سورة الحديدمدنية وهي عشرون وتسع آيات ١قوله تبارك وتعالى { سبح للّه } يعني صلى للّه { ما في السموات } من الملائكة { والأرض } من المؤمنين فسمى الصلاة تسبيحا لأنه يجري فيها التسبيح ويقال { سبح للّه } يعني ذكر اللّه { ما في السموات } يعني جميع ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم { والأرض } يعني جميع ما في الأرض من الإنس والأشجار والأنهار والجبال وغير ذلك ويقال { سبح للّه } يعني خضع للّه جميع ما في السموات والأرض وقال بعضهم التسبيح آثار صنعه يعني في كل شيء دليل لربوبيته ووحدانيته ويقال هو التسبيح بعينه يعني يسبح جميع الأشياء كقوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء ٤٤ ] وقال الحسن البصري لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقادرتم وروى سمرة بن جندب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( أفضل الكلام أربعة سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ) ولا يضرك بأيهن بدأت { وهو العزيز الحكيم } يعني { العزيز } بالنقمة لمن لا يوحده { والعزيز } في اللغة الذي لا يعجزه عما أراد ويقال { العزيز } الذي لا يوجد مثله { الحكيم } في أمره وقضائه ٢ثم قال عز وجل { له ملك السموات والأرض } يعني له خزائن السموات والأرض يعني خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات ويقال معناه له نفاذ الأمر في السموات والأرض ثم قال { يحيي ويميت } يعني { يحيي } للبعث { ويميت } في الدنيا { وهو على كل شيء قدير } من الإحياء والإماتة ٣ثم قال عز وجل { هو الأول } يعني الأول قبل كل أحد { والآخر } بعد كل أحد { والظاهر } يعني الغالب على كل شيء { والباطن } يعني العالم بكل شيء ويقال { هو الأول } يعني مؤول كل شيء { والآخر } يعني مؤخر كل شيء { والظاهر } يعني المظهر { والباطن } يعني المبطن ويقال هو { الأول } يعني خالق الأولين { والآخر } يعني خالق الآخرين { والظاهر } يعني خالق الآدميين وهم ظاهرون { والباطن } يعني خالق الجن والشياطين الذين لا يظهرون ويقال { هو الأول } يعني خالق الدنيا { والآخر } يعني خالق الآخرة { والظاهر والباطن } يعني عالم بالظاهر والباطن ويقال { هو الأول } بلا ابتداء { والآخر } بلا انتهاء { والظاهر والباطن } يعني منه نعمة ظاهرة باطنة ويقال هو { الأول والآخر والظاهر والباطن } يعني هو الرب الواحد ثم قال { وهو بكل شيء عليم } يعني من أمر الدنيا والآخرة ٤قوله عز وجل { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } قد سبق ذكره { يعلم ما يلج في الأرض } يعني ما يدخل في الأرض من الماء والكنوز والموات { وما يخرج منها } من النبات والكنوز والأموات { وما ينزل من السماء } وهو المطر والثلج والرزق والملائكة { وما يعرج فيها } يعني ما يصعد فيها من الملائكة وأعمال العباد والأرواح { وهو معكم أينما كنتم } يعني عالما بكم وبأعمالكم أينما كنتم في الأرض { واللّه بما تعملون بصير } فيجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا ٥ثم قال عز وجل { له ملك السموات والأرض } وقد ذكرناه { وإلى اللّه ترجع الأمور } يعني إليه عواقب الأمور ثم قال عز وجل { يولج الليل في النهار } يعني يدخل الليل في النهار يعني إذا جاء الليل ذهب النهار ٦
ومعنى آخر يعني يدخل زيادة الليل في النهار حتى يصير النهار أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والليل أقصر ما يكون تسع ساعات ويدخل زيادة النهار في الليل حتى يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات والليل والنهار أبدا أربع وعشرون ساعة ثم قال عز وجل { وهو عليم بذات الصدور } يعني بما في القلوب من الخير والشر ٧ثم قال { آمنوا باللّه ورسوله } يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى وصدقوا برسوله { وأنفقوا } يعني تصدقوا في طاعة اللّه تعالى { مما جعلكم مستخلفين فيه } يعني مما جعلكم مالكين من المال ويقال معناه إن الأموال والدنيا كلها للّه تعالى فجعل العباد مستخلفين على أمواله وأمرهم بالنفقة مما جعلهم خليفة فيها ثم بين ثواب الذين آمنوا فقال { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا } يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى وتصدقوا { لهم أجر كبير } يعني عظيما وهو الثواب الحسن في الجنة ويقال إن هذه الآية نسخت بآية الزكاة ويقال إنها ليست بمنسوخة ولكنها حث على الصدقة والنفقة في طاعة اللّه تعالى ٨ثم قال عز وجل { وما لكم لا تؤمنون باللّه } يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية اللّه تعالى { والرسول يدعوكم } قرأ بعضهم { والرسول } بنصب اللام يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية اللّه تعالى { والرسول } وقرأ بعضهم { والرسول } بضم اللام يعني ما لكم لا تصدقون بوحدانية اللّه وتم الكلام ثم قال { والرسول يدعوكم } إلى توحيد اللّه تعالى وقراءة العامة بذلك يعني بضم اللام وقرأ بعضهم { والرسول } بكسر اللام يعني مالكم لا تصدقون باللّه وبرسوله حين يدعوكم { لتؤمنوا بربكم } يعني لتصدقوا بوحدانية اللّه ربكم { وقد أخذ ميثاقكم } يعني قد أخذ اللّه تعالى إقراركم يوم الميثاق حين أخرجكم من صلب آدم { إن كنتم مؤمنين } يعني مصدقين قرأ أبو عمرو { وقد أخذ } بضم الألف وكسر الخاء { ميثاقكم } يضم القاف على معنى فعل ما لم يسم فاعله والباقون بالنصب بمعنى أخذ اللّه ميثاقكم ٩ثم قال { هو الذي ينزل على عبده } هو الذي ينزل جبريل على عبده محمد صلى اللّه عليه وسلم ليقرأ عليه { آيات بينات } يعني آيات القرآن بين فيها الحلال والحرام والأمر والنهي { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } يعني يدعوكم من الشرك إلى الإيمان ويقال { آيات بينات } يعني واضحات ويقال { آيات } يعني علامات النبوة { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } يعني ليوفقكم اللّه تعالى للّه دى ويخرجكم من الكفر { وإن اللّه بكم لرؤوف رحيم } حين هداكم لدينه وأنزل عليكم القرآن ١٠قوله عز وجل { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل اللّه } يعني ما لكم لا تصدقوا ولا تنفقوا أموالكم في طاعة اللّه { وللّه ميراث السموات والأرض } يعني إلى اللّه يرجع ميراث السموات والأرض يعني لا ينفعكم ترك الإنفاق وأنت ميتون تاركون أموالكم ويقال معناه { وما لكم ألا تنفقوا } والأموال كلها للّه تعالى وهو يأمركم بالنفقة ويقال أنفقوا مادمتم في الحياة فإنكم إن بخلتم فإن اللّه هو يرثكم ويرث أهل السموات يعني أنفقوا قبل أن تفنوا وتصير كلها ميراثا للّه تعالى بعد فنائكم وإنما ذكر لفظ الميراث لأن العرب تعرف ما ترك الإنسان يكون ميراثا فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم ثم قال { لا يستوي منكم } يعني لا يستوي منكم في الفضل والثواب عند اللّه تعالى { من أنفق } ماله في طاعة اللّه تعالى { من قبل الفتح } يعني قاتل العدو وفي الآية تقديم يعني من أنفق وقاتل { من قبل الفتح } يعني فتح مكة ونزلت الآية في شأن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المهاجرين والأنصار يعني الذين أنفقوا أموالهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقاتلوا الكفار لا يستوي حالهم وحال غيرهم ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي اللّه عنه كان جالسا مع نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوقع بينهم منازعة في شيء فنزل في تفضيل أبي بكر رضي اللّه عنه { لا يستوي منكم من أنفق } ماله { من قبل الفتح } يعني من قبل ظهور الإسلام { وقاتل } يعني وجاهد عدوه { أولئك أعظم درجة } يعني أبا بكر رضي اللّه عنه { من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } العدو مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقال هذا التفضيل لجميع الصحابة وروى سفيان عن زيد بن أسلم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( سيأتي قوم بعدكم يحقرون أعمالكم مع أعمالهم ) قالوا يا رسول اللّه نحن أفضل أم هم فقال ( لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك فضل أحدكم ولا نصفه ) ففرقت هذه الآية بينكم وبين الناس ولا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل { أولئك أعظم درجة } من الذين أنفقوا من بعد قال الفقيه حدثني الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا عبيد اللّه عن سفيان عن زيد بن أسلم ثم قال { وكلا وعد اللّه الحسنى } يعني وكلا الفريقين من أنفق من قبل الفتح وبعد الفتح { وعد اللّه الحسنى } يعني وعد اللّه الحسنى قرأ ابن عامر { وكل وعد اللّه الحسنى } بضم اللام والباقون بالنصب فمن قرأ بالضم صار ضما لمضمر فيه فكأنه قال أولئك وعد اللّه الحسنى ومن نصب معناه وعد اللّه كلا الحسنى يعني الجنة ثم قال { واللّه بما تعملون خبير } يعني بما أنفقتم ١١ثم قال { من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا } يعني من ذا الذي يعطي من أموال اللّه { قرضا حسنا } يعني دفعا بالإخلاص وطلب ثواب اللّه تعالى { فيضاعفه له } يعني يقبل منه ويضاعفه له في الحساب ويعطيه من الحسنات ويعطيه من الثواب ما لا يحصى { وله أجر كريم } يعني ثوابا حسنا في الآخرة ويقال نزلت الآية في شأن أبي الدحداح وقد سبق ذكره ويقال هو حث لجميع المسلمين واختلاف القراء في قوله { فيضاعفه } قد سبق ذكره ١٢ثم قال عز وجل { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } يعني في يوم القيامة على الصراط { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } يعني بتصديقهم في الدنيا وبأعمالهم الصالحة فيعطى لهم النور يمضون به على الصراط فيكون النور بين أيديهم وبأيمانهم وعن شمائلهم إلا أن ذكر الشمائل مضمر وتقول لهم الملائكة { بشراكم اليوم } يعني أبشروا هذا اليوم بكرامة اللّه تعالى { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } يعني مقيمين في الجنة { ذلك هو الفوز العظيم } يعني النجاة الوافرة فازوا بالجنة ونجوا من العذاب ١٣قوله تعالى { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم } يعني نصب من نوركم فنمضي معكم وروي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال بينما العباد يوم القيامة عند الصراط إذ غشيتهم ظلمة ثم يقسم اللّه تعالى النور بين عباده فيعطي اللّه المؤمن نورا ويبقى الكافر والمنافق لا يعطيان نورا فكما لا يستضئ الأعمى بنور البصر كذلك لا يستضيء الكافر والمنافق بنور الإيمان فيقولان انظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم { قيل ارجعوا } حيث قسم النور فيرجعون فلا يجدون شيئا فيرجعون وقد ضرب بينهم بسور وعن الحسن البصري قال إن المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم لأنه يعطي المؤمن نورا والمنافق نورا فإذا بلغو الصراط اطفئ نور المنافق فيقول المنافقون عند ذلك { انظرونا نقتبس من نوركم } قال فيشفق المؤمنون حين طفئ نور المنافقين فيقولون عند ذلك { ربنا أتمم لنا نورنا } قرأ حمزة { أنطرونا } بنصب الألف وكسر الظاء والباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه أمهلونا ويقال بمعنى أنظرونا ومن قرأ بالضم فمعناه انتظرونا فقال لهم المؤمنون ارجعوا { وراءكم فالتمسوا نورا } يعني ارجعوا إلى الدنيا فإنا حصلنا النور في الدنيا ويقال ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور واطلبوا نورا فيرجعون في طلب النور فلم يجدوا شيئا { فضرب بينهم بسور } يعني فظهر لهم ويقال بين أيديهم بسور يعني بحائط بين أهل الجنة وأهل النار { له باب باطنه } يعني باطن السور { فيه الرحمة } يعني الجنة { وظاهره من قبله العذاب } يعني النار ويقال هو السور الذي عليه أصحاب الأعراف يظهر بين الجنة والنار باب يعني عليه باب فيجاوز فيه المؤمنون ويبقى المنافقون على الصراط في الظلمة ١٤{ ينادونهم } من وراء السور { ألم نكن معكم } يعني ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم وكنا معكم في الجماعات والصلوات فيجيبهم المؤمنون ويقولون { قالوا بلى } يعني قد كنتم معنا في الظاهر { ولكنكم فتنتم أنفسكم } يعني قد أهلكتم أنفسكم حيث كفرتم في السر ويقال أهلكتم أنفسكم حين استوجبتم الحرق ويقال { فتنتم أنفسكم } يعني ثبتم على الكفر الأول في السر { وتربصتم } يعني انتظرتم موت نبيكم ويقال { تربصتم } يعني أخرتم التوبة وسوفتم فيها { وارتبتم } يعني شككتم في الدين وشككتم في البعث { وغرتكم الأماني } يعني أباطيل الدنيا { حتى جاء أمر اللّه } يعني القيامة { وغركم باللّه الغرور } يعني الشياطين وقال الزجاج { الغرور } على ميزان فعول وهو من أسماء المبالغة يقال فلان أكول أي كثير الأكل وكذلك الشياطين { الغرور } لأنه يغري ابن آدم كثيرا وقد قرئ بضم الغين يعني غرور متاع الدنيا ١٥ثم قال { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } يعني في هذا اليوم وهو يوم القيامة وقرأ ابن عامر { فاليوم لا تؤخذ } بالتاء لأن الفدية مؤنثة وقرأ الباقون بالياء رجع إلى المعنى لأن معنى الفدية فداء ومعناه { لا يؤخذ منكم } الفداء يعني المنافقين { ولا من الذين كفروا } يعني الذين جحدوا بتوحيد اللّه تعالى { مأواكم النار } يعني مصيركم إلى النار يعني المنافقين والكافرين مأواكم النار { هي مولاكم } يعني هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب { وبئس المصير } يعني بئس المرجع النار يعني للكافرين والمنافقين ١٦قوله تعالى { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه } يعني ألم يجىء وقت تخاف قلوبهم فترق قلوبهم يقال أنى يأنى أينا إذا حان وجاء وقته وأوانه قال الفقيه أبو الليث رحمة اللّه عليه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو جعفر ومحمد بن إبراهيم الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه قال حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عبد اللّه عن القاسم قال مل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملة فقالوا حدثنا يا رسول اللّه فأنزل اللّه تعالى { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف ٣ ] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا حدثنا يا رسول اللّه فأنزل اللّه تعالى { اللّه نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } [ الزمر ٢٣ ] ثم ملوا ملة أخرى فقالوا حدثنا يا رسول اللّه فأنزل اللّه تعالى { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه } ويقال إن المسلمين قالوا لسلمان حدثنا عن التوراة فإن فيها عجائب فنزل { نحن نقص عليك أحسن القصص } فكفوا عن السؤال ثم سألوه فنزل { اللّه نزل أحسن الحديث } [ الزمر ٢٣ ] فكفوا عن السؤال ثم سألوه فنزلت هذه الآية { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه } يعني ترق قلوبهم لذكر اللّه { وما نزل من الحق } يعني القرآن بذكر الحلال والحرام قرأ نافع وعاصم في رواية حفص { وما نزل } بالتخفيف والباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة ثم وعظهم فقال { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } يعني ولا تكونوا في القسوة كاليهود والنصارى من قبل خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم { فطال عليهم الأمد } يعني الأجل ويقال خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم { فقست قلوبهم } يعني جفت ويبست قلوبهم عن الإيمان فلم يؤمن بالقرآن إلا قليل منهم { وكثير منهم فاسقون } يعني عاصون ويقال { ألم يأن للذين آمنوا } يعني المنافقين الذين آمنوا بلسانهم دون قلوبهم وقال أبو الدرداء استعيذوا باللّه من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع ١٧قوله تعالى { اعلموا أن اللّه يحيي الأرض } يعني يصلح الأرض فاعتبروا بذلك { بعد موتها } يعني بعد يبسها وقحطها فكذلك يحيي القلوب بالقرآن ويصلح بعد قساوتها حتى تلين كما أحيا الأرض بعد موتها بالمطر { قد بينا لكم الآيات } يعني العلامات في القرآن { لعلكم تعقلون } يعني لكي تعقلوا أمر البعث إنكم أيضا كذلك تبعثون ١٨قوله تعالى { إن المصدقين والمصدقات } قرأ إبن كثير وعاصم في رواية أبي بكر { إن المصدقين والمصدقات } كليهما بالتخفيف والباقون بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف فمعناه إن المؤمنين من الرجال والمؤمنات من النساء فمن صدق اللّه ورسوله ورضي بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن قرأ بالتشديد يعني المتصدقين من الرجال والمتصدقات من النساء فأدغمت التاء في الصاد وشددت { وأقرضوا اللّه قرضا حسنا } يعني يتصدقون محتسبين بطبيعة أنفسهم صادقين من قلوبهم { يضاعف لهم } الحسنات والثواب بكل واحد عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا يحصى { ولهم أجر كريم } يعني ثوابا حسنا في الجنة ١٩ثم قال عز وجل { والذين آمنوا باللّه ورسله } يعني صدقوا بتوحيد اللّه وصدقوا بجميع الرسل { أولئك هم الصديقون } والصديق اسم للمبالغة في الفعل يقال رجل صديق كثير الصدق وقال ابن عباس فمن آمن باللّه ورسله فهو من الصديقين ثم قال { والشهداء عند ربهم } قال مقاتل هذا استئناف فقال { والشهداء } يعني من استشهد عند ربهم يعني يطلب شهادته على الأمم { لهم أجرهم } يعني ثوابهم { ونورهم } ويقال هذا بناء على الأول يعني { أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ويقال معناه { أولئك هم الصديقون } { وأولئك هم الشهداء } عند ربهم ويكون لهم أجرهم ونورهم قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد ثم وصف حال الكفار فقال عز وجل { والذين كفروا } يعني جحدوا بوحدانية اللّه تعالى { وكذبوا بآياتنا } يعني جحدوا بالقرآن { أولئك أصحاب الجحيم } ٢٠ثم قال عز وجل { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } يعني باطل { ولهو } يعني فرح يلهون فيها { وزينة } يعني زينة الدنيا { وتفاخر بينكم } في الحسب { وتكاثر في الأموال والأولاد } تفتخرون بذلك وروى إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قام في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها ) ثم ضرب للدنيا مثلا آخر فقال { كمثل غيث } يعني كمثل مطر نزل من السماء فنبت به الزرع والنبات { أعجب الكفار نباته } يعني فرح الزارع بنباته ويقال { أعجب الكفار } يعني الكفار باللّه لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين ويقال { الكفار } كناية عن الزراع لأن الكفر في اللغة هو التغطية ولهذا سمي الكافر كافرا لأنه يغطي الحق بالباطل فسمي الزراع كفارا لأنهم يغطون الحب تحت الأرض وليس ذلك الكفر الذي هو ضد الإيمان والطريقة الأولى أحسن إن أراد به الكفار لأن ميلهم إلى الدنيا أشد { ثم يهيج } يعني ييبس فيتغير { فتراه مصفرا } بعد خضرته { ثم يكون حطاما } يعني يابسا ويقال { حطاما } يعني هالكا فشبه الدنيا بذلك لأنه لا يبقى ما فيها كما لا يبقى هذا النبت و { في الآخرة عذاب شديد } لمن افتخر بالدنيا واختارها { ومغفرة من اللّه ورضوان } لمن ترك الدنيا واختار الآخرة على الدنيا ويقال عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من اللّه لأوليائه ثم قال { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } يعني كالمتاع الذي يتخذ من الزجاج والخزف إنه يسرع إلى الفناء ولا يبقى إلا العمل الصالح ٢١ثم قال عز وجل { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } يعني سارعوا بالأعمال الصالحة ويقال بادروا بالتوبة وقال مكحول سابقوا إلى تكبيرة الافتتاح { وجنة } يعني إلى جنة { عرضها كعرض السماء والأرض } يعني لو ألصق بعضها إلى بعض يعني سبع سموات وسبع أرضين ومدت مد الأديم لكان عرض الجنة أوسع من ذلك وإنما بين عرضها ولم يبين طولها ويقال لو جعلت السموات والأرض خردلا لكانت الجنة بعدد ذلك وهذا مثل يعني إنها أوسع شيء رأيتموه { أعدت للذين آمنوا باللّه ورسله } يعني خلقت وهيئت للذين صدقوا بوحدانية اللّه تعالى وصدقوا برسله { ذلك فضل اللّه } يعني ذلك الثواب فضل اللّه على العباد { يؤتيه من يشاء } يعني يعطيه من يشاء من عباده وهم المؤمنون { واللّه ذو الفضل العظيم } يعني ذو العطاء العظيم وذو المن الجسيم ٢٢قوله تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض } يعني من قحط المطر وغلاء السعر وقلة النبات ونقص الثمار { ولا في أنفسكم } من البلايا والأمراض والأوجاع { إلا في كتاب } يعني إلا في اللوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } يعني من قبل أن نخلق تلك النسمة وذكر الربيع بن أبي صالح الأسلمي قال دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج وأراد قتله فبكى رجل من قومه فقال سعيد ما يبكيك قال لما أصابك قال فلا تبك قد كان في علم اللّه تعالى أن يكون هذا ألم تسمع قول اللّه تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } يعني من قبل أن نخلقها ويقال قبل أن نخلق تلك النفس { إن ذلك على اللّه يسير } يعني هينا ٢٣{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم } يعني لكيلا تحزنوا { على ما فاتكم } من الرزق والعافية إذا علمتم أنها مكتوبة عليكم قبل خلقكم { ولا تفرحوا بما آتاكم } يعني بما أعطاكم في الدنيا ولا تفتخروا بذلك { واللّه لا يحب كل مختال فخور } يعني متكبرا فخورا بنعم اللّه تعالى ولا يشكروه قرأ أبو عمرو { بما أتاكم } بغير مد والباقون بالمد فمن قرأ بغير مد فمعناه لكيلا تفرحوا بما جاءكم من حطام الدنيا فإنه إلى نفاد ومن قرأ بالمد يعني بما أعطاكم وروى عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن من جعل الفرح شكرا والمصيبة صبرا ٢٤ثم قال عز وجل { الذين يبخلون } يعني لا يحب الذي يبخلون يعني يمسكون أموالهم ولا يخرجون منها حق اللّه تعالى { ويأمرون الناس بالبخل } ويقال الذين يبخلون يعني يكتمون صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم { ويأمرون الناس بالبخل } يعني يكتمون صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ونعته { ومن يتول } يعني يعرض عن النفقة ويقال يعرض عن الإيمان { فإن اللّه هو الغني الحميد } يعني غني عن نفقتهم وعن إيمانهم { الحميد } في فعاله قرأ حمزة والكسائي { ويأمرون الناس بالبخل } بنصب الخاء والباء وقرأ الباقون بضم الباء وإسكان الخاء ومعناهما واحد قرأ نافع وابن عامر { فإن اللّه الغني الحميد } بحذف { هو } هكذا في مصاحف أهل الشام والمدينة ومعناه إن اللّه الغني الحميد الذي لا غني مثله والباقون { فإن اللّه هو الغني الحميد } بإثبات هو وهو للفرد ويقال للصلة ٢٥ثم قال { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } يعني بالأمر والنهي والحلال والحرام { وأنزلنا معهم الكتاب } يعني أنزلنا عليهم الكتاب ليعلموا أمتهم { والميزان } يعني العدل ويقال هو الميزان بعينه أنزل على عهد نوح عليه السلام { ليقوم الناس بالقسط } يعني لكي يقوم الناس { بالقسط } يعني بالعدل { وأنزلنا الحديد } يعني وجعلنا الحديد { فيه بأس شديد } يعني فيه قوة شديدة في الحرب وعن عكرمة أنه قال { وأنزلنا الحديد } يعني أنزل اللّه تعالى الحديد لآدم عليه السلام العلاة والمطرقة والكلبتين { فيه بأس شديد } ثم قال عز وجل { ومنافع للناس } يعني في الحديد { منافع للناس } مثل السكين والفأس والإبرة يعني من معايشهم { وليعلم اللّه من ينصره } يعني ولكن يعلم اللّه من ينصره على عدوه { ورسله بالغيب } بقتل أعدائه كقوله { إن تنصروا اللّه ينصركم } ويقال لكي يرى اللّه من استعمل هذا السلاح في طاعة اللّه تعالى وطاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { بالغيب } يعني يصدق بالقلب { إن اللّه قوي } في أمره { عزيز } في ملكه ٢٦ثم قال عز وجل { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم } يعني بعثناهما إلى قومهما { وجعلنا في ذريتهما } يعني في نسليهما { النبوة والكتاب } وكان فيهم الأنبياء مثل موسى وهارون وداود ويونس وسليمان وصالح ونوح وإبراهيم عليهم السلام { فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } يعني كثير من ذريتهم تاركون للكتاب قوله عز وجل { ثم قفينا على آثارهم } يعني وصلنا وأتبعنا على آثارهم { برسلنا } يعني واحدا بعد واحد { وقفينا بعيسى ابن مريم } يعني وأرسلنا على آثارهم بعيسى ابن مريم { وآتيناه الإنجيل } يعني أعطينا عيسى الإنجيل { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } يعني الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوا دينه { رأفة ورحمة } يعني المودة والمتوادين بعضهم بعضا ويقال الرأفة على أهل دينهم يرحم بعضهم بعضا وهم الذين كانوا على دين عيسى لم يتهودوا ولم يتنصروا ثم استأنف الكلام فقال { ورهبانية ابتدعوها } يعني ابتدعوا رهبانية { ما كتبناها عليهم } يعني لم تكتب عليهم الرهبانية { إلا ابتغاء رضوان اللّه } وذلك أنه لما كثر المشركون خرج المسلمون منهم فهربوا واعتزلوا في الغيران وابتغوا الصوامع فطال عليهم الأمد ورجع بعضهم عن دين عيسى ابن مريم وابتدعوا النصرانية قال اللّه تعالى { ابتدعوها } يعني الرهبانية والخروج إلى الصوامع يعني باعدوا التبتل للعبادة { ما كتبناها عليهم } يعني ما أوجبنا عليهم ولم نأمرهم إلا ابتغاء رضوان اللّه يعني أمرناهم بما يرضي اللّه تعالى لا غير ذلك ويقال { ابتدعوها } لطلب رضى اللّه تعالى { فما رعوها حق رعايتها } يعني لم يحافظوا على ما أوجبوا على أنفسهم ويقال فما أطاعوا اللّه حين تهودوا وتنصروا قال اللّه تعالى { فآتينا الذين آمنوا منهم } يعني أعطينا الذين ثبتوا على ما أوجبوا على أنفسهم وثبتوا على الإيمان { أجرهم } في الآخرة { وكثير منهم فاسقون } يعني عاصين وهم الذين تهودوا وفي هذه الآية دليل وتنبيه للمؤمنين أن من أوجب على نفسه شيئا لم يكن واجبا عليه أن يتبعه ولا يتركه فيستحق اسم الفسق وروي عن بعض الصحابة أنه قال عليكم بإتمام هذه التراويح لأنها لم تكن واجبة عليكم فقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتموها صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية { وكثير منهم فاسقون } ٢٨ثم قال عز وجل { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه } يعني أطيعوه فيما يأمركم به وفيما ينهاكم عنه { وآمنوا برسوله } محمد صلى اللّه عليه وسلم يعني اثبتوا على الإسلام بعد نبيكم محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقال يا أيها الذين آمنوا بعيسى ابن مريم آمنوا باللّه ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم { يؤتكم كفلين من رحمته } يعني أجرين من فضله ويقال لما نزلت في أهل الكتاب { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } [ القصص ٥٤ ] حزن المسلمون فنزل فيهم { يؤتكم كفلين من رحمته } وأصل الكفل النصيب يعني نصيبين من رحمته أحدهما بإيمانه بنبيه قبل خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم والآخر الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ثم قال عز وجل { ويجعل لكم نورا تمشون به } يعني يجعل لكم سبيلا واضحا تهتدون به { ويغفر لكم } يعني يغفر لكم ذنوبكم { واللّه غفور رحيم } يعني يغفر الذنوب للمؤمنين { رحيم } بهم ٢٩{ لئلا يعلم أهل الكتاب } يعني لكيلا يعلم و ( لا ) لا مؤكدة في الكلام ومعناه لأن يعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل اللّه ورحمته يعني مؤمني أهل الكتاب يعلمون أنهم لا يقدرون من فضل اللّه إلا برحمته { وأن الفضل بيد اللّه } يعني الثواب من اللّه تعالى { يؤتيه من يشاء } يعني من يعطيه من يشاء من كان أهلا لذلك من العبادة { واللّه ذو الفضل العظيم } يعني هو المعطي وهو المانع وقد ذكرناه واللّه أعلم بالصواب |
﴿ ٠ ﴾