سورة الحشرمدنية وهي عشرون وأربع آيات ١قول اللّه تبارك وتعالى { سبح للّه ما في السموات } يعني صلى للّه ويقال خضع للّه ويقال هو التسبيح بعينه { ما في السموات } من الملائكة { وما في الأرض } يعني من الخلق { وهو العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره ٢ثم قال عز وجل { هو الذي أخرج الذين كفروا } يعني يهود بني النضير { من أهل الكتاب من ديارهم } وكان بدء أمر بني النضير أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث أحد البعوث مرثد بن أبي مرثد الغنوي وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع فنزلوا عند شجرة فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم فسقطت نويات بالأرض وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار فكمنوا بالجبل فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم فرأت النويات التي سقطت في الأرض فأنكرت صغرهن فعرفت أنها تمر المدينة فصاحت في قومها وقالت أتيتم أتيتم فجاؤوا يطلبونهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل فقالوا لهم انزلوا ولكم الأمان فقالوا لا نعطي بأيدينا فقاتلوهم فقتلوا كلهم إلا عبد اللّه بن طارق فجرحوه وحسبوا أنه قد مات فتركوه فنجا من بينهم وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز ويقاتلهم حتى فنيت نبله ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف ثم قال اللّه م إني قد حميت دينك أول النهار فاحم جسدي في آخره وكانوا يجردون من قتل من أصحابه فلما قتلوا عاصما حمته الدبر وهي الذنابير حتى جاء السيل من الليل فذهب به وأسروا خبيب بن عدي ورجلا آخر اسمه زيد بن الديشة فأما خبيب بن عدي فذهبوا به إلى مكة فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب جيء به في الشهر الحرام فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه فقال لهم اتركوني أصلي ركعتين فصلاهما ثم قال لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت لازددت فقال اللّه م ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبلغ أنت عني السلام ثم التفت إلى وجوههم وقال اللّه م أحصهم عددا وأهلكهم بددا يعني متفرقين ولا تبق منهم أحدا ثم صلبوه وأما صاحبه الذي أسر معه فاشتراه صفوان بن أمية فقتله بابنه وأما البعث الثاني فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق وارتث هو من وسط القتلى فنجا وأما البعث الثالث فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ابعث إلي رجالا يعلموننا القرآن ويفقهوننا في الدين فهم في ذمتي وجواري فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار فساروا نحو بئر معونة فلما ساروا ليلة من المدينة بلغهم أن عمرو بن مالك مات فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستمده فأمده صلى اللّه عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص ورجل آخر فساروا حتى بلغوا بئر معونة وكتبوا إلى ربيعة بن مالك نحن في ذمتك وذمة أبيك أفنقدم إليك أم لا فقال أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا فخرج إليهم عامر بن الطفيل واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري والحارث بن الصمة وسعد بن أبي وقاص كانوا تخلفوا فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير فرمى عليهم بعلقة دم فعرفوا أن الطير قد شرب الدم فقال بعضهم لبعض قد قتل أصحابنا فصعدوا أعلى الجبل فنظروا فإذا القوم صرعى وقد اعتكفت عليهم الطير فقال الحارث بن الصمة أنا لا انتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي فخرج إليهم فقاتل القوم فقتل منهم رجلين ثم أخذوه فقالوا له ما تحب أن نصنع بك فقال لهم ابلغوا بي مصارع قومي فلما بلغ مصارع أصحابه أرسلوه فقاتلهم فقتل منهم اثنين ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرج رجلان من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستأمنين قد كساهما وحملهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال من أنتما قال كلابيان فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وأخذ سلبهما ودخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبره الخبر فقال له ( بئس ما صنعت حين قتلتهما ) فلما جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة صلى الصبح في ذلك اليوم وقال في الركعة الثانية ( اللّه م اشدد وطأتك على مضر اللّه م اجعلها عليهم سنين كسني يوسف اللّه م العن رعلان وذكوان وبني لحيان اللّه م غفارا غفر اللّه لها وسالم سالمها اللّه وعصية عصت اللّه ورسوله ) فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دية الكلابيين وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه فاستعان النبي صلى اللّه عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال ( أعينوني في عقل أصابني فإن هؤلاء حلفائي ) فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعلي إلى بني النضير فقال حيي بن أخطب اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا فجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم في صفه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال حيي بن أخطب لأصحابه إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن فاقتلوه لا تروا شرا أبدا فنزل جبريل عليه السلام وأخبره فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم كأنه يريد حاجة حتى دخل المدينة فجاء إنسان فسألوه عنه فقال رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل أول البيوت فقاموا من هناك فقال حيي بن أخطب عجل أبو القاسم فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأل فلما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة جمع الناس وجاء بالجيش واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف فقال بعضهم قد كان قتل قبل ذلك وقال بعضهم قتل في هذا الوقت فبعث محمد بن سلمة فخرج محمد بن سلمة وأبو نائلة ورجلان آخران فأتوه بالليل وقالوا أتيناك نستقرض منك شيئا من التمر فخرج إليهم فقتلوه ورجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فخرج إليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير فقال لهم اخرجوا منها فإذا جاء وقت الجذاذ فجذوا ثماركم فقالوا لا نفعل فحاصرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم نحن نعطيك الذي سألتنا قال ( لا ولكن اخرجوا منها ولكم ما حملت الإبل إلا الحلقة ) يعني السلاح قالوا لا فحاصرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس عشرة ليلة وأمر بقطع نخيلهم ونقب بيوتهم فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم فكلما نقب المسلمون بيتا فروا إلى بيت آخر ينتظرون المنافقين وقد المنافقون قالوا لهم لئن أخرجتم لنخرجن معكم وإن قوتلتم لننصرنكم فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم قال بعضهم لبعض ليس لنا مقام بعد النخيل فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج فأجلاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المدينة ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة فأخذ أموالهم فقسمها بين المهاجرين ولم يعطها أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة فنزلت هذه الآية { وهو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم } يعني بني النضير { لأول الحشر } يعني الإجلاء من المدينة وقال عكرمة من شك بأن الحشر هو الشام فليقرأ هذه الآية { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } إلى قوله { لأول الحشر } فلما قال لهم اخرجوا من المدينة قالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر فقال إنهم أول من يحشروا من ديارهم ثم قال { ما ظننتم أن يخرجوا } يعني ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم وذلك إن بني النضير كان لهم عز ومنعة وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتهم لا يخرجون من ديارهم { وظنوا أنهم } يعني وحسب بنو النضير أنهم { مانعتهم حصونهم من اللّه } يعني أن حصونهم تمنعهم من عذاب اللّه { فأتاهم اللّه } يعني أتاهم أمر اللّه ويقال { فأتاهم اللّه } بما وعد لهم { من حيث لم يحتسبوا } يعني لم يظنوا أنه ينزل بهم وهو قتل كعب بن الأشرف ويقال خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم مع الجيش إليهم { وقذف في قلوبهم الرعب } يعني جعل في قلوبهم الخوف { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب وكان المسلمون ينقبون بيوتهم ويدخلونها وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها ويقال كان اليهود ينقبون بيوتهم ليرموا بها على المسلمين وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم ليتمكنوا من الحرب ويقال كان اليهود أنفقوا في بيوتهم فلما علموا أنهم يخرجون منها جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المؤمنون وكان المسلمون يخربونها ليدخلوا عليهم قرأ أبو عمرو { يخربون } بالتشديد والباقون بالتخفيف قال بعضهم هما لغتان خرب وأخرب وروي عن الفراء أنه قال من قرأ بالتشديد فمعناه يهدمون ومن قرأ بالتخفيف فمعناه يعطلون ثم قال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يعني من له البصاير في أمر اللّه ٣قوله عز وجل { ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء } يعني لولا أن قضى اللّه عليهم الإخراج من جزيرة العرب إلى الشام { لعذبهم في الدنيا } يعني لعذبهم بالقتل والسبي
٤{ شاقوا اللّه ورسوله } يعني خالفوا اللّه ورسوله في الدين ويقال عادوا اللّه ورسوله { ومن يشاق اللّه } وأصله من يشاقق إلا أن إحدى القافين أدغمت في الأخرى وشددت يعني من يخالف اللّه ورسوله في الدين { فإن اللّه شديد العقاب } يعني إذا عاقب فعقوبته شديدة ٥قوله عز وجل { ما قطعتم من لينة } يعني من نخلة { أو تركتموها قائمة على أصولها } فلم تقطعوها { فبإذن اللّه } يعني بأمر اللّه وقال عكرمة لما دخل المسلمون على بني النضير أخذوا يقطعون النخيل فنهاهم بعضهم وتأولوا قوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } [ البقرة ٢٠٥ ] وقال بعضهم نقطع وتأولوا قوله تعالى { ولا ينالون من عدو نيلا } [ التوبة ١٢٠ ] فأنزل اللّه تعالى { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن اللّه } وقال الزهري في قوله { ما قطعتم من لينة } قال اللينة ألوان النخل كلها إلا العجوة وقال الضحاك اللينة النخلة الكرمة والشجرة الطيبة المثمرة وقال مجاهد اللينة النخلة المثمرة وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل وقالوا إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعها وبتحليل من قطعها وإنما قطعها وتركها بإذن اللّه تعالى وعن ابن عباس أنه قال أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقطع النخل فشق ذلك على بني النضير مشقة شديدة فقالوا للمؤمنين تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون في الأرض فدعوها قائمة فإنما هي لمن غلب فنزل { ما قطعتم من لينة } واللينة هي النخلة كلها ما خلا العجوة { أو تركتموها قائمة على أصولها } وهي العجوة { فبإذن اللّه } يعني الترك والقطع بإذن اللّه وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه أمر عبد اللّه بن سلام وأبا ليلى المازني بقطع النخل فكان أبو ليلى يقطع العجوة وكان عبد اللّه بن سلام يقطع اللون فقيل لأبي ليلى لم تقطع العجوة قال لأن فيه كبت العدو وقيل لابن سلام لم تقطع اللون قال لأني أريد أن تبقى العجوة للمسلمين فأنزل اللّه تعالى رضا بما فعل الفريقان فقال اللّه { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن اللّه } ثم قال عز وجل { وليخزي الفاسقين } يعني وليذل العاصين الناقضين العهد ٦ثم قال عز وجل { وما أفاء اللّه على رسوله } يعني ما أعطى اللّه رسوله من بني النضير وذلك أنهم طلبوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يقسم أموالهم بين جميع المسلمين كما قسم أموال بدر فلم يفعل النبي صلى اللّه عليه وسلم وقسم بين فقراء المهاجرين فنزل { وما أفاء اللّه على رسوله } { منهم } يعني ما أعطى اللّه رسوله من أموال بني النضير { فما أوجفتم } يعني ما أجريتم { عليه من خيل ولا ركاب } يعني لا على خيل ولا على إبل أتيتم بل إنكم مشيتم مشيا حتى فتحتموها ويقال أوجف الفرس والبعير إذا أسرعا يعني لم يكن عن غزوة أوجفتم خيلا ولا ركابا { ولكن اللّه يسلط رسله } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم { على من يشاء } من بني النضير { واللّه على كل شيء قدير } من النصرة والغنيمة ثم بين لمن يعطي تلك الغنائم ٧فقال { ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى } يعني من بني النضير وفدك ويقال بني قريظة والنضير وخيبر { فللّه وللرسول } يعني للّه أن يأمركم فيه بما أحب وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري قال كانت بنو النضير للنبي صلى اللّه عليه وسلم خالصا لم يفتحوها عنوة ولكن افتتحوها على صلح فقسمها بين المهاجرين ثم قال { ولذي القربى } يعني قرابة الرسول صلى اللّه عليه وسلم { واليتامى والمساكين وابن السبيل } وروى مالك بن أنس عن عمر قال كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاث صفايا بني النضير وخيبر وفدك فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت لابن السبيل وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء فقسم جزأين بين المسلمين وحبس جزءا للنفقة فما فضل عن أهله رده إلى فقراء المسلمين ثم قال { كي لا يكون } المال { دولة } قرأ أبو جعفر المدني { دولة } بالضم وجعله اسم يكون وقراءة العامة بالنصب يعني لكي لا يكون دولة وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي { دولة } بنصب الدال والباقون بالضم { دولة } فمن قرأ بالضم فهو اسم المال الذي يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لهذا وأما النصب فهو النقل والانتقال من حال إلى حال { بين الأغنياء منكم } يعني لكيلا يغلب الأغنياء على الفقراء ليقسموه بينهم ثم قال { وما آتاكم الرسول فخذوه } يعني ما أعطاكم النبي صلى اللّه عليه وسلم من الغنيمة فخذوه ويقال وما أمركم الرسول فاعملوا به { وما نهاكم عنه فانتهوا } يعني فامتنعوا عنه { واتقوا اللّه إن اللّه شديد العقاب } لمن عصاه ٨ثم ذكر أن الفيء للمهاجرين يعني الغنائم { للفقراء المهاجرين } { الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } يعني تركوا أموالهم وديارهم في بلادهم وهاجروا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقال هذا ابتداء ومعناه عليكم بالفقراء المهاجرين يعني اعرفوا حقهم وصلوهم { الذين أخرجوا من ديارهم } يعني أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم { أولئك هم الصادقون } يعني الصادقين في إيمانهم فطابت أنفس الأنصار في ذلك فقالوا هذا كله لهم وأموالنا أيضا لهم فأثنى اللّه تعالى على الأنصار ٩فقال عز وجل { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } يعني استوطنوا الدار يعني دار المدينة من قبل هجرتهم يعني نزلوا دار الهجرة في المدينة { والإيمان } يعني تبوءوا الإيمان أي كانوا مؤمنين من قبل أن هاجر إليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه قال اللّه تعالى { يحبون من هاجر إليهم } يعني يحبون من يقدم إليهم من المؤمنين { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } يعني لا يكون في قلوبهم حسدا مما أعطوا يعني المهاجرين ويقال { حاجة } يعني حزازة وهو الحزن ويقال { ولا يجدون في صدورهم } بخلا وكراهة بما أعطوا { ويؤثرون على أنفسهم } في القسمة من الغنيمة يعني تركوها للمهاجرين { ولو كان بهم خصاصة } يعني حاجة وروى وكيع عن فضيل بن عمران عن رجل عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي إلى الضيف ما عندك فنزل { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ويقال إن رجلا من الأنصار أهدي له برأس مشوي فقال لعل جاري أحوج مني فبعث إليه ثم إن جاره بعثه إلى جار آخر فطاف سبعة أبيات ثم عاد إلى الأول فنزل { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } قال اللّه تعالى { ومن يوق شح نفسه } يعني ومن يمنع بخل نفسه { فأولئك هم المفلحون } يعني الناجين وروى وكيع بإسناده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( بريء من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف وأعطى في النائبة ) وقد أثنى اللّه تعالى على المهاجرين وعلى الأنصار ثم أثنى على الذين من بعدهم على طريقتهم ١٠فقال { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين ويقال يعني الذين هاجروا من بعد الأولين { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } يعني أظهروا الإيمان قبلنا يعني المهاجرين والأنصار { ولا تجعل في قلوبنا غلا } يعني غشا وحسدا وعداوة { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } يعني رحيما بعبادك المؤمنين وفي الآية دليل أن من ترحم على الصحابة واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ في المسلمين وله أجر مثل أجر الصحابة ومن شتمهم أو لم يترحم عليهم أو كان في قلبه غل لهم ليس له حظ في المسلمين لأنه ذكر للمهاجرين فيه حظ ثم ذكر الأنصار ثم ذكر الذين جاؤوا من بعدهم وقد وصفهم اللّه بصفة الأولين إذ دعا لهم وفي الآية دليل أن الواجب على المؤمنين أن يستغفروا لإخوانهم الماضين وفيه وينبغي للمؤمنين أن يستغفروا لآبائهم ولمعلميهم الذين علموهم أمور الدين ١١ثم نزل في شأن المنافقين فقال { ألم تر إلى الذين نافقوا } يعني منافقي المدينة { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير ١٢{ وإن قوتلتم لننصرنكم } يعني لنعينكم { واللّه يشهد إنهم لكاذبون } في مقالتهم وإنما قالوا ذلك بلسانهم في غير حقيقة في قلوبهم فقال اللّه تعالى { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } يعني لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم { ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } يعني لا يمنعونهم على ذلك { ولئن نصروهم ليولن الأدبار } يعني ولو أعانوهم لا يثبتون على ذلك ولن ينصروهم { ليولن الأدبار } يعني رجعوا منهزمين { ثم لا ينصرون } يعني لا يمنعون من الهزيمة ١٣ثم قال عز وجل { لأنتم أشد رهبة } يعني أنتم يا معشر المسلمين { أشد رهبة في صدورهم من اللّه } يعني خوفهم منكم أشد من عذاب اللّه في الآخرة { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } يعني لا يعقلون أمر اللّه تعالى ثم أخبر عن ضعف اليهود في الحرب ١٤فقال عز وجل { لا يقاتلونكم جميعا } يعني لا يخرجون إلى الصحراء لقتالكم { إلا في قرى محصنة } يعني حصينة { أو من رواء جدر } يعني يقاتلونكم من وراء الجدار فحذف الألف وهو جمع الجدار قرأ إبن كثير وأبو عمرو { من وراء جدار } بالألف والباقون { جدر } بحذف الألف وهو جماعة فمن قرأ { جدار } فهو واحد يريد به الجمع ثم قال { بأسهم بينهم شديد } يعني قتالهم فيما بينهم إذا اقتتلوا شديد وأما مع المؤمنين فلا ثم قال { تحسبهم جميعا } يعني تظن أن المنافقين واليهود على أمر واحد وكلمتهم واحدة { وقلوبهم شتى } يعني قلوب اليهود مختلفة ولم يكونوا على كلمة واحدة { ذلك بأنهم } يعني ذلك الاختلاف بأنهم { قوم لا يعقلون } يعني لا يعقلون أمر اللّه تعالى ١٥ثم ضرب لهم مثلا فقال عز وجل { كمثل الذين من قبلهم } يعني مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم يعني أهل بدر { قريبا } يعني كان قتال بدر قبل ذلك بقريب وهو مقدار سنتين أو نحو ذلك { ذاقوا وبال أمرهم } يعني عقوبة ذنبهم { ولهم عذاب أليم } يعني عذابا شديدا في الآخرة ثم ضرب لهم مثلا آخر وهو مثل المنافقين مع اليهود حين خذلوهم ولم يعينوهم ١٦
وروى عدي بن ثابت عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل راهب عبد اللّه تعالى زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين فيعودهم ويداويهم فيبرؤون على يديه وأنه أتى بامرأة قد جنت وكان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها لم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى قتلها ودفنها ثم ذهب الشيطان إلى إخوتها في صورة رجل حتى لقي أحدا من أخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا فبلغ ذلك إلى ملكهم فسار الملك مع الناس فأتوه فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب فلما رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل لك أن تطيعني فيما أقول لك وأخلصك مما أنت فيه فقال نعم قال اسجد لي سجدة واحدة فسجد له فذلك قوله { كمثل الشيطان إذا قال للإنسان اكفر } يعني اسجد { فلما كفر } يعني سجد { قال إني بريء منك إني أخاف اللّه رب العالمين } قال ذلك على وجه الاستهزاء كذلك المنافقون خذلوا اليهود كما خذل الشطيان الراهب ١٧{ فكان عاقبتهما } يعني عاقبة الشيطان والراهب { أنهما في النار خالدين فيها } يعني مقيمين فيها وكان ابن مسعود يقرأ { خالدان فيها } وقراءة العامة { خالدين فيها } بالنصب وإنما هو نصب على الحال { وذلك جزاء الظالمين } يعني الخلود في النار جزاء المنافقين والكافرين ١٨قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه } يعني اخشوا اللّه ويقال أطيعوا اللّه { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } يعني ما عملت لغد وأسلفت لغد أي ليوم القيامة ومعناه تصدقوا واعملوا بالطاعة لتجدوا ثوابه يوم القيامة ثم قال { واتقوا اللّه إن اللّه خبير بما تعملون } من الخير والشر ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره ونهيه كاليهود ويوحدوه في السر والعلانية ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين فقال ١٩{ ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه } يعني تركوا أمر اللّه تعالى { فأنساهم أنفسهم } يعني خذلهم اللّه تعالى حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرا لها { أولئك هم الفاسقون } يعني العاصين ويقال { ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه } أي تركوا ذكر اللّه وما أمرهم به { فأنساهم أنفسهم } يعني فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق ويقال { ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه } يعني تركوا عهد اللّه ونبذوا كتابه وراء ظهورهم { فأنساهم أنفسهم } يعني أنساهم حالهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرا { أولئك هم الفاسقون } يعني الناقضين للعهد ٢٠ثم ذكر مستقر الفريقين فقال { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } يعني لا يستوي في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة لأن أصحاب الجنة في الدنيا موفقون منعمون معصومون وفي الآخرة لهم الثواب والكرامة وأصحاب النار مخذولون في الدنيا معذبون في الآخرة ويقال { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } في الآخرة لان أصحاب الجنة يتقلبون في النعيم وأصحاب النار يتقلبون في النار والهوان ثم قال { أصحاب الجنة هم الفائزون } يعني المستعدون الناجون { وأصحاب النار } الهالكون ثم وعظهم ليعتبروا بالقرآن ٢١فقال عز وجل { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } يعني القرآن الذي فيه وعده ووعيده لو أنزل على جبل { لرأيته خاشعا } يعني خاضعا { متصدعا من خشية اللّه } يعني خاضعا متصدعا ويقال ويرق من خوف عذاب اللّه فكيف لا يرق هذا الإنسان ويخشع ويقال هذا على وجه المثل يعني لو كان الجبل له تميز لتصدع من الخشية من خشية اللّه ثم قال { وتلك الأمثال نضربها للناس } أي نبينها للناس { لعلهم يتفكرون } أي لكي يتعظوا في أمثال اللّه يعني فيعتبرون ولا يعصون اللّه تعالى ٢٢ثم قال { هو اللّه الذي لا إله إلا هو } يعني لا خالق ولا رازق غيره { عالم الغيب والشهادة } يعني عالم السر والعلانية ويقال الغيب ما غاب عن العباد والشهادة ما شاهدوه وعاينوه ويقال { عالم } بما كان وبما يكون ويقال { عالم } بأمر الآخرة وبأمر الدنيا ثم قال { هو الرحمن الرحيم } يعني العاطف على جميع الخلق بالرزق و { الرحيم } بالمؤمنين ٢٣ثم قال تعالى { هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك } يعني مالك كل شيء وهو الملك الدائم الذي لا يزول ملكه أبدا ثم قال { القدوس } يعني الطاهر عما وصفه الكفار ولهذا سمي بيت المقدس يعني المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب ثم قال { السلام } يعني يسلم عباده من ظلمه ويقال سمى نفسه سلاما لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء ثم قال { المؤمن } يعني يؤمن أولياؤه من عذابه ويقال { المؤمن } أي يصدق في وعده ووعيده ويقال { المؤمن } يعني قابل إيمان المؤمنين ثم قال { المهيمن } يعني الشهيد على عباده بأعمالهم ويقال { المهيمن } يعني المويمن فقلبت الواو هاء وهو بمعنى الأمين ثم قال { العزيز } يعني الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال { العزيز } الذي لا يوجد مثله ثم قال { الجبار } يعني القاهر لخلقه على ما أراده ويقال الغالب على خلقه ومعناهما واحد ثم قال { المتكبر } يعني المتعظم على كل شيء ويقال { المتكبر } الذي تكبر عن ظلم عباده ثم قال { سبحان اللّه } يعني تنزيها للّه تعالى { عما يشركون } يعني عما وصفه الكفار من الشريك والولد ويقال { سبحان اللّه } بمعنى التعجب يعني عجبا عما وصفه الكفار من الشريك ٢٤قوله تعالى ( هو اللّه الخالق ) يعني الخالق الخلق في أرحام النساء ويقال خالق النطف في أصلاب الآباء { المصور } للولد في أرحام الأمهات ويقال { الخالق } يعني المقدر { البارئ } الذي يجعل الروح في الجسد ويقال { البارئ } يعني خالق الأشياء ابتداء ثم قال { له الأسماء الحسنى } يعني الصفات العلى ويقال { له الأسماء الحسنى } وهي تسعة وتسعون اسما وروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال { إن للّه تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة } ثم قال { يسبح له ما في السموات والأرض } يعني يخضع له ما في السموات والأرض يعني جميع الأشياء كقوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء ٤٤ ] ثم قال { وهو العزيز } يعني العزيز في ملكه { الحكيم } في أمره فإن قال قائل قد قال اللّه تعالى { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم ٣٢ ] فما الحكمة في أنه نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه قيل له عن هذا السؤال جوابان أحدهما أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص وإن كان ناقصا لا يجوز له أن يمدح نفسه واللّه سبحانه وتعالى تام الملك والقدرة فيستوجب به المدح فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه وجواب آخر أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك الخصال أفضال من اللّه تعالى ولم يكن ذلك بقدرة العبد فلهذا لا يجوز له أن يمدح نفسه واللّه سبحانه وتعالى إنما قدرته وملكه له ليس لغيره فيستوجب فيه المدح ومثال هذا أن اللّه تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف وقد من اللّه تعالى على عباده للمعنى الذي ذكرناه في المدح واللّه أعلم و صلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم |
﴿ ٠ ﴾