس فيجدون ما رفع الحفظة موافقا لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ألستم قوما عربا هل يكون النسخ إلا من أصل كان قبل ذلك وقال القتبي { إنا كنا نستنسخ } قال إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد ثم يقابلونه بما في أم الكتاب فما فيه من ثواب أو عقاب أثبت وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي فذلك قوله { يمحوا اللّه من يشاء ويثبت } [ الرعد ٣٩ ] الآية وقال الكلبي يرفعان ما كتبا فينسخان ما فيها من خير أو شر ويطرح ما سوى ذلك ٣٠ثم قال { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين } وقد ذكرناه ٣١قوله عز وجل { وأما الذين كفروا } يعني جحدوا الكتاب والرسل والتوحيد يقال لهم { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } يعني تقرأ عليكم في الدنيا { فاستكبرتم } يعني تكبرتم عن الإيمان والقرآن { وكنتم قوما مجرمين } يعني مشركين كافرين بالرسل والكتب |
﴿ ٠ ﴾