تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م) _________________________________ سورة الفاتحةسُورة الفـاتِـحَةِ مكِيّة وآياتها سَبْع ١بِسْمِ اللّه الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ القول فـي تأويـل بِسْمِ. قال أبو جعفر: إن اللّه تعالـى ذكره وتقدست أسماؤه، أدّب نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بتعلـيـمه تقديـم ذكر أسمائه الـحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إلـيه فـي وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلـمه إياه منه لـجميع خـلقه سنةً يستنون بها، وسبـيلاً يتبعونه علـيها، فـي افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتـى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل (بسم اللّه )، علـى من بطن من فراده الذي هو مـحذوف. وذلك أن البـاء من (بسم اللّه ) مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبـا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل (بسم اللّه ) معرفته بـمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة علـى الذي من أجله افتتـح قـيـله به. فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً قـيـل له: ما أكلت الـيوم؟ فقال: طعاما، عن أن يكرّر الـمسؤول مع قوله (طعاما) أكلت لـما قد ظهر لديه من الدلالة علـى أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال: (بِسم اللّه الرحمن الرحيـم) ثم افتتـح تالـيا سورة، أن إتبـاعه (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) تلاوةَ السورة، ينبىء عن معنى قوله: (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأُ بسم اللّه الرحمن الرحيـم. وكذلك قوله: (بسم اللّه ) عند نهوضه للقـيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبىء عن معنى مراده بقوله (بسم اللّه )، وأنه أراد بقـيـله (بسم اللّه ): أقوم بسم اللّه ، وأقعد بسم اللّه وكذلك سائر الأفعال. وهذا الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، هو معنى قول ابن عبـاس ، الذي: ١ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: إن أول ما نزل به جبريـل علـى مـحمد، قال: يا مـحمد، قل أستعيذ بـالسميع العلـيـم من الشيطان الرجيـم ثم قال: قل بِسْمِ اللّه الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ قال: قال له جبريـل: قل بسم اللّه يا مـحمد. يقول: اقرأ بذكر اللّه ربك، وقم واقعد بذكر اللّه . قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويـل قوله (بسم اللّه ) ما وصفت، والـجالب (البـاء) فـي (بسم اللّه ) ما ذكرت، فكيف قـيـل (بسم اللّه )، بـمعنى (اقرأ بسم اللّه )، أو (أقوم أو أقعد بسم اللّه )؟ وقد علـمت أن كل قارىء كتاب اللّه ، فبعون اللّه وتوفـيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فـاعل فعلاً، فبـاللّه قـيامُه وقعوده وفعله؟ وهلاّ إذا كان ذلك كذلك، قـيـل: (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، ولـم يقل (بسم اللّه ) فإن قول القائل: أقوم وأقعد بـاللّه الرحمن الرحيـم، أو أقرأ بـاللّه ، أوضح معنى لسامعه من قوله (بسم اللّه )، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم اللّه ، يوهم سامعه أن قـيامه وقعوده بـمعنى غير اللّه . قـيـل له: إن الـمقصود إلـيه من معنى ذلك، غير ما توهمته فـي نفسك. وإنـما معنى قوله (بسم اللّه ): أبدأ بتسمية اللّه وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسمية اللّه ، أو أقوم وأقعد بتسمية اللّه وذكره لا أنه يعنـي بقـيـله (بسم اللّه ): أقوم بـاللّه ، أو أقرأ بـاللّه فـيكون قول القائل: (أقرأ بـاللّه )، و(أقوم وأقعد بـاللّه )، أولـى بوجه الصواب فـي ذلك من قوله (بسم اللّه ). فإن قال: فإن كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفتَ، فكيف قـيـل (بسم اللّه ) وقد علـمت أن الاسم اسم، وأن التسمية مصدر من قولك سَمّيت؟. قـيـل: إن العرب قد تـخرج الـمصادر مبهمةً علـى أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامةً، وإنـما بناء مصدر (أفعلتُ) إذا أُخرج علـى فعله: (الإفعالُ)، وكقولهم: أهنت فلانا هوانا، وكلـمته كلاما. وبناء مصدر (فعّلت) التفعيـل، ومن ذلك قول الشاعر: أكُفْرا بَعْدَ رَدّ الـمَوْتِ عَنّـيوبَعْدَ عَطائِكَ الـمِائَةَ الرّتاعا يريد: إعطائك. ومنه قول الاَخر: وَإنْ كانَ هَذا البُخْـلُ مِنْكَ سَجِيّةًلَقَدْ كُنْتُ فـي طَوْلـي رَجاءَكَ أشْعَبـا يريد: فـي إطالتـي رجاءك. ومنه قول الاَخر: أظَلُومُ إنّ مُصَابَكُمْ رَجُلا أهْدَى السّلامَ تَـحِيّةً ظُلْـمُ يريد إصابتكم. والشواهد فـي هذا الـمعنى تكثر، وفـيـما ذكرنا كفـاية، لـمن وفق لفهمه. فإذا كان الأمر علـى ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال علـى غير بناء أفعالها كثـيرا، وكان تصديرها إياها علـى مخارج الأسماء موجودا فـاشيا، تبـين بذلك صواب ما قلنا من التأويـل فـي قول القائل: (بسم اللّه )، أن معناه فـي ذلك عند ابتدائه فـي فعل أو قول: أبدأ بتسمية اللّه ، قبل فعلـي، أو قبل قولـي. وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: (بِسْمِ اللّه الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ) إنـما معناه: أقرأ مبتدئا بتسمية اللّه ، أو أبتدىء قراءتـي بتسمية اللّه فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكلـيـم، والعطاء مكان الإعطاء. وبـمثل الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك، رُوي الـخبر عن عبد اللّه بن عبـاس. ٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: أول ما نزل جبريـل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، قال: يا مـحمد، قل أستعيذ بـالسميع العلـيـم من الشيطان الرجيـم ثم قال: قل بسم اللّه الرحمن الرحيـم. قال ابن عبـاس : (بسم اللّه )، يقول له جبريـل: يا مـحمد اقرأ بذكر اللّه ربك، وقم واقعد بذكر اللّه . وهذا التأويـل من ابن عبـاس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتـحا قراءته: (بسم اللّه الرحمن الرحيـم): أقرأ بتسمية اللّه وذكره، وافتتـح القراءة بتسمية اللّه ، بأسمائه الـحسنى، وصفـاته العلـى وفسادِ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بـاللّه الرحمن الرحيـم فـي كل شيء، مع أن العبـاد إنـما أمروا أن يبتدئوا عند فواتـح أمورهم بتسمية اللّه لا بـالـخبر عن عظمته وصفـاته، كالذي أمروا به من التسمية علـى الذبـائح والصيد، وعند الـمطعم والـمشرب، وسائر أفعالهم، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيـل اللّه وصدور رسائلهم وكتبهم. ولا خلاف بـين الـجميع من علـماء الأمة، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام: (بـاللّه )، ولـم يقل (بسم اللّه )، أنه مخالف بتركه قـيـل (بسم اللّه ) ما سُنّ له عند التذكية من القول. وقد علـم بذلك أنه لـم يرد بقوله (بسم اللّه )، (بـاللّه ) كما قال الزاعم أن اسم اللّه في قول اللّه : (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، هو اللّه لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبـيحته (بـاللّه ) قائلاً ما سُنّ له منّ القول علـى الذبـيحة. وفـي إجماع الـجميع علـى أن قائل ذلك تارك ما سُنّ له من القول علـى ذبـيحته، إذْ لـم يقل (بسم اللّه )، دلـيـل واضح علـى فساد ما ادعى من التأويـل فـي قول القائل (بسم اللّه ) وأنه مراد به بـاللّه ، وأن اسم اللّه هو اللّه . ولـيس هذا الـموضع من مواضع الإكثار فـي الإبـانة عن الاسم، أهو الـمسمى أم غيره أم هو صفة له؟ فنطيـل الكتاب به، وإنـما هو موضع من مواضع الإبـانة عن الاسم الـمضاف إلـى اللّه ، أهو اسم أم مصدر بـمعنى التسمية؟ فإن قال قائل: فما أنت قائل فـي بـيت لبـيد بن ربـيعة: إلـى الـحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَـيْكُمَاوَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقَدِ اعْتَذَرْ فقد تأوّله مقدم فـي العلـم بلغة العرب، أنه معنـيّ به: ثم السلام علـيكما، وأن اسم السلام هو السلام. قـيـل له: لو جاز ذلك وصحّ تأويـله فـيه علـى ما تأوّل، لـجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفـي إجماع جميع العرب علـى إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويـل من تأوّل قول لبـيد: (ثم اسم السلام علـيكما)، أنه أراد: ثم السلام علـيكما، وادعائه أن ادخال الاسم فـي ذلك وإضافته إلـى السلام إنـما جاز، إذْ كان اسم الـمسمى هو الـمسمى بعينه. ويُسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فـيقال لهم: أتستـجيزون فـي العربـية أن يقال أكلت اسم العسل، يعنـي بذلك أكلت العسل، كما جاز عندكم اسم السلام علـيك، وأنتـم تريدون السلام علـيك؟ فإن قالوا: نعم خرجوا من لسن العرب، وأجازوا فـي لغتها ما تـخطئه جميع العرب فـي لغتها. وإن قالوا لا سئلوا الفرق بـينهما، فلن يقولوا فـي أحدهما قولاً إلاّ ألزموا فـي الاَخر مثله. فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبـيد هذا عندك؟ قـيـل له: يحتـمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله. أحدهما: أن (السلام) اسم من أسماء اللّه فجائز أن يكون لبـيد عنى بقوله: (ثم اسم السلام علـيكما): ثم الْزَمَا اسم اللّه وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء علـيّ علـى وجه الإغراء. فرفع الاسم، إذْ أخّر الـحرف الذي يأتـي بـمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت الـمُغْرَى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر. ومن ذلك قول الشاعر: يا أيّها الـمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَاإنـي رأيْتُ النّاس يَحْمَدُونَكا فأغرى ب(دونك)، وهي مؤخرة وإنـما معناه: دونك دلوي. فذلك قول لبـيد: إلـى الـحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَـيْكُمَا يعنـي: علـيكما اسم السلام، أي: الزما ما ذكر اللّه ، ودعا ذكري والوجد بـي لأن من بكى حولاً علـى امرىء ميت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه. والوجه الاَخر منهما: ثم تسميتـي اللّه علـيكما، كما يقول القائل للشيء يراه فـيعجبه: (اسم اللّه علـيك) يعوّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسم اللّه علـيكما من السوء. وكأن الوجه الأول أشبه الـمعنـيـين بقول لبـيد. ويقال لـمن وجّه بـيت لبـيد هذا إلـى أن معناه: (ثم السلام علـيكما): أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا، أو أحدهما، أو غير ما قلت فـيه؟ فإن قال: لا أبـان مقداره من العلـم بتصاريف وجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته. وإن قال: بلـى قـيـل له: فما برهانك علـى صحة ما ادّعيت من التأويـل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه مـحتـمله من الوجه الذي يـلزمنا تسلـيـمه لك؟ ولا سبـيـل إلـى ذلكوأما الـخبر الذي: ٣ـ حدثنا به إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء بن الضحاك ، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن عِيسى ابْنَ مَرْيَـمَ أسْلَـمَتْهُ أُمّهُ إلـى الكُتّابِ لِـيُعَلّـمَهُ، فَقالَ لَهُ الـمُعَلّـمُ: اكْتُبْ بِسْمِ فَقَالَ له عِيسَى: وَما بِسْمِ؟ فَقالَ لَهُ الـمُعَلّـمُ: ما أدْرِي فَقالَ عِيسىَ: البـاءُ: بَهاءُ اللّه ، وَالسّينُ: سَناؤُهُ، وَالـمِيـمُ: مَـمْلَكَتُهُ). فأخشى أن يكون غلطا من الـمـحدث، وأن يكون أراد: (ب س م)، علـى سبـيـل ما يعلـم الـمبتدى من الصبـيان فـي الكتاب حروفَ أبـي جاد. فغلط بذلك، فوصله فقال: (بسم) لأنه لا معنى لهذا التأويـل إذا تُلـي (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) علـى ما يتلوه القارىء فـي كتاب اللّه ، لاستـحالة معناه علـى الـمفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حمل تأويـله علـى ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى:{اللّه }. قال أبو جعفر: وأما تأويـل قول اللّه : (اللّه )، فإنه علـى معنى ما رُوي لنا عن عبد اللّه بن عبـاس: هو الذي يَأْلَهه كل شيء، ويعبده كل خـلق. وذلك أن أبـا كريب: ٤ـ حدثنا قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: اللّه ذو الألوهية والـمعبودية علـى خـلقه أجمعين. فإن قال لنا قائل: فهل لذلك فـي (فَعَلَ ويَفْعَل) أصل كان منه بناء هذا الاسم؟ قـيـل: أما سماعا من العرب فلا، ولكن استدلالاً. فإن قال: وما دلّ علـى أن الألوهية هي العبـادة، وأن الإله هو الـمعبود، وأن له أصلاً فـي فعل ويفعل؟ قـيـل: لا تـمانُعَ بـين العرب فـي الـحكم لقول القائل يصف رجلاً بعبـادة ويطلب مـما عند اللّه جل ذكره: تألّه فلان بـالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: للّه دَرّ الغانِـياتِ الـمُدّةِسَبّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألّهِي يعنـي من تعبدي وطلبـي اللّه بعمل. ولا شك أن التأله (التفعّل) من: أَلَهَ يَأْلَهُ، وأن معنى (أَلَه) إذا نُطق به: عَبَد اللّه . وقد جاء منه مصدر يدل علـى أن العرب قد نطقت منه ب(فَعَل يفعل) بغير زيادة. وذلك ما: ٥ـ حدثنا به سفـيان بن وكيع، قال حدثنا أبـي، عن نافع بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، أنه قرأ: (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ) قال: عبـادتك، ويُقال: إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبَد. وحدثنا سفـيان، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن مـحمد بن عمرو بن الـحسن، عن ابن عبـاس : (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ) قال: إنـما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبد. وكذلك كان عبد اللّه يقرؤها ومـجاهد. ٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: أخبرنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قوله: (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ) قال: وعبـادتك. ولا شك أن الإلاهة علـى ما فسره ابن عبـاس ومـجاهد، مصدرٌ من قول القائل أَلَهَ اللّه فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عبد اللّه فلانٌ عبـادة، وعَبَر الرؤيا عبـارةً. فقد بـيّن قول ابن عبـاس ومـجاهد هذا أن أله: عبد، وأن الإلاهة مصدره. فإن قال: فإن كان جائزا أن يقال لـمن عبد اللّه : ألهه، علـى تأويـل قول ابن عبـاس ومـجاهد، فكيف الواجب فـي ذلك أن يقال، إذا أراد الـمخبر الـخبر عن استـيجاب اللّه ذلك علـى عبده؟ قـيـل: أما الرواية فلا رواية عندنا، ولكن الواجب علـى قـياس ما جاء به الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذي: ٧ـ حدثنا به إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى، عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ عِيسَى أسْلَـمَتْهُ أُمّهُ إلـى الكُتّابِ لِـيُعَلّـمَهُ، فَقالَ لَهُ الـمُعَلّـمُ: اكْتُبْ اللّه ، فَقالَ لَهُ عِيسَى: أَتَدْرِي ما اللّه ؟ اللّه إلَهُ الاَلِهَةِ). أن يقال: اللّه جل جلاله أَلَهَ العَبْدَ، والعبدُ ألهه. وأن يكون قول القائل (اللّه ) من كلام العرب أصله (الإله). فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما؟ قال: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنّ هُوَ اللّه رَبّـي أصله: (لكن أنا هو اللّه ربـي) كما قال الشاعر: وَتَرْمِيننِـي بـالطّرْفِ أي أنْتَ مُذْنِبٌوتَقْلِـينَنِـي لَكِنّ إيّاكِ لا أَقْلِـي يريد: (لكنْ أنا إياك لا أقلـي) فحذف الهمزة من (أنا)، فـالتقت نون (أنا) ونون (لكن) وهي ساكنة، فأدغمت فـي نون أنا، فصارتا نونا مشددة، فكذلك اللّه ، أصله الإله، أسقطت الهمزة، التـي هي فـاء الاسم، فـالتقت اللام التـي هي عين الاسم، واللام الزائدة التـي دخـلت مع الألف الزائدة، وهي ساكنة، فأدغمت فـي الأخرى التـي هي عين الاسم، فصارتا فـي اللفظ لاما واحدة مشددة، كما وصفنا من قول اللّه : لَكِنّ هُوَ اللّه رَبّـي. القول فـي تأويـل قوله تعالى: الرّحْمنِ الرّحِيـمِ. قال أبو جعفر: أما الرحمن، فهو (فعلان)، من رحم، والرحيـم فعيـل منه. والعرب كثـيرا ما تبنى الأسماء من فعل يفعل علـى فعلان، كقولهم من غضب غضبـان، ومن سكر سكران، ومن عطش عطشان، فكذلك قولهم رحمَن من رحم، لأن (فَعِلَ) منه: رَحِمَ يَرْحم. وقـيـل (رحيـم) وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنـية الأسماء إذا كان فـيها مدح أو ذمّ علـى فعيـل، وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من عَلِـمَ: عالـم وعلـيـم، ومن قدَر: قادر وقدير. ولـيس ذلك منها بناءً علـى أفعالها لأن البناء من (فَعِلَ يَفْعَل) (وَفَعَلَ يَفْعَلُ) فـاعل. فلو كان الرحمن والرحيـم خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم. فإن قال قائل: فإذا كان الرحمَن والرحيـم اسمين مشتقـين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤّد عن معنى الاَخر؟ قـيـل له: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننت، بل لكل كلـمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها. فإن قال: وما الـمعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية الـمعنى عن الأخرى؟ قـيـل: أما من جهة العربـية، فلا تـمانع بـين أهل الـمعرفة بلغات العرب أن قول القائل (الرحمن) عن أبنـية الأسماء من (فَعِلَ يَفْعَل) أشد عدولاً من قوله (الرحيـم). ولا خلاف مع ذلك بـينهم أن كل اسم كان له أصل فـي (فَعِلَ يَفْعَل)، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشدّ عدولاً، أن الـموصوف به مفضل علـى الـموصوف بـالاسم الـمبنـي علـى أصله من (فَعِلَ يَفْعل) إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما. فهذا ما فـي قول القائل (الرحمَن) من زيادة الـمعنى علـى قوله: (الرحيـم) فـي اللغة. وأما من جهة الأثر والـخبر، ففـيه بـين أهل التأويـل اختلاف. ٨ـ فحدثنـي السريّ بن يحيى التـميـمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: (الرحمن الرحيـم) قال: الرحمن بجميع الـخـلق. (الرحيـم) قال: بـالـمؤمنـين. ٩ـ وحدثنا إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى، عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد يعنـي الـخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ قالَ: الرّحْمَنُ: رَحْمَنُ الاَخِرَةِ والدّنْـيَا، والرّحِيـمُ: رَحِيـمُ الاَخِرَةِ). فهذان الـخبران قد أنبآ عن فرق ما بـين تسمية اللّه جل ثناؤه بـاسمه الذي هو (رحمن)، وتسميته بـاسمه الذي هو (رحيـم). واختلاف معنى الكلـمتـين، وإن اختلفـا فـي معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما علـى أن ذلك فـي الدنـيا، ودل الاَخر علـى أنه فـي الاَخرة. فإن قال: فأيّ هذين التأويـلـين أولـى عندك بـالصحة؟ قـيـل: لـجميعهما عندنا فـي الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولـى بـالصحة. وذلك أن الـمعنى الذي فـي تسمية اللّه بـالرحمن، دون الذي فـي تسميته بـالرحيـم هو أنه بـالتسمية بـالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خـلقه، وأنه بـالتسمية بـالرحيـم موصوف بخصوص الرحمة بعض خـلقه، إما فـي كل الأحوال، وإما فـي بعض الأحوال. فلا شكّ إذا كان ذلك كذلك، أن ذلك الـخصوص الذي فـي وصفه بـالرحيـم لا يستـحيـل عن معناه، فـي الدنـيا كان ذلك أو فـي الاَخرة، أو فـيهما جميعا. فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك وكان اللّه جل ثناؤه قد خص عبـاده الـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا بـما لطف بهم فـي توفـيقه إياهم لطاعته، والإيـمان به وبرسله، واتبـاع أمره واجتناب معاصيه مـما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد فـي أجل الاَخرة فـي جناته من النعيـم الـمقـيـم والفوز الـمبـين لـمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به كان بـيّنا أن اللّه قد خص الـمؤمنـين من رحمته فـي الدنـيا والاَخرة، مع ما قد عمهم به والكفـار فـي الدنـيا، من الإفضال والإحسان إلـى جميعهم، فـي البسط فـي الرزق، وتسخير السحاب بـالغيث، وإخراج النبـات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التـي لا تـحصى، التـي يشترك فـيها الـمؤمنون والكافرون. فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خـلقه فـي الدنـيا والاَخرة، ورحيـم الـمؤمنـين خاصة فـي الدنـيا والاَخرة. فأما الذي عمّ جميعهم به فـي الدنـيا من رحمته، فكان رحمانا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التـي لا سبـيـل إلـى إحصائها لأحد من خـلقه، كما قال جل ثناؤه: وإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُـحْصُوها. وأما فـي الاَخرة، فـالذي عم جميعهم به فـيها من رحمته. فكان لهم رحمانا. تسويته بـين جميعهم جل ذكره فـي عدله وقضائه، فلا يظلـم أحدا منهم مِثْقَالَ ذَرّةٍ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرا عَظِيـما، وتُوفّـى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه فـي الاَخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا فـي الاَخرة. وأما ما خص به الـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا من رحمته الذي كان به رحيـما لهم فـيها، كما قال جل ذكره: وكانَ بـالـمُؤْمِنِـينَ رَحِيـما فما وصفنا من اللطف لهم فـي دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به. وأما ما خصهم به فـي الاَخرة، فكان به رحيـما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفـا مـما أعدّ لهم دون غيرهم من النعيـم والكرامة التـي تقصر عنها الأمانـي. وأما القول الاَخر فـي تأويـله، فهو ما: ١٠ـ حدثنا به أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب قال: الرحمن الرحيـم: الرقـيق الرفـيق بـمن أحبّ أن يرحمه، والبعيد الشديد علـى من أحبّ أن يعنف علـيه. وكذلك أسماؤه كلها. وهذا التأويـل من ابن عبـاس ، يدل علـى أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيـم، وإن كان لقوله (الرحمن) من الـمعنى ما لـيس لقوله (الرحيـم) لأنه جعل معنى الرحمن بـمعنى الرقـيق علـى من رقّ علـيه، ومعنى الرحيـم بـمعنى الرفـيق بـمن رفق به. والقول الذي رويناه فـي تأويـل ذلك عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويـله من هذا القول الذي روينا عن ابن عبـاس وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، فـي أن للرحمن من الـمعنى ما لـيس للرحيـم، وأن للرحيـم تأويلاً غير تأويـل الرحمن. والقول الثالث فـي تأويـل ذلك، ما: ١١ـ حدثنـي به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالـح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللـخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الـخراسانـي، يقول: كان الرحمن، فلـما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيـم. والذي أراد إن شاء اللّه عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء اللّه التـي لا يتسمى بها أحد من خـلقه، فلـما تسمى به الكذّاب مسيـلـمة وهو اختزاله إياه، يعنـي اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر اللّه جل ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيـم، لـيفصل بذلك لعبـاده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يُسمّى أحد الرحمن الرحيـم فـيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنـما تسمى بعض خـلقه إما رحيـما، أو يتسمى رحمن، فأما (رحمَن رحيـم)، فلـم يجتـمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأن معنى قول عطاء هذا: أن اللّه جل ثناؤه إنـما فصل بتكرير الرحيـم علـى الرحمن بـين اسمه واسم غيره من خـلقه، اختلف معناهما أو اتفقا. والذي قال عطاء من ذلك غير فـاسد الـمعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بـالتسمية بهما معا مـجتـمعين إبـانة لها من خـلقه، لـيعرف عبـاده بذكرهما مـجموعين أنه الـمقصود بذكرهما دون من سواه من خـلقه، مع ما فـي تأويـل كل واحد منهما من الـمعنى الذي لـيس فـي الاَخر منهما. وقد زعم بعض أهل الغبـاء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولـم يكن ذلك فـي لغتها ولذلك قال الـمشركون للنبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَمَا الرّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لـما تَأْمُرُنَا إنكارا منهم لهذا الاسم. كأنه كان مـحالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالـمين بصحته، أو كأنه لـم يتل من كتاب اللّه قول اللّه : الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنـي مـحمدا كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبّوته جاحدون. فـيعلـم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقـيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستـحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الـجاهلـية الـجهلاء: ألاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَهاألاَ قَضَبَ الرّحْمَنُ رَبّـي يَـمِينَها وقال سلامة بن جندل الطهوي: عَجِلْتُـمْ عَلَـيْنَا عَجْلَتَـيْنا عَلَـيْكُمُوَما يَشاء الرّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويـل أهل التأويـل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن (الرحمن) مـجازه (ذو الرحمة)، و(الرحيـم) مـجازه (الراحم). ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والـمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم قال: وقد فعلوا مثل ذلك، فقالوا: ندمان ونديـم. ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي: ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبَـاسَقَـيْتُ وقَدْ تَغَوّرَتِ النّـجُومُ واستشهد بأبـيات نظائر له فـي النديـم والندمان. ففرق بـين معنى الرحمن والرحيـم فـي التأويـل، لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيـم: الراحم. وإن كان قد ترك بـيان تأويـل معنـيهما علـى صحته. ثم مثل ذلك بـاللفظين يأتـيان بـمعنى واحد، فعاد إلـى ما قد جعله بـمعنـيـين، فجعله مثال ما هو بـمعنى واحد مع اختلاف الألفـاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة، وأن الراحم هو الـموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فـانقضى ذلك منه، أو هو فـيه. ولا دلالة له فـيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة علـى أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيـم علـى تأويـله من معنى الكلـمتـين يأتـيان مقدرتـين من لفظ واحد بـاختلاف الألفـاظ واتفـاق الـمعانـي؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتـمد علـيه كان واضح عُوَارُه. وإن قال لنا قائل: ولـم قدم اسم اللّه الذي هو اللّه علـى اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن علـى اسمه الذي هو الرحيـم؟ قـيـل: لأن من شأن العرب إذا أرادوا الـخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يُتبعوه صفـاته ونعوته. وهذا هو الواجب فـي الـحكم: أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته، لـيعلـم السامع الـخبر عمن الـخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان للّه جل ذكره أسماء قد حرم علـى خـلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، ذلك مثل (اللّه )، و(الرحمن) و(الـخالق) وأسماء أبـاح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها، وذلك كالرحيـم، والسميع، والبصير، والكريـم، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التـي هي له خاصة دون جميع خـلقه، لـيعرف السامع ذلك من توجه إلـيه الـحمد والتـمـجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التـي قد تسمى بها غيره، بعد علـم الـمخاطب أو السامع من توجه إلـيه ما يتلو ذلك من الـمعانـي. فبدأ اللّه جل ذكره بـاسمه الذي هو اللّه لأن الألوهية لـيست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة الـمعنى. وذلك أنا قد بـينا أن معنى اللّه هو الـمعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه اللّه جل ثناؤه، وإن قصد الـمتسمي به ما يقصد الـمتسمي بسعيد وهو شقـيّ، وبحَسَن وهو قبـيح. أَوَ لا ترى أن اللّه جل جلاله قال فـي غير آية من كتابه: (أإله مَعَ اللّه ) فـاستكبر ذلك من الـمقرّ به، وقال تعالـى فـي خصوصية نفسه بـاللّه وبـالرحمن: (قُلِ ادْعُوا اللّه أو ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا ما تَدْعُو فَلَهُ الأسْماءُ الـحسنى) ثم ثنّى بـاسمه، الذي هو الرحمن، إذْ كان قد منع أيضا خـلقه التسمي به، وإن كان من خـلقه من قد يستـحق تسميته ببعض معانـيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثـير مـمن هو دون اللّه من خـلقه ببعض صفـات الرحمة، وغير جائز أن يستـحق بعض الألوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمَن ثانـيا لاسمه الذي هو (اللّه ) وأما اسمه الذي هو (الرحيـم) فقد ذكرنا أنه مـما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفـاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر علـى ما وصفنا، واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتـي هن توابعها بعد تقدم الأسماء علـيها. فهذا وجه تقديـم اسم اللّه الذي هو (اللّه ) علـى اسمه الذي هو (الرحمن)، واسمه الذي هو (الرحمن) علـى اسمه الذي هو (الرحيـم). وقد كان الـحسن البصري يقول فـي الرحمن مثل ما قلنا، أنه من أسماء اللّه التـي منع التسمي بها لعبـاده. ١٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الـحسن، قال: الرحمن اسم مـمنوع. مع أن فـي إجماع الأمة مِن منع التسمي به جميع الناس ما يغنـي عن الاستشهاد علـى صحة ما قلنا فـي ذلك بقول الـحسن وغيره. ٢القول فـي تأويـل فـاتـحة الكتاب: {الْحَمْدُ للّه رَبّ الْعَالَمِينَ } قال أبو جعفر: معنى: الـحَمْدُ للّه: الشكر خالصا للّه جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه، ودون كل ما برأ من خـلقه، بـما أنعم علـى عبـاده من النعم التـي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد، فـي تصحيح الاَلات لطاعته، وتـمكين جوارح أجسام الـمكلفـين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم فـي دنـياهم من الرزق وغذاهم به من نعيـم العيش من غير استـحقاق منهم لذلك علـيه، ومع ما نبههم علـيه ودعاهم إلـيه من الأسبـاب الـمؤدية إلـى دوام الـخـلود فـي دار الـمقام فـي النعيـم الـمقـيـم. فلربنا الـحمد علـى ذلك كله أولاً وآخرا. وبـما ذكرنا من تأويـل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه: الـحَمْدُ للّه جاء الـخبر عن ابن عبـاس وغيره: ١٣ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: قال جبريـل لـمـحمد: (قل يا مـحمد: الـحمد للّه). قال ابن عبـاس : الـحمد للّه: هو الشكر، والاستـخذاء للّه، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك. ١٤ـ وحدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، قال: حدثنـي عيسى بن إبراهيـم، عن موسى بن أبـي حبـيب، عن الـحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا قُلْتَ الـحَمْدُ للّه رَبّ العَالـمِينَ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللّه فَزَادَكَ). قال: وقد قـيـل إن قول القائل: الـحَمْدُ للّه ثناء علـى اللّه بأسمائه وصفـاته الـحسنى، وقوله: (الشكر للّه) ثناء علـيه بنعمه وأياديه. وقد رُوي عن كعب الأحبـار أنه قال: الـحمد للّه ثناء علـى اللّه . ولـم يبـين فـي الرواية عنه من أي معنـيـي الثناء اللذين ذكرنا ذلك. ١٥ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى الصدفـي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنـي عمر بن مـحمد، عن سهيـل بن أبـي صالـح، عن أبـيه، قال: أخبرنـي السلولـي، عن كعب قال: من قال: (الـحمد للّه) فذلك ثناء علـى اللّه . ١٦ـ وحدثنـي علـيّ بن الـحسن الـخراز، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن الـجرمي، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب القرقسانـي، عن مبـارك بن فضالة، عن الـحسن، عن الأسود بن سريع، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (لَـيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَـيْهِ الـحَمْدُ مِنَ اللّه تعالـى، ولِذَلِكَ أَثْنَى علـى نَفْسِهِ فَقالَ: الـحَمْدُ للّه). قال أبو جعفر: ولا تَـمَانُع بـين أهل الـمعرفة بلغات العرب من الـحكم لقول القائل: الـحَمْدُ للّه شكرا بـالصحة. فقد تبـين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا، أن الـحمد للّه قد يُنْطَق به فـي موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الـحمد، لأن ذلك لو لـم يكن كذلك لـما جاز أن يقال الـحمد للّه شكرا، فـيخرج من قول القائل (الـحمد للّه) مُصدّر (أشكُر)، لأن الشكر لو لـم يكن بـمعنى الـحمد، كان خطأ أن يصدر من الـحمد غير معناه وغير لفظه. فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام فـي الـحمد؟ وهلاّ قـيـل: حمدا للّه ربّ العالـمين قـيـل: إن لدخول الألف واللام فـي الـحمد معنى لا يؤديه قول القائل (حمدا)، بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما فـي الـحمد منبىءٌ علـى أن معناه: جميع الـمـحامد والشكر الكامل للّه. ولو أُسقطتا منه لـما دلّ إلا علـى أن حَمْدَ قائلِ ذلك للّه، دون الـمـحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل: (حمدا للّه) أو (حمدٌ اللّه ): أحمد اللّه حمدا، ولـيس التأويـل فـي قول القائل: الـحَمْدُ للّه رَبّ العَالَـمِينَ تالـيا سورة أم القرآن أحمد اللّه ، بل التأويـل فـي ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع الـمـحامد للّه بألوهيته وإنعامه علـى خـلقه، بـما أنعم به علـيهم من النعم التـي لا كفء لها فـي الدين والدنـيا والعاجل والاَجل. ولذلك من الـمعنى، تتابعت قراءة القراءة وعلـماء الأمة علـى رفع الـحمد من: الـحَمْدُ للّه رَبّ العَالَـمينَ دون نصبها، الذي يؤدي إلـى الدلالة علـى أن معنى تالـيه كذلك: أحمد اللّه حمدا. ولو قرأ قارىء ذلك بـالنصب، لكان عندي مـحيلاً معناه ومستـحقّا العقوبة علـى قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك وهو عالـم بخطئه وفساد تأويـله. فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: الـحمد للّه؟ أَحَمَد اللّه نفسَه جل ثناؤه فأثنى علـيها، ثم عَلّـمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا: إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عز ذكره معبود لا عابد؟ أم ذلك من قـيـل جبريـل أو مـحمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقد بطل أن يكون ذلك للّه كلاما. قـيـل: بل ذلك كله كلام اللّه جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى علـيها بـما هو له أهل، ثم عَلّـم ذلك عبـاده وفرض علـيهم تلاوته، اختبـارا منه لهم وابتلاء، فقال لهم: قولوا (الـحمد للّه ربّ العالـمين) وقولوا: (إياك نعبد وإياك نستعين) فقوله: إياك نعبد، مـما عَلّـمَهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بـمعناه. وذلك موصول بقوله الـحمد للّه ربّ العالـمين، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا. فإن قال: وأين قوله: (قولوا) فـيكون تأويـل ذلك ما ادّعيت؟ قـيـل: قد دللنا فـيـما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلـمة ولـم تشك أن سامعها يعرف بـما أظهرت من منطقها ما حذفت، حَذْفُ ما كفـى منه الظاهر من منطقها، ولا سيـما إن كانت تلك الكلـمة التـي حذفت قولاً أو تأويـل قول، كما قال الشاعر: واعْلَـمُ أنّنـي سأكُونُ رَمْساإذَا سارَ النّوَاعجُ لا يَسيرُ فَقالَ السّائلُونَ لِـمَنْ حَفَرْتُـمْفَقالَ الـمُخْبرُونَ لَهُمْ وَزيرُ قال أبو جعفر: يريد بذلك: فقال الـمخبرون لهم: الـميت وزير، فأسقط (الـميت)، إذ كان قد أتـى من الكلام بـما يدل علـى ذلك. وكذلك قول الاَخر: ورَأيْتِ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدا سَيْفـا وَرُمْـحَا وقد علـم أن الرمـح لا يتقلد، وإنـما أراد: وحاملاً رمـحا. ولكن لـما كان معلوما معناه اكتفـى بـما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للـمسافر إذا ودّعوه: مُصَاحَبـا مُعافـى، يحذفون سِرْ واخْرُجْ إذْ كان معلوما معناه وإن أسقط ذكره. فكذلك ما حُذِف من قول اللّه تعالـى ذكره: الـحمدُ للّه ربّ العَالـمينَ لـمّا عُلِـم بقوله جل وعزّ: إياك نَعْبُد ما أراد بقوله: الـحمد للّه ربّ العالـمين من معنى أمره عبـاده، أغنت دلالة ما ظهر علـيه من القول عن إبداء ما حُذف. وقد روينا الـخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ فـي تفسير قول اللّه : الـحَمْدُ للّه رَبّ العالَـمِينَ عن ابن عبـاس ، وأنه كان يقول: إن جبريـل قال لـمـحمد: قل يا مـحمد: الـحمد للّه ربّ العالـمين. وبَـيّنا أن جبريـل إنـما عَلّـمَ مـحَمّدا صلى اللّه عليه وسلم ما أُمِر بتعلـيـمه إياه. وهذا الـخبر ينبىء عن صحة ما قلنا فـي تأويـل ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى:{رَبّ}. قال أبو جعفر: قد مضى البـيان عن تأويـل اسم اللّه الذي هو (اللّه ) فـي (بسم اللّه )، فلا حاجة بنا إلـى تكراره فـي هذا الـموضعوأما تأويـل قوله (رَبّ)، فإن الربّ فـي كلام العرب متصرف علـى معان: فـالسيد الـمطاع فـيها يدعى ربّـا، ومن ذلك قول لبـيد بن ربـيعة: وأهْلَكْنَ يَوْما رَبّ كِنْدَةَ وابنَهوَرَبّ مَعَدّ بـينَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ يعنـي بربّ كندة: سيدَ كندة. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: تَـخُبّ إلـى النّعْمانِ حَتّـى تَنالَهُفِدًى لَكَ منْ رَبَ طَريفـي وتالِدِي والرجل الـمصلـح للشيء يدعى رَبّـا. ومنه قول الفرزدق بن غالب: كانُوا كسَالِئَةٍ حَمْقاءَ إذْ حَقَنَتْسِلأَها فـي أدِيـمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ يعنـي بذلك فـي أديـم غير مصلـح. ومن ذلك قـيـل: إن فلانا يَرُبّ صنـيعته عند فلان، إذا كان يحامل إصلاحها وإدامتها. ومن ذلك قول علقمة بن عبدة: فكنْتَ امْرَأً أفْضَتْ إلَـيْكَ رِبـابَتـيوقَبْلَكَ رَبّتْنـي فَضِعْتُ رُبُوبُ يعنـي بقوله أفضت إلـيك: أي أوصلت إلـيك ربـابتـي، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلـحه لـما خرجتُ من ربـابة غيرك من الـملوك الذين كانوا قبلك علـيّ، فضيعوا أمري وتركوا تفقده. وهم الرّبوب واحدهم رَبّ والـمالك للشيء يدعى رَبّه. وقد يتصرّف أيضا معنى الرب فـي وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلـى بعض هذه الوجوه الثلاثة. فربنا جل ثناؤه، السيد الذي لا شِبْه له، ولا مثل فـي سؤدده، والـمصلـح أمر خـلقه بـما أسبغ علـيهم من نعمه، والـمالك الذي له الـخـلق والأمر. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله جل ثناؤه رَبّ العالَـمِينَ جاءت الرواية عن ابن عبـاس . ١٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: قال جبريـل لـمـحمد: (يا مـحمد قل الـحَمْدُ للّه رَبّ العالَـمِينَ). قال ابن عبـاس : يقول قل الـحمد للّه الذي له الـخـلق كله، السموات كلهن ومن فـيهن، والأرَضون كلهن ومن فـيهن وما بـينهن، مـما يُعلـم ومـما لا يُعلـم. يقول: اعلـم يا مـحمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء. القول فـي تأويـل قوله تعالى: {العَالَـمِينَ}. قاله أبو جعفر: والعالـمون جمع عالـم، والعالَـم جمع لا واحد له من لفظه، كالأنامِ والرهط والـجيش ونـحو ذلك من الأسماء التـي هي موضوعات علـى جماع لا واحد له من لفظه. والعالَـم اسم لأصناف الأمـم، وكل صنف منها عالَـم، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالَـم ذلك القرن وذلك الزمان، فـالإنس عالـم وكل أهل زمان منهم عالَـم ذلك الزمان. والـجن عالَـم، وكذلك سائر أجناس الـخـلق، كل جنس منها عالـم زمانه. ولذلك جُمِع فقـيـل (عالَـمون)، وواحده جمع لكون عالَـم كل زمان من ذلك عالَـم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج: فَخِنْدِفُ هامَةُ هَذَا العالَـمِ فجعلهم عالـم زمانه. وهذا القول الذي قلناه قولُ ابن عبـاس وسعيد بن جبـير، وهو معنى قول عامة الـمفسرين. ١٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : {الـحمد للّه ربّ العالـمين} الـحمد للّه الذي له الـخـلق كله، السموات والأرض ومن فـيهن وما بـينهن، مـما يُعلـم ولا يُعلـم. ١٩ـ وحدثنـي مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبـيب، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : ربّ العالـمين: الـجنّ والإنس. وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مصعب، عن قـيس بن الربـيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، في قول اللّه جل وعزّ: ربّ العالـمين: قال: ربّ الـجن والإنس. ٢٠ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا قـيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قوله: {رب العالـمين} قال: الـجن والإنس. ٢١ـ وحدثنـي أحمد بن عبد الرحيـم البرقـي، قال: حدثنـي ابن أبـي مريـم، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبـير، قوله: رَبّ العالَـمِينَ قال: ابن آدم، والـجن والإنس كل أمة منهم عالَـم علـى حِدَته. ٢٢ـ وحدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن مـجاهد: الـحَمْدُ للّه رَبّ العالَـمِينَ قال: الإنس والـجنّ. وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد: بـمثله. ٢٣ـ وحدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: رَبّ العالَـمِينَ قال: كل صنف: عالَـم. ٢٤ـ وحدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، عن أبـي جعفر، عن ربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية، في قوله: {رَبّ العالَـمِينَ} قال: الإنس عالَـم، والـجن عالَـم، وما سوى ذلك ثمانـية عشر ألف عالـم، أو أربعة عشر ألف عالـم وهو يشك من الـملائكة علـى الأرض، وللأرض أربع زوايا، فـي كل زاوية ثلاثة آلاف عالـم وخمسمائة عالـم، خـلقهم لعبـادته. ٢٥ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنا حجاح، عن ابن جريج، في قوله: رَبّ العالَـمِينَ قال: الـجن والإنس. ٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ } قال أبو جعفر: قد مضى البـيان عن تأويـل قوله (الرحمن الرحيـم)، فـي تأويـل (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. ولـم يحتـج إلـى الإبـانة عن وجه تكرير اللّه ذلك فـي هذا الـموضع، إذ كنا لا نرى أن (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) من فـاتـحة الكتاب آية، فـيكون علـينا لسائلٍ مسألة بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك فـي هذا الـموضع، وقد مضى وصف اللّه عزّ وجلّ به نفسه في قوله (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، مع قرب مكان إحدى الاَيتـين من الاَخرى ومـجاورتها لصاحبتها؟ بل ذلك لنا حجة علـى خطأ دعوى من ادعى أن بسم اللّه الرحمن الرحيـم من فـاتـحة الكتاب آية، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بـمعنى واحد ولفظ واحد مرتـين من غير فصل يفصل بـينهما. وغير موجود فـي شيء من كتاب اللّه آيتان متـجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصل بـينهما من كلام يخالف معناه معناهما، وإنـما يأتـي بتكرير آية بكمالها فـي السورة الواحدة، مع فصول تفصل بـين ذلك، وكلام يُعترض به بغير معنى الاَيات الـمكرّرات أو غير ألفـاظها، ولا فـاصل بـين قول اللّه تبـارك وتعالـى اسمه (الرحمن الرحيـم) من (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، وقول اللّه : (الرحمن الرحيـم)، من (الـحمد للّه رب العالـمين). فإن قال قائل: فإن (الـحمد للّه رب العالـمين) فـاصل بـين ذلك. قـيـل: قد أنكر ذلك جماعةٌ من أهل التأويـل، و قالوا: إن ذلك من الـموخّر الذي معناه التقديـم، وإنـما هو: الـحمد للّه الرحمن الرحيـم رب العالـمين ملك يوم الدين. واستشهدوا علـى صحة ما ادّعوا من ذلك بقوله: (مَلِكِ يَوْم الدّين) فقالوا: إن قوله: (ملك يوم الدين) تعلـيـم من اللّه عبده أن يصفه بـالـمُلْك فـي قراءة من قرأ مَلِك، وبـالـمِلْك فـي قراءة من قرأ (مالك). قالوا: فـالذي هو أولـى أن يكون مـجاور وَصْفه بـالـمُلْك أو الـمِلْك ما كان نظير ذلك من الوصف، وذلك هو قوله (رَبّ العالـمين)، الذي هو خبر عن ملكه جميع أجناس الـخـلق، وأن يكون مـجاور وصفه بـالعظمة والألوهة ما كان له نظيرا فـي الـمعنى من الثناء علـيه، وذلك قوله: الرّحْمَنِ الرّحيـم. فزعموا أن ذلك لهم دلـيـل علـى أن قوله (الرحمن الرحيـم) بـمعنى التقديـم قبل (رب العالـمين)، وإن كان فـي الظاهر مؤخرا. و قالوا: نظائر ذلك من التقديـم الذي هو بـمعنى التأخير والـمؤخر الذي هو بـمعنى التقديـم فـي كلام العرب أفشى وفـي منطقها أكثر من أن يحصى، من ذلك قول جرير بن عطية: طافَ الـخَيالُ وأيْنَ منْكَ لِـمَامافـارْجِعْ لزَوْرِكَ بـالسّلام سَلاما بـمعنى طاف الـخيال لـماما وأين هو منك. وكما قال جل ثناؤه فـي كتابه: {الـحَمْدُ للّه الّذِي أَنْزَلَ علـى عَبْدِهِ الكتابَ وَلـمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَـيّـما} الـمعنى: الـحمد للّه الذي أنزل علـى عبده الكتاب قـيـما يجعل له عوجا، وما أشبه ذلك. ففـي ذلك دلـيـل شاهد علـى صحة قول من أنكر أن تكون (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) من فـاتـحة الكتاب آية. ٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَـَلِكِ يَوْمِ الدّينِ } قال أبو جعفر: القراء مختلفون فـي تلاوة (ملك يوم الدين)، فبعضهم يتلوه: (مَلِكِ يوم الدين)، وبعضهم يتلوه: مالك يوم الدين وبعضهم يتلوه: مالِكَ يوم الدين بنصف الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه فـي ذلك قراءةٌ فـي (كتاب القراءات)، وأخبرنا بـالذي نـختار من القراءة فـيه، والعلة الـموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فـيه، فكرهنا إعادة ذلك فـي هذا الـموضع، إذ كان الذي قصدنا له فـي كتابنا هذا البـيانَ عن وجوه تأويـل أي القرآن دون وجوه قراءتها. ولا خلاف بـين جميع أهل الـمعرفة بلغات العرب، أن الـمَلِكَ من (الـمُلْك) مشتقّ، وأن الـمالك من (الـمِلْك) مأخوذ. فتأويـل قراءة من قرأ ذلك: مَالِكِ يَوْمِ الدّين أن للّه الـملك يوم الدين خالصا دون جميع خـلقه الذين كانوا قبل ذلك فـي الدنـيا ملوكا جبـابرة ينازعونه الـمُلْك ويدافعونه الانفراد بـالكبرياء والعظمة والسلطان والـجبرية. فأيقنوا بلقاء اللّه يوم الدين أنهم الصّغَرة الأذلة، وأن له دونهم ودون غيرهم الـمُلْك والكبرياء والعزّة والبهاء، كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه فـي تنزيـله: يَوْمَ هُمْ بَـارزُونَ لاَ يَخْفَـى علـى اللّه مِنْهُمْ شَيْءٌ لِـمَنِ الـمُلْكُ الـيَوْمَ للّه الوَاحدِ القَهّارِ فأخبر تعالـى أنه الـمنفرد يومئذٍ بـالـمُلْك دون ملوك الدنـيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلـى ذلة وصَغَار، ومن دنـياهم فـي الـمعاد إلـى خسار. وأما تأويـل قراءة من قرأ: مالكِ يَوْمِ الدّينِ، فما: ٢٦ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس: مالكِ يَوْمِ الدّينِ يقول: لا يـملك أحد فـي ذلك الـيوم معه حكما كملكهم فـي الدنـيا. ثم قال: لاَ يَتَكَلّـمُونَ إِلاّ مَنْ أذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وقالَ صَوَابـا، وقال: وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ للرّحْمَنِ، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِـمَنِ ارْتَضَى. قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين بـالآية وأصحّ القراءتـين فـي التلاوة عندي التأويـل الأول وهي قراءة من قرأ (مَلِك) بـمعنى (الـمُلْك) لأن فـي الإقرار له بـالانفراد بـالـملك إيجابـا لانفراده بـالـملك وفضيـلة زيادة الـملك علـى الـمالك، إذ كان معلوما أن لا ملِك إلا وهو مالك، وقد يكون الـمالك لا مَلِكا. وبعد: فإن اللّه جل ذكره قد أخبر عبـاده فـي الآية التـي قبل قوله: مَالِك يَوْمِ الدينِ أنه مالك جميع العالـمين وسيدهم، ومصلـحهم والناظر لهم، والرحيـم بهم فـي الدنـيا والاَخرة بقوله: {الـحَمْدُ للّه رَبّ العَالَـمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ}. فإذا كان جل ذكره قد أنبأهم عن مُلْكهِ إياهم كذلك بقوله: {رَبّ العَالـمينَ} فأولـى الصفـات من صفـاته جل ذكره، أن يتبع ذلك ما لـم يحوه قوله: رَبّ العَالَـمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ مع قرب ما بـين الاَيتـين من الـمواصلة والـمـجاورة، إذ كانت حكمته الـحكمة التـي لا تشبهها حكمة. وكان فـي إعادة وصفه جل ذكره بأنه مالك يوم الدين، إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله: رَبّ العَالَـمِينَ مع تقارب الاَيتـين وتـجاور الصفتـين. وكان فـي إعادة ذلك تكرار ألفـاظ مختلفة بـمعانٍ متفقة، لا تفـيد سامع ما كرّر منه فـائدة به إلـيها حاجة. والذي لـم يحوه من صفـاته جل ذكره ما قبل قوله: مالِكِ يَوْمِ الدّينِ الـمعنى الذي في قوله: (ملك يوم الدين)، وهو وصفه بأنه الـمَلِك. فبـينٌ إذا أن أولـى القراءتـين بـالصواب وأحق التأويـلـين بـالكتاب: قراءة من قرأه: (ملك يوم الدين)، بـمعنى إخلاص الـملك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ: مالك يوم الدين بـمعنى: أنه يـملك الـحكم بـينهم وفصل القضاء متفرّدا به دون سائر خـلقه. فإن ظنّ ظانّ أن قوله: رَبّ العَالَـمِينَ نبأ عن ملكه إياهم فـي الدنـيا دون الاَخرة يوجب وصله بـالنبأ عن نفسه أنه قد ملكهم فـي الاَخرة علـى نـحو مِلْكه إياهم فـي الدنـيا بقوله: مالك يوم الدين، فقد أغفل وظن خطأ وذلك أنه لو جاز لظانّ أن يظنّ أن قوله: رب العالـمين مـحصور معناه علـى الـخبر عن ربوبـية عالـم الدنـيا دون عالـم الاَخرة مع عدم الدلالة علـى أن معنى ذلك كذلك فـي ظاهر التنزيـل، أو فـي خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم به منقول، أو بحجة موجودة فـي الـمعقول، لـجاز لاَخر أن يظن أن ذلك مـحصور علـى عالـم الزمان الذي فـيه نزل قوله: رب العالـمين دون سائر ما يحدث بعده فـي الأزمنة الـحادثة من العالـمين، إذ كان صحيحا بـما قد قدمنا من البـيان أن عالـم كل زمان غير عالـم الزمان الذي بعده. فإن غَبِـيَ عن علـم صحة ذلك بـما قد قدمنا ذو غبـاء، فإن في قول اللّه جل ثناؤه: {ولَقَدْ آتَـيْنَا بَنِـي إِسْرَائِيـلَ الكِتابَ وَالـحُكْمَ والنبُوّةَ وَرَزَقَنَاهُمْ مِنَ الطّيّبـاتِ وَفَضّلْناهُمْ علـى العَالَـمِينَ} دلالة واضحة علـى أن عالَـم كل زمان غير عالـم الزمان الذي كان قبله وعالَـم الزمان الذي بعده. إذ كان اللّه جل ثناؤه قد فضل أمة نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى سائر الأمـم الـخالـية، وأخبرهم بذلك في قوله: كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ الآية. فمعلوم بذلك أن بنـي إسرائيـل فـي عصر نبـينا، لـم يكونوا مع تكذيبهم به صلى اللّه عليه وسلم أفضل العالـمين، بل كان أفضل العالـمين فـي ذلك العصر وبعده إلـى قـيام الساعة، الـمؤمنون به الـمتبعون منهاجه، دونَ منْ سواهم من الأمـم الـمكذّبة الضالّة عن منهاجه. فإذ كان بـينا فساد تأويـل متأوّل لو تأوّل قوله: رب العالـمين أنه معنـيّ به: أن اللّه ربّ عالـميْ زمن نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم دون عالـمي سائر الأزمنة غيره، كان واضحا فساد قول من زعم أن تأويـله: رب عالـم الدنـيا دون عالـم الاَخرة، وأن مالك يوم الدين استـحق الوصل به لـيُعلـم أنه فـي الاَخرة من ملكهم وربوبـيتهم بـمثل الذي كان علـيه فـي الدنـيا. وَيُسْألُ زاعم ذلك الفرق بـينه وبـين متـحكّمٍ مثله فـي تأويـل قوله: رب العالـمين تَـحَكّم، فقال: إنه إنـما عنـي بذلك أنه رب عالـمي زمان مـحمد دون عالـمي غيره من الأزمان الـماضية قبله والـحادثة بعده، كالذي زعم قائلُ هذا القول إنه عنى به عالـم الدنـيا دون عالـم الاَخرة للّه من أصل أو دلالة. فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا أُلزم فـي الاَخر مثله. وأما الزاعم أن تأويـل قوله: مالِكِ يَوْمِ الدّينِ أنه الذي يـملك إقامة يوم الدين، فإن الذي ألزمْنا قائل هذا القول الذي قبله له لازم، إذ كانت إقامة القـيامة إنـما هي إعادة الـخـلق الذين قد بـادوا لهيئاتهم التـي كانوا علـيها قبل الهلاك فـي الدار التـي أعد اللّه لهم فـيها ما أعدّ. وهم العالَـمون الذين قد أخبر جل ذكره عنهم أنه ربهم في قوله: رَبّ العَالَـمِينَ. وأما تأويـل ذلك فـي قراءة من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدّينِ فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصبه بنـيّة النداء والدعاء، كما قال جل ثناؤه: {يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا} بتأويـل: يا يوسف أعرض عن هذا. وكما قال الشاعر من بنـي أسد، وهو شعر فـيـما يقال جاهلـي: إنْ كُنْتَ أزْنَنْتَنِـي بِها كَذِبـاجَزْءُ، فَلاقَـيْتَ مِثْلَها عَجِلاَ يريد: يا جزءُ. وكما قال الاَخر: كَذَبْتُـمْ وبَـيْتِ اللّه لا تَنْكِحُونَهابَنِـي شابَ قَرْناها تَصُرّ وتَـحْلُبُ يريد: يا بنـي شاب قرناها. وإنـما أورطه فـي قراءة ذلك بنصب الكاف من (مالك) علـى الـمعنى الذي وصفت حيرته فـي توجيه قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ وجهته مع جرّ: مالِكِ يَوْمِ الدّين وخفضه، فظن أنه لا يصح معنى ذلك بعد جره: مالكِ يَوْمِ الدّينِ فنصب: (مالكَ يَوْم الدّينِ) لـيكون إياكَ نعبد له خطابـا، كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين. ولو كان علـم تأويـل أول السورة وأن (الـحمد للّه ربّ العالـمين)، أمر من اللّه عبده بقـيـل ذلك كما ذكرنا قبل من الـخبر عن ابن عبـاس : أن جبريـل قال للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، عن اللّه : قل يا مـحمد: الـحمد للّه ربّ العالـمين الرحمن الرحيـم مالك يوم الدين وقل أيضا يا مـحمد: إياك نعبد وإياك نستعين وكان عَقَل عن العرب أن من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن تـخاطب ثم تـخبر عن غائب، وتـخبر عن الغائب ثم تعود إلـى الـخطاب لـما فـي الـحكاية بـالقول من معنى الغائب والـمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلت لأخيك: لو قمتَ لقمتُ، وقد قلت لأخيك: لو قام لقمتُ لسهل علـيه مخرج ما استصعب علـيه وجهته من جر: مالك يَوْمِ الدّينِ ومن نظير (مالك يوم الدين) مـجرورا، ثم عوده إلـى الـخطاب ب(إِياك نعبد) لـما ذكرنا قبل، البـيتُ السائر من شعر أبـي كبـير الهُذَلـي: يا لَهْفَ نَفْسِي كانَ جِدّةُ خالِدٍوبَـياضُ وَجْهِكَ للتّرَابِ الأعْفَرِ فرجع إلـى الـخطاب بقوله: (وبـياض وجهك)، بعد ما قد قضى الـخبر عن خالد علـى معنى الـخبر عن الغائب. ومنه قول لبـيد بن ربـيعة: بـاتَتْ تَشْتَكّي إلـيّ النّفْسُ مُـجْهِشَةًوقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعا بَعْد سَبْعِينا فرجع إلـى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الـخبر عنها علـى وجه الـخبر عن الغائب. ومنه قول اللّه وهو أصدق قـيـل وأثبتُ حجة: { حتّـى إذا كُنْتُـمْ فـي الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} فخاطب ثم رجع إلـى الـخبر عن الغائب، ولـم يقل: (وجرين بكم). والشواهد من الشعر وكلام العرب فـي ذلك أكثر من أن تـحصى، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. فقراءة: (مَالِكَ يَوْمِ الدّينِ) مـحظورة غير جائزة، لإجماع جميع الـحجة من القرّاء وعلـماء الأمة علـى رفض القراءة بها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَوْم الدّينِ}. قال أبو جعفر: والدين فـي هذا الـموضع بتأويـل الـحساب والـمـجازاة بـالأعمال، كما قال كعب بن جُعْيْـل: إذَا ما رَمَوْنا رَمَيْنَاهُمُوَدِنّاهُمْ مِثْلَ ما يُقْرِضُونا وكما قال الاَخر: واعْلَـمْ وأيْقِنْ أنّ مْلْكَكَ زَائِلٌواعْلَـمْ بأنّكَ ما تَدِينُ تُدَانُ يعنـي ما تَـجْزي تـجازى. ومن ذلك قول اللّه جل ثناؤه: { كَلاّ بَلْ تُكَذّبُونَ بـالدّينِ يعنـي بـالـجزاء وَإِنّ عَلَـيْكُمْ لـحَافِظِينَ يحصون ما تعملون من الأعمال.} وقوله تعالى: { فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُـمْ غَيْر مَدِينِـينَ} يعنـي غير مـجزيّـين بأعمالكم ولا مـحاسبـين. وللدين معان فـي كلام العرب غير معنى الـحساب والـجزاء سنذكرها فـي أماكنها إن شاء اللّه . وبـما قلنا فـي تأويـل قوله: يَوْمِ الدّينِ جاءت الاَثار عن السلف من الـمفسرين، مع تصحيح الشواهد لتأويـلهم الذي تأوّلوه فـي ذلك. ٢٧ـ حدثنا أبو كريب مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس: يَوْمِ الدّين قال: يوم حساب الـخلائق هو يوم القـيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، إلا من عفـا عنه، فـالأمرُ أمره. ثم قال: ألاَ لَه الـخَـلْقُ والأمْرُ. ٢٨ـ وحدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد القنّاد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر الهمدانـي، عن إسماعيـل بن عبد الرحمن السدي، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرّة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (ملك يوم الدين): هو يوم الـحساب. ٢٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: مالكِ يَوْمِ الدّينِ قال: يَوم يدين اللّه العبـاد بأعمالهم. ٣٠ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: مالِكِ يَوْم الدّينِ قال: يوم يُدان الناس بـالـحساب. ٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ: لك اللّه م نـخشع، ونذلّ، ونستكين، إقرارا لك يا ربنا بـالربوبـية لا لغيرك. كما: ٣١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: قال جبريـل لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد: إياك نعبد، إياك نوحد ونـخاف ونرجو يا ربّنا لا غيرك. وذلك من قول ابن عبـاس بـمعنى ما قلنا، وإنـما اخترنا البـيان عن تأويـله بأنه بـمعنى نـخشع، ونذل، ونستكين، دون البـيان عنه بأنه بـمعنى نرجو ونـخاف، وإن كان الرجاء والـخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة، وأنها تسمي الطريقَ الـمُذَلّل الذي قد وطئته الأقدام وذللته السابلة: مُعَبّدا. ومن ذلك قول طَرَفة بن العبد: تُبـارِي عِتَاقا ناجياتٍ وأتْبَعَتْوَظِيفـا وَظِيفـا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبّدِ يعنـي بـالـمَوْر: الطريق، وبـالـمعبّد: الـمذلّل الـموطوء. ومن ذلك قـيـل للبعير الـمذلل بـالركوب فـي الـحوائج: مُعَبّد، ومنه سمي العبد عبدا لذلّته لـمولاه. والشواهد من أشعار العرب وكلامها علـى ذلك أكثر من أن تـحصى، وفـيـما ذكرناه كفـاية لـمن وفق لفهمه إن شاء اللّه تعالـى. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ. قال أبو جعفر: ومعنى قوله: وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ وإيّاك ربنا نستعين علـى عبـادتنا إياك وطاعتنا لك وفـي أمورنا كلها لا أحد سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين فـي أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك، ونـحن بك نستعين فـي جميع أمورنا مخـلصين لك العبـادة. كالذي: ٣٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنـي بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس: وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ قال: إياك: نستعين علـى طاعتك وعلـى أمورنا كلها. فإن قال قائل: وما معنى أمر اللّه عبـاده بأن يسألوه الـمعونة علـى طاعته؟ أوَ جائز وقد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم علـيها؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين علـى طاعتك، إلا وهو علـى قوله ذلك معان، وذلك هو الطاعة، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه؟ قـيـل: إن تأويـل ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه وإنـما الداعي ربه من الـمؤمنـين أن يعينه علـى طاعته إياه، داعٍ أن يعينه فـيـما بقـي من عمره علـى ما كلفه من طاعته، دون ما قد تَقَضّى ومضى من أعماله الصالـحة فـيـما خلا من عمره. وجازت مسألة العبد ربّه ذلك لأن إعطاء اللّه عبده ذلك مع تـمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته وافترض علـيه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضّل به علـيه، ولطف منه لطف له فـيه ولـيس فـي تركه التفضل علـى بعض عبـيده بـالتوفـيق مع اشتغال عبده بـمعصيته وانصرافه عن مـحبته، ولا فـي بسطه فضله علـى بعضهم مع إجهاد العبد نفسه فـي مـحبته ومسارعته إلـى طاعته، فساد فـي تدبـير ولا جور فـي حكم، فـيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم اللّه ، وأمره عبده بـمسألته عونه علـى طاعته. وفـي أمر اللّه جل ثناؤه عبـاده أن يقولوا: إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ بـمعنى مسألتهم إياه الـمعونة علـى العبـادة أدل الدلـيـل علـى فساد قول القائلـين بـالتفويض من أهل القدر، الذين أحلوا أن يأمر اللّه أحدا من عبـيده بأمر أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه الـمعونة علـى فعله وعلـى تركه. ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا لبطلت الرغبة إلـى اللّه فـي الـمعونة علـى طاعته، إذ كان علـى قولهم مع وجود الأمر والنهي والتكلـيف حقا واجبـا علـى اللّه للعبد إعطاؤه الـمعونة علـيه، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور. ولو كان الأمر فـي ذلك علـى ما قالوا، لكن القائل: إِيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ إنـما يسأل ربه أن لا يجور. وفـي إجماع أهل الإسلام جميعا علـى تصويب قول القائل: اللّه م إنا نستعينك وتـخطئتهم قول القائل: اللّه م لا تـجر علـينا، دلـيـل واضح علـى خطأ ما قال الذين وصفت قولهم، إذْ كان تأويـل قول القائل عندهم: اللّه م إنا نستعينك، اللّه م لا تترك معونتنا التـي تَرْكُهَا جور منك. فإن قال قائل: وكيف قـيـل: إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ فقدم الـخبر عن العبـادة، وأخرت مسألة الـمعونة علـيها بعدها؟ وإنـما تكون العبـادة بـالـمعونة، فمسألة الـمعونة كانت أحق بـالتقديـم قبل الـمعان علـيه من العمل والعبـادة بها. قـيـل: لـما كان معلوما أن العبـادة لا سبـيـل للعبد إلـيها إلا بـمعونة من اللّه جل ثناؤه، وكان مـحالاً أن يكون العبد عابدا إلا وهو علـى العبـادة معانٌ، وأن يكون معانا علـيها إلا وهو لها فـاعل كان سواء تقديـم ما قدم منهما علـى صاحبه، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إلـيك فـي قضائها: قضيت حاجتـي فأحسنت إلـيّ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك. أو قلت: أحسنت إلـيّ فقضيت حاجتـي، فقدمت ذكر الإحسان علـى ذكر قضاء الـحاجة لأنه لا يكون قاضيا حاجتك إلا وهو إلـيك مـحسن، ولا مـحسنا إلـيك إلا وهو لـحاجتك قاض. فكذلك سواء قول القائل: اللّه م إنا إياك نعبد فأعنّا علـى عبـادتك، وقوله: اللّه م أعنا علـى عبـادتك فإنا إياك نعبد. قال أبو جعفر: وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من الـمقدّم الذي معناه التأخير، كما قال امرؤ القـيس: ولَوْ أَنّ ما أسْعَى لأدنَى مَعِيشَةٍكَفـانِـي ولَـمْ أَطْلُبْ قَلِـيـلٌ مِنَ الـمَالِ يريد بذلك: كفـانـي قلـيـل من الـمال ولـم أطلب كثـيرا. وذلك من معنى التقديـم والتأخير، ومن مشابهة بـيت امرىء القـيس بـمعزلٍ من أجل أنه قد يكفـيه القلـيـل من الـمال ويطلب الكثـير، فلـيس وجود ما يكفـيه منه بـموجب له ترك طلب الكثـير. فـيكون نظير العبـادة التـي بوجودها وجود الـمعونة علـيها، وبوجود الـمعونة علـيها وجودها، ويكون ذكر أحدهما دالاّ علـى الاَخر، فـيعتدل فـي صحة الكلام تقديـم ما قدم منهما قبل صاحبه أن يكون موضوعا فـي درجته ومرتبـا فـي مرتبته. فإن قال: فما وجه تكراره: إِيّاكَ مع قوله: نَسْتَعِينُ وقد تقدم ذلك قبل نعبد؟ وهلا قـيـل: إياك نعبد ونستعين، إذْ كان الـمخبر عنه أنه الـمعبود هو الـمخبر عنه أنه الـمستعان؟ قـيـل له: إن الكاف التـي مع (إيّا)، هي الكاف التـي كانت تتصل بـالفعل، أعنـي بقوله: نَعْبُدُ لو كانت مؤخرة بعد الفعل. وهي كناية اسم الـمخاطب الـمنصوب بـالفعل، فكثُرّتْ ب(إيّا) متقدمة، إذ كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون فـي كلام العرب علـى حرف واحد، فلـما كانت الكاف من (إياك) هي كناية اسم الـمخاطب التـي كانت تكون كافـا وحدها متصلة بـالفعل إذا كانت بعد الفعل، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به، فـيقال: اللّه م إنا نعبدك ونستعينك ونـحمدك ونشكرك وكان ذلك أفصح فـي كلام العرب من أن يقال: اللّه م إنا نعبدك ونستعين ونـحمد كان كذلك إذا قدمت كناية اسم الـمخاطب قبل الفعل موصولة ب(إيّا)، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل. كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلة به، وإن كان ترك إعادتها جائزا. وقد ظن بعض من لـم يـمعن النظر أن إعادة (إياك) مع (نستعين) بعد تقدمها في قوله: إياكَ نَعْبُدُ بـمعنى قول عديّ بن زيد العبـادي: وجاعلُ الشّمْس مِصْرا لا خَفَـاءَ بهِبـينَ النّهارِ وبـينَ اللّـيْـل قَدْ فَصَلاَ وكقول أعشى همدان: بـينَ الأشَجّ وبـينَ قَـيْسٍ بـاذِخٌبَخْ بَخْ لوَالدِه وللـمَوْلُودِ وذلك جهل من قائله من أجل أن حظ (إياك) أن تكون مكرّرة مع كل فعل لـما وصفنا آنفـا من العلة، ولـيس ذلك حكم (بـين) لأنها لا تكون إذا اقتضت اثنـين إلاّ تكريرا إذا أعيدت، إذ كانت لا تنفرد بـالواحد. وأنها لو أفردت بأحد الاسمين فـي حال اقتضائها اثنـين كان الكلام كالـمستـحيـل وذلك أن قائلاً لو قال: الشمس قد فصلت بـين النهار، لكان من الكلام خـلْفـا لنقصان الكلام عما به الـحاجة إلـيه من تـمامه الذي يقتضيه (بـين). ولو قال قائل: (اللّه م إياك نعبد) لكان ذلك كلاما تاما. فكان معلوما بذلك أن حاجة كل كلـمة كانت نظيرة (إياك نعبد) إلـى (إياك) كحاجة (نعبد) إلـيها، وأن الصواب أن تكرّر معها (إياك)، إذ كانت كل كلـمة منها جملة خبر مبتدأ، وبـينا حكم مخالفة ذلك حكم (بـين) فـيـما وفق بـينهما الذي وصفنا قوله. ٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } قال أبو جعفر: ومعنى قوله: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـم فـي هذا الـموضع عندنا: وَفّقنا للثبـات علـيه، كما رُوي ذلك عن ابن عبـاس . ٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس قال: قال جبريـل لـمـحمد: (قل يا مـحمد اهدنا الصراط الـمستقـيـم)، يقول: ألهمنا الطريق الهادي. وإلهامه إياه ذلك هو توفـيقه له كالذي قلنا فـي تأويـله. ومعناه نظير معنى قوله: إيّاكَ نَسْتَعِينُ فـي أنه مسألة العبد ربه التوفـيق للثبـات علـى العمل بطاعته، وإصابة الـحقّ والصواب فـيـما أمره به، ونهاه عنه فـيـما يستقبل من عمره دون ما قد مضى من أعماله، وتقضى فـيـما سلف من عمره، كما في قوله: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ مسألة منه ربه الـمعونة علـى أداء ما قد كلفه من طاعته فـيـما بقـي من عمره. فكان معنى الكلام: اللّه م إياك نعبد وحدك لا شريك لك، مخـلصين لك العبـادة دون ما سواك من الاَلهة والأوثان، فأعنا علـى عبـادتك، ووفقنا لـما وفقت له من أنعمت علـيه من أنبـيائك وأهل طاعتك من السبـيـل والـمنهاج. فإن قال قائل: وأنّـي وجدت الهداية فـي كلام افلعرب بـمعنى التوفـيق؟ قـيـل له: ذلك فـي كلامها أكثر وأظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم فـي ذلك من الشواهد، فمن ذلك قول الشاعر: لا تَـحْرِمَنّـي هَدَاكَ اللّه مَسْءَالتـيولا أكُونَنْ كمَنْ أوْدَى بِهِ السّفَرُ يعنـي به: وفقك اللّه لقضاء حاجتـي. ومنه قول الاَخر: وَلا تُعْجِلَنّـي هَدَاكَ الـمَلِـيكُفإنّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالاَ فمعلوم أنه إنـما أراد: وفقك اللّه لإصابة الـحقّ فـي أمري. ومنه قول اللّه جل ثناؤه: واللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ فـي غير آيَةٍ من تنزيـله. وقد علـم بذلك أنه لـم يعن أنه لا يبـين للظالـمين الواجب علـيهم من فرائضه. وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عمّ بـالبـيان جميع الـمكلفـين من خـلقه؟ ولكنه عنى جلّ وعز، أنه لا يوفقهم، ولا يشرح للـحق والإيـمان صدورهم. وقد زعم بعضهم أن تأويـل قوله: اهْدِنا زدنا هداية. ولـيس يخـلو هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكون قائله قد ظنّ أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم أمر بـمسألة ربه الزيادة فـي البـيان، أو الزيادة فـي الـمعونة والتوفـيق. فإن كان ظن أنه أمر بـمسألة الزيادة فـي البـيان فذلك ما لا وجه له لأن اللّه جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضا من فرائضه إلا بعد تبـيـينه له وإقامة الـحجة علـيه به. ولو كان معنى ذلك معنى مسألته البـيان، لكان قد أمر أن يدعو ربه أن يبـين له ما فرض علـيه، وذلك من الدعاء خـلْف لأنه لا يفرض فرضا إلا مبـينا لـمن فرضه علـيه، أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض علـيه الفرائض التـي لـم يفرضها. وفـي فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك ما يوضح عن أن معنى: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ غير معنى بـين لنا فرائضك وحدودك، أو يكون ظن أنه أمر بـمسألة ربه الزيادة فـي الـمعونة والتوفـيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تـخـلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة فـي الـمعونة علـى ما قد مضى من عمله، أو علـى ما يحدث. وفـي ارتفـاع حاجة العبد إلـى الـمعونة علـى ما قد تَقَضّى من عمله ما يعلـم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنـما هو مسألته الزيادة لـما يحدث من عمله. وإذا كان ذلك كذلك صار الأمر إلـى ما وصفنا وقلنا فـي ذلك من أنه مسألة العبد ربه التوفـيق لأداء ما كلف من فرائضه فـيـما يستقبل من عمره. وفـي صحة ذلك فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضا، فقد أعطي من الـمعونة علـيه ما قد ارتفعت معه فـي ذلك الفرض حاجته إلـى ربه لأنه لو كان الأمر علـى ما قالوا فـي ذلك لبطل معنى قول اللّه جل ثناؤه: إِيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ وفـي صحة معنى ذلك علـى ما بـينا فسادُ قولهم. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ: أَسْلِكْنا طريق الـجنة فـي الـمعاد، أي قدمنا له وامض بنا إلـيه، كما قال جل ثناؤه: فـاهْدُوهُمْ إلـى صِرَاطِ الـجَحِيـمِ أي أدخـلوهم النار كما تُهدى الـمرأة إلـى زوجها، يعنـي بذلك أنها تدخـل إلـيه، وكما تُهدى الهدية إلـى الرجل، وكما تَهْدِي الساقَ القدمُ نظير قول طرفة بن العبد: لَعِبَتْ بَعْدِي السّيُولُ بِهِوجَرَى فـي رَوْنَقٍ رِهَمُهْ للفَتـى عَقْلٌ يَعِي بِهِحَيْثُ تَهْدِي ساقَهُ قَدَمَهُ أي ترد به الـموارد. وفي قول اللّه جل ثناؤه: إيّاكَ نَعْبُدُ وإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ما ينبىء عن خطأ هذا التأويـل مع شهادة الـحجة من الـمفسرين علـى تـخطئته وذلك أن جميع الـمفسرين من الصحابة والتابعين مـجمعون علـى أن معنى (الصراط) فـي هذا الـموضع غير الـمعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ مسألة العبد ربه الـمعونة علـى عبـادته، فكذلك قوله (اهدنا)، إنـما هو مسألة الثبـات علـى الهدى فـيـما بقـي من عمره. والعرب تقول: هديت فلانا الطريق، وهديته للطريق، وهديته إلـى الطريق: إذا أرشدته إلـيه وسددته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال اللّه جل ثناؤه: وقالُوا الـحَمْدُ للّه الّذِي هَدَانَا لَهَذَا وقال فـي موضع آخر: اجْتبَـاهُ وَهَدَاهُ إلـى صِرَاطٍ مسْتَقِـيـمٍ وقال: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ وكل ذلك فـاشٍ فـي منطقها موجود فـي كلامها، من ذلك قول الشاعر: أسْتَغْفِرُ اللّه ذَنْبـا لَسْتُ مُـحْصِيَهُرَبّ العِبـادِ إلَـيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ يريد: أستغفر اللّه لذنب، كما قال جل ثناؤه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: فَـيَصِيدُنا العَيَر الـمُدِلّ بِحُضْرِهِقَبْلَ الوَنى والأشْعَب النّبّـاحا يريد: فـيصيد لنا. وذلك كثـير فـي أشعارهم وكلامهم، وفـيـما ذكرنا منه كفـاية. القول فـي تأويـل قوله تعالى: الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ. قال أبو جعفر: أجمعت الأمة من أهل التأويـل جميعا علـى أن الصراط الـمستقـيـم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فـيه. وكذلك ذلك فـي لغة جميع العرب فمن ذلك قول جرير بن عطية الـخطفـي: أمِيرُ الـمُؤْمِنِـينَ علـى صِرَاطِإذا اعْوَجّ الـمَوَارِدُ مُسْتَقِـيـمِ يريد علـى طريق الـحقّ. ومنه قول الهذلـي أبـي ذؤيب: صَبَحْنا أرضَهُمْ بـالـخَيْـلِ حتّـىتَرْكْناها أدَقّ مِنَ الصّرَاطِ ومنه قول الراجز: فَصُدّ عَنْ نَهْجِ الصّرَاطِ القَاصِدِ والشواهد علـى ذلك أكثر من أن تـحصى، وفـيـما ذكرنا غنى عما تركنا. ثم تستعير العرب الصراط فتستعلـمه فـي كل قول وعمل وصف بـاستقامة أو اعوجاج، فتصف الـمستقـيـم بـاستقامته، والـمعوجّ بـاعوجاجه. والذي هو أولـى بتأويـل هذه الآية عندي، أعنـي: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ أن يكونا معنـيا به: وَفّقنا للثبـات علـى ما ارتضيته ووفقتَ له من أنعمتَ علـيه من عبـادك، من قول وعمل. وذلك هو الصراط الـمستقـيـم، لأن من وفق لـما وفق له من أنعم اللّه علـيه من النبـيـين والصديقـين والشهداء، فقد وفق للإسلام، وتصديق الرسل، والتـمسك بـالكتاب، والعمل بـما أمر اللّه به، والانزجار عما زجره عنه، واتبـاع منهج النبـي صلى اللّه عليه وسلم، ومنهاج أبـي بكر وعمر وعثمان وعلـيّ، وكل عبد للّه صالـح. وكل ذلك من الصراط الـمستقـيـم. وقد اختلفت تراجمة القرآن فـي الـمعنى بـالصراط الـمستقـيـم، يشمل معانـي جميعهم فـي ذلك ما اخترنا من التأويـل فـيه. ومـما قالته فـي ذلك، ما رُوي عن علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال وذَكَرَ القُرآنَ فَقَال: (هُوَ الصّرَاطُ الْـمُسْتَقِـيـمُ). ٣٤ـ حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي قال: حدثنا حسين الـجعفـي، عن حمزة الزيات، عن أبـي الـمختار الطائي، عن ابن أخي الـحارث، عن الـحارث، عن علـيّ، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم. وحدثنا عن إسماعيـل بن أبـي كريـمة، قال: حدثنا مـحمد بن سلـمة، عن أبـي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبـي البختري، عن الـحارث، عن علـيّ، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم مثله. وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبـي الـمختار الطائي، عن ابن أخي الـحارث الأعور، عن الـحارث، عن علـيّ، قال: (الصّرَاطُ الـمُسْتَقِـيـمُ كِتابُ اللّه تعالـى). ٣٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان ح. وحدثنا مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن منصور عن أبـي وائل، قال: قال عبد اللّه : (الصراط الـمستقـيـم كتاب اللّه ). ٣٦ـ حدثنـي مـحمود بن خداش الطالقانـي، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، قال: حدثنا علـيّ والـحسن ابنا صالـح جميعا، عن عبد اللّه بن مـحمد بن عقـيـل، عن جابر بن عبد اللّه . اهدنا الصراط الـمستقـيـم قال: الإسلام، قال: هو أوسع مـما بـين السماء والأرض. ٣٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: قال جبريـل لـمـحمد: قل يا مـحمد: اهدنا الصراط الـمستقـيـم، يقول ألهمنا الطريق الهادي وهو دين اللّه الذي لا عوج له. ٣٨ـ وحدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفرات بن السائب، عن ميـمون بن مهران، عن ابن عبـاس في قوله: اهْدِنا الصرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ قال: ذلك الإسلام. ٣٩ـ وحدثنـي مـحمود بن خداش، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة الكلابـي، عن إسماعيـل الأزرق، عن أبـي عمر البزار، عن ابن الـحنفـية في قوله: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ قال: هو دين اللّه الذي لا يقبل من العبـاد غيره. ٤٠ـ وحدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن طلـحة القناد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: اهْدِنا الصْرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ قال: هو الإسلام. ٤١ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عبـاس في قوله: اهْدِنا الصرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ قال: الطريق. ٤٢ـ حدثنا عبد اللّه بن كثـير أبو صديف الاَملـي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن أبـي الـمغيرة، عن عاصم، عن أبـي العالـية في قوله: اهْدِنَا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ قال: هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصاحبـاه من بعده: أبو بكر وعمر قال: فذكرت ذلك للـحسن، فقال: صدق أبو العالـية ونصح. ٤٣ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلـم: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ قال: الإسلام. ٤٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، أن عبد الرحمن بن جبـير، حدثه عن أبـيه، عن نواس بن سمعان الأنصاري، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ضَرَبَ اللّه مَثَلاً صرَاطا مُسْتَقِـيـما). وَالصّرَاطُ: الإسْلامُ. حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا اللـيث عن معاوية بن صالـح، عن عبد الرحمن بن جبـير بن نفـير، عن أبـيه عن نواس بن سمعان الأنصاري، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم بـمثله. قال أبو جعفر: وإنـما وصفه اللّه بـالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فـيه. وقد زعم بعض أهل الغبـاء أنه سماه مستقـيـما لاستقامته بأهله إلـى الـجنة، وذلك تأويـلٌ لتأويـل جميع أهل التفسير خلاف، وكفـى بإجماع جميعهم علـى خلافه دلـيلاً علـى خطئه. ٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ } وقوله: صِرَاطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ إبـانة عن الصراط الـمستقـيـم أي الصراط هو، إذ كان كل طريق من طرق الـحقّ صراطا مستقـيـما، فقـيـل لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد: اهدنا يا ربنا الصراط الـمستقـيـم، صراط الذين أنعمت علـيهم، بطاعتك وعبـادتك من ملائكتك، وأنبـيائك، والصديقـين، والشهداء، والصالـحين. وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه فـي تنزيـله: وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكان خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْشْبِـيتا وإذا لاَتَـيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنّا أجْرا عَظِيـما ولَهَدَيْناهُمْ صِرَاطا مُسْتَقِـيـما وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ فَـاولَئِكَ مَعَ الذّينَ أنْعَمَ اللّه عَلَـيْهِمْ مِنَ النّبِـيّـينَ وَالصّدّيقِـينَ والشهَدَاءِ وَالصالِـحِينَ. قال أبو جعفر: فـالذي أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته أن يسألوه ربهم من الهداية للطريق الـمستقـيـم، هي الهداية للطريق الذي وصف اللّه جل ثناؤه صفته. وذلك الطريق هو طريق الذي وصفهم اللّه بـما وصفهم به فـي تنزيـله، ووعد من سَلَكه فـاستقام فـيه طائعا للّه ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم، أن يورده مواردهم، واللّه لا يخـلف الـميعاد. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن ابن عبـاس وغيره. ٤٥ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمَتَ عَلَـيْهِمْ يقول: طريق من أنعمت علـيـم بطاعتك وعبـادتك من الـملائكة والنبـيـين والصديقـين والشهداء والصالـحين، الذين أطاعوك وعبدوك. ٤٦ـ وحدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: أخبرنا عبـيد اللّه بن موسى، عن أبـي جعفر عن ربـيع: صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ قال: النبـيون. ٤٧ـ وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ قال: الـمؤمنـين. ٤٨ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: قال وكيع أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ: الـمسلـمين. ٤٩ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول اللّه : صِرَاطَ الذِينَ أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ قال: النبـي صلى اللّه عليه وسلم ومن معه. قال أبو جعفر: وفـي هذه الآية دلـيـل واضح علـى أن طاعة اللّه جل ثناؤه لا ينالها الـمطيعون إلا بإنعام اللّه بها علـيهم وتوفـيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبـادة إلـى أنه إنعام منه علـيهم؟ فإن قال قائل: وأين تـمام هذا الـخبر، وقد علـمت أن قول القائل لاَخر: أنعمت علـيك، مقتض الـخبر عما أنعم به علـيه، فأين ذلك الـخبر في قوله: صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ وما تلك النعمة التـي أنعمها علـيهم؟ قـيـل له: قد قدمنا البـيان فـيـما مضى من كتابنا هذا عن اجتزاء العرب فـي منطقها ببعض من بعض إذا كان البعض الظاهر دالاّ علـى البعض البـاطن وكافـيا منه، فقوله: صِرَاطَ الّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ من ذلك لأن أمر اللّه جل ثناؤه عبـاده بـمسألته الـمعونة وطلبهم منه الهداية للصراط الـمستقـيـم لـما كان متقدما قوله: صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ الذي هو إبـانة عن الصراط الـمستقـيـم، وإبدالٌ منه، كان معلوما أن النعمة التـي أنعم اللّه بها علـى من أمرنا بـمسألته الهداية لطريقهم هو الـمنهاج القويـم والصراط الـمستقـيـم الذي قد قدمنا البـيان عن تأويـله آنفـا، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك مع قرب تـجاور الكلـمتـين مغنـيا عن تكراره كما قال نابغة بنـي ذبـيان: كأنكَ منْ جِمالِ بَنـي أُقَـيْشٍيُقْعْقَعُ خَـلْفَ رِجْلَـيْهِ بِشَنّكشع يريد كأنك من جمال بنـي أقـي٥جمل يقعقع خـلف رجلـيه بشنّ، فـاكتفـى بـما ظهر من ذكر الـجمال الدال علـى الـمـحذوف من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب: تَرَى أرْبـاقَهُمْ مُتَقَلّدِيهاإذَا صَدِىءَ الـحَديدُ علـى الكُماةِ يريد: متقلديها هم، فحذف (هم) إذ كان الظاهر من قوله: (أربـاقهم) دالاّ علـيها. والشواهد علـى ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تـحصى، فكذلك ذلك في قوله: صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: غَيْرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ. قال أبو جعفر: والقراء مـجمعة علـى قراءة (غير) بجرّ الراء منها. والـخفض يأتـيها من وجهين: أحدهما أن يكون غير صفة للذين ونعتا لهم فتـخفضها، إذ كان (الذين) خفضا وهي لهم نعت وصفة وإنـما جاز أن يكون (غير) نعتا ل(الذين)، و(الذين) معرفة وغير نكرة لأن (الذين) بصلتها لـيست بـالـمعرفة الـمؤقتة كالأسماء التـي هي أمارات بـين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك وإنـما هي كالنكرات الـمـجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك فما كان (الذين) كذلك صفتها، وكانت غير مضافة إلـى مـجهول من الأسماء نظير (الذين) فـي أنه معرفة غير مؤقتة كما (الذين) معرفة غير مؤقتة، جاز من أجل ذلك أن يكون: غير الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ نعتا ل الذين أنعمت علـيهم كما يقال: لا أجلس إلا إلـى العالـم غير الـجاهل، يراد: لا أجلس إلا إلـى من يعلـم، لا إلـى من يجهل. ولو كان الذين أنعمت علـيهم معرفة مؤقتة كان غير جائز أن يكون غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ لها نعتا، وذلك أنه خطأ فـي كلام العرب إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة أن تلزم نعتها النكرة إعراب الـمعرفة الـمنعوت بها، إلا علـى نـية تكرير ما أعرب الـمنعت بها. خطأٌ فـي كلامهم أن يقال: مررت بعبد اللّه غير العالـم، فتـخفض (غير) إلا علـى نـية تكرير البـاء التـي أعربت عبد اللّه ، فكان معنى ذلك لو قـيـل كذلك: مررت بعبد اللّه ، مررت بغير العالـم. فهذا أحد وجهي الـخفض فـي: غيرَ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ. والوجه الاَخر من وجهي الـخفض فـيها أن يكون (الذين) بـمعنى الـمعرفة الـمؤقتة. وإذا وجه إلـى ذلك، كانت غير مخفوضة بنـية تكرير الصراط الذي خفض الذين علـيها، فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت علـيهم صراط غير الـمغضوب علـيهم. وهذان التأويلان فـي غير الـمغضوب علـيهم، وإن اختلفـا بـاختلاف معربـيهما، فإنهما يتقارب معناهما من أجل أن من أنعم اللّه علـيه فهداه لدينه الـحق فقد سلـم من غضب ربه ونـجا من الضلال فـي دينه، فسواءٌ إذ كان سامع قوله: اهْدِنَا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَـيْهِمْ غير جائز أن يرتاب مع سماعه ذلك من تالـيه فـي أن الذين أنعم اللّه علـيهم بـالهداية للصراط، غير غاضب ربهم علـيهم مع النعمة التـي قد عظمت منته بها علـيهم فـي دينهم، ولا أن يكونوا ضلالاً وقد هداهم للـحق ربهم، إذْ كان مستـحيلاً فـي فطرهم اجتـماع الرضا من اللّه جل ثناؤه عن شخص والغضب علـيه فـي حال واحدة واجتـماع الهدى والضلال له فـي وقت واحد أَوُصِف القوم مع وصف اللّه إياهم بـما وصفهم به من توفـيقه إياهم وهدايته لهم وإنعامه علـيهم بـما أنعم اللّه به علـيهم فـي دينهم بأنهم غير مغضوب علـيهم ولا هم ضالون، أم لـم يوصفوا بذلك لأن الصفة الظاهرة التـي وصفوا بها قد أنبأت عنهم أنهم كذلك وإن لـم يصرّح وصفهم به. هذا إذا وجهنا (غير) إلـى أنها مخفوضة علـى نـية تكرير الصراط الـخافض الذين، ولـم نـجعل غير الـمغضوب علـيهم ولا الضالـين من صفة الذين أنعمت علـيهم بل إذا جعلناهم غيرهم وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَما علـيهما فـي أديانهم. فأما إذا وجهنا: غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ وَلاَ الضّالّـينَ إلـى أنها من نعت الذين أنعمت علـيهم فلا حاجة بسامعه إلا الاستدلال، إذْ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدلـيـل، وقد يجوز نصب (غير) فـي غير الـمغضوب علـيهم وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذّ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلاً ظاهرا مستفـيضا، فرأي للـحق مخالف وعن سبـيـل اللّه وسبـيـل رسوله صلى اللّه عليه وسلم وسبـيـل الـمسلـمين متـجانف، وإن كان له لو كانت القراءة جائزة به فـي الصواب مخرج. وتأويـل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجه إلـى أن يكون صفة للّهاء والـميـم اللتـين فـي (علـيهم) العائدة علـى (الذين)، لأنها وإن كانت مخفوضة ب(علـى)، فهي فـي مـحل نصب بقوله: (أنعمت). فكأن تأويـل الكلام إذا نصبت (غير) التـي مع (الـمغضوب علـيهم): صراط الذين هديتهم إنعاما منك علـيهم غير مغضوب علـيهم، أي لا مغضوبـا علـيهم ولا ضالـين. فـيكون النصب فـي ذلك حينئذٍ كالنصب فـي (غير) فـي قولك: مررت بعبد اللّه غير الكريـم ولا الرشيد، فتقطع غير الكريـم من عبد اللّه ، إذ كان عبد اللّه معرفة مؤقتة وغير الكريـم نكرة مـجهولة. وقد كان بعض نـحويـي البصريـين يزعم أن قراءة من نصب (غير) فـي غير الـمغضوب علـيهم علـى وجه استثناء غير الـمغضوب علـيهم من معانـي صفة الذين أنعمت علـيهم، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرءوا ذلك نصبـا: اهدنا الصراط الـمستقـيـم صراط الذين أنعمت علـيهم إلا الـمغضوب علـيهم الذين لـم تنعم علـيهم فـي أديانهم ولـم تهدهم للـحق، فلا تـجعلنا منهم كما قال نابغة بنـي ذبـيان: وَقَـفْتُ فـيها أُصَيْلالاً أُسائلُهاأعْيَتْ جَوَابـا وَما بـالرّبْع منْ أحَدِ إِلاّ أَوَارِيّ ءَلايا مَا أُبَـيّنُهاوالنّءْويُ كالـحَوْضِ بـالـمَظْلُومَةِ الـجَلَدِ وأَلاواري معلوم أنها لـيست من عداد أحد فـي شيء. فكذلك عنده استثنى غير الـمغضوب علـيهم من الذين أنعمت علـيهم، وإن لـم يكونوا من معانـيهم فـي الدين فـي شيء. وأما نـحويو الكوفـيـين فأنكروا هذا التأويـل واستـخطئوه، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة لكان خطأ أن يقال: ولا الضالـين لأن (لا) نفـي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا علـى جحد و قالوا: لـم نـجد فـي شيء من كلام العرب استثناء يعطف علـيه بجحد، وإنـما وجدناهم يعطفون علـى الاستثناء بـالاستثناء، وبـالـجحد علـى الـجحد فـيقولون فـي الاسثتناء: قام القوم إلا أخاك وإلا أبـاك وفـي الـجحد: ما قام أخوك، ولا أبوك وأما قام القوم إلا أبـاك ولا أخاك، فلـم نـجده فـي كلام العرب قالوا: فلـما كان ذلك معدوما فـي كلام العرب وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله، علـمنا إذ كان قوله: ولا الضالـين معطوفـا علـى قوله: غير الـمغضوب علـيهم أن (غير) بـمعنى الـجحد لا بـمعنى الاستثناء، وأن تأويـل من وجهها إلـى الاستثناء خطأ. فهذه أوجه تأويـل غير الـمغضوب علـيهم. بـاختلاف أوجه إعراب ذلك. وإنـما اعترضنا بـما اعترضْنا فـي ذلك من بـيان وجوه إعرابه، وإن كان قصدنا فـي هذا الكتاب الكشف عن تأويـل أي القرآن، لـما فـي اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويـله، فـاضطرّتنا الـحاجة إلـى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويـله وجوه تأويـله علـى قدر اختلاف الـمختلفة فـي تأويـله وقراءته. والصواب من القول فـي تأويـله وقراءته عندنا القول الأول، وهو قراءة: غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ بخفض الراء من (غير) بتأويـل أنها صفة للذين أنعمت علـيهم ونعت لهم لـما قد قدمنا من البـيان إن شئت، وإن شئت فبتأويـل تكرار (صراط) كل ذلك صواب حسن. فإن قال لنا قائل: فمن هؤلاء الـمغضوب علـيهم الذين أمرنا اللّه جل ثناؤه بـمسألته أن لا يجعلنا منهم؟ قـيـل: هم الذين وصفهم اللّه جل ثناؤه فـي تنزيـله فقال: قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذلكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّه مَنْ لَعنَهُ اللّه وغَضِبَ عَلَـيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ القِرَدَةَ والـخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرّ مَكانا وأضَلّ عَنْ سَوَاءِ السّبِـيـلِ فأعلـمنا جل ذكره بـمنه ما أحلّ بهم من عقوبته بـمعصيتهم إياه، ثم علـمنا، مِنّةً منه علـينا، وجه السبـيـل إلـى النـجاة، من أن يحل بنا مثل الذي حلّ بهم من الـمَثُلات، ورأفة منه بنا. فإن قـيـل: وما الدلـيـل علـى أنهم أولاء الذين وصفهم اللّه وذكر نبأهم فـي تنزيـله علـى ما وصفت قـيـل: ٥٠ـ حدثنـي أحمد بن الولـيد الرملـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن جعفر الرقـي، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي، عن عديّ بن حاتـم قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الـمَغْضُوبُ عَلَـيْهِمْ: الـيَهُودُ). وحدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب، قال: سمعت عبـاد بن حبـيش يحدّث عن عديّ بن حاتـم قال: قال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الـمَغْضُوبَ عَلَـيْهِمْ: الـيَهُودُ). وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن حماد بن سلـمة، عن سماك بن حرب، عن مُرّي بن قَطَري، عن عدي بن حاتـم قال: سألت النبـي صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه جل وعز: غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ قال: (هُمُ الـيَهُودُ). ٥١ـ وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا الـجريري عن عبد اللّه بن شقـيق: أن رجلاً أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مـحاصرٌ وادي القرى فقال: من هؤلاء الذين تـحاصر يا رسول اللّه ؟ قال: (هَولاءِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ: الـيَهُودُ). وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد الـجريري، عن عروة، عن عبد اللّه بن شقـيق، أن رجلاً أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر نـحوه. ٥٢ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن بديـل العقـيـلـي، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن شقـيق أنه أخبره من سمع النبـي صلى اللّه عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو علـى فرسه وسأله رجل من بنـي القـين، فقال: يا رسول اللّه من هؤلاء؟ قال: (الـمَغْضُوبُ عَلَـيْهِمْ) وأشار إلـى الـيهود. وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الـحذاء، عن عبد اللّه بن شقـيق، أن رجلاً سأل النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نـحوه. ٥٣ـ وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : غيرِ الـمَغُضُوبِ عَلَـيْهِمْ يعنـي الـيهود الذين غضب اللّه علـيهم. ٥٤ـ وحدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن طلـحة، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ هم الـيهود. ٥٥ـ وحدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن مـجاهد، قال: غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ قال: هم الـيهود. ٥٦ـ حدثنا أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن أبـي جعفر، عن ربـيع: غيرِ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ قال: الـيهود. ٥٧ـ وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : غيرٍ الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ قال: الـيهود. ٥٨ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: غير الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ الـيهود. ٥٩ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي ابن زيد، عن أبـيه، قال: الـمَغْضُوبِ عَلَـيْهِمْ الـيهود. قال أبو جعفر: واختلف فـي صفة الغضب من اللّه جل ذكره فقال بعضهم: غضب اللّه علـى من غضب علـيه من خـلقه إحلالُ عقوبته بـمن غضب علـيه، إما فـي دنـياه، وإما فـي آخرته، كما وصف به نفسه جل ذكره فـي كتابه فقال: {فَلَـمّا آسَفُونا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجمَعينَ} وكما قال: قُلْ هَلْ أُنَبئُكُمْ بشَرّ منْ ذلكَ مَثُوبَةً عنْدَ اللّه مَنْ لَعَنَهُ اللّه وغَضِبَ عَلَـيْهِ وَجَعَلَ منهُمُ القِرَدَةَ والـخَنازِيرَ. وقال بعضهم: غضب اللّه علـى من غضب علـيه من عبـاده ذمّ منه لهم ولأفعالهم، وشتـم منه لهم بـالقول. وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معانـي الغضب. غير أنه وإن كان كذلك من جهة الإثبـات، فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الاَدميـين الذين يزعجهم ويحركهم ويشقّ علـيهم ويؤذيهم لأن اللّه جل ثناؤه لا تـحل ذاته الاَفـات، ولكنه له صفة كما العلـم له صفة، والقدرة له صفة علـى ما يعقل من جهة الإثبـات، وإن خالفت معانـي ذلك معانـي علوم العبـاد التـي هي معارف القلوب وقواهم التـي توجد مع وجود الأفعال وتُعدم مع عدمها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلا الضّالِـينَ. قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن (لا) مع (الضالـين) أدخـلت تتـميـما للكلام والـمعنى إلغاؤها، ويستشهد علـى قـيـله ذلك ببـيت العجاج: فـي بِئْرٍ لا حُورً سَرَى وَما شَعَرْ ويتأوله بـمعنى: فـي بئر حُورٍ سَرَى، أي فـي بئر هلكة، وأنّ (لا) بـمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك يقول أبـي النـجم: فَمَا ألُوم البِـيضَ أنْ لا تَسْخَرَالَـمّا رأيْنَ الشّمَطَ القَـفَنْدَرَا وهو يريد: فما ألوم البـيض أن تسخر. وبقول الأحوص: ويَـلْـحَيْنَنِـي فـي اللّه وِ أنْ لا أحِبّهُوللّهوِ داعٍ دائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ يريد: ويـلـحينَنـي فـي اللّه و أن أحبه. وبقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أنْ لا تَسْجُدَ يريد أن تسجد. وحكي عن قائل هذه الـمقالة أنه كان يتأول (غير) التـي (مع الـمغضوب علـيهم) أنها بـمعنى (سوى)، فكأن معنى الكلام كان عنده: اهدنا الصراط الـمستقـيـم صراط الذين أنعمت علـيهم الذين هم سوى الـمغضوب علـيهم والضالـين. وكان بعض نـحويـي الكوفة يستنكر ذلك من قوله، ويزعم أن (غير) التـي (مع الـمغضوب علـيهم) لو كانت بـمعنى (سوى) لكان خطأ أن يعطف علـيها ب(لا)، إذ كانت (لا) لا يعطف بها إلا علـى جحد قد تقدمها، كما كان خطأ قول القائل: عندي سوى أخيك، ولا أبـيك لأن (سوى) لـيست من حروف النفـي والـجحود و يقول: لـما كان ذلك خطأ فـي كلام العرب، وكان القرآن بأفصح اللغات من لغات العرب، كان معلوما أن الذي زعمه القائل أن (غير مع الـمغضوب) علـيهم بـمعنى: (سوى الـمغضوب علـيهم) خطأ، إذ كان قد كرّ علـيه الكلام ب(لا). وكان يزعم أن (غير) هنالك إنـما هي بـمعنى الـجحد، إذ كان صحيحا فـي كلام العرب وفـاشيا ظاهرا فـي منطقها توجيه (غير) إلـى معنى النفـي ومستعملاً فـيهم: أخوك غير مـحسن ولا مـجمل، يراد بذلك أخوك لا مـحسن، ولا مـجمل، ويستنكر أن تأتـي (لا) بـمعنى الـحذف فـي الكلام مبتدأً ولـمّا يتقدمها جحد، و يقول: لو جاز مـجيئها بـمعنى الـحذف مبتدأ قبل دلالة تدل علـى ذلك من جحد سابق، لصح قول قائل قال: أردت أن لا أكرم أخاك، بـمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففـي شهادة أهل الـمعرفة بلسان العرب علـى تـخطئه قائل ذلك دلالة واضحة علـى أن (لا) لا تأتـي مبتدأة بـمعنى الـحذف، ولـمّا يتقدمها جحد. وكان يتأول فـي (لا) التـي فـي بـيت العجاج الذي ذكرنا أن البصري استشهد به بقوله إنها جحد صحيح، وأن معنى البـيت: سرى فـي بئر لا تُـحِيرُ علـيه خيرا، ولا يتبـين له فـيها أثرُ عمل، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به. من قولهم: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا أي لـم يتبـين لها أثر عمل. ويقول فـي سائر الأبـيات الأخر، أعنـي مثل بـيت أبـي النـجم: فَمَا ألُومُ البِـيضَ أنْ لا تَسْخَرَا إنـما جاز أن تكون (لا) بـمعنى الـحذف، لأن الـجحد قد تقدمها فـي أول الكلام، فكان الكلام الاَخر مواصلاً للأول، كما قال الشاعر: ما كانَ يَرْضَى رَسُولُ اللّه فِعْلَهُمُوَالطّيّبـان أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ فجاز ذلك، إذ كان قد تقدم الـجحد فـي أول الكلام. قال أبو جعفر: وهذا القول الاَخر أولـى بـالصواب من الأول، إذ كان غير موجود فـي كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب(لا) التـي معناها الـحذف، ولا جائز العطف بها علـى (سوى)، ولا علـى حرف الاستثناء. وإنـما ل(غير) فـي كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والاَخر الـجحد، والثالث سوى، فإذا ثبت خطأ (لا) أن يكون بـمعنى الإلغاء مبتدأ وفسد أن يكون عطفـا علـى (غير) التـي مع (الـمغضوب علـيهم)، لو كانت بـمعنى (إلا) التـي هي استثناء، ولـم يجز أيضا أن يكون عطفـا علـيها لو كانت بـمعنى (سوى)، وكانت (لا) موجودة عطفـا بـالواو التـي هي عاطفة لها علـى ما قبلها، صحّ وثبت أن لا وجه ل(غير) التـي مع (الـمغضوب علـيهم) يجوز توجيهها إلـيه علـى صحة إلا بـمعنى الـجحد والنفـي، وأن لا وجه لقوله: (ولا الضالـين)، إلا العطف علـى (غير الـمغضوب علـيهم). فتأويـل الكلام إذا إذ كان صحيحا ما قلنا بـالذي علـيه استشهدنا: اهدنا الصراط الـمستقـيـم صراط الذين أنعمت علـيهم لا الـمغضوب علـيهم ولا الضالـين. فإن قال لنا قائل: ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا اللّه بـالاستعاذة بـاللّه أن يسلك بنا سبـيـلهم، أو نضل ضلالهم؟ قـيـل: هم الذين وصفهم اللّه فـي تنزيـله، فقال: يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا فـي دِينِكُمْ غيرَ الـحَقّ ولا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا منْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثـيرا وضَلّوا عَنْ سَوَاء السّبِـيـلِ فإن قال: وما برهانك علـى أنهم أولاء؟ قـيـل: ٦٠ـ حدثنا أحد بن الولـيد الرملـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن جعفر، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي، عن عديّ بن أبـي حاتـم، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ولا الضّالّـينَ قال: (النّصارى). حدثنا مـحمد بن الـمثنى، أنبأنا مـحمد بن جعفر، أنبأنا شعبة عن سماك، قال: سمعت عبـاد بن حبـيش يحدث عن عديّ بن حاتـم، قال: قال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الضّالّـينَ: النّصَارَى). وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم وعبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن حماد بن سلـمة، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عديّ بن حاتـم، قال: سألت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه وَلا الضّالّـينَ قال: (النّصَارَى هُمُ الضّالونَ). ٦١ـ وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا الـجريري، عن عبد اللّه بن شقـيق: أن رجلاً أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مـحاصر وادي القرى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: (هَؤُلاءِ الضّالونَ: النّصَارَى). وحدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد الـجريري، عن عروة، يعنـي ابن عبد اللّه بن قـيس، عن عبد اللّه بن شقـيق، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن بديـل العقـيـلـي، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن شقـيق، أنه أخبره من سمع النبـي صلى اللّه عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو علـى فرسه وسأله رجل من بنـي القـين فقال: يا رسول اللّه من هؤلاء؟ قال: (هَؤلاءِ الضّالّونَ)، يعنـي النّصَارَى. وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الـحذاء، عن عبد اللّه بن شقـيق، أن رجلاً سأل النبـي صلى اللّه عليه وسلم، وهو مـحاصر وادي القرى وهو علـى فرس من هؤلاء؟ قال: (الضّالونَ) يعنـي النّصَارَى. ٦٢ـ وحدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفـيان، عن مـجاهد: ولا الضالـين قال: النصارى. ٦٣ـ وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : ولا الضالـين قال: وغير طريق النصارى الذين أضلهم اللّه بِفِرْيتهم علـيه قال: يقول: فألهمنا دينك الـحقّ، وهو لا إلَه إلاّ اللّه وحده لا شريك له، حتـى لا تغضبَ علـينا كما غضبت علـى الـيهود ولا تضلّنا كما أضللت النصارى فتعذّبنا بـما تعذبهم به. يقول: امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك. ٦٤ـ وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس الضالـين: النصارى. ٦٥ـ وحدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: ولا الضالـين: هم النصارى. ٦٦ـ وحدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: أخبرنا عبـيد اللّه بن موسى، عن أبـي جعفر، عن ربـيع: ولا الضالـين: النصارى. ٦٧ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: ولا الضالـين النصارى. ٦٨ـ وحدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبـيه قال: ولا الضالـين النصارى. قال أبو جعفر: وكل حائد عن قصد السبـيـل وسالك غير الـمنهج القويـم فضالّ عند العرب لإضلاله وجه الطريق، فلذلك سَمّى اللّه جل ذكره النصارى ضُلاّلاً لـخطئهم فـي الـحق منهج السبـيـل، وأخذهم من الدين فـي غير الطريق الـمستقـيـم. فإن قال قائل: أو لـيس ذلك أيضا من صفة الـيهود؟ قـيـل: بلـى. فإن قال: كيف خصّ النصارى بهذه الصفة، وخص الـيهود بـما وصفهم به من أنهم مغضوب علـيهم؟ قـيـل: إن كلا الفريقـين ضُلاّل مغضوب علـيهم، غير أن اللّه جل ثناؤه وَسَم كل فريق منهم من صفته لعبـاده بـما يعرفونه به إذا ذكره لهم، أو أخبرهم عنه، ولـم يَسِمْ واحدا من الفريقـين إلا بـما هو له صفة علـى حقـيقته، وإن كان له من صفـات الذم زيادات علـيه. وقد ظن بعض أهل الغبـاء من القدرية أن فـي وصف اللّه جل ثناؤه النصارى بـالضلال بقوله: وَلا الضالّـين وإضافته الضلال إلـيهم دون إضافة إضلالهم إلـى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم الـمضللون كالذي وصف به الـيهود أنهم الـمغضوب علـيهم، دلالةً علـى صحة ما قاله إخوانه من جَهَلَةِ القدرية جهلاً منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر علـى ما ظنه الغبـيّ الذي وصفنا شأنه لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إلـيه فعل لا يجوز أن يكون فـيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فـيه من ذلك لغيره سبب فـالـحق فـيه أن يكون مضافـا إلـى مسببه، ولو وجب ذلك لوجب أن يكون خطأ قول القائل: (تـحركت الشجرةُ) إذا حركتها الرياح، و(اضطربت الأرضُ) إذا حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب. وفي قول اللّه جل ثناؤه: حتّـى إذا اُكنْتُـمْ فـي الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهمْ بإضافته الـجري إلـى الفلك، وإن كان جَرْيُها بإجراء غيرها إياها، ما يدل علـى خطأ التأويـل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: وَلا الضّالـينَ، وادعائه أن فـي نسبة اللّه جل ثناؤه الضلالةَ إلـى من نسبها إلـيه من النصارى تصحيحا لـما ادعى الـمنكرون أن يكون للّه جل ثناؤه فـي أفعال خـلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبـانة اللّه عز ذكره نصّا فـي أي كثـيرة من تنزيـله أنه الـمضلّ الهادي فمن ذلك قوله جل ثناؤه: أفَرأيْتَ مَنِ اتّـخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وأضَلّهُ اللّه علـى عِلْـمٍ وخَتَـمَ علـى سَمْعِهِ وقَلْبِهِ وجَعَلَ علـى بَصَرِهِ غَشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مَنْ بَعْدِ اللّه أفَلا تَذَكرُونَ فأنبأ جل ذكره أنه الـمضلّ الهادي دون غيره. ولكن القرآن نزل بلسان العرب، علـى ما قد قدمنا البـيان عنه فـي أول الكتاب. ومن شأن العرب إضافة الفعل إلـى من وُجد منه، وإن كان مسببه غير الذي وجد منه أحيانا، وأحيانا إلـى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بـالفعل الذي يكتسبه العبد كسبـا ويوجده اللّه جل ثناؤه عينا مُنْشأةً؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلـى مكتسبه كسبـا له بـالقوة منه علـيه والاختـيار منه له، وإلـى اللّه جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبـيرا. مسئلة يسأل عنها أَهل الإلـحاد الطاعنون فـي القرآن إن سألنا منهم سائل فقال: إنك قد قدمت فـي أول كتابك هذا فـي وصف البـيان بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة، أبلغه فـي الإبـانة عن حاجة الـمبـين به عن نفسه وأبْـينُه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه، وقلت مع ذلك إن أولـى البـيان بأن يكون كذلك كلام اللّه جل ثناؤه بفضله علـى سائر الكلام وبـارتفـاع درجته علـى أعلـى درجات البـيان. فما الوجه إذ كان الأمر علـى ما وصفتَ فـي إطالة الكلام بـمثل سورة أمّ القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معانـي جميعها منها آيتان، وذلك قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ إيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ إذ كان لا شك أن من عرف: مَلِكِ يَوْمِ الدّينِ فقد عرفه بأسمائه الـحسنى وصفـاته الـمثلـى. وأنّ من كان للّه مطيعا، فلا شك أنه لسبـيـل من أنعم اللّه علـيه فـي دينه متبع، وعن سبـيـل من غضب علـيه وضل منعدل، فما فـي زيادة الاَيات الـخمس البـاقـية من الـحكمة التـي لـم تـحوها الاَيتان اللتان ذكرنا؟ قـيـل له: إن اللّه تعالـى ذكره جمع لنبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ولأمته بـما أنزل إلـيه من كتابه معانـي لـم يجمعهن بكتاب أنزله إلـى نبـي قبله ولا لأمة من الأمـم قبلهم. وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره علـى نبـي من أنبـيائه قبله، فإنـما أنزل ببعض الـمعانـي التـي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلـى نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، كالتوراة التـي هي مواعظ وتفصيـل، والزّبُور الذي هو تـحميد وتـمـجيد، والإنـجيـل الذي هو مواعظ وتذكير لا معجزة فـي واحد منها تشهد لـمن أنزل إلـيه بـالتصديق. والكتابُ الذي أنزل علـى نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يحوي معانـي ذلك كله، ويزيد علـيه كثـيرا من الـمعانـي التـي سائر الكتب غيره منها خالٍ، وقد قدمنا ذكرها فـيـما مضى من هذا الكتاب. ومن أشرف تلك الـمعانـي التـي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله: نظمه العجيب، ورصفه الغريب، وتألـيفه البديع، الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الـخطبـاء، وكلّتْ عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتـحيرت فـي تألـيفه الشعراء، وتبلّدت قصورا عن أن تأتـي بـمثله لديه أفهام الفهماء. فلـم يجدوا له إلا التسلـيـم، والإقرار بأنه من عند الواحد القهار، مع ما يحوي مع ذلك من الـمعانـي التـي هي ترغيب، وترهيب. وأمر، وزجر، وقصص، وجدل، ومثل، وما أشبه ذلك من الـمعانـي التـي لـم تـجتـمع فـي كتاب أنزل إلـى الأرض من السماء. فمهما يكن فـيه من إطالة علـى نـحو ما فـي أم القرآن، فلـما وصفت قبلُ من أن اللّه جل ذكره أراد أن يجمع برصفه العجيب، ونظمه الغريب، الـمنعدل عن أوزان الأشعار، وسجع الكهان، وخطب الـخطبـاء، ورسائل البلغاء، العاجز عن وصف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العبـاد الدلالة علـى نبوّة نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما فـيه من تـحميد وتـمـجيد وثناء علـيه، تنبـيه للعبـاد علـى عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مـملكته، لـيذكروه بآلائه ويحمدوه علـى نعمائه، فـيستـحقوا به منه الـمزيد ويستوجبوا علـيه الثوابَ الـجزيـل. وبـما فـيه من نعت من أنعم علـيه بـمعرفته، وتفضل علـيه بتوفـيقه لطاعته، تعريف عبـاده أن كل ما بهم من نعمة فـي دينهم ودنـياهم فمنه، لـيصرفوا رغبتهم إلـيه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الاَلهة والأنداد، وبـما فـيه من ذكره ما أجل بـمن عصاه من مثلاته، وأنزل بـمن خالف أمره من عقوبـاته ترهيب عبـاده عن ركوب معاصيه، والتعرّض لـما لا قبل لهم به من سخطه، فـيسلك بهم فـي النكال والنقمات سبـيـل من ركب ذلك من الهلاك. فذلك وجه إطالة البـيان فـي سورة أم القرآن، وفـيـما كان نظيرا لها من سائر سور الفرقان، وذلك هو الـحكمة البـالغة والـحجة الكاملة. ٦٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب، عن أبـي السائب مولـى زهرة، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا قالَ العَبْدُ: الـحَمْدُ للّه رَرّب العالَـمِينَ، قالَ اللّه : حَمَدَنِـي عَبْدِي، وَإذَا قالَ: الرحْمَنُ الرّحِيـمِ، قال: أثنى عَلـيّ عَبْدِي، وَإذَا قالَ: مالِكِ يَوْمِ الدّينِ، قالَ: مَـجّدَنِـي عَبْدِي، فَهَذَا لـي. وَإذَا قالَ: إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعِينُ إلـى أنْ يَخْتِـمَ السورَةَ قالَ: فَذَاكَ لَهُ). حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبـي السائب، عن أبـي هريرة، قال: إذا قال العبد: الـحمد للّه، فذكر نـحوه، ولـم يرفعه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الولـيد بن كثـير، قال: حدثنـي العلاء بن عبد الرحمن مولـى الـحرقة، عن أبـي السائب، عن أبـي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثله. ٧٠ـ حدثنـي صالـح بن مسمار الـمروزي، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: حدثنا عنبسة بن سعيد، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قال اللّه عزّ وجلّ: قَسَمْتُ الصّلاةَ بَـيْنـي وبـينَ عَبْدِي نِصْفَـيْنِ وَلَهُ ما سألَ، فإذَا قالَ العَبْدُ: الـحَمْدُ للّه رَبّ العالَـمِينَ، قالَ اللّه : حَمِدَنِـي عَبْدِي، وَإذَا قالَ الرّحْمَنِ الرّحيـمِ، قالَ: أثْنى عَلـيّ عَبْدِي، وَإذَا قالَ: مالكِ يَوْم الدّين، قالَ: مَـجّدَنِـي عَبْدِي، قالَ: هَذَا لـي وَلَهُ ما بَقـيَ). |
﴿ ٠ ﴾