تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

 ááÅãÇã ÃÈæ ÌÚÝÑ ãÍãÏ Èä ÌÑíÑ ÇáØÈÑí

 إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة الفاتحة

سُورة الفـاتِـحَةِ مكِيّة وآياتها سَبْع

١

بِسْمِ اللّه الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

القول فـي تأويـل بِسْمِ.

قال أبو جعفر: إن اللّه تعالـى ذكره وتقدست أسماؤه، أدّب نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بتعلـيـمه تقديـم ذكر أسمائه الـحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إلـيه فـي وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلـمه إياه منه لـجميع خـلقه سنةً يستنون بها، وسبـيلاً يتبعونه علـيها، فـي افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتـى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل (بسم اللّه )، علـى من بطن من فراده الذي هو مـحذوف. وذلك أن البـاء من (بسم اللّه ) مقتضيةٌ فعلاً يكون لها جالبـا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل (بسم اللّه ) معرفته بـمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولاً، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة علـى الذي من أجله افتتـح قـيـله به. فصار استغناءُ سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظير استغنائه إذا سمع قائلاً

قـيـل له: ما أكلت الـيوم؟ فقال: طعاما، عن أن يكرّر الـمسؤول مع قوله (طعاما) أكلت لـما قد ظهر لديه من الدلالة علـى أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال: (بِسم اللّه الرحمن الرحيـم) ثم افتتـح تالـيا سورة، أن إتبـاعه (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) تلاوةَ السورة، ينبىء عن معنى قوله: (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأُ بسم اللّه الرحمن الرحيـم.

وكذلك قوله: (بسم اللّه ) عند نهوضه للقـيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبىء عن معنى مراده بقوله (بسم اللّه )، وأنه أراد بقـيـله (بسم اللّه ): أقوم بسم اللّه ، وأقعد بسم اللّه وكذلك سائر الأفعال.

وهذا الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، هو معنى قول ابن عبـاس ، الذي:

١ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: إن أول ما نزل به جبريـل علـى مـحمد، قال: يا مـحمد، قل أستعيذ بـالسميع العلـيـم من الشيطان الرجيـم ثم قال: قل بِسْمِ اللّه الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ قال: قال له جبريـل: قل بسم اللّه يا مـحمد.

يقول: اقرأ بذكر اللّه ربك، وقم واقعد بذكر اللّه .

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويـل قوله (بسم اللّه ) ما وصفت، والـجالب (البـاء) فـي (بسم اللّه ) ما ذكرت، فكيف قـيـل (بسم اللّه )، بـمعنى (اقرأ بسم اللّه )، أو (أقوم أو أقعد بسم اللّه )؟ وقد علـمت أن كل قارىء كتاب اللّه ، فبعون اللّه وتوفـيقه قراءتُه، وأن كل قائم أو قاعد أو فـاعل فعلاً، فبـاللّه قـيامُه وقعوده وفعله؟ وهلاّ إذا كان ذلك كذلك،

قـيـل: (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، ولـم يقل (بسم اللّه ) فإن قول القائل: أقوم وأقعد بـاللّه الرحمن الرحيـم، أو أقرأ بـاللّه ، أوضح معنى لسامعه من قوله (بسم اللّه )، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم اللّه ، يوهم سامعه أن قـيامه وقعوده بـمعنى غير اللّه .

قـيـل له: إن الـمقصود إلـيه من معنى ذلك، غير ما توهمته فـي نفسك. وإنـما معنى قوله (بسم اللّه ): أبدأ بتسمية اللّه وذكره قبل كل شيء، أو أقرأ بتسمية اللّه ، أو أقوم وأقعد بتسمية اللّه وذكره لا أنه يعنـي بقـيـله (بسم اللّه ): أقوم بـاللّه ، أو أقرأ بـاللّه فـيكون قول القائل: (أقرأ بـاللّه )، و(أقوم وأقعد بـاللّه )، أولـى بوجه الصواب فـي ذلك من قوله (بسم اللّه ).

فإن قال: فإن كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفتَ، فكيف قـيـل (بسم اللّه ) وقد علـمت أن الاسم اسم، وأن التسمية مصدر من قولك سَمّيت؟.

قـيـل: إن العرب قد تـخرج الـمصادر مبهمةً علـى أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامةً، وإنـما بناء مصدر (أفعلتُ) إذا أُخرج علـى فعله: (الإفعالُ)، وكقولهم: أهنت فلانا هوانا، وكلـمته كلاما. وبناء مصدر (فعّلت) التفعيـل، ومن ذلك قول الشاعر:

أكُفْرا بَعْدَ رَدّ الـمَوْتِ عَنّـيوبَعْدَ عَطائِكَ الـمِائَةَ الرّتاعا

يريد: إعطائك. ومنه قول الاَخر:

وَإنْ كانَ هَذا البُخْـلُ مِنْكَ سَجِيّةًلَقَدْ كُنْتُ فـي طَوْلـي رَجاءَكَ أشْعَبـا

يريد: فـي إطالتـي رجاءك. ومنه قول الاَخر:

أظَلُومُ إنّ مُصَابَكُمْ رَجُلا أهْدَى السّلامَ تَـحِيّةً ظُلْـمُ

يريد إصابتكم. والشواهد فـي هذا الـمعنى تكثر، وفـيـما ذكرنا كفـاية، لـمن وفق لفهمه. فإذا كان الأمر علـى ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الأفعال علـى غير بناء أفعالها كثـيرا، وكان تصديرها إياها علـى مخارج الأسماء موجودا فـاشيا، تبـين بذلك صواب ما قلنا من التأويـل فـي قول القائل: (بسم اللّه )، أن معناه فـي ذلك عند ابتدائه فـي فعل أو قول: أبدأ بتسمية اللّه ، قبل فعلـي، أو قبل قولـي.

وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: (بِسْمِ اللّه الرّحْمَنِ الرّحِيـمِ) إنـما معناه: أقرأ مبتدئا بتسمية اللّه ، أو أبتدىء قراءتـي بتسمية اللّه فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكلـيـم، والعطاء مكان الإعطاء.

وبـمثل الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك، رُوي الـخبر عن عبد اللّه بن عبـاس.

٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: أول ما نزل جبريـل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، قال: يا مـحمد، قل أستعيذ بـالسميع العلـيـم من الشيطان الرجيـم ثم قال: قل بسم اللّه الرحمن الرحيـم.

قال ابن عبـاس : (بسم اللّه )، يقول له جبريـل: يا مـحمد اقرأ بذكر اللّه ربك، وقم واقعد بذكر اللّه .

وهذا التأويـل من ابن عبـاس ينبىء عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتـحا قراءته: (بسم اللّه الرحمن الرحيـم): أقرأ بتسمية اللّه وذكره، وافتتـح القراءة بتسمية اللّه ، بأسمائه الـحسنى، وصفـاته العلـى وفسادِ قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بـاللّه الرحمن الرحيـم فـي كل شيء، مع أن العبـاد إنـما أمروا أن يبتدئوا عند فواتـح أمورهم بتسمية اللّه لا بـالـخبر عن عظمته وصفـاته، كالذي أمروا به من التسمية علـى الذبـائح والصيد، وعند الـمطعم والـمشرب، وسائر أفعالهم، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيـل اللّه وصدور رسائلهم وكتبهم.

ولا خلاف بـين الـجميع من علـماء الأمة، أن قائلاً لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام: (بـاللّه )، ولـم يقل (بسم اللّه )، أنه مخالف بتركه قـيـل (بسم اللّه ) ما سُنّ له عند التذكية من القول. وقد علـم بذلك أنه لـم يرد بقوله (بسم اللّه )، (بـاللّه ) كما قال الزاعم أن اسم اللّه في قول اللّه : (بسم اللّه الرحمن الرحيـم)، هو اللّه لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبـيحته (بـاللّه ) قائلاً ما سُنّ له منّ القول علـى الذبـيحة. وفـي إجماع الـجميع علـى أن قائل ذلك تارك ما سُنّ له من القول علـى ذبـيحته، إذْ لـم يقل (بسم اللّه )، دلـيـل واضح علـى فساد ما ادعى من التأويـل فـي قول القائل (بسم اللّه ) وأنه مراد به بـاللّه ، وأن اسم اللّه هو اللّه .

ولـيس هذا الـموضع من مواضع الإكثار فـي الإبـانة عن الاسم، أهو الـمسمى أم غيره أم هو صفة له؟ فنطيـل الكتاب به، وإنـما هو موضع من مواضع الإبـانة عن الاسم الـمضاف إلـى اللّه ، أهو اسم أم مصدر بـمعنى التسمية؟

فإن قال قائل: فما أنت قائل فـي بـيت لبـيد بن ربـيعة:

إلـى الـحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَـيْكُمَاوَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقَدِ اعْتَذَرْ

فقد تأوّله مقدم فـي العلـم بلغة العرب، أنه معنـيّ به: ثم السلام علـيكما، وأن اسم السلام هو السلام.

قـيـل له: لو جاز ذلك وصحّ تأويـله فـيه علـى ما تأوّل، لـجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفـي إجماع جميع العرب علـى إحالة ذلك ما ينبىء عن فساد تأويـل من تأوّل قول لبـيد: (ثم اسم السلام علـيكما)، أنه أراد: ثم السلام علـيكما، وادعائه أن ادخال الاسم فـي ذلك وإضافته إلـى السلام إنـما جاز، إذْ كان اسم الـمسمى هو الـمسمى بعينه.

ويُسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فـيقال لهم: أتستـجيزون فـي العربـية أن يقال أكلت اسم العسل، يعنـي بذلك أكلت العسل، كما جاز عندكم اسم السلام علـيك، وأنتـم تريدون السلام علـيك؟ فإن

قالوا: نعم خرجوا من لسن العرب، وأجازوا فـي لغتها ما تـخطئه جميع العرب فـي لغتها. وإن قالوا لا سئلوا الفرق بـينهما، فلن يقولوا فـي أحدهما قولاً إلاّ ألزموا فـي الاَخر مثله.

فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبـيد هذا عندك؟

قـيـل له: يحتـمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله.

أحدهما: أن (السلام) اسم من أسماء اللّه فجائز أن يكون لبـيد عنى بقوله: (ثم اسم السلام علـيكما): ثم الْزَمَا اسم اللّه وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء علـيّ علـى وجه الإغراء. فرفع الاسم، إذْ أخّر الـحرف الذي يأتـي بـمعنى الإغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الإغراء وقدمت الـمُغْرَى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر. ومن ذلك قول الشاعر:

يا أيّها الـمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَاإنـي رأيْتُ النّاس يَحْمَدُونَكا

فأغرى ب(دونك)، وهي مؤخرة وإنـما معناه: دونك دلوي. فذلك قول لبـيد:

إلـى الـحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَـيْكُمَا

يعنـي: علـيكما اسم السلام، أي: الزما ما ذكر اللّه ، ودعا ذكري والوجد بـي لأن من بكى حولاً علـى امرىء ميت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه.

والوجه الاَخر منهما: ثم تسميتـي اللّه علـيكما، كما يقول القائل للشيء يراه فـيعجبه: (اسم اللّه علـيك) يعوّذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسم اللّه علـيكما من السوء. وكأن الوجه الأول أشبه الـمعنـيـين بقول لبـيد.

ويقال لـمن وجّه بـيت لبـيد هذا إلـى أن معناه: (ثم السلام علـيكما): أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا، أو أحدهما، أو غير ما قلت فـيه؟

فإن قال: لا أبـان مقداره من العلـم بتصاريف وجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته. وإن قال: بلـى

قـيـل له: فما برهانك علـى صحة ما ادّعيت من التأويـل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه مـحتـمله من الوجه الذي يـلزمنا تسلـيـمه لك؟ ولا سبـيـل إلـى ذلكوأما الـخبر الذي:

٣ـ حدثنا به إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء بن الضحاك ، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن عِيسى ابْنَ مَرْيَـمَ أسْلَـمَتْهُ أُمّهُ إلـى الكُتّابِ لِـيُعَلّـمَهُ، فَقالَ لَهُ الـمُعَلّـمُ: اكْتُبْ بِسْمِ فَقَالَ له عِيسَى: وَما بِسْمِ؟ فَقالَ لَهُ الـمُعَلّـمُ: ما أدْرِي فَقالَ عِيسىَ: البـاءُ: بَهاءُ اللّه ، وَالسّينُ: سَناؤُهُ، وَالـمِيـمُ: مَـمْلَكَتُهُ).

فأخشى أن يكون غلطا من الـمـحدث، وأن يكون أراد: (ب س م)، علـى سبـيـل ما يعلـم الـمبتدى من الصبـيان فـي الكتاب حروفَ أبـي جاد. فغلط بذلك، فوصله فقال: (بسم) لأنه لا معنى لهذا التأويـل إذا تُلـي (بسم اللّه الرحمن الرحيـم) علـى ما يتلوه القارىء فـي كتاب اللّه ، لاستـحالة معناه علـى الـمفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حمل تأويـله علـى ذلك.

القول فـي تأويـل قوله تعالى:{اللّه }.

قال أبو جعفر: وأما تأويـل قول اللّه : (اللّه )، فإنه علـى معنى ما رُوي لنا عن عبد اللّه بن عبـاس: هو الذي يَأْلَهه كل شيء، ويعبده كل خـلق. وذلك أن أبـا كريب:

٤ـ حدثنا قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: اللّه ذو الألوهية والـمعبودية علـى خـلقه أجمعين.

فإن قال لنا قائل: فهل لذلك فـي (فَعَلَ ويَفْعَل) أصل كان منه بناء هذا الاسم؟

قـيـل: أما سماعا من العرب فلا، ولكن استدلالاً.

فإن قال: وما دلّ علـى أن الألوهية هي العبـادة، وأن الإله هو الـمعبود، وأن له أصلاً فـي فعل ويفعل؟

قـيـل: لا تـمانُعَ بـين العرب فـي الـحكم لقول القائل يصف رجلاً بعبـادة ويطلب مـما عند اللّه جل ذكره: تألّه فلان بـالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:

للّه دَرّ الغانِـياتِ الـمُدّةِسَبّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألّهِي

يعنـي من تعبدي وطلبـي اللّه بعمل. ولا شك أن التأله (التفعّل) من: أَلَهَ يَأْلَهُ، وأن معنى (أَلَه) إذا نُطق به: عَبَد اللّه . وقد جاء منه مصدر يدل علـى أن العرب قد نطقت منه ب(فَعَل يفعل) بغير زيادة. وذلك ما:

٥ـ حدثنا به سفـيان بن وكيع، قال حدثنا أبـي، عن نافع بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، أنه قرأ: (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ) قال: عبـادتك، ويُقال: إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبَد.

وحدثنا سفـيان، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن مـحمد بن عمرو بن الـحسن، عن ابن عبـاس : (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ) قال: إنـما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبد. وكذلك كان عبد اللّه يقرؤها ومـجاهد.

٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: أخبرنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قوله: (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَكَ) قال: وعبـادتك. ولا شك أن الإلاهة علـى ما فسره ابن عبـاس ومـجاهد، مصدرٌ من قول القائل أَلَهَ اللّه فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عبد اللّه فلانٌ عبـادة، وعَبَر الرؤيا عبـارةً. فقد بـيّن قول ابن عبـاس ومـجاهد هذا أن أله: عبد، وأن الإلاهة مصدره.

فإن قال: فإن كان جائزا أن يقال لـمن عبد اللّه : ألهه، علـى تأويـل قول ابن عبـاس ومـجاهد، فكيف الواجب فـي ذلك أن يقال، إذا أراد الـمخبر الـخبر عن استـيجاب اللّه ذلك علـى عبده؟

قـيـل: أما الرواية فلا رواية عندنا، ولكن الواجب علـى قـياس ما جاء به الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذي:

٧ـ حدثنا به إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى، عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ عِيسَى أسْلَـمَتْهُ أُمّهُ إلـى الكُتّابِ لِـيُعَلّـمَهُ، فَقالَ لَهُ الـمُعَلّـمُ: اكْتُبْ اللّه ، فَقالَ لَهُ عِيسَى: أَتَدْرِي ما اللّه ؟ اللّه إلَهُ الاَلِهَةِ).

أن يقال: اللّه جل جلاله أَلَهَ العَبْدَ، والعبدُ ألهه. وأن يكون قول القائل (اللّه ) من كلام العرب أصله (الإله).

فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما؟ قال: كما جاز أن يكون قوله: لَكِنّ هُوَ اللّه رَبّـي أصله: (لكن أنا هو اللّه ربـي) كما قال الشاعر:

وَتَرْمِيننِـي بـالطّرْفِ

أي أنْتَ مُذْنِبٌوتَقْلِـينَنِـي لَكِنّ إيّاكِ لا أَقْلِـي

يريد: (لكنْ أنا إياك لا أقلـي) فحذف الهمزة من (أنا)، فـالتقت نون (أنا) ونون (لكن) وهي ساكنة، فأدغمت فـي نون أنا، فصارتا نونا مشددة، فكذلك اللّه ، أصله الإله، أسقطت الهمزة، التـي هي فـاء الاسم، فـالتقت اللام التـي هي عين الاسم، واللام الزائدة التـي دخـلت مع الألف الزائدة، وهي ساكنة، فأدغمت فـي الأخرى التـي هي عين الاسم، فصارتا فـي اللفظ لاما واحدة مشددة، كما وصفنا من قول اللّه : لَكِنّ هُوَ اللّه رَبّـي.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: الرّحْمنِ الرّحِيـمِ.

قال أبو جعفر: أما الرحمن، فهو (فعلان)، من رحم، والرحيـم فعيـل منه. والعرب كثـيرا ما تبنى الأسماء من فعل يفعل علـى فعلان، كقولهم من غضب غضبـان، ومن سكر سكران، ومن عطش عطشان، فكذلك قولهم رحمَن من رحم، لأن (فَعِلَ) منه: رَحِمَ يَرْحم.

وقـيـل (رحيـم) وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنـية الأسماء إذا كان فـيها مدح أو ذمّ علـى فعيـل، وإن كانت عين فَعِلَ منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من عَلِـمَ: عالـم وعلـيـم، ومن قدَر: قادر وقدير. ولـيس ذلك منها بناءً علـى أفعالها لأن البناء من (فَعِلَ يَفْعَل) (وَفَعَلَ يَفْعَلُ) فـاعل. فلو كان الرحمن والرحيـم خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم.

فإن قال قائل: فإذا كان الرحمَن والرحيـم اسمين مشتقـين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤّد عن معنى الاَخر؟

قـيـل له: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننت، بل لكل كلـمة منهما معنى لا تؤَدي الأخرى منهما عنها.

فإن قال: وما الـمعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية الـمعنى عن الأخرى؟

قـيـل: أما من جهة العربـية، فلا تـمانع بـين أهل الـمعرفة بلغات العرب أن قول القائل (الرحمن) عن أبنـية الأسماء من (فَعِلَ يَفْعَل) أشد عدولاً من قوله (الرحيـم). ولا خلاف مع ذلك بـينهم أن كل اسم كان له أصل فـي (فَعِلَ يَفْعَل)، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشدّ عدولاً، أن الـموصوف به مفضل علـى الـموصوف بـالاسم الـمبنـي علـى أصله من (فَعِلَ يَفْعل) إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما. فهذا ما فـي قول القائل (الرحمَن) من زيادة الـمعنى علـى قوله: (الرحيـم) فـي اللغة.

وأما من جهة الأثر والـخبر، ففـيه بـين أهل التأويـل اختلاف.

٨ـ فحدثنـي السريّ بن يحيى التـميـمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي

يقول: (الرحمن الرحيـم) قال: الرحمن بجميع الـخـلق. (الرحيـم) قال: بـالـمؤمنـين.

٩ـ وحدثنا إسماعيـل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيـم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن إسماعيـل بن يحيى، عن ابن أبـي ملـيكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفـي، عن أبـي سعيد يعنـي الـخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ قالَ: الرّحْمَنُ: رَحْمَنُ الاَخِرَةِ والدّنْـيَا، والرّحِيـمُ: رَحِيـمُ الاَخِرَةِ).

فهذان الـخبران قد أنبآ عن فرق ما بـين تسمية اللّه جل ثناؤه بـاسمه الذي هو (رحمن)، وتسميته بـاسمه الذي هو (رحيـم). واختلاف معنى الكلـمتـين، وإن اختلفـا فـي معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما علـى أن ذلك فـي الدنـيا، ودل الاَخر علـى أنه فـي الاَخرة.

فإن قال: فأيّ هذين التأويـلـين أولـى عندك بـالصحة؟

قـيـل: لـجميعهما عندنا فـي الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولـى بـالصحة. وذلك أن الـمعنى الذي فـي تسمية اللّه بـالرحمن، دون الذي فـي تسميته بـالرحيـم هو أنه بـالتسمية بـالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خـلقه، وأنه بـالتسمية بـالرحيـم موصوف بخصوص الرحمة بعض خـلقه، إما فـي كل الأحوال، وإما فـي بعض الأحوال. فلا شكّ إذا كان ذلك كذلك، أن ذلك الـخصوص الذي فـي وصفه بـالرحيـم لا يستـحيـل عن معناه، فـي الدنـيا كان ذلك أو فـي الاَخرة، أو فـيهما جميعا. فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك وكان اللّه جل ثناؤه قد خص عبـاده الـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا بـما لطف بهم فـي توفـيقه إياهم لطاعته، والإيـمان به وبرسله، واتبـاع أمره واجتناب معاصيه مـما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد فـي أجل الاَخرة فـي جناته من النعيـم الـمقـيـم والفوز الـمبـين لـمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به كان بـيّنا أن اللّه قد خص الـمؤمنـين من رحمته فـي الدنـيا والاَخرة، مع ما قد عمهم به والكفـار فـي الدنـيا، من الإفضال والإحسان إلـى جميعهم، فـي البسط فـي الرزق، وتسخير السحاب بـالغيث، وإخراج النبـات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التـي لا تـحصى، التـي يشترك فـيها الـمؤمنون والكافرون. فربنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خـلقه فـي الدنـيا والاَخرة، ورحيـم الـمؤمنـين خاصة فـي الدنـيا والاَخرة.

فأما الذي عمّ جميعهم به فـي الدنـيا من رحمته، فكان رحمانا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التـي لا سبـيـل إلـى إحصائها لأحد من خـلقه، كما قال جل ثناؤه: وإنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُـحْصُوها.

وأما فـي الاَخرة، فـالذي عم جميعهم به فـيها من رحمته. فكان لهم رحمانا. تسويته بـين جميعهم جل ذكره فـي عدله وقضائه، فلا يظلـم أحدا منهم مِثْقَالَ ذَرّةٍ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرا عَظِيـما، وتُوفّـى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه فـي الاَخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا فـي الاَخرة.

وأما ما خص به الـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا من رحمته الذي كان به رحيـما لهم فـيها، كما قال جل ذكره: وكانَ بـالـمُؤْمِنِـينَ رَحِيـما فما وصفنا من اللطف لهم فـي دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به.

وأما ما خصهم به فـي الاَخرة، فكان به رحيـما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفـا مـما أعدّ لهم دون غيرهم من النعيـم والكرامة التـي تقصر عنها الأمانـي.

وأما القول الاَخر فـي تأويـله، فهو ما:

١٠ـ حدثنا به أبو كريب

قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب

قال: الرحمن الرحيـم: الرقـيق الرفـيق بـمن أحبّ أن يرحمه، والبعيد الشديد علـى من أحبّ أن يعنف علـيه. وكذلك أسماؤه كلها.

وهذا التأويـل من ابن عبـاس ، يدل علـى أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيـم، وإن كان لقوله (الرحمن) من الـمعنى ما لـيس لقوله (الرحيـم) لأنه جعل معنى الرحمن بـمعنى الرقـيق علـى من رقّ علـيه، ومعنى الرحيـم بـمعنى الرفـيق بـمن رفق به.

والقول الذي رويناه فـي تأويـل ذلك عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويـله من هذا القول الذي روينا عن ابن عبـاس وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، فـي أن للرحمن من الـمعنى ما لـيس للرحيـم، وأن للرحيـم تأويلاً غير تأويـل الرحمن.

والقول الثالث فـي تأويـل ذلك، ما:

١١ـ حدثنـي به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالـح، قال: حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللـخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الـخراسانـي،

يقول: كان الرحمن، فلـما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيـم.

والذي أراد إن شاء اللّه عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء اللّه التـي لا يتسمى بها أحد من خـلقه، فلـما تسمى به الكذّاب مسيـلـمة وهو اختزاله إياه، يعنـي اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر اللّه جل ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيـم، لـيفصل بذلك لعبـاده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يُسمّى أحد الرحمن الرحيـم فـيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنـما تسمى بعض خـلقه إما رحيـما، أو يتسمى رحمن، فأما (رحمَن رحيـم)، فلـم يجتـمعا قط لأحد سواه، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأن معنى قول عطاء هذا: أن اللّه جل ثناؤه إنـما فصل بتكرير الرحيـم علـى الرحمن بـين اسمه واسم غيره من خـلقه، اختلف معناهما أو اتفقا.

والذي قال عطاء من ذلك غير فـاسد الـمعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بـالتسمية بهما معا مـجتـمعين إبـانة لها من خـلقه، لـيعرف عبـاده بذكرهما مـجموعين أنه الـمقصود بذكرهما دون من سواه من خـلقه، مع ما فـي تأويـل كل واحد منهما من الـمعنى الذي لـيس فـي الاَخر منهما.

وقد زعم بعض أهل الغبـاء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولـم يكن ذلك فـي لغتها ولذلك قال الـمشركون للنبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَمَا الرّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لـما تَأْمُرُنَا إنكارا منهم لهذا الاسم. كأنه كان مـحالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالـمين بصحته، أو كأنه لـم يتل من كتاب اللّه قول اللّه : الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنـي مـحمدا كَما يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبّوته جاحدون. فـيعلـم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقـيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستـحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الـجاهلـية الـجهلاء:

ألاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الفَتاةُ هَجِينَهاألاَ قَضَبَ الرّحْمَنُ رَبّـي يَـمِينَها

وقال سلامة بن جندل الطهوي:

عَجِلْتُـمْ عَلَـيْنَا عَجْلَتَـيْنا عَلَـيْكُمُوَما يَشاء الرّحْمَنُ يَعْقِدْ ويُطْلِقِ

وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويـل أهل التأويـل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أن (الرحمن) مـجازه (ذو الرحمة)، و(الرحيـم) مـجازه (الراحم). ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والـمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم

قال: وقد فعلوا مثل ذلك،

فقالوا: ندمان ونديـم. ثم استشهد بقول بُرْج بن مسهر الطائي:

ونَدْمانٍ يَزِيدُ الكأسَ طِيبَـاسَقَـيْتُ وقَدْ تَغَوّرَتِ النّـجُومُ

واستشهد بأبـيات نظائر له فـي النديـم والندمان. ففرق بـين معنى الرحمن والرحيـم فـي التأويـل، لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيـم: الراحم. وإن كان قد ترك بـيان تأويـل معنـيهما علـى صحته. ثم مثل ذلك بـاللفظين يأتـيان بـمعنى واحد، فعاد إلـى ما قد جعله بـمعنـيـين، فجعله مثال ما هو بـمعنى واحد مع اختلاف الألفـاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة، وأن الراحم هو الـموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فـانقضى ذلك منه، أو هو فـيه. ولا دلالة له فـيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة علـى أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيـم علـى تأويـله من معنى الكلـمتـين يأتـيان مقدرتـين من لفظ واحد بـاختلاف الألفـاظ واتفـاق الـمعانـي؟

ولكن القول إذا كان غير أصل معتـمد علـيه كان واضح عُوَارُه.

وإن قال لنا قائل: ولـم قدم اسم اللّه الذي هو اللّه علـى اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن علـى اسمه الذي هو الرحيـم؟

قـيـل: لأن من شأن العرب إذا أرادوا الـخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يُتبعوه صفـاته ونعوته. وهذا هو الواجب فـي الـحكم: أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته، لـيعلـم السامع الـخبر عمن الـخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان للّه جل ذكره أسماء قد حرم علـى خـلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، ذلك مثل (اللّه )، و(الرحمن) و(الـخالق) وأسماء أبـاح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها، وذلك كالرحيـم، والسميع، والبصير، والكريـم، وما أشبه ذلك من الأسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التـي هي له خاصة دون جميع خـلقه، لـيعرف السامع ذلك من توجه إلـيه الـحمد والتـمـجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التـي قد تسمى بها غيره، بعد علـم الـمخاطب أو السامع من توجه إلـيه ما يتلو ذلك من الـمعانـي.

فبدأ اللّه جل ذكره بـاسمه الذي هو اللّه لأن الألوهية لـيست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة الـمعنى. وذلك أنا قد بـينا أن معنى اللّه هو الـمعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه اللّه جل ثناؤه، وإن قصد الـمتسمي به ما يقصد الـمتسمي بسعيد وهو شقـيّ، وبحَسَن وهو قبـيح.

أَوَ لا ترى أن اللّه جل جلاله قال فـي غير آية من كتابه: (أإله مَعَ اللّه ) فـاستكبر ذلك من الـمقرّ به، وقال تعالـى فـي خصوصية نفسه بـاللّه وبـالرحمن: (قُلِ ادْعُوا اللّه أو ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا ما تَدْعُو فَلَهُ الأسْماءُ الـحسنى) ثم ثنّى بـاسمه، الذي هو الرحمن، إذْ كان قد منع أيضا خـلقه التسمي به، وإن كان من خـلقه من قد يستـحق تسميته ببعض معانـيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثـير مـمن هو دون اللّه من خـلقه ببعض صفـات الرحمة، وغير جائز أن يستـحق بعض الألوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمَن ثانـيا لاسمه الذي هو (اللّه )

وأما اسمه الذي هو (الرحيـم) فقد ذكرنا أنه مـما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفـاته جل ذكره، فكان إذ كان الأمر علـى ما وصفنا، واقعا مواقع نعوت الأسماء اللواتـي هن توابعها بعد تقدم الأسماء علـيها. فهذا وجه تقديـم اسم اللّه الذي هو (اللّه ) علـى اسمه الذي هو (الرحمن)، واسمه الذي هو (الرحمن) علـى اسمه الذي هو (الرحيـم).

وقد كان الـحسن البصري يقول فـي الرحمن مثل ما قلنا، أنه من أسماء اللّه التـي منع التسمي بها لعبـاده.

١٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الـحسن، قال: الرحمن اسم مـمنوع.

مع أن فـي إجماع الأمة مِن منع التسمي به جميع الناس ما يغنـي عن الاستشهاد علـى صحة ما قلنا فـي ذلك بقول الـحسن وغيره.

﴿ ١