سورة الطلاقكلها مدنية وهي اثنتا عشرة آية ١قول اللّه تبارك وتعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } فالخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به هو وأمته بدليل قوله تعالى { إذا طلقتم النساء } فذكر بلفظ الجماعة فكأنه قال يا أيها النبي ومن آمن بك { إذا طلقتم النساء } يعني أنت وأمتك ويقال معناه يا أيها النبي قل لأمتك { إذا طلقتم النساء } يعني إذا أردتم أن تطلقوا النساء وقال الكلبي نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم حين غضب على حفصة بنت عمر رضي اللّه عنها فقال { فطلقوهن لعدتهن } طاهرات من غير جماع وروى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود قال { فطلقوهن لعدتهن } طاهرات من غير جماع روى سفيان عن عمرو بن دينار أن ابن عباس قرأ { فطلقوهن لقبل عدتهن } وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال لو أن الناس أصابوا حد الطلاق لما ندم رجل على امرأته يطلقها وهي طاهرة لم يجامعها فإن بدا أن يمسكها أمسكها وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى سبيلها وروى عكرمة عن ابن عباس قال الطلاق على أربعة أوجه وجهان حلال ووجهان حرام فأما الحلال بأن يطلقها من غير جماع أو يطلقها حاملا وأما الحرام بأن يطلقها حائضا أو يطلقها حين جامعها وقال الحسن { فطلقوهن لعدتهن } قال إذا طهرن من الحيض من غير جماع وقال الزهري وقتادة يطلقها لقبيل عدتها وروى ابن طاوس عن أبيه قال حد الطلاق أن يطلقها قبل عدتها قلت وما قبل عدتها قال طاهرة من غير جماع ثم قال { وأحصوا العدة } يعني واحفظوا العدة فأمر الرجل بحفظ العدة لأن في النساء غفلة فربما لا تحفظ عدتها ثم قال { واتقوا اللّه ربكم } يعني واخشوا اللّه ربكم فأطيعوه فيما أمركم ولا تطلقوا النساء في غير طهورهن فلو طلقها في الحيض فقد أساء والطلاق واقع عليها في قول عامة الفقهاء ثم قال { لا تخرجوهن من بيوتهن } يعني اتقوا اللّه في إخراجهن من بيوتهن لأن سكناها على الزوج ما لم تنقض عدتها ثم قال { ولا يخرجن } يعني ليس لهن أن يخرجن من البيوت ثم قال { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } يعني إلا أن تزني فتخرج لأجل إقامة الحد عليها وهو قول ابن عباس وقال الشعبي وقتادة خروجها في العدة فاحشة وإخراج الزوج لها في العدة معصية وهكذا روي عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وقال ابن عباس الفاحشة أن تبذو على زوجها فتخرج ثم قال { وتلك حدود اللّه } يعني الطلاق بالسنة وإحصاء العدة من أحكام اللّه تعالى { ومن يتعد حدود اللّه } يعني يترك حكم اللّه فيما أمر من أمر الطلاق
ثم قال { لا تدري لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا } يعني لا تطلقها ثلاثا فلعله يحدث من الحب أو الولد خير فيريد أن يراجعها فلا يمكنه مراجعتها وإن طلقها واحدة أمكنه أن يراجعها ٢ثم قال { فإذا بلغن أجلهن } يعني إذا بلغن وقت انقضاء عدتهن وهو مضي ثلاث حيض ولم تغتسل من الحيضة الثالثة { فأمسكوهن بمعروف } يعني راجعوهن بإحسان يعني أن تمسكوهن بغير إضرار { أو فارقوهن بمعروف } يعني اتركوهن بإحسان ويقال { فإذا بلغن أجلهن } يعني انقضت عدتهن { فأمسكوهن بمعروف } يعني بنكاح جديد إذا طلقها واحدة أو اثنتين ثم قال عز وجل { وأشهدوا ذوي عدل منكم } يعني أشهدوا على الطلاق وعلى المراجعة فهو على الاستحباب ويقال على النكاح المستقبل فإن أراد به الإشهاد على الطلاق والمراجعة فهو على الاستحباب ولو ترك الإشهاد جاز الطلاق والمراجعة فإن أراد به الإشهاد على النكاح فهو واجب لأنه لا نكاح إلا بشهود ثم قال { وأقيموا الشهادة للّه } يعني يا معشر الشهود أدوا الشهادة عند الحاكم بالعدل على وجهها لحق اللّه تعالى ولسبب أمر اللّه تعالى ثم قال { ذلكم يوعظ به } يعني هذا الذي يؤمر به { من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر } أي لا يكتم الشهادة { ويرزقه من حيث لا يحتسب } يعني في شأن المراجعة ويقال { يجعل له مخرجا } يعني ينجو من ظلمات يوم القيامة ويرزقه الجنة ووجه آخر أن من اتقى اللّه عند الشدة وصبر يجعل له مخرجا من الشدة ٣{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } يعني يوسع عليه من الرزق وقال مسروق { يجعل له مخرجا } قال مخرجه أن يعلم أن اللّه هو يرزقه وهو يمنحه ويعطيه لأنه هو الرازق وهو المعطي وهو المانع كما قال اللّه تعالى { هل من خلق غير اللّه يرزقكم } [ فاطر ٣ ] الآية ثم قال عز وجل { ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه } يعني من يثق باللّه في الرزق { فهو حسبه } يعني اللّه كافيه وروى سالم بن أبي الجعد أن رجلا من أشجع أسره العدو فجاء أبوه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فشكا إليه فقال ( اصبر ) فأصاب ابنه غنيمة فجاء بها جبريل عليه السلام بهذه الآية { ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } وعن عبد اللّه بن عباس قال جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إن ابني أسره العدو وجزعت الأم فما تأمرني فقال ( آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ) فرجع إلى منزله فقالت له بماذا أمرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال بكذا فقالت نعم ما أمرك به فجعلا يقولان ذلك فخرج ابنه بغنم كثير فنزل قوله تعالى { ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه } يعني من يثق اللّه في الشدة يجعل له مخرجا من الشدة ويقال المخرج على وجهين أحدهما أن يخرجه من تلك الشدة والثاني أن يكرمه فيها بالرضا والصبر ثم قال { إن اللّه بالغ أمره } يعني قاضيا أمره قرأ عاصم في رواية حفص { بالغ أمره } بغير تنوين بكسر الراء على الإضافة والباقون { بالغ } بالتنوين { أمره } بالنصب نصبه بالفعل يعني يمضي أمره في الشدة والرخاء أجلا ووقتا ثم قال { قد جعل اللّه لكل شيء } يعني جعل لكل شيء من الشدة والرخاء { قدرا } أجلا ووقتا لا يتقدم ولا يتأخر ٤قوله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } قال ابن عباس لما نزل قوله { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة ٢٢٨ ] قال معاذ بن جبل يا رسول اللّه لو كانت المرأة آيسة لا تحيض كيف تعتد فنزل { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } والآيسة أن تبلع ستين سنة ويقال خمسين سنة { إن ارتبتم } إن شككتم في عدتهن { فعدتهن ثلاثة أشهر } فقام رجل آخر فقال لو كانت صغيرة كيف عدتها وقام آخر فقال لو كانت حاملا كيف عدتها فنزل { واللائي لم يحضن } يعني المرأة التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر مثل عدة الآيسة { وأولات الأحمال أجلهن } يعني عدتهن { أن يضعن حملهن } وقال عمر رضي اللّه عنه لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريره قبل أن يدلى في حفرته لانقضت عدتها وحلت للأزواج وروى الزهري عن عبيد اللّه عن أبيه أن سبيعة بنت الحارث قد وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين يوما أو شهر فمر بها أبو السنابل بن بعكك فقال لها أي بعلك أتريدين أن تتزوجي فقالت نعم قال لا حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشر فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لها ( قد حللت للزواج ) يعني انقضت عدتك ثم قال { ومن يتق اللّه } يعني يصبر على طاعة اللّه تعالى { يجعل له من أمره يسرا } يعني ييسر عليه أمره ويوفقه ليعمل على طاعة اللّه تعالى ويعصمه عن معاصيه ٥ثم قال عز وجل { ذلك أمر اللّه } يعني هذا الذي ذكره حكم اللّه وفريضته { أنزله إليكم } يعني أنزله في القرآن على نبيكم { ومن يتق اللّه } يعني ويعمل بأحكامه وفريضته { يكفر عنه سيئاته } في الدنيا { ويعظم له أجرا } يعني ثوابا في الجنة قرأ نافع وابن عامر { نكفر عنه } بالنون والباقون بالياء ومعناهما يرجع إلى شيء واحد ٦ثم رجع إلى ذكر المطلقات فقال عز وجل { أسكنوهن من حيث سكنتم } يعني أنزلوهن من حيث تسكنون فيه { من وجدكم } يعني من سعتكم والوجد القدرة والغنى ويقال افتقر فلان بعد وجده ثم قال { ولا تضاروهن } يعني لا تظلموهن { لتضيقوا عليهن } في النفقة والسكنى { وإن كن أولات حمل } يعني إن كن المطلقات ذوات حمل { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وقد أجمعوا أن المطلقة إذا كانت حاملا فلها النفقة وأما إذا لم تكن حاملا فإن كان الطلاق رجعيا فلها النفقة والسكنى بالإجماع وإن كان الطلاق بائنا فلها السكنى والنفقة في قول أهل العراق وقال بعضهم لها السكنى ولا نفقة ثم قال { فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن } يعني المطلقات إذا أرضعن أولادكم فأعطوهن أجورهن لأن النفقة على الأب وأجر الرضاع من النفقة فهو على الأب إذا كانت المرأة مطلقة ثم قال { وأتمروا بينكم بمعروف } يعني هموا به واعزموا عليه ويقال هو أن لا تضار المرأة بالزوج ولا الزوج بالمرأة في الرضاع ويقال { وأتمروا بينكم } يعني اتفقوا فيما بينكم يعني الزوج والمرأة يتفقان على أمر واحد { بمعروف } يعني بإحسان { وإن تعاسرتم } يعني تضايقتم وهو أن يأبى أن يعطى المرأة لأجل رضاعها وأبت المرأة أن ترضعه ويقال يعني أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من النفقة ولم يتفقا على شيء واحد قوله { فسترضع له أخرى } يعني يدفع الزوج الصبي إلى امرأة أخرى إن أرضعت بأقل مما ترضع الأم به ٧ثم قال عز وجل { لينفق ذو سعة من سعته } يعني ينفق على المرأة ذو الغنى على قدر غناه وعلى قدر عيشه وسعته ويسره { ومن قدر عليه رزقه } يعني ضيق عليه رزقه { فلينفق مما آتاه اللّه } يعني على قدر ما أعطاه اللّه من المال { لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها } يعني لا يأمر اللّه نفسا في النفقة إلا ما أعطاها من المال { سيجعل اللّه بعد عسر يسرا } يعني المعسر ينتظر اليسر ٨قوله تعالى { وكأين من قرية } يعني فكم من أهل قرية قرأ إبن كثير { وكأين } بمد الألف والباقون { وكأين } بغير مد مع تشديد الياء وهما لغتان ومعناهما واحد يعني وكم من قرية { عتت عن أمر ربها } يعني أبت وعصت عن أمر ربها يعني عن طاعة ربها قال مقاتل { عتت عن أمر ربها } يعني خالفت وعصت وقال الكلبي العتو المعصية وقال أهل اللغة العتو مجاوزة الحد في المعصية ثم قال { ورسله } يعني عن طاعة رسل اللّه تعالى { فحاسبناها حسابا شديدا } يعني جازاها اللّه بعملها ويقال { حاسبناها } في الآخرة { حسابا شديدا } { وعذبناها عذابا شديدا نكرا } يعني عذابا منكرا على معنى التقديم يعني عذبناها في الدنيا عذابا شديدا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا ويقال و { حاسبناها } يعني في الدنيا يعني جازيناها بخذلانها وحرمانها ٩ثم قال عز وجل { فذاقت وبال أمرها } يعني جزاء ذنبها { وكان عاقبة أمرها خسرا } يعني أهل القرية يعني أن آخر أمرهم صار إلى الخسران والندامة ١٠قوله عز وجل { أعد اللّه لهم عذابا شديدا } يعني ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم ولكن مع ما أصابهم في الدنيا { أعد اللّه لهم عذابا شديدا } في الآخرة لأنهم لم يرجعوا عن كفرهم ثم أمر المؤمنين بأن يعتبروا بهم ويثبتوا على إيمانهم فقال { فاتقوا اللّه يا أولي الألباب } يعني اخشوا اللّه وأطيعوه يا ذوي العقول من الناس { الذين آمنوا } باللّه يعني الذين صدقوا باللّه ورسوله { قد أنزل اللّه إليكم ذكرا } يعني كتابا ويقال شرفا وعزا وهو القرآن ١١ثم قال { رسولا } يعني أرسل إليكم رسولا { يتلوا عليكم } يعني يقرأ عليكم ويعرض عليكم ويقال { قد أنزل إليكم ذكرا رسولا } يعني كتابا مع رسوله ليتلو عليكم يعني يقرأ عليكم { آيات اللّه مبينات } يعني واضحات ويقال بين فيه الحلال والحرام { ليخرج الذين آمنوا } يعني الذين صدقوا بتوحيد اللّه { وعملوا الصالحات } يعني الطاعات { من الظلمات إلى النور } يعني من الجهالة إلى البيان ويقال { ليخرج الذين آمنوا } اللفظ لفظ المستقبل والمراد به الماضي يعني أخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور يعني من الكفر إلى الإيمان ويقال هو على المستقبل يعني يخرجهم من الشبهات والجهالات إلى الدلائل والبراهين ويقال ليدعو النبي صلى اللّه عليه وسلم ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان من قدر اللّه الإيمان في سابق علمه ثم قال عز وجل { ومن يؤمن باللّه } يعني يصدق باللّه ويقال يثبت على الإيمان { ويعمل صالحا } يعني فرائض اللّه تعالى وسنن الرسول صلى اللّه عليه وسلم { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } قرأ نافع وابن عامر { ندخله } بالنون والباقون بالياء يعني يدخله اللّه تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار { خالدين فيها } يعني مقيمين في الجنة دائمين فيها { أبدا قد أحسن اللّه له رزقا } يعني أعد اللّه له ثوابا في الآخرة ١٢ثم قال عز وجل { اللّه الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } يعني خلق سب أرضين مثل عدد السماوات { يتنزل الأمر بينهن } يعني ينزل الوحي من السموات ويقال في كل سماء وفي كل أرض مثله أمره نافذ وقال القتبي الأمر على وجوه الأمر القضاء كقوله { يدبر الأمر } [ يونس ٣ ] ويعني يقضي القضاء وكقوله { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف ٥٤ ] أي القضاء والأمر الدين كقوله { وتقطعوا أمرهم بينهم } [ الأنبياء ٩٣ ] أي دينهم والأمر الدين كقوله تعالى { وظهر أمر اللّه } [ التوبة ٤٨ ] أي دين اللّه والأمر القول كقوله { يتنازعون بينهم أمرهم } [ الكهف ٢١ ] أي قولهم والأمر العذاب كقوله { إنه قد جاء أمر ربك } [ هود ٧٦ ] والأمر القيامة كقوله { أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه } [ النحل ١ ] والأمر الوحي كقوله { يتنزل الأمر بينهن } [ الطلاق ١٢ ] يعني الوحي والأمر الذنب كقوله { فذاقت وبال أمرها } [ الطلاق ٩ ] أي جزاء ذنبها وأصل هذا كله واحد لأن الأشياء كلها بأمر اللّه تعالى فسميت الأشياء أمورا ثم قال تعالى { لتعلموا أن اللّه على كل شيء قدير } يعني لكي يمكنكم أن تعلموا أن اللّه على كل شيء قدير { وأن اللّه قد أحاط بكل شيء علما } يعني أحاط علمه بكل شيء وروى معمر عن قتادة في قوله { سبع سموات ومن الأرض مثلهن } قال في كل سماء وفي كل أرض من أرضه خلق وأمر من أمره وقضى |
﴿ ٠ ﴾