سورة محمدمكية وهي ثلاثون وثمان آيات ١قوله تبارك تعالى { الذين كفروا } يعني جحدوا بتوحيد اللّه تعالى وبالقرآن { وصدوا عن سبيل اللّه } يعني صرفوا الناس عن دين اللّه ويقال صرفوا الناس عن طاعة اللّه وهو الجهاد { أضل أعمالهم } يعني أبطل اللّه حسناتهم التي عملوا في الدنيا لأنهم عملوا بغير إيمان وكل عمل يكون بغير إيمان فهو باطل كما قال في آية أخرى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين } [ آل عمران ٨٥ ] الآية قال الكلبي نزلت في مطعمي بدر وهم رؤساء مكة الذين كانوا يطعمون الناس في حال خروجهم إلى بدر منهم أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبي وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وغيرهم ويقال هذا في عامة الكفار ٢وهذا كقوله { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } [ النور ٣٩ ] الآية وروى مجاهد عن ابن عباس قال { الذين كفروا } هم أهل مكة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } هم الأنصار { الذين آمنوا } يعني صدقوا باللّه تعالى وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقرآن { وعملوا الصالحات } يعني أدوا الفرائض والسنن وهم أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن كان في مثل حالهم { وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم } يعني صدقوا بما أنزل جبريل على محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو الحق وليس فيه باطل ولا تناقض { كفر عنهم سيئاتهم } يعني محا عنهم ذنوبهم التي عملوا في الشرك بإيمانهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وطاعتهم للّه تعالى فيما يأمرهم به من الجهاد { وأصلح بالهم } يعني حالهم وهذا قول قتادة وقال مقاتل يعني بين أمورهم في الإسلام وعملهم وحالهم حتى يدخلوا الجنة وروى مجاهد { وأصلح بالهم } يعني شأنهم وقال القتبي { كفر عنهم سيئاتهم } أي سترها { وأصلح بالهم } أي حالهم ويقال { أصلح بالهم } يعني أظهر اللّه تعالى أمرهم في الإسلام حتى يقتدى بهم ثم بين المعنى الذي أحبط أعمال الكافرين وأصلح شأن المؤمنين ٣فقال { ذلك بأن الذين كفروا } يعني ذلك الإبطال بأن الذين كفروا { اتبعوا الباطل } يعني اختاروا الشرك وثبتوا عليه ولم يرغبوا في الإسلام ويقال معناه لأنهم اختاروا الباطل على الحق واتباع الهوى على اتباع رضى اللّه سبحانه وتعالى { وأن الذين آمنوا } وهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم { اتبعوا الحق من ربهم } يعني اتبعوا القرآن وعملوا به ويقال معناه اختاروا الإيمان على الكفر واتباع القرآن واتباع رضى اللّه تعالى على اتباع الهوى قوله { كذلك يضرب اللّه للناس أمثالهم } يعني هكذا يبين اللّه صفة أعمالهم ٤ثم حرض المؤمنين على القتال فقال { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } يعني اضربوا الرقاب صار نصبا بالأمر ومعناه اضربوا الأعناق ضربا وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( إني لم أبعث لأعذب بعذاب اللّه وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق ) { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق } يعني حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم فشدوا الوثاق يعني فاستوثقوا أيديهم من خلفهم ويقال الإثخان أن يعطوا أيديهم ويستسلموا وقال الزجاج { حتى أثخنتموهم } يعني أكثرتم فيهم القتل والأسر بعد المبالغة في القتل وقال مقاتل { حتى إذا أثخنتموهم } بالسيف فظفرتم عليهم { فشدوا الوثاق } يعني الأسر { فأما منا بعد } يعني عتقا بعد الأسر بغير فداء { وأما فداء } يعني يفادي نفسه بماله وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإمام بالخيار في الأسرى إن شاء فادى وإن شاء قتل وإن شاء استرق وروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال لا أفادي وإن طلبوا بمدين من ذهب وذكر عنه أيضا أنه كتب إليه في أسير التمسوا منه الفداء فقال اقتلوه لأن أقتل رجلا من المشركين أحي إلي من كذا وكذا قال أبو الليث رحمه اللّه وقد كره بعض الناس قتل الأسير واحتج بظاهر هذه الآية { فأما منا بعد وأما فداء } وقال أصحابنا لا بأس بقتله بالخبر الذي روي عن أبي بكر رضي اللّه عنه وروي عن ابن جريج وغيره من أهل التفسير أن هذه الآية منسوخة بقوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة ٥ ] وقد قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة ابن خطل بعدما وقع في منعة المسلمين فهو كالأسير وأما الفداء فإن فادوا بأسير من المسلمين فلا بأس به كما قال إبراهيم النخعي إن شاء فادى بالأسير وإن أراد أن يفتدى بمال لا يجوز إلا عند الضرورة لأن في رد الأسير إلى دار الحرب قوة لهم في الحرب فيكره ذلك كما يكره أن يحمل إليهم السلاح للبيع ثم قال { حتى تضع الحرب أوزارها } روي عن ابن عباس أنه قال حتى بترك الكفار إشرارها ويوحدوا الرب تبارك وتعالى حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم يعني في ذمة المسلمين يعني الذين يعطون الجزية وعن سعيد بن جبير قال { حتى تضع الحرب أوزارها } قال خروج عيسى عليه السلام يكسر الصليب فيلقى الذئب الغنم فلا يأخذها ولا تكون عداوة بين اثنين وهكذا قال مجاهد وقال مقاتل { حتى تضع الحرب أوزارها } يعني في مكان يقاتل سماهم حربا يعني الشرك وتوحدوا الرب وقال القتبي { حتى تضع الحرب } يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح وقال قتادة { حتى تضع الحرب أوزارها } يعني في كل مكان تقاتل سماهم حربا ثم قال عز وجل { ذلك } يعني افعلوا ذلك ثم استأنف فقال { ولو يشاء اللّه لانتصر منهم } بغير قتال يعني يهلكهم { ولكن ليبلو بعضكم ببعض } يعني لم يهلكهم لكي يختبرهم بالقتال حتى يتبين فضلهم ويستوجبوا الثواب ثم قال { والذين قتلوا في سبيل اللّه } يعني جاهدوا عدوهم في طاعة اللّه تعالى { فلن يضل أعمالهم } يعني لن يبطل ثواب أعمالهم قرأ أبو عمرو ( والذين قتلوا ) بضم القاف بغير ألف وهكذا روي عن عاصم في إحدى الروايتين يعني الذين قتلوا يوم أحد ويوم بدر وفي سائر الحروب وقرأ الباقون { والذين قاتلوا في سبيل اللّه } بالنصب يعني جاهدوا الكفار وحاربوهم ٥ثم قال { سيهديهم } يعني يجنبهم من أهوال الآخرة ويقال { سيهديهم } يعني يثبتهم على الهدى { ويصلح بالهم } وقد ذكرناه ٦{ ويدخلهم الجنة } في الآخرة { عرفها لهم } يعني هداهم اللّه تعالى إلى منازلهم وروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( إذا أذن لأهل الجنة في دخولها لأحدهم أهدى أي أعرف بمنزله في الجنة من بمنزله الذي كان في الدنيا ) وعن ابن مسعود أنه قال ما أشبههم إلا أهل الجمعة حين انصرفوا من جمعتهم يعني إن كل واحد منهم يهتدي إلى منزله وقال الزجاج في قوله { سيهديهم ويصلح بالهم } أي يصلح لهم أمر معايشهم في الدنيا مع ما يجازيهم في الآخرة وهذا كما قال تعالى { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا } [ نوح ١٠ ، ١١ ] الآية ويقال { عرفها لهم } أي طيبها لهم يقال طعام معرف أي مطيب ٧ثم حث المؤمنين على الجهاد فقال { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللّه ينصركم } يعني إن تنصروا دين اللّه بقتال الكفار { ينصركم } بالغلبة على أعدائكم { ويثبت أقدامكم } فلا تزول في الحرب ٨ثم قال تعالى { والذين كفروا تعسا لهم } يعني بعدا ونكسا وخيبة لهم وهو من قولك تعست أي عثرت وسقطت { وأضل أعمالهم } يعني أبطل ثواب حسناتهم فلم يقبلها منهم ثم بين المعنى الذي أبطل به حسناتهم ٩فقال { ذلك } يعني ذلك الإبطال { بأنهم كرهوا ما أنزل اللّه } يعني أنكروا وكرهوا الإيمان بما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم { فأحبط أعمالهم } يعني ثواب أعمالهم ١٠ثم خوفهم ليعتبروا فقال عز وجل { أفلم يسيروا في الأرض } يعني أفلم يسافروا في الأرض { فينظروا } يعني فيعتبروا { كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } يعني كيف كان آخر أمرهم { دمر اللّه عليهم } يعني أهلكهم اللّه تعالى بالعذاب { وللكافرين أمثالها } يعني للكافرين من هذه الأمة أمثالها من العذاب وهذا وعيد لكفار قريش ١١ثم قال { ذلك } يعني النصرة التي ذكر في قوله { إن تنصروا اللّه ينصركم } [ محمد ٧ ] { بأن اللّه مولى الذين آمنوا } يعني إن اللّه تبارك وتعالى ناصر أوليائه بالغلبة على عدوهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } يعني لا ناصر لهم ولا ولي لهم لا تنصرهم آلهتهم ولا تمنعهم مما نزل بهم من العذاب ثم ذكر مستقر المؤمنين ومستقر الكافرين ١٢فقال { إن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } وقد ذكرناه { والذين كفروا يتمتعون } يعني يعيشون بما أعطوا في الدنيا { ويأكلون كما تأكل الأنعام } ليس لهم هم إلا الأكل والشرب والجماع { والنار مثوى لهم } أي منزلا ومستقرا لهم ١٣قوله تعالى { وكأين من قرية } يعني وكم من قرية فيما مضى يعني أهل قرية { هي أشد قوة } يعني أشد منعة وأكثر عددا وأكثر أموالا { من قريتك التي أخرجتك } يعني أهل مكة الذين أخرجوك من مكة إلى المدينة { أهلكناهم } يعني عذبناهم عند التكذيب { فلان ناصر لهم } يعني لم يكن لهم مانع مما نزل بهم من العذاب وهذا تخويف لأهل مكة ١٤قوله تعالى { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله } قال مقاتل والكلبي يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأبا جهل بن هشام يعني لا يكون حال من كان على بيان من اللّه تعالى كمن زين له قبح عمله { واتبعوا أهواءهم } بعبادة الأوثان ويقال هذا في جميع المسلمين وجميع الكافرين لا يكون حال الكفار مثل حال المؤمنين في الثواب ١٥قوله تعالى { مثل الجنة } يعني صفة الجنة { التي وعد المتقون } الذين يتقون الشرك والفواحش { فيها أنهار من ماء غير آسن } قرأ إبن كثير { من ماء غير أسن } بغير مد والباقون بالمد ومعناهما واحد يعني ماء غير منتن ولا متغير الطعم والريح { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } إلى الحموضة كما يتغير لبن أهل الدنيا عن الحالة الأولى { وأنهار من خمر لذة للشاربين } يعني لذيذة ويقال { لا يصدعون عنها ولا ينزفون } [ الواقعة ١٩ ] { وأنهار من عسل مصفى } ليس فيها العكر ولا الكدورة ولا الدردى كعسل أهل الدنيا قال مقاتل هذه الأنهار الأربعة تتفجر من الكوثر إلى أهل الجنة ويقال من تحت شجرة طوبى إلى أهل الجنة { ولهم فيها من كل الثمرات } يعني من ألوان الثمرات { ومغفرة من ربهم } لذنوبهم في الآخرة ويقال في الدنيا { كمن هو خالد في النار } يعني هل يكون حال من هو في هذه النعم كمن هو في النار أبدا { وسقوا ماء حميما } يعني حارا قد انتهى حره { فقطع أمعاءهم } من شدة الحر فذابت أمعاؤهم كقوله تعالى { يصر به ما في بطونهم والجلود } [ الحج ٢٠ ] ١٦ثم قال { ومنهم } يعني من المنافقين { من يستمع إليك } { حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة وعاب في خطبته المنافقين فلما خرجوا من عنده قال بعض المنافقين لعبد اللّه بن مسعود وهو الذي أوتي العلم ماذا قال آنفا يعني الساعة على جهة الاستهزاء قال اللّه تعالى { أولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم } مجازاة لهم { واتبعوا أهواءهم } يعني عملوا بهوى أنفسهم ثم ذكر المؤمنين المصدقين فقال عز وجل { والذين اهتدوا زادهم هدى } يعني آمنوا باللّه تعالى وأحسنوا الاستماع إلى ما قال صلى اللّه عليه وسلم { زادهم هدى } يعني بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم ويقال زادهم بما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هدى ويقال زادهم قول المنافقين واستهزاؤهم { هدى } يعني تصديقا وثباتا على الإسلام وشكر اللّه تعالى { وآتاهم تقواهم } حين بين لهم التقوى ويقال ألهمهم قبول الناسخ وترك المنسوخ ١٨قوله تعالى { فهل ينظرون إلا الساعة } أي قيام الساعة يعني فما ينتظر قومك إن لم يؤمنوا إلا الساعة يعني قيام الساعة { أن تأتيهم بغتة } يعني فجأة { فقد جاء أشراطها } يعني علاماتها وهو انشقاق القمر والدخان وخروج النبي صلى اللّه عليه وسلم وروى مكحول عن حذيفة قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متى الساعة فقال ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن لها أشراط تقارب الأسواق يعني كسادها ومطر ولا نبات يعني مطر في غير حينه وتفشوا الفتنة وتظهر أولاد البغية ويعظم رب المال وتعلوا أصوات الفسقة في المساجد ويظهر أهل المنكر على أهل الحق ) ثم قال { فأنى لهم إذ جاءتهم ذكراهم } يعني من أين لهم التوبة إذا جاءتهم الساعة وقال قتادة فأنى لهم أن يتذكروا أو يتذاكروا إذا جائتهم الساعة وقال مقاتل فيه تقديم يعني أنى لهم التذكرة والتوبة عند الساعة إذا جاءتهم وقد فرطوا فيها ١٩قوله عز وجل { فاعلم أنه لا إله إلا اللّه } قال الزجاج هذه الفاء جواب الجزاء ومعناه قد بينا ما يدل على توحيد اللّه فاعلم أنه لا إله إلا اللّه والنبي صلى اللّه عليه وسلم قد علم أن اللّه تعالى واحد وإنما خاطبه والمراد به أمته ويقال هذا الأمر للنبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة ومعناه فأثبت عن إظهار قول لا إله إلا اللّه يعني ادع الناس إلى ذلك ويقال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( ليتني أعلم أي الكلام أفضل وأي الدعاء أفضل ) فأعلمه اللّه أن أفضل الكلام التوحيد وأفضل الدعاء الاستغفار ثم قال { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } روى الزهري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ( إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في كل يوم سبعين مرة أو أكثر ) وروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { إني أستغفر اللّه تعالى وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة } وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن جريج قال قلت لعطاء استغفر للمؤمنين في المكتوبة قال نعم قلت فمن ابتدئ قال فبنفسك كما قال اللّه تعال { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } { واللّه يعلم متقلبكم ومثواكم } يعني منتشركم بالنهار ومأواكم بالليل ويقال ذهابكم ومجيئكم ٢٠قوله عز وجل { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } وذلك أنهم كانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ فاشتاقوا إلى الوحي فقالوا لولا { نزلت } يعني هلا نزلت سورة قال اللّه تعالى { فإذا أنزلت سورة محكمة } يعني مبينة يعني الحلال والحرام { وذكر فيها القتال } يعني أمروا فيها بالقتال وقال قتادة كل سورة ذكر فيها ذكر القتال فهي محكمة وقال القتبي في قراءة ابن مسعود سورة محدثة وتسمى المحدثة المحكمة لأنها إذا نزلت تكون محكمة ما لم ينسخ منها شيء ويقال { فإذا أنزلت سورة محكمة } فيها ذكر القتال وطاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم فرح بها المؤمنين وكره المنافقون فذلك قوله { رأيت الذين في قلوبهم مرض } يعني الشك والنفاق { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } كراهية لنزول القرآن يعني إنهم يشخصون إليك بأبصارهم وينظرون نظرا شديدا من شدة العداوة كما ينظر المريض عند الموت { فأولى لهم } فهذا تهديد ووعيد يعني وليهم المكروه يعني قل لهم احذروا العذاب وقد تقدم الكلام ٢١ثم قال { طاعة وقول معروف } قال القتبي هذا مخصوص يعني قولهم قبل نزو الفرض سمعا لك وطاعة فإذا أمروا به كرهوا ذلك ويقال معناه { طاعة وقول معروف } أمثل لهم ويقال معناه فإذا أنزلت سورة ذات طاعة يؤمر فيها بالطاعة وقول معروف { فإذا عزم الأمر } أي جاء الجد ووقت القتال فلم يذكر في الآية جوابه والجواب فيه مضمر معناه { فإذا عزم الأمور } يعني وجب الأمر وجد الأمر كرهوا ذلك ثم ابتدأ قال { فلو صدقوا اللّه } في النبي صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به { لكان خيرا لهم } من الشرك والنفاق ٢٢قوله { فهل عسيتم إن توليتم } يعني لعلكم وإن وليتم أمر هذه الأمة { أن تفسدوا في الأرض } بالمعاصي يعني أن تعصوا اللّه في الأرض { وتقطعوا أرحامكم } قال السدي { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض } بالمعاصي { وتقطعوا أرحامكم } قال المؤمنين إخوة فإذا قتلوهم فقد قطعوا أرحامهم وروى جويبر عن الضحاك قال نزلت في الأمراء { إن توليتم } أمر الناس { أن تفسدوا في الأرض } ويقال معناه إن أعرضتم عن دين الإسلام وعما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء ودفن البنات وقطع الأرحام { فهل عسيتم إن توليتم } يعني هل تريدون إذا أنتم تركتم النبي صلى اللّه عليه وسلم وما أمركم به إلا أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكر والمعاصي وقطع الأرحام قرأ نافع { فهل عسيتم } بكسر السين والباقون بالنصب وهما لغتان إلا أن النصب أظهر عند أهل اللغة ٢٣قوله عز وجل { أولئك الذين لعنهم اللّه } يعني أهل هذه الصفة خذلهم اللّه وطردهم من رحمته { فأصمهم } عن الهدى لا يعقلونه { وأعمى أبصارهم } عن الهدى فلا ينظرونه عقوبة لهم ٢٤قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } يعني أفلا يسمعون القرآن ويعتبرون به ويتفكرون فيما أنزل اللّه تعالى فيه من وعد ووعيد وكثرة عجائبه حتى يعلموا أنه من اللّه تعالى وتقدس { أم على قلوب أقفالها } يعني بل على قلوب أقفالها يعني أقفل على قلوبهم ومعناه أن أعمالهم لغير اللّه ختم على قلوبهم ٢٥قوله تعالى { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } يعني رجعوا إلى الشرك { من بعد ما تبين لهم الهدى } يعني من بعد ما ظهر لهم الإسلام قال قتادة { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } وهم أهل الكتاب عرفوا نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وكفروا به ويقال نزلت في المرتدين ثم قال عز وجل { الشيطان سول لهم } يعني زين لهم ترك الهدى وزين لهم الضلالة { وأملى لهم ذلك } قرأ أبو عمرو { وأملي } بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله والباقون { وأملى } بنصب اللام والألف يعني أمهل اللّه لهم فلم يعاقبهم حين كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم ويقال زين لهم الشيطان وأملى لهم الشيطان يعني خيل لهم تطويل المدة والبقاء وقرأ يعقوب الحضرمي { وأملي } بضم الألف وكسر اللام وسكون الياء ومعناه أنا أملي يعني أطول لهم المدة كما قال { إما نملي لهم ليزدادوا إنما } ٢٦ثم قال ذلك يعني اللعن والصمم والعمى والتزين والإملاء { بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل اللّه } وهم المنافقون قالوا ليهود بني قريظة والنضير وهم الذين كرهوا ما نزل اللّه يعني تركوا الإيمان بما أنزل اللّه من القرآن { سنطيعكم في بعض الأمر } يعني سنعينكم في بعض الأمر قال اللّه تعالى { واللّه يعلم إسرارهم } بما قالوا فيما بينهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { إسرارهم } بكسر الألف والباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فهو جمع السر ومن قرأ بالكسر فهو مصدر أسررت إسرارا ويقال سر وأسرار ٢٧ثم خوفهم فقال اللّه تعالى { فكيف } يعني كيف يصنعون { إذا توفتهم الملائكة } يعني تقبض أرواحهم الملائكة ملك الموت وأعوانه { يضربون وجوههم وأدبارهم } يعني عند قبض الأرواح ويقال يعني يوم القيامة في النار ٢٨{ ذلك } يعني ذلك الضرب الذي نزل بهم عند الموت وفي النار { بأنهم اتبعوا ما أسخط اللّه } يعني اتبعوا الكفر وتكذيب محمد صلى اللّه عليه وسلم { وكرهوا رضوانه } يعني عملوا بما لم يرض اللّه به وتركوا العمل بما يرضي اللّه تعالى { فأحبط أعمالهم } يعني أبطل ثواب أعمالهم ٢٩قوله تعالى { أم حسب الذين في قلوبهم مرض } يعني أيظن أهل النفاق والشك { أن لن يخرج اللّه أضغانهم } يعني لم يظهر اللّه نفاقهم ويقال يعني الغش الذي في قلوبهم للمؤمنين وعداوتهم للنبي للّه { ولو نشاء لأريناكهم } يعني لعرفتك المنافقين وأعلمتك { فلعرفتهم بسيماهم } يعني بعلاماتهم الخبيثة ويقال { فلعرفتهم بسيماهم } إذا رأيتهم ٣٠ويقال لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة { فلعرفتهم بسيماهم } يعني حتى عرفتهم { ولتعرفنهم في لحن القول } يعني ستعرفهم يا محمد بعد هذا اليوم { في لحن القول } يعني في محاورة الكلام ويقال { في لحن القول } يعني كذبهم إذا تكلموا فلم يخف على النبي للّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآية منافق عنده إلا عرفه بكلامه ثم قال { واللّه يعلم أعمالكم } يعني لم يخف عليه أعمالكم قبل أن تعلموها فكيف يخفى عليه إذا عملتموها ٣١قوله تعالى { ولنبلونكم } يعني لنختبرنكم عند القتال { حتى نعلم } أي نميز { المجاهدين منكم والصابرين } يعني صبر الصابرين عند القتال { ونبلوا أخباركم } يعني نختبر أعمالكم ويقال أسراركم قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وليبلوكم حتى يعلم ويبلوا } الثلاثة كلها بالياء يعني حتى يختبركم اللّه والباقون الثلاثة كلها بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه ٣٢قوله عز وجل { إن الذين كفروا } يعني جحدوا { وصدوا عن سبيل اللّه } يعني صرفوا الناس عن دين الإسلام قال مقاتل يعني اليهود وقال الكلبي يعني رؤساء قريش حيث شاقوا أهل التوحيد { وشاقوا الرسول } يعني عادوا اللّه تعالى ورسوله وخالفوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الدين { من بعد ما تبين لهم الهدى } يعني الإسلام وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه الحق { لن يضروا اللّه شيئا } يعني لن ينقصوا اللّه من ملكه شيئا بكفرهم بل يضروا بأنفسهم { وسيحبط أعمالهم } يعني يبطل ثواب أعمالهم التي عملوا في الدنيا فلا يقبلها منهم ٣٣قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول } يعني أطيعوه في السر كما في العلانية ويقال { أطيعوا اللّه } في الفرائض { وأطيعوا الرسول } في السنن وفيما يأمركم من الجهاد { ولا تبطلوا أعمالكم } يعني حسناتكم بالرياء وقال أبو العالية كان أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع قول لا إله إلا اللّه ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزل { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } فخافوا أن تبطل الذنوب الأعمال وقال مقاتل نزلت في الذين يمنون عليك أن أسلموا { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه } قال مقاتل وذلك أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم سأله عن والده أنه كان محسنا في كفره قال ( هو في النار ) فولى الرجل يبكي فدعاه فقال له ( والدك ووالدي ووالد إبراهيم في النار ) ٣٤فنزل { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه } { ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر اللّه لهم } قال الكلبي نزلت الآية في رؤساء أهل بدر ٣٥قوله تعالى { فلا تهنوا } يعني لا تضعفوا عن عدوكم { وتدعوا إلى السلم } يعني إلى الصلح أي { ولا تهنوا } ولا تدعوا إلى الصلح نظير قوله تعالى { ولا تلبسوا الحق } [ البقرة ٤٢ ] يعني ولا تكتموا الحق وفي هذه الآية دليل على أن أيدي المسلمين إذا كانت عالية على المشركين ولا ينبغي لهم أن يجيبوهم إلى الصلح لأن فيه ترك الجهاد وإن لم تكن يدهم عالية عليهم فلا بأس بالصلح لقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } [ الأنفال ٦١ ] يعني إن مالوا للصلح فمل إليه قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر { إلى السلم } بكسر السين والباقون بالنصب قال بعضهم وهما لغتان وقال بعضهم أحدهما صلح والآخر استسلام ثم قال { وأنتم الأعلون } يعني العالين يكون آخر الأمر لكم { واللّه معكم } يعني معينكم وناصركم { ولن يتركم أعمالكم } يعني لن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا يقال وترتني حقي يعني بخستني فيه وقال مجاهد لن ينقصكم وقال قتادة لن يظلمكم ٣٦قوله عز وجل { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } يعني باطلا وفرح { وإن تؤمنوا } أي تستقيموا على التوحيد { وتتقوا } النفاق { يؤتكم أجوركم } يعني يعطكم ثواب أعمالكم { ولا يسألكم أموالكم } يعني لا يسألكم جميع أموالكم ولكن ما فضل منها ٣٧{ وإن يسألكموها } يعني جميع الأموال { فيحفكم تبخلوا } يعني إن يلح عليكم بما يوجبه في أموالكم ويقال { فيحفكم } يعني يجهدكم كثرة المسألة { تبخلوا } بالدفع { ويخرج أضغانكم } يعني يظهر بغضكم وعدواتكم للّه تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين ويقال ويخرج ما في قلوبكم من حب المال يقول هذا للمسلمين ويقال هذا للمنافقين يعني يظهر نفاقكم وقال قتادة علم اللّه أن في مسألة الأموال خروج الأضغان ٣٨ثم قوله عز وجل { ها أنتم هؤلاء } قرأ نافع وأبو عمرو { ها أنتم } بمدة طويلة بغير همز وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالمد والهمز و ( ها ) تنبيه و ( أنتم ) كلمة على حدة وإنما مد ليفصل ألف هاء من ألف أنتم وقرأ إبن كثير بالهمز بغير مد ومعناه أأنتم ثم قلبت إحدى الهمزتين هاء ومعنى هذه القراءات كلها أنتم يا معشر المؤمنين { تدعون لتنفقوا في سبيل اللّه } يعني لتتصدقوا في سبيل اللّه وتعينوا الضعفاء { فمنكم من يبخل } بالنفقة في سبيل اللّه { ومن يبخل } بالنفقة { فإنما يبخل عن نفسه } يعني لا يكون له ثواب النفقة { واللّه الغني } عما عندكم من الأموال وعن أعمالكم { وأنتم الفقراء } إلى ما عند اللّه من الثواب والرحمة والمغفرة { وإن تتولوا } يعني تعرضوا عما أمركم اللّه به من الصدقة وغير ذلك مما افترض اللّه عليكم من حق { يستبدل قوما غيركم } يعني يهلككم ويأت بخير منكم وأطوع للّه تعالى منكم { ثم لا يكونوا أمثالكم } يعني أشباهكم في معصية اللّه تعالى قال بعضهم لم يتولوا ولم يستبدل بهم وقال بعضهم استبدل بهم أناس كنده وغيرهم وروى أبو هريرة قال لما نزلت هذه الآية قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا قال وعنده سلمان الفارسي فوضع النبي صلى اللّه عليه وسلم يده عليه ثم قال ( هذا وقومه ) ثم قال ( لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس ) صلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم |
﴿ ٠ ﴾