سورة الحجرات

مدنية وهي ثماني عشرة آية

١

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله } يقال { يا } نداء وها تنبيه و { الذين } إشارة و { آمنوا } مدحه

روي عن الضحاك أنه كان يقرأ { لا تقدموا } بنصب التاء والدال وقراءة العامة { لا تقدموا } برفع التاء وكسر الدال

فمن قرأ بالنصب فهو في الأصل لا تتقدموا فحذفت إحدى التاءين لتكون أخف ومن قرأ بالضم فهو من قدم يقدم يقال فلان تقدم بين يدي أبيه وبين يدي الإمام

يعني تعجل بالأمر وانتهى بدونه يعني لا تقدموا الكلام بين يدي اللّه ورسوله

ومعناه لا تقولوا قبل أن يقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم

ويقال معناه إذا أمرتم بأمر فلا تفعلوه قبل الوقت الذي أمرتم به

وقال الحسن إن قوما ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم النحر فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يذبحوا آخر فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله } وقال مسروق كنا عند عائشة يوم الشك فأتي بلبن فناولتني فقلت إني صائم فقالت عائشة رضي اللّه عنها وقد نهي عن هذا وقرأت هذه الآية وقالت هذه الآية نزلت في الصوم وغيره

وقال مقاتل نزلت الآية في ثلاثة نفر وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم المنذر بن عمرو فخرج بنو عامر بن صعصعة عند بئر معونة فرصدوهم على الطريق وقتلوهم فرجع ثلاثة منهم فلما دنوا إلى المدينة خرج رجلان من بني سليم صلحا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد كان أهداهما وكساهما فقالا نحن من بني عامر لأن بني عامر كانوا أقرب إلى المدينة فقتلوهما وأخذوا ثيابهما وجاؤوا بها إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي اللّه ورسوله } يعني لا تعجلوا بأمر ولا بقتل حتى تستأمروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وروي عن الحسن في رواية أخرى أنه قال لا تعملوا بخلاف الكتاب والسنة

ثم قال { واتقوا اللّه } يعني اخشوا اللّه عز وجل فيما يأمركم وينهاكم ولا تخالفوا أمر اللّه ورسوله

وقوله { إن اللّه سميع عليم } يعني { سميع } الدعاء { عليم } بخلقه

ويقال { سميع } لقول المستأمنين { عليم } بنيات الذين قتلوهما

وفي الآية بيان رأفة اللّه عز وجل على عباده حيث سماهم مؤمنين مع معصيتهم

٢

فقال { يا أيها الذين آمنوا } ولم يقل يا أيها الذين عصوا وقد ذكرنا من قبل أن النداء على ست مراتب وهذا نداء مدح

قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } نزلت في وفد بني تميم قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهم سبعون أو ثمانون منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن الجحاف وذلك حين قالوا ائذن لشاعرنا وخطيبنا في الكلام فعلت الأصوات واللغط فنزلت الآية { لا ترفعوا أصواتكم } عند رسول اللّه فوق صوته ويقال نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر فكان إذا تكلم رفع صوته

ثم قال { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض } يعني لا تدعوه باسمه كما يدعو الرجل الرجل منكم باسمه ولكن عظموه ووقروه وقولوا يا رسول اللّه يا نبي اللّه

ثم قال { أن تحبط أعمالكم } يعني إن فعلتم ذلك فتحبط حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أن ذلك يحبطها وقال بعضهم من عمل كبيرة من الكبائر حبط جميع ما عمل من الحسنات واحتج بهذه الآية { أن تحبط أعمالكم } ولكن نحن نقول الكبيرة لا تبطل العمل ما لم يكفر وإنما ذكر هاهنا إبطال العمل لأن في ذلك استخفافا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم

ومن قصد الاستخفاف بالنبي صلى اللّه عليه وسلم كفر

ولما نزلت هذه الآية دخل ثابت بن قيس بيته وجعل يبكي ويقول أنا من أهل النار فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فبعث إليه وقال ( إنك من أهل الجنة بل غيرك من أهل النار )

فقال يا رسول اللّه لا أتكلم بعد ذلك إلا سرا أو ما كان يشبه السر فنزل { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه } صلى اللّه عليه وسلم روى ثابت عن أنس قال لما نزل { لا ترفعوا أصواتكم } وكان ثابت بن قيس رفيع الصوت

فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي وحبط عملي أنا من أهل النار وجلس في أهله يبكي ففقده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال صلى اللّه عليه وسلم ( بل هو من أهل الجنة )

فقال أنس لكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة

فلما كان يوم اليمامة فكان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس وقد تحنط ولبس كفنه فقال بئس ما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل

٣

ثم قال { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى} يعني أخلص اللّه عز وجل قلوبهم

ويقال أصفى اللّه عز وجل قلوبهم من المعصية للتقوى يعني يجعل قلوبهم موضعا للتقوى { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر عظيم } أي ثواب وافر يعني في الجنة يعني يجعل ثوابهم في الدنيا أن يخلص قلوبهم للتقوى وفي الآخرة أجر عظيم

٤

وقوله عز وجل { إن الذي ينادونك من رواء الحجرات } فالحجرات جمع حجرة يقال حجرة وحجرات مثل ظلمة وظلمات

وقرئ في الشاذ الحجرات بنصب الجيم وقرأه العامة بالضم ومعناهما واحد نزلت الآية في شأن نفر من بني تميم وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث أسامة بن زيد فانتهى إلى قبيلة وكانت تسمى بني العنبر فأغار عليهم وسبى ذراريهم فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراهم أو يفدوهم فنادوه وكان وقت الظهيرة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحجرة فنادوه من وراء الحجرة وكان لأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم حجرات فلما خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم كلموه في أمر الذراري فقال لواحد منهم ( أحكم ) فقال حكمت أن تخلي نصف الأسارى وتبيع النصف منا ففعل النبي صلى اللّه عليه وسلم

٥

فنزلت الآية { إن الذين ينادونك من رواء الحجرات } { أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } لأنهم لو لم ينادوه لكان يعتقهم كلهم

وروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فناداه من وراء الحجرات فقال يا محمد إن مدحي زين وإن شتمي شين فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ( ويلك ذلك اللّه عز وجل )

فنزل { إن الذي ينادونك } الآية

ثم قال عز وجل { واللّه غفور } يعني { غفور } لمن تاب { رحيم } بهم بعد التوبة

٦

قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية

نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات فخرجوا إليه ليبجلوه ويعظموه فخشي منهم لأنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية

فرجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال خرجوا إلي

بأسلحتهم ومنعوا مني الصدقات وطرحوني وأرادوا قتلي فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يبعث لقتالهم فجاؤوا إلى المدينة وقالوا يا رسول اللّه لما بلغنا قدوم رسولك خرجنا نبجله ونعظمه فانصرف عنا فاغتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما فعل الوليد بن عقبة فنزل { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } يعني بحديث كذب وبخبر كذب { فتبينوا } يعني قفوا ولا تعجلوا { أن تصيبوا } يعني كيلا تصيبوا { قوما بجهالة } وأنتم لا تعلمون بأمرهم { فتصبحوا } يعني فتصيروا { على ما فعلتم نادمين }

قرأ حمزة والكسائي { فتثبتوا } بالثاء وقرأ الباقون بالياء { فتبينوا } مثل ما في سورة النساء

٧

ثم قال للمؤمنين رضي اللّه عنهم { واعلموا أن فيكم رسول اللّه لو يطيعكم في كثير من الأمر } يعني ما أمرتم به لأن الناس كانوا قد حرضوه على إرسالهم لقتال بني المصطلق { لعنتم } يعني لأثمتم

وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } يعني هذا نبيكم وخياركم { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } فكيف بكم اليوم

ويقال { لعنتم } أي لهلكتم

وأصله من عنت البعير إذا انكسرت رجله

ثم ذكر لهم النعم فقال { ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان } يعني جعل حب الإيمان في قلوبكم { وزينه في قلوبكم } يعني حسنه للثواب الذي وعدكم ويقال دلكم عليه بالحجج القاطعة

ويقال زينه في قلوبكم بتوفيقه إياكم لقبوله { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } يعني بغض إليكم الكفر والمعاصي لما بينه من العقوبة

ثم قال { أولئك هم الراشدون } يعني المهتدون

فذكر أول الآية على وجه المخاطبة وآخر الآية بالمغايبة

ثم قال { أولئك هم الراشدون } ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا فقد دخل في هذا المدح

وفي الآية دليل أن من كان مؤمنا فإنه لا يحب الفسوق والمعصية لأن اللّه تعالى قال { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } والمؤمن إذا ابتلي بالمعصية فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك لا لحبه للمعصية

٨

ثم قال { فضلا من اللّه ونعمة } يعني كان الإيمان الذي حببه إليكم والكفر الذي بغضه إليكم كان { فضلا من اللّه ونعمة } يعني رحمة { واللّه عليم } بخلقه { حكيم } في أمره وقضائه

٩

قوله عز وجل { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى الأنصار ليكلمهم في أمر من الأمور وهو على حمار فوقف على حمار يكلم الأنصار

فبال الحمار فقال عبد اللّه بن أبي المنافق خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار ثم قال أف وأمسك على أنفه

فشق على النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله فانصرف عبد اللّه بن رواحة الأنصاري فقال أتقول هذا لحمار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لبوله أطيب ريحا منك

فاقتتلا فاجتمع قوم ابن رواحة وهم الأوس وقوم عبد اللّه بن أبي وهم الخزرج فكان بينهم ضرب النعال والأيدي والسعف

ورجع النبي صلى اللّه عليه وسلم فاصلح بينهم فأنزل اللّه تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } فكره بعضهم الصلح فأنزل قوله { فإن بغت إحداهما على الأخرى } يعني استطالت فلم ترجع إلى الصلح { فقاتلوا التي تبغي } يعني تظلم { حتى تفيء إلى أمر اللّه } يعني ترجع إلى ما أمر اللّه عز وجل

وروى أسباط عن السدي قال كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد فأبغضت زوجها وأرادت أن تلحق بأهلها وكان قد جعلها في غرفة له وأمر أهله أن يحفظوها وخرج إلى حاجة له

فأرسلت إلى أهلها فجاء ناس من أهلها وأرادوا أن يذهبوا بها فاقتتلوا بالنعال والتلاطم فنزل قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآية

ثم صارت الآية عامة في جميع المسلمين إذا اقتتل فريقان من المسلمين وجب على المؤمنين الإصلاح بين الفريقين

فإن ظهر أن أحد الفريقين ظالم فإنه يقاتل ذلك الفريق حتى يرجع إلى حكم اللّه

ثم قال { فإن فاءت } يعني رجعت إلى الصلح { فأصلحوا بينهما بالعدل } يعني بالحق { وأقسطوا } يعني اعدلوا بين الفريقين ولا تميلوا { إن اللّه يحب المقسطين } يعني العادلين

١٠

ثم قال عز وجل { إنما المؤمنون إخوة } يعني كالأخوة في التعاون لأنهم على دين واحد كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وروي عنه أنه قال ( المؤمنون كعضو واحد إذا اشتكى عضو تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر )

قرأ ابن سيرين { فأصلحوا بين إخوانكم } بالنون

وقرأ يعقوب الحضرمي { بين إخوتكم } بالتاء

يعني جمع الأخ وقراءة العامة { بين أخويكم } بالياء على تثنية الأخ

يعني بين كل أخوين

ثم قال { واتقوا اللّه لعلكم ترحمون } يعني اخشوا اللّه عز وجل ولا تعصوه { لعلكم ترحمون } يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا

١١

قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } يعني لا يستهزئ الرجل من أخيه

وقال بعضهم الآية نزلت في ثابت بن قيس حيث عير الذي لم يوسع له في المكان وقال بعضهم الآية نزلت في الذين ينادونه من وراء الحجرات استهزؤوا من ضعفاء المسلمين { عسى أن يكونوا خيرا منهم } يعني أفضل منهم وأكرم على اللّه تعالى { ولا نساء من نساء } يعني لا تستهزئ امرأة من امرأة وذلك أن عائشة رضي اللّه عنها قالت إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة { وعسى أن يكون خيرا منهن } يعني أفضل ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء فلا يجوز أحد أن يسخر من صاحبه أو من أحد من خلق اللّه تعالى

وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أكون مثله

ثم قال { ولا تلمزوا أنفسكم } يعني لا يطعن بعضكم بعضا

وقال القتبي ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم كما قال { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } [ النور ١٢ ] يعني بأمثالهم

ثم قال { ولا تنابزوا بالألقاب } يعني لا تسموا باللقب

وقال محمد بن كعب القرظي هو الرجل يكون على دين من الأديان فيسلم فيدعونه بدينه الأول يا يهودي ويا نصراني

ويقال لا تعيروا المسلم بالملة التي كان عليها ولا تسموه بغير دين الإسلام

وقال أهل اللغة الألقاب والأنباز واحد ومنه قيل في الحديث ( قوم نبزهم الرافضة ) أي لقبهم { ولا تنابزوا بالألقاب } أي لا تدعوا بها

ويقال هو اللقب الذي يكرهه الرجل

يعني أنه ينبغي للمؤمن أن يخاطب أخاه بأحب الأسماء إليه

وقرأ بعضهم { ولا تلمزوا } بضم الميم وقراءة العامة بالكسر وهما لغتان

يقال لمز فلان فلانا يلمزه إذا عابه

وذكر في التفسير أن الآية نزلت في مالك بن أبي مالك وعبد اللّه بن أبي حدرد وذلك أن أبا مالك كان على المقاسم فقال لعبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي يا أعرابي فقال له عبد اللّه يا يهودي

فأمرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يدخلا عليه حتى تظهر توبتهما فنزل { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } يعني بئس التسمية لإخوانكم بالكفر وهم مؤمنون { ومن لم يتب } يعني لم يرجع من قوله { فأولئك هم الظالمون } فأوثقا أنفسهما حتى قبلت توبتهما

١٢

قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } يعني لا تحققوا الظن { إن بعض الظن إثم } يعني معصية

أي إن ظن السوء بالمسلم معصية

وقال سفيان الثوري الظن ظنان ظن فيه إثم وظن لا إثم فيه

فالظن الذي فيه إثم أن يظن ويتكلم به

وأما الظن الذي لا إثم فيه فهو أن يظن ولا يتكلم به لأنه قال { إن بعض الظن إثم } ولم يقل جميع الظن إثم

ثم قال { ولا تجسسوا } يعني لا تطلبوا ولا تبحثوا عن عيب أخيكم { ولا يغتب بعضكم بعضا } روى أسباط عن السدي قال كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر فنزلوا منزلا فضربوا خيامهم وصنعوا طعامهم ونام سلمان فقال بعض القوم لبعض ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خياما مضروبة وطعاما مصنوعا فلما استيقظ سلمان قالوا له انطلق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتمس لنا إداما نأتدم به

فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال صلى اللّه عليه وسلم ( أخبرهم أنهم قد ائتدموا )

فأخبرهم

فقالوا ما طعمنا بعد وما كذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

فأتوه فقال ( ائتدمتم من صاحبكم حين قلتم ما قتلم وهو نائم ) ثم قرأ { ولا يغتب بعضكم بعضا } { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } يعني فكما تكرهون أكل لحمه ميتا فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب

ويقال كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما وكان يطبخ لهما فنزلوا منزلا فلم يجد ما يصلح لهم أمر الطعام فبعثاه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم لينظر أعنده شيئا من الطعام فقال أسامة لم يبق عند النبي صلى اللّه عليه وسلم شيء من الطعام فرجع إليهما فقالا إنه لو ذهب إلى بئر كذا ليبس ماؤها فنزلت هذه الآية

ويقال نزلت في شأن زيدبن ثابت وذلك أن نفرا ذكروا فيه شيئا فنزل { ولا يغتب بعضكم بعضا } قرأ نافع { ميتا } بتشديد الياء والخفض والباقون بالجزم

وقال أهل اللغة الميت

والميت واحد مثل ضيق وضيق وهين وهين ولين ولين

ثم قال { واتقوا اللّه } في الغيبة وتوبوا إليه { إن اللّه تواب } يعني قابل التوبة { رحيم } بهم بعد التوبة

قوله تعالى { يا أيها الناس } قال مقاتل وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة أمر بلالا ليؤذن فقال الحارث بن هشام أما وجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سوى هذا الغراب

يعني بلالا

١٣

فنزل { يا أيها الناس } { إنا خلقناكم من ذكر وأثنى } يعني آدم وحواء { وجعلناكم شعوبا } يعني خلقناكم قبائل مثل مضر وربيعة { وقبائل } يعني الأفخاذ مثل بني سعد وبني عامر

{ لتعارفوا } في النسب { إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم } يعني وإن كان عبدا حبشيا أسود مثل بلال

وقال في رواية الكلبي نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنيه ثقل وكان يدنو من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليسمع كلامه فأبطأ يوما واحدا وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء وتخطى رقابهم حتى جلس قريبا من النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال رجل من القوم هذا يتخطى رقابنا فلم لا يجلس حيث وجد المكان فقال ثابت من هذا فقالوا فلان فقال ثابت يا ابن فلانة وكان يعير بأمه فخجل فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( من عير فلانا بأمه ) فقال ثابت بن قيس أنا قد ذكرت شيئا فقرأ هذه الآية عليه فاستغفر ثابت

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال القبائل والأفخاذ والشعوب الجمهور مثل مضر

وقال الضحاك الشعوب الأفخاذ والقبائل مثل بني تميم وبني أسد

وقال القتبي الشعوب أكثر من القبيلة

وقال الزجاج الشعب أعظم من القبيلة ومعناه إني لم أخلقكم شعوبا وقبائل للتفاخر وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا

روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( إذا كان يوم القيامة يقول اللّه عز وجل إنكم جعلتم لأنفسكم نسبا وجعلت لنفسي نسبا فرفعتم نسبكم ووضعتم نسبي فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم يعني قلت إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم وقلتم أنتم فلا وفلان )

ثم قال { إن اللّه عليم } بأتقيائكم { خبير } بافتخاركم قوله عز وجل { قالت الأعراب آمنا } قال ابن عباس نزلت الآية في بني أسد قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قحط أصابهم فجاؤوا بأهاليهم وذراريهم يطلبون الصدقة وأظهروا الإسلام وقالوا يا رسول اللّه نحن أسلمنا طوعا وقدمنا بأهالينا فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا

ويقال كانت قبيلتان جهينة ومزينة قدموا بأهاليهم

١٤

فنزلت الآية { قالت الأعراب آمنا } يعني صدقنا { قل لم تؤمنوا } يعني لم تصدقوا في السر كما صدقتم في العلانية { ولكن قولوا أسملنا } يعني دخلنا في الانقياد والخضوع

ويقال استسلمنا مخافة القتل والسبي { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } يعني لم يدخل الإيمان في قلوبكم يعني التصديق

ويقال لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم { وإن تطيعوا اللّه ورسوله } في السر

كما تطيعونه في العلانية { لا يلتكم من أعمالكم شيئا } يعني لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا

قرأ أبو عمرو { لا يألتكم } بالألف والهمز والباقون { لا يلتكم } بغير ألف ولا همز ومعناهما واحد

يقال لاته يلته وألته يألته إذا أنقص حقه { إن اللّه غفور رحيم } لو صدقوا بقلوبهم

١٥

ثم بين اللّه عز وجل لهم من المصدق فقال عز وجل { إنما الؤمنون } يعني المصدقين في إيمانهم { والذين آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا } يعني لم يشكوا في إيمانهم { وجاهدوا } الأعداء { بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه } أي في طاعة اللّه { أولئك هم الصادقون } في إيمانهم

فلما نزلت هذه الآية أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحلفوا باللّه أنهم لمصدقوه في السر

١٦

فنزل { قل أتعلمون اللّه بدينكم } الذي أنتم عليه { واللّه يعلم ما في السموات وما في الأرض } يعني سر أهل السموات وسر أهل الأرض { واللّه بكل شيء عليم } أي يعلم ما في قلوبكم من التصديق وغيره

١٧

قوله عز وجل { يمنون عليك أن أسلموا } يعني بقولهم جئناك بأهالينا وأولادنا { قل لا تمنوا علي إسلامكم بل اللّه يمن عليكم أن هداكم للإيمان } يعني وفقكم للإيمان { إن كنتم صادقين } بأنكم مخلصون مؤمنون في السر والعلانية

قوله تعالى { إن اللّه يعلم غيب السموات والأرض } يعني سر أهل السموات وسر أهل الأرض

١٨

 { واللّه بصير بما تعملون } من التصديق وغيره قرأ إبن كثير وعاصم في رواية إبان { بما يعملون } بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون { تعملون } بالتاء على معنى المخاطبة لهم أي بصير بما يعملون من التصديق وغيره والخير والشر و صلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم واللّه أعلم بالصواب

﴿ ٠