سورة الأحقاف

مكية وهي ثلاثون وخمس آيات

١

قوله تبارك وتعالى { حم }

٢

{ تنزيل الكتاب من اللّه العزيز الحكيم } وقد ذكرناه

٣

 { ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما } من الشمس والقمر والنجوم والرياح والخلق { إلا بالحق } يعني إلا ببيان الحق لأمر عظيم هو كائن ولم يخلقهن عبثا { وأجل مسمى } يعني خلقهن لأجل أمر عظيم ينتهي إليه وهو يوم القيامة وهو الأجل المعلوم { والذين كفروا } يعني مشركي مكة { عما أنذروا معرضون } يعني عما خوفوا به تاركون فلا يؤمنون به ولا يتفكرون فيه

٤

قوله عز وجل { قل أرأيتم ما تدعون من دون اللّه } يعني ما تعبدون من الأصنام

قال القتبي { ما } ههنا في موضع الجمع يعني الذين يدعون من الآلهة { أروني ماذا خلقوا من الأرض } يعني أخبروني ما الذي خلقوا من الأرض كالذي خلق اللّه تعالى إن كانوا آلهة ( أم لهم شرك في السموات ) يعني أم لهم نصيب ودعوة في السموات يعني في خلق السموات

ثم قال { ائتوني بكتاب من قبل هذا } يعني بحجة لعبادتكم الأصنام في كتاب اللّه ويقال ائتوني بحجة من اللّه ومن الأنبياء من قبل هذا القرآن الذي أتيتكم به فيه بيان ما تقولون { أو أثارة من علم } يعني رواية تروونها من الأنبياء والعلماء { إن كنتم صادقين } أن اللّه

تعالى أمركم بعبادة الأوثان

قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن السلمي { أو أثرة من علم }

قال القتبي هو اسم مبني على فعلة من ذلك والأول فعالة والأثرة التذكرة ومنه يقال فلان يأثر الحديث أي يخبره

وقال قتادة { أو أثارة } يعني خاصة من علم ويقال { أو أثارة من علم } يؤثر عن الأنبياء والعلماء { إن كنتم صادقين } فلما قال لهم ذلك سكتوا

٥

قوله تعالى { ومن أضل ممن يدعو من دون اللّه } يعني من أشد كفرا ممن { يدعو من دون اللّه } يعني آلهة { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } يعني لا يجيبه وإن دعاه إلى يوم القيامة { وهم عن دعائهم غافلون } يعني عن عبادتهم

٦

ثم بين إجابتهم وحالهم يوم القيامة فقال تعالى { وإذا حشر الناس } يعني إلى البعث { كانوا لهم أعداء } يعني صارت الآلهة أعداء لمن عبدهم { وكانوا بعبادتهم كافرين } يعني جاحدين ويتبرؤون منهم

٧

 { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني تقرأ عليهم آياتنا واضحات فيها الحلال والحرام

ويقال { بينات } فيها دلائل واضحات { قال الذين كفروا للحق } يعني للقرآن { لما جاءهم هذا سحر مبين } أي حين جاءهم هذا سحر بين

٨

قوله عز وجل { أم يقولون افتراه } يعني اختلقه من ذات نفسه { قل إن افتريته } يعني اختلقته من تلقاء نفسي يعذبني اللّه تعالى عليه

{ فلا تملكون لي من اللّه شيئا } يعني لا تقدرون أن تمنعوا عذاب اللّه عني { هو أعلم بما تفيضون فيه } يعني تخوضون فيه من الكذب في القرآن { كفى به شهيدا } يعني كفى باللّه عالما { بيني وبينكم } ويقال { تفيضون } أي تقولون ثم قال { وهو الغفور الرحيم } يعني { الغفور } لمن تاب { الرحيم } بهم

٩

قوله تعالى { قل ما كنت بدعا من الرسل } يعني ما أنا أول رسول بعث { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } يعني يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم

وقال الحسن في قوله { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } يعني في الدنيا

وقال الكلبي وذلك أنه رأى في المنام أنه أخرج إلى أرض ذات نخل وشجر فأخبر أصحابه فظنوا أنه وحي أوحي إليه فاستبشروا فمكثوا بذلك ما شاء فلم يروا شيئا مما قال لهم فقالوا يا رسول اللّه ما رأينا الذي قلت لنا فقال ( إنما كان رؤيا رأيتها ولم يأت وحي من السماء وما أدري يكون ذلك أو لا يكون )

 فنزل قوله { قل ما كنت بدعا من الرسل } يعني ما كنت أولهم وقد بعث قبلي رسل كثير

( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } ويقال ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يرحمني وإياكم أو يعذبني وإياكم

فقالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم إذا لا فرق بيننا وبينك كما نحن لا ندري ما يفعل بنا ولا تدري ما يفعل بك

وقد عير المشركون المسلمين فقالوا { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } [ الإسراء ٤٧ ] لا يدري ما يفعل به فأنزل اللّه تبارك وتعالى { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك } [ الفرقان ١٠ ] فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة نزل عليه { ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح ٢٠ ] وقد نسخت هذه الآية { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } [ الإسراء ٤٧ ]

ثم قال تعالى { وما أنا إلا نذير مبين } يعني مخوفا مفقها لكم بلغة تعرفونها

١٠

قوله تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند اللّه } يعني إن كان القرآن من عند اللّه تعالى { وكفرتم به } يعني جحدتم بالقرآن { وشهد شاهد من بني إسرائيل } قال مجاهد وعكرمة وقتادة هو عبد اللّه بن سلام

وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( لا يشهد لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام ) وفيه نزلت { وشهد شاهد من بني إسرائيل } { على مثله } ويقال { وشهد شاهد } يعني ابن بنيامين مثل شهادة عبد اللّه بن سلام وكان ابن أخ عبد اللّه بن سلام يشهد على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم

وروى وكيع عن ابن عون قال ذكر عند الشعبي { وشهد شاهد من بني إسرائيل } أنه عبد اللّه بن سلام

فقال الشعبي وكيف يكون عبد اللّه بن سلام هو الشاهد وهذه السورة مكية وكان ابن سلام بالمدينة قال ابن عون صدق الشعبي إن تلك السورة نزلت بمكة ولكن هذه الآية نزلت بالمدينة فوضعت في هذه السورة

وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال واللّه ما هو عبد اللّه بن سلام ولقد أنزلت بمكة فخاصم به النبي صلى اللّه عليه وسلم الذين كفروا من أهل مكة أن التوراة مثل القرآن وموسى مثل محمد صلى اللّه عليه وسلم وكل مؤمن بالتوراة فهو شاهد من بني إسرائيل

ثم قال { فآمن واستكبرتم } يعني تكبرتم وتعاظمتم عن الإيمان { إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين } يعني الكافرين

١١

قوله عز وجل { وقال الذين كفروا للذين آمنوا } يعني قال رؤساء المشركين لضعفاء

المسلمين { لو كان خيرا } يعني لو كان هذا الدين حقا { ما سبقونا إليه } وقال قتادة قال أناس من المشركين نحن أعز ونحن أغنى ونحن أكرم فلو كان خيرا لما سبقنا إليه فلان وفلان

قال اللّه تعالى { يختص برحمته من يشاء } [ البقرة ١٠٥ وآل عمران ٧٤ ] يعني يختار لدينه من كان أهلا لذلك { وإذ لم يهتدوا به } يعني لم يؤمنوا بهذا

أي بالقرآن كما اهتدى به أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم { فسيقولون هذا إفك قديم } يعني القرآن كذب قديم أي من محمد صلى اللّه عليه وسلم

١٢

قوله تعالى { ومن قبله كتاب موسى } يعني قد أنزل قبل هذا القرآن الكتاب على موسى يعني التوراة { إماما } يقتدى به { ورحمة } من العذاب لمن آمن به { وهذا كتاب مصدق } يعني وأنزل إليك هذا الكتاب مصدق للكتب التي قبله { لسانا عربيا } بلغتكم لتفهموا ما فيه { لينذر الذين ظلموا } يعني مشركي مكة

وقرأ نافع وابن عامر { لتنذر } بالتاء على معنى المخاطبة يعني لتنذر أنت يا محمد صلى اللّه عليه وسلم

والباقون بالياء على معنى الأخبار عنه يعني ليخوف محمد صلى اللّه عليه وسلم بالقرآن { وبشرى للمحسنين } يعني بشارة بالجنة للموحدين ويقال معناه هو { بشرى للحسنين } يعني بشارة للموحدين بالجنة

١٣

ثم قال تعالى { إن الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

١٤

{ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون } وقد ذكرناه

١٥

ثم قال اللّه تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا } يعني أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه

قال مقاتل والكلبي نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ويقال هذا أمر عام لجميع الناس

قرأ حمزة والكسائي وعاصم { إحسانا } بالألف ومعناه أمرناه بأن يحسن إليهما إحسانا والباقون { حسنا } بغير ألف فجعلوه اسما وأقاموه مقام الإحسان

ثم ذكر حق الوالدين فقال { حملته أمه كرها ووضعته كرها } يعني في مشقة { وحمله وفصاله } يعني حمله في بطن أمه وصاله ورضاعه { ثلاثون شهرا }

وروى وكيع بإسناده عن علي رضي اللّه عنه قال إن رجلا قال له إني تزوجت جارية سليمة بكرا لم أر منها ريبة وإنها ولدت لستة أشهر فقرأ علي { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة ٢٣٣ ] وقرأ { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } فالحمل ستة أشهر والرضاع سنتين والولد ولدك

وقال وكيع هذا أصل إذا جاءت بولد دون ستة أشهر لم يلزمه فيفرق بينهما

ثم قال { حتى إذا بلغ أشده } يعني بلغ ثلاثون وثلاثا وثلاثين { وبلغ أربعين سنة } صدق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم يعني أبا بكر { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك } يعني ألهمني ما أؤدي به شكر نعمتك وما أوزعت به نفسي أن أكفها عن كفران نعمتك وأصله من وزعته أي دفعته { قال رب أوزعني أن أشكر } يعني أن أؤدي به شكر نعمتك { التي أنعمت علي وعلى والدي } بالإسلام { وأن أعمل صالحا ترضاه } يعني تقبله { وأصلح لي في ذريتي } يعني أكرمهم بالتوحيد

ويقال اجعلهم أولادا صالحين مسلمين فأسلموا كلهم

ثم قال { إني تبت إليك } يعني أقبلت إليك بالتوبة { وإني من المسلمين } يعني المخلصين الموحدين على دينهم

١٦

قوله تعالى { أولئك } يعني أهل هذه الصفة يعني أبا بكر ووالديه وذريته ومن كان في مثل حالهم { والذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } يعني ستجزيهم بإحسانهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص

{ نتقبل } بالنون { ونتجاوز } بالنون والباقون بالياء والضم

فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه يعني نتقبل نحن والنصب أحسن لوقوع الفعل عليه

ومن قرأ بالياء والضم فهو على معنى فعل ما لم يسم فاعله ولهذا رفع قوله ( أحسن ) لأنه مفعول ما لم يسم فاعله

ثم قال { ونتجاوز عن سيئاتهم } يعني ما فعلوا قبل التوبة فلا يعاقبون عليها { في أصحاب الجنة } يعني هم مع أصحاب الجنة

وروى أبو معاوية عن عاصم الأحول عن الحسن قال { من يعمل سوءا يجز به } إنما ذلك لمن أراد اللّه هوانه وأما من أراد اللّه كرامته فإنه يتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة

ثم قال { وعد الصدق } يعني وعد الصدق في الجنة

قوله { الذي كانوا يوعدون }

١٧

قوله عز وجل { والذي قال لوالديه أف لكما } يعني عبد الرحمن بن أبي بكر قال لوالديه أف لكما يعني قذرا لكما وهو الرديء من الكلام وقد ذكرنا الاختلاف في موضع آخر وقد قرئ على سبع قراءات بالكسر والنصب والضم وكل قراءة تكون بالتنوين وبغير تنوين فتلك ست قراءات والسابع { أف } بالسكون { أتعدانني أن أخرج } يعني أن أبعث بعد الموت وذلك قبل أن يسلم { وقد خلت القرون من قبلي } أي مضت الأمم ولم يبعث أحدهم { ومما يستغيثان اللّه } يعني أبويه يدعوان اللّه تعالى له بالهدى اللّه م اهده وارزقه الإيمان ويقولان له { ويلك آمن إن وعد اللّه حق } يعني ويحك أسلم وصدق بالبعث فإن البعث كائن { فيقول } لهما { ما هذا إلا أساطير الأولين } يعني كذبهم فقال عبد الرحمن إن كنتما صادقين فأخرجا فلانا وفلانا من قبورهما

١٨

 فنزل { أولئك } يعني القرون التي ذكر { الذين حق عليهم القول } أي وجب عليهم العذاب

{ في أمم قد خلت من قبلهم } يعني في أمم قد مضت من قبلهم من كفار { الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } في الآخرة بالعقوبة فأسلم عبد الرحمن وحسن إسلامه وذكر في الخبر أن مروان بن الحكم قال نزلت هذه الآية في شأن عبد الرحمن فبلغ ذلك عائشة فقالت بل نزلت في أبيك وأخيك

١٩

قوله عز وجل { ولكل درجات مما عملوا } يعني فضائل في الثواب والعقاب مما عملوا { وليوفيهم أعمالهم } يعني أجورهم { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا ولا يزادون على سيئات أعمالهم

٢٠

قوله تعالى { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعني يكشف الغطاء عنها فينظرون إليها فيقال لهم { أذهبتم طيباتكم } يعني أكلتم حسناتكم { في حياتكم الدنيا } وقرأ ابن عامر { أأذهبتم } بهمزتين وقرأ إبن كثير { أذهبتم } بالمد ومعناهما واحد ويكون استفهاما على وجه التوبيخ

والباقون { أذهبتم } بهمزة واحدة بغير مد على معنى الخبر { واستمتعتم بها } يعني انتفعتم بها في الدنيا

وروي عن عمر أنه اشتهى شرابا فأتي بقدح فيه عسل فأدار القدح في يده فقال أشربها فتذهب حلاوتها أو تبقى نقمتها

ثم ناول القدح رجلا فسئل عن ذلك فقال خشيت أن أكون من أهل هذه الآية { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا }

وروي عن عمر أنه دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على حصير وقد أثر بجنبه الشريط فبكى عمر فقال ( ما يبكيك يا عمر ) فقال ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول رب العالمين قد أثر بجنبيك الشريط

فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة )

ثم قال { فاليوم تجزون عذاب الهون } يعني العذاب الشديد { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق } يعني تستكبرون عن الإيمان { وبما كنتم تفسقون } يعني تعصون اللّه تعالى

٢١

قوله تعالى { واذكر أخا عاد } يعني واذكر لأهل مكة ويقال معناه واصبر على ما يقولون واذكر هودا { إذا أنذر قومه بالأحقاف } يعني خوف قومه بموضع يقال له أحقاف

روى منصور عن مجاهد قال الأحقاف الأرض ويقال جبل بالشام يسمى الأحقاف

وقال القتبي الأحقاف جمع حقف وهو من الرمل ما أشرف من كثبانه واستطال وانحنى { وقد خلت النذر من بين يديه } يعني مضت من قبل هود { ومن خلفه } يعني ومن بعده

{ ألا تعبدوا إلا اللّه } يعني خوفهم ألا تعبدوا إلا اللّه ووحدوه { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } يعني أعلم أنكم إن لم تؤمنوا يصبكم عذاب يوم كبير

٢٢

وقال { قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا } يعني لتصرفنا عن عبادة آلهتنا { فأتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من الصادقين } أن العذاب نازل بنا

٢٣

{ قال } هود { إنما العلم عند اللّه } يعني علم العذاب عند اللّه يجيء بأمر اللّه وإنما علي تبليغ الرسالة وليس بيدي إتيان العذاب

فذلك قوله { وأبلغكم ما أرسلت به } يعني ما يوحي اللّه إلي لأدعوكم إلى التوحيد { ولكني أراكم قوما تجهلون } لما قيل لكم ولما يراد بكم من العذاب

٢٤

 { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم } يعني لما رأوا العذاب مقبلا وكانت السحابة إذا جاءت من قبل ذلك الوادي أمطروا

وقال القتبي العارض السحاب { قالوا هذا عارض ممطرنا } يعني هذه سحابة وغيم ممطرنا أي تمطر به حروثنا لأن المطر كان حبس عنهم فقال هود ليس هذا عارض { بل هو ما استعجلتم به } يعني الريح والعذاب { ريح فيها عذاب أليم } أي ملتف

وروى عطاء عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رأى رياحا مختلفة تلون وجهه وتغير وخرج ودخل وأقبل وأدبر فذكرت ذلك له فقال { وما يدريك لعله} كما قال اللّه { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} فإذا أمطرت سري عنه ويقول { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } [ الأعراف ٥٧ ]

٢٥

قوله عز وجل { تدمر كل شيء بأمر ربها } يعني تهلك الريح كل شيء بأمر ربها { فأصبحوا } يعني فصاروا من العذاب بحال { لا يرى مساكنهم } وقد ذكرناه في سورة الأعراف

قرأ حمزة وعاصم { لا يرى } بضم الياء { مساكنهم } بضم النون على معنى فعل ما لم يسم فاعله يعني لا يرى شيء وقد هلكوا كلهم

وقرأ الباقون { لا ترى } بالتاء والنصب على معنى المخاطبة ومعناه لا ترى شيئا أيها المخاطب لو كنت حاضرا ما رأيت إلا مساكنهم

{ كذلك نجزي القوم المجرمين } يعني هكذا نعاقب القوم المشركين عند التكذيب

٢٦

ثم قال { ولقد مكناهم } يعني أعطيناهم الملك والتمكين { فيما إن مكناكم فيه } يعني ما لم نمكن لكم ولم نعطكم يا أهل مكة

وقال القتبي إن الخفيفة قد تزاد في الكلام كقول الشاعر ما إن رأيت ولا سمعت به يعني ما رأيت ولا سمعت يعني { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } قال الزجاج إن ههنا مكان ما يعني فيما مكناكم فيه

ويقال معناه ولقد مكناهم في الذي مكناكم فيه وقال { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } يعني جعلنا لهم سمعا ليسمعوا المواعظ وأبصارا لينظروا في الدلائل وأفئدة ليتفكروا في خلق اللّه تعالى

{ فما أغنى عنهم } يعني لم ينفعهم من العذاب { سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } إذ لم يسمعوا الهدى ولم ينظروا في الدلائل ولم يتفكروا في خلقه { إذ كانوا يجحدون بآيات اللّه } يعني بدلائله { وحاق بهم } يعني نزل بهم من العذاب { ما كانوا به يستهزئون } يعني العذاب الذي كانوا يجحدون به ويستهزئون

٢٧

قوله عز وجل { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } يعني أهلكنا قبلكم يا أهل مكة بالعذاب ما حولكم من القرى { وصرفنا الآيات } يعني بينا لهم الدلائل والحجج والعلامات { لعلهم يرجعون } عن كفرهم قبل أن يهلكوا

٢٨

قوله تعالى { فلولا نصرهم الذين } يعني فهلا نصرهم الذين

يعني كيف لم يمنعهم من العذاب { الذين اتخذوا من دون اللّه قربانا } يعني عبدوا من دون اللّه ما يتقربون بها إلى اللّه تعالى { آلهة } يعني أصناما كما قال في آية أخرى { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى } [ الزمر ٣ ] { بل ضلوا عنهم } يعني الآلهة لم تنفعهم شيئا ويقال اشتغلوا بأنفسهم ويقال بطلت عنهم

{ وذلك إفكهم } يعني كذبهم { وما كانوا يفترون } يعني يختلفون

وذكر أبو

عبيدة بإسناده عن عبد اللّه بن عباس أنه قرأ { أفكهم } بنصب الألف والفاء والكاف يعني ذلك الفعل أضلهم وأهلكهم وصرفهم عن الحق وقراءة العامة بضده { وذلك إفكهم } يعني ذلك الفعل وهو عبادتهم وقولهم وكذبهم

ويقال { وذلك إفكهم } اليوم كما كان إفك من كان قبلهم

٢٩

قوله تعالى { وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما بعث خرت الأصنام على وجوهها في تلك الليلة فصاح إبليس صيحة فاجتمعت عليه جنوده فقال لهم قد عرض أمر عظيم امضوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها يعني امشوا وانظروا ماذا حدث من الأمر

وروى ابن عباس أنه لما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم حيل بين الشياطين وبين السماء وأرسل عليهم الشهب فجاؤوا إلى إبليس فأخبروه بذلك قال هذا الأمر حادث اضربوا مشارق الأرض ومغاربها فجاء نفر منهم فوجدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم يصلي تحت نخلة في سوق عكاظ ومعه ابن مسعود وأصحابه وكان يقرأ سورة طه في الصلاة

وروى وكيع عن سفيان عن عاصم عن رجل عن زر بن حبيش في قوله تعالى { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } قال كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه ببطن نخلة { يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا }

وروى عكرمة عن الزبير قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في العشاء الأخيرة فلما حضروا النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا { أنصتوا } يعني لما حضروا النبي صلى اللّه عليه وسلم قال بعضهم لبعض أنصتوا للقرآن واستمعوا { فلما قضي } يعني فرغ النبي صلى اللّه عليه وسلم من القراءة والصلاة { ولوا } يعني رجعوا { إلى قومهم منذرين } قال مقاتل يعني مؤمنين

وقال الكلبي يعني مخوفين

وقال مجاهد ليس في الجن رسل وإنما الرسل في الإنس والنذارة في الجن

ثم قرأ { فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } يعني أنذروا قومهم من الجن

٣٠

قوله تعالى { قالوا يا قومنا إنا سمعنا } من محمد صلى اللّه عليه وسلم { كتابا } يعني قراءة القرآن { أنزل من بعد موسى} يعني أنزل على النبي صلى اللّه عليه وسلم { مصدقا لما بين يديه } يعني موافقا لما قبله من الكتب { يهدي إلى الحق } يعني يدعو إلى توحيد اللّه تعالى من الشرك كما هو في سائر الكتب { وإلى طريق مستقيم } لا عوج فيه يعني دين اللّه تعالى وهو الإسلام

٣١

 {يا قومنا أجيبوا داعي اللّه } يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم { وآمنوا به } يعني صدقوا به وبكتابه { يغفر لكم من ذنوبكم } و { من } صلة في الكلام يعني يغفر لكم ذنوبكم إن آمنتم وصدقتم

{ ويجزكم من عذاب أليم } يعني يؤمنكم من عذاب النار

٣٢

 { ومن لا يجب داعي اللّه } يعني من لم يجب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما يدعو إليه من الإيمان { فليس بمعجز في الأرض } يعني لا يستطيع أن يهرب في الأرض من عذاب اللّه تعالى

ويقال معناه فلن يجد اللّه عاجزا عن طلبه { وليس له من دونه أولياء } يعني ليس له أنصار يمنعونه مما نزل به من العذاب { أولئك في ضلال مبين } يعني في خطأ بين وذكر في الخبر أنهم لما أنذروهم وخوفوهم جاء جماعة منهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة فلقيهم بالبطحاء فقرأ عليهم القرآن فأمرهم ونهاهم وكان معه عبد اللّه بن مسعود وخط له النبي صلى اللّه عليه وسلم خطا وقال له ( لا تخرج من هذا الخط فإنك إن خرجت لن تراني إلى يوم القيامة ) فلما رجع إليه قال يا نبي اللّه سمعت هدتين أي صوتين فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم { أما إحداهما فإني سلمت عليهم فردوا علي السلام وأما الثانية فإنهم سألوا الرزق فأعطيتهم عظما رزقا لهم وأعطيتهم روثا رزقا لدوابهم }

٣٣

ثم قال تعالى { أو لم يروا } يعني أو لم يعتبروا ولم يتفكروا

ويقال أو لم يخبروا { أن اللّه الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر } على أن يحيى الموتى لأنهم كانوا مقرين بأن اللّه تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وكانوا منكرين للبعث بعد مماتهم فأخبرهم اللّه تعالى بأن الذي كان قادرا على خلق السموات والأرض قادر على إحيائهم بعد الموت ويقال { ولم يعي بخلقهن } يعني لم يعييه خلق السماوات والأرض

ثم قال { بلى } يعني هو قادر على البعث { إنه على كل شيء قدير } من الإحياء والبعث

٣٤

قوله تعالى { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } يعني يكشف الغطاء عنها ويقال

يساق الذين كفروا إلى النار ويقال لهم { أليس هذا بالحق } يعني أليس هذا العذاب الذي ترون حقا وكنتم تكذبون به { قالوا بلى } يعني إنه الحق { وربنا } يعني واللّه إنه الحق فيقرون حين لا ينفعهم إقرارهم فيقال لهم { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } يعني تجحدون

٣٥

 { فاصبر } يا محمد صلى اللّه عليه وسلم يعني اصبر على أذى أهل مكة وتكذيبهم

{ كما صبر أولو العزم من الرسل } يعني أولو الحزم

وهو أن يصبر في الأمور ويثبت عليها وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يدعو عليهم فأمره اللّه تعالى بالصبر كما صبر نوح وكما صبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين

وقال السدي { أولو العزم } الذين أمروا بالقتال من الرسل

وقال أبو العالية { أولو العزم من الرسل } كانوا ثلاثة والنبي صلى اللّه عليه وسلم رابعهم إبراهيم وهود ونوح فأمره اللّه تعالى أن يصبر كما صبروا

وقال مقاتل { أولو العزم من الرسل } اثني عشر نبيا في بيت المقدس فأوحى اللّه إليهم ثلاث مرات أن اخرجوا من بين أقوامكم فلم يخرجوا

فقال اللّه تعالى يمضي العذاب عليكم مع قومكم فتشاوروا فاختاروا هلاك أنفسهم بينهم { ولا تستعجل لهم } يعني لا تستعجل لهم بالعذاب { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } يعني العذاب قد أتاهم من قريب في الآخرة فلقربه كأنهم يرونه في الحال

ويقال في الآية تقديم ومعناه كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يعني إذا أتاهم ذلك اليوم يرون أنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا القليل

فذلك قوله { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } يعني من نهار الدنيا

ويقال يعني في القبور

وقال أبو العالية معناه كأنهم يرون حين يظنون أنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار

ثم قال { بلاغ } يعني ذلك بلاغ يعني وبلغه وأجل فإذا بلغوا أجلهم ذلك { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } يعني هل يهلك في العذاب إذا جاء العذاب إلا القوم العاصون

ويقال معناه لا يهلك مع رحمة اللّه وفضله إلا القوم الفاسقون

ويقال { بلاغ } يعني هذا الذي ذكر بلاغ أي تمام العظة

ويقال هو من الإبلاغ أي هذا إرسال وبيان لهم كقوله { هذا بلاغ للناس } قرأ ابن عامر { أذهبتم طيباتكم } بهمزتين وقرأ إبن كثير { أذهبتم } بالمد ومعناها واحد ويكون استفهاما على وجه التوبيخ

وقرأ الباقون { أذهبتم } بهمزة واحدة من غير مد صلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

﴿ ٠