تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآنللإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريإمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)_________________________________سورة البقرةمدنـية وآياتها ست وثمانون ومائتان القول فـي تأويـل السورة التـي يذكر فـيها البقرة ١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الَمَ } قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القران فـي تأويـل قول اللّه تعالـى ذكره: الـم فقال بعضهم: هو اسم من أسماء القران. ذكر من قال ذلك: ٧١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: الـم قال: اسم من أسماء القران. ٧٢ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الاَملـي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: الـم اسم من أسماء القران. ٧٣ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: الـم اسم من أسماء القران. وقال بعضهم: هو فواتـح يفتـح اللّه بها القران. ذكر من قال ذلك: ٧٤ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصم الكوفـي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: الـم فواتـح يفتـح اللّه بها القران. حدثنا أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـجاهد، قال: الـم فواتـح. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن يحيى بن ادم، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد، قال: الـم وحم والـمص وص فواتـح افتتـح اللّه بها. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثل حديث هارون بن إدريس. وقال بعضهم: هو اسم للسورة. ذكر من قال ذلك: ٧٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنبأنا عبد اللّه بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم، عن قول اللّه : الـم ذلك الكتابُ والـم تَنْزِيـلُ والـمر تِلْك فقال: قال أبـي: إنـما هي أسماء السور. وقال بعضهم: هو اسم اللّه الأعظم. ذكر من قال ذلك: ٧٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السدي عن حم وطسم والـم فقال: قال ابن عبـاس : هو اسم اللّه الأعظم. حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنـي أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة عن إسماعيـل السدي، عن مرة الهمدانـي، قال: قال عبد اللّه فذكر نـحوه. ٧٧ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبـيد اللّه بن موسى، عن إسماعيـل، عن الشعبـي قال: فواتـح السور من أسماء اللّه . وقال بعضهم: هو قَسَمٌ أقسم اللّه به وهي من أسمائه. ذكر من قال ذلك: ٧٨ـ حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهمي، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قال: هو قَسَم أقسم اللّه به وهو من أسماء اللّه . ٧٩ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا خالد الـحذاء عن عكرمة قال: الـم قسم. وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لـمعنى غير معنى الـحرف الاَخر. ذكر من قال ذلك: ٨٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن أبـي شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبـي الضحى، عن ابن عبـاس : الـم فقال: أنا اللّه أعلـم. ٨١ـ وحدثت عن أبـي عبـيد قال: حدثنا أبو الـيقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال قوله: الـم قال: أنا اللّه أعلـم. ٨٢ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: الـم قال: أما: الـم فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء اللّه جل ثناؤه. ٨٣ـ حدثنا مـحمد بن معمر، قال: حدثنا عبـاس بن زياد البـاهلـي، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس في قوله: الـم وحم ون قال: اسم مقطع. وقال بعضهم: هي حروف هجاء موضوع. ذكر من قال ذلك: ٨٤ـ حدثت عن منصور بن أبـي نويرة، قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدب، عن خصيف، عن مـجاهد، قال: فواتـح السور كلها ق وص وحم وطسم والر وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعضهم: هي حروف يشتـمل كل حرف منها علـى معان شتـى مختلفة. ذكر من قال ذلك: ٨٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر الرازي قال: حدثنـي أبـي، عن الربـيع بن أنس في قول اللّه تعالـى ذكره: الـم قال: هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفـا، دارت فـيها الألسن كلها، لـيس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، ولـيس منها حرف إلا وهو فـي آلائه وبلائه، ولـيس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم وقال عيسى ابن مريـم: (وعجيب ينطقون فـي أسمائه، ويعيشون فـي رزقه، فكيف يكفرون)؟ قال: الألف: مفتاح اسمه (اللّه )، واللام: مفتاح اسمه (لطيف)، والـميـم: مفتاح اسمه (مـجيد) والألف: آلاء اللّه ، واللام: لطفه، والـميـم: مـجده الألف: سنة، واللام ثلاثون سنة، والـميـم: أربعون سنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن أبـي جعفر، عن الربـيع بنـحوه. وقال بعضهم: هي حروف من حساب الـجمل، كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه مـمن لا يُعتـمد علـى روايته ونقله، وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربـيع بن أنس. وقال بعضهم: لكل كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتـحه. وأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: هي حروف من حروف الـمعجم استُغنـي بذكر ما ذكر منها فـي أوائل السور عن ذكر بواقـيها التـي هي تتـمة الثمانـية والعشرين حرفـا، كما استغنَى الـمخبرُ عمن أخبر عنه أنه فـي حروف الـمعجم الثمانـية والعشرين بذكر (أ ب ت ث) عن ذكر بواقـي حروفها التـي هي تتـمة الثمانـية والعشرين، قال: ولذلك رفع ذلك الكتابُ لأن معنى الكلام: الألف واللام والـميـم من الـحروف الـمقطعة ذلك الكتاب الذي أنزلته إلـيه مـجموعا لا ريب فـيه.... فإن قال قائل: فإن (أ ب ت ث) قد صارت كالاسم فـي حروف الهجاء كما صارت الـحمد اسما لفـاتـحة الكتاب قـيـل له: لـما كان جائزا أن يقول القائل: ابنـي فـي (ط ظ)، وكان معلوما بقـيـله ذلك لو قاله إنه يريد الـخبر عن ابنه أنه فـي الـحروف الـمقطعة، علـم بذلك أن (أ ب ت ث) لـيس لها بـاسم، وإن كان ذلك آثَرَ فـي الذكر من سائرها قال: وإنـما خولف بـين ذكر حروف الـمعجم فـي فواتـح السور، فذكرت فـي أوائلها مختلفة، وذِكْرُها إذا ذُكرت بأوائلها التـي هي (أ ب ت ث) مؤتلفة لـيفصل بـين الـخبر عنها، إذا أريد بذكر ما ذكر منها مختلفـا الدلالة علـى الكلام الـمتصل، وإذا أريد بذكر ما ذكر منها مؤتلفـا الدلالة علـى الـحروف الـمقطعة بأعيانها. واستشهدوا لإجازة قول القائل: ابنـي فـي (ط ظ)، وما أشبه ذلك من الـخبر عنه أنه فـي حروف الـمعجم، وأن ذلك من قـيـله فـي البـيان يقوم مقام قوله: (ابنـي فـي أ ب ت ث) برجز بعض الرجاز من بنـي أسد: لَـمّا رأيْتُ أمْرَها فـي حُطّيوفَنَكَتْ فـي كَذِبٍ ولَطّ أخَذْتُ منْها بِقُرُونٍ شُمْطِفَلَـمْ يَزَلْ ضَرْبـي بها ومَعْطِي حتـى عَلا الرأسَ دَمٌ يُغَطّي فزعم أنه أراد بذلك الـخبر عن الـمرأة أنها فـي (أبـي جاد)، فأقام قوله: (لـما رأيت أمرها فـي حُطي) مقام خبره عنها أنها فـي (أبـي جاد)، إذ كان ذاك من قوله يدل سامعه علـى ما يدله علـيه قوله: لـما رأيت أمرها فـي أبـي جاد. وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السور لـيفتـح لاستـماعه أسماع الـمشركين، إذ تواصوا بـالإعراض عن القرآن، حتـى إذا استـمعوا له تُلـي علـيهم الـمؤلف منه. وقال بعضهم: الـحروف التـي هي فواتـح السور حروف يستفتـح اللّه بها كلامه. فإن قـيـل: هل يكون من القرآن ما لـيس له معنى؟ فإن معنى هذا أنه افتتـح بها لـيعلـم أن السورة التـي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ فـي أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بـينهما، وذلك فـي كلام العرب ينشد الرجل منهم الشعر فـ يقول: بل....وَبَلْدَةٍ ما الإنْسُ مِنْ آهالهَا و يقول: لا بل... ما هاجَ أحْزَانا وشَجَوْا قَدْ شَجا و(بل) لـيست من البـيت ولا تعدّ فـي وزنه، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الاَخر. قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التـي قالها الذين وصفنا قولهم فـي ذلك وجه معروف. فأما الذين قالوا: الـم اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما أن يكونوا أرادوا أن: الـم اسم للقرآن كما الفرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويـل قوله: الـم: ذلكَ الكِتابُ علـى معنى القسم كأنه قال: والقرآن هذا الكتاب لا ريب فـيه. والاَخر منهما أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التـي تعرف به كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التـي هي لها أمارات تعرف بها، فـيفهم السامع من القائل يقول: قرأت الـيوم الـمص ون أي السورة التـي قرأها من سور القرآن، كما يفهم عنه إذا قال: لقـيت الـيوم عمرا وزيدا، وهما بزيد وعمر وعارفـان مَنِ الذي لقـي من الناس. وإن أشكل معنى ذلك علـى امرىء فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ونظائر الـم الـمر فـي القرآن جماعة من السور؟ وإنـما تكون الأسماء أماراتٍ، إذا كانت مـميزة بـين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مـميزة فلـيست أمارات. قـيـل: إن الأسماء وإن كانت قد صارت لاشتراك كثـير من الناس فـي الواحد منها غير مـميزة إلا بـمعان أخر معها من ضم نسبة الـمسمى بها إلـيها أو نعته أو صفته بـما يفرق بـينه وبـين غيره من أشكالها، فإنها وضعت ابتداء للتـميـيز لا شك ثم احتـيج عند الاشتراك إلـى الـمعانـي الـمفرّقة بـين الـمسمّى بها. فكذلك ذلك فـي أسماء السور، جعل كل اسم فـي قول قائل هذه الـمقالة أمارةً للـمسمى به من السور. فلـما شارك الـمسمّى به فـيه غيره من سور القرآن احتاج الـمخبر عن سورة منها أن يضم إلـى اسمها الـمسمى به من ذلك ما يفرق به للسامع بـين الـخبر عنها وعن غيرها من نعت وصفة أو غير ذلك، فـيقول الـمخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة إذا سماها بـاسمها الذي هو الـم: قرأت الـم البقرة، وفـي آل عمران: قرأت الـم آل عمران، والـم ذَلِكَ الكِتابُ والـم اللّه لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ. كما لو أراد الـخبر عن رجلـين اسم كل واحد منهما عمرو، غير أن أحدهما تـميـميّ والاَخر أزدي، للزمه أن يقول لـمن أراد إخبـاره عنهما: لقـيت عمرا التـميـمي وعمرا الأزدي، إذ كان لا فرق بـينهما وبـين غيرهما مـمن يشاركهما فـي أسمائهما إلا بنسبتهما كذلك، فكذلك ذلك فـي قول من تأول فـي الـحروف الـمقطعة أنها أسماء للسور. وأما الذين قالوا: ذلك فواتـح يفتتـح اللّه عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلـى نـحو الـمعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربـية أنه قال: ذلك أدلة علـى انقضاء سورة وابتداء فـي أخرى وعلامة لانقطاع ما بـينهما، كما جعلت (بل) فـي ابتداء قصيدة دلالة علـى ابتداء فـيها وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء فـي إنشاد قصيدة، قال: بل...ما هاجَ أحْزَانا وشَجْوا قَدْ شَجا و(بل) لـيست من البـيت ولا داخـلة فـي وزنه، ولكن لـيدل به علـى قطع كلام وابتداء آخر. وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء اللّه عزّ وجل، وبعضها من صفـاته، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الـحرف الاَخر. فإنهم نـحوا بتأويـلهم ذلك نـحو قول الشاعر: قُلْنا لَهَا قِـفِـي لنا قالَتْ قافْلا تَـحْسبِـي أنّا نَسِينا الإيجَافْ يعنـي بقوله: قالت قاف: قالت قد وقـفت. فدلّت بإظهار القاف من (وقـفت) علـى مرادها من تـمام الكلـمة التـي هي (وقـفت)، فصرفوا قوله: الـم وما أشبه ذلك إلـى نـحو هذا الـمعنى، فقال بعضهم: الألف ألف (أنا)، واللام لام (اللّه )، والـميـم ميـم (أعلـم)، وكل حرف منها دال علـى كلـمة تامة. قالوا: فجملة هذه الـحروف الـمقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تـمام حروف الكلـمة (أنا اللّه أعلـم). قالوا: وكذلك سائر جميع ما فـي أوائل سور القرآن من ذلك، فعلـى هذا الـمعنى وبهذا التأويـل. قالوا: ومستفـيض ظاهر فـي كلام العرب أن ينقص الـمتكلـم منهم من الكلـمة الأحرف إذا كان فـيـما بقـي دلالة علـى ما حذف منها، ويزيد فـيها ما لـيس منها إذا لـم تكن الزيادة مُلَبّسة معناها علـى سامعها كحذفهم فـي النقص فـي الترخيـم من (حارث) (الثاء) فـيقولون: يا حار، ومن (مالك) (الكاف) فـيقولون: يا مال، وأما أشبه ذلك. وكقول راجزهم: ما للظّلِـيـمِ عَالَ كَيْفَ لاَ يايَنْقَدّ عَنْهُ جِلْدُهُ إذَا يا كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فـاكتفـى بـالـياء من (يفعل). وكما قال آخر منهم: بـالـخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرّا فَـا يريد فشرّا. ولا أُرِيدُ الشّرّ إِلاّ أنْ تَا يريد إلا أن تشاء. فـاكتفـى بـالتاء والفـاء فـي الكلـمتـين جميعا من سائر حروفهما، وما أشبه ذلك من الشواهد التـي يطول الكتاب بـاستـيعابه. وكما ٨٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب وابن عون، عن مـحمد، قال: لـما مات يزيد بن معاوية، قال لـي عبدة: إنـي لا أراها إلا كائنة فتنة فـافزع من ضيعتك والـحق بأهلك قلت: فما تأمرنـي؟ قال: أحبّ إلـيّ لك أن تا قال أيوب وابن عون بـيده تـحت خده الأيـمن يصف الاضطجاع حتـى ترى أمرا تعرفه. قال أبو جعفر: يعنـي ب (تا) تضطجع، فـاجتزأ بـالتاء من تضطجع. وكما قال الاَخر فـي الزيادة فـي الكلام علـى النـحو الذي وصفت: أقولُ إذْ خَرّتْ علـى الكَلْكالِيا ناقَتِـي ما جُلْتِ مِن مَـجَالِ يريد الكلكل. وكما قال الاَخر: إِنّ شَكْلِـي وإِنّ شَكْلَكِ شَتّـىفـالزَمِي الـخُصّ واخْفِضي تَبْـيَضِضّي فزاد ضادا ولـيست فـي الكلـمة. قالوا: فكذلك ما نقص من تـمام حروف كل كلـمة من هذه الكلـمات التـي ذكرنا أنها تتـمة حروف الـم ونظائرها، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب فـي أشعارها وكلامها. وأما الذين قالوا: كل حرف من الـم ونظائرها دالّ علـى معان شتـى نـحو الذي ذكرنا عن الربـيع بن أنس، فإنهم وجهوا ذلك إلـى مثل الذي وجهه إلـيه من قال هو بتأويـل: (أنا اللّه أعلـم) فـي أن كل حرف منه بعض حروف كلـمة تامة استُغنـي بدلالته علـى تـمامه عن ذكر تـمامه، وإن كانوا له مخالفـين فـي كل حرف من ذلك، أهو من الكلـمة التـي ادعى أنه منها قائلو القول الأول أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من الـم من كلـمات شتـى هي دالة علـى معانـي جميع ذلك وعلـى تـمامه. قالوا: وإنـما أفرد كل حرف من ذلك وقصر به عن تـمام حروف الكلـمة أن جميع حروف الكلـمة لو أظهرت لـم تدل الكلـمة التـي تظهر بعض هذه الـحروف الـمقطعة بعضٌ لها، إلاّ علـى معنى واحد لا علـى معنـيـين وأكثر منهما. قالوا: وإذا كان لا دلالة فـي ذلك لو أظهر جميعها إلا علـى معناها الذي هو معنى واحد، وكان اللّه جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها علـى معان كثـيرة لشيء واحد، لـم يجز إلا أن يفرد الـحرف الدال علـى تلك الـمعانـي، لـيعلـم الـمخاطبون به أن اللّه عز وجل لـم يقصد قصد معنى واحد ودلالة علـى شيء واحد بـما خاطبهم به، وأنه إنـما قصد الدلالة به علـى أشياء كثـيرة. قالوا: فـالألف من الـم مقتضية معانـي كثـيرة، منها: إتـمام اسم الرب الذي هو اللّه ، وتـمام اسم نعماء اللّه التـي هي آلاء اللّه ، والدلالة علـى أَجَلِ قوم أنه سنة، إذا كانت الألف فـي حساب الـجُمّل واحدا. واللام مقتضية تـمام اسم اللّه الذي هو لطيف، وتـمام اسم فضله الذي هو لطف، والدلالة علـى أجل قوم أنه ثلاثون سنة. والـميـم مقتضية تـمام اسم اللّه الذي هو مـجيد، وتـمام اسم عظمته التـي هي مـجد، والدلالة علـى أجل قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام فـي تأويـل قائل القول الأول: أن اللّه جل ثناؤه افتتـح كلامه بوصف نفسه بأنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء، وجعل ذلك لعبـاده منهجا يسلكونه فـي مفتتـح خطبهم ورسائلهم ومهمّ أمورهم، وابتلاء منه لهم لـيستوجبوا به عظيـم الثواب فـي دار الـجزاء، كما افتتـح بـالـحمد للّه رب العالـمين، والـحَمْدُ للّه الّذِي خَـلَقَ السموَاتِ وَالأرْضَ وما أشبه ذلك من السور التـي جعل مفـاتـحها الـحمد لنفسه. وكما جعل مفـاتـح بعضها تعظيـم نفسه وإجلالها بـالتسبـيح كما قال جل ثناؤه: سُبْحانَ الّذِي أسْرَى بعَبْدِهِ لَـيْلاً وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التـي جعل مفـاتـح بعضها تـحميد نفسه، ومفـاتـح بعضها تـمـجيدها، ومفـاتـح بعضها تعظيـمها وتنزيهها. فكذلك جعل مفـاتـح السور الأخرى التـي أوائلها بعض حروف الـمعجم مدائح نفسه أحيانا بـالعلـم، وأحيانا بـالعدل والإنصاف، وأحيانا بـالإفضال والإحسان بإيجاز واختصار، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك. وعلـى هذا التأويـل يجب أن يكون الألف واللام والـميـم فـي أماكن الرفع مرفوعا بعضها ببعض دون قوله: ذلكَ الكِتابُ ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعا عن معنى الـم، وكذلك (ذلك) فـي تأويـل قول قائل هذا القول الثانـي مرفوعٌ بعضه ببعض، وإن كان مخالفـا معناه معنى قول قائل القول الأول. وأما الذين قالوا: هن حروف من حروف حساب الـجُمّل دون ما خالف ذلك من الـمعانـي، فإنهم قالوا: لا نعرف للـحروف الـمقطعة معنى يفهم سوى حساب الـجمل وسوى تَهَجّي قول القائل: الـم. و قالوا: غير جائز أن يخاطب اللّه جل ثناؤه عبـادَهُ إلا بـما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلـما كان ذلك كذلك وكان قوله: الـم لا يعقل لها وجهه تُوجّه إلـيه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مرادا بها تهجي الـم صحّ وثبت أنه مراد به الوجه الثانـي وهو حساب الـجمل لأن قول القائل: الـم لا يجوز أن يـلـيه من الكلام ذلك الكتاب لاستـحالة معنى الكلام وخروجه عن الـمعقول إذا ولـي الـم ذلك الكتاب. واحتـجوا لقولهم ذلك أيضا بـما: ٨٧ـ حدثنا به مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي الكلبـي، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، عن جابر بن عبد اللّه بن رئاب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يتلو فـاتـحة سورة البقرة: الـم ذَلِكَ الكِتابُ لاَ رَيْبَ فِـيهِ فأتـى أخاه حيـيّ بن أخطب فـي رجال من يهود فقال: تعلـمون واللّه لقد سمعت مـحمدا يتلو فـيـما أنزل اللّه عز وجل علـيه: الـم ذَلِكَ الكِتابُ فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم. فمشى حيـيّ بن أخطب فـي أولئك النفر من يهود إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: يا مـحمد ألـم يذكر لنا أنك تتلو فـيـما أنزل علـيك: الـم ذَلِكَ الكِتابُ؟ فقالَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (بَلَـى) فقالوا: أجاءك بهذا جبريـل من عند اللّه ؟ قال: (نَعَمْ) قالوا: لقد بعث اللّه جل ثناؤه قبلك أنبـياء ما نعلـمه بـين لنبـيّ منهم ما مدة ملكه وما أَجَل أمته غيرك فقال حيـيّ بن أخطب: وأقبل علـى من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخـلون فـي دين نبـي إنـما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ قال: ثم أقبل علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا مـحمد هل مع هذه غيره؟ قال: (نَعَمْ) قال: ماذا؟ قال: (الـمص) قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، والصاد تسعون. فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا مـحمد غيره؟ قال: (نَعَمْ) قال: ماذا؟ قال: (الر) قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فقال: هل مع هذا غيره يا مـحمد؟ قال: (نَعَمْ الـمر)، قال: فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبّس علـينا أمرك يا مـحمد، حتـى ما ندري أقلـيلاً أُعطيتَ أم كثـيرا ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيـي بن أخطب ولـمن معه من الأحبـار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لـمـحمد: إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون، فقالوا: لقد تشابه علـينا أمره. ويزعمون أن هؤلاء الاَيات نزلت فـيهم: هُوَ الذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٍ مُـحْكماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ. فقالوا: قد صرّح هذا الـخبر بصحة ما قلنا فـي ذلك من التأويـل وفساد ما قاله مخالفونا فـيه. والصواب من القول عندي فـي تأويـل مفـاتـح السور التـي هي حروف الـمعجم: أن اللّه جل ثناؤه جعلها حروفـا مقطعة ولـم يصل بعضها ببعض فـيجعلها كسائر الكلام الـمتصل الـحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه علـى معان كثـيرة لا علـى معنى واحد، كما قال الربـيع بن أنس، وإن كان الربـيع قد اقتصر به علـى معان ثلاثة دون ما زاد علـيها. والصواب فـي تأويـل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربـيع وما قاله سائر الـمفسرين غيره فـيه، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربـية أنه كان يوجّه تأويـل ذلك إلـى أنه حروف هجاء استُغنـي بذكر ما ذكر منه فـي مفـاتـح السور عن ذكر تتـمة الثمانـية والعشرين حرفـا من حروف الـمعجم بتأويـل: أن هذه الـحروف، ذلك الكتاب، مـجموعةٌ لا ريب فـيه، فإنه قول خطأ فـاسد لـخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الـخالفـين من أهل التفسير والتأويـل، فكفـى دلالة علـى خطئه شهادة الـحجة علـيه بـالـخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه، إذ صار إلـى البـيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بـالراجع من ذكره في قوله: لاَ رَيْبَ فِـيهِ ومرة بقوله: هُدًى لِلْـمُتّقِـينَ وذلك ترك منه لقوله إن الـم رافعة ذَلِكَ الكِتَابُ وخروج من القول الذي ادّعاه فـي تأويـل الـم ذَلِكَ الكِتَابُ وأن تأويـل ذلك: هذه الـحروف ذلك الكتاب. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة علـى معان كثـيرة مختلفة؟ قـيـل: كما جاز أن تكون كلـمة واحدة تشتـمل علـى معان كثـيرة مختلفة كقولهم للـجماعة من الناس: أمة، وللـحين من الزمان: أمة، وللرجل الـمتعبد الـمطيع للّه: أمة، وللدين والـملة: أمة. وكقولهم للـجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللـحساب: دين فـي أشبـاه لذلك كثـيرة يطول الكتاب بإحصائها، مـما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتـمل علـى معان كثـيرة. وكذلك قول اللّه جل ثناؤه: (الـم والـمر)، و(الـمص) وما أشبه ذلك من حروف الـمعجم التـي هي فواتـح أوائل السور، كل حرف منها دالّ علـى معان شتـى، شامل جميعها من أسماء اللّه عز وجل وصفـاته ما قاله الـمفسرون من الأقوال التـي ذكرناها عنهم وهن مع ذلك فواتـح السور كما قاله من قال ذلك. ولـيس كونُ ذلك من حروف أسماء اللّه جل ثناؤه وصفـاته بـمانعها أن تكون للسور فواتـح لأن اللّه جل ثناؤه قد افتتـح كثـيرا من سور القرآن بـالـحمد لنفسه والثناء علـيها، وكثـيرا منها بتـمـجيدها وتعظيـمها، فغير مستـحيـل أن يبتدىء بعض ذلك بـالقسم بها. فـالتـي ابتُدىء أوائلها بحروف الـمعجم أحد معانـي أوائلها أنهنّ فواتـح ما افتتـح بهنّ من سور القرآن، وهنّ مـما أقسم بهن لأن أحد معانـيهن أنهن من حروف أسماء اللّه تعالـى ذكره وصفـاته علـى ما قدمنا البـيان عنها، ولا شك فـي صحة معنى القسم بـاللّه وأسمائه وصفـاته، وهن من حروف حساب الـجمل، وهنّ للسور التـي افتتـحت بهن شعار وأسماء. فذلك يحوي معانـي جميع ما وصفنا مـما بـينا من وجوهه، لأن اللّه جل ثناؤه لو أراد بذلك أو بشيء منه الدلالة علـى معنى واحد مـما يحتـمله ذلك دون سائر الـمعانـي غيره، لأبـان ذلك لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إبـانة غير مشكلة، إذ كان جل ثناؤه إنـما أنزل كتابه علـى رسوله صلى اللّه عليه وسلم لـيبـين لهم ما اختلفوا فـيه. وفـي تركه صلى اللّه عليه وسلم إبـانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويـله البعض دون البعض أوضح الدلـيـل علـى أنه مراد به جميع وجوهه التـي هو لها مـحتـمل، إذ لـم يكن مستـحيلاً فـي العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويـله ومعناه كما كان غير مستـحيـل اجتـماع الـمعانـي الكثـيرة للكلـمة الواحدة بـاللفظ الواحد فـي كلام واحد. ومن أبى ما قلناه فـي ذلك سئل الفرق بـين ذلك وبـين سائر الـحروف التـي تأتـي بلفظ واحد مع اشتـمالها علـى الـمعانـي الكثـيرة الـمختلفة كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول فـي أحد ذلك قولاً إلا أُلزم فـي الاَخر مثله. وكذلك يُسأل كل من تأوّل شيئا من ذلك علـى وجه دون الأوجه الأخر التـي وصفنا عن البرهان علـى دعواه من الوجه الذي يجب التسلـيـم له ثم يعارض بقوله يخالفه فـي ذلك، ويسأل الفرق بـينه وبـينه: من أصْلٍ، أو مـما يدل علـيه أصلٌ، فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثلهوأما الذي زعم من النـحويـين أن ذلك نظير، (بل) فـي قول الـمنشد شعرا: بل...ما هاجَ أحْزَانا وَشَجْوا قَدْ شَجا وأنه لا معنى له، وإنـما هو زيادة فـي الكلام معناه الطرح فإنه أخطأ من وجوه شتـى: أحدها: أنه وصف اللّه تعالـى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها وغير ما هو فـي لغة أحد من الاَدميـين، إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتـح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب(بل)، فإنه معلوم منها أنها لـم تكن تبتدىء شيئا من الكلام ب(الـم) و(الر) و(الـمص) بـمعنى ابتدائها ذلك ب(بل). وإذ كان ذلك لـيس من ابتدائها، وكان اللّه جل ثناؤه إنـما خاطبهم بـما خاطبهم من القرآن بـما يعرفون من لغاتهم ويستعملون بـينهم من منطقهم فـي جميع آيهِ، فلا شك أن سبـيـل ما وصفنا من حروف الـمعجم التـي افتتـحت بها أوائل السور التـي هن لها فواتـح سبـيـل سائر القرآن فـي أنه لـم يعدل بها عن لغاتهم التـي كانوا بها عارفـين ولها بـينهم فـي منطقهم مستعملـين لأن ذلك لو كان معدولاً به عن سبـيـل لغاتهم ومنطقهم كان خارجا عن معنى الإبـانة التـي وصف اللّه عز وجل بها القرآن، فقال تعالـى ذكره: نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ علـى قَلْبِكَ لِتَكَونَ مِنَ الـمُنْذِرِينِ بِلسانٍ عَرَبـيّ مُبِـينٍ. وأنّى يكون مبـينا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالـمين فـي قول قائل هذه الـمقالة، ولا يعرف فـي منطق أحد من الـمخـلوقـين في قوله؟ وفـي إخبـار اللّه جل ثناؤه عنه أنه عربـيّ مبـين ما يكذّب هذه الـمقالة، وينبىء عنه أن العرب كانوا به عالـمين وهو لها مستبـين. فذلك أحد أوجه خطئه. والوجه الثانـي من خطئه فـي ذلك: إضافته إلـى اللّه جل ثناؤه أنه خاطب عبـاده بـما لا فـائدة لهم فـيه ولا معنى له من الكلام الذي سواء الـخطاب به وترك الـخطاب به، وذلك إضافة العبث الذي هو منفـي فـي قول جميع الـموحدين عن اللّه ، إلـى اللّه تعالـى ذكره. والوجه الثالث من خطئة: أن (بل) فـي كلام العرب مفهوم تأويـلها ومعناها، وأنها تدخـلها فـي كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم: مَا جاءنـي أخوك بل أبوك وما رأيت عمرا بل عبد اللّه ، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بنـي ثعلبة: وَءَلاشْرَبَنّ ثَمَانِـيا وثَمَانِـياوَثَلاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَـيْنَ وَأرْبَعا ومضى فـي كلـمته حتـى بلغ قوله: بـالـجُلّسانِ وَطَيّبٌ أرْدَانُهُبـالوَنّ يَضْرِبُ لـي يَكُرّ أُلاصْبُعا ثم قال: بَلْ عُدّ هَذَا فـي قَرِيضِ غَيْرِهِوَاذْكُرْ فَتًـى سَمْـحَ الـخَـلِـيقَةِ أرْوَعا فكأنه قال: دع هذا وخذ فـي قريض غيره. ف(بل) إنـما يأتـي فـي كلام العرب علـى هذا النـحو من الكلام. فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بـمعنى التطويـل والـحذف من غير أن يدل علـى معنى، فذلك مـما لا نعلـم أحدا ادعاه من أهل الـمعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرت قوله، فـيكون ذلك أصلاً يشبّه به حروف الـمعجم التـي هي فواتـح سور القرآن التـي افتتـحت بها لو كان له مشبهة، فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟ ٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ } قال عامة الـمفسرين: تأويـل قول اللّه تعالـى: ذَلِكَ الكِتَابُ: هذا الكتاب. ذكر من قال ذلك: ٨٨ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصم الكوفـي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد: ذلك الكتاب، قال: هو هذا الكتاب. ٨٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا خالد الـحذاء، عن عكرمة، قال: ذلك الكتاب: هذا الكتاب. ٩٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا الـحكم بن ظهير، عن السدي في قوله: ذَلِكَ الكِتابُ قال: هذا الكتاب. ٩١ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: ذَلِكَ الكِتابُ: هذا الكتاب قال: قال ابن عبـاس : ذِلِكَ الكِتابُ: هذا الكتاب. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون (ذلك) بـمعنى (هذا)؟ و(هذا) لا شك إشارة إلـى حاضر معاين، و(ذلك) إشارة إلـى غائب غير حاضر ولا معاين؟ قـيـل: جاز ذلك لأن كل ما تقضي وقَرُب تقضيه من الأخبـار فهو وإن صار بـمعنى غير الـحاضر، فكالـحاضر عند الـمخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الـحديث، فـيقول السامع: إن ذلك واللّه لكما قلت، وهذا واللّه كما قلت، وهو واللّه كما ذكرت. فـيخبر عنه مرة بـمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى، ومرة بـمعنى الـحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ، فكذلك ذلك في قوله: ذَلِكَ الكِتابُ لأنه جل ذكره لـما قدم قبل ذلك الكتاب الـم التـي ذكرنا تصرّفها فـي وجوهها من الـمعانـي علـى ما وصفنا، قال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد هذا الذي ذكرته وبـينته لك الكتابُ. ولذلك حسن وضع (ذلك) فـي مكان (هذا)، لأنه أشير به إلـى الـخبر عما تضمنه قوله: الـم من الـمعانـي بعد تقضي الـخبر عنه بألـم، فصار لقرب الـخبر عنه من تقضيه كالـحاضر الـمشار إلـيه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الـخبر عنه كالـخبر عن الغائب. وترجمه الـمفسرون أنه بـمعنى (هذا) لقرب الـخبر عنه من انقضائه، فكان كالـمشاهد الـمشار إلـيه بهذا نـحو الذي وصفنا من الكلام الـجاري بـين الناس فـي مـحاوراتهم، وكما قال جل ذكره: واذْكُرْ إسمَاعِيـلَ والـيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأخْيار هَذَا ذِكْرٌ فهذا ما فـي (ذلك) إذا عنى بها (هذا). وقد يحتـمل قوله جل ذكره: ذَلِكَ الكِتَابُ أن يكون معنـيا به السور التـي نزلت قبل سورة البقرة بـمكة والـمدينة، فكأنه قال جل ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد اعلـم أن ما تضمنته سور الكتاب التـي قد أنزلتها إلـيك هو الكتاب الذي لا ريب فـيه. ثم ترجمه الـمفسرون بأن معنى (ذلك): (هذا الكتاب)، إذ كانت تلك السور التـي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله اللّه عز وجل علـى نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وكان التأويـل الأول أولـى بـما قاله الـمفسرون لأن ذلك أظهر معانـي قولهم الذي قالوه فـي ذلك. وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلـى نظير معنى بـيت خُفـاف بن نُدبة السلـمي: فإنْ تَكُ خَيْـلـي قَدْ أصِيبَ صَميـمُهافَعَمْدا علـى عَيْنٍ تَـيَـمّـمْتُ مالكا أقُولُ لَهُ والرّمْـحُ يَأطِرُ مَتْنَهُتَأمّلْ خُفـافـا إنّنـي أنا ذَلكا كأنه أراد: تأملنـي أنا ذلك. فرأى أن (ذلك الكتاب) بـمعنى (هذا) نظير ما أظهر خفـاف من اسمه علـى وجه الـخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه، فكذلك أظهر (ذلك) بـمعنى الـخبر عن الغائب، والـمعنى فـيه الإشارة إلـى الـحاضر الـمشاهد. والقول الأول أولـى بتأويـل الكتاب لـما ذكرنا من العلل. وقد قال بعضهم: ذَلِكَ الكِتابُ: يعنـي به التوراة والإنـجيـل، وإذا وجه تأويـل ذلك إلـى هذا الوجه فلا مؤنة فـيه علـى متأوله كذلك لأن (ذلك) يكون حينئذٍ إخبـارا عن غائب علـى صحة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لا رَيْبَ فِـيهَ. ق وتأويـل قوله: لا رَيْبَ فِـيهِ: (لا شك فـيه)، كما: ٩٢ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد لا رَيْبَ فِـيهِ، قال: لا شك فـيه. ٩٣ـ حدثنـي سلام بن سالـم الـخزاعي، قال: حدثنا خـلف بن ياسين الكوفـي، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد عن عطاء: لا رَيْبَ فِـيهِ قال: لا شك فـيه. ٩٤ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا الـحكم بن ظهير، عن السدي، قال: لا رَيْبَ فِـيهِ: لا شك فـيه. ٩٥ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: لا رَيْبَ فِـيهِ: لا شك فـيه. ٩٦ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : لا رَيْبَ فِـيهِ قال: لا شك فـيه. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : لا رَيْبَ فِـيهِ يقول لا شك فـيه. ٩٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: لا رَيْبَ فِـيهِ يقول: لا شك فـيه. ٩٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس قوله: لا رَيْبَ فِـيهِ يقول: لا شك فـيه. وهو مصدر من قولك: رابنـي الشيء يريبنـي ريبـا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤذيّة الهذلـي: فَقَالُوا تَرَكْنا الـحَيّ قَدْ حَصِرُوا بهِفَلا رَيْبَ أنْ قَدْ كانَ ثمّ لَـحِيـمُ ويروى: (حصروا)، و(حَصِروا)، والفتـح أكثر، والكسر جائز. يعنـي بقوله: (احصروا به): أطافوا به، ويعنـي بقوله: لا رَيْبَ فِـيهِ لا شك فـيه، وبقوله: (إن قد كان ثم لـحيـم)، يعنـي قتـيلاً، يقال: قد لُـحم إذا قتل. والهاء التـي فـي (فـيه) عائدة علـى الكتاب، كأنه قال: لا شك فـي ذلك الكتاب أنه من عند اللّه هدى للـمتقـين. القول فـي تأويـل قوله تعالى: هُدًى. ٩٩ـ حدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن بـيان، عن الشعبـي: هُدًى قال: هدى من الضلالة. ١٠٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن إسماعيـل السدي، فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: هُدًى للـمتّقِـينَ يقول: نور للـمتقـين. والهدى فـي هذا الـموضع مصدر من قولك: هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إلـيه، ودللته علـيه، وبـينته له أهديه هُدًى وهداية. فإن قال لنا قائل: أو ما كتاب اللّه نورا إلا للـمتقـين ولا رشادا إلا للـمؤمنـين؟ قـيـل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل، ولو كان نورا لغير الـمتقـين، ورشادا لغير الـمؤمنـين لـم يخصص اللّه عز وجل الـمتقـين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع الـمنذرين ولكنه هدى للـمتقـين، وشفـاء لـما فـي صدور الـمؤمنـين، ووَقْرٌ فـي آذان الـمكذّبـين، وعمي لأبصار الـجاحدين، وحجة للّه بـالغة علـى الكافرين فـالـمؤمن به مهتد، والكافر به مـحجوج. وقوله: هُدًى يحتـمل أوجها من الـمعانـي أحدها: أن يكون نصبـا لـمعنى القطع من الكتاب لأنه نكرة والكتاب معرفة، فـيكون التأويـل حينئذٍ: الـم ذلك الكتاب هاديا للـمتقـين. و(ذلك) مرفوع ب(الـم)، و(الـم) به، و(الكتاب) نعت ل(ذلك). وقد يحتـمل أن يكون نصبـا علـى القطع من راجع ذكر الكتاب الذي فـي (فـيه)، فـيكون معنى ذلك حينئذٍ: الـم الذي لا ريب فـيه هاديا. وقد يحتـمل أن يكون أيضا نصبـا علـى هذين الوجهين، أعنـي علـى وجه القطع من الهاء التـي فـي (فـيه)، ومن الكتاب علـى أن (الـم) كلام تام، كما قال ابن عبـاس . إن معناه: أنا اللّه أعلـم. ثم يكون (ذلك الكتاب) خبرا مستأنفـا، ويرفع حينئذٍ الكتاب ب(ذلك) و(ذلك) بـالكتاب، ويكون (هدى) قطعا من الكتاب، وعلـى أن يرفع (ذلك) بـالهاء العائدة علـيه التـي فـي (فـيه)، والكتاب نعت له، والهدى قطع من الهاء التـي فـي (فـيه). وإن جعل الهدى فـي موضع رفع لـم يجز أن يكون (ذلك الكتاب) إلا خبرا مستأنفـا و(الـم) كلاما تاما مكتفـيا بنفسه إلاّ من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذٍ (هدى) بـمعنى الـمدح كما قال اللّه جل وعز: {الـم تِلْكَ آيَاتُ الكِتابِ الـحَكِيـمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْـمُـحْسِنِـينَ} فـي قراءة من قرأ (رحمة) بـالرفع علـى الـمدح للاَيات. والرفع فـي (هدى) حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف. والاَخر: علـى أن يجعل الرافع (ذلك)، والكتاب نعت ل(ذلك). والثالث: أن يجعل تابعا لـموضع (لا ريب فـيه)، ويكون (ذلك الكتاب) مرفوعا بـالعائد فـي (فـيه)، فـيكون كما قال تعالـى ذكره: وَهَذَا كتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبـارَكٌ. وقد زعم بعض الـمتقدمين فـي العلـم بـالعربـية من الكوفـيـين أن (الـم) رافع (ذلك الكتاب) بـمعنى: هذه الـحروف من حروف الـمعجم، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إلـيك. ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضَه، وهدم ما بنى فأسرع هدمَه، فزعم أن الرفع فـي (هدى) من وجهين والنصب من وجهين، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون (الكتاب) نعتا ل(ذلك)، و(الهدى) فـي موضع رفع خبر ل(ذلك) كأنك قلت: ذلك لا شك فـيه قال: وإن جعلت (لا ريب فـيه) خبره رفعت أيضا (هدى) بجعله تابعا لـموضع (لا ريب فـيه) كما قال اللّه جل ثناؤه: {وَهَذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبـارَكٌ} كأنه قال: وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا قال: وأما أحد وجهي النصب، فأن تـجعل (الكتاب) خبرا ل(ذلك) وتنصب (هدى) علـى القطع لأن (هدى) نكرة اتصلت بـمعرفة وقد تـمّ خبرها فتنصبها، لأن النكرة لا تكون دلـيلاً علـى معرفة، وإن شئت نصبت (هدى) علـى القطع من الهاء التـي فـي (فـيه) كأنك قلت: لا شكّ فـيه هاديا. قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصّله فـي (الـم) وأنها مرفوعة ب(ذلك الكتاب) ونبذه وراء ظهره. واللازم له علـى الأصل الذي كان أصّله أن لا يجيز الرفع فـي (هدى) بحال إلا من وجه واحد، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحا. فأما علـى وجه الـخبر لذلك، أو علـى وجه الإتبـاع لـموضع (لا ريب فـيه)، فكان اللازم له علـى قوله إن يكون خطأ، وذلك أن (الـم) إذا رفعت (ذلك الكتاب) فلا شك أن (هدى) غير جائز حينئذٍ أن يكون خبرا ل(ذلك) بـمعنى الرافع له، أو تابعا لـموضع لا ريب فـيه، لأن موضعه حينئذٍ نصب لتـمام الـخبر قبله وانقطاعه بـمخالفته إياه عنه. ه١ القول فـي تأويـل قوله تعالى: للْـمُتّقِـينَ. ١٠١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن سفـيان، عن رجل، عن الـحسن قوله: للْـمُتّقِـينَ قال: اتقوا ما حرم علـيهم وأدّوا ما افترض علـيهم. ١٠٢ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : للْـمُتّقِـينَ أي الذين يحذرون من اللّه عز وجل عقوبته فـي ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بـالتصديق بـما جاء به. ١٠٣ـ حدثنـي موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: هُدى للْـمُتّقِـينَ قال: هم الـمؤمنون. ١٠٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: سألنـي الأعمش عن الـمتقـين، قال: فأجبته، فقال لـي: سل عنها الكلبـي فسألته فقال: الذين يجتنبون كبـائر الإثم قال: فرجعت إلـى الأعمش، فقال: نرى أنه كذلك ولـم ينكره. ١٠٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج عن عبد الرحمن بن عبد اللّه ، قال: حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة: هُدًى للْـمُتّقِـينَ هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال: الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بـالغَيْبِ وَيُقِـيـمُونَ الصّلاةَ ومِـمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. ١٠٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : للْـمُتّقِـينَ قال: الـمؤمنـين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتـي. وأولـى التأويلات بقول اللّه جل ثناؤه: هُدًى للْـمُتّقـينَ تأويـل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا اللّه تبـارك وتعالـى فـي ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتـجنبوا معاصيه واتقوه فـيـما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أن اللّه عز وجل إنـما وصفهم بـالتقوى فلـم يحصر تقواهم إياه علـى بعضها من أهل منهم دون بعض. فلـيس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك علـى وصفهم بشيء من تقوى اللّه عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسلـيـم لها، لأن ذلك من صفة القوم لو كان مـحصورا علـى خاصّ من معانـي التقوى دون العام منها لـم يَدَع اللّه جل ثناؤه بـيان ذلك لعبـاده، إما فـي كتابه، وإما علـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم إذْ لـم يكن فـي العقل دلـيـل علـى استـحالة وصفهم بعموم التقوى. فقد تبـين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويـل ذلك إنـما هو: الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفـاق لأنه قد يكون كذلك وهو فـاسق غير مستـحق أن يكون من الـمتقـين. إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفـاق ركوب الفواحش التـي حرمها اللّه جل ثناؤه وتضيـيع فرائضه التـي فرضها علـيه، فإن جماعة من أهل العلـم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا، فـيكون وإن كان مخالفـا فـي تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبـا تأويـل قول اللّه عز وجل للـمتقـين. ٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ١٠٧ـ حدثنا مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : الّذينَ يُؤْمنُونَ قال: يصدقون. حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهمي، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : يُؤْمِنُونَ يصدّقون. ١٠٨ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: يُؤْمِنُونَ يخشون. ١٠٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا مـحمد بن ثور عن معمر، قال: قال الزهري: الإيـمان: العمل. ١١٠ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر عن أبـيه عن العلاء بن الـمسيب بن رافع، عن أبـي إسحاق، عن أبـي الأحوص عن عبد اللّه ، قال: الإيـمان: التصديق. ومعنى الإيـمان عند العرب: التصديق، فـيُدْعَى الـمصدّق بـالشيء قولاً مؤمنا به، ويُدْعَى الـمصدّق قوله بفعله مؤمنا. ومن ذلك قول اللّه جل ثناؤه: وَما أنْتَ بِـمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صَادِقِـينَ يعنـي: وما أنت بـمصدق لنا فـي قولنا. وقد تدخـل الـخشية للّه فـي معنى الإيـمان الذي هو تصديق القول بـالعمل. والإيـمان كلـمة جامعة للإقرار بـاللّه وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بـالفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفـين بـالتصديق بـالغيب، قولاً، واعتقادا، وعملاً، إذ كان جل ثناؤه لـم يحصرهم من معنى الإيـمان علـى معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيء من معانـية أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بـالغَيْبِ. ١١١ـ حدثنا مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : بـالغيب قال: بـما جاء به، يعنـي من اللّه جل ثناؤه. ١١٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي: بـالغيب أما الغيب: فما غاب عن العبـاد من أمر الـجنة وأمر النار، وما ذكر اللّه تبـارك وتعالـى فـي القرآن. لـم يكن تصديقهم بذلك يعنـي الـمؤمنـين من العرب من قِبَلِ أصل كتاب أو علـم كان عندهم. ١١٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان عن عاصم، عن زر، قال: الغيب: القرآن. ١١٤ـ حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبـي عروة، عن قتادة في قوله: الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بـالغَيْب قال: آمنوا بـالـجنة والنار والبعث بعد الـموت وبـيوم القـيامة، وكل هذا غيب. ١١٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بـالغَيْبِ: آمنوا بـاللّه وملائكته ورسله والـيوم الاَخر وجنته وناره ولقائه، وآمنوا بـالـحياة بعد الـموت، فهذا كله غيب. وأصل الغيب: كل ما غاب عنك من شيء، وهو من قولك: غاب فلان يغيب غيبـا. وقد اختلف أهل التأويـل فـي أعيان القوم الذين أنزل اللّه جل ثناؤه هاتـين الاَيتـين من أول هذه السورة فـيهم، وفـي نعتهم وصفتهم التـي وصفهم بها من إيـمانهم بـالغيب، وسائر الـمعانـي التـي حوتها الاَيتان من صفـاتهم غيره. فقال بعضهم: هم مؤمنوا العرب خاصة، دون غيرهم من مؤمنـي أهل الكتاب. واستدلوا علـى صحة قولهم ذلك وحقـيقة تأويـلهم بـالآية التـي تتلو هاتـين الاَيتـين، وهو قول اللّه عز وجل: {وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}. قالوا: فلـم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله اللّه عز وجل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنـما كان الكتاب لأهل الكتابـين غيرها. قالوا: فلـما قص اللّه عز وجل نبأ الذين يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ الـمؤمنـين بـالغيب، علـمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الاَخر، وأن الـمؤْمنـين بـالغيب نوع غير النوع الـمصدّق بـالكتابـين اللذين أحدهما منزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، والاَخر منهما علـى من قبله من رسل اللّه تعالـى ذكره. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلنا من أن تأويـل قول اللّه تعالـى: {الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بـالغَيْبِ} إنـما هم الذين يؤمنون بـما غاب عنهم من الـجنة والنار والثواب والعقاب والبعث، والتصديق بـاللّه وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به فـي جاهلـيتها، بـما أوجب اللّه جل ثناؤه علـى عبـاده الدينونة به دون غيرهم. ذكر من قال ذلك: ١١٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم أما: الذين يؤمنون بـالغيب فهم الـمؤمنون من العرب، {وَيقِـيـمُونَ الصلاةَ وَمِـمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} أما الغيب: فما غاب عن العبـاد من أمر الـجنة والنار، وما ذكر اللّه فـي القرآن. لـم يكن تصديقهم بذلك من قِبَلِ أصلِ كتابٍ أو علـم كان عندهم. {وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} هؤلاء الـمؤمنون من أهل الكتاب. وقال بعضهم: بل نزلت هذه الاَيات الأربع فـي مؤمنـي أهل الكتاب خاصة، لإيـمانهم بـالقرآن عند إخبـار اللّه جل ثناؤه إياهم فـيه عن الغيوب التـي كانوا يخفونها بـينهم ويسرّونها، فعلـموا عند إظهار اللّه جل ثناؤه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى ذلك منهم فـي تنزيـله أنه من عند اللّه جل وعز، فآمنوا بـالنبـي صلى اللّه عليه وسلم وصدقوا بـالقرآن وما فـيه من الإخبـار عن الغيوب التـي لا علـم لهم بها لـما استقرّ عندهم بـالـحجة التـي احتـجّ اللّه تبـارك وتعالـى بها علـيهم فـي كتابه، من الإخبـار فـيه عما كانوا يكتـمونه من ضمائرهم أن جميع ذلك من عند اللّه . وقال بعضهم: بل الاَيات الأربع من أول هذه السورة أنزلت علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بوصف جميع الـمؤمنـين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابـين و سواهم، وإنـما هذه صفة صنف من الناس، والـمؤمن بـما أنزل اللّه علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما أنزل من قبله هو الـمؤمن بـالغيب. قالوا: وإنـما وصفهم اللّه بـالإيـمان بـما أنزل إلـى مـحمد وبـما أنزل إلـى من قبله بعد تَقَضّي وصفه إياهم بـالإيـمان بـالغيب لأن وصفه إياهم بـما وصفهم به من الإيـمان بـالغيب كان معنـيا به أنهم يؤمنون بـالـجنة والنار والبعث، وسائر الأمور التـي كلفهم اللّه جل ثناؤه بـالإيـمان بها مـما لـم يروه ولـم يأت بَعْدُ مـما هو آت، دون الإخبـار عنهم أنهم يؤمنون بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ومن قبله من الرسل والكتب. قالوا: فلـما كان معنى قوله: {وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} غير موجود في قوله: الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـالغَيْبِ كانت الـحاجة من العبـاد إلـى معرفة صفتهم بذلك لـيعرفهم نظير حاجتهم إلـى معرفتهم بـالصفة التـي وصفوا بها من إيـمانهم بـالغيب لـيعلـموا ما يرضي اللّه من أفعال عبـاده، ويحبه من صفـاتهم، فـيكونوا به إن وفقهم له ربهم. مؤمنـين. ذكر من قال ذلك: ١١٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو بن العبـاس البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخـلد، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون الـمكي، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة فـي نعت الـمؤمنـين وآيتان فـي نعت الكافرين وثلاث عشرة فـي الـمنافقـين. حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد بـمثله. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ١١٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس، قال: أربع آيات من فـاتـحة هذه السورة يعنـي سورة البقرة فـي الذين آمنوا، وآيتان فـي قادة الأحزاب. وأولـى القولـين عندي بـالصواب وأشبههما بتأويـل الكتاب، القول الأول، وهو: أن الذين وصفهم اللّه تعالـى ذكره بـالإيـمان بـالغيب، وما وصفهم به جل ثناؤه فـي الاَيتـين الأوّلَتـين غير الذين وصفهم بـالإيـمان بـالذي أنزل علـى مـحمد والذي أنزل إلـى من قبله من الرسل لـما ذكرت من العلل قبل لـمن قال ذلك، ومـما يدل أيضا مع ذلك علـى صحة هذا القول إنه جَنّسَ بعد وصف الـمؤمنـين بـالصفتـين اللتـين وصف، وبعد تصنـيفه لـي كل صنف منهما علـى ما صنف الكفـار جِنْسَين، فجعل أحدهما مطبوعا علـى قلبه مختوما علـيه مأيوسا من إيـمانه، والاَخر منافقا يرائي بإظهار الإيـمان فـي الظاهر، ويستسرّ النفـاق فـي البـاطن، فصير الكفـار جنسين كما صير الـمؤمنـين فـي أول السورة جنسين. ثم عرّف عبـاده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعدّ لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب، وذمّ أهل الذمّ منهم، وشكر سعي أهل الطاعة منهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ويُقِـيـمُونَ}. إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فـيها علـى ما فُرضت علـيه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لـم يعطلوها من البـيع والشراء فـيها، وكما قال الشاعر: أقَمْنا لأِهْلِ العِرَاقَـيْنِ سُوقَ الضْضِرابِ فخَافُوا ووَلّوْا جَمِيعَا ١١٩ـ وكما حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَيُقِـيـمُونَ الصّلاةَ قال: الذين يقـيـمون الصلاة بفروضها. ١٢٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَيُقِـيـمُونَ الصّلاةَ قال: إقامة الصلاة: تـمام الركوع والسجود والتلاوة والـخشوع والإقبـال علـيها فـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الصّلاةَ}. ١٢١ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر عن الضحاك في قوله: الّذِينَ يُقِـيـمُونَ الصّلاةَ يعنـي الصلاة الـمفروضة. وأما الصلاة فـي كلام العرب فإنها الدعاء كما قال الأعشى: لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدّهْرَ بَـيْتَهَاوَإنْ ذُبِحَتْ صَلّـى عَلَـيْهَا وَزَمْزَما يعنـي بذلك: دعا لها، وكقول الاَخر أيضا: وَقابَلَها الرّيحَ فـي دَنّهاوَصَلّـى علـى دَنّها وَارْتَسَمَ وأرى أن الصلاة الـمفروضة سميت صلاة لأن الـمصلـي متعرّض لاستنـجاح طلبته من ثواب اللّه بعمله مع ما يسأل ربه فـيها من حاجاته تعرض الداعي بدعائه ربه استنـجاح حاجاته وسؤله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ومِـمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}. اختلف الـمفسرون فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم بـما: ١٢٢ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : ومِـمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قال: يؤتون الزكاة احتسابـا بها. ١٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، عن معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : ومـمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقوُنَ قال: زكاة أموالهم. ١٢٤ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك : وَمِـمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قال: كانت النفقات قربـات يتقرّبون بها إلـى اللّه علـى قدر ميسورهم وجهدهم، حتـى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات فـي سورة براءة، مـما يذكر فـيهن الصدقات، هن الـمثبتات الناسخات. وقال بعضهم بـما: ١٢٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: ومـمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ هي نفقة الرجل علـى أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وأولـى التأويلات بـالآية وأحقها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لـجميع اللازم لهم فـي أموالهم، مؤدين زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم، مـمن تـجب علـيهم نفقته بـالقرابة والـملك وغير ذلك لأن اللّه جل ثناؤه عمّ وصفهم، إذ وصفهم بـالإنفـاق مـما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلوما أنه إذ لـم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات الـمـحمود علـيها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره أنهم موصوفون بجميع معانـي النفقات الـمـحمود علـيها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الـحلال منه الذي لـم يشبه حرام. ٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } قد مضى البـيان عن الـمنعوتـين بهذا النعت، وأيّ أجناس الناس هم. غير أنا نذكر ما روي فـي ذلك عمن روي عنه فـي تأويـله قول: ١٢٦ـ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي يصدقونك بـما جئت به من اللّه جل وعز، وما جاء به من قبلك من الـمرسلـين، لا يفرقون بـينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم. ١٢٧ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ هؤلاء الـمؤمنون من أهل الكتاب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وبـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. قال أبو جعفر: أما الاَخرة، فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه: وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةِ لَهِيَ الـحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ وإنـما وصفت بذلك لـمصيرها آخرة لأولـى كانت قبلها كما تقول للرجل: أنعمت علـيك مرة بعد أخرى فلـم تشكر لـي الأولـى ولا الاَخرة. وإنـما صارت الاَخرة آخرة للأولـى، لتقدم الأولـى أمامها، فكذلك الدار الاَخرة سميت آخرة لتقدم الدار الأولـى أمامها، فصارت التالـية لها آخرة. وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الـخـلق، كما سميت الدنـيا دنـيا لدنوّها من الـخـلقوأما الذي وصف اللّه جل ثناؤه به الـمؤمنـين بـما أنزل إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما أنزل إلـى من قبله من الـمرسلـين من إيقانهم به من أمر الاَخرة، فهو إيقانهم بـما كان الـمشركون به جاحدين، من البعث والنشر والثواب والعقاب والـحساب والـميزان، وغير ذلك مـما أعدّ اللّه لـخـلقه يوم القـيامة. كما: ١٢٨ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن مـحمد بن إسحاق عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وبـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي بـالبعث والقـيامة والـجنة والنار والـحساب والـميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بـما كان قبلك، ويكفرون بـما جاءك من ربك. وهذا التأويـل من ابن عبـاس قد صرّح عن أن السورة من أولها وإن كانت الاَيات التـي فـي أولها من نعت الـمؤمنـين تعريض من اللّه عز وجل بذم الكفـار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم بـما جاءت به رسل اللّه عز وجل الذين كانوا قبل مـحمد صلوات اللّه علـيهم وعلـيه مصدقون وهم بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام مكذبون، ولـما جاء به من التنزيـل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلفك أنهم مهتدون وأنه لن يدخـل الـجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب اللّه جل ثناؤه ذلك من قـيـلهم بقوله: {الـم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِـيهِ هُدًى للْـمُتّقِـينَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بـالغَيْبِ وَيُقـيـمُونَ الصّلاةَ ومـمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا أُنْزِلَ إِلَـيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِـالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. وأخبر جل ثناؤه عبـاده أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيـمان بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به الـمصدقـين بـما أنزل إلـيه وإلـى من قبله من رسله من البـينات والهدى خاصة، دون من كذب بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به، وادعى أنه مصدق بـمن قبل مـحمد علـيه الصلاة والسلام من الرسل وبـما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر الـمؤمنـين من العرب ومن أهل الكتاب الـمصدقـين بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام وبـما أُنزل إلـيه وإلـى من قبله من الرسل بقوله: {أُولئِكَ علـى هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ} فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والـخسار. ٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: أُولَئِكَ عَلَـى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فقال بعضهم: عَنَى بذلك أهل الصفتـين الـمتقدمتـين، أعنـي الـمؤمنـين بـالغيب من العرب والـمؤمنـين وبـما أنزل إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وإلـى من قبله من الرسل، وإياهم جميعا وصف بأنهم علـى هدى منهم وأنهم هم الـمفلـحون. ذكر من قال ذلك من أهل التأويـل: ١٢٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بـالغيب، فهم الـمؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بـما أنزل إلـيك: الـمؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقـين فقال: أُولَئِكَ علـى هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ. وقال بعضهم: بل عَنَى بذلك الـمتقـين الذين يؤمنون بـالغيب وهم الذين يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد، وبـما أنزل إلـى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذي يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما أنزل إلـى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذين يؤمنون بـما أنزل إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما أنزل إلـى من قبله، وهم مؤمنوا أهل الكتاب الذين صدقوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به، وكانوا مؤمنـين من قبلُ بسائر الأنبـياء والكتب. وعلـى هذا التأويـل الاَخر، يحتـمل أن يكون: الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ فـي مـحل خفض، ومـحل رفع فأما الرفع فـيه فإنه يأتـيها من وجهين: أحدهما من قبل العطف علـى ما فـي يُؤْمِنُونَ بِـالغَيْبِ من ذكر (الذين). والثانـي: أن يكون خبر مبتدأ، ويكون: أُولَئِكَ علـى هُدىً مِنْ رَبّهِمْ رافعهاوأما الـخفض فعلـى العطف علـى الْـمُتّقِـينَ. وإذا كانت معطوفة علـى (الذين) اتـجه لها وجهان من الـمعنى، أحدهما: أن تكون هي (والذين) الأولـى من صفة الـمتقـين، وذلك علـى تأويـل من رأى أن الاَيات الأربع بعد الـم نزلت فـي صنف واحد من أصناف الـمؤمنـين. والوجه الثانـي: أن تكون (الذين) الثانـية معطوفة فـي الإعراب علـى (الـمتقـين) بـمعنى الـخفض، وهم فـي الـمعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك علـى مذهب من رأى أن الذين نزلت فـيهم الاَيتان الأوّلتان من الـمؤمنـين بعد قوله الـم غير الذين نزلت فـيهم الاَيتان الاَخرتان اللتان تلـيان الأوّلتـين. وقد يحتـمل أن تكون (الذين) الثانـية مرفوعة فـي هذا الوجه بـمعنى الاستئناف، إذ كانت مبتدأ بها بعد تـمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فـيها أيضا بنـية الاستئناف إذ كانت فـي مبتدأ آية وإن كانت من صفة الـمتقـين. فـالرفع إذا يصح فـيها من أربعة أوجه، والـخفض من وجهين. وأولـى التأويلات عندي بقوله: أُولَئِكَ عَلـى هُدىً مِنْ رَبّهِمْ ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عبـاس ، وأن تكون (أولئك) إشارة إلـى الفريقـين، أعنـي الـمتقـين وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْكَ، وتكون (أولئك) مرفوعة بـالعائد من ذكرهم في قوله: علـى هُدًى مِن رَبّهِمْ وأن تكون (الذين) الثانـية معطوفة علـى ما قبل من الكلام علـى ما قد بـيناه. وإنـما رأينا أن ذلك أولـى التأويلات بـالآية، لأن اللّه جل ثناؤه نعت الفريقـين بنعتهم الـمـحمود ثم أثنى علـيهم فلـم يكن عزّ وجل لـيخص أحد الفريقـين بـالثناء مع تساويهما فـيـما استـحقا به الثناء من الصفـات، كما غير جائز فـي عدله أن يتساويا فـيـما يتسحقان به الـجزاء من الأعمال فـيخص أحدهما بـالـجزاء دون الاَخر ويحرم الاَخر جزاء عمله، فكذلك سبـيـل الثناء بـالأعمال لأن الثناء أحد أقسام الـجزاء. وأما معنى قوله: أُولَئِكَ علـى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فإن معنى ذلك أنهم علـى نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد اللّه إياهم وتوفـيقه لهم كما: ١٣٠ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : أُولَئِكَ علـى هُدىً مِنْ رَبّهِمْ أي علـى نور من ربهم، واستقامة علـى ما جاءهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأُولَئِكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ. وتأويـل قوله: وأُولَئِكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ أي أولئك هم الـمُنْـجِحُون الـمدركون ما طلبوا عند اللّه تعالـى ذكره بأعمالهم وإيـمانهم بـاللّه وكتبه ورسله، من الفوز بـالثواب، والـخـلود فـي الـجنان، والنـجاة مـما أعد اللّه تبـارك وتعالـى لأعدائه من العقاب. كما: ١٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة قال: حدثنا ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وأُولَئِكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونـجوا من شرّ ما منه هربوا. ومن الدلالة علـى أن أحد معانـي الفلاح إدراك الطلبة والظفر بـالـحاجة، قول لبـيد بن ربـيعة: اعْقِلِـي إنْ كُنْتِ لَـمّا تَعْقِلِـيولَقَدْ أفْلَـحَ مَنْ كانَ عَقَلْ يعنـي ظفر بحاجته وأصاب خيرا. ومنه قول الراجز: عَدِمْتُ أُمّا وَلَدَتْ رَبـاحاجاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحا فِرْكَاحَا تَـحْسَبُ أنْ قَدْ وَلَدَتْ نَـجاحاأشْهَدُ لاَ يَزِيدُهَا فَلاحا يعنـي خيرا وقربـا من حاجتها. والفلاح: مصدر من قولك: أفلـح فلان يُفلـح إفلاحا، وفلاحا، وفَلَـحا. والفلاح أيضا البقاء، ومنه قول لبـيد: نـحُلّ بلادا كُلّها حُلّ قَبْلَنَاوَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عادٍ وحِمْيَرِ يريد البقاء. ومنه أيضا قول عَبـيد: أفْلِـحْ بـما شِئْتَ فَقَدْ يَبْلُعُ بـالضّعْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ أَلارِيبُ يريد: عش وابق بـما شئت. وكذلك قول نابغة بنـي ذبـيان: وكُلّ فَتًـى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌوَإنْ أثْرَى وَإنْ لاقـى فَلاحا أي نـجاحا بحاجته وبقاءً. ٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية، وفـيـمن نزلت، فكان ابن عبـاس يقول، كما: ١٣٢ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا أي بـما أنزل إلـيك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بـما قد جاءنا من قبلك. وكان ابن عبـاس يرى أن هذه الآية، نزلت فـي الـيهود الذين كانوا بنواحي الـمدينة علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توبـيخا لهم فـي جحودهم نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وتكذيبهم به، مع علـمهم به ومعرفتهم بأنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـيهم وإلـى الناس كافة. وهذه الآية من أوضح الأدلة علـى فساد قول الـمنكرين تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة اللّه لأن اللّه جل ثناؤه أخبر أنه ختـم علـى قلوب صنف من كفـار عبـاده وأسماعهم، ثم لـم يسقط التكلـيف عنهم ولـم يضع عن أحد منهم فرائضه ولـم يعذره فـي شيء مـما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الـختـم والطبع علـى قلبه وسمعه، بل أخبر أن لـجميعهم منه عذابـا عظيـما علـى تركهم طاعته فـيـما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتـمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون. ٧القول فـي تأويـل جل ثناؤه:{خَتَمَ اللّه عَلَىَ قُلُوبِهمْ وَعَلَىَ سَمْعِهِمْ وَعَلَىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }. وقوله: وَعلـى أبْصَارِهمْ غشِاوَة خبر مبتدأ بعد تـمام الـخبر عما ختـم اللّه جل ثناؤه علـيه من جوارح الكفـار الذين مضت قصصهم، وذلك أن غِشاوَة مرفوعة بقوله: وَعلـى أبْصَارِهمْ فذلك دلـيـل علـى أنه خبر مبتدأ، وأن قوله: خَتـمَ اللّه علـى قُلُوبِهمْ قد تناهى عند قوله: وَعلـى سَمْعِهمْ. وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لـمعنـيـين، أحدهما: اتفـاق الـحجة من القراء والعلـماء علـى الشهادة بتصحيحها، وانفراد الـمخالف لهم فـي ذلك وشذوذه عما هم علـى تـخطئته مـجمعون وكفـى بإجماع الـحجة علـى تـخطئة قراءته شاهدا علـى خطئها. والثانـي: أن الـختـم غير موصوفة به العيون فـي شيء من كتاب اللّه ، ولا فـي خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا موجود فـي لغة أحد من العرب. وقد قال تبـارك وتعالـى فـي سورة أخرى: وَختَـمَ علـى سَمْعهِ وَقَلْبِهِ ثم قال: وَجَعَلَ علـى بَصَرِه غِشاوَة فلـم يدخـل البصر فـي معنى الـختـم، وذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب. فلـم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب الغشاوة لـما وصفت من العلتـين اللتـين ذكرت، وإن كان لنصبها مخرج معروف فـي العربـية. وبـما قلنا فـي ذلك من القول والتأويـل، رُوى الـحَبر عن ابن عبـاس . ١٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي الـحسين بن الـحسن، عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس : ختـم اللّه علـى قلوبهم وعلـى سمعهم والغشاوة علـى أبصارهم. فإن قال قائل: وما وجه مخرج النصب فـيها؟ قـيـل له: إن نصبها بإضمار (جعل) كأنه قال: وجعل علـى أبصارهم غشاوة ثم أسقط (جعل) إذ كان فـي أول الكلام ما يدل علـيه. وقد يحتـمل نصبها علـى إتبـاعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبـا، وإن لـم يكن حسنا إعادة العامل فـيه علـى (غشاوة) ولكن علـى إتبـاع الكلام بعضه بعضا، كما قال تعالـى ذكره: يَطُوفُ عَلَـيْهمْ وُلْدَان مُخَـلّدُونَ بأكْوَابٍ وأبـارِيقَ ثم قال: وَفَـاكهَة مِـمّا يَتَـخَيّرُونَ وَلَـحْمِ طَيْرٍ مِـمّا يَشْتَهُونَ وحُورٍ عينٍ فخفض اللـحم والـحور علـى العطف به علـى الفـاكهة إتبـاعا لاَخر الكلام أوله. ومعلوم أن اللـحم لا يطاف به ولا بـالـحور، ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه: عَلَفْتُها تِبْنا وَماءً بـارِداحَتّـى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها ومعلوم أن الـماء يشرب ولا يعلف به، ولكنه نصب ذلك علـى ما وصفت قبل. وكما قال الاَخر: وَرَأيْتُ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدَا سَيْفـا وَرُمْـحَا وكان ابن جريج يقول فـي انتهاء الـخبر عن الـختـم إلـى قوله: وَعلـى سَمْعِهِمْ وابتداء الـخبر بعده بـمثل الذي قلنا فـيه، ويتأول فـيه من كتاب اللّه : فإنْ يَشأ اللّه يَخْتِـم علـى قَلْبِكَ. ١٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: الـختـم علـى القلب والسمع، والغشاوة علـى البصر، قال اللّه تعالـى ذكره: فإنْ يَشأ اللّه يَخْتِـمْ علـى قَلْبِكَ وقال: وخَتـمَ علـى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ علـى بَصَرِهِ غِشاوَةً والغشاوة فـي كلام العرب: الغطاء، ومنه قول الـحارث بن خالد بن العاص: تَبِعْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَـيْها غِشاوَةٌفَلـمّا انْـجَلَتْ قَطّعْتُ نَفْسِي ألُومُها ومنه يقال: تغشاه الهم: إذا تـجللّه وركبه. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: هَلا سألْتِ بَنِـي ذُبْـيانَ ما حَسَبـيإذَا الدّخانُ تَغَشّى الأشمَطَ البَرِمَا يعنـي بذلك: إذا تـجللّه وخالطه. وإنـما أخبر اللّه تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبـار الـيهود، أنه قد ختـم علـى قلوبهم وطبع علـيها فلا يعقلون للّه تبـارك وتعالـى موعظة وعظهم بها فـيـما آتاهم من علـم ما عندهم من كتبه، وفـيـما حدّد فـي كتابه الذي أوحاه وأنزله إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وعلـى سمعهم فلا يسمعون من مـحمد صلى اللّه عليه وسلم نبـيّ اللّه تـحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها علـيهم بنبوّته، فـيتذكروا ويحذروا عقاب اللّه عز وجل فـي تكذيبهم إياه، مع علـمهم بصدقه وصحة أمره وأعلـمه مع ذلك أن علـى أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبـيـل الهدى فـيعلـموا قبح ما هم علـيه من الضلالة والردي. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن جماعة من أهل التأويـل. ١٣٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : خَتـمَ اللّه علـى قُلُوبِهِمْ وَعلـى سَمْعهِمْ وَعلـى أبْصَارِهِمْ غِشاوَة أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الـحقّ الذي جاءك من ربك، حتـى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك. ١٣٦ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: خَتَـم اللّه علـى قُلُوبِهِمْ وَعلـى سَمْعِهِمْ يقول فلا يعقلون، ولا يسمعون. و يقول: وجعل علـى أبصارهم غشاوة، يقول: علـى أعينهم فلا يبصرون. وأما آخرون فإنهم كانوا يتأوّلون أن الذين أخبر اللّه عنهم من الكفـار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر. ١٣٧ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: هاتان الاَيتان إلـي: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ هم: الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَةَ اللّه كُفْرا وأحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَار وهم الذين قتلوا يوم بدر فلـم يدخـل من القادة أحد فـي الإسلام إلا رجلان: أبو سفـيان بن حرب، والـحكم بن أبـي العاص. ١٣٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن الـحسن، قال: أما القادة فلـيس فـيهم مـجيب، ولا ناج، ولا مهتد، وقد دللنا فـيـما مضى علـى أولـى هذين التأويـلـين بـالصواب كرهنا إعادته. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ. وتأويـل ذلك عندي كما قاله ابن عبـاس وتأوّله. ١٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : ولهم بـما هم علـيه من خلافك عذاب عظيـم، قال: فهذا فـي الأحبـار من يهود فـيـما كذّبوك به من الـحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم. ٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّه وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قال أبو جعفر: أما قوله: وَمِنَ النّاسِ فإن فـي الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه، وإنـما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الاَخر: أن يكون أصله (أُناس) أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخـلتها الألف واللام الـمعرّفتان، فأدغمت اللام التـي دخـلت مع الألف فـيها للتعريف فـي النون، كما قـيـل فـي: لكنّ هُوَ اللّه رَبـي علـى ما قد بـينا فـي اسم اللّه الذي هو اللّه . وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقـيـل فـي التصغير: أُنَـيْس، فردّ إلـى أصله. وأجمع جميع أهل التأويـل علـى أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل النفـاق، وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل بأسمائهم: ١٤٠ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنـينَ يعنـي الـمنافقـين من الأوس والـخزرج، ومن كان علـى أمرهم. وقد سُمّي فـي حديث ابن عبـاس هذا أسماؤهم عن أبـيّ بن كعب، غير أنـي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم. ١٤١ـ حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُم بِـمُؤْمِنِـينَ حتـى بلغ: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ قال: هذه فـي الـمنافقـين. ١٤٢ـ حدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هذه الآية إلـى ثلاث عشرة فـي نعت الـمنافقـين. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله. ١٤٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمؤْمِنِـينَ هم الـمنافقون. ١٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس في قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ إلـى: فَزَادَهُمُ اللّه مَرضا وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ قال: هؤلاء أهل النفـاق. ١٤٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج في قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ قال: هذا الـمنافق يخالف قوله فعلَه وسرّه علانـيَته ومدخـلُه مخرجَه ومشهدُه مغيَبه. وتأويـل ذلك أن اللّه جل ثناؤه لـمّا جمع لرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أمره فـي دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر اللّه بها كلـمته، وفشا فـي دور أهلها الإسلام، وقهر بها الـمسلـمون من فـيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذلّ بها من فـيها من أهل الكتاب أظهر أحبـار يهودها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم، هداهم اللّه للإسلام فأسلـموا، كما قال اللّه جل ثناؤه: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيـمانِكُمْ كُفّـارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمْ الـحَقّ وطابقهم سرّا علـى معاداة النبـي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذي آووا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا فـي شركهم وجاهلـيتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويـل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم. وظاهروهم علـى ذلك فـي خفـاء غير جهار حذار القتل علـى أنفسهم والسبـاء من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وركونا إلـى الـيهود، لـما هم علـيه من الشرك وسوء البصيرة بـالإسلام. فكانوا إذا لقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهل الإيـمان به من أصحابه، قالوا لهم حذارا علـى أنفسهم: إنا مؤمنون بـاللّه وبرسوله وبـالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلـمة الـحق لـيدرءوا عن أنفسهم حكم اللّه فـيـمن اعتقد ما هم علـيه مقـيـمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم، وإذا لقوا إخوانهم من الـيهود وأهل الشرك والتكذيب بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به فخـلوا بهم، قالوا: إنّا مَعَكُمْ إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءونَ فإياهم عنى جل ذكره بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يعنـي بقوله تعالى خبرا عنهم (آمّنا بـاللّه ): صدقنا بـاللّه . وقد دللنا علـى أن معنى التصديق فـيـما مضى قبل من كتابنا هذاوقوله: وَبـالـيَوْمِ الاَخرِ يعنـي بـالبعث يوم القـيامة. وإنـما سُمِي يوم القـيامة الـيوم الاَخر: لأنه آخر يوم، لا يوم بعده سواه. وهذه الآية من أوضح الأدلة علـى فساد قول الـمنكرين تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة اللّه لأن اللّه جل ثناؤه أخبر أنه ختـم علـى قلوب صنف من كفـار عبـاده وأسماعهم، ثم لـم يسقط التكلـيف عنهم ولـم يضع عن أحد منهم فرائضه ولـم يعذره فـي شيء مـما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الـختـم والطبع علـى قلبه وسمعه، بل أخبر أن لـجميعهم منه عذابـا عظيـما علـى تركهم طاعته فـيـما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتـمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون. فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للاَخرة، ولا فناء، ولا زوال؟. قـيـل: إن الـيوم عند العرب إنـما سمي يوما بلـيـلته التـي قبله، فإذا لـم يتقدم النهار لـيـل لـم يسمّ يوما، فـيوم القـيامة يوم لا لـيـل له بعده سوى اللـيـلة التـي قامت فـي صبـيحتها القـيامة، فذلك الـيوم هو آخر الأيام، ولذلك سماه اللّه جل ثناؤه: الـيَوْم الاَخر، ونعته بـالعقـيـم، ووصفه بأنه يوم عقـيـم لأنه لا لـيـل بعده. وأما تأويـل قوله:: وَما هُمْ بِـمُؤْمنـينَ ونفـيه عنهم جل ذكره اسم الإيـمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا بـاللّه وبـالـيوم الاَخر فإن ذلك من اللّه جل وعز تكذيب لهم فـيـما أخبروا عن اعتقادهم من الإيـمان والإقرار بـالبعث، وإعلام منه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما فـي ضمائر قلوبهم، وضد ما فـي عزائم نفوسهم. وفـي هذه الآية دلالة واضحة علـى بطول ما زعمته الـجهمية من أن الإيـمان هو التصديق بـالقول دون سائر الـمعانـي غيره. وقد أخبر اللّه جل ثناؤه عن الذين ذكرهم فـي كتابه من أهل النفـاق أنهم بألسنتهم: آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخرِ ثم نفـى عنهم أن يكونوا مؤمنـين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قـيـلهم ذلكوقوله: وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يعنـي بـمصدقـين فـيـما يزعمون أنهم به مصدقون. ٩القول فـي تأويـل قوله تعال {يُخَادِعُونَ اللّه وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } قال أبو جعفر: وخداع الـمنافق ربه والـمؤمنـين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي فـي قلبه من الشك والتكذيب لـيدرأ عن نفسه بـما أظهر بلسانه حُكْمَ اللّه عز وجل اللازمَ من كان بـمثل حاله من التكذيب لو لـم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسبـاء، فذلك خداعه ربه وأهل الإيـمان بـاللّه . فإن قال قائل: وكيف يكون الـمنافق للّه وللـمؤمنـين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقـية؟ قـيـل: لا تـمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو فـي ضميره تقـية لـينـجو مـما هو له خائف، فنـجا بذلك مـما خافه مخادعا لـمن تـخـلص منه بـالذي أظهر له من التقـية، فكذلك الـمنافق سمي مخادعا للّه وللـمؤمنـين بـاظهاره ما أظهر بلسانه تقـية مـما تـخـلص به من القتل والسبـاء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعا للـمؤمنـين فـي عاجل الدنـيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنـيتها ويسقـيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومـجرّعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب اللّه وألـيـم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنّا منه مع إساءته إلـيها فـي أمر معادها أنه إلـيها مـحسن، كما قال جل ثناؤه: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعَرُونَ إعلاما منه عبـاده الـمؤمنـين أن الـمنافقـين بإساءتهم إلـى أنفسهم فـي إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم علـى عمياء من أمرهم مقـيـمون. وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك كان ابن زيد يقول. ١٤٦ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد، عن قول اللّه جل ذكره: يُخادعُونَ اللّه وَالّذِينَ آمَنُوا إلـى آخر الآية، قال: هؤلاء الـمنافقون يخادعون اللّه ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بـما أظهروا. وهذه الآية من أوضح الدلـيـل علـى تكذيب اللّه جل ثناؤه قول الزاعمين: إن اللّه لا يعذب من عبـاده إلا من كفر به عنادا، بعد علـمه بوحدانـيته، وبعد تقرّر صحة ما عاند ربه تبـارك وتعالـى علـيه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده لأن اللّه جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بـما وصفهم به من النفـاق وخداعهم إياه والـمؤمنـين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فـيـما هم علـيه من البـاطل مقـيـمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيـمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن لهم عذابـا ألـيـما بتكذيبهم بـما كانوا يكذبونه من نبوّة نبـيه واعتقاد الكفر به، وبـما كانوا يكذبون فـي زعمهم أنهم مؤمنون، وهم علـى الكفر مصرّون. فإن قال لنا قائل: قد علـمت أن الـمفـاعلة لا تكون إلا من فـاعلـين، كقولك: ضاربت أخاك، وجالست أبـاك إذا كان كل واحد مـجالس صاحبه ومضاربه. فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنـما يقال: ضربت أخاك وجلست إلـى أبـيك، فمن خادع الـمنافق فجاز أن يقال فـيه: خادع اللّه والـمؤمنـين. قـيـل: قد قال بعض الـمنسوبـين إلـى العلـم بلغات العرب: إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة، أعنـي (يُخادع) بصورة (يُفـاعل) وهو بـمعنى (يَفْعل) فـي حروف أمثالها شاذّة من منطق العرب، نظير قولهم: قاتلك اللّه ، بـمعنى قتلك اللّه . ولـيس القول فـي ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من التفـاعل الذي لا يكون إلا من اثنـين كسائر ما يعرف من معنى (يُفـاعل ومُفـاعل) فـي كل كلام العرب، وذلك أن الـمنافق يخادع اللّه جل ثناؤه بكذبه بلسانه علـى ما قد تقدم وصفه، واللّه تبـارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بـما فـيه نـجاة نفسه فـي آجل معاده، كالذي أخبر في قوله: {وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـمْلـي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ لِـيَزْدادُوا إثْما} وبـالـمعنى الذي أخبر أنه فـاعل به فـي الاَخرة بقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ وَالـمُنافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} الآية، فذلك نظير سائر ما يأتـي من معانـي الكلام بـيفـاعل ومفـاعل. وقد كان بعض أهل النـحو من أهل البصرة يقول: لا تكون الـمفـاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنـما قـيـل: يخادعون اللّه عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا، فقد علـموا خلاف ذلك فـي أنفسهم بحجة اللّه تبـارك اسمه الواقعة علـى خـلقه بـمعرفته وما يخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ قال: وقد قال بعضهم: وما يخدعون يقول: يخدعون أنفسهم بـالتـخـلـية بها. وقد تكون الـمفـاعلة من واحد فـي أشياء كثـيرة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ. إن قال لنا قائل: أولـيس الـمنافقون قد خدعوا الـمؤمنـين بـما أظهروا بألسنتهم من قـيـل الـحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتـى سلـمت لهم دنـياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين فـي أمر آخرتهم؟ قـيـل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا الـمؤمنـين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقـيقة خدعة جازت لهم علـى الـمؤمنـين، كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلانا، أوجبنا له حقـيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع الـمنافقون ربهم والـمؤمنـين، ولـم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظير ما تقول فـي رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولـم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلانا ولـم يقتل إلا نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفـي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع الـمنافق ربه والـمؤمنـين، ولـم يخدع إلا نفسه، فتثبت منه مخادعة ربه والـمؤمنـين، وتنفـي عنه أن يكون خدع غير نفسه لأن الـخادع هو الذي قد صحت له الـخديعة ووقع منه فعلها. فـالـمنافقون لـم يخدعوا غير أنفسهم، لأن ما كان لهم من مال وأهل فلـم يكن الـمسلـمون ملكوه علـيهم فـي حال خداعهم إياه عنه بنفـاقهم ولا قبلها فـيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنـما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي فـي ضمائرهم، ويحكم اللّه لهم فـي أموالهم وأنفسهم وذراريهم فـي ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إلـيه من الـملة، واللّه بـما يخفون من أمورهم عالـم. وإنـما الـخادع من خَتَلَ غيره عن شيئه، والـمخدوع غير عالـم بـموضع خديعة خادعه. فأما والـمخادَع عارف بخداع صاحبه إياه، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه، بل إنـما يتـجافـى للظان به أنه له مخادع استدراجا لـيبلغ غاية يتكامل له علـيه الـحجة للعقوبة التـي هو بها موقع عند بلوغه إياها. والـمستدرج غير عالـم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف بـاطلاعه علـى ضميره، وأن إمهال مستدرجيه إياه تركه معاقبته علـى جرمه لـيبلغ الـمخاتل الـمخادع من استـحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح الـمستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية، فإنـما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفـى اللّه جل ثناؤه عن الـمنافق أن يكون خدعه غير نفسه، إذ كانت الصفة التـي وصفنا صفته. وإذ كان الأمر علـى ما وصفنا من خداع الـمنافق ربه وأهل الإيـمان به، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلـى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لـما يورطها بفعله من الهلاك والعطب، فـالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ دون: (وما يخادعون)، لأن لفظ الـمخادع غير موجب تثبـيت خديعة علـى صحة، ولفظ خادع موجب تثبـيت خديعة علـى صحة. ولا شك أن الـمنافق قد أوجب خديعة اللّه عز وجل لنفسه بـما ركب من خداعه ربه ورسوله والـمؤمنـين بنفـاقه، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ. ومن الدلالة أيضا علـى أن قراءة من قرأ: وما يَخْدَعُونَ أولـى بـالصحة من قراءة من قرأ: (وما يخادعون) أن اللّه جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون اللّه والـمؤمنـين فـي أول الآية، فمـحال أن ينفـي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لأن ذلك تضادّ فـي الـمعنى، وذلك غير جائز من اللّه جل وعز. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَما يَشْعُرُونَ: وَما يدرون، يقال: ما شعر فلان بهذا الأمر، وهو لا يشعر به إذا لـم يدر ولـم يعلـم شعرا وشعورا، كما قال الشاعر: عَقّوا بِسَهْمٍ ولَـمْ يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌثُمّ اسْتَفـاءُوا وَقالُوا حَبّذَا الوَضَحُ يعنـي بقوله: (لـم يشعر به): لـم يدر به أحد ولـم يعلـم. فأخبر اللّه تعالـى ذكره عن الـمنافقـين، أنهم لا يشعرون بأن اللّه خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من اللّه جل ثناؤه إبلاغ إلـيهم فـي الـحجة والـمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعة، ولها فـي الاَجل مضرّة. كالذي: ١٤٧ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ قال: ما يشعرون أنهم ضرّوا أنفسهم بـما أسرّوا من الكفر والنفـاق. وقرأ قول اللّه : يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعا قال: هم الـمنافقون، حتـى بلغ وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ علـى شَيءٍ قد كان الإيـمان ينفعهم عندكم. ١٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وأصل الـمرض: السقم، ثم يقال ذلك فـي الأجساد والأديان فأخبر اللّه جل ثناؤه أن فـي قلوب الـمنافقـين مرضا. وإنـما عنى تبـارك وتعالـى بخبره عن مرض قلوبهم الـخبر عن مرض ما فـي قلوبهم من الاعتقاد ولكن لـما كان معلوما بـالـخبر عن مرض القلب أنه معنىّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بـالـخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الـخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لـجأ: وَسَبّحَتِ الـمَدِينَةُ لا تَلُـمْهارأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهارا يريد وسبح أهل الـمدينة. فـاستغنى بـمعرفة السامعين خبره بـالـخبر عن الـمدينة عن الـخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسيّ: هَلاّ سألْتِ الـخَيْـلَ يا ابنْةَ مالِكِإنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِـمَا لَـمْ تَعْلَـمِي يريد: هلا سألت أصحاب الـخيـل؟ ومنه قولهم: يا خيـل اللّه اركبـي، يراد: يا أصحاب خيـل اللّه اركبوا. والشواهد علـى ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. فكذلك معنى قول اللّه جل ثناؤه: فـي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ إنـما يعنـي فـي اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه فـي الدين والتصديق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به من عند اللّه مرض وسقم. فـاجتزأ بدلالة الـخبر عن قلوبهم علـى معناه عن تصريح الـخبر عن اعتقادهم. والـمرض الذي ذكر اللّه جل ثناؤه أنه فـي اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكهم فـي أمر مـحمد، وما جاء به من عند اللّه وتـحيرهم فـيه، فلا هم به موقنون إيقان إيـمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم اللّه عز وجل مذبذبون بـين ذلك لا إلـى هؤلاء ولا إلـى هؤلاء، كما يقال: فلان تـمرض فـي هذا الأمر، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فـيه. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك تظاهر القول فـي تفسيره من الـمفسرين ذكر من قال ذلك: ١٤٨ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شكّ. ١٤٩ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: الـمرض: النفـاق. ١٥٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول: فـي قلوبهم شك. ١٥١ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلَـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قوله: فـي قُلُوبِهِمْ مَرَض قال: هذا مرض فـي الدين ولـيس مرضا فـي الأجساد قال: هم الـمنافقون. ١٥٢ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن سعيد عن قتادة في قوله: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: فـي قلوبهم ريبة وشك فـي أمر اللّه جل ثناؤه. ١٥٣ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال: هؤلاء أهل النفـاق، والـمرض الذي فـي قلوبهم الشكّ فـي أمر اللّه تعالـى ذكره. ١٥٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ حتـى بلغ: فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ قال الـمرض: الشك الذي دخـلهم فـي الإسلام. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضا. قد دللنا آنفـا علـى أن تأويـل الـمرض الذي وصف اللّه جل ثناؤه أنه فـي قلوب الـمنافقـين: هو الشكّ فـي اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم علـيه فـي أمر مـحمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمر نبوّته وما جاء به مقـيـمون. فـالـمرض الذي أخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنه زادهم علـى مرضهم هو نظير ما كان فـي قلوبهم من الشك والـحيرة قبل الزيادة، فزادهم اللّه بـما أحدث من حدوده وفرائضه التـي لـم يكن فرضها قبل الزيادة التـي زادها الـمنافقـين من الشك والـحيرة إذْ شكوا وارتابوا فـي الذي أحدث لهم من ذلك إلـى الـمرض والشك الذي كان فـي قلوبهم فـي السالف من حدوده وفرائضه التـي كان فرضها قبل ذلك، كما زاد الـمؤمنـين به إلـى إيـمانهم الذي كانوا علـيه قبل ذلك بـالذي أحدث لهم من الفرائض والـحدود إذ آمنوا به، إلـى إيـمانهم بـالسالف من حدوده وفرائضه إيـمانا. كالذي قال جل ثناؤه فـي تنزيـله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيـمَانا فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيـمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلـى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كافِرُونَ} فـالزيادة التـي زيدها الـمنافقون من الرجاسة إلـى رجاستهم هو ما وصفنا، والزيادة التـي زيدها الـمؤمنون إلـى إيـمانهم هو ما بـينا، وذلك هو التأويـل الـمـجمع علـيه. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل: ١٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت. عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضا قال: شكّا. ١٥٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرّة الهمدانـي عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضا يقول: فزادهم اللّه ريبة وشكا. ١٥٧ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن سعيد عن قتادة: فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضا يقول: فزادهم اللّه ريبة وشكا فـي أمر اللّه . ١٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه : فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضا قال: زادهم رجسا. وقرأ قول اللّه عز وجل: {فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيـمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسا إلـى رِجْسِهِمْ} قال: شرّا إلـى شرّهم، وضلالة إلـى ضلالتهم. ١٥٩ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَزَادَهُمُ اللّه مَرَضا قال زادهم اللّه شكا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. قال أبو جعفر: والألـيـم: هو الـموجع، ومعناه: ولهم عذاب مؤلـم، فصرف (مؤلـم) إلـى (ألـيـم)، كما يقال: ضرب وجيع بـمعنى موجع، واللّه بديع السموات والأرض بـمعنى مبدع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبـيدي: أمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيعُيُؤَرّقُنِـي وأصْحابـي هُجُوعُ بـمعنى الـمُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة: وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُور شَمَرْدلاتٍيَصُدّ وُجُوهَها وَهَجٌ ألِـيـمُ ويروى (يصك)، وإنـما الألـيـم صفة للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلـم. وهو مأخوذ من الألـم، والألـم: الوجع. كما: ١٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر عن أبـيه عن الربـيع، قال: الألـيـم: الـموجع. ١٦١ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الألـيـم، الـموجع. ١٦٢ـ وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك في قوله ألِـيـمٌ قال: هو العذاب الـموجع، وكل شيء فـي القرآن من الألـيـم فهو الـموجع. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بِـمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ. اختلفت القراءة فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: بِـمَا كانُوا يَكْذِبُونَ مخففة الذال مفتوحة الـياء، وهي قراءة معظم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: يُكَذّبُونَ بضم الـياء وتشديد الذال، وهي قراءة معظم أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة. وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الـياء رأوا أن اللّه جل ثناؤه إنـما أوجب للـمنافقـين العذاب الألـيـم بتكذيبهم نبـيهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لأحد الـيسير من العذاب، فكيف بـالألـيـم منه؟ ولـيس الأمر فـي ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن اللّه عزّ وجلّ أنبأ عن الـمنافقـين فـي أول النبأ عنهم فـي هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الإيـمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا للّه عزّ وجلّ ولرسوله وللـمؤمنـين، فقال: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبِـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يُخَادِعُونَ اللّه وَالّذِينَ آمَنُوا} بذلك من قـيـلهم مع استسرارهم الشك والريبة، وما يخدعون بصنـيعهم ذلك إلا أنفسهم دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين، وما يشعرون بـموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج اللّه عزّ وجل إياهم بإملائه لهم فـي قلوبهم شك أي نفـاق وريبة، واللّه زائدهم شكّا وريبة بـما كانوا يكذبون اللّه ورسوله والـمؤمنـين بقولهم بألسنتهم: آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وهم فـي قـيـلهم ذلك كَذَبة لاستسرارهم الشك والـمرض فـي اعتقادات قلوبهم. فـي أمر اللّه وأمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فأولـى فـي حكمة اللّه جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم علـى ما افتتـح به الـخبر عنهم من قبـيح أفعالهم وذميـم أخلاقهم، دون ما لـم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيـله بذلك نزل. وهو أن يفتتـح ذكر مـحاسن أفعال قوم ثم يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما افتتـح به ذكره من أفعالهم، ويفتتـح ذكر مساوىء أفعال آخرين ثم يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم. فكذلك الصحيح من القول فـي الاَيات التـي افتتـح فـيها ذكر بعض مساوىء أفعال الـمنافقـين أن يختـم ذلك بـالوعيد علـى ما افتتـح به ذكره من قبـائح أفعالهم، فهذا مع دلالة الآية الأخرى علـى صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأن الصواب من التأويـل ما تأوّلنا من أن وعيد اللّه الـمنافقـين فـي هذه الآية العذاب الألـيـم علـى الكذب الـجامع معنى الشك والتكذيب، وذلك قول اللّه تبـارك وتعالـى: {إذَا جاءَكَ الـمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّه وَاللّه يَعْلَـمُ إنّكَ لَرَسُولُهُ واللّه يَشْهَدُ إنّ الـمُنافِقِـينَ لَكاذِبُونَ اتّـخَذُوا أيـمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِـيـلِ اللّه إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} والآية الأخرى فـي الـمـجادلة: {اتّـخَذوُا أيْـمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدوّا عَنْ سَبِـيـلِ اللّه فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} فأخبر جل ثناؤه أن الـمنافقـين بقـيـلهم ما قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مع اعتقادهم فـيه ما هفم معتقدون، كاذبون. ثم أخبر تعالـى ذكره أن العذاب الـمهين لهم علـى ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة علـى ما قرأه القارئون فـي سورة البقرة: وَلهُمْ عَذَابٌ ألـيِـمٌ بِـمَا كانُوا يُكذَبّوُنَ لكانت القراءة فـي السورة الأخرى: {واللّه يشهد إن الـمنافقـين لـمكذّبون}، لـيكون الوعيد لهم الذي هو عقـيب ذلك وعيدا علـى التكذيب، لا علـى الكذب. وفـي إجماع الـمسلـمين علـى أن الصواب من القراءة في قوله: وَاللّه يَشْهَدُ إنّ الـمُنافَقِـينَ لَكاذِبُونَ بـمعنى الكذب، وأن إيعاد اللّه تبـارك وتعالـى فـيه الـمنافقـين العذاب الألـيـم علـى ذلك من كذبهم، أوضح الدلالة علـى أن الصحيح من القراءة فـي سورة البقرة: بـما كَانُوا يَكْذِبُون بـمعنى الكذب، وأن الوعيد من اللّه تعالـى ذكره للـمنافقـين فـيها علـى الكذب حق، لا علـى التكذيب الذي لـم يجز له ذكر نظير الذي فـي سورة الـمنافقـين سواء. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن (ما) من قول اللّه تبـارك اسمه: بِـمَا كانُوا يَكُذِبُون اسم للـمصدر، كما أن أن والفعل اسمان للـمصدر فـي قولك: أحبّ أن تأتـينـي، وأن الـمعنى إنـما هو بكذبهم وتكذيبهم قال: وأدخـل (كان) لـيخبر أنه كان فـيـما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبد اللّه . فأنت تعجب من عبد اللّه لا من كونه، وإنـما وقع التعجب فـي اللفظ علـى كونه. وكان بعض نـحويـي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستـخطئه و يقول: إنـما ألغيت (كان) فـي التعجب لأن الفعل قد تقدمها، فكأنه قال: (حسنا كان زيد)، (وحسن كان زيد) يبطل (كان)، ويعمل مع الأسماء والصفـات التـي بألفـاظ الأسماء إذا جاءت قبل (كان) ووقعت (كان) بـينها وبـين الأسماء. وأما العلة فـي إبطالها إذا أبطلت فـي هذه الـحال فشبه الصفـات والأسماء بفعل ويفعل اللتـين لا يظهر عمل كان فـيهما، ألا ترى أنك تقول: (يقوم كان زيد)، ولا يظهر عمل (كان) فـي (يقوم)، وكذلك (قام كان زيد). فلذلك أبطل عملها مع فـاعل تـمثـيلاً بفعل ويفعل، وأعملت مع فـاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل فـي الأسماء. فأما إذا تقدمت (كان) الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها، فخطأ عنده أن تكون (كان) مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه، وتأوّل قوله اللّه عزّ وجل: بِـمَا كانُوا يَكذْبِوُنَ أنه بـمعنى: الذي يكذبونه. ١١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ قَالُوَاْ إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فروي عن سلـمان الفـارسي أنه كان يقول: لـم يجيءْ هؤلاء بعد. ١٦٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعت الـمنهال بن عمرو يحدّث عن عبـاد بن عبد اللّه ، عن سلـمان، قال: ما جاء هؤلاء بعد، الذين إذَا قـيـل لهمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ. حدثنـي أحمد بن عثمان بن حكيـم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلـمان أنه قال فـي هذه الآية: وَإذَا قـيـل لهمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ قال ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بـما: ١٦٤ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَإذَا قـيـل لهمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْض قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ هم الـمنافقون. أما لا تفسدوا فـي الأرض فإن الفساد هو الكفر والعمل بـالـمعصية. ١٦٥ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَإذَا قـيـل لهمْ لاَ تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ يقول: لا تعصوا فـي الأرض قال: فكان فسادهم علـى أنفسهم ذلك معصية اللّه جل ثناؤه، لأن من عصى اللّه فـي الأرض أو أمر بـمعصيته فقد أفسد فـي الأرض، لأن إصلاح الأرض والسماء بـالطاعة. وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: إن قول اللّه تبـارك اسمه: وَإذَا قـيـل لهمْ لا تُفْسِدُوا فـي الأرْضِ قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ نزلت فـي الـمنافقـين الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإن كان معنـيا بها كل من كان بـمثل صفتهم من الـمنافقـين بعدهم إلـى يوم القـيامة. وقد يحتـمل قول سلـمان عند تلاوة هذه الآية: (ما جاء هؤلاء بعد) أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبرا منه عمن جاء منهم بعدهم ولـما يجيء بعد، لا أنه عنى أنه لـم يـمض مـمن هذه صفته أحد. وإنـما قلنا أولـى التأويـلـين بـالآية ما ذكرنا، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك صفة من كان بـين ظهرانـي أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الـمنافقـين، وأن هذه الاَيات فـيهم نزلت. والتأويـل الـمـجمع علـيه أولـى بتأويـل القرآن من قول لا دلالة علـى صحته من أصل ولا نظير. والإفساد فـي الأرض: العمل فـيها بـما نهى اللّه جل ثناؤه عنه، وتضيـيع ما أمر اللّه بحفظه. فذلك جملة الإفساد، كما قال جل ثناؤه فـي كتابه مخبرا عن قـيـل ملائكته: {قالُوا أَتَـجْعَلَ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ} يعنون بذلك: أتـجعل فـي الأرض من يعصيك ويخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفـاق مفسدون فـي الأرض بـمعصِيتهم فـيها ربهم، وركوبهم فـيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضيـيعهم فرائضه وشكهم فـي دين اللّه الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بـالتصديق به والإيقان بحقّـيته، وكذبهم الـمؤمنـين بدعواهم غير ما هم علـيه مقـيـمون من الشك والريب، وبـمظاهرتهم أهل التكذيب بـاللّه وكتبه ورسله علـى أولـياء اللّه إذا وجدوا إلـى ذلك سبـيلاً. فذلك إفساد الـمنافقـين فـي أرض اللّه ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلـحون فـيها. فلـم يسقط اللّه جل ثناؤه عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم ألـيـم ما أعدّ من عقابه لأهل معصيته بحسبـانهم أنهم فـيـما أتوا من معاصي اللّه مصلـحون، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره والألـيـمَ من عذابه والعارَ العاجل بسبّ اللّه إياهم وشتـمه لهم، فقال تعالـى: أَلاّ إنّهُمْ هُمُ الـمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وذلك من حكم اللّه جل ثناؤه فـيهم أدلّ الدلـيـل علـى تكذيبه تعالـى قول القائلـين: إن عقوبـات اللّه لا يستـحقها إلا الـمعاند ربه فـيـما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علـمه وثبوت الـحجة علـيه بـمعرفته بلزوم ذلك إياه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالُوا إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ. وتأويـل ذلك كالذي قاله ابن عبـاس ، الذي: ١٦٦ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: إنّـمَا نَـحْنُ مُصْلِـحُونَ أي قالوا: إنـما نريد الإصلاح بـين الفريقـين من الـمؤمنـين وأهل الكتاب. وخالفه فـي ذلك غيره. ١٦٧ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَإذَا قـيـل لهمْ لاَ تُفْسِدُوا فِـي الأرْضِ قال: إذا ركبوا معصية اللّه ، فقـيـل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنـما نـحن علـى الهدى مصلـحون. قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان منهم فـي ذلك أعنـي فـي دعواهم أنهم مصلـحون فهم لا شكّ أنهم كانوا يحسبون أنهم فـيـما أتوا من ذلك مصلـحون. فسواء بـين الـيهود والـمسلـمين كانت دعواهم الإصلاح أو فـي أديانهم، وفـيـما ركبوا من معصية اللّه ، وكذبهم الـمؤمنـين فـيـما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون، لأنهم كانوا فـي جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم مـحسنـين، وهم عند اللّه مسيئون، ولأمر اللّه مخالفون لأن اللّه جل ثناؤه قد كان فرض علـيهم عداوة الـيهود وحربهم مع الـمسلـمين، وألزمهم التصديق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به من عند اللّه كالذي ألزم من ذلك الـمؤمنـين، فكان لقاؤهم الـيهود علـى وجه الولاية منهم لهم، وشكهم فـي نبوّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفـيـما جاء به أنه من عند اللّه أعظم الفساد، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى: فـي أديانهم، أو فـيـما بـين الـمؤمنـين والـيهود، فقال جل ثناؤه فـيهم: ألا إنّهُمُ هُمْ الـمُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من الـمؤمنـين عن الإفساد فـي الأرض ولكن لا يشعرون. ١٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَلآ إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـَكِن لاّ يَشْعُرُونَ } وهذا القول من اللّه جل ثناؤه تكذيب للـمنافقـين فـي دعواهم إذا أمروا بطاعة اللّه فـيـما أمرهم اللّه به، ونُهوا عن معصية اللّه فـيـما نهاهم اللّه عنه. قالوا: إنـما نـحن مصلـحون لا مفسدون، ونـحن علـى رشد وهدى فـيـما أنكرتـموه علـينا دونكم لا ضالون. فكذبهم اللّه عزّ وجلّ فـي ذلك من قـيـلهم، فقال: ألا إنّهُمُ هُمُ الـمُفْسِدُونَ الـمخالفون أمر اللّه عزّ وجل، الـمتعدّون حدوده الراكبون معصيته، التاركون فروضه وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بـالقسط من الـمؤمنـين وينهونهم عن معاصي اللّه فـي أرضه من الـمسلـمين. ١٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النّاسُ قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السّفَهَآءُ أَلآ إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَآءُ وَلَـَكِن لاّ يَعْلَمُونَ } قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: وَإذَا قـيـل لهمْ آمِنُوا كما آمَنَ النّاسُ يعنـي: وإذا قـيـل لهؤلاء الذين وصفهم اللّه ونعتهم بأنهم يقولون آمَنّا بـاللّه وَبِـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ: صَدّقوا بـمـحمد وبـما جاء به من عند اللّه كما صدّق به الناس. ويعنـي ب(الناس) الـمؤمنـين الذين آمنوا بـمـحمد ونبوّته وما جاء به من عند اللّه . كما: ١٦٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس في قوله: وَإذَا قـيـل لهمْ آمَنُوا كما آمَنَ النّاسُ يقول: وإذا قـيـل لهم صدّقوا كما صدّق أصحاب مـحمد، قولوا: إنه نبـيّ ورسول، وإن ما أنزل علـيه حق. وصَدّقوا بـالاَخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الـموت. وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي (الناس) وهم بعض الناس لا جميعهم لأنهم كانوا معروفـين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم. وإنـما معناه: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل الـيقـين والتصديق بـاللّه وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاء به من عند اللّه وبـالـيوم الاَخر، فلذلك أدخـلت الألف واللام فـيه كما أدخـلتا في قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشُوهُمْ} لأنه أشير بدخولها إلـى ناس معروفـين عند من خوطب بذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قَالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهَاءُ. قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سفـيه، كالعلـماء جمع علـيـم، والـحكماء جمع حكيـم. والسفـيه: الـجاهل الضعيف الرأي، القلـيـل الـمعرفة بـمواضع الـمنافع والـمضارّ ولذلك سمى اللّه عزّ وجل النساء والصبـيان سفهاء، فقال تعالـى: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهَاء أَمْوَالَكُمْ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ} قِـياما فقال عامة أهل التأويـل: هم النساء والصبـيان لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بـمواضع الـمصالـح والـمضارّ التـي تصرف إلـيها الأموال. وإنـما عنى الـمنافقون بقـيـلهم أنؤمن كما آمن السفهاء، إذْ دُعوا إلـى التصديق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به من عند اللّه ، والإقرار بـالبعث، فقال لهم: آمنوا كما آمن أصحاب مـحمد وأتبـاعه من الـمؤمنـين الـمصدقـين به أهل الإيـمان والـيقـين والتصديق بـاللّه وبـما افترض علـيهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وفـي كتابه وبـالـيوم الاَخر، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمن أهل الـجهل ونصدق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي: ١٦٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم، قالوا: أنُؤْمِنُ كما آمَنَ السّفَهاءُ يعنون أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم. ١٧٠ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس: قالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهاءُ يعنون أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٧١ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم في قوله: قالُوا أنُؤْمِنُ كمَا آمَنَ السّفَهاءُ قال: هذا قول الـمنافقـين، يريدون أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم. ١٧٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : قالوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهاءُ يقولون: أنقول كما تقول السفهاء؟ يعنون أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، لـخلافهم لدينهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ألا إنّهُمُ هُمْ السّفَهاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَـمُونَ. قال أبو جعفر: وهذا خبر من اللّه تعالـى عن الـمنافقـين الذين تقدم نعته لهم ووصْفُه إياهم بـما وصفهم به من الشك والتكذيب، أنهم هم الـجهال فـي أديانهم، الضعفـاء الاَراء فـي اعتقاداتهم واختـياراتهم التـي اختاروها لأنفسهم من الشك والريب فـي أمر اللّه وأمر رسوله وأمر نبوّته، وفـيـما جاء به من عند اللّه ، وأمر البعث، لإساءتهم إلـى أنفسهم بـما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إلـيها يحسنون. وذلك هو عين السفه، لأن السفـيه إنـما يفسد من حيث يرى أنه يصلـح ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ. فكذلك الـمنافق يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلـى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إلـيها، كما وصفهم به ربنا جل ذكره فقال: ألا إنّهُمُ هُمُ الـمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وقال: ألا إنهم هم السفهاء دون الـمؤمنـين الـمصدّقـين بـاللّه وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه، ولكن لا يعلـمون. وكذلك كان ابن عبـاس يتأوّل هذه الآية. ١٧٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس يقول اللّه جل ثناؤه: ألا إنّهُمْ هُمُ السّفَهاءُ يقول الـجهال، ولَكِنْ لا يَعْلَـمُونَ يقول: ولكن لا يعقلونوأما وجه دخول الألف واللام فـي (السفهاء) فشبـيه بوجه دخولهما فـي (الناس) في قوله: وَإذَا قـيـل لهمْ آمِنُوا كمَا آمَنَ النّاسُ وقد بـينا العلة فـي دخولهما هنالك، والعلة فـي دخولهما فـي السفهاء نظيرتها فـي دخولهما فـي الناس هنالك سواء. والدلالة التـي تدل علـيه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من اللّه لا يستـحقها إلا الـمعاند ربه مع علـمه بصحة ما عانده فـيه نظير دلالة الاَيات الأخر التـي قد تقدّم ذكرنا تأويـلَها في قوله: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ونظائر ذلك. ١٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىَ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } قال أبو جعفر: وهذه الآية نظير الآية الأخرى التـي أخبر اللّه جل ثناؤه فـيها عن الـمنافقـين بخداعهم اللّه ورسوله والـمؤمنـين، فقال: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ ثم أكذبهم تعالـى ذكره بقوله: وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ وأنهم بقـيـلهم ذلك يخادعون اللّه والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم فـي هذه الآية أنهم يقولون للـمؤمنـين الـمصدقـين بـاللّه وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدّقنا بـمـحمدٍ وبـما جاء به من عند اللّه ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءا لهم عنها، وأنهم إذا خـلوا إلـى مَرَدَتِهم وأهل العتوّ والشرّ والـخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم علـى مثل الذي هم علـيه من الكفر بـاللّه وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا علـى أن شياطين كل شيء مردته قالوا لهم: إنّا مَعَكُمْ أي إنا معكم علـى دينكم، وظهراؤكم علـى من خالفكم فـيه، وأولـياؤكم دون أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، إنـما نـحن مستهزئون بـاللّه وبكتابه ورسوله وأصحابه. كالذي: ١٧٤ـ حدثنا مـحمد بن العلاء: قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال حدثنا بشر بن عمار عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا قال: كان رجال من الـيهود إذا لقوا أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أو بعضهم، قالوا: إنا علـى دينكم، وإذا خـلوا إلـى أصحابهم وهم شياطينهم قالُوا إنّا مَعَكُمْ إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإذَا لَقُوا اللّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وإذا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال: إذا خـلوا إلـى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بـالتكذيب، وخلاف ما جاء به الرسول قالُوا إنّا مَعَكُمْ أي إنا علـى مثل ما أنتـم علـيه إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. ١٧٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ أما شياطينهم، فهم رءوسهم فـي الكفر. ١٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ أي رؤسائهم وقادتهم فـي الشرّ، قالُوا... إنـما نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. ١٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شياطينِهِمْ قال: الـمشركون. ١٧٨ـحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال: إذا خلا الـمنافقون إلـى أصحابهم من الكفـار. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل بن عبـاد، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينِهِمْ قال أصحابهم: من الـمنافقـين والـمشركين. ١٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطِينهمْ قال إخوانهم من الـمشركين، قالُوا إنا مَعَكُم إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزُءُونَ. ١٨٠ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: وَإذَا لَقُوا الذِينَ آمَنوا قالُوا آمَنا قال: إذا أصاب الـمؤمنـين رخاء، قالوا: إنا نـحن معكم إنـما نـحن إخوانكم، وإذا خـلوا إلـى شياطينهم استهزءوا بـالـمؤمنـين. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: شياطينهم: أصحابهم من الـمنافقـين والـمشركين. فإن قال لنا قائل: أرأيت قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهم فكيف قـيـل (خـلوا إلـى شياطينهم) ولـم يقل (خـلوا بشياطينهم)؟ فقد علـمت أن الـجاري بـين الناس فـي كلامهم (خـلوت بفلان) أكثر وأفشى من (خـلوت إلـى فلان)، ومن قولك: إن القرآن أفصح البـيان قـيـل: قد اختلف فـي ذلك أهل العلـم بلغة العرب، فكان بعض نـحويـي البصرة يقول: يقال خـلوت إلـى فلان، إذا أريد به: خـلوت إلـيه فـي حاجة خاصة لا يحتـمل إذا قـيـل كذلك إلا الـخلاء إلـيه فـي قضاء الـحاجة. فأما إذا قـيـل: خـلوت به احتـمل معنـيـين: أحدهما الـخلاء به فـي الـحاجة، والاَخر: فـي السخرية به، فعلـى هذا القول وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهمْ لا شك أفصح منه لو قـيـل: (وإذا خـلوا بشياطينهم) لـما فـي قول القائل: (إذا خـلوا بشياطينهم) من التبـاس الـمعنى علـى سامعيه الذي هو منتف عن قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهمْ فهذا أحد الأقوال. والقول الاَخر أن تُوَجّه معنى قوله: وَإذَا خَـلَوْا إلـى شَياطينهم أي إذا خـلوا مع شياطينهم، إذ كانت حروف الصفـات يعاقب بعضها بعضا كما قال اللّه مخبرا عن عيسى ابن مريـم أنه قال للـحواريـين: مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه يريد مع اللّه ، وكما توضع (علـى) فـي موضع (من) و(فـي) و(عن) و(البـاء)، كما قال الشاعر: إذَا رَضِيَتْ عَلـيّ بَنُو قُشَيْرٍلَعَمْرُ اللّه أعْجَبَنِـي رِضَاها بـمعنى (عنّـي). وأما بعض نـحويـي أهل الكوفة فإنه كان يتأوّل أن ذلك بـمعنى: وَإذَا لَقُوا الذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنا وإذا صرفوا خلاءهم إلـى شياطينهم فـيزعم أن الـجالب (إلـى) الـمعنى الذي دل علـيه الكلام: من انصراف الـمنافقـين عن لقاء الـمؤمنـين إلـى شياطينهم خالـين بهم، لا قوله (خـلوا). وعلـى هذا التأويـل لا يصلـح فـي موضع (إلـى) غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الـحروف مكانها. وهذا القول عندي أولـى بـالصواب، لأن لكل حرف من حروف الـمعانـي وجها هو به أولـى من غيره، فلا يصلـح تـحويـل ذلك عنه إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. ول(إلـى) فـي كل موضع دخـلت من الكلام حكم وغير جائز سلبها معانـيها فـي أماكنها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتهْزِءُونَ. أجمع أهل التأويـل جميعا لا خلاف بـينهم، علـى أن معنى قوله: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ: إنـما نـحن ساخرون. فمعنى الكلام إذا: وإذا انصرف الـمنافقون خالـين إلـى مردتهم من الـمنافقـين والـمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتـم علـيه من التكذيب بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به ومعاداته ومعاداة أتبـاعه، إنـما نـحن ساخرون بأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي قـيـلنا لهم إذا لقـيناهم آمَنّا بـاللّه وبـالـيَوْمِ الاَخِرِ. كما: ١٨١ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : قالوا: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهزِءُونَ ساخرون بأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ: أي إنـما نـحن نستهزىء بـالقوم ونلعب بهم. ١٨٣ـ حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ: إنـما نستهزىء بهؤلاء القوم ونسخر بهم. ١٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ أي نستهزىء بأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال أبو جعفر: اختلف فـي صفة استهزاء اللّه جل جلاله الذي ذكر أنه فـاعله بـالـمنافقـين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبـارك اسمه أنه فـاعل بهم يوم القـيامة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الـمُنافِقُونَ والـمُنافِقاتُ للّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم} قـيـل {ارجعُوا وراءكم فـالْتَـمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَـيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بـابٌ بـاطِنُهُ فِـيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادُونَهُمْ ألَـمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلَـى} الآية، وكالذي أخبرنا أنه فعل بـالكفـار بقوله: {وَلا يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ خَيْرٌ لأِنْفُسِسِهمْ إنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ لِـيَزْدَادُوا إثما}. فهذا وما أشبهه من استهزاء اللّه جل وعز وسخريته ومكره وخديعته للـمنافقـين وأهل الشرك به، عند قائلـي هذا القول ومتأوّلـي هذا التأويـل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبـيخه إياهم ولومه لهم علـى ما ركبوا من معاصي اللّه والكفر به، كما يقال: إن فلانا لـيهزأ منه الـيوم ويسخر منه يراد به توبـيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عَبِـيد بن الأبرص: سائِلْ بِنا حُجْرَ ابْنَ أُمّ قَطامِ إذْظَلّتْ بهِ السّمْرُ النّوَاهلُ تَلْعَبُ فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لـما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبـا بـمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء اللّه جل ثناؤه بـمن استهزأ به من أهل النفـاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم لـيأخذهم فـي حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبـيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى الـمكر منه والـخديعة والسخرية. وقال آخرون: قوله: {يُخادِعُونَ اللّه وَالّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ} علـى الـجواب، كقول الرجل لـمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولـم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذْ صار الأمر إلـيه. قالوا: وكذلك قوله: {ومَكَرُوا ومَكَرَ اللّه وَاللّه خَيْرُ الـمَاكِرِينَ} واللّه يستهزىء بهم علـى الـجواب، واللّه لا يكون منه الـمكر ولا الهزء. والـمعنى: أن الـمكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: {إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} وقوله: {يُخادِعُونَ اللّه وهُوَ خادِعُهُمْ} وقوله: {فَـيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ وَنَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ} أشبه ذلك، إخبـار من اللّه أنه مـجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الـخداع. فأخرج خبره عن جزائه وما إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي علـيه استـحقوا العقاب فـي اللفظ وإن اختلف الـمعنـيان، كما قال جل ثناؤه: وَجَزَاءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِثْلُها ومعلوم أن الأولـى من صاحبها سيئة إذ كانت منه للّه تبـارك وتعالـى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من اللّه جزاء للعاصي علـى الـمعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفـا الـمعنى. وكذلك قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فَـاعْتَدوا عَلَـيْهِ}. فـالعدوان الأول ظلـم، والثانـي جزاء لا ظلـم، بل هو عدل لأنه عقوبة للظالـم علـى ظلـمه وإن وافق لفظه لفظ الأول. وإلـى هذا الـمعنى وجهوا كل ما فـي القرآن من نظائر ذلك مـما هو خبر عن مكر اللّه جلّ وعزّ بقوم، وما أشبه ذلك. وقال آخرون: إن معنى ذلك أن اللّه جل وعز أخبر عن الـمنافقـين أنهم إذا خـلوا إلـى مردتهم قالوا: إنا معكم علـى دينكم فـي تكذيب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به، وإنـما نـحن بـما نظهر لهم من قولنا لهم صدّقنا بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون. يعنون: إنّا نظهر لهم ما هو عندنا بـاطل لا حقّ ولا هُدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معانـي الاستهزاء. فأخبر اللّه أنه يستهزىء بهم فـيظهر لهم من أحكامه فـي الدنـيا خلاف الذي لهم عنده فـي الاَخرة، كما أظهروا للنبـي صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين فـي الدين ما هم علـى خلافه فـي سرائرهم. والصواب فـي ذلك من القول والتأويـل عندنا، أن معنى الاستهزاء فـي كلام العرب: إظهار الـمستهزىء للـمستهزإ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرا، وهو بذلك من قـيـله وفعله به مورثه مساءة بـاطنا، وكذلك معنى الـخداع والسخرية والـمكر. وإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه جل ثناؤه قد جعل لأهل النفـاق فـي الدنـيا من الأحكام بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بـاللّه وبرسوله وبـما جاء به من عند اللّه الـمُدْخِـل لهم فـي عداد من يشمله اسم الإسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنـين من أحكام الـمسلـمين الـمصدقـين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم الـمـحققة لهم صحة إيـمانهم، مع علـم اللّه عز وجل بكذبهم، واطلاعه علـى خبث اعتقادهم وشكهم فـيـما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتـى ظنوا فـي الاَخرة إذ حشروا فـي عداد من كانوا فـي عدادهم فـي الدنـيا أنهم واردون موردهم وداخـلون مدخـلهم، اللّه جلّ جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الـملـحقهم فـي عاجل الدنـيا وآجل الاَخرة إلـى حال تـميـيزه بـينهم وبـين أولـيائه وتفريقه بـينهم وبـينهم معدّ لهم من ألـيـم عقابه ونكال عذابه ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وأشرّ عبـاده، حتـى ميز بـينهم وبـين أولـيائه فألـحقهم من طبقات جحيـمه بـالدرك الأسفل. كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم، وإن كان جزاء لهم علـى أفعالهم وعدلاً ما فعل من ذلك بهم لاستـحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بـما أظهر لهم من الأمور التـي أظهرها لهم من إلـحاقه أحكامهم فـي الدنـيا بأحكام أولـيائه وهم له أعداء، وحشره إياهم فـي الاَخرة مع الـمؤمنـين وهم به من الـمكذّبـين إلـى أن ميز بـينهم وبـينهم، مستهزئا وساخرا ولهم خادعا وبهم ماكرا. إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والـمكر والـخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه فـي حال فـيها الـمستهزىء بصاحبه له ظالـم أو علـيه فـيها غير عادل، بل ذلك معناه فـي كل أحواله إذا وجدت الصفـات التـي قدمنا ذكرها فـي معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنـحو ما قلنا فـيه رُوي الـخبر عن ابن عبـاس . ١٨٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ قال: يسخر بهم للنقمة منهم. وأما الذين زعموا أن قول اللّه تعالـى ذكره: اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ إنـما هو علـى وجه الـجواب، وأنه لـم يكن من اللّه استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون علـى اللّه عز وجل ما قد أثبته اللّه عز وجل لنفسه وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لـم يكن من اللّه جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بـمن أخبر أنه يستهزىء ويسخر ويـمكر به، أو قال: لـم يخسف اللّه بـمن أخبر أنه خسف به من الأمـم، ولـم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن اللّه جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لـم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا اللّه تعالـى ذكره فـيـما أخبرنا به من ذلك، ولـم نفرّق بـين شيء منه، فما برهانك علـى تفريقك ما فرقت بـينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بـمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولـم يـمكر به أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول علـيه فـي ذلك فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. فإن لـجأ إلـى أن يقول إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن اللّه عزّ وجلّ منفـيّ. قـيـل له: إن كان الأمر عندك علـى ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وسخر اللّه منهم مكر اللّه بهم، وإن لـم يكن من اللّه عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال: (لا) كذّب بـالقرآن وخرج عن ملة الإسلام، وإن قال: (بلـى)، قـيـل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: اللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وسخر اللّه منهم يـلعب اللّه بهم ويعبث، ولا لعب من اللّه ولا عبث؟ فإن قال: (نعم)، وصف اللّه بـما قد أجمع الـمسلـمون علـى نفـيه عنه وعلـى تـخطئة واصفه به، وأضاف إلـيه ما قد قامت الـحجة من العقول علـى ضلال مضيفه إلـيه. وإن قال: لا أقول يـلعب اللّه به ولا يعبث، وقد أقول يستهزىء بهم ويسخر منهم قـيـل: فقد فرقت بـين معنى اللعب، والعبث، والهزء، والسخرية، والـمكر، والـخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِـيـلُ هذا ولـم يَجُزْ قِـيـلُ هذا افترق معنـياهما، فعلـم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الاَخر. وللكلام فـي هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب بـاستقصائه، وفـيـما ذكرنا كفـاية لـمن وفق لفهمه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيَـمُدّهُمْ. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله ويَـمُدّهُمْ فقال بعضهم بـما: ١٨٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: يـمُدّهُمْ: يُـملـي لهم. وقال آخرون بـما: ١٨٧ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا سويد بن نصر، عن ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قراءة عن مـجاهد: يَـمُدّهُمْ قال: يزيدهم. وكان بعض نـحويـي البصرة يتأوّل ذلك أنه بـمعنى: يـمدّ لهم، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب: الغلام يـلعب الكعاب، يراد به يـلعب بـالكعاب قال: وذلك أنهم قد يقولون قد مددت له وأمددت له فـي غير هذا الـمعنى، وهو قول اللّه : وأمْدَدْناهُمْ وهذا من أمددناهم، قال: ويقال قد مدّ البحر فهو مادّ، وأمدّ الـجرح فهو مُـمِدّ. وحكي عن يونس الـجرمي أنه كان يقول: ما كان من الشرّ فهو (مددت)، وما كان من الـخير فهو (أمددت). ثم قال: وهو كما فسرت لك إذا أردت أنك تركته فهو مددت له، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: أمددت. وأما بعض نـحويـي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت فـي الشيء من نفسه فهو (مددت) بغير ألف، كما تقول: مدّ النهر، ومدّه نهر آخر غيره: إذا اتصل به فصار منه. وكل زيادة أحدثت فـي الشيء من غيره فهو بألف، كقولك: (أمدّ الـجرح)، لأن الـمدة من غير الـجرح، وأمددت الـجيش بـمدد. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب في قوله: ويـمُدّهُمْ أن يكون بـمعنى يزيدهم، علـى وجه الإملاء والترك لهم فـي عتوّهم وتـمرّدهم، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله: وَنُقَلّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصَارَهُمْ كما لـم يُؤْمِنوا بِهِ أوّل مرّةٍ ونَذرُهُمْ فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يعنـي نذرهم ونتركهم فـيه ونـملـي لهم لـيزدادوا إثما إلـى إثمهم. ولا وجه لقول من قال ذلك بـمعنى (يـمدّ لهم) لأنه لا تَدَافُع بـين العرب وأهل الـمعرفة بلغتها أن يستـجيزوا قول القائل: مدّ النهر نهر آخر، بـمعنى: اتصل به فصار زائدا ماء الـمتصل به بـماء الـمتصل من غير تأوّل منهم، ذلك أن معناه مدّ النهر نهر آخر، فكذلك ذلك في قول اللّه : وَيَـمُدّهُمْ فِـي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فـي طُغْيانِهِمْ. قال أبو جعفر: والطغيان الفُعْلان، من قولك: طغى فلان يَطْغَى طغيانا إذا تـجاوز فـي الأمر حده فبغى. ومنه قوله اللّه : كَلاّ إنّ الإنْسانَ لَـيَطْغَى أنْ رآهُ اسْتَغْنى: أي يتـجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبـي الصلت: ودعا اللّه دَعْوَةً لاتَ هَنّابَعْدَ طُغْيانِهِ فَظَلّ مُشِيرا وإنـما عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: ويـمُدّهُمْ فـي طُغْيانِهِمْ أنه يـملـي لهم ويذرهم يبغون فـي ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما: ١٨٨ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: فـي كفرهم يترددون. ١٨٩ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فـي طُغْيانِهِمْ: فـي كفرهم. ١٩٠ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهونَ أي فـي ضلالتهم يعمهون. ١٩١ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فـي طُغْيانِهِمْ فـي ضلالتهم. ١٩٢ـ وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فـي طُغْيانِهِمْ قال: طغيانهم، كفرهم وضلالتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يَعْمَهُونَ. قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسه: الضلال، يقال منه: عَمِهَ فلانٌ يَعْمَهُ عَمَهانا وعُمُوها: إذا ضل. ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلّةً من الـمهامة: ومُخْفِقٍ مِنْ لُهْلُهٍ ولُهْلُهِمِنْ مَهْمَه يُجْتَبْنَهُ فـي مَهْمَهِ أعمَى الهدى بـالـجاهلـينَ العُمّهِ والعُمّهُ: جمع عامِهِ، وهم الذين يضلون فـيه فـيتـحيرون. فمعنى قوله جل ثناؤه: وَيَـمُدّهُمْ فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فـي ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه، يترددون حيارى ضُلاّلاً لا يجدون إلـى الـمخرج منه سبـيلاً لأن اللّه قد طبع علـى قلوبهم وختـم علـيها، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبـيلاً. وبنـحو ما قلنا فـي (العَمَه) جاء تأويـل الـمتأولـين. ١٩٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: يَعْمَهُونَ: يتـمادون فـي كفرهم. ١٩٤ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، عن معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : يَعْمَهُونَ قال: يتـمادون. ١٩٥ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله يَعْمَهُونَ قال: يترددون. ١٩٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : يَعْمَهُونَ: الـمتلدد. ١٩٧ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : فـي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ قال: يترددون. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر عن ابن الـمبـارك، عن ابن جريج قراءة عن مـجاهد مثله. ١٩٨ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: يَعْمَهُونَ قال: يترددون. ١٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بـالهدى، وإنـما كانوا منافقـين لـم يتقدم نفـاقهم إيـمان فـيقال فـيهم بـاعوا هداهم الذي كانوا علـيه بضلالتهم حتـى استبدلوها منه؟ وقد علـمت أن معنى الشراء الـمفهوم اعتـياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه، والـمنافقون الذين وصفهم اللّه بهذه الصفة لـم يكونوا قط علـى هدى فـيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفـاقا؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فـيه، ثم نبـين الصحيح من التأويـل فـي ذلك إن شاء اللّه . ١٩٩ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى أي الكفر بـالإيـمان. ٢٠٠ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ٢٠١ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى: استـحبّوا الضلالة علـى الهدى. ٢٠٢ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد في قوله: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بـالهُدَى آمنوا ثم كفروا. وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا فـي تأويـل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلـى أنه أخذ الـمشتري مكان الثمن الـمشترى به، فقالوا: كذلك الـمنافق والكافر قد أخذا مكان الإيـمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التـي أخذاها. وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: (اشتروا): (استـحبوا)، فإنهم لـما وجدوا اللّه جل ثناؤه قد وصف الكفـار فـي موضع آخر فنسبهم إلـى استـحبـابهم الكفر علـى الهدى، فقال: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهمْ فـاسْتَـحَبّوا العَمَى علـى الهُدَى صرفوا قوله: اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى إلـى ذلك و قالوا: قد تدخـل البـاء مكان (علـى)، و(علـى) مكان البـاء، كما يقال: مررت بفلان ومررت علـى فلان بـمعنى واحد، وكقول اللّه جل ثناؤه: وَمنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدّهِ إلَـيْكَ أي: علـى قنطار. فكان تأويـل الآية علـى معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة علـى الهدى. وأراهم وجهوا معنى قول اللّه جل ثناؤه: اشْتَروا إلـى معنى (اختاروا)، لأن العرب تقول: اشتريت كذا علـى كذا، و(استريته) يعنون اخترته علـيه. ومن الاشتراء قول أعشى بنـي ثعلبة: فقَدْ أُخْرِجُ الكاعبَ الـمُشْتَراةَ مِنْ خِدْرِها وأُشْيِعُ القِمَارا يعنـي بـالـمشتراة: الـمختارة وقال ذو الرمة فـي الاشتراء بـمعنى الاختـيار: يَذُبّ القَصَايا عَنْ شَراةٍ كأنّهاجماهيرُ تـحتَ الـمُدْجِنَاتِ الهَوَاضِبِ يعنـي بـالشّراة: الـمختارة وقال آخر فـي مثل ذلك: إنّ الشّرَاةَ رُوقَةُ الأمْوَالِوحَزْرَةُ القَلْبِ خِيارُ الـمَالِ قال أبو جعفر: وهذا وإن كان وجها من التأويـل فلست له بـمختار، لأن اللّه جل ثناؤه قال فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ فدل بذلك علـى أن معنى قوله أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض علـى عوض. وأما الذين قالوا: إن القوم كانوا مؤمنـين وكفروا، فإنه لا مؤنة علـيهم لو كان الأمر علـى ما وصفوا به القوم لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيـمان، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى. وذلك هو الـمعنى الـمفهوم من معانـي الشراء والبـيع، ولكن دلائل أول الاَيات فـي نعوتهم إلـى آخرها دالة علـى أن القوم لـم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيـمان ولا دخـلوا فـي ملة الإسلام، أوَ ما تسمع اللّه جل ثناؤه من لدن ابتدأ فـي نعتهم إلـى أن أتـى علـى صفتهم إنـما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به، خداعا للّه ولرسوله وللـمؤمنـين عند أنفسهم واستهزاءً فـي نفوسهم بـالـمؤمنـين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون، لقول اللّه جل جلاله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ} ثم اقتصّ قصصهم إلـى قوله: أوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوا الضّلالَةَ بـالهُدَى فأين الدلالة علـى أنهم كانوا مؤمنـين فكفروا؟. فإن كان قائل هذه الـمقالة ظنّ أن قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بـالهُدَى هو الدلـيـل علـى أن القوم قد كانوا علـى الإيـمان فـانتقلوا عنه إلـى الكفر، فلذلك قـيـل لهم: اشتروا فإن ذلك تأويـل غير مسلـم له، إذ كان الاشتراء عند مخالفـيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره، وقد يكون بـمعنى الاختـيار وبغير ذلك من الـمعانـي. والكلـمة إذا احتـملت وجوها لـم يكن لأحد صرف معناها إلـى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. قال أبو جعفر: والذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية ما روينا عن ابن عبـاس وابن مسعود من تأويـلهما قوله: اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بـاللّه فإنه مستبدل بـالإيـمان كفرا بـاكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلاً من الإيـمان الذي أمر به. أَوَ ما تسمع اللّه جل ثناؤه يقول فـيـمن اكتسب كفرا به مكان الإيـمان به وبرسوله: وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بـالإيـمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ وذلك هو معنى الشراء، لأن كل مشترٍ شيئا فإنـما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلاً منه، فكذلك الـمنافق والكافر استبدلا بـالهدى الضلالة والنفـاق، فأضلهما اللّه وسلبهما نور الهدى فترك جميعَهم فـي ظلـمات لا يبصرون. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَمَا رَبحَتْ تِـجارَتُهُمْ. قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك أن الـمنافقـين بشرائهم الضلالة بـالهدى خسروا ولـم يربحوا، لأن الرابح من التـجار الـمستبدل من سلعته الـمـملوكة علـيه بدلاً هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما الـمستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الـخاسر فـي تـجارته لا شك. فكذلك الكافر والـمنافق لأنهما اختارا الـحيرة والعمى علـى الرشاد والهدى والـخوف والرعب علـى الـحفظ والأمن، فـاستبدلا فـي العاجل بـالرشاد الـحيرة، وبـالهدى الضلالة، وبـالـحفظ الـخوف، وبـالأمن الرعب مع ما قد أعدّ لهما فـي الاَجل من ألـيـم العقاب وشديد العذاب، فخابـا وخسرا، ذلك هو الـخسران الـمبـين. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان قتادة يقول. ٢٠٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قد واللّه رأيتـموهم خرجوا من الهدى إلـى الضلالة، ومن الـجماعة إلـى الفرقة، ومن الأمن إلـى الـخوف، ومن السنة إلـى البدعة. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وهل التـجارة مـما تربح أو تنقص فـيقال ربحت أو وُضِعَتْ؟ قـيـل: إن وجه ذلك علـى غير ما ظننت وإنـما معنى ذلك: فما ربحوا فـي تـجارتهم لا فـيـما اشتروا ولا فـيـما شروا. ولكن اللّه جل ثناؤه خاطب بكتابه عربـا فسلك فـي خطابه إياهم وبـيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبـيانهم الـمستعمل بـينهم. فلـما كان فصيحا لديهم قول القائل لاَخر: خاب سعيك، ونام لـيـلك، وخسر بـيعك، ونـحو ذلك من الكلام الذي لا يخفـى علـى سامعه ما يريد قائله خاطبهم بـالذي هو فـي منطقهم من الكلام فقال: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ إذ كان معقولاً عندهم أن الربح إنـما هو فـي التـجارة كما النوم فـي اللـيـل، فـاكتفـى بفهم الـمخاطبـين بـمعنى ذلك عن أن يقال: فما ربحوا فـي تـجارتهم، وإن كان ذلك معناه، كما قال الشاعر: وَشَرّ الـمَنايا مَيّتٌ وَسْطَ أهْلِهِكهُلْكِ الفَتاةِ أسْلَـم الـحَيّ حاضِرُهْ يعنـي بذلك: وشرّ الـمنايا منـية ميت وسط أهله فـاكتفـى بفهم سامع قـيـله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره. وكما قال رؤبة بن العجاج: حارِثُ قَدْ فَرّجْتَ عَنـي هَمّيفَنامَ لَـيْـلِـي وَتَـجَلّـى غَمّي فوصف بـالنوم اللـيـل، ومعناه أنه هو الذي نام. وكما قال جرير بن الـخَطَفَـي: وأعْوَرَ مِن نَبَهانَ أما نَهارُهُفأعْمَى وأمّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرُ فأضاف العمى والإبصار إلـى اللـيـل والنهار، ومراده وصف النبهانـي بذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِين. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ما كانوا رشداء فـي اختـيارهم الضلالة علـى الهدى، واستبدالهم الكفر بـالإيـمان، واشترائهم النفـاق بـالتصديق والإقرار. ١٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ } قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقد علـمت أن الهاء والـميـم من قوله: مَثَلُهُمْ كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء. (والذي) دلالة علـى واحد من الذكور؟ فكيف جعل الـخبر عن واحد مثلاً لـجماعة؟ وهلاّ قـيـل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا وإن جاز عندك أن تـمثل الـجماعة بـالواحد فتـجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتـمام خـلقهم وأجسامهم أن يقول: كأن هؤلاء، أو كأن أجسام هؤلاء، نـخـلة. قـيـل: أما فـي الـموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من الـمنافقـين بـالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائز حسن، وفـي نظائره كما قال جل ثناؤه فـي نظير ذلك: تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالّذِي يُغْشَى عَلَـيْهِ مِنَ الـمَوْتِ يعنـي كدوران عين الذي يغشى علـيه من الـموت، وكقوله: ما خَـلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بـمعنى إلا كبعث نفس واحدة. وأما فـي تـمثـيـل أجسام الـجماعة من الرجال فـي طول وتـمام الـخـلق بـالواحدة من النـخيـل، فغير جائز ولا فـي نظائره لفرق بـينهما. فأما تـمثـيـل الـجماعة من الـمنافقـين بـالـمستوقد الواحد، فإنـما جاز لأن الـمراد من الـخبر عن مثل الـمنافقـين الـخبر عن مثل استضاءتهم بـما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة، وخـلطهم نفـاقهم البـاطن بـالإقرار بـالإيـمان الظاهر. والاستضاءةُ وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة. فـالـمثل لها فـي معنى الـمَثَل للشخص الواحد من الأشياء الـمختلفة الأشخاص. وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بـما أظهروه من الإقرار بـاللّه وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادا، كمثل استضاءة الـموقد نارا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف الـمثل إلـيهم، كما قال نابغة بنـي جعدة: وكَيْفَ تُواصِلُ مَن أصْبَحَتْخِلالَتُهُ كأبـي مَرْحَبِ يريد كخلالة أبـي مرحب، فأسقط (خلالة)، إذ كان فـيـما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه علـى ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا لـما كان معلوما عند سامعيه بـما أظهر من الكلام أن الـمثل إنـما ضرب لاستضاءة القوم بـالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة الـمثل إلـى أهله. والـمقصود بـالـمثل ما ذكرنا، فلـما وصفنا جاز وحسن قوله: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا ويشبه مثل الـجماعة فـي اللفظ بـالواحد، إذ كان الـمراد بـالـمثل الواحد فـي الـمعنىوأما إذا أريد تشبـيه الـجماعة من أعيان بنـي آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام بشيء، فـالصواب من الكلام تشبـيه الـجماعة بـالـجماعة والواحد بـالواحد، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الاَخرين. ولذلك من الـمعنى افترق القول فـي تشبـيه الأفعال والأسماء، فجاز تشبـيه أفعال الـجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بـمعنى واحد بفعل الواحد، ثم حذف أسماء الأفعال، وإضافة الـمثل والتشبـيه إلـى الذين لهم الفعل، فـيقال: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب، ثم يحذف فـيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب، وأنت تعنـي: إلا كفعل الكلب وإلا كفعل الكلاب. ولـم يجز أن تقول: ما هم إلا نـخـلة، وأنت تريد تشبـيه أجسامهم بـالنـخـل فـي الطول والتـماموأما قوله: اسْتَوْقَدَ نارا فإنه فـي تأويـل أوقد، كما قال الشاعر: وَدَاعٍ دَعَايا مَنْ يُجِيبُ إلـى النّدَىفَلَـمْ يَسْتَـجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُـجِيبُ يريد: فلـم يجبه. فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء الـمنافقـين فـي إظهارهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين بألسنتهم من قولهم: آمنا بـاللّه وبـالـيوم الاَخر وصدقنا بـمـحمد، وبـما جاء به، وهم للكفر مستبطنون فـيـما اللّه فـاعل بهم، مثل استضاءة موقد نار بناره حتـى أضاءت له النار ما حوله، يعنـي ما حول الـمستوقد. وقد زعم بعض أهل العربـية من أهل البصرة أن (الذي) في قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا بـمعنى (الذين) كما قال جل ثناؤه: وَالّذِي جاءَ بـالصّدْقِ وصَدّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الـمُتّقُونَ. وكما قال الشاعر: فَإنّ الّذِي حَانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَاؤُهُمْهُمْ الْقَوْمُ كُلّ الْقَوْمِ يَا أمّ خَالِدِ قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول لـما وصفنا من العلة، وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بـين الذي فـي الاَيتـين وفـي البـيت، لأن (الذي) في قوله: وَالّذِي جاءَ بِـالصّدقِ قد جاءت الدلالة علـى أن معناها الـجمع، وهوقوله: أولَئِكَ هُمُ الـمُتّقُونَ وكذلك الذي فـي البـيت، وهوقوله: دماؤهم. ولـيست هذه الدلالة في قوله: كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا. فذلك فرق ما بـين (الذي) في قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وسائر شواهده التـي استشهد بها علـى أن معنى (الذي) في قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا بـمعنى الـجماعة، وغير جائز لأحد نقل الكلـمة التـي هي الأغلب فـي استعمال العرب علـى معنى إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فروي عن ابن عبـاس فـيه أقوال أحدها ما: ٢٠٤ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: ضرب اللّه للـمنافقـين مثلاً فقال: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـماتٍ لا يُبْصِرُونَ أي يبصرون الـحق ويقولون به، حتـى إذا خرجوا به من ظلـمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفـاقهم فـيه، فتركهم فـي ظلـمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقـيـمون علـى حق. والاَخر ما: ٢٠٥ـ حدثنا به الـمثنى به إبراهيـم، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا إلـى آخر الآية. هذا مثل ضربه اللّه للـمنافقـين أنهم كانوا يعتزون بـالإسلام فـيناكحهم الـمسلـمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفـيء، فلـما ماتوا سلبهم اللّه ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم فـي ظلـمات، يقول فـي عذاب. والثالث ما: ٢٠٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـماتٍ لا يُبْصِرُونَ: زعم أن أناسا دخـلوا فـي الإسلام مَقْدَم النبـي صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة، ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان فـي ظلـمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتـى عرف ما يتقـي، فبـينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقـي من أذى، فكذلك الـمنافق كان فـي ظلـمة الشرك فأسلـم فعرف الـحلال من الـحرام، والـخير من الشرّ. فبـينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الـحلال من الـحرام، ولا الـخير من الشروأما النور فـالإيـمان بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وكانت الظلـمة نفـاقهم. والاَخر ما: ٢٠٧ـ حدثنـي به مـحمد بن سعيد، قال: حدثنـي أبـي سعيد بن مـحمد، قال: حدثنـي عمي عن أبـيه عن جده عن ابن عبـاس قوله: مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا إلـى: فَهُمُ لاَ يَرْجِعُونَ ضربه اللّه مثلاً للـمنافق، وقوله: ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ قال: أما النور فهو إيـمانهم الذي يتكلـمون بهوأما الظلـمة: فهي ضلالتهم وكفرهم، يتكلـمون به وهم قوم كانوا علـى هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال آخرون بـما. ٢٠٨ـ حدثنـي به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلّـمَا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِـي ظُلُـمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ وإن الـمنافق تكلـم بلا إلَه إلا اللّه فأضاءت له فـي الدنـيا فناكح بها الـمسلـمين وغازى بها الـمسلـمين ووارث بها الـمسلـمين وحقن بها دمه وماله. فلـما كان عند الـموت سُلبها الـمنافق لأنه لـم يكن لها أصل فـي قلبه ولا حقـيقة فـي علـمه. وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ هي لا إلَه إلا اللّه أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا فـي الدنـيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم، حتـى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون. ٢٠٩ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي أبو نـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله: كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ قال: أما النور فهو إيـمانهم الذي يتكلـمون به وأما الظلـمات، فهي ضلالتهم وكفرهم. وقال آخرون بـما: ٢١٠ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد في قول اللّه : مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ قال: أما إضاءة النار: فإقبـالهم إلـى الـمؤمنـين والهدى وذهاب نورهم: إقبـالهم إلـى الكافرين والضلالة. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ: أما إضاءة النار: فإقبـالهم إلـى الـمؤمنـين والهدى وذهاب نورهم: إقبـالهم إلـى الكافرين والضلالة. حدثنـي القاسم، قال: حدثنـي الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله. ٢١١ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: ضرب مثل أهل النفـاق فقال: مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا قال: إنـما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك الـمنافق كلـما تكلـم بكلـمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك وقع فـي الظلـمة. ٢١٢ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي عبد الرحمن بن زيد في قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا إلـى آخر الآية قال: هذه صفة الـمنافقـين، كانوا قد آمنوا حتـى أضاء الإيـمان فـي قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا، فذهب اللّه بنورهم، فـانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون. وأولـى التأويلات بـالآية ما قاله قتادة والضحاك ، وما رواه علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس . وذلك أن اللّه جل ثناؤه إنـما ضرب هذا الـمثل للـمنافقـين الذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بـاللّه وبَـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ لا الـمعلنـين بـالكفر الـمـجاهرين بـالشرك. ولو كان الـمثل لـمن آمن إيـمانا صحيحا ثم أعلن بـالكفر إعلانا صحيحا علـى ما ظنّ الـمتأول قول اللّه جل ثناؤه: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـمَاتِ لا يُبْصِرُونَ أن ضوء النار مثل لإيـمانهم الذي كان منهم عنده علـى صحة، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر علـى صحة لـم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفـاق، وأنى يكون خداع ونفـاق مـمن لـم يبدلك قولاً ولا فعلاً إلا ما أوجب لك العلـم بحاله التـي هو لك علـيها، وبعزيـمة نفسه التـي هو مقـيـم علـيها؟ إن هذا بغير شك من النفـاق بعيد ومن الـخداع بريء، فإن كان القوم لـم تكن لهم إلا حالتان: حال إيـمان ظاهر، وحال كفر ظاهر، فقد سقط عن القوم اسم النفـاق لأنهم فـي حال إيـمانهم الصحيح كانوا مؤمنـين، وفـي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين، ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقـين. وفـي وصف اللّه جل ثناؤه إياهم بصفة النفـاق ما ينبىء عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنـين ثم ارتدوا إلـى الكفر فأقاموا علـيه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيـمانهم الذي كانوا علـيه إلـى الكفر الذي هو نفـاق، وذلك قول إن قاله لـم تدرك صحته إلا بخير مستفـيض أو ببعض الـمعانـي الـموجبة صحته. فأما فـي ظاهر الكتاب، فلا دلالة علـى صحته لاحتـماله من التأويـل ما هو أولـى به منه. فإذا كان الأمر علـى ما وصفنا فـي ذلك، فأولـى تأويلات الآية بـالآية مثل استضاءة الـمنافقـين بـما أظهروا بألسنتهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللـمؤمنـين: آمَنا بـاللّه وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَالـيَوْمِ الاَخِرِ، حتـى حُكم لهم بذلك فـي عاجل الدنـيا بحكم الـمسلـمين فـي حقن الدماء والأموال والأمن علـى الذرية من السبـاء، وفـي الـمناكحة والـموارثة كمثل استضاءة الـموقد النار بـالنار، حتـى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلـمة، خمدت النار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد الـمستضيء به فـي ظلـمة وحيرة. وذلك أن الـمنافق لـم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه فـي حياته القتل والسبـاء مع استبطانه ما كان مستوجبـا به القتل وسلب الـمال لو أظهره بلسانه، تُـخيّـل إلـيه بذلك نفسه أنه بـاللّه ورسوله والـمؤمنـين مستهزىء مخادع، حتـى سوّلت له نفسه، إذ ورد علـى ربه فـي الاَخرة، أنه ناج منه بـمثل الذي نـجا به فـي الدنـيا من الكذب والنفـاق. أوَ ما تسمع اللّه جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم علـيه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعا فَـيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ علـى شَيْءٍ ألاَ إِنّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} ظنا من القوم أن نـجاتهم من عذاب اللّه فـي الاَخرة فـي مثل الذي كان به نـجاتهم من القتل والسبـاء وسلب الـمال فـي الدنـيا من الكذب والإفك، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم فـي الدنـيا. حتـى عاينوا من أمر اللّه ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم فـي غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذ أطفأ اللّه نورهم يوم القـيامة فـاستنظروا الـمؤمنـين لـيقتبسوا من نورهم، فقـيـل لهم: ارجعوا وراءكم فـالتـمسوا نورا واصلوا سعيرا. فذلك حين ذهب اللّه بنورهم وتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون، كما انطفأت نار الـمستوقد النار بعد إضاءتها له، فبقـي فـي ظلـمته حيران تائها يقول اللّه جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الـمُنَافِقُونَ والـمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِـيـلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَـالْتَـمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَـيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَـابٌ بـاطِنُهُ فِـيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادونَهُمْ ألَـم نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَـى وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُـمْ أنْفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُـمْ وَارْتَبْتُـمْ وَغَرّتْكُمُ الأمانِـيّ حتـى جاءَ أمْرُ اللّه وَغَرَكُمْ بـاللّه الغَرُورُ فـالـيَوْمَ لا يُؤْخَذُ منْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الـمَصِير. فإن قال لنا قائل: إنك ذكرت أن معنى قول اللّه تعالـى ذكره: كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَـما أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ: خمدت وانطفأت، ولـيس ذلك بـموجود فـي القرآن، فما دلالتك علـى أن ذلك معناه؟ قـيـل: قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فـيـما نطقت به الدلالة الكافـية علـى ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيب الهذلـي: عَصَيْتُ إلَـيْهَا القَلْبَ إنـي لأمْرِهاسَمِيعٌ فَمَا أدْرِي أَرُشْدٌ طِلاُبِها يعنـي بذلك: فما أدري أرشد طلابها أم غيّ، فحذف ذكر (أم غيّ)، إذ كان فـيـما نطق به الدلالة علـيها. وكما قال ذو الرمة فـي نعت حمير: فَلَـمّا لَبِسْنَ اللّـيْـلَ أوْ حِينَ نَصّبَتْلَهُ مِنْ خَذَا آذَانها وَهْوَ جانِـحُ يعنـي: أو حين أقبل اللـيـل. فـي نظائر لذلك كثـيرة كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَـمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ لـما كان فـيه وفـيـما بعده من قوله: ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِـي ظُلُـمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ دلالة علـى الـمتروك كافـية من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز. وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الـخبر عن مثل الـمنافقـين بعده، نظير ما اختصر من الـخبر عن مثل الـمستوقد النار لأن معنى الكلام: فكذلك الـمنافقون ذهب اللّه بنورهم وتركهم فـي ظلـمات لا يبصرون بعد الضياء الذي كانوا فـيه فـي الدنـيا بـما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بـالإسلام وهم لغيره مستبطنون، كما ذهب ضوء نار هذا الـمستوقد بـانطفـاء ناره وخمودها فبقـي فـي ظلـمة لا يبصر، والهاء والـميـم في قوله: ذَهَبَ اللّه بنُورِهمْ عائدة علـى الهاء والـميـم في قوله: مَثَلُهُمْ. ١٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قال أبو جعفر: وإذ كان تأويـل قول اللّه جل ثناؤه: ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فـي ظُلُـماتٍ لا يُبْصِرُونَ هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من اللّه جل ثناؤه عما هو فـاعل بـالـمنافقـين فـي الاَخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم فـي ظلـم أهوال يوم القـيامة يترددون، وفـي حنادسها لا يبصرون فبـينٌ أن قوله جل ثناؤه: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ من الـمؤخر الذي معناه التقديـم، وأن معنى الكلام: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الضّلاَلَةَ بـالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِـجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهم لاَ يَرْجِعُونَ مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَـمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمُ فِـي ظُلُـماتٍ لا يَبْصِرُونَ، أوْ كمثل صيب من السمّاءِ. وإذ كان ذلك معنى الكلام، فمعلوم أن قوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يأتـيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين. فأما أحد وجهي الرفع، فعلـى الاستئناف لـما فـيه من الذم، وقد تفعل العرب ذلك فـي الـمدح والذم، فتنصب وترفع وإن كان خبرا عن معرفة، كما قال الشاعر: لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الّذِينَ هُمُسُمّ العُداةِ وآفَةُ الـجُزْرِ النّازِلِـينَ بِكُلّ مُعْتَرَكٍوَالطّيّبِـينَ مَعَاقِدَ أُلازْرِ فـيروي: (النازلون والنازلـين) وكذلك (الطيبون والطيبـين)، علـى ما وصفت من الـمدح. والوجه الاَخر علـى نـية التكرير من أولئك، فـيكون الـمعنى حينئذٍ: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلاَلَةَ بـالهدَى فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ أولئك صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ. وأما أحد وجهي النصب، فأن يكون قطعا مـما فـي (مهتدين)، من ذكر (أولئك)، لأن الذي فـيه من ذكرهم معرفة، والصمّ نكرة. والاَخر أن يكون قطعا من (الذين)، لأن (الذين) معرفة والصم نكرة. وقد يجوز النصب فـيه أيضا علـى وجه الذم فـيكون ذلك وجها من النصب ثالثا. فأما علـى تأويـل ما روينا عن ابن عبـاس من غير وجه رواية علـيّ بن أبـي طلـحة عنه، فإنه لا يجوز فـيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف. وأما النصب فقد يجوز فـيه من وجهين: أحدهما الذمّ، والاَخر القطع من الهاء والـميـم اللتـين فـي (تركهم)، أو من ذكرهم فـي (لا يبصرون). وقد بـينا القول الذي هو أولـى بـالصواب فـي تأويـل ذلك. والقراءةُ التـي هي قراءةُ الرفعُ دون النصب، لأنه لـيس لأحد خلاف رسوم مصاحب الـمسلـمين، وإذا قرىء نصبـا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم. قال أبو جعفر: وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن الـمنافقـين، أنهم بـاشترائهم الضلالة بـالهدى، لـم يكونوا للّهدى والـحق مهتدين، بل هم صمّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان اللّه علـيهم، بُكْمٌ عن القـيـل بهما، فلا ينطقون بهما والبكم: الـخُرْس، وهو جمع أبكم عميٌ عن أن يبصروهما فـيعقلوهما لأن اللّه قد طبع علـى قلوبهم بنفـاقهم فلا يهتدون. وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال علـماء أهل التأويـل. ٢١٣ـ حدثنا عبد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عن الـخير. ٢١٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول: لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه. ٢١٥ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: بُكْمٌ: هم الـخرس. ٢١٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: صمّ بُكْمٌ عُمْيٌ: صم عن الـحق فلا يسمعونه، عمي عن الـحق فلا يبصرونه، بكم عن الـحق فلا ينطقون به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ. قال أبو جعفر: وقوله: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إخبـار من اللّه جل ثناؤه عن هؤلاء الـمنافقـين الذين نعتهم اللّه بـاشترائهم الضلالة بـالهدى، وصمـمهم عن سماع الـخير والـحق، وبكمهم عن القـيـل بهما، وعماهم عن إبصارهما أنهم لا يرجعون إلـى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتوبون إلـى الإنابة من نفـاقهم، فآيس الـمؤمنـين من أن يبصر هؤلاء رشدا، ويقولوا حقا، أو يسمعوا داعيا إلـى الهدى، أو أن يذكروا فـيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفـار أهل الكتاب والـمشركين وأحبـارهم الذين وصفهم بأنه قد ختـم علـى قلوبهم وعلـى سمعهم وغَشّى علـى أبصارهم. وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ٢١٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أي لا يتوبون ولا يذكرون. ٢١٨ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ إلـى الإسلام. وقد رُوي عن ابن عبـاس قول يخالف معناه معنى هذا الـخبر وهو ما: ٢١٩ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ: أي فلا يرجعون إلـى الهدى ولا إلـى خير، فلا يصيبون نـجاة ما كانوا علـى ما هم علـيه. وهذا تأويـل ظاهر التلاوة بخلافه، وذلك أن اللّه جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بـالهدى إلـى ابتغاء الهدى وإبصار الـحق من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم إلـى وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الـخبر الذي ذكرناه عن ابن عبـاس ينبىء عن أن ذلك من صفتهم مـحصور علـى وقت وهو ما كانوا علـى أمرهم مقـيـمين، وأن لهم السبـيـل إلـى الرجوع عنه. وذلك من التأويـل دعوى بـاطلة لا دلالة علـيها من ظاهر ولا من خبر تقوم بـمثله الـحجة فـيسلـم لها. ١٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّه مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } قال أبو جعفر: والصيّب الفـيعل، من قولك: صاب الـمطر يصوب صَوْبـا: إذا انـحدر ونزل، كما قال الشاعر: فَلَسْتَ لانْسِيَ وَلَكِنْ لـمَءَلاكٍتَنَزّلَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ وكما قال علقمة بن عبدة: كأنّهُمُ صَابَتْ عَلَـيْهمْ سَحَابَةٌصَوَاعِقُها لِطَيْرِهِنّ دَبِـيبُ فَلا تَعْدِلـي بَـيْنِـي وَبَـيْنَ مُغَمّرِسُقِـيتِ رَوَايا الـمُزْنِ حِينَ تَصُوبُ يعنـي: حين تنـحدر. وهو فـي الأصل: صيوب، ولكن الواو لـما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة، كما قـيـل: سيد من ساد يسود، وجيد من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بـالواو إذا كانت متـحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعا ياء مشددة. وبـما قلنا من القول فـي ذلك قال أهل التأويـل. ٢٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد، قال: حدثنا هارون بن عنترة، عن أبـيه، عن ابن عبـاس في قوله: أو كَصَيّبٍ مِنَ السّمَاءِ قال: القطر. ٢٢١ـ وحدثنـي عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال لـي عطاء: الصيب: الـمطر. ٢٢٢ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ عن ابن عبـاس ، قال: الصيب: الـمطر. ٢٢٣ـ وحدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: الصيب: الـمطر. وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي سعد، قال: حدثنـي عمي الـحسين، عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس مثله. ٢٢٤ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: أو كصيب قال: الـمطر. وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة مثله. ٢٢٥ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، وعمرو بن علـي، قالا: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: الصيب: الـمطر. وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: الصيب: الـمطر. ٢٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: الصيب: الـمطر. وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس قال: الصيب: الـمطر. ٢٢٧ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ قال: أو كغيث من السماء. ٢٢٨ـ وحدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: قال سفـيان: الصيب: الذي فـيه الـمطر. حدثنا عمرو بن علـي، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: أو كصيب من السماء قال: الـمطر. قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: مثل استضاءة الـمنافقـين بضوء إقرارهم بـالإسلام مع استسرارهم الكفر، مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره علـى ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مطر مظلـم وَدْقُه تـحدّر من السماء تـحمله مزنة ظلـماء فـي لـيـلة مظلـمة، وذلك هو الظلـمات التـي أخبر اللّه جل ثناؤه أنها فـيه. فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين الـمثلـين، أهما مثلان للـمنافقـين أو أحدهما؟ فإن يكونا مثلـين للـمنافقـين فكيف قـيـل: أوْ كَصَيّبٍ، و(أو) تأتـي بـمعنى الشك فـي الكلام، ولـم يقل: وكصيب، بـالواو التـي تلـحق الـمثل الثانـي بـالـمثل الأول؟ أو يكون مثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الاَخر ب(أو)، وقد علـمت أن (أو) إذا كانت فـي الكلام فإنـما تدخـل فـيه علـى وجه الشك من الـمخبر فـيـما أخبر عنه، كقول القائل: لقـينـي أخوك أو أبوك، وإنـما لقـيه أحدهما، ولكنه جهل عين الذي لقـيه منهما، مع علـمه أن أحدهما قد لقـيه وغير جائز فـي اللّه جل ثناؤه أن يضاف إلـيه الشك فـي شيء أو عزوب علـم شيء عنه فـيـما أخبر أو ترك الـخبر عنه. قـيـل له: إن الأمر فـي ذلك بخلاف الذي ذهبت إلـيه، و(أو) وإن كانت فـي بعض الكلام تأتـي بـمعنى الشك، فإنها قد تأتـي دالة علـى مثل ما تدلّ علـيه الواو إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بـما يأتـي بعدها كقول توبة بن الـحُمَيّر: وَقَدْ زَعَمَتْ لَـيْـلَـى بأنَى فـاجِرٌلِنَفْسِي تُقاها أوْ عَلَـيْهَا فُجُورُها ومعلوم أن ذلك من توبة علـى غير وجه الشك فـيـما قال. ولكن لـما كانت (أو) فـي هذا الـموضع دالة علـى مثل الذي كانت تدل علـيه الواو لو كانت مكانها، وَضَعَها موضعها. وكذلك قول جرير: جاءَ الـخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراكما أتـى رَبّهُ مُوسَى علـى قَدَرِ قال آخر فَلَوْ كانَ البُكاءُ يَرُدّ شَيْئابَكَيْتُ علـى جُبَـيرٍ أوْ عَناقِ عَلـى الـمَرأيْنِ إذْ مَضَيا جَمِيعالِشأْنِهِما بِحُزْنٍ وَاشْتِـياقِ أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ لـما كان معلوما أن (أو) دالة فـي ذلك علـى مثل الذي كانت تدل علـيه الواو، ولو كانت مكانها كان سواء نطق فـيه ب(أو) أو بـالواو. وكذلك وجه حذف الـمثل من قوله: أوْ كَصَيّبٍ لـما كان قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا دالاّ علـى أن معناه: كمثل صيب، حذف الـمثل واكتفـى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا علـى أن معناه: أو كمثل صيب، من إعادة ذكر الـمثل طلب الإيجاز والاختصار. القول فـي تأويـل قوله تعالى: { فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ وَاللّه مُـحِيطٌ بـالكافِرينَ يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ وَإِذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قَامُوا}. قال أبو جعفر: فأما الظلـمات فجمع، وأحدها ظلـمة وأما الرعد فإن أهل العلـم اختلفوا فـيه فقال بعضهم: هو ملك يزجر السحاب. ذكر من قال ذلك: ٢٢٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن الـحكم، عن مـجاهد، قال: الرعد ملك يزجر السحاب بصوته. وحدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة عن الـحكم عن مـجاهد مثله. وحدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا فضيـل بن عياض، عن لـيث، عن مـجاهد مثله. ٢٣٠ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم قال: أنبأنا إسماعيـل بن سالـم عن أبـي صالـح، قال: الرعد ملك من الـملائكة يسبح. ٢٣١ـ وحدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا مـحمد بن يعلـى، عن أبـي الـخطاب البصري، عن شهر بن حوشب قال: الرعد: ملك موكل بـالسحاب، يسوقه كما يسوق الـحادي الإبل، يسبح كلـما خالفت سحابة سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فـيه، فهي الصواعق التـي رأيتـم. ٢٣٢ـ وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: الرعد: ملك من الـملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته. ٢٣٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الـملك بن حسين عن السدي، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس ، قال: الرعد: ملك يزجر السحاب بـالتسبـيح والتكبـير. ٢٣٤ـ وحدثنا الـحسن بن مـحمد، قال: حدثنا علـيّ بن عاصم، عن ابن جريج، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: الرعد: اسم ملك، وصوته هذا تسبـيحه، فإذا اشتدّ زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتـخرج الصواعق من بـينه. ٢٣٥ـ حدثنا الـحسن، قال: حدثنا عفـان، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى البزار، عن شهر بن حوشب عن ابن عبـاس ، قال: الرعد: ملك يسوق السحاب بـالتسبـيح، كما يسوق الـحادي الإبل بحدائه. حدثنا الـحسن بن مـحمد، قال: حدثنا يحيى بن عبـاد وشبـابة قالا: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد، قال: الرعد: ملك يزجر السحاب. ٢٣٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا عتاب بن زياد، عن عكرمة، قال: الرعد: ملك فـي السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل. ٢٣٧ـ وحدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الرعد: خَـلْقٌ من خَـلْقِ اللّه جل وعز سامع مطيع للّه جل وعز. ٢٣٨ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: إن الرعد ملك يؤمر بـازجاء السحاب فـيؤلف بـينه، فذلك الصوت تسبـيحه. ٢٣٩ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاح، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: الرعد: ملك. ٢٤٠ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن الـمغيرة بن سالـم، عن أبـيه أو غيره، أن علـي بن أبـي طالب قال: الرعد: ملك. ٢٤١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالـم أبو جهضم مولـى ابن عبـاس ، قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجَلَد يسأله عن الرعد؟ فقال: الرعد: ملك. ٢٤٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا عمر بن الولـيد السنـي، عن عكرمة، قال: الرعد: ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل. ٢٤٣ـ حدثنـي سعد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، قال: كان ابن عبـاس إذا سمع الرعد، قال: سبحان الذي سبحت له، قال: وكان يقول: إن الرعد: ملك ينعق بـالغيث كما ينعق الراعي بغنـمه. وقال آخرون: إن الرعد: ريح تـختنق تـحت السحاب، فتصاعد فـيكون منه ذلك الصوت ذكر من قال ذلك: ٢٤٤ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا بشر بن إسماعيـل، عن أبـي كثـير، قال: كنت عند أبـي الـجَلَد، إذ جاءه رسول ابن عبـاس بكتاب إلـيه، فكتب إلـيه: كتبت تسألنـي عن الرعد، فـالرعد: الريح. ٢٤٥ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا ابن إدريس عن الـحسن بن الفرات، عن أبـيه، قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد: ريح. قال أبو جعفر: فإن كان الرعد ما ذكره ابن عبـاس ومـجاهد، فمعنى الآية: أو كصيب من السماء فـيه ظلـمات وصوت رعد لأن الرعد إنْ كان ملكا يسوق السحاب، فغير كائن فـي الصيب لأن الصّيب إنـما هو ما تـحدّر من صوب السحاب والرعد: إنـما هو فـي جوّ السماء يسوق السحاب، علـى أنه لو كان فـيه يـمر لـم يكن له صوت مسموع، فلـم يكن هنالك رعب يرعب به أحد لأنه قد قـيـل: إن مع كل قطرة من قطر الـمطر ملكا، فلا يعدو الـملك الذي اسمه الرعد لو كان مع الصيب إذا لـم يكن مسموعا صوته أن يكون كبعض تلك الـملائكة التـي تنزل مع القطر إلـى الأرض فـي أن لا رعب علـى أحد بكونه فـيه. فقد عُلـم إذْ كان الأمر علـى ما وصفنا من قول ابن عبـاس إن معنى الآية: أو كمثل غيث تـحدر من السماء فـيه ظلـمات وصوت رعد إن كان الرعد هو ما قاله ابن عبـاس ، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد بـاسمه علـى الـمراد فـي الكلام من ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الـخـلد فلا شيء في قوله: (فـيه ظلـمات ورعد) متروك، لأن معنى الكلام حينئذٍ: فـيه ظلـمات ورعد الذي هو وما وصفنا صفته. وأما البرق، فإن أهل العلـم اختلفوا فـيه فقال بعضهم بـما: ٢٤٦ـ حدثنا مطر بن مـحمد الضبـي، قال: حدثنا أبو عاصم ح وحدثنـي مـحمد بن بشار قال: حدثنـي عبد الرحمن بن مهدي وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قالوا جميعا: حدثنا سفـيان الثوري، عن سلـمة بن كهيـل، عن سعيد بن أشوع، عن ربـيعة بن الأبـيض، عن علـيّ قال: البرق: مخاريق الـملائكة. ٢٤٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا عبد الـملك بن الـحسين، عن السدي عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس : البرق مخاريق بأيدي الـملائكة يزجرون بها السحاب. ٢٤٨ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن الـمغيرة بن سالـم، عن أبـيه أو غيره أن علـيّ بن أبـي طالب قال: الرعد: الـملك، والبرق: ضربه السحاب بـمخراق من حديد. وقال آخرون: هو سوط من نور يزجر به الـملك السحاب. حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس بذلك. وقال آخرون: هو ماء. ذكر من قال ذلك: ٢٤٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا بشر بن إسماعيـل، عن أبـي كثـير، قال: كنت عند أبـي الـجَلَد إذ جاءه رسول ابن عبـاس بكتاب إلـيه، فكتب إلـيه: تسألنـي عن البرق، فـالبرق: الـماء. ٢٥٠ـ حدثنا إبراهيـم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الـحسن بن الفرات، عن أبـيه، قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجَلَد يسأله عن البرق، فقال: البرق: ماء. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن رجل من أهل البصرة من قرائهم، قال: كتب ابن عبـاس إلـى أبـي الـجَلَد رجل من أهل هجر يسأله عن البرق، فكتب إلـيه: كتبت إلـيّ تسألنـي عن البرق: وإنه من الـماء. وقال آخرون: هو مَصْعُ مَلَكٍ. ٢٥١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان عن عثمان بن الأسود، عن مـجاهد، قال: البرق: مَصْع مَلَك. ٢٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن مـحمد بن مسلـم الطائفـي، قال: بلغنـي أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بأجنـحته فذلك البرق. ٢٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن وهب بن سلـيـمان، عن شعيب الـجبـائي، قال: فـي كتاب اللّه الـملائكة حملة العرش، لكل ملك منهم وجه إنسان، وثور، وأسد، فإذا حركوا أجنـحتهم فهو البرق وقال أمية بن أبـي الصلت: رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَـحْتَ رِجْلِ يَـمِينِهِوالنّسْرُ للاخْرَى وَلَـيْثٌ مُرْصِدُ ٢٥٤ـ حدثنا الـحسين بن مـحمد، قال: حدثنا علـيّ بن عاصم، عن ابن جريج، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : البرق: ملك. ٢٥٥ـ وقد حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: الصواعق ملك يضرب السحاب بـالـمخاريق يصيب منه من يشاء. قال أبو جعفر: وقد يحتـمل أن يكون ما قاله علـيّ بن أبـي طالب وابن عبـاس ومـجاهد بـمعنى واحد وذلك أن تكون الـمخاريق التـي ذكر علـيّ رضي اللّه عنه أنها هي البرق هي السياط التـي هي من نور التـي يزجي بها الـملك السحاب، كما قال ابن عبـاس . ويكون إزجاء الـملك السحاب: مَصْعَهُ إياه بها، وذاك أن الـمِصَاعَ عند العرب أصله الـمـجالدة بـالسيوف، ثم تستعمله فـي كل شيء جُولد به فـي حرب وغير حرب، كما قال أعشى بنـي ثعلبة وهو يصف جواري يـلعبن بحلـيهن ويجالدن به. إذَا هُنّ نازَلْنَ أقْرَانَهُنّوكانَ الـمِصَاعُ بِـمَا فـي الـجُوَنْ يقال منه: ماصعه مِصَاعا. وكأن مـجاهدا إنـما قال: (مصع ملك)، إذ كان السحاب لا يـماصع الـملك، وإنـما الرعد هو الـمـماصع له، فجعله مصدرا من مصعه يَـمْصَعُه مصعا، وقد ذكرنا ما فـي معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فـيـما مضى. وأما تأويـل الآية، فإن أهل التأويـل مختلفون فـيه. فرُوي عن ابن عبـاس فـي ذلك أقوال أحدها ما: ٢٥٦ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِـيهِ ظُلُـمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ أي هم من ظلـمات ما هم فـيه من الكفر والـحذر من القتل علـى الذي هم علـيه من الـخلاف، والتـخوّف منكم علـى مثل ما وصف من الذي هو فـي ظلـمة الصيب، فجعل أصابعه فـي أذنـيه من الصواعق حذر الـموت يَكادَ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ أي لشدة ضوء الـحق، كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قَامُوا أي يعرفون الـحق ويتكلـمون به، فهم من قولهم به علـى استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلـى الكفر قاموا متـحيرين. والاَخر ما: ٢٥٧ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلـى: إِنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: أما الصيب والـمطر. كانا رجلان من الـمنافقـين من أهل الـمدينة هربـا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمشركين، فأصابهما هذا الـمطر الذي ذكر اللّه فـيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلـما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما فـي آذانهما من الفَرَق أن تدخـل الصواعق فـي مسامعهما فتقتلهما، وإذ لـمع البرق مشيا فـي ضوئه، وإذا لـم يـلـمع لـم يبصرا وقاما مكانهما لا يـمشيان، فجعلا يقولان: لـيتنا قد أصبحنا فنأتـي مـحمدا فنضع أيدينا فـي يده فأصبحا فأتـياه فأسلـما ووضعا أيديهما فـي يده وحسن إسلامهما. فضرب اللّه شأن هذين الـمنافقـين الـخارجين مثلاً للـمنافقـين الذين بـالـمدينة. وكان الـمنافقون إذا حضروا مـجلس النبـي صلى اللّه عليه وسلم، جعلوا أصابعهم فـي آذانهم فَرَقا من كلام النبـي صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل فـيهم شيء أو يذكروا بشيء فـيقتلوا، كما كان ذانك الـمنافقان الـخارجان يجعلان أصابعهما فـي آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فـيه. فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلـمان وأصابوا غنـيـمة أو فتـحا مشوا فـيه، و قالوا: إن دين مـحمد صلى اللّه عليه وسلم دين صدق فـاستقاموا علـيه، كما كان ذانك الـمنافقان يـمشيان إذا أضاء لهم البرق مشوا فـيه، وإذا أظلـم علـيهم قاموا. فكانوا إذا هلكت أموالهم، وولد لهم الـجواري، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين مـحمد، فـارتدّوا كفـارا كما قام ذانك الـمنافقان حين أظلـم البرق علـيهما. والثالث ما: ٢٥٨ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ كمطر فـيه ظلـمات ورعد وبرق إلـى آخر الآية، هو مثل الـمنافق فـي ضوء ما تكلـم بـما معه من كتاب اللّه وعمل، مراءاةً للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو فـي ظلـمة ما أقام علـى ذلكوأما الظلـمات فـالضلالة، وأما البرق فـالإيـمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلـم علـيهم، فهو رجل يأخذ بطرف الـحق لا يستطيع أن يجاوزه. والرابع ما: ٢٥٩ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ وهو الـمطر، ضرب مثله فـي القرآن يقول: (فـيه ظلـمات)، يقول: ابتلاء. (ورعد) يقول: فـيه تـخويف، وبرق يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ يقول: يكاد مـحكم القرآن يدلّ علـى عورات الـمنافقـين، كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ يقول: كلـما أصاب الـمنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا، وإن أصابوا الإسلام نكبة، قالوا: ارجعوا إلـى الكفر. يقول: وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قامُوا كقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه علـى حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ بِهِ وَإِنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ إلـى آخر الآية. ثم اختلف سائر أهل التأويـل بعد ذلك فـي نظير ما رُوي عن ابن عبـاس من الاختلاف. ٢٦٠ـ فحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: إضاءة البرق وإظلامه علـى نـحو ذلك الـمثل. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله. ٢٦١ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُريع، عن سعيد، عن قتادة في قول اللّه : فِـيهِ ظُلُـمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلـى قوله: وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قامُوا، فـالـمنافق إذا رأى فـي الإسلام رخاء أو طمأنـينة أو سلوة من عيش، قال: أنا معكم وأنا منكم وإذا أصابته شدة حقحق واللّه عندها فـانقُطع به فلـم يصبر علـى بلائها، ولـم يحتسب أجرها، ولـم يَرْجُ عاقبتها. ٢٦٢ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يقول: أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فـيه حذرا من الـموت، واللّه مـحيط بـالكافرين. ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ يقول: هذا الـمنافق، إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافـية قال: لـم يصبنـي منذ دخـلت فـي دينـي هذا إلاّ خير، وَإِذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قامُوا يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متـحيرين. ٢٦٣ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: فِـيهِ ظُلُـمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ قال: مثلهم كمثل قوم ساروا فـي لـيـلة مظلـمة ولها مطر ورعد وبرق علـى جادة، فلـما أبرقت أبصروا الـجادّة فمضوا فـيها، وإذا ذهب البرق تـحيروا. وكذلك الـمنافق كلـما تكلـم بكلـمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تـحير ووقع فـي الظلـمة، فكذلك قوله: كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِـيهِ وَإذَا أظْلَـمَ عَلَـيْهِمْ قَامُوا ثم قال: فـي أسماعهم وأبصارهم التـي عاشوا بها فـي الناس وَلَوْ شَاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمَعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ قال أبو جعفر: ٢٦٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو نُـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي، عن الضحاك بن مزاحم: فِـيهِ ظُلُـماتٌ قال: أما الظلـمات فـالضلالة، والبرق: الإيـمان. ٢٦٥ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي عبد الرحمن بن زيد في قوله: فِـيهِ ظُلُـماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ فقرأ حتـى بلغ: إِنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِير قال: هذا أيضا مثل ضربه اللّه للـمنافقـين، كانوا قد استناروا بـالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق. ٢٦٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: لـيس شيءٌ فـي الأرض سمعه الـمنافق إلا ظنّ أنه يراد به وأنه الـموت كراهية له، والـمنافق أكره خـلق اللّه للـموت، كما إذا كانوا بـالبَراز فـي الـمطر فرّوا من الصواعق. ٢٦٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: أوْ كَصَيبٍ مِنَ السمّاءِ فِـيهِ ظُلُـمات وَرَعْد وَبَرْق قال: مثل ضُرِبَ للكفـار. وهذه الأقوال التـي ذكرنا عمن رويناها عنه، فإنها وإن اختلفت فـيها ألفـاظ قائلـيها متقاربـات الـمعانـي لأنها جميعا تنبىء عن أن اللّه ضرب الصيب لظاهر إيـمان الـمنافق مثلاً، ومثّل ما فـيه من ظلـمات بضلالته، وما فـيه من ضياء برق بنور إيـمانه، واتقاءه من الصواعق بتصيـير أصابعه فـي أذنـيه بضعف جنانه ونَـخْبِ فؤاده من حلول عقوبة اللّه بساحته، ومشيه فـي ضوء البرق بـاستقامته علـى نور إيـمانه، وقـيامه فـي الظلام بحيرته فـي ضلالته وارتكاسه فـي عمهه. فتأويـل الآية إذا إذا كان الأمر علـى ما وصفنا: أَوَ مَثَلُ ما استضاء به الـمنافقون من قـيـلهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين بألسنتهم: آمنا بـاللّه وبـالـيوم الاَخر وبـمـحمد وما جاء به، حتـى صار لهم بذلك فـي الدنـيا أحكام الـمؤمنـين، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بـاللّه وبرسوله صلى اللّه عليه وسلم، وما جاء به من عند اللّه وبـالـيوم الاَخر، مكذّبون، ولـخلاف ما يظهرون بـالألسن فـي قلوبهم معتقدون، علـى عَمًى منهم وجهالة بـما هم علـيه من الضلالة لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرعا لهم فـيه الهداية فـي الكفر الذي كانوا علـيه قبل إرسال اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بـما أرسله به إلـيهم، أم فـي الذي أتاهم به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد اللّه إياهم علـى لسان مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وَجِلُون، وهم مع وجلهم من ذلك فـي حقـيقته شاكون فـي قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضا. كمثل غيث سرى لـيلاً فـي مزنة ظلـماء ولـيـلة مظلـمة يحدوها رعد ويستطير فـي حافـاتها برق شديد لـمعانه كثـير خَطَرانه، يكاد سنا برقه يذهب بـالأبصار، ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها نارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق. فـالصيب مثلٌ لظاهر ما أظهر الـمنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلـمات التـي هي فـيه لظلـمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوبوأما الرعد والصواعق فلـما هم علـيه من الوجل من وعيد اللّه إياهم علـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم فـي أي كتابه، إما فـي العاجل وإما فـي الاَجل، أي يحل بهم مع شكهم فـي ذلك: هل هو كائن، أم غير كائن، وهل له حقـيقة أم ذلك كذب وبـاطل؟ مَثَلٌ. فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بـالإقرار بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بألسنتهم مخافة علـى أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات. وذلك تأويـل قوله جل ثناؤه: يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ يعنـي بذلك يتقون وعيد اللّه الذي أنزله فـي كتابه علـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم بـما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتقـي الـخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنـيه وتصيـير أصابعه فـيها حذرا علـى نفسه منها. وقد ذكرنا الـخبر الذي رُوي عن ابن مسعود وابن عبـاس أنهما كانا يقولان: إن الـمنافقـين كانوا إذا حضروا مـجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أدخـلوا أصابعهم فـي آذانهم فَرَقا من كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل فـيهم شيء، أو يُذكروا بشيء فـيقتلوا. فإن كان ذلك صحيحا، ولست أعلـمه صحيحا، إذ كنت بإسناده مرتابـا فإن القول الذي روي عنهما هو القول. وإن يكن غير صحيح، فأولـى بتأويـل الآية ما قلنا لأن اللّه إنـما قص علـينا من خبرهم فـي أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون اللّه ورسوله والـمؤمنـين بقولهم آمنا بـاللّه وبـالـيوم الاَخر، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم فـي حقـيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مـما جاءهم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عند ربهم، وبذلك وصفهم فـي جميع أي القرآن التـي ذكر فـيها صفتهم. فكذلك ذلك فـي هذه الآية. وإنـما جعل اللّه إدخالهم أصابعهم فـي آذانهم مثلاً لاتقائهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين بـما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقـي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه فـي أذنـيه. وذلك من الـمَثَلِ نظير تـمثـيـل اللّه جل ثناؤه ما أنزل فـيهم من الوعيد فـي أي كتابه بأصوات الصواعق، وكذلك قوله: حَذَرَ الـمَوْت جعله جل ثناؤه مثلاً لـخوفهم وإشفـاقهم من حلول عاجل العقاب الـمهلك الذي توعده بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه فـي أذنـيه حذر العطب والـموت علـى نفسه أن تزهق من شدتها. وإنـما نصب قوله: حذر الـموت علـى نـحو ما تنصب به التكرمة فـي قولك: زرتَكَ تكرمَةَ لك، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جل ثناؤه: وَيَدْعُونَنَا رَغَبـا وَرَهَبـا علـى التفسير للفعل. وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأوّل قوله: حَذَرَ الـمَوْت: حذرا من الـموت. ٢٦٨ـ حدثنا بذلك الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر عنه. وذلك مذهب من التأويـل ضعيف، لأن القوم لـم يجعلوا أصابعهم فـي آذانهم حذرا من الـموت فـيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الـموت، وإنـما جعلوها من حذار الـموت فـي آذانهم. وكان قتادة وابن جريج يتأوّلان قوله:طط يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فـي آذَانهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الـمَوْتِ أن ذلك من اللّه جل ثناؤه صفةٌ للـمنافقـين بـالهلع. وضعف القلوب، وكراهة الـموت، ويتأوّلان فـي ذلك قوله: يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَـيْهِمْ. ولـيس الأمر فـي ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فـيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لـم يقم مقامه أحد من الـمؤمنـين بـاحُد أو دونه. وإنـما كانت كراهتهم شُهود الـمشاهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتركهم معاونته علـى أعدائه لأنهم لـم يكونوا فـي أديانهم مستبصرين ولا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصدقـين، فكانوا للـحضور معه مشاهده كارهين، إلا بـالتـخذيـل عنه. ولكن ذلك وصف من اللّه جل ثنائهم لهم بـالإشفـاق من حلول عقوبة اللّه بهم علـى نفـاقهم، إما عاجلاً، وإما آجلاً. ثم أخبر جل ثناؤه أن الـمنافقـين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التـي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفـاق الـجاعل فـي أذنـيه أصابعه حِذَار حلول الوعيد الذي توعدهم به فـي أي كتابه، غير منـجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم وحلوله بساحتهم، إما عاجلاً فـي الدنـيا، وإما آجلاً فـي الاَخرة، للذي فـي قلوبهم من مرضها والشك فـي اعتقادها، فقال: وَاللّه مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ بـمعنى جامعهم فمـحلّ بهم عقوبته. وكان مـجاهد يتأوّل ذلك كما: ٢٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميـمون، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَاللّه مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ قال: جامعهم فـي جهنـم. وأما ابن عبـاس فروي عنه فـي ذلك ما: ٢٧٠ـ حدثنـي به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَاللّه مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ يقول: اللّه منزل ذلك بهم من النقمة. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن مـجاهد في قوله: وَاللّه مُـحِيطٌ بـالكافِرِينَ قال: جامعهم. ثم عاد جل ذكره إلـى نعت إقرار الـمنافقـين بألسنتهم، والـخبر عنه وعنهم وعن نفـاقهم، وإتـمام الـمثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم، فقال: يَكَادُ البَرْقُ يعنـي بـالبرق: الإقرار الذي أظهروه بألسنتهم بـاللّه وبرسوله وما جاء به من عند ربهم، فجعل البرق له مثلاً علـى ما قدمنا صفته. يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ يعنـي: يذهب بها ويستلبها ويـلتـمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه. كما: ٢٧١ـ حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، في قوله: يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ قال: يـلتـمع أبصارَهم ولـمّا يفعل. قال أبو جعفر: والـخطف: السلب، ومنه الـخبر الذي رُوي عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم (أنه نهى عن الـخطفة) يعنـي بها النّهْبَة ومنه قـيـل للـخُطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خُطّاف لاختطافه واستلابه ما علق به. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: خطَاطِيفُ حُجْنٌ فِـي حبـالٍ مَتِـينَةٍتَـمُدّ بِها أيْدٍ إلَـيْكَ نَوَازِعُ فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به من عند اللّه والـيوم الاَخر وشعاع نوره، مثلاً. ثم قال تعالـى ذكره: كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ يعنـي أن البرق كلـما أضاء لهم، وجعل البرق لإيـمانهم مثلاً. وإنـما أراد بذلك أنهم كلـما أضاء لهم الإيـمان وإضاءتهم لهم أن يروا فـيه ما يعجبهم فـي عاجل دنـياهم من النصرة علـى الأعداء، وإصابة الغنائم فـي الـمغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء فـي الأموال، والسلامة فـي الأبدان والأهل والأولاد، فذلك إضاءته لهم لأنهم إنـما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهلـيهم وذراريهم، وهم كما وصفهم اللّه جل ثناؤه بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه علـى حَرْفٍ فَـانْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ علـى وَجْهِهِ. ويعنـي بقوله: مَشَوْا فِـيهِ مشوا فـي ضوء البرق. وإنـما ذلك مثل لإقرارهم علـى ما وصفنا. فمعناه: كلـما رأوا فـي الإيـمان ما يعجبهم فـي عاجل دنـياهم علـى ما وصفنا، ثبتوا علـيه وأقاموا فـيه، كما يـمشي السائر فـي ظلـمة اللـيـل وظلـمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فـيها بـارقة أبصر طريقه فـيها وَإِذَا أظْلَـمَ يعنـي ذهب ضوء البرق عنهم. ويعنـي بقوله: (علـيهم): علـى السائرين فـي الصيب الذي وصف جل ذكره، وذلك للـمنافقـين مثل. ومعنى إظلام ذلك: أن الـمنافقـين كلـما لـم يروا فـي الإسلام ما يعجبهم فـي دنـياهم عند ابتلاء اللّه مؤمنـي عبـاده بـالضرّاء وتـمـحيصه إياهم بـالشدائد والبلاء من إخفـاقهم فـي مغزاهم وإنالة عدوّهم منهم، أو إدبـار من دنـياهم عنهم أقاموا علـى نفـاقهم وثبتوا علـى ضلالتهم كما قام السائر فـي الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلـم وخفت ضوء البرق، فحار فـي طريقه فلـم يعرف منهجه. ٢٠القول فـي تأويـل قوله تعالى:{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّه عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. قال أبو جعفر: وإنـما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من الـمنافقـين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها فـي الاَيتـين، أعنـي قوله: يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِـي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ وقوله: يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّـما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِـيهِ فجرى ذكرها فـي الاَيتـين علـى وجه الـمثل. ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من الـمنافقـين عقوبة لهم علـى نفـاقهم وكفرهم، وعيدا من اللّه لهم، كما توعدهم فـي الآية التـي قبلها بقوله: وَاللّه مُـحِيطٌ بـالكافرِينَ واصفـا بذلك جل ذكره نفسه أنه الـمقتدر علـيهم وعلـى جمعهم، لإحلال سخطه بهم، وإنزال نقمته علـيهم، ومـحذرهم بذلك سطوته، ومخوّفهم به عقوبته، لـيتقوا بأسه، ويسارعوا إلـيه بـالتوبة. كما: ٢٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَلَوْ شاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهمْ وأبْصَارِهِمْ لـما تركوا من الـحق بعد معرفته. ٢٧٣ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: ثم قال يعنـي قال اللّه فـي أسماعهم يعنـي أسماع الـمنافقـين وأبصارهم التـي عاشوا بها فـي الناس: وَلَوْ شاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ. قال أبو جعفر: وإنـما معنى قوله: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ لأذهب سمعهم وأبصارهم، ولكن العرب إذا أدخـلوا البـاء فـي مثل ذلك قالوا: ذهبت ببصره، وإذا حذفوا البـاء قالوا: أذهبت بصره، كما قال جل ثناؤه: آتنا غَدَاءَنَا ولو أدخـلت البـاء فـي الغداء لقـيـل: ائتنا بغدائنا. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فوحد، وقال: وأبْصَارِهِمْ فجمع؟ وقد علـمت أن الـخبر فـي السمع خبر عن سمع جماعة، كما الـخبر فـي الأبصار خبر عن أبصار جماعة؟ قـيـل: قد اختلف أهل العربـية فـي ذلك، فقال بعض نـحويـي الكوفـي: وحد لسمع لأنه عنى به الـمصدر وقصد به الـخرق، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين. وكان بعض نـحويـي البصرة يزعم أن السمع وإن كان فـي لفظ واحد فإنه بـمعنى جماعة، ويحتـجّ فـي ذلك بقول اللّه : لا يَرْتَدّ إلَـيْهِمْ طَرْفُهُمْ يريد لا ترتد إلـيهم أطرافهم، وبقوله: وَيُوَلونَ الدّبُرَ يراد به أدبـارهم. وإنـما جاز ذلك عندي لأن فـي الكلام ما يدلّ علـى أنه مراد به الـجمع، فكان فـيه دلالة علـى الـمراد منه، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنـيا عن جِماعِهِ، ولو فعل بـالبصر نظير الذي فعل بـالسمع، أو فعل بـالسمع نظير الذي فعل بـالأبصار من الـجمع والتوحيد، كان فصيحا صحيحا لـما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر: كُلُوا فـي بَعْضِ بَطْنكُمْ تَعِفّوافإنّ زَمانَنا زَمَنٌ خَمِيصُ فوحد البطن، والـمراد منه البطون لـما وصفنا من العلة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِير. قال أبو جعفر: وإنـما وصف اللّه نفسه جل ذكره بـالقدرة علـى كل شيء فـي هذا الـموضع، لأنه حذر الـمنافقـين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم مـحيط وعلـى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ثم قال: فـاتقونـي أيها الـمنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولـي وأهل الإيـمان بـي لا أحل بكم نقمتـي فإنـي علـى ذلك وعلـى غيره من الأشياء قدير. ومعنى قدير: قادر، كما معنى علـيـم: عالـم، علـى ما وصفت فـيـما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيـل علـى فـاعل فـي الـمدح والذم. ٢١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } قال أبو جعفر: فأمر جل ثناؤه الفريقـين اللذين أخبر اللّه عن أحدهما أنه سواء علـيهم أأنذروا أم لـم يُنذروا أنهم لا يؤمنون، لطبعه علـى قلوبهم، وعلـى سمعهم وأبصارهم، وعن الاَخر أنه يخادع اللّه والذين آمنوا بـما يبدي بلسانه من قـيـله: آمنا بـاللّه والـيوم الاَخر، مع استبطانه خلاف ذلك، ومرض قلبه، وشكه فـي حقـيقة ما يبدي من ذلك وغيرهم من سائر خـلقه الـمكلفـين، بـالاستكانة والـخضوع له بـالطاعة، وإفراد الربوبـية له، والعبـادة دون الأوثان والأصنام والاَلهة لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبـائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، فقال لهم جل ذكره: فـالذي خـلقكم وخـلق آبـاءكم وأجدادكم وسائر الـخـلق غيركم وهو يقدر علـى ضركم ونفعكم أولـى بـالطاعة مـمن لا يقدر لكم علـى نفع ولا ضر. وكان ابن عبـاس فـيـما رُوي لنا عنه يقول فـي ذلك نظير ما قلنا فـيه، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول فـي معنى: اعْبُدُوا رَبكُمْ وَحّدوا ربكم. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن معنى العبـادة الـخضوع للّه بـالطاعة والتذلل له بـالاستكانة. والذي أراد ابن عبـاس إن شاء اللّه بقوله فـي تأويـل قوله: اعْبُدُوا رَبّكُمْ وَحّدُوه: أي أفردوا الطاعة والعبـادة لربكم دون سائر خـلقه. ٢٧٤ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: قال اللّه : يا أيها الناسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ للفريقـين جميعا من الكفـار والـمنافقـين، أي وحدوا ربكم الذي خـلقكم والذين من قبلكم. ٢٧٥ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ الّذِي خَـلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول: خـلقكم وخـلق الذين من قبلكم. قال أبو جعفر: وهذه الآية من أدلّ دلـيـل علـى فساد قول من زعم أن تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة اللّه غير جائز إلا بعد إعطاء اللّه الـمكلف الـمعونة علـى ما كلفه. وذلك أن اللّه أمر من وصفنا بعبـادته والتوبة من كفره، بعد إخبـاره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ. قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: لعلكم تتقون بعبـادتكم ربكم الذي خـلقكم، وطاعتكم إياه فـيـما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكم له العبـادة، لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل علـيكم، وتكونوا من الـمتقـين الذين رضي عنهم ربهم. وكان مـجاهد يقول فـي تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ: تطيعون. ٢٧٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنـي أبـي عن سفـيان، عن ابن نـجيح عن مـجاهد في قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال: لعلكم تطيعون. قال أبو جعفر: والذي أظن أن مـجاهدا أراد بقوله هذا: لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه وإقلاعكم عن ضلالتكم. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ؟ أوَ لـم يكن عالـما بـما يصير إلـيه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه، حتـى قال لهم: لعلكم إذا فعلتـم ذلك أن تتقوا، فأخرج الـخبر عن عاقبة عبـادتهم إياه مخرج الشك؟ قـيـل له: ذلك علـى غير الـمعنى الذي توهمت، وإنـما معنى ذلك: اعبدوا ربكم الذي خـلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بـالربوبـية والعبـادة، كما قال الشاعر: وقُلْتُـمْ لَنا كُفّوا الـحُرُوبَ لَعَلّنَانَكُفّ وَوَثّقْتُـمْ لَنا كُلّ مَوْثِقِ فلَـمّا كَفَفْنَا الـحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُمْكَلَـمْـحِ سَرَابٍ فِـي الفَلاَ مُتَألّقِ يريد بذلك: قلتـم لنا كفوا لنكفّ. وذلك أن (لعلّ) فـي هذا الـموضع لو كان شكّا لـم يكونوا وثقوا لهم كُلّ موثق. ٢٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وقوله: الّذِي جعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا مردود علـى (الذي) الأولـى في قوله: اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَـلَقَكُمْ وهما جميعا من نعت (ربكم)، فكأنه قال: اعبدوا ربكم الـخالقكم، والـخالق الذي من قبلكم، الـجاعل لكم الأرض فراشا. يعنـي بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا وموطئا وقرارا يستقرّ علـيها. يذكّر ربنا جل ذكره بذلك من قـيـله زيادة نعمه عندهم وآلائه لديهم، لـيذكروا أياديه عندهم فـينـيبوا إلـى طاعته، تعطفـا منه بذلك علـيهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم، من غير ما حاجة منه إلـى عبـادتهم، ولكن لـيتـم نعمته علـيهم ولعلهم يهتدون. كما: ٢٧٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: الّذِي جَعَلَ لَكُمُ أَلارْضَ فِرَاشا فهي فراش يُـمْشَى علـيها، وهي الـمهاد والقرار. ٢٧٨ـوحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: الّذِي جَعَلَ لَكُمُ أَلارْضَ فِرَاشا قال: مهادا لكم. ٢٧٩ـوحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا: أي مهادا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَالسّماءَ بِناءً. قال أبو جعفر: وإنـما سميت السماء سماءً لعلوّها علـى الأرض وعلـى سكانها من خـلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لـما تـحته سماءٌ. ولذلك قـيـل لسقـف البـيت سماؤه، لأنه فوقه مرتفع علـيه، ولذلك قـيـل: سما فلان لفلان: إذا أشرف له وقصد نـحوه عالـيا علـيه، كما قال الفرزدق: سَمَوْنَا لِنَـجْرَانَ الـيَـمانِـي وأهْلِهِوَنَـجْرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُدَيّثْ مَقاوِلُه وكما قال نابغة بنـي ذبـيان: سَمَتْ لـي نَظْرَةٌ فَرأيْتُ مِنْهَاتُـحَيْتَ الـخِدْرِ وَاضِعَةَ القِرَامِ يريد بذلك: أشرفت لـي نظرة وبدت، فكذلك السماء: سُميت الأرض سماءً، لعلوّها وإشرافها علـيها. كما: ٢٨٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَالسّماءَ بِناءً، فبناء السماء علـى الأرض كهيئة القبة، وهي سقـف علـى الأرض. ٢٨١ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قول اللّه وَالسّمَاءَ بِنَاءً قال: جعل السماء سقـفـا لك. وإنـما ذكر السماء والأرض جل ثناؤه فـيـما عدّد علـيهم من نعمه التـي أنعمها علـيهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوام دنـياهم، فأعلـمهم أن الذي خـلقهما وخـلق جميع ما فـيهما وما هم فـيه من النعم هو الـمستـحقّ علـيهم الطاعة، والـمستوجب منهم الشكر والعبـادة دون الأصنام والأوثان التـي لا تضرّ ولا تنفع. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ ماءً فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ. يعنـي بذلك أنه أنزل من السماء مطرا، فأخرج بذلك الـمطر مـما أنبتوه فـي الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم غذاءً وأقواتا. فنبههم بذلك علـى قدرته وسلطانه، وذكرهم به آلاءه لديهم، وأنه هو الذي خـلقهم وهو الذي يرزقهم ويكفلهم دون من جعلوه له نِدّا وعِدْلاً من الأوثان والاَلهة، ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندّا مع علـمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا ندّ له ولا عدل، ولا لهم نافعٌ ولا ضارّ ولا خالقٌ ولا رازق سواه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَلا تَـجْعَلُوا للّه أنْدَادا. قال أبو جعفر: والأنداد، جمع ندّ، والندّ: العِدْل والـمثل، كما قال حسان بن ثابت: أتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدَفَشَرّكما لـخَيْرِكُما الفِداءُ يعنـي بقوله: (ولست له بند): لست له بـمثل ولا عدل. وكل شيء كان نظيرا لشيء وشبـيها فهو له ندّ. كما: ٢٨٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: فَلاَ تَـجْعَلُوا للّه أَنْدَادا أي عدلاء. ٢٨٣ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَلاَ تَـجْعَلُوا للّه أَنْدَادا أي عدلاء. ٢٨٤ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي عن خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فَلاَ تَـجْعَلُوا للّه أَنْدَادا قال: أكفـاء من الرجال تطيعونهم فـي معصية اللّه . ٢٨٥ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول اللّه : فَلاَ تَـجْعَلُوا للّه أَنْدَادا قال: الأنداد: الاَلهة التـي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. ٢٨٦ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: فَلاَ تَـجْعَلُوا للّه أنْدَادا قال: أشبـاها. ٢٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم عن شبـيب عن عكرمة: فلا تـجعلوا للّه أندادا أي تقولوا: لولا كلبنا لدخـل علـينا اللصّ الدار، لولا كلبنا صاح فـي الدار ونـحو ذلك. فنهاهم اللّه تعالـى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتـخذوا له ندا وعدلاً فـي الطاعة، فقال: كما لا شريك لـي فـي خـلقكم وفـي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتـي التـي أنعمتها علـيكم، فكذلك فأفردوا لـي الطاعة، وأخـلصوا لـي العبـادة، ولا تـجعلوا لـي شريكا وندّا من خـلقـي، فإنكم تعلـمون أن كل نعمة علـيكم منّـي. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ. اختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عنـي بها جميع الـمشركين، من مشركي العرب وأهل الكتاب. وقال بعضهم: عنـي بذلك أهل الكتابـين: التوراة، والإنـجيـل. ذكر من قال: عنـي بها جميع عبدة الأوثان من العرب وكفـار أهل الكتابـين: ٢٨٨ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: نزل ذلك فـي الفريقـين جميعا من الكفـار والـمنافقـين. وإنـما عَنَى بقوله: فَلاَ تَـجْعَلُوا للّه أنْدَادا وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أي لا تشركوا بـاللّه غيره من الأنداد التـي لا تنفع ولا تضرّ، وأنتـم تعلـمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علـمتـم أن الذي يدعوكم إلـيه الرسول من توحيده هو الـحقّ لا شك فـيه. ٢٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة في قوله: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أي تعلـمون أن اللّه خـلقكم وخـلق السموات والأرض، ثم تـجعلون له أندادا. ذكر من قال: عَنَى بذلك أهْلَ الكتابـين: ٢٩٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد: فَلا تَـجْعَلُوا للّه أنْدَادا وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنه إله واحد فـي التوراة والإنـجيـل. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا قبـيصة، قال: حدثنا سفـيان عن مـجاهد مثله. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ يقول: وأنتـم تعلـمون أنه لا ندّ له فـي التوراة والإنـجيـل. قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مـجاهدا إلـى هذا التأويـل، وإضافة ذلك إلـى أنه خطاب لأهل التوراة والإنـجيـل دون غيرهم، الظنّ منه بـالعرب أنها لـم تكن تعلـم أن اللّه خالقها ورازقها بجحودها وحدانـية ربها، وإشراكها معه فـي العبـادة غيره. وإن ذلك لقولٌ ولكن اللّه جل ثناؤه قد أخبر فـي كتابه عنها أنها كانت تقرّ بوحدانـية، غير أنها كانت تشرك فـي عبـادته ما كانت تشرك فـيها، فقال جل ثناؤه: وَلِئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَهُمْ لَـيَقُولُنّ اللّه ، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ والأرْضِ أمْ مَنْ يَـمْلِكُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ ويُخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ وَمَنْ يُدَبّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّه فَقُلْ أفَلا تَتّقُونَ. فـالذي هو أولـى بتأويـل قوله: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ إذ كان ما كان عند العرب من العلـم بوحدانـية اللّه ، وأنه مبدع الـخـلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابـين. ولـم يكن فـي الآية دلالة علـى أن اللّه جل ثناؤه عنى بقوله: وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أحد الـحزبـين، بل مخرج الـخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تـحدّى الناس كلهم بقوله: يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ أن يكون تأويـله ما قاله ابن عبـاس وقتادة، من أنه يعنـي بذلك كل مكلف عالـم بوحدانـية اللّه ، وأنه لا شريك له فـي خـلقه يشرك معه فـي عبـادته غيره، كائنا من كان من الناس، عربـيا كان أو أعجميا، كاتبـا أو أميا، وإن كان الـخطاب لكفـار أهل الكتاب الذين كانوا حوالـي دار هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأهل النفـاق منهم ومـمن بـين ظهرانـيهم مـمن كان مشركا فـانتقل إلـى النفـاق بـمقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ٢٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّه إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال أبو جعفر: وهذا من اللّه عزّ وجلّ احتـجاج لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى مشركي قومه من العرب ومنافقـيهم وكفـار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتـح بقصصهم قوله جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنْذِرْهُمْ وإياهم يخاطب بهذه الاَيات، وضُربـاءَهم يعنـي بها، قال اللّه جل ثناؤه: وإن كنتـم أيها الـمشركون من العرب والكفـار من أهل الكتابـين فـي شكّ وهو الريب مـما نزّلنا علـى عبدنا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي، وأنـي الذي أنزلته إلـيه، فلـم تؤمنوا به ولـم تصدّقوه فـيـما يقول، فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلـمون أن حجة كل ذي نبوّة علـى صدقه فـي دعواه النبوّة أن يأتـي ببرهان يعجز عن أن يأتـي بـمثله جميع الـخـلق، ومن حجة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى صدقه وبرهانه علـى نبوّته، وأن ما جاء به من عندي، عَجْزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتـم عن ذلك، وأنتـم أهل البراعة فـي الفصاحة والبلاغة والدراية، فقد علـمتـم أن غيركم عما عجزتـم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلـي وأنبـيائي علـى صدقه وحجته علـى نبوّته من الاَيات ما يعجز عن الإتـيان بـمثله جميع خـلقـي. فـيتقرّر حينئذ عندكم أن مـحمدا لـم يتقوّله ولـم يختلقه، لأن ذلك لو كان منه اختلافـا وتقوّلاً لـم يعجزوا وجميع خـلقه عن الإتـيان بـمثله، لأن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم لـم يَعُدْ أن يكون بشرا مثلكم، وفـي مثل حالكم فـي الـجسم وبسطة الـخـلق وذرابة اللسان، فـيـمكن أن يظن به اقتدار علـى ما عجزتـم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر علـيه. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. ٢٩١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يعنـي من مثل هذا القرآن حقّا وصدقا لا بـاطل فـيه ولا كذب. ٢٩٢ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ يقول: بسورة مثل هذا القرآن. ٢٩٣ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ مثل القرآن. وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ قال: مثله، مثل القرآن. فمعنى قول مـجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما، أن اللّه جل ذكره قال لـمن حاجّه فـي نبـيه صلى اللّه عليه وسلم من الكفـار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب، كما أتـى به مـحمد بلغاتكم ومعانـي منطقكم. وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: من مثل مـحمد من البشر، لأنه مـحمدا بشر مثلكم. قال أبو جعفر: والتأويـل الأوّل الذي قاله مـجاهد وقتادة هو التأويـل الصحيح لأن اللّه جل ثناؤه قال فـي سورة أخرى: أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. ومعلوم أن السورة لـيست لـمـحمد بنظير ولا شبـيه، فـيجوز أن يقال: فأتوا بسورة مثل مـحمد. فإن قال قائل: إنك ذكرت أن اللّه عنى بقوله: فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فـيقال: ائتوا بسورة من مثله؟ قـيـل: إنه لـم يعن به: ائتوا بسورة من مثله فـي التألـيف والـمعانـي التـي بـاين بها سائر الكلام غيره، وإنـما عنى: ائتوا بسورة من مثله فـي البـيان لأن القرآن أنزله اللّه بلسان عربـي، فكلام العرب لا شكّ له مثل فـي معنى العربـية فأما فـي الـمعنى الذي بـاين به القرآن سائر كلام الـمخـلوقـين، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبـيه. وإنـما احتـجّ اللّه جل ثناؤه علـيهم لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم بـما احتـجّ به له علـيهم من القرآن، إذ ظهر القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله فـي البـيان، إذ كان القرآن بـيانا مثل بـيانهم، وكلاما نزل بلسانهم، فقال لهم جل ثناؤه: وإن كنتـم فـي ريب من أنّ ما أنزلت علـى عبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله فـي العربـية، إذْ كنتـم عربـا، وهو بـيان نظير بـيانكم، وكلام شبـيه كلامكم. فلـم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن، فـيقدروا أن يقولوا: كلفتنا ما لو أحسنّاه أتـينا به، وإنا لا نقدر علـى الإتـيان به، لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتـيان به، فلـيس لك علـينا حجة بهذا لأنا وإن عجزنا عن أن نأتـي بـمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا بأهله، ففـي الناس خـلق كثـير من غير أهل لساننا يقدر علـى أن يأتـي بـمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتـيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله، لأن مثله من الألسن ألسنتكم، وأنتـم إن كان مـحمد اختلقه وافتراه، إذا اجتـمعتـم وتظاهرتـم علـى الإتـيان بـمثل سورة منه من لسانكم وبـيانكم أقدر علـى اختلاقه ووضعه وتألـيفه من مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وإن لـم تكونوا أقدر علـيه منه فلن تعجزوا وأنتـم جميع عما قدر علـيه مـحمد من ذلك وهو وحده، إن كنتـم صادقـين فـي دعواكم وزعمكم أن مـحمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فقال ابن عبـاس بـما: ٢٩٤ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عبـاس : وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه يعنـي أعوانكم علـى ما أنتـم علـيه، إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ. ٢٩٥ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نـجيح، عن مـجاهد: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ناس يشهدون. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد، قال: قوم يشهدون لكم. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاح، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ قال: ناس يشهدون. قال ابن جريج: شهداءكم علـيها إذا أتـيتـم بها أنها مثله مثل القرآن. وذلك قول اللّه لـمن شك من الكفـار فـيـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلموقوله: فـادْعُوا يعنـي استنصروا واستعينوا، كما قال الشاعر: فَلَـمّا الْتَقَتْ فُرْسانُنا وَرِجَالُهُمْدَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنا لِعامِرِ يعنـي بقوله: دعوا يالكعب: استنصروا كعبـا واستعانوا بهم. وأما الشهداء فإنها جمع شهيد، كالشركاء جمع شريك، والـخطبـاء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهد علـى الشيء لغيره بـما يحقق دعواه، وقد يسمى به الـمشاهد للشيء كما يقال فلان جلـيس فلان، يعنـي به مـجالسه، ونديـمه يعنـي به منادمه، وكذلك يقال: شهيده يعنـي به مشاهده. فإذا كانت الشهداء مـحتـملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للـمعنـيـين اللذين وصفت، فأولـى وجهيه بتأويـل الآية ما قاله ابن عبـاس ، وهو أن يكون معناه: واستنصروا علـى أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشهداءَكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم علـى تكذيبكم اللّه ورسوله ويظاهرونكم علـى كفركم ونفـاقكم إن كنتـم مـحقـين فـي جحودكم أن ما جاءكم به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم اختلاق وافتراء، لتـمتـحنوا أنفسكم وغيركم: هل تقدرون علـى أن تأتوا بسورة من مثله، فـيقدر مـحمد علـى أن يأتـي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا؟ وأما ما قاله مـجاهد وابن جريج فـي تأويـل ذلك فلا وجه له لأن القوم كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصنافـا ثلاثة: أهل إيـمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهل نفـاق بـين ذلك. فأهل الإيـمان كانوا بـاللّه وبرسوله مؤمنـين، فكان من الـمـحال أن يدّعي الكفـار أن لهم شهداء علـى حقـيقة ما كانوا يأتون به لو أتوا بـاختلاق من الرسالة، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من الـمؤمنـين. فأما أهل النفـاق والكفر فلا شك أنهم لو دُعوا إلـى تـحقـيق البـاطل وإبطال الـحق لسارعوا إلـيه مع كفرهم وضلالهم، فمن أي الفريقـين كانت تكون شهداءكم لو ادّعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن؟ ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنْ اجْتَـمَعَتِ الإنْسُ والـجِنّ علـى أنْ يأتُوا بِـمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِـمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا فأخبر جل ثناؤه فـي هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتـي به الـجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا علـى الإتـيان به وتـحدّاهم بـمعنى التوبـيخ لهم فـي سورة البقرة، فقال تعالـى: وَإنْ كُنْتُـمْ فـي رَيْبٍ مِـمّا نَزّلْنَا علـى عَبْدِنَا فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـين يعنـي بذلك: إن كنتـم فـي شك فـي صدق مـحمد فـيـما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة من مثله، ولـيستنصر بعضكم بعضا علـى ذلك إن كنتـم صادقـين فـي زعمكم حتـى تعلـموا أنكم إذا عجزتـم عن ذلك أنه لا يقدر علـى أن يأتـي به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ولا من البِشر أحد، ويصح عندكم أنه تنزيـلـي ووحيـي إلـى عبدي. ٢٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ } قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى بقوله: فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا: إن لـم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتـم أنتـم وشركاؤكم علـيه وأعوانكم. فتبـين لكم بـامتـحانكم واختبـاركم عجزكم وعجز جميع خـلقـي عنه، وعلـمتـم أنه من عندي، ثم أقمتـم علـى التكذيب بهوقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا. كما: ٢٩٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا أي لا تقدرون علـى ذلك ولا تطيقونه. ٢٩٧ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فقد بـين لكم الـحقّ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فـاتقُوا النّارَ الّتِـي وَقُودُها النّاسِ وَالْـحِجَارَةُ. قال أبو جعفر: يعنـي جل ثناؤه بقوله: فـاتّقُوا النّارَ يقول: فـاتقوا أن تَصْلَوا النار بتكذيبكم رسولـي بـما جاءكم به من عندي أنه من وحيـي وتنزيـلـي، بعد تبـينكم أنه كتابـي ومن عندي، وقـيام الـحجة علـيكم بأنه كلامي ووحيـي، بعجزكم وعجز جميع خـلقـي عن أن يأتوا بـمثله. ثم وصف جل ثناؤه النار التـي حذرهم صِلِـيّها، فأخبرهم أن الناس وقودها، وأن الـحجارة وقودها، فقال: الّتِـي وَقُودُهَا النّاسُ والـحِجارَةُ يعنـي بقوله وقودها: حطبها، والعرب تـجعله مصدرا، وهو اسم إذا فتـحت الواو بـمنزلة الـحطب، فإذا ضمت الواو من الوقود كان مصدرا من قول القائل: وقدت النار فهي تقد وُقودا وقِدَةً وَوَقَدَانا ووَقْدا، يراد بذلك أنها التهبت. فإن قال قائل: وكيف خُصّت الـحجارة فقرنت بـالناس حتـى جعلت لنار جهنـم حطبـا؟ قـيـل: إنها حجارة الكبريت، وهي أشدّ الـحجارة فـيـما بلغنا حرّا إذا أحميت. كما: ٢٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الـملك بن ميسرة الزراد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميـمون، عن عبد اللّه في قوله: وَقُودُهَا النّاسُ وَالـحجارَةُ قال: هي حجارة من كبريت خـلقها اللّه يوم خـلق السموات والأرض فـي السماء الدنـيا يعدّها للكافرين. ٢٩٩ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن عيـينة، عن مسعر عن عبد الـملك الزرّاد عن عمرو بن ميـمون، عن ابن مسعود في قوله: وَقُودُها النّاسُ والـحجارَةُ قال: حجارة الكبريت جعلها اللّه كما شاء. ٣٠٠ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: اتّقُوا النّارَ الّتِـي وَقُودُها النّاسُ وَالـحِجَارَةِ أما الـحجارة فهي حجارة فـي النار من كبريت أسود يعذّبون به مع النار. ٣٠١ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج في قوله: وَقُودُها النّاسُ والـحجارَةُ قال: حجارة من كبريت أسود فـي النار قال: وقال لـي عمرو بن دينار: حجارة أصلب من هذه وأعظم. حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن مسعر، عن عبد الـملك بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميـمون عن عبد اللّه بن مسعود، قال: حجارة من الكبريت خـلقها اللّه عنده كيف وشاء وكما شاء. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أُعِدّتْ للكافِرِينَ. قد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن الكافر فـي كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء، وأن اللّه جل ثناؤه إنـما سمى الكافر كافرا لـجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نعماءه قبله فمعنى قوله إذا: أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ: أعدّت النار للـجاحدين أن اللّه ربهم الـمتوحد بخـلقهم وخَـلْق الذين من قبلهم، الذي جعل لهم الأرض فراشا، والسماء بناءً، وأنزل من السماء ماءً، فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، الـمشركين معه فـي عبـادته الأنداد والاَلهة، وهو الـمتفرّد لهم بـالإنشاء والـمتوحد بـالأقوات والأرزاق. كما: ٣٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عبـاس : أُعِدّتْ للْكافِرِينَ أي لـمن كان علـى مثل ما أنتـم علـيه من الكفر. ٢٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ...} أما قوله تعالى: وَبَشّرْ فإنه يعنـي: أخبرهم. والبشارة أصلها الـخبر بـما يسر الـمخبر به، إذا كان سابقا به كل مخبر سواه. وهذا أمر من اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بإبلاغ بشارته خـلقه الذين آمنوا به وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـماء جاء به من عند ربه، وصدقوا إيـمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالـحة، فقال له: يا مـحمد بَشّرْ من صدقك أنك رسولـي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي، وحقق تصديقه ذلك قولاً بأداء الصالـح من الأعمال التـي افترضتها علـيه وأوجبتها فـي كتابـي علـى لسانك علـيه، أن له جنات تـجري من تـحتها الأنهار خاصة، دون من كذّب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك، ودون من أظهر تصديقك وأقرّ بأن ما جئته به فمن عندي قولاً، وجحده اعتقادا ولـم يحققه عملاً. فإن لأولئك النار التـي وقودها الناس والـحجارة معدة عندي. والـجنات جمع جنة، والـجنة: البستان. وإنـما عنى جل ذكر بذكر الـجنة ما فـي الـجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها، فلذلك قال عزّ ذكره: تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ لأنه معلوم أنه إنـما أرَادَ جل ثناؤه الـخبر عن ماء أنهارها أنه جار تـحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جار تـحت أرضها لأن الـماء إذا كان جاريا تـحت الأرض، فلا حظّ فـيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بـينها وبـينه. علـى أن الذي توصف به أنهار الـجنة أنها جارية فـي غير أخاديد. كما: ٣٠٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفـيان، عن عمرو بن مرة، عن أبـي عبـيدة، عن مسروق، قال: نـخـل الـجنة نضيد من أصلها إلـى فرعها، وثمرها أمثال القِلال، كلـما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري فـي غير أخدود. وحدثنا مـجاهد، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا مسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن أبـي عبـيدة بنـحوه. وحدثنا مـحمد بن بشار قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، قال: سمعت عمرو بن مرة يحدث عن أبـي عبـيدة، فذكر مثله قال: فقلت لأبـي عبـيدة: من حدثك، فغضب وقال: مسروق. فإذا كان الأمر كذلك فـي أن أنهارها جارية فـي غير أخاديد، فلا شك أن الذي أريد بـالـجنات أشجار الـجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارها تـجري فوق أرضها وتـحت غروسها وأشجارها، علـى ما ذكره مسروق. وذلك أولـى بصفة الـجنة من أن تكون أنهارها جارية تـحت أرضها. وإنـما رغب اللّه جل ثناؤه بهذه الآية عبـاده فـي الإيـمان وحضهم علـى عبـادته، بـما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيـمان به عنده، كما حذرهم فـي الآية التـي قبلها بـما أخبر من إعداده ما أعدّ لأهل الكفر به الـجاعلـين معه الاَلهة والأنداد من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته. القول فـي تأويـل قوله تعالى: كُلـمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها. قال أبو جعفر: يعنـي: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا من الـجنات، والهاء راجعة علـى (الـجنات)، وإنـما الـمعنـيّ أشجارها، فكأنه قال: كلـما رزقوا من أشجار البساتـين التـي أعدّها اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالـحات فـي جناته من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رُزِقْنا من قبل. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ فقال بعضهم: تأويـل ذلك هذا الذي رزقنا من قبل هذا فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك: ٣٠٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل قال: إنهم أتوا بـالثمرة فـي الـجنة، فلـما نظروا إلـيها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل فـي الدنـيا. ٣٠٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل: أي فـي الدنـيا. ٣٠٦ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قبْل يقولون: ما أشبهه به. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله. ٣٠٧ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْل فـي الدنـيا، قال: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها يعرفونه. قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويـل ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الـجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك فـي اللون والطعم بعضا. ومن علة قائل هذا القول إن ثمار الـجنة كلـما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله. كما: ٣٠٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، قال: سمعت عمرو بن مرّة يحدث عن أبـي عبـيدة، قال: نـخـل الـجنة نضيد من أصلها إلـى فرعها، وثمرها مثل القلال، كلـما نزعت منها ثمرة عادة مكانها أخرى. قالوا: فإنـما اشتبهت عند أهل الـجنة، لأن التـي عادت نظيرة التـي نزعت فأكلت فـي كل معانـيها. قالوا: ولذلك قال اللّه جل ثناؤه: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها لاشتبـاه جميعه فـي كل معانـيه. وقال بعضهم: بل قالوا: هَذَا الّذِي رزِقْنا مِنْ قَبْلُ لـمشابهته الذي قبله فـي اللون وإن خالفه فـي الطعم. ذكر من قال ذلك: ٣٠٩ـ حدثنا القاسم بن الـحسين، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنا شيخ من الـمَصّيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبـي كثـير، قال: يؤتـي أحدهم بـالصحفة فـيأكل منها، ثم يؤتـي بأخرى فـ يقول: هذا الذي أُتـينا به من قبل، فـيقول الـمَلَكُ: كل فـاللون واحد والطعم مختلف. وهذا التأويـل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفع صحته ظاهر التلاوة. والذي يدل علـى صحته ظاهر الآية ويحقق صحته قول القائلـين إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل فـي الدنـيا. وذلك أن اللّه جل ثناؤه قال: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا فأخبر جل ثناؤه أن من قـيـل أهل الـجنة كلـما رزقوا من ثمر الـجنة رزقا أن يقولوا: هذا الذي رُزقنا من قبل. ولـم يخصص بأن ذلك من قـيـلهم فـي بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قـيـلهم فـي كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شك أن ذلك من قـيـلهم فـي أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الـجنة واستقرارهم فـيها، الذي لـم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أن ذلك من قـيـلهم فـي أوله، كما هو من قـيـلهم فـي وسطه وما يتلوه، فمعلوم أنه مـحال أن يكون من قـيـلهم لأوّل رزق رزقوه من ثمار الـجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا من ثمار الـجنة. وكيف يجوز أن يقولوا لأوّل رزق رزقوه من ثمارها ولـما يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رزقناه من قبل إلا أن ينسبهم ذو غرّة وضلال إلـى قـيـل الكذب الذي قد طهرهم اللّه منه، أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قـيـلهم لأول رزق رزقوه منها من ثمارها، فـيدفع صحة ما أوجب اللّه صحته بقوله: كُلّـما رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا من غير نصب دلالة علـى أنه معنـيّ به حال من أحوال دون حال. فقد تبـين بـما بـينا أن معنى الآية: كلـما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالـحات من ثمرة من ثمار الـجنة فـي الـجنة رزقا، قالوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ هذا فـي الدنـيا. فإن سألنا سائل فقال: وكيف قال القوم: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ والذي رُزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الـجنة قولاً لا حقـيقة له؟ قـيـل: إن الأمر علـى غير ما ذهبت إلـيه فـي ذلك، وإنـما معناه: هذا من النوع الذي رزقناه من قبل هذا من الثمار والرزق، كالرجل يقول لاَخر: قد أعدّ لك فلان من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبـيخ والشواء والـحلوى، فـيقول الـمقول له ذاك: هذا طعامي فـي منزلـي. يعنـي بذلك أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعده له من الطعام هو طعامه، لأن أعيان ما أخبره صاحبه أنه قد أعدّه له هو طعامه. بل ذلك مـما لا يجوز لسامع سمعه يقول ذلك أن يتوهم أنه أراده أو قصده لأن ذلك خلاف مخرج كلام الـمتكلـم وإنـما يوجه كلام كل متكلـم إلـى الـمعروف فـي الناس من مخارجه دون الـمـجهول من معانـيه. فكذلك ذلك في قوله: قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ إذ كان ما كانوا رزقوه من قبل قد فنـي وعدم فمعلوم أنهم عنوا بذلك هذا من النوع الذي رزقناه من قبل، ومن جنسه فـي السّمات والألوان علـى ما قد بـينا من القول فـي ذلك فـي كتابنا هذا. القول فـي تأول قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها. قال أبو جعفر: والهاء في قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها عائدة علـى الرزق، فتأويـله: وأُتوا بـالذي رزقوا من ثمارها متشابها. وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الـمتشابه فـي ذلك، فقال بعضهم: تشابهه أن كله خيار لا رذل فـيه. ذكر من قال ذلك: ٣١٠ـ حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: أخبرنا النضر بن شميـل، قال: أخبرنا أبو عامر عن الـحسن في قوله: مُتَشابِها قال: خيارا كلها لا رذل فـيها. ٣١١ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء: قرأ الـحسن آيات من البقرة، فأتـى علـى هذه الآية: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: ألـم تروا إلـى ثمار الدنـيا كيف ترذلون بعضه؟ وإن ذلك لـيس فـيه رَذْل ٣١٢ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الـحسن: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه بعضه بعضا لـيس فـيه من رَذْل. ٣١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها أي خيارا لا رذل فـيه، وأن ثمار الدنـيا ينقـى منها ويرذل منها، وثمار الـجنة خيار كله لا يرذل منه شيء. ٣١٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ثمر الدنـيا منه ما يرذل ومنه نُقاوة، وثمر الـجنة نقاوة كله يشبه بعضه بعضا فـي الطيب لـيس منه مرذول. وقال بعضهم: تشابهه فـي اللون وهو مختلف فـي الطعم. ذكر من قال ذلك: ٣١٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النّبـي صلى اللّه عليه وسلم: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها فـي اللون والـمرأى، ولـيس يشبه الطعم. ٣١٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها مثل الـخيار. وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأتُوا بِه مُتَشابِها لونه، مختلفـا طعمه، مثل الـخيار من القثاء. ٣١٧ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر. عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها يشبه بعضه بعضا ويختلف الطعم. ٣١٨ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: مُتَشابِها قال: مشتبها فـي اللون ومختلفـا فـي الطعم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، عن مـجاهد: وأتُوا بِهِ مُتَشَابِها مثل الـخيار. وقال بعضهم: تشابه فـي اللون والطعم. ذكر من قال ذلك: ٣١٩ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد قوله: مُتَشَابِها قال: اللون والطعم. ٣٢٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد ويحيى بن سعيد: مُتَشابِها قالا: فـي اللون والطعم. وقال بعضهم: تشابهه تشابه ثمر الـجنة وثمر الدنـيا فـي اللون وإن اختلف طعومهما. ذكر من قال ذلك: ٣٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه ثمر الدنـيا غير أن ثمر الـجنة أطيب. ٣٢٢ـ وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال حفص بن عمر، قال: حدثنا الـحكم بن أبـان عن عكرمة في قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يشبه ثمر الدنـيا، غير أن ثمر الـجنة أطيب. وقال بعضهم: لا يشبه شيء مـما فـي الـجنة ما فـي الدنـيا إلا الأسماء. ذكر من قال ذلك: ٣٢٣ـ حدثنـي أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي ح، وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قالا جميعا: حدثنا سفـيان عن الأعمش، عن أبـي ظبـيان، عن ابن عبـاس قال أبو كريب فـي حديثه عن الأشجعي: لا يشبه شيء مـما فـي الـجنة ما فـي الدنـيا إلا الأسماء وقال ابن بشار فـي حديثه عن مؤمل قال: لـيس فـي الدنـيا مـما فـي الـجنة إلا الأسماء. حدثنا عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيد عن الأعمش، عن أبـي ظبـيان، عن ابن عبـاس ، قال: لـيس فـي الدنـيا من الـجنة شيء إلا الأسماء. ٣٢٤ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قوله: وأتُوا بِهِ مُتَشابِها قال: يعرفون أسماءه كما كانوا فـي الدنـيا، التفـاح بـالتفـاح، والرمان بـالرمان، قالوا فـي الـجنة: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ فـي الدنـيا، وأتُوُا بِهِ مُتَشابِها يعرفونه، ولـيس هو مثله فـي الطعم. قال أبو جعفر: وأولـى هذه التأويلات بتأويـل الآية، تأويـل من قال: وأُوتُوا بِهِ مُتَشابِها فـي اللون والـمنظر، والطعمُ مختلفٌ. يعنـي بذلك اشتبـاه ثمر الـجنة وثمر الدنـيا فـي الـمنظر واللون، مختلفـا فـي الطعم والذوق لـما قدمنا من العلة فـي تأويـل قوله: كُلـما رُزِقُوا مِنْعها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا قالُوا هَذَا الّذِي رِزِقنا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلـما رزقوا من الـجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالُوا: هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ هذا فـي الدنـيا. فأخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أُتوا بـما أتوا به من ذلك فـي الـجنة متشابها، يعنـي بذلك تشابه ما أتوا به فـي الـجنة منه والذي كانوا رزقوه فـي الدنـيا فـي اللون والـمرأى والـمنظر وإن اختلفـا فـي الطعم والذوق فتبـاينا، فلـم يكن لشيء مـما فـي الـجنة من ذلك نظير فـي الدنـيا. وقد دللنا علـى فساد قول من زعم أن معنى قوله: قالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ إنـما هو قول من أهل الـجنة فـي تشبـيههم بعض ثمرات الـجنة ببعض، وتلك الدلالة علـى فساد ذلك القول هي الدلالة علـى فساد قول من خالف قولنا فـي تأويـل قوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها لأن اللّه جل ثناؤه إنـما أخبر عن الـمعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها. ويُسأل من أنكر ذلك فـيزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مـما فـي الـجنة نظير الشيء مـما فـي الدنـيا بوجه من الوجوه، فـيقال له: أيجوز أن يكون أسماء ما فـي الـجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائر أسماء ما فـي الدنـيا منها؟ فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب اللّه ، لأن اللّه جل ثناؤه إنـما عرّف عبـاده فـي الدنـيا ما هو عنده فـي الـجنة بـالأسماء التـي يسمى بها ما فـي الدنـيا من ذلك. وإن قال: ذلك جائز، بل هو كذلك قـيـل: فما أنكرت أن يكون ألوان ما فـيها من ذلك نظائر ألوان ما فـي الدنـيا منه بـمعنى البـياض والـحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان وإن تبـاينت فتفـاضلت بفضل حسن الـمرآة والـمنظر، فكان لـما فـي الـجنة من ذلك من البهاء والـجمال وحسن الـمرآة والـمنظر خلاف الذي لـما فـي الدنـيا منه كما كان جائزا ذلك فـي الأسماء مع اختلاف الـمسميات بـالفضل فـي أجسامها؟ ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك، فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا أُلزم فـي الاَخر مثله. وكان أبو موسى الأشعري يقول فـي ذلك بـما: ٣٢٥ـ حدثنـي به ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وعبد الوهاب، ومـحمد بن جعفر، عن عوف عن قسامة عن الأشعري، قال: إن اللّه لـما أخرج آدم من الـجنة زوّده من ثمار الـجنة، وعلـمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الـجنة، غير أن هذه تَغَيّرُ وتلك لا تَغَيّرُ. وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وأُتُوا بِهِ مُتَشابِها أنه متشابه فـي الفضل: أي كل واحد منه له من الفضل فـي نـحوه مثل الذي للاَخر فـي نـحوه. قال أبو جعفر: ولـيس هذا قولاً نستـجيز التشاغل بـالدلالة علـى فساده لـخروجه عن قول جميع علـماء أهل التأويـل، وحسب قول بخروجه عن قول أهل العلـم دلالة علـى خطئه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَهُمْ فِـيهَا أزْواجٌ مُطَهّرَةٌ. قال أبو جعفر: والهاء والـميـم اللتان فـي (لهم) عائدتان علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات، والهاء والألف اللتان فـي (فـيها) عائدتان علـى الـجنات. وتأويـل ذلك: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالـحات أن لهم جنات فـيها أزواج مطهرة. والأزواج جمع زوج، وهي امرأة الرجل، يقال: فلانة زوج فلان وزوجتهوأما قوله مُطَهّرَةٌ فإن تأويـله أنهن طهرن من كل أذى وقَذًى وريبة، مـما يكون فـي نساء أهل الدنـيا من الـحيض والنفـاس والغائط والبول والـمخاط والبصاق والـمنـيّ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والـمكاره. كما: ٣٢٦ـ حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر. ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم، أما أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنـخمن. ٣٢٧ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ يقول: مطهرة من القذر والأذى. ٣٢٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى القطان، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ولَهُمْ فِـيهَا أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَـمْذِين. ٣٢٩ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحوه، إلا أنه زاد فـيه: ولا يُـمنـين ولا يحضن. ٣٣٠ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: مطهرة من الـحيض والغائط والبول والنـخام والبزاق والـمنـيّ والولد. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله. ٣٣١ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: لا يبلن ولا يتغوّطن، ولا يحضن، ولا يـلدن، ولا يـمنـين، ولا يبزقن. أخبرنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحو حديث مـحمد بن عمرو، عن أبـي عاصم. ٣٣٢ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ أي واللّه من الإثم والأذى. ٣٣٣ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: طهرهن اللّه من كل بول وغائط وقذر، ومن كل مأثم. ٣٣٤ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة قال: مطهرة من الـحيض، والـحبل، والأذى. ٣٣٥ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر عن أبـيه، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: الـمطهرة من الـحيض والـحبل. ٣٣٦ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد: وَلَهُمْ فـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: الـمطهرة: التـي لا تـحيض قال: وأزواج الدنـيا لـيست بـمطهرة، ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام؟ قال ابن زيد: وكذلك خـلقت حوّاء حتـى عصت، فلـما عصت قال اللّه : إنـي خـلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة. ٣٣٧ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع عن الـحسن في قوله وَلَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: يقول: مطهرة من الـحيض. حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، عن الـحسن في قوله: وَلَهُمْ فـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: من الـحيض. ٣٣٨ـ وحدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء قوله: لَهُمْ فِـيها أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ قال: من الولد والـحيض والغائط والبول، وذكر أشياء من هذا النـحو. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَهُمْ فـيها خالدُونَ. قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالـحات فـي الـجنات خالدون، فـالهاء والـميـم من قوله وَهُمْ عائدة علـى الذين آمنوا وعملوا الصالـحات، والهاء والألف فـي (فـيها) علـى الـجنات، وخـلودهم فـيها: دوام بقائهم فـيها علـى ما أعطاهم اللّه فـيها من الـحَبْرَة والنعيـم الـمقـيـم. ٢٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ اللّه لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهَـَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أنزل اللّه جل ثناؤه فـيه هذه الآية وفـي تأويـلها. فقال بعضهم بـما: ٣٣٩ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: لـما ضرب اللّه هذين الـمثلـين للـمنافقـين، يعنـي قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقوله: أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ الاَيات الثلاث، قال الـمنافقون: اللّه أعلـى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل اللّه إنّ اللّه لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً إلـى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ. وقال آخرون بـما: ٣٤٠ـ حدثنـي به أحمد بن إبراهيـم، قال: حدثنا قُراد عن أبـي جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، في قوله تعالى: إنّ اللّه لا يَسْتَـحِيِـي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا قال: هذا مثل ضربه اللّه للدنـيا، إن البعوضة تـحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب اللّه لهم هذا الـمثل فـي القرآن، إذا امتلئوا من الدنـيا رِيّا أخذهم اللّه عند ذلك قال: ثم تلا فلَـمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَـحْنَا عَلَـيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ الآية. ٣٤١ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس بنـحوه، إلا أنه قال: فإذا خـلت آجالهم، وانقطعت مدتهم، صاروا كالبعوضة تـحيا ما جاعت وتـموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب اللّه لهم هذا الـمثل إذا امتلئوا من الدنـيا ريّا أخذهم اللّه فأهلكهم، فذلك قوله: حَتّـى إذَا فَرِحُوا بِـمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ. وقال آخرون بـما: ٣٤٢ـ حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: إن اللّه لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا أي إن اللّه لا يستـحيـي من الـحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر. إن اللّه حين ذكر فـي كتابه الذبـاب والعنكبوت، قال أهل الضلالة: ما أراد اللّه من ذكر هذا؟ فأنزل اللّه : إنّ اللّه لا يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا. وحدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لـما ذكر اللّه العنكبوت والذبـاب، قال الـمشركون: ما بـال العنكبوت والذبـاب يذكران؟ فأنزل اللّه : إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها. وقد ذهب كل قائل مـمن ذكرنا قوله فـي هذه الآية وفـي الـمعنى الذي نزلت فـيه مذهبـا، غير أن أولـى ذلك بـالصواب وأشبهه بـالـحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عبـاس . وذلك أن اللّه جل ذكره أخبر عبـاده أنه لا يستـحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقـيب أمثال قد تقدمت فـي هذه السورة ضربها للـمنافقـين دون الأمثال التـي ضربها فـي سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول، أعنـي قوله: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما جوابـا لنكير الكفـار والـمنافقـين ما ضُرب لهم من الأمثال فـي هذه السورة أحقّ وأولـى من أن يكون ذلك جوابـا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال فـي غيرها من السور. فإن قال قائل: إنـما أوجب أن يكون ذلك جوابـا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال فـي سائر السور لأن الأمثال التـي ضربها اللّه لهم ولاَلهتهم فـي سائر السور أمثال موافقة الـمعنى، لـما أخبر عنه أنه لا يستـحي أن يضربه مثلاً، إذْ كان بعضها تـمثـيلاً لاَلهتهم بـالعنكبوت وبعضها تشبـيها لها فـي الضعف والـمهانة بـالذبـاب، ولـيس ذكر شيء من ذلك بـموجود فـي هذه السورة فـيجوز أن يقال: إن اللّه لا يستـحيـي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن قول اللّه جل ثناؤه: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا إنـما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستـحيـي أن يضرب فـي الـحقّ من الأمثال صغيرها وكبـيرها ابتلاءً بذلك عبـاده واختبـارا منه لهم لـيـميز به أهل الإيـمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لاَخرين كما: ٣٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: مَثَلاً مَا بَعُوضَةً يعنـي الأمثال صغيرها وكبـيرها، يؤمن بها الـمؤمنون، ويعلـمون أنها الـحقّ من ربهم، ويهديهم اللّه بها، ويضلّ بها الفـاسقـين. يقول: يعرفه الـمؤمنون فـيؤمنون به، ويعرفه الفـاسقون فـيكفرون به. وحدثنـي الـمثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمثله. وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثله. قال أبو جعفر: لا أنه جل ذكره قصد الـخبر عن عين البعوضة أنه لا يستـحيـي من ضرب الـمثل بها، ولكن البعوضة لـما كانت أضعف الـخـلق كما: ٣٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة، قال: البعوضة أضعف ما خـلق اللّه . ٣٤٥ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج بنـحوه. خصها اللّه بـالذكر فـي القلة، فأخبر أنه لا يستـحيـي أن يضرب أقلّ الأمثال فـي الـحقّ وأحقرها وأعلاها إلـى غير نهاية فـي الارتفـاع جوابـا منه جل ذكره لـمن أنكر من منافقـي خـلقه ما ضرب لهم من الـمثل بـموقد النار والصيّب من السماء علـى ما نَعَتهما به من نَعْتهما. فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير الـمنافقـين الأمثال التـي وصفت الذي هذا الـخبر جوابه، فنعلـم أن القول فـي ذلك ما قلت؟ قـيـل: الدلالة علـى ذلك بـينها جلّ ذكره في قوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال فـي الاَيتـين الـمقدمتـين، اللتـين مثّل ما علـيه الـمنافقون مقـيـمون فـيهما بـمُوقِدِ النار وبـالصيب من السماء علـى ما وصف من ذلك قبل قوله: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً قد أنكروا الـمثل و قالوا: ماذَا أرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً، فأوضح خطأ قـيـلهم ذلك، وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم فـي قـيـلهم ما قالوا منه، وأنه ضلال وفسوق، وأن الصواب والهدى ما قاله الـمؤمنون دون ما قالوه. وأما تأويـل قوله: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي فإن بعض الـمنسوبـين إلـى الـمعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي إن اللّه لا يخشى أن يضرب مثلاً، ويستشهد علـى ذلك من قوله بقول اللّه تعالـى: وَتَـخْشَى الناسَ وَاللّه أحَقّ أنْ تَـخْشاهُ ويزعم أن معنى ذلك: وتستـحي الناسَ واللّه أحقّ أن تستـحيه فـ يقول: الاستـحياء بـمعنى الـخشية، والـخشية بـمعنى الاستـحياء. وأما معنى قوله: أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً فهو أن يبـين ويصف، كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ بـمعنى وصف لكم، وكما قال الكميت: وذَلِكَ ضَرْبُ أخْماسٍ أُرِيدَتْلأِسْدَاسٍ عَسَى أنْ لا تَكُونا بـمعنى وصف أخماس. والـمثل: الشبه، يقال: هذا مَثَلُ هذا ومِثْلُه، كما يقال: شَبَهُه وشِبْهُه، ومنه قول كعب بن زهير: كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاًوَمَا مَوَاعِيدُها إلاّ الأبـاطِيـلُ يعنـي شَبَها. فمعنى قوله إذا: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً: إن اللّه لا يخشى أن يصف شبها لـما شبه به وأما (ما) التـي مع (مثل) فإنها بـمعنى (الذي)، لأن معنى الكلام: إن اللّه لا يستـحيـي أن يضرب الذي هو بعوضة فـي الصغر والقلة فما فوقها مثلاً. فإن قال لنا قائل: فإن كان القول فـي ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة، وقد علـمت أن تأويـل الكلام علـى ما تأوّلت: إنّ اللّه لاَ يَسْتَـحْيِـي أن يَضْرِبَ مَثَلاً الذي هو بعوضة، فـالبعوضة علـى قولك فـي مـحل الرفع، فأنّى أتاها النصب؟ قـيـل: أتاها النصب من وجهين: أحدهما أن ما لـما كانت فـي مـحل نصب بقوله: يَضْرِب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت: وكَفَـى بِنا فَضْلاً علـى مَنْ غَيْرِناحُبّ النّبِـيّ مُـحَمّدٍ إيّانا فعرّبت غير بإعراب (مَنْ)، فـالعرب تفعل ذلك خاصة فـي (من) و(ما) تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا. وأما الوجه الاَخر، فأن يكون معنى الكلام: إن اللّه لا يستـحيـي أن يضرب مثلاً ما بـين بعوضة إلـى ما فوقها، ثم حذف ذكر (بـين) و(إلـى)، إذ كان فـي نصب البعوضة ودخول الفـاء فـي (ما) الثانـية دلالة علـيهما، كما قالت العرب: (مُطرنا ما زبـالة فـالثعلبـية)، و(له عشرون ما ناقة فجملاً)، و(هي أحسن الناس ما قرنا فقدما)، يعنون: ما بـين قرنها إلـى قدمها، وكذلك يقولون فـي كل ما حسن فـيه من الكلام دخول (ما بـين كذا إلـى كذا)، ينصبون الأول والثانـي لـيدلّ النصب فـيهما علـى الـمـحذوف من الكلام. فكذلك ذلك في قوله: ما بعوضة فما فوقها. وقد زعم بعض أهل العربـية أن (ما) التـي مع الـمَثَل صلة فـي الكلام بـمعنى التطوّل، وأن معنى الكلام: إن اللّه لا يستـحيـي أن يضرب بعوضة مثلاً فما فوقها. فعلـى هذا التأويـل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب(يضرب)، وأن تكون (ما) الثانـية التـي فـي (فما فوقها) معطوفة علـى البعوضة لا علـى (ما). وأما تأويـل قوله: فَمَا فَوْقَهَا: فما هو أعظم منها عندي لـما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خـلق اللّه ، فإذا كانت أضعف خـلق اللّه فهي نهاية فـي القلة والضعف، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه، فقد يجب أن يكون الـمعنى علـى ما قالاه فما فوقها فـي العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهاية فـي الضعف والقلة. وقـيـل فـي تأويـل قوله: فَمَا فَوْقَها فـي الصغر والقلة، كما يقال فـي الرجل يذكره الذاكر فـيصفه بـاللؤم والشحّ، فـيقول السامع: نعم، وفوق ذاك، يعنـي فوق الذي وصف فـي الشحّ واللؤم. وهذا قول خلاف تأويـل أهل العلـم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويـل القرآن، فقد تبـين إذا بـما وصفنا أن معنى الكلام: إن اللّه لا يستـحيـي أن يصف شبها لـما شبه به الذي هو ما بـين بعوضة إلـى ما فوق البعوضة. فأما تأويـل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز فـي ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بـمعنى التطول. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ذكره: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فأما الذين صدقوا اللّه ورسولهوقوله: فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعنـي فـيعرفون أن الـمثل الذي ضربه اللّه لـما ضربه له مثل. كما. ٣٤٦ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ أن هذا الـمثل الـحق من ربهم أنه كلام اللّه ومن عنده. وكما: ٣٤٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ: أي يعلـمون أنه كلام الرحمن وأنه الـحقّ من اللّه . وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَـيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّه بِهَذا مَثَلاً قال أبو جعفر: وقوله: وأما الّذِينَ كَفَرُوا يعنـي الذين جحدوا آيات اللّه وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علـموا أنه حقّ. وذلك صفة الـمنافقـين، وإياهم عنى اللّه جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من الـمشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية، فـيقولون: ماذا أراد اللّه بهذا مثلاً، كما قد ذكرنا قبل من الـخبر الذي رويناه عن مـجاهد الذي. ٣٤٨ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية، قال: يؤمن بها الـمؤمنون، ويعلـمون أنها الـحقّ من ربهم، ويهديهم اللّه بها ويضلّ بها الفـاسقون. يقول: يعرفه الـمؤمنون فـيؤمنون به، ويعرفه الفـاسقون فـيكفرون به. وتأويـل قوله: ماذَا أرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً ما الذي أراد اللّه بهذا الـمثل مثلاً، ف(ذا) الذي مع (ما) فـي معنى (الذي) وأراد صلته، وهذا إشارة إلـى الـمثل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يضلّ به كَثِـيرا ويَهْدِي بِهِ كَثِـيرا. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل وعزّ: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا يضلّ اللّه به كثـيرا من خـلقه، والهاء فـي (به) من ذكر الـمثل. وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن اللّه يضلّ بـالـمثل الذي يضرّبه كثـيرا من أهل النفـاق والكفر. كما: ٣٤٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا يعنـي الـمنافقـين، وَيَهْدِي بِهِ كَثِـيرا يعنـي الـمؤمنـين فـيزيد هؤلاء ضلالاً إلـى ضلالهم لتكذيبهم بـما قد علـموه حقا يقـينا من الـمثل الذي ضربه اللّه لـما ضربه له وأنه لـما ضربه له موافق، فذلك إضلال اللّه إياهم به. ويهدي به يعنـي بـالـمثل كثـيرا من أهل الإيـمان والتصديق، فـيزيدهم هدى إلـى هداهم وإيـمانا إلـى إيـمانهم، لتصديقهم بـما قد علـموه حقا يقـينا أنه موافق ما ضربه اللّه له مثلاً وإقرارهم به، وذلك هداية من اللّه لهم به. وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن الـمنافقـين، كأنهم قالوا: ماذا أراد اللّه بـمثل لا يعرفه كل أحد يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والـخبر عن اللّه فقال اللّه : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفـاسِقِـينَ وفـيـما فـي سورة الـمدثر من قول اللّه : وَلِـيَقُولَ الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّه بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّه مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ما ينبىء عن أنه فـي سورة البقرة كذلك مبتدأ، أعنـي قوله: يُضِلّ بِهِ كَثِـيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِـيرا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ. وتأويـل ذلك ما: ٣٥٠ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ: هم الـمنافقون. ٣٥١ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ فسقوا فأضلهم اللّه علـى فسقهم. ٣٥٢ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: وَما يُضِل بِهِ إِلاّ الفَـاسِقِـينَ: هم أهل النفـاق. قال أبو جعفر: وأصل الفسق فـي كلام العرب: الـخروج عن الشيء، يقال منه: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة، لـخروجها عن جحرها. فكذلك الـمنافق والكافر سُميا فـاسقـين لـخروجهما عن طاعة ربهما، ولذلك قال جل ذكره فـي صفة إبلـيس: إلاّ إبْلِـيسَ كَانَ مِنَ الـجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يعنـي به: خرج عن طاعته واتبـاع أمره. كما: ٣٥٣ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق عن داود بن الـحصين، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس في قوله: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي بـما بعدوا عن أمري. فمعنى قوله: وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفـاسِقِـينَ: وما يضلّ اللّه بـالـمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفـاق إلا الـخارجين عن طاعته والتاركين اتبـاع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفـاق. ٢٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال أبو جعفر: وهذا وصف من اللّه جل ذكره الفـاسقـين الذين أخبر أنه لا يضلّ بـالـمثل الذي ضربه لأهل النفـاق غيرهم، فقال: ومَا يُضِلّ اللّه بـالـمثل الذي يضربه علـى ما وصف قبل فـي الاَيات الـمتقدمة إلا الفـاسقـين الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه. ثم اختلف أهل الـمعرفة فـي معنى العهد الذي وصف اللّه هؤلاء الفـاسقـين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية اللّه إلـى خـلقه، وأمره إياهم بـما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته فـي كتبه وعلـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم، ونقضهم ذلك تركهم العمل به. وقال آخرون: إنـما نزلت هذه الاَيات فـي كفـار أهل الكتاب والـمنافقـين منهم، وإياهم عنى اللّه جل ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ وبقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ فكل ما فـي هذه الاَيات فعذل لهم وتوبـيخ إلـى انقضاء قصصهم. قالوا: فعهد اللّه الذي نقضوه بعد ميثاقه: هو ما أخذه اللّه علـيهم فـي التوراة من العمل بـما فـيها، واتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبـما جاء به من عند ربهم. ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقـيقته، وإنكارهم ذلك، وكتـمانهم علـم ذلك عن الناس، بعد إعطائهم اللّه من أنفسهم الـميثاق لـيبـيننه للناس ولا يكتـمونه. فأخبر اللّه جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قلـيلاً. وقال بعضهم: إن اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفـاق وعهده إلـى جميعهم فـي توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالز علـى ربوبـيته وعهده إلـيهم فـي أمره ونهيه ما احتـج به لرسله من الـمعجزات التـي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتـي بـمثلها الشاهدة لهم علـى صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بـما قد تبـينت لهم صحته بـالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب، مع علـمهم أن ما أتوا به حق. وقال آخرون: العهد الذي ذكره اللّه جل ذكره، هو العهد الذي أخذه علـيهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ علـى أنْفُسِهِمْ الاَيتـين، ونقضُهم ذلك، تركهم الوفـاء به. وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي ذلك، قول من قال: إن هذه الاَيات نزلت فـي كفـار أحبـار الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وما قرب منها من بقايا بنـي إسرائيـل، ومن كان علـى شركه من أهل النفـاق الذين قد بـينا قصصهم فـيـما مضى من كتاب هذا. وقد دللنا علـى أن قول اللّه جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ وقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ فـيهم أنزلت، وفـيـمن كان علـى مثل الذي هم علـيه من الشرك بـاللّه . غير أن هذه الاَيات عندي وإن كانت فـيهم نزلت، فإنه معنـيّ بها كل من كان علـى مثل ما كانوا علـيه من الضلال، ومعنـيّ بـما وافق منها صفة الـمنافقـين خاصةً جميعُ الـمنافقـين، وبـما وافق منها صفة كفـار أحبـار الـيهود جميع من كان لهم نظيرا فـي كفرهم. وذلك أن اللّه جل ثناؤه يعمّ أحيانا جميعهم بـالصفة لتقديـمه ذكر جميعها فـي أول الاَيات التـي ذكرتْ قصصهم، ويخصّ أحيانا بـالصفة بعضهم لتفصيـله فـي أول الاَيات بـين فريقـيهم، أعنـي فريق الـمنافقـين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بـاللّه ، وفريق كفـار أحبـار الـيهود، فـالذين ينقضون عهد اللّه : هم التاركون ما عهد اللّه إلـيهم من الإقرار بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به وتبـيـين نبوّته للناس الكاتـمون بـيان ذلك بعد علـمهم به وبـما قد أخذ اللّه علـيهم فـي ذلك، كما قال اللّه جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ لَتُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ ولا تَكْتُـمُونَهُ فَنبذوهُ وراءَ ظهُورهِمْ ونبذهم ذلك وراء ظهورهم: هو نقضهم العهد الذي عهد إلـيهم فـي التوراة الذي وصفناه، وتَرْكُهم العمل به. وإنـما قلت: إنه عنى بهذه الاَيات من قلت إنه عَنَى بها، لأن الاَيات من ابتداء الاَيات الـخمس والستّ من سورة البقرة فـيهم نزلت إلـى تـمام قصصهم، وفـي الآية التـي بعد الـخبر عن خـلق آدم وبـيانه في قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُروا نِعْمَتِـي الّتِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ وأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ وخطابه إياهم جلّ ذكره بـالوفـاء فـي ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدلّ علـى أن قوله: الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ مقصود به كفـارهم ومنافقوهم، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان علـى ضلالهم. غير أن الـخطاب وإن كان لـمن وصفت من الفريقـين فداخـل فـي أحكامهم وفـيـما أوجب اللّه لهم من الوعيد والذمّ والتوبـيخ كل من كان علـى سبـيـلهم ومنهاجهم من جميع الـخـلق وأصناف الأمـم الـمخاطبـين بـالأمر والنهي. فمعنى الآية إذا: وما يضلّ به إلا التاركين طاعة اللّه ، الـخارجين عن اتبـاع أمره ونهيه، الناكثـين عهود اللّه التـي عهدها إلـيهم فـي الكتب التـي أنزلها إلـى رسله وعلـى ألسن أنبـيائه بـاتبـاع أمر رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به، وطاعة اللّه فـيـما افترض علـيهم فـي التوراة من تبـيـين أمره للناس، وإخبـارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبـا عندهم أنه رسول من عند اللّه مفترضة طاعته وترك كتـمان ذلك لهم. ونَكْثُهم ذلك ونَقْضُهم إياه، هو مخالفتهم اللّه فـي عهده إلـيهم فـيـما وصفت أنه عهد إلـيهم بعد إعطائهم ربهم الـميثاق بـالوفـاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره بقوله: فَخَـلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَـلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يأخُذونَ عَرَضَ هَذَا الأدنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإنْ يأتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يأخُذُوهُ ألَـمْ يُؤْخَذْ عَلَـيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا علـى اللّه إلاّ الـحَقّ. وأما قوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإنه يعنـي من بعد توثق اللّه فـيه بأخذ عهوده بـالوفـاء له بـما عهد إلـيهم فـي ذلك، غير أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان توثّقا، والـميثاق اسم منه، والهاء فـي الـميثاق عائدة علـى اسم اللّه . وقد يدخـل فـي حكم هذه الآية كل من كان بـالصفة التـي وصف اللّه بها هؤلاء الفـاسقـين من الـمنافقـين والكفـار فـي نقض العهد وقطع الرحم والإفساد فـي الأرض. كما: ٣٥٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: الّذِينَ يَنْقُضونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإياكم ونقض هذا الـميثاق، فإن اللّه قد كره نقضه وأوعد فـيه وقدم فـيه فـي أي القرآن حجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلـم اللّه جل ذكره أوعد فـي ذنب ما أوعد فـي نقض الـميثاق، فمن أعطى عهد اللّه وميثاقه من ثمرة قلبه فلـيف به للّه. ٣٥٥ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّه بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فـي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ فهي ست خلال فـي أهل النفـاق إذا كانت لهم الظّهَرَة أظهروا هذه الـخلال الستّ جميعا: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخـلفوا، وإذا اؤتـمنوا خانوا، ونقضوا عهد اللّه من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، وأفسدوا فـي الأرض. وإذا كانت علـيهم الظّهَرَة أظهروا الـخلال الثلاث: إذا حدّثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخـلفوا، وإذا اؤتـمنوا خانوا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّه بِهِ أنْ يُوصَلَ. قال أبو جعفر: والذي رغب اللّه فـي وصله وذمّ علـى قطعه فـي هذه الآية: الرحم، وقد بـين ذلك فـي كتابه فقال تعالـى: فَهَلْ عَسَيْتُـمْ إنْ تَوَلّـيْتُـمْ أنْ تُفْسِدُوا فِـي الأرْضِ وتُقَطّعُوا أرْحَامَكُمْ وإنـما عنى بـالرحم: أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة، وقطع ذلك ظلـمه فـي ترك أداء ما ألزم اللّه من حقوقها وأوجب من برّها ووصلها أداء الواجب لها إلـيها: من حقوق اللّه التـي أوجب لها، والتعطف علـيها بـما يحقّ التعطف به علـيها. و(أن) التـي مع (يوصل) فـي مـحل خفض بـمعنى ردّها علـى موضع الهاء التـي فـي (به) فكان معنى الكلام: ويقطعون الذي أمر اللّه بأن يوصل. والهاء التـي فـي (به) هي كناية عن ذكر (أن يوصل). وبـما قلنا فـي تأويـل قوله: ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّه بِهِ أنْ يُوصَلَ وأنه الرحم كان قتادة يقول: ٣٥٦ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّه بِهِ أنْ يُوصَلَ فقطع واللّه ما أمر اللّه به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة. وقد تأوّل بعضهم ذلك أن اللّه ذمهم بقطعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به وأرحامهم، واستشهد علـى ذلك بعموم ظاهر الآية، وأن لا دلالة علـى أنه معنـيّ بها: بعض ما أمر اللّه بوصله دون بعض. قال أبو جعفر: وهذا مذهب من تأويـل الآية غير بعيد من الصواب، ولكن اللّه جل ثناؤه قد ذكر الـمنافقـين فـي غير آية من كتابه، فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرة تلك، غير أنها وإن كانت كذلك فهي دالة علـى ذمّ اللّه كل قاطع قطع ما أمر اللّه بوصله رحما كانت أو غيرها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ويُفْسِدُونَ فـي الأرْضِ. قال أبو جعفر: وفسادهم فـي الأرض هو ما تقدم وَصْفُنَاه قبل من معصيتهم ربهم وكفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وجحدهم نبوّته، وإنكارهم ما أتاهم به من عند اللّه أنه حق من عنده. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ. قال أبو جعفر: والـخاسرون جمع خاسر، والـخاسرون: الناقصون أنفسهم حظوظها بـمعصيتهم اللّه من رحمته، كما يخسر الرجل فـي تـجارته بأن يوضَع من رأس ماله فـي بـيعه. فكذلك الكافر والـمنافق خسر بحرمان اللّه إياه رحمته التـي خـلقها لعبـاده فـي القـيامة أحوج ما كان إلـى رحمته، يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَر خَسْرا وخُسْرانا وخَسَارا، كما قال جرير بن عطية: إنّ سَلِـيطا فِـي الـخسَارِ إنّهْأوْلادُ قَوْمٍ خُـلِقُوا أقِنّهْ يعنـي بقوله فـي الـخسار: أي فـيـما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قـيـل: إن معنى أُولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ: أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف اللّه صفته بـالصفة التـي وصفه بها فـي هذه الآية بحرمان اللّه إياه ما حرمه من رحمته بـمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويـل الكلام علـى معناه دون البـيان عن تأويـل عين الكلـمة بعينها، فإن أهل التأويـل ربـما فعلوا ذلك لعلل كثـيرة تدعوهم إلـيه. وقال بعضهم فـي ذلك بـما: ٣٥٧ـ حدثت به عن الـمنـجاب قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: كل شيء نسبه اللّه إلـى غير أهل الإسلام من اسم مثل (خاسر)، فإنـما يعنـي به الكفر، وما نسبه إلـى أهل الإسلام فإنـما يعنـي به الذنب. ٢٨القول في تأويل قوله تعالى كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ٣٥٨ـ فقال بعضهم بما حدثني به موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم يقول لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة ٣٥٩ـ وحدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد اللّه في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال هي كالتي في البقرة كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ٣٦٠ـ وحدثني أبو حصين عبد اللّه بن أحمد بن عبد اللّه بن يونس قال حدثنا عبثر قال حدثنا حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ثم أحييتنا وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم عن حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كانوا أمواتا فأحياهم اللّه ثم أماتهم ثم أحياهم ٣٦١ـ وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج عن بن جريج عن مجاهد في قوله كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال لم تكونوا شيئا حين خلقكم ثم يميتكم الموتة الحق ثم يحييكم وقوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين مثلها ٣٦٢ـ وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن بن جريج قال حدثني عطاء الخرساني عن بن عباس قال هو قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ٣٦٣ـ وحدثت عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال حدثني أبو العالية في قول اللّه كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا يقول حين لم يكونوا شيئا ثم أحياهم حين خلقهم ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ثم رجعوا إليه بعد الحياة ٣٦٤ـ وحدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن بن عباس في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه إحياءة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه إحياءة فهما ميتتان وحياتان فهو قوله كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ٣٦٥ـ وقال آخرون بما حدثنا به أبو كريب قال حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي صالح كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون قال يحييكم في القبر ثم يميتكم ٣٦٦ـ وقال آخرون بما حدثنا به بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا الآية قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم اللّه وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان ٣٦٧ـ وقال بعضهم بما حدثني به يونس قال أنبأنا بن وهب قال قال بن زيد في قول اللّه تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق وقرأ : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حتى بلغ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون قال فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق قال وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيري فخلق منه حواء ذكره عن النبي قال وذلك قول اللّه تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء قال وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا وقرأ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق قال خلقا بعد ذلك ، قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة فذلك قول اللّه ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ، وقرأ قول اللّه : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ؛ قال يومئذ ، قال : وقرأ قول اللّه : واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا قال أبو جعفر ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل فأما وجه تأويل من تأول قوله كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم أي لم تكونوا شيئا فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر هذا شيء ميت وهذا أمر ميت يراد بوصفه بالموت خمول ذكره ودروس أثره من الناس ، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه هذا أمر حي وذكر حي يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس كما قال أبو نخيلة السعدي فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض يريد بقوله فأحييت لي ذكري أي رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا بعد أن كان خاملا ميتا ، فكذلك تأويل قول من قال في قوله وكنتم أمواتا لم تكونوا شيئا أي كنتم خمولا لا ذكر لكم وذلك كان موتكم فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم وتعفي آثاركم وخمول أموركم ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم وأما وجه تأويل من تأول ذلك أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله وكنتم أمواتا إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم ، وذلك معنى بعيد لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم لا استعتاب واسترجاع وقوله جل ذكره كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا توبيخ مستعتب عباده وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة ولا إنابة في القبور بعد الممات ولا توبة فيها بعد الوفاة وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ؛ فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود وأما بن زيد فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك وأن الإماتة الأولى عند إعادة اللّه جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة ، وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول اللّه الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره ، وذلك أن اللّه جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وزعم بن زيد في تفسيره أن اللّه أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات ، والأمر عندنا وإن كان فيما وصف من استخراج اللّه جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين أعني قوله كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا الآية وقوله ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين في شيء لأن أحدا لم يدع أن اللّه أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه بن زيد وقال بعضهم الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها ثم يحييها اللّه بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور فيرد في جسده روحه فيعود حيا سويا لبعث القيامة فذلك موتتان وحياتان وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول لأنهم قالوا موت ذي الروح مفارقة الروح إياه فزعموا أن كل شيء من بن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح فارقته الحياة فصار ميتا كالعضو من أعضائه مثل اليد من يديه والرجل من رجليه لو قطعت وأبينت والمقطوع ذلك منه حي كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح ، قالوا فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه وهذا قول ووجه من التأويل لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول اللّه جل ذكره كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم الآية القول الذي ذكرناه عن بن مسعود وعن بن عباس من أن معنى قوله وكنتم أمواتا أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون فأحياكم بانشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ثم إلى اللّه ترجعون بعد ذلك كما قال ثم إليه ترجعون لأن اللّه جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ثم يحشرهم لموقف الحساب كما قال جل ذكره يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون وقال ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل وهذه الآية توبيخ من اللّه جل ثناؤه للقائلين آمنا باللّه وباليوم الآخر الذين أخبر اللّه عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا للّه وللمؤمنين فعذلهم اللّه بقوله كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة فقال كيف تكفرون باللّه فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من أي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الإجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب ؛ فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات اللّه عليه وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل إذا استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة وقضائه في المستكبرين عن الإنابة إعذارا من اللّه بذلك إليهم وإنذارا لهم ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب ، وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الأمم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد ليعلموا بإخباره إياهم بذلك أنه للّه رسول مبعوث وأن ما جاءهم به فمن عنده إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم ومصون ما في كتبهم وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم ، وكان معلوما من محمد أنه لم يكن قط كاتبا ولا لأسفارهم تاليا ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته ٢٩تأويل قوله تعالى:{هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فأخبرهم جل ذكره أنه خـلق لهم ما فـي الأرض جميعا، لأن الأرض وجميع ما فـيها لبنـي آدم منافع. أما فـي الدين فدلـيـل علـى وحدانـية ربهم، وأما فـي الدنـيا فمعاش وبلاغ لهم إلـى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعاوقوله: (هو) مكنى من اسم اللّه جل ذكره، عائد علـى اسمه في قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّه . ومعنى خـلقه ما خـلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلـى الوجود. و(ما) بـمعنى (الذي). فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بـاللّه وقد كنتـم نطفـا فـي أصلاب آبـائكم، فجعلكم بشرا أحياء، ثم يـميتكم، ثم هو مـحيـيكم بعد ذلك، وبـاعثكم يوم الـحشر للثواب والعقاب، وهو الـمنعم علـيكم بـما خـلق لكم فـي الأرض من معايشكم وأدلتكم علـى وحدانـية ربكم. و(كيف) بـمعنى التعجب والتوبـيخ لا بـمعنى الاستفهام، كأنه قال: ويحكم كيف تكفرون بـاللّه ، كما قال: فأين تذهبون. وحل قوله: وكُنْتُـمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ مـحلّ الـحال، وفـيه إضمار (قد)، ولكنها حذفت لـما فـي الكلام من الدلـيـل علـيها. وذلك أن (فعل) إذا حلت مـحلّ الـحال كان معلوما أنها مقتضية (قد)، كما قال جل ثناؤه: أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بـمعنى: قد حصرت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحت كثرت ماشيتك، تريد: قد كثرت ماشيتك. وبنـحو الذي قلنا في قوله: هوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول: ٣٦٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا نعم واللّه سخر لكم ما فـي الأرض. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ثُم اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ. قال أبو جعفر: اختلف فـي تأويـل قوله: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ فقال بعضهم: معنى استوى إلـى السماء، أقبل علـيها، كما تقول: كان فلان مقبلاً علـى فلان ثم استوى علـيّ يشاتـمنـي واستوى إلـيّ يشاتـمنـي، بـمعنى: أقبل علـيّ وإلـيّ يشاتـمنـي. واستشهد علـى أن الاستواء بـمعنى الإقبـال بقول الشاعر: أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَىسَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع، وكان ذلك عنده بـمعنى أقبلن. وهذا من التأويـل فـي هذا البـيت خطأ، وإنـما معنى قوله: (واستوين من الضجوع) عندي: استوين علـى الطريق من الضجوع خارجات، بـمعنى استقمن علـيه. وقال بعضهم: لـم يكن ذلك من اللّه جل ذكره بتـحوّل، ولكنه بـمعنى فعله، كما تقول: كان الـخـلـيفة فـي أهل العراق يوالـيهم ثم تـحوّل إلـى الشام، إنـما يريد تـحوّل فعله. وقال بعضهم: قوله ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ يعنـي به: استوت، كما قال الشاعر: أقُولُ لَهُ لَـمّا اسْتَوَى فـي تُرَابِهِعلـى أي دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ وقال بعضهم: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ: عمد إلـيها وقال: بل كل تارك عملاً كان فـيه إلـى آخره فهو مستو لـما عمد ومستو إلـيه. وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ، والعلوّ: هو الارتفـاع. ومـمن قال ذلك الربـيع بن أنس. ٣٦٩ـ حدثت بذلك عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ يقول: ارتفع إلـى السماء. ثم اختلف متأوّلو الاستواء بـمعنى العلوّ والارتفـاع فـي الذي استوى إلـى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلـى السماء وعلا علـيها: هو خالقها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالـي إلـيها الدخان الذي جعله اللّه للأرض سماء. قال أبو جعفر: الاستواء فـي كلام العرب منصرف علـى وجوه: منها انتهاء شبـاب الرجل وقوّته، فـيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل، ومنها استقامة ما كان فـيه أَوَدٌ من الأمور والأسبـاب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيـم: طالَ علـى رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْوعَفـا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ يعنـي: استقام به. ومنها الإقبـال علـى الشيء بـالفعل، كما يقال: استوى فلان علـى فلان بـما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إلـيه. ومنها الاحتـياز والاستـيلاء كقولهم: استوى فلان علـى الـمـملكة، بـمعنى احتوى علـيها وحازها. ومنها العلوّ والارتفـاع، كقول القائل: استوى فلان علـى سريره، يعنـي به علوّه علـيه. وأولـى الـمعانـي بقول اللّه جل ثناؤه: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا علـيهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخـلقهنّ سبع سموات. والعجب مـمن أنكر الـمعنى الـمفهوم من كلام العرب فـي تأويـل قول اللّه : ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ الذي هو بـمعنى العلوّ والارتفـاع هربـا عند نفسه من أن يـلزمه بزعمه إذا تأوله بـمعناه الـمفهم كذلك أن يكون إنـما علا وارتفع بعد أن كان تـحتها، إلـى أن تأوله بـالـمـجهول من تأويـله الـمستنكر، ثم لـم ينـج مـما هرب منه. فـيقال له: زعمت أن تأويـل قوله: اسْتَوَى أقْبَلَ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إلـيها؟ فإن زعم أن ذلك لـيس بإقبـال فعل ولكنه إقبـال تدبـير، قـيـل له: فكذلك فقل: علا علـيها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بـما لـيس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال فـي ذلك قولاً لقول أهل الـحقّ فـيه مخالفـا، وفـيـما بـينا منه ما يشرف بذي الفهم علـى ما فـيه له الكفـاية إنه شاء اللّه تعالـى. قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء اللّه جل ثناؤه إلـى السماء، كان قبل خـلق السماء أم بعده؟ قـيـل: بعده، وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات، كما قال جل ثناؤه: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خـلقها دخانا، وقبل أن يسوّيها سبع سموات. وقال بعضهم: إنـما قال استوى إلـى السماء ولا سماء، كقول الرجل لاَخر: (اعمل هذا الثوب) وإنـما معه غزلٌوأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعنـي هيأهنّ وخـلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ، والتسوية فـي كلام العرب: التقويـم والإصلاح والتوطئة، كما يقال: سوّى فلان لفلان هذا الأمر: إذا قوّمه وأصلـحه ووطأه له. فكذلك تسوية اللّه جل ثناؤه سمواته: تقويـمه إياهن علـى مشيئته، وتدبـيره لهن علـى إرادته، وتفتـيقهن بعد ارتاقهن كما: ٣٧٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول: سوى خـلقهن وهو بكل شيء علـيـم. وقال جل ذكره: فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنـيّهن مخرج مكنى الـجمع. وقد قال قبل: ثم استوى إلـى السماء فأخرجها علـى تقدير الواحد. وإنـما أخرج مكنـيهن مخرج مكنـيّ الـجمع. لأن السماء جمع وأحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر، ونـخـلة ونـخـل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة، فقـيـل: هذه سماء، وذُكّرتْ أخرى فقـيـل: السماء منفطر به كما يفعل ذلك بـالـجمع الذي لا فرق بـينه وبـين واحدة غير دخول الهاء وخروجها، فـيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نـخـل وهذه نـخـل، وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربـية يزعم أن السماء واحدة، غير أنها تدلّ علـى السموات، فقـيـل: فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التـي ذكرت، وما دلت علـيه من سائر السموات التـي لـم تذكر معها قال: وإنـما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة، فـيقال: السماء منفطر به كما يذكر الـمؤنث، وكما قال الشاعر: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهاولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا وكما قال أعشى بنـي ثعلبة: فإمّا تَرَيْ لِـمّتِـي بُدّلَتْفإنّ الـحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء، وأرضا فوق أرض، فهي فـي التأويـل واحدة إن شئت، ثم تكون تلك الواحدة جماعا، كما يقال: ثوب أخلاق وأسمال، وبرمة أعشار للـمتكسرة، وبرمة أكسار وأجبـار، وأخلاق: أي أن نواحيه أخلاق. فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت: إن اللّه جل ثناؤه استوى إلـى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات، ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إلـيها، فكيف زعمت أنها جماع؟ قـيـل: إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات، فلذلك قال جل ذكره: فسوّاهنّ سبعا: كما: ٣٧١ـ حدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: قال مـحمد بن إسحاق: كان أوّل ما خـلق اللّه تبـارك وتعالـى: النور والظلـمة، ثم ميز بـينهما فجعل الظلـمة لـيلاً أسود مظلـما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال واللّه أعلـم من دخان الـماء حتـى استقللن ولـم يحبكهن، وقد أغطش فـي السماء الدنـيا لـيـلها وأخرج ضحاها، فجرى فـيها اللـيـل والنهار، ولـيس فـيها شمس ولا قمر ولا نـجوم، ثم دحى الأرض، وأرساها بـالـجبـال، وقدّر فـيها الأقوات، وبثّ فـيها ما أراد من الـخـلق، ففرغ من الأرض وما قدّر فـيها من أقواتها فـي أربعة أيام. ثم استوى إلـى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن، وجعل فـي السماء الدنـيا شمسها وقمرها ونـجومها، وأوحى فـي كل سماء أمرها، فأكمل خـلقهنّ فـي يومين. ففرغ من خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام، ثم استوى فـي الـيوم السابع فوق سمواته، ثم قال للسموات والأرض: ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها لـما أردت بكما، فـاطمئنا علـيه طوعا أو كرها، قَالتَا: أتَـيْنا طائِعِينَ. فقد أخبر ابن إسحاق أن اللّه جل ثناؤه استوى إلـى السماء بعد خـلقه الأرض وما فـيها وهنّ سبع من دخان، فسوّاهنّ كما وصف. وإنـما استشهدنا لقولنا الذي قلنا فـي ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بـيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إلـيها بتسويتها من غيره، وأحسن شرحا لـما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التـي قال اللّه فـيها: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّماءِ بـمعنى الـجمع علـى ما وصفنا، وأنه إنـما قال جل ثناؤه: فسوّاهنّ إذ كانت السماء بـمعنى الـجمع علـى ما بـينا. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية اللّه جل ثناؤه السموات التـي ذكرها في قوله: فسَوّاهُنّ إذ كن قد خـلقن سبعا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذكر خـلقهن بعد ذكر خـلق الأرض، ألأنها خـلقت قبلها، أم بـمعنى غير ذلك؟ قـيـل: قد ذكرنا ذلك فـي الـخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونزيد ذلك توكيدا بـما انضمّ إلـيه من أخبـار بعض السلف الـمتقدمين وأقوالهم. ٣٧٢ـ فحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: هُوَ الّذِي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلـى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال: إن اللّه تبـارك وتعالـى كان عرشه علـى الـماء، ولـم يخـلق شيئا غير ما خـلق قبل الـماء، فلـما أراد أن يخـلق الـخـلق أخرج من الـماء دخانا، فـارتفع فوق الـماء فسما علـيه، فسماه سماءً، ثم أيبس الـماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين فـي يومين فـي الأحد والاثنـين، فخـلق الأرض علـى حوت، والـحوت هو النون الذي ذكره اللّه فـي القرآن: ن والقَلَـم والـحوت فـي الـماء والـماء علـى ظهر صفـاة، والصفـاة علـى ظهر ملك، والـملك علـى صخرة، والصخرة فـي الريح وهي الصخرة التـي ذكر لقمان لـيست فـي السماء ولا فـي الأرض. فتـحرّك الـحوت فـاضطرب، فتزلزت الأرض، فأرسى علـيها الـجبـال فقرّت، فـالـجبـال تفخر علـى الأرض، فذلك قوله: وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَـمِيدَ بِكُمْ وخـلق الـجبـال فـيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها فـي يومين فـي الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِـالّذِي خَـلَقَ أَلارْضَ فِـي يَوْمَيْنِ وَتَـجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَـمِينَ وَجَعَلَ فِـيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَـارَكَ فِـيها يقول: أنبت شجرها وَقَدّرَ فِـيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها فـي أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِـينَ يقول: قل لـمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَـى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الـماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات فـي يومين فـي الـخميس والـجمعة، وإنـما سمي يوم الـجمعة لأنه جمع فـيه خـلق السموات والأرض وأوْحَى فـي كُل سماءٍ أمْرَها قال: خـلق فـي كل سماء خـلقها من الـملائكة والـخـلق الذي فـيها، من البحار وجبـال البَرَدِ وما لا يعلـم. ثم زين السماء الدنـيا بـالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تـحفظ من الشياطين. فلـما فرغ من خـلق ما أحبّ استوى علـى العرش، فذلك حين يقول: خـلق السموات والأرض فـي ستة أيام يقول: كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما. ٣٧٣ـ وحدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: هُوَ الّهذي خَـلَقَ لَكُمْ ما فِـي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ قال: خـلق الأرض قبل السماء، فلـما خـلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: ثُمّ اسْتَوَى إلـى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال: بعضهنّ فوق بعض، وسبع أرضين بعضهنّ تـحت بعض. ٣٧٤ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال: بعضهنّ فوق بعض، بـين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام. ٣٧٥ـ وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس في قوله حيث ذكر خـلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن اللّه خـلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلـى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها. ٣٧٦ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي أبو معشر، عن سعيد بن أبـي سعيد، عن عبد اللّه بن سلام أنه قال: إن اللّه بدأ الـخـلق يوم الأحد، فخـلق الأرضين فـي الأحد والاثنـين، وخـلق الأقوات والرواسي فـي الثلاثاء والأربعاء، وخـلق السموات فـي الـخميس والـجمعة، وفرغ فـي آخر ساعة من يوم الـجمعة، فخـلق فـيها آدم علـى عجل فتلك الساعة التـي تقوم فـيها الساعة. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم علـيكم، فخـلق لكم ما فـي الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك علـيكم، لـيكون لكم بلاغا فـي دنـياكم، ومتاعا إلـى موافـاة آجالكم، ودلـيلاً لكم علـى وحدانـية ربكم. ثم علا إلـى السموات السبع وهي دخان، فسوّاهن وحبكهن، وأجرى فـي بعضهن شمسه وقمره ونـجومه، وقدّر فـي كل واحدة منهنّ ما قدّر من خـلقه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِـيـمٌ. يعنـي بقوله جلّ جلاله: وهو نفسه، وبقوله: بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ: أن الذي خـلقكم وخـلق لكم ما فـي الأرض جميعا، وسّوى السموات السبع بـما فـيهن، فأحكمهن من دخان الـماء وأتقن صنعهن، لا يخفـى علـيه أيها الـمنافقون والـملـحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب، ما تبدون وما تكتـمون فـي أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمَنّا بِـاللّه وبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وهم علـى التكذيب به منطوون. وكذبت أحبـاركم بـما أتاهم به رسولـي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون، وجحدوا وكتـموا ما قد أخذت علـيهم ببـيانه لـخـلقـي من أمر مـحمد ونبوّته الـمواثـيق، وهم به عالـمون بل أنا عالـم بذلك وغيره من أموركم، وأمور غيركم، إنـي بكل شيء علـيـموقوله: عَلِـيـمٌ بـمعنى عالـم. ورُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل فـي علـمه. ٣٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، قال: حدثنـي علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قال: العالـم الذي قد كمل فـي علـمه. ٣٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً... } قال أبو جعفر: زعم بعض الـمنسوبـين إلـى العلـم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويـل قوله: وَإذْ قَالَ رَبكَ وقال ربك، وأن (إذ) من الـحروف الزوائد، وأن معناها الـحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه فـي ذلك ببـيت الأسود بن يعفر: فإذَا وَذَلِكَ لامَهاهَ لِذِكْرِهِوَالدّهْرُ يُعْقِبُ صَالِـحا بِفَسادِ ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره. وببـيت عبد مناف بن ربع الهذلـي: حَتّـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فـي قُتائِدَةٍشَلاّ كمَا تَطْرُدُ الـجَمّالَةُ الشّرُدَا وقال: معناه: حتـى أسلكوهم. قال أبو جعفر: والأمر فـي ذلك بخلاف ما قال وذلك أن (إذ) حرف يأتـي بـمعنى الـجزاء، ويدل علـى مـجهول من الوقت، وغير جائز إبطال حرف كان دلـيلاً علـى معنى فـي الكلام. إذ سواء قـيـلُ قائلٍ هو بـمعنى التطوّل، وهو فـي الكلام دلـيـل علـى معنى مفهوم. وقـيـلُ آخر فـي جميع الكلام الذي نطق به دلـيلاً علـى ما أريد به وهو بـمعنى التطول. ولـيس لـمدّعي الذي وصفنا قوله فـي بـيت الأسود بن يعفر، أن (إذا) بـمعنى التطوّل وجه مفهوم بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل الـمعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله: فإذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرِهِ وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نـحن فـيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله ذلك إلـى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فـيه لامهاه لذكره، يعنـي لا طعم له ولا فضل، لإعقاب الدهر صالـح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع: حتّـى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِـي قُتائِدَةٍشَلاّت لو أسقط منه (إذا) بطل معنى الكلام لأن معناه: حتـى إذا أسلكوهم فـي قتائدة سلكوا شلاّ. فدل قوله: (أسلكوهم شلاّ) علـى معنى الـمـحذوف، فـاستغنى عن ذكره بدلالة (إذا) علـيه، فحذف. كما قد ذكرنا فـيـما مضى من كتابنا علـى ما تفعل العرب فـي نظائر ذلك، وكما قال النـمر بن تولب: فإنّ الـمَنِـيّةَ مَنْ يَخْشَهَافَسَوْفَ تُصَادِفُه أيْنـما وهو يريد: أينـما ذهب. وكما تقول العرب: أتـيتك من قبل ومن بعد تريد: من قبل ذلك ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك فـي (إذا) كما يقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا يريد: وإذا لـم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الاَخر: فإذَا وَذَلِكَ لاَ يَضُرّكَ ضُرّهُفـي يَوْمِ أسألُ أوْ أُنْكَرُ نظير ما ذكرنا من الـمعنى فـي بـيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول اللّه جل ثناؤه: وَإذْ قالَ رَبّكَ للْـمَلاَئِكَة لو أبطلت (إذ) وحذفت من الكلام، لاستـحال عن معناه الذي هو به وفـيه (إذ). فإن قال قائل: فما معنى ذلك؟ وما الـجالب ل(إذْ)، إذ لـم يكن فـي الكلام قبله ما يعطف به علـيه؟ قـيـل له: قد ذكرنا فـيـما مضى أن اللّه جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بـاللّه وكُنْتُـمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ بهذه الاَيات والتـي بعدها موبخهم مقبحا إلـيهم سوء فعالهم ومقامهم علـى ضلالهم مع النعم التـي أنعمها علـيهم وعلـى أسلافهم، ومذكرهم بتعديد نعمه علـيهم وعلـى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبـيـل من هلك من أسلافهم فـي معصية اللّه ، فـيسلك بهم سبـيـلهم فـي عقوبته ومعرّفهم ما كان منه من تعطفه علـى التائب منهم استعتابـا منه لهم. فكان مـما عدد من نعمه علـيهم، أنه خـلق لهم ما فـي الأرض جميعا، وسخر لهم ما فـي السموات من شمسها وقمرها ونـجومها وغير ذلك من منافعها التـي جعلها لهم ولسائر بنـي آدم معهم منافع، فكان في قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بـاللّه وكُنْتُـمْ أمْواتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُـمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِـيكُمْ ثُمّ إلَـيْهِ تُرْجَعُونَ معنى: اذكروا نعمتـي التـي أنعمت علـيكم، إذ خـلقتكم ولـم تكونوا شيئا، وخـلقت لكم ما فـي الأرض جميعا، وسوّيت لكم ما فـي السماء. ثم عطف بقوله: وَإذْ قالَ رَبكَ للـمَلائِكَةِ علـى الـمعنى الـمقتضَى بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّه إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله: اذكروا نعمتـي إذْ فعلت بكم وفعلت، واذكروا فعلـى بأبـيكم آدم، إذ قلت للـملائكة إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة. فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير فـي كلام العرب نعلـم به صحة ما قلت؟ قـيـل: نعم، أكثر من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر: أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْـلَبـاتٍوَلا بَـيْدَانَ ناجيَةً ذَمُولاَ وَلا مُتَدَارِكٍ وَالشّمْسُ طِفْلٌببَعْضِ نَوَاشغِ الوَادي حُمُولا فقال: ولا متدارك، ولـم يتقدمه فعل بلفظه يعطف علـيه، ولا حرف معرّب إعرابه فـيردّ (متدارك) علـيه فـي إعرابه. ولكنه لـما تقدمه فعل مـجحود ب(لن) يدل علـى الـمعنى الـمطلوب فـي الكلام وعلـى الـمـحذوف، استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف، وعاملَ الكلامَ فـي الـمعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو مـحذوف منه ظاهرا. لأن قوله: أجِدّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْـلبَـاتٍ بـمعنى: أجدك لست براءٍ، فردّ (متداركا) علـى موضع (ترى) كأن (لست) والبـاء موجودتان فـي الكلام، فكذلك قوله: وَإذْ قَالَ رَبكَ لـما سلف قبله تذكير اللّه الـمخاطبـين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبـائهم من أياديه وآلائه، وكان قوله: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للـمَلائِكَةِ مع ما بعده من النعم التـي عدّدها علـيهم ونبههم علـى مواقعها، ردّ إذ علـى موضع: وكُنتـم أمواتا فأحياكم لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التـي قلت فـيها للـملائكة. فلـما كانت الأولـى مقتضية (إذ) عطف ب(إذْ) علـى موضعها فـي الأولـى كما وصفنا من قول الشاعر فـي (ولا متدارك). القول فـي تأويـل قوله تعالى: للْـمَلائِكَةِ. قال أبو جعفر: والـملائكة جمع ملك، غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر فـي كلام العرب منه بـالهمز، وذلك أنهم يقولون فـي واحدهم مَلَك من الـملائكة، فـيحذفون الهمز منه، ويحرّكون اللام التـي كانت مسكنة لو همز الاسم. وإنـما يحركونها بـالفتـح، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التـي فـيه بسقوطها إلـى الـحرف الساكن قبلها، فإذا جمعوا واحدهم ردّوا الـجمع إلـى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة. وقد تفعل العرب نـحو ذلك كثـيرا فـي كلامها، فتترك الهمز فـي الكلـمة التـي هي مهموزة فـيجري كلامهم بترك همزها فـي حال، وبهمزها فـي أخرى، كقولهم: رأيت فلانا، فجرى كلامهم بهمز رأيت، ثم قالوا: نرى وترى ويرى، فجرى كلامهم فـي يفعل ونظائرها بترك الهمز، حتـى صار الهمز معها شاذّا مع كون الهمز فـيها أصلاً. فكذلك ذلك فـي مَلَك وملائكة، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبـالهمز فـي جميعهم. وربـما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر: فَلَسْتَ لانْسِيّ وَلَكِنْ لِـمِءَلاكٍتَـحَدّرَ مِنْ جَوّ السمّاءِ يَصُوبُ وقد يقال فـي واحدهم: مألك، فـيكون ذلك مثل قولهم: جبذ وجذب، وشأمل وشمأل، وما أشبه ذلك من الـحروف الـمقلوبة. غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك، أن يجمع إذ جمع علـى ذلك: مآلك، ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا، ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثه، ومسمع: مسامع ومسامعة. قال أمية بن أبـي الصلت فـي جمعهم كذلك: وَفِـيها مِنْ عِبـادِ اللّه قَوْمٌمَلائِكُ ذلّلُوا وَهُمُ صِعابُ وأصل الـملأك: الرسالة، كما قال عديّ بن زيد العبـادي: أبْلِغِ النّعْمَانَ عَنّـي مَلأكاأنّهُ قَدْ طالَ حَبْسِي وَانْتِظارِي وقد ينشد (مألكا) علـى اللغة الأخرى، فمن قال: ملأكا، فهو مفعل من لأك إلـيه يلأكُ: إذا أرسل إلـيه رسالة ملأكة. ومن قال: مألكا، فهو مفعل من ألكت إلـيه آلكُ: إذا أرسلت إلـيه مألكة وأَلوكا، كما قال لبـيد بن ربـيعة: وَغُلامٍ أرْسَلَتْهُ أمّهُبَألُوكٍ فَبَذَلْنا ما سألْ فهذا من ألكت. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: ألِكْنِـي يا عُيَـيْنَ إلَـيْكَ قَوْلاًسَتُهْدِيهِ الرّوَاةُ إلَـيْكَ عَنّـي وقال عبد بنـي الـحسحاس: ألِكْنِـي إلَـيْها عَمْرَكَ اللّه يا فَتَـىبِآيَةِ ما جاءَتْ إلَـيْنَا تَهادِيا يعنـي بذلك: أبلغها رسالتـي. فسميت الـملائكة ملائكة بـالرسالة، لأنها رسل اللّه بـينه وبـين أنبـيائه ومن أرسلت إلـيه من عبـاده. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إِنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ. اختلف أهل التأويـل في قوله: إنّـي جاعِلٌ، فقال بعضهم: إنـي فـاعل. ذكر من قال ذلك: ٣٧٨ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن جرير بن حازم، ومبـارك عن الـحسن، وأبـي بكر، يعنـي الهذلـي عن الـحسن وقتادة، قالوا: قال اللّه للـملائكة: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قال لهم: إنـي فـاعل. وقال آخرون: إنـي خالق. ذكر من قال ذلك: ٣٧٩ـ حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، قال: كل شيء فـي القرآن (جعل) فهو خـلق. قال أبو جعفر: والصواب فـي تأويـل قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَة أي مستـخـلف فـي الأرض خـلـيفة ومصير فـيها خـلفـا، وذلك أشبه بتأويـل قول الـحسن وقتادة. وقـيـل إن الأرض التـي ذكرها اللّه فـي هذه الآية هي مكة. ذكر من قال ذلك: ٣٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (دُحِيَتْ الأرْضُ مِنْ مَكّةَ. وكانت الـملائكة تطوف بـالبـيت، فهي أول من طاف به، وهي الأرض التـي قال اللّه : إنـي جاعل فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً، وكان النبـي إذا هلك قومه ونـجا هو والصالـحون أتـى هو ومن معه فعبدوا اللّه بها حتـى يـموتوا، فإن قبر نوح وهود وصالـح وشعيب بـين زمزم والركن والـمقام). القول فـي تأويـل قوله تعالى: خَـلِـيفَةً. والـخـلـيفة الفعلـية، من قولك: خـلف فلان فلانا فـي هذا الأمر إذا قام مقامه فـيه بعده، كما قال جل ثناؤه: ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فـي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ يعنـي بذلك: أنه أبدلكم فـي الأرض منهم فجعلكم خـلفـاء بعدهم ومن ذلك قـيـل للسلطان الأعظم: خـلـيفة، لأنه خـلف الذي كان قبله، فقام بـالأمر مقامه، فكان منه خـلفـا، يقال منه: خـلف الـخـلـيفة يخـلُف خلافة وخـلـيفـا، وكان ابن إسحاق يقول بـما: ٣٨١ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خـلقا لـيس منكم. ولـيس الذي قال ابن إسحاق فـي معنى الـخـلـيفة بتأويـلها، وإن كان اللّه جل ثناؤه إنـما أخبر ملائكته أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة يسكنها، ولكن معناها ما وصفت قبل. فإن قال لنا قائل: فما الذي كان فـي الأرض قبل بنـي آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلاً منه وفـيها منه خـلفـا؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك. ٣٨٢ـ فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: أوّل من سكن الأرض الـجنّ، فأفسدوا فـيها، وسفكوا فـيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا قال: فبعث اللّه إلـيهم إبلـيس فـي جند من الـملائكة، فقتلهم إبلـيس ومن معه، حتـى ألـحقهم بجزائر البحور وأطراف الـجبـال ثم خـلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً. فعلـى هذا القول إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة من الـجنّ يخـلفونهم فـيها فـيسكنونها ويعمرونها. ٣٨٣ـ وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس في قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً الآية، قال: إن اللّه خـلق الـملائكة يوم الأربعاء، وخـلق الـجن يوم الـخميس، وخـلق آدم يوم الـجمعة، فكفر قوم من الـجن، فكانت الـملائكة تهبط إلـيهم فـي الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء وكان الفساد فـي الأرض. وقال آخرون فـي تأويـل قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَة أي خـلفـا يخـلف بعضهم بعضا، وهم ولد آدم الذين يخـلفون أبـاهم آدم، ويخـلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الـحسن البصري، ونظير له ما: ٣٨٤ـ حدثنـي به مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله: إنـي جاعلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قالُوا أتـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال: يعنون به بنـي آدم. ٣٨٥ـ وحدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال اللّه للـملائكة: إنـي أريد أن أخـلق فـي الأرض خـلقا، وأجعل فـيها خـلـيفة، ولـيس للّه يومئذ خـلق إلا الـملائكة والأرض لـيس فـيها خـلق. وهذا القول يحتـمل ما حُكي عن الـحسن، ويحتـمل أن يكون أراد ابن زيد أن اللّه أخبر الـملائكة أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة له، يحكم فـيها بـين خـلقه بحكمه، نظير ما: ٣٨٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أن اللّه جل ثناؤه قال للـملائكة: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذلك الـخـلـيفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فكان تأويـل الآية علـى هذه الرواية التـي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عبـاس : إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة منـي يخـلفنـي فـي الـحكم بـين خـلقـي، وذلك الـخـلـيفة هو آدم ومن قام مقامه فـي طاعة اللّه والـحكم بـالعدل بـين خـلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خـلفـائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه فـي عبـاد اللّه لأنهما أخبرا أن اللّه جل ثناؤه قال لـملائكته إذ سألوه: ما ذاك الـخـلـيفة: إنه خـلـيفة يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلـى ذرية خـلـيفته دونه وأخرج منه خـلـيفته. وهذا التأويـل وإن كان مخالفـا فـي معنى الـخـلـيفة ما حُكي عن الـحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه فصرف متأوّلـيه إضافة الإفساد فـي الأرض وسفك الدماء فـيها إلـى غير الـخـلـيفةوأما مخالفته إياها فإضافتهما الـخلافة إلـى آدم بـمعنى استـخلاف اللّه إياه فـيها، وإضافة الـحسن الـخلافة إلـى ولده بـمعنى خلافة بعضهم بعضا، وقـيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد فـي الأرض وسفك الدماء إلـى الـخـلـيفة. والذي دعا الـمتأوّلـين قوله: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فـي التأويـل الذي ذكر عن الـحسن إلـى ما قالوا فـي ذلك أنهم قالوا إن الـملائكة إنـما قالت لربها إذ قال لهم ربهم: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قَالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفكُ الدّماءَ إخبـارا منها بذلك عن الـخـلـيفة الذي أخبر اللّه جل ثناؤه أنه جاعله فـي الأرض لا غيره لأن الـمـحاورة بـين الـملائكة وبـين ربها عنه جرت. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه قد برأ آدم من الإفساد فـي الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك، علـم أن الذي عنى به غيره من ذرّيته، فثبت أن الـخـلـيفة الذي يفسد فـي الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الـخلافة التـي ذكرها اللّه إنـما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لـما وصفنا. وأغفل قائلو هذه الـمقالة ومتأوّلو الآية هذا التأويـل سبـيـل التأويـل، وذلك أن الـملائكة إذ قال لها ربها: إنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً لـم تضف الإفساد وسفك الدماء فـي جوابها ربها إلـى خـلـيفته فـي أرضه، بل قالت: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها، وغير منكر أن يكون ربها أعلـمها أنه يكون لـخـلـيفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا أتـجعل فـيها من يفسد فـيها ويسفك الدماء؟ كما قال ابن مسعود وابن عبـاس ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويـل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ. قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف قالت الـملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ ولـم يكن آدم بعد مخـلوقا ولا ذرّيته، فـيعلـموا ما يفعلون عيانا؟ أعلـمت الغيب فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنّا، فذلك شهادة منها بـالظن وقول بـما لا تعلـم، وذلك لـيس من صفتها، فما وجه قـيـلها ذلك لربها؟ قـيـل: قد قالت العلـماء من أهل التأويـل فـي ذلك أقوالاً ونـحن ذاكرو أقوالهم فـي ذلك، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة. فروي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما: ٣٨٧ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: كان إبلـيس من حيّ من أحياء الـملائكة، يقال لهم (الـجن) خـلقوا من نار السموم من بـين الـملائكة، قال: وكان اسمه الـحرث قال: وكان خازنا من خزان الـجنة قال: وخـلقت الـملائكة كلهم من نور غير هذا الـحيّ قال: وخـلقت الـجنّ الذين ذكروا فـي القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فـي طرفها إذ ألهبت قال: وخـلق الإنسان من طين، فأوّل من سكن الأرض الـجنّ، فأفسدوا فـيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا قال: فبعث اللّه إلـيهم إبلـيس فـي جند من الـملائكة، وهم هذا الـحيّ الذين يقال لهم (الـجنّ)، فقتلهم إبلـيس ومن معه حتـى ألـحقهم بجزائر البحور وأطراف الـجبـال. فلـما فعل إبلـيس ذلك اغترّ فـي نفسه، وقال: قد صنعت شيئا لـم يصنعه أحد قال: فـاطلع اللّه علـى ذلك من قلبه، ولـم تطلع علـيه الـملائكة الذين كانوا معه فقال اللّه للـملائكة الذين معه: إنـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فقالت الـملائكة مـجيبـين له: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماء كما أفسدت الـجن وسفكت الدماء؟ وإنـما بُعثنا علـيهم لذلك. فقال: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يقول: إنـي قد اطلعت من قلب إبلـيس علـى ما لـم تطلعوا علـيه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخـلق اللّه آدم من طين لازب واللازب: اللزج الصلب من حمأ مسنون منتن قال: وإنـما كان حمأ مسنونا بعد التراب قال: فخـلق منه آدم بـيده. قال فمكث أربعين لـيـلة جسدا ملقـى، فكان إبلـيس يأتـيه فـيضربه برجله فـيصلصل أي فـيصوّت قال: فهو قول اللّه : مِنْ صلْصَالٍ كالفَخّارِ يقول: كالشيء الـمنفوخ الذي لـيس بـمُصْمِتٍ، قال: ثم يدخـل فـي فـيه ويخرج من دبره، ويدخـل من دبره ويخرج من فـيه، ثم يقول: لست شيئا للصلصلة، ولشيء ما خـلقت لئن سلطت علـيك لأهلكنك، ولئن سلطت علـيّ لأعصينك قال: فلـما نفخ اللّه فـيه من روحه، أتت النفخة من قِبَل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها فـي جسده إلا صار لـحما ودما. فلـما انتهت النفخة إلـى سرّته نظر إلـى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لـينهض فلـم يقدر، فهو قول اللّه : وكانَ الإنْسانُ عَجُولاً قال: ضَجِرا لا صبر له علـى سرّاء ولا ضرّاء قال: فلـما تـمت النفخة فـي جسده، عطس فقال: الـحمد للّه ربّ العالـمين، بإلهام من اللّه تعالـى. فقال اللّه له: يرحمك اللّه يا آدم قال: ثم قال اللّه للـملائكة الذين كانوا مع إبلـيس خاصة دون الـملائكة الذين فـي السموات: اسجدوا لاَدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبلـيس أبى واستكبر لـما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنّا وأقوى خـلقا، خـلقتنـي من نار وخـلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين قال: فلـما أبى إبلـيس أن يسجد أبلسه اللّه ، وآيسه من الـخير كله، وجعله شيطانا رجيـما عقوبة لـمعصيته، ثم علّـم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التـي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشبـاه ذلك من الأمـم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء علـى أولئك الـملائكة، يعنـي الـملائكة الذين كانوا مع إبلـيس الذين خـلقوا من نار السموم، وقال لهم: أنْبئُونِـي بأسْماءِ هَولاءِ يقول: أخبرونـي بأسماء هؤلاء إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إن كنتـم تعلـمون أنـي لِـمَ أجعل فـي الأرض خـلـيفة قال: فلـما علـمت الـملائكة مؤاخذة اللّه علـيهم فـيـما تكلـموا به من علـم الغيب الذي لا يعلـمه غيره الذي لـيس لهم به علـم، قالوا: سبحانك تنزيها للّه من أن يكون أحد يعلـم الغيب غيره، تبنا إلـيك لا علـم لنا إلا ما علـمتنا تبريا منهم من علـم الغيب، إلا ما علـمتنا كما علـمت آدم. فقال: يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم فَلَـمّا أنْبأهُمْ بأسْمائِهمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الـملائكة خاصة إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلـمه غيري وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ يقول: ما تظهرون وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ يقول: أعلـم السرّ كما أعلـم العلانـية، يعنـي ما كتـم إبلـيس فـي نفسه من الكبر والاغترار. وهذه الرواية عن ابن عبـاس تنبىء عن أن قول اللّه جل ثناؤه: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْـمَلاَئِكَةِ إنّـي جَاعل فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً خطاب من اللّه جل ثناؤه لـخاصّ من الـملائكة دون الـجميع، وأن الذين قـيـل لهم ذلك من الـملائكة كانوا قبـيـلة إبلـيس خاصة، الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خـلق آدم. وأن اللّه إنـما خصهم بقـيـل ذلك امتـحانا منه لهم وابتلاءً لـيعرفهم قصور علـمهم وفضل كثـير مـمن هو أضعف خـلقا منهم من خـلقه علـيهم، وأن كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام كما ظنه إبلـيس عدوّ اللّه . ويصرّح بأن قـيـلهم لربهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فـيها وَيَسفِكُ الدّماءَ كانت هفوة منهم ورجما بـالغيب، وأن اللّه جل ثناؤه أطلعهم علـى مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقـفهم علـيه حتـى تابوا وأنابوا إلـيه مـما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بـالظنون، وتبرّءوا إلـيه أن يعلـم الغيب غيره، وأظهر لهم من إبلـيس ما كان منطويا علـيه من الكبر الذي قد كان عنهم مستـخفـيا. وقد رُوي عن ابن عبـاس خلاف هذه الرواية، وهو ما: ٣٨٨ـ حدثنـي به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: لـما فرغ اللّه من خـلق ما أحبّ، استوى علـى العرش، فجعل إبلـيس علـى ملك سماء الدنـيا، وكان من قبـيـلة من الـملائكة يقال لهم الـجنّ وإنـما سموا الـجنّ لأنهم خزّان الـجنة. وكان إبلـيس مع ملكه خازنا، فوقع فـي صدره كبر وقال: ما أعطانـي اللّه هذا إلا لـمزية لـي هكذا قال موسى بن هارون، وقد حدثنـي به غيره، وقال: لـمزية لـي علـى الـملائكة فلـما وقع ذلك الكبر فـي نفسه، اطلع اللّه علـى ذلك منه، فقال اللّه للـملائكة: إنّـي جاعِل فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذلك الـخـلـيفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالُوا رَبّنا أتـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّـي أعْلَـمُ مَا لاَ تَعْلَـمُونَ يعنـي من شأن إبلـيس. فبعث جبريـل إلـى الأرض لـيأتـيه بطين منها، فقالت الأرض: إنـي أعوذ بـاللّه منك أن تنقص منـي أو تشيننـي فرجع ولـم يأخذ وقال: ربّ إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث اللّه ميكائيـل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريـل. فبعث ملك الـموت، فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بـاللّه أن أرجع ولـم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخـلط، فلـم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبـيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفـين، فصعد به فبلّ التراب حتـى عاد طينا لازبـا واللازب: هو الذي يـلتزق بعضه ببعض ثم ترك حتـى أنتن وتغير، وذلك حين يقول: مِنْ حَمأٍ مَسْنُونٍ قال: منتن، ثم قال للـملائكة إنّـي خالِق بَشَرا مِن طِين فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِـيهِ منْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ سَاجدِينَ فخـلقه اللّه بـيديه لكيلا يتكبر إبلـيس علـيه لـيقول له: تتكبر عما عملت بـيدي ولـم أتكبر أنا عنه؟ فخـلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الـجمعة. فمرّت به الـملائكة ففزعوا منه لـما رأوه، وكان أشدّهم منه فزعا إبلـيس، فكان يـمرّ فـيضربه، فـيصوّت الـجسد كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كالفَخّارٍ ويقول لأمر مّا خُـلقت ودخـل فـيه فخرج من دبره، فقال للـملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَد وهذا أجوف، لئن سلطت علـيه لأهلكنّه فلـما بلغ الـحين الذي يريد اللّه جل ثناؤه أن ينفخ فـيه الروح، قال للـملائكة: إذا نفخت فـيه من روحي فـاسجدوا له فلـما نفخ فـيه الروح، فدخـل الروح فـي رأسه عطس، فقالت له الـملائكة: قل الـحمد للّه فقال: الـحمد للّه، فقال له اللّه : رحمك ربك فلـما دخـل الروح فـي عينـيه، نظر إلـى ثمار الـجنة، فلـما دخـل فـي جوفه اشتهَى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجلـيه عجلان إلـى ثمار الـجنة، فذلك حين يقول: خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فَسَجَدَ الـمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ إلاّ إبْلِـيسَ أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ أي اسْتَكْبَرَ وكَانَ مِنَ الكَافِرينَ قال اللّه له: ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ إذ أمرتك لِـمَا خَـلَقْتُ بِـيَدَيّ قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ لـم أكن لأسجد لبشر خـلقته من طين، قال اللّه له: اخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ يعنـي ما ينبغي لك أنْ تَتَكّبَر فِـيها فـاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ والصغار هو الذلّ قال: وعلّـم آدم الأسماء كلها، ثم عرض الـخـلق علـى الـملائكة فقال: أنْبِئُونِـي بأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا له: سُبْحَانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّـمْتَنا إنّكَ أنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قالَ اللّه : يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ إنـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَـمُ مَا تُبْدِونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: قولهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها فهذا الذي أبدوا، وأعلـم ما كنتـم تكتـمون، يعنـي ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر. قال أبو جعفر: فهذا الـخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التـي رويت عن ابن عبـاس من رواية الضحاك التـي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافق معنى آخره معناها وذلك أنه ذكر فـي أوله أن الـملائكة سألت ربها: ما ذاك الـخـلـيفة؟ حين قال لها: إنـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويتـحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فقالت الـملائكة حينئذٍ: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ؟ فكان قول الـملائكة ما قالت من ذلك لربها بعد إعلام اللّه إياها أن ذلك كائن من ذرية الـخـلـيفة الذي يجعله فـي الأرض، فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه. وأما موافقته إياه فـي آخره، فهو قولهم فـي تأويـل قوله: أنْبِئُونِـي بأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء. وأن الـملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك، تبرّيا من علـم الغيب: سُبْحَانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إلاّ ما عَلّـمْتَنَا إنّكَ أنْتَ العلِـيـمُ الـحَكِيـمُ. وهذا إذا تدبره ذو الفهم، علـم أن أوله يفسد آخره، وأن آخره يبطل معنى أوله وذلك أن اللّه جل ثناؤه إن كان أخبر الـملائكة أن ذرية الـخـلـيفة الذي يجعله فـي الأرض تفسد فـيها وتسفك الدماء، فقالت الـملائكة لربها: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفكُ الدّماءَ فلا وجه لتوبـيخها علـى أن أخبرت عمن أخبرها اللّه عنه أنه يفسد فـي الأرض ويسفك الدماء بـمثل الذي أخبرها عنهم ربها، فـيجوز أن يقال لها فـيـما طوي عنها من العلوم إن كنتـم صادقـين فـيـما علـمتـم بخبر اللّه إياكم أنه كائن من الأمور، فأخبرتـم به، فأخبرونا بـالذي قد طَوَى اللّه عنكم علـمه، كما قد أخبرتـمونا بـالذي قد أطلعكم اللّه علـيه. بل ذلك خـلف من التأويـل، ودعوى علـى اللّه ما لا يجوز أن يكون له صفة. وأخشى أن يكون بعضُ نَقَلَةِ هذا الـخبر هو الذي غلط علـى من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويـل منهم كان علـى ذلك: أنبئونـي بأسماء هؤلاء إن كنتـم صادقـين فـيـما ظننتـم أنكم أدركتـموه من العلـم بخبري إياكم أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء، حتـى استـجزتـم أن تقولوا: أتَـجْعَلُ فـيها مَنْ يُفْسدُ فـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ فـيكون التوبـيخ حينئذٍ واقعا علـى ماظنوا أنهم قد أدركوا بقول اللّه لهم: إنه يكون له ذرية يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء، لا علـى إخبـارهم بـما أخبرهم اللّه به أنه كائن. وذلك أن اللّه جل ثناؤه وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خـلـيفته فـي الأرض ما يكون منه فـيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كان طوى عنهم الـخبر عما يكون من كثـير منهم ما يكون من طاعتهم ربهم وإصلاحهم فـي أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم علـيه، فلـم يخبرهم بذلك، فقالت الـملائكة: أتَـجْعَلُ فـيها مَنْ يُفْسِدُ فـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ علـى ظنّ منها علـى تأويـل هذين الـخبرين اللذين ذكرت، وظاهرهما أن جميع ذرية الـخـلـيفة الذي يجعله فـي الأرض يفسدون فـيها ويسفكون فـيها الدماء. فقال اللّه لهم إذ علّـم آدم الأسماء كلها: أنْبئونِـي بأسماءِ هَؤلاء إن كنتـمْ صَادقِـين أنكم تعلـمون أن جميع بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء علـى ما ظننتـم فـي أنفسكم، إنكارا منه جل ثناؤه لقـيـلهم ما قالوا من ذلك علـى الـجميع والعموم، وهو من صفة خاص ذرية الـخـلـيفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويـل الـخبر لا القول الذي نـختاره فـي تأويـل الآية. ومـما يدل علـى ما ذكرنا من توجيه خبر الـملائكة عن إفساد ذرية الـخـلـيفة وسفكها الدماء علـى العموم، ما: ٣٨٩ـ حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، قوله: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسدُ فـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ قال: يعنون الناس. وقال آخرون فـي ذلك بـما: ٣٩٠ـ حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْـمَلائِكَةِ إنّـي جَاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً فـاستـخار الـملائكة فـي خـلق آدم، فقالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وقد علـمت الـملائكة من علـم اللّه أنه لا شيء أكره إلـى اللّه من سفك الدماء والفساد فـي الأرض وَنَـحْنُ نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ فكان فـي علـم اللّه جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الـخـلـيفة أنبـياء ورسل، وقوم صالـحون، وساكنوا الـجنة قال: وذكر لنا أن ابن عبـاس كان يقول: إن اللّه لـما أخذ فـي خـلق آدم قالت الـملائكة: ما اللّه خالق خـلقا أكرم علـيه منا ولا أعلـم منا فـابتلوا بخـلق آدم، وكل خالق مبتلًـى، كما ابتلـيت السموات والأرض بـالطاعة فقال اللّه : ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَـيْنا طَائِعِينَ. وهذا الـخبر عن قتادة يدل علـى أن قتادة كان يرى أن الـملائكة قالت ما قالت من قولها: أتَـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ علـى غير يقـين علـم تقدم منها بأن ذلك كائن ولكن علـى الرأي منها والظن، وأن اللّه جل ثناؤه أنكر ذلك من قـيـلها وردّ علـيها ما رأت بقوله: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ من أنه يكون من ذرّية ذلك الـخـلـيفة الأنبـياء والرسلُ والـمـجتهدُ فـي طاعة اللّه . وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويـل، وهو ما: ٣٩١ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها قال: كان اللّه أعلـمهم إذا كان فـي الأرض خـلق أفسدوا فـيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها. وبـمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويـل، منهم الـحسن البصري. ٣٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن جرير بن حازم، ومبـارك عن الـحسن، وأبـي بكر عن الـحسن، وقتادة قالا: قال اللّه لـملائكته: إنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً قال لهم إنـي فـاعل. فعرضوا برأيهم، فعلـمهم علـما وطوى عنهم علـما عَلِـمَه لا يعلـمونه. فقالوا بـالعلـم الذي علّـمهم: أتَـجْعَل فِـيها مَنْ يُفْسِد فِـيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وقد كانت الـملائكة علـمت من علـم اللّه أنه لا ذنب أعظم عند اللّه من سفك الدماء وَنَـحْن نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّس لَكَ قالَ إنّـي أعْلَـم ما لا تَعْلَـمُونَ. فلـما أخذ فـي خـلق آدم، همست الـملائكة فـيـما بـينها، فقالوا: لـيخـلق ربنا ما شاء أن يخـلق، فلن يخـلق خـلقا إلا كنا أعلـم منه، وأكرم علـيه منه. فلـما خـلقه ونفخ فـيه من روحه، أمرهم أن يسجدوا له لـما قالوا، ففضله علـيهم، فعلـموا أنهم لـيسوا بخير منه، فقالوا: إن لـم نكن خيرا منه فنـحن أعلـم منه، لأنا كنا قبله، وخـلقت الأمـم قبله، فلـما أعجبوا بعلـمهم ابتلوا فعلـم آدمَ الأسماءَ كلّها ثمّ عرَضهُمْ علَـى الـملائكةِ فقال أنْبِئُونِـي بأسْماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أنـي لا أخـلق خـلقا إلا كنتـم أعلـم منه، فأخبرونـي بأسماء هؤلاء إن كنتـم صادقـين قال: ففزع القوم إلـى التوبة وإلـيها يفزع كل مؤمن فقالوا: سُبْحانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إِلاّ مَا عَلّـمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـم الـحَكِيـم قالَ يا آدمَ أنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَـمّا أنْبأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْب السّمَوَاتِ وَالأرْض وأعْلَـمُ ما تُبْدونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ لقولهم: لـيخـلق ربنا ما شاء فلن يخـلق خـلقا أكرم علـيه منا ولا أعلـم منّا. قال: علـمه اسم كل شيء، هذه الـجبـال، وهذه البغال، والإبل، والـجنّ، والوحش، وجعل يسمي كل شيء بـاسمه، وعرضت علـيه كل أمة فقالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْب السّمَوَاتِ مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ. وأما ما كتـموا فقول بعضهم لبعض: نـحن خير منه وأعلـم. ٣٩٣ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس في قوله: إنّـي جاعِلٌ فـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً الآية قال: إن اللّه خـلق الـملائكة يوم الأربعاء، وخـلق الـجن يوم الـخميس، وخـلق آدم يوم الـجمعة قال: فكفر قوم من الـجن، فكانت الـملائكة تهبط إلـيهم فـي الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد فـي الأرض. فمن ثم قالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِد فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ... الآية. ٣٩٤ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: أخبرنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بـمثله. ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إلـى قوله: إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قال: وذلك حين قالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيهَا وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَك قال: فلـما عرفوا أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة قالوا بـينهم: لن يخـلق اللّه خـلقا إلا كنا نـحن أعلـم منه وأكرم فأراد اللّه أن يخبرهم أنه قد فضل علـيهم آدم، وعلّـم آدم الأسماء كلها، فقال للـملائكة: أنْبِئونِـي بِأسْمَاءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إلـى قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ وكان الذي أبدوا حين قَالُوا أتَـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ وكان الذي كتـموا بـينهم قولهم: لن يخـلق اللّه خـلقا إلا كنا نـحن أعلـم منه وأكرم. فعرفوا أن اللّه فضل علـيهم آدم فـي العلـم والكرم. وقال ابن زيد بـما: ٣٩٥ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـما خـلق اللّه النار ذعرت منها الـملائكة ذعرا شديدا، و قالوا: ربنا لـم خـلقت هذه النار، ولأيّ شيء خـلقتها؟ قال: لـمن عصانـي من خـلقـي قال: ولـم يكن للّه خـلق يومئذٍ إلا الـملائكة والأرض، لـيس فـيها خـلق، إنـما خـلق آدم بعد ذلك. وقرأ قول اللّه : هَلْ أتَـى علـى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ لَـمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا قال: قال عمر بن الـخطاب: يا رسول اللّه لـيت ذلك الـحين. ثم قال: قالت الـملائكة: يا رب أو يأتـي علـينا دهر نعصيك فـيه لا يرون له خـلقا غيرهم قال: لا، إنـي أريد أن أخـلق فـي الأرض خـلقا وأجعل فـيها خـلـيقة يسفكون الدماء ويفسدون فـي الأرض. فقالت الـملائكة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفكُ الدّماءَ وقد اخترتنا؟ فـاجعلنا نـحن فـيها فنـحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فـيها بطاعتك وأعظمت الـملائكة أن يجعل اللّه فـي الأرض من يعصيه. فقال: إنـي أعلـم ما لا تعلـمون، يا آدم أنبئهم بأسمائهم فقال: فلان، وفلان قال: فلـما رأوه ما أعطاه اللّه من العلـم، أقرّوا لاَدم بـالفضل علـيهم، وأبى الـخبـيث إبلـيس أن يقرّ له، قال: أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَـلَقْتَنِـي مِنْ نارٍ وَخَـلَقْتَهُ مِنْ طِينِ قالَ فـاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِـيها. وقال ابن إسحاق بـما: ٣٩٦ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، قال: لـما أراد اللّه أن يخـلق آدم بقدرته لـيبتلـيه ويبتلـي به، لعلـمه بـما فـي ملائكته وجميع خـلقه وكان أول بلاء ابتلـيت به الـملائكة مـما لها فـيه ما تـحبّ وما تكره للبلاء والتـمـحيص لـما فـيهم مـما لـم يعلـموا وأحاط به علـم اللّه منهم جمع الـملائكة من سكان السموات والأرض، ثم قال: إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلَـيفَةً يقول: عامر أو ساكن يسكنها ويعمرها خـلقا لـيس منكم. ثم أخبرهم بعلـمه فـيهم، فقال: يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بـالـمعاصي، فقالوا جميعا: أتَـجْعَلُ فِـيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتـي شيئا كرهته؟ قال: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ قال: إنـي أعلـم فـيكم ومنكم، ولـم يبدها لهم من الـمعصية والفساد وسفك الدماء وإتـيان ما أكره منهم، مـما يكون فـي الأرض، مـما ذكرت فـي بنـي آدم. قال اللّه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: ما كانَ لِـيَ منْ عِلْـمٍ بـالـمَلأ الأعْلَـى إذْ يَخْتَصِمُونَ إنْ يُوحَى إلـيّ إلاّ أنّـمَا أنا نَذِيرٌ مُبِـينٌ إلـى قوله: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فذكر لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خـلقه ومراجعة الـملائكة إياه فـيـما ذكر لهم منه. فلـما عزم اللّه تعالـى ذكره علـى خـلق آدم قال للـملائكة: إنّـي خالِقٌ بَشَرا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمِأٍ مَسْنُونٍ بـيدّي تكرمةً له، وتعظيـما لأمره، وتشريفـا له حفظت الـملائكة عهده، ووعوا قوله، وأجمعوا الطاعة، إلا ما كان من عدوّ اللّه إبلـيس، فإنه صمت علـى ما كان فـي نفسه من الـحسد والبغي والتكبر والـمعصية. وخـلق اللّه آدم من أَدَمة الأرض، من طين لازب من حمأ مسنون، بـيديه تكرمة له وتعظيـما لأمره وتشريفـا له علـى سائر خـلقه. قال ابن إسحاق: فـيقال واللّه أعلـم: خـلق اللّه آدم ثم وضعه ينظر إلـيه أربعين عاما قبل أن ينفخ فـيه الروح حتـى عاد صلصالاً كالفخار، ولـم تـمسه نار قال: فـيقال واللّه أعلـم: إنه لـما انتهى الروح إلـى رأسه عطس، فقال: الـحمد للّه فقال له ربه: يرحمك ربك ووقع الـملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد اللّه الذي عهد إلـيهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ اللّه إبلـيس من بـينهم، فلـم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا، فقال له: يا إبْلِـيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِـمَا خَـلَقْتُ بِـيَدَيّ إلـى: لأَمْلأَنّ جَهَنّـمَ مِنْكَ وَمِـمّنْ تَبعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قال: فلـما فرغ اللّه من إبلـيس ومعاتبته وأبى إلـى الـمعصية، أوقع علـيه اللعنة وأخرجه من الـجنة. ثم أقبل علـى آدم، وقد علـمه الأسماء كلها، فقال: يا آدَمُ أنْبِئُهُمْ بأسْمَائِهِمْ فَلَـمّا أنْبأهُمْ بأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْـمَ لَنا إلا مَا عَلّـمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ أي إنـما أجبناك فـيـما علـمتنا، فأما ما لـم تعلـمنا فأنت أعلـم به. فكان ما سمى آدمُ من شيء كان اسمه الذي هو علـيه إلـى يوم القـيامة. وقال ابن جريج بـما: ٣٩٧ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: إنـما تكلـموا بـما أعلـمهم أنه كائن من خـلق آدم، فقالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَن يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ. وقال بعضهم: إنـما قالت الـملائكة ما قالت: أتَـجْعَلُ فِـيها مَن يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ لأن اللّه أذن لها فـي السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بنـي آدم، فسألته الـملائكة فقالت علـى التعجب منها: وكيف يعصونك يا ربّ وأنت خالقهم فأجابهم ربهم: إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يعنـي أن ذلك كائن منهم وإن لـم تعلـموه أنتـم، ومن بعض من ترونه لـي طائعا. يعرّفهم بذلك قصور علـمهم عن علـمه. وقال بعض أهل العربـية: قول الـملائكة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها علـى غير وجه الإنكار منهم علـى ربهم، وإنـما سألوه لـيعلـموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى اللّه ، لأن الـجنّ قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت. وقال بعضهم: ذلك من الـملائكة علـى وجه الاسترشاد عما لـم يعلـموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا ربّ خبرنا مسألة استـخبـار منهم للّه لا علـى وجه مسألة التوبـيخ. قال أبو جعفر: وأولـى هذه التأويلات بقول اللّه جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قـيـلها له: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكَ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ تأويـل من قال: إن ذلك منها استـخبـار لربها بـمعنى: أعلـمنا يا ربنا، أجاعل أنت فـي الأرض من هذه صفته وتارك أن تـجعل خـلفـاءك منا، ونـحن نسبح بحمدك، ونقدّس لك؟ لا إنكارٌ منها لـما أعلـمها ربها أنه فـاعل، وإن كانت قد استعظمت لـما أخبرت بذلك أن يكون للّه خـلق يعصيه. وأما دعوى من زعم أن اللّه جل ثناؤه كان أذن لها بـالسؤال عن ذلك فسألته علـى وجه التعجب، فدعوى لا دلالة علـيها فـي ظاهر التنزيـل ولا خبر بها من الـحجة يقطع العذر، وغير جائز أن يقال فـي تأويـل كتاب اللّه بـما لا دلالة علـيه من بعض الوجوه التـي تقوم بها الـحجة. وأما وصف الـملائكة من وصفت فـي استـخبـارها ربها عنه بـالفساد فـي الأرض وسفك الدماء، فغير مستـحيـل فـيه ما رُوي عن ابن عبـاس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي ووافقهما علـيه قتادة من التأويـل. وهو أن اللّه جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل فـي الأرض خـلـيفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها علـى ما وصفت من الاستـخبـار. فإن قال لنا قائل: وما وجه استـخبـارها والأمر علـى ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن؟ قـيـل: وجه استـخبـارها حينئذٍ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الـخـلفـاء فـي الأرض حتـى لا يعصوه. وغير فـاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عبـاس وتابعه علـيه الربـيع بن أنس من أن الـملائكة قالت ذلك لـما كان عندها من علـم سكان الأرض قبل آدم من الـجن، فقالت لربها: أجاعل فـيها أنت مثلهم من الـخـلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون؟ علـى وجه الاستعلام منهم لربهم، لا علـى وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك، فـيكون ذلك منها إخبـارا عما لـم تطلع علـيه من علـم الغيب. وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قـيـل الـملائكة ما قالت من ذلك علـى وجه التعجب منها من أن يكون للّه خـلق يعصي خالقه. وإنـما تركنا القول بـالذي رواه الضحاك عن ابن عبـاس ووافقه علـيه الربـيع بن أنس وبـالذي قاله ابن زيد فـي تأويـل ذلك لأنه لا خبر عندنا بـالذي قالوه من وجه يقطع مـجيئه العذر ويـلزم سامعه به الـحجة. والـخبر عما مضى وما قد سلف، لا يدرك علـم صحته إلا بـمـجيئه مـجيئا يـمتنع منه التشاغب والتواطؤ، ويستـحيـل منه الكذب والـخطأ والسهو. ولـيس ذلك بـموجود كذلك فـيـما حكاه الضحاك عن ابن عبـاس ووافقه علـيه الربـيع، ولا فـيـما قاله ابن زيد. فأولـى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بـالآية، ما كان علـيه من ظاهر التنزيـل دلالةٌ مـما يصحّ مخرجه فـي الـمفهوم. فإن قال قائل: فإن كان أولـى التأويلات بـالآية هو ما ذكرتَ من أن اللّه أخبر الـملائكة بأن ذرية خـلـيفته فـي الأرض يفسدون فـيها ويسفكون فـيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الـملائكة: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيهَا فأين ذكر إخبـار اللّه إياهم فـي كتابه بذلك؟ قـيـل له: اكتفـي بدلالة ما قد ظهر من الكلام علـيه عنه، كما قال الشاعر: فَلاَ تَدْفِنُونِـي إنّ دَفْنِـي مُـحَرّمٌعَلَـيْكُمْ وَلَكِنْ خامِرِي أُمّ عامِرِ فحذف قوله دعونـي للتـي يقال لها عند صيدها خامري أم عامر، إذ كان فـيها أظهر من كلامه دلالة علـى معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها لـما كان فـيه دلالة علـى ما ترك ذكره بعد قوله: إنّـي جاعِلٌ فِـي الأرْضِ خَـلِـيفَةً من الـخبر عما يكون من إفساد ذريته فـي الأرض اكتفـى بدلالته وحذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك فـي القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلـما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول فـي تأويـل قوله: قالُوا أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ. قال أبو جعفر: أما قوله: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ فإنه يعنـي: إنا نعظمك بـالـحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وكما قال: وَالـمَلائِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وكل ذكر للّه عند العرب فتسبـيح وصلاة، يقول الرجل منهم: قضيت سبحتـي من الذكر والصلاة. وقد قـيـل إن التسبـيح صلاة الـملائكة. ٣٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبـي الـمغيرة، عن سعيد بن جبـير قال: (كان النبـي صلى اللّه عليه وسلم يصلـي، فمرّ رجل من الـمسلـمين علـى رجل من الـمنافقـين، فقال له: النبـي صلى اللّه عليه وسلم يصلـي وأنت جالس فقال له: امض إلـى عملك إن كان لك عمل، فقال: ما أظنّ إلا سيـمرّ علـيك من ينكر علـيك. فمرّ علـيه عمر بن الـخطاب، فقال له: يا فلان النبـي صلى اللّه عليه وسلم يصلـي وأنت جالس فقال له مثلها. فقال: هذا من عملـي. فوثب علـيه فضربه حتـى انتهى. ثم دخـل الـمسجد فصلـى مع النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فلـما انفتل النبـي صلى اللّه عليه وسلم قام إلـيه عمر، فقال: يا نبـيّ اللّه مررت آنفـا علـى فلان وأنت تصلـي، فقلت له: النبـي صلى اللّه عليه وسلم يصلـي وأنت جالس فقال: سر إلـى عملك إن كان لك عمل. فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: ) (فهلاّ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ) فقام عمر مسرعا. فقال: (يا عُمَرُ ارْجِعْ فإنّ غَضَبَكَ عز وَرِضَاكَ حُكْمٌ، إنّ للّه فِـي السّمَوَاتِ السّبْعِ مَلائِكَةً يُصَلُونَ، لَهُ غِنًى عَنْ صَلاةِ فُلانٍ). فقال عمر: يا نبـيّ اللّه وما صلاتهم؟ فلـم يردّ علـيه شيئا. فأتاه جبريـل، فقال: يا نبـي اللّه سألك عمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: (نَعَمْ)، فقال: اقرأ علـى عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنـيا سجود إلـى يوم القـيامة يقولون: سبحان ذي الـملك والـملكوت، وأهل السماء الثانـية ركوع إلـى يوم القـيامة يقولون: سبحان ذي العزّة والـجبروت، وأهل السماء الثالثة قـيام إلـى يوم القـيامة يقولون: سبحان الـحيّ الذي لا يـموت. قال أبو جعفر: ٣٩٩ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، وسهل بن موسى الرازي، قالا: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا الـجريري، عن أبـي عبد اللّه الـجسري، عن عبد اللّه بن الصامت، عن أبـي ذرّ: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاده أو أن أبـا ذرّ عاد النبـي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه بأبـي أنت، أي الكلام أحبّ إلـى اللّه ؟ فقال: (ما اصْطَفَـى اللّه لِـمَلائِكَتِهِ: سُبْحَانَ رَبـي وَبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ رَبـي وَبَحمْدِهِ). فـي أشكال لـما ذكرنا من الأخبـار كرهنا إطالة الكتاب بـاستقصائها. وأصل التسبـيح للّه عند العرب التنزيه له من إضافة ما لـيس من صفـاته إلـيه والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بنـي ثعلبة: أقُولُ لَـمّا جاءَنِـي فَخْرُهُسُبْحانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفـاخِرِ يريد: سبحان اللّه من فخر علقمة أي تنزيها للّه مـما أتـى علقمة من الافتـخار علـى وجه النكير منه لذلك. وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى التسبـيح والتقديس فـي هذا الـموضع. فقال بعضهم: قولهم: نسبح بحمدك: نصلـي لك. ذكر من قال ذلك: ٤٠٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: ونَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال: يقولون: نصلـي لك. وقال آخرون: نسبح بحمدك التسبـيح الـمعلوم. ذكر من قال ذلك: ٤٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ونَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ قال التسبـيحَ التسبـيحَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَنُقَدّسُ لَكَ. قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيـم ومنه قولهم: سبّوح قدّوس، يعنـي بقولهم سبوح: تنزيه للّه وبقولهم قدوس: طهارة له وتعظيـم ولذلك قـيـل للأرض: أرض مقدسة، يعنـي بذلك الـمطهرة. فمعنى قول الـملائكة إذا: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ ننزّهك ونبرّئك مـما يضيفه إلـيك أهل الشرك بك، ونصلـي لك. ونقدس لك: ننسبك إلـى ما هو من صفـاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إلـيك أهل الكفر بك. وقد قـيـل: إن تقديس الـملائكة لربها صلاتها له كما: ٤٠٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وَنُقَدّسُ لَكَ قال: التقديس: الصلاة. وقال بعضهم: نقدّس لك: نعظمك ونـمـجدك. ذكر من قال ذلك: ٤٠٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدّب، قال: حدثنا إسماعيـل، عن أبـي صالـح في قوله: وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قال: نعظمك ونـمـجدك. ٤٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَنُقَدّسُ لَكَ قال: نعظمك ونكبرك. ٤٠٥ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن ابن إسحاق: وَنَـحنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ لا نعصي ولا نأتـي شيئا تكرهه. ٤٠٦ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك في قوله: وَنُقَدّسُ لَكَ قال: التقديس: التطهير. وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيـم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلـى الـمعنى الذي ذكرناه من التطهير من أجل أن صلاتها لربها تعظيـم منها له وتطهير مـما ينسبه إلـيه أهل الكفر به. ولو قال مكان: (ونقدس لك): (ونقدسك)، كان فصيحا من الكلام، وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح اللّه ويقدسه، ويسبح للّه ويقدس له بـمعنى واحد، وقد جاء بذلك القرآن، قال اللّه جل ثناؤه: كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِـيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِـيرا وقال فـي موضع آخر: يُسَبّحُ للّه ما فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي أَلارْضِ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالَ إنّـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم: يعنـي بقوله: أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ مـما اطلع علـيه من إبلـيس، وإضماره الـمعصية للّه وإخفـائه الكبر، مـما اطلع علـيه تبـارك وتعالـى منه وخفـي علـى ملائكته. ذكر من قال ذلك: ٤٠٧ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : إنّـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يقول: إنـي قد اطلعت من قلب إبلـيس علـى ما لـم تطلعوا علـيه من كبره واغتراره. ٤٠٨ـ وحدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: إنـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ يعنـي من شأن إبلـيس. ٤٠٩ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد. وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قالا جميعا: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إنـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها. وحدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا مـحمد بن بشر، قال: حدثنا سفـيان، عن علـيّ بن بذيـمة، عن مـجاهد بـمثله. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن علـيّ بن بذيـمة، عن مـجاهد، مثله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزّة عن مـجاهد في قوله: إنـي أعلـم ما لا تعلـمون قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها. وحدثنـي جعفر بن مـحمد البُزُوري، قال: حدثنا حسن بن بشر عن حمزة الزيات، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: إنـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبْلِـيسَ كتـمانه الكبر أن لا يسجد لاَدم. وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : إنّـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد، مثله. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، قال: قال مـجاهد في قوله: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها وقال مرة آدم. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت عبد الوهاب بن مـجاهد يحدّث عن أبـيه في قوله: إنّـي أعْلَـمُ مَا لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها، وعلـم من آدم الطاعة وخـلقه لها. وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه والثوري عن علـيّ بن بذيـمة، عن مـجاهد في قوله: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ قال: علـم من إبلـيس الـمعصية وخـلقه لها. ٤١٠ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ أي فـيكم ومنكم ولـم يبدها لهم من الـمعصية والفساد وسفك الدماء. وقال آخرون: معنى ذلك أنـي أعلـم ما لا تعلـمون من أنه يكون من ذلك الـخـلـيفة أهل الطاعة والولاية للّه. ذكر من قال ذلك: ٤١١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ فكان فـي علـم اللّه أنه سيكون من ذلك الـخـلـيفة أنبـياء ورسل وقوم صالـحون وساكنوا الـجنة. وهذا الـخبر من اللّه جل ثناؤه، ينبىء عن أن الـملائكة التـي قالت: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ استفظعت أن يكون للّه خـلق يعصيه، وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن فلذلك قال لهم ربهم: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يعنـي بذلك: واللّه أعلـم أنك لتعجبون من أمر اللّه وتستفظعونه وأنا أعلـم أنه فـي بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفة أعلـم خلافها من بعضكم وتعرّضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الـملائكة لـما أخبرها ربها بـما هو كائن من ذرية خـلـيفته من الفساد وسفك الدماء قالت لربها: يا رب أجاعل أنت فـي الأرض خـلـيفة من غيرنا يكون من ذريته من يعصيك أم منا؟ فإنا نعظمك ونصلـي لك ونطيعك ولا نعصيك ولـم يكن عندها علـم بـما قد انطوى علـيه كشحا إبلـيسُ من استكبـاره علـى ربه. فقال لهم ربهم: إنـي أعلـم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورا عنهم من أمر إبلـيس وانطوائه علـى ما قد كان انطوى علـيه من الكبر. وعلـى قـيـلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بـالعموم من الوصف عوتبوا. ٣١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـَؤُلآءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال أبو جعفر: ٤١٢ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبـي الـمغيرة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: بعث ربّ العزّة ملك الـموت، فأخذ من أديـم الأرض من عذبها ومالـحها، فخـلق منه آدم. ومن ثم سُمي آدم لأنه خـلق من أديـم الأرض. ٤١٣ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن جده، عن علـيّ، قال: إن آدم خـلق من أديـم الأرض فـيه الطيب والصالـح والرديء، فكل ذلك أنت راء فـي ولده الصالـح والرديء. ٤١٤ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير، قال: خـلق آدم من أديـم الأرض فسمي آدم. وحدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير قال: إنـما سمي آدم لأنه خـلق من أديـم الأرض. ٤١٥ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: إن ملك الـموت لـما بعث لـيأخذ من الأرض تربة آدم، أخذ من وجه الأرض وخـلط فلـم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبـيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفـين، ولذلك سمي آدم، لأنه أخذ من أديـم الأرض. وقد رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبر يحقق ما قال من حكينا قوله فـي معنى آدم، وذلك ما: ٤١٦ـ حدثنـي به يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن عوف، وحدثنا مـحمد بن بشار وعمر بن شبة، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر وعبد الوهاب الثقـفـي قالوا: حدثنا عوف، وحدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـان، قال: حدثنا عنبسة، عن عوف الأعرابـي، عن قسامة بن زهير، عن أبـي موسى الأشعري، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إنّ اللّه خَـلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ علـى قَدْرِ الأرْضِ جاءَ مِنْهُمْ أَلاحْمَرُ وَالأسْوَدُ وَالأبْـيَضُ وَبَـيْنَ ذلكَ وَالسّهْلُ وَالـحَزْنُ وَالـخَبِـيثُ وَالطّيّبُ). فعلـى التأويـل الذي تأول آدم من تأوله بـمعنى أنه خـلق من أديـم الأرض، يجب أن يكون أصل آدم فعلاً سمي به أبو البشر، كما سمي أحمد بـالفعل من الإحماد، وأسعد من الإسعاد، فلذلك لـم يجرّ، ويكون تأويـله حينئذٍ: آدم الـملك الأرضَ، يعنـي به أبلغ أَدَمتها، وأدمتها وجهها الظاهر لرأي العين، كما أن جلدة كل ذي جلدة له أدمة، ومن ذلك سمي الإدام إداما، لأنه صار كالـجلدة العلـيا مـما هي منه، ثم نقل من الفعل فجعل اسما للشخص بعينه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: الأسْمَاءَ كُلّها. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي الأسماء التـي علـمها آدم ثم عرضها علـى الـملائكة. فقال ابن عبـاس ما: ٤١٧ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: علـم اللّه آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التـي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشبـاه ذلك من الأمـم وغيرها. ٤١٨ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد: وَعَلّـمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء. ٤١٩ـ وحدثنا علـي بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم الـحرمي، عن مـحمد بن مصعب، عن قـيس بن الربـيع، عن خصيف، عن مـجاهد، قال: علـمه اسم الغراب والـحمامة، واسم كل شيء. ٤٢٠ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن شريك، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير، قال: علـمه اسم كل شيء، حتـى البعير والبقرة والشاة. ٤٢١ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن شريك، عن عاصم بن كلـيب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عبـاس ، قال: علـمه اسم القصعة والفسوة والفسية. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن عاصم بن كلـيب، عن الـحسن بن سعد، عن ابن عبـاس : وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّها قال: حتـى الفسوة والفسية. حدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن قـيس، عن عاصم بن كلـيب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عبـاس في قول اللّه : وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء حتـى الهنة والهنـية والفسوة والضرطة. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم بن كلـيب، قال: قال ابن عبـاس : علـمه القصعة من القصيعة، والفسوة من الفسية. ٤٢٢ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها حتـى بلغ: إنّكَ أنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأ كل صنف من الـخـلق بـاسمه وألـجأه إلـى جنسه. ٤٢٣ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علـمه اسم كل شيء: هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرض تلك الأشياء علـى الـملائكة فقال: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إِنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ. ٤٢٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن جرير بن حازم ومبـارك، عن الـحسن، وأبـي بكر عن الـحسن وقتادة قالا: علـمه اسم كل شيء: هذه الـخيـل، وهذه البغال، والإبل، والـجنّ، والوح٥ وجعل يسمي كل شيء بـاسمه. ٤٢٥ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر عن أبـيه، عن الربـيع، قال: اسم كل شيء. وقال آخرون: علـم آدم الأسماء كلها، أسماء الـملائكة. ذكر من قال ذلك: ٤٢٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَعَلـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلها قال: أسماء الـملائكة. وقال آخرون: إنـما علـمه أسماء ذريته كلها. ذكر من قال ذلك: ٤٢٧ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَعَلـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها قال: أسماء ذرّيته أجمعين. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب وأشبهها بـما دلّ علـى صحته ظاهر التلاوة قول من قال في قوله: وَعَلّـمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها إنها أسماء ذرّيته وأسماء الـملائكة، دون أسماء سائر أجناس الـخـلق. وذلك أن اللّه جل ثناؤه قال: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ يعنـي بذلك أعيان الـمسمين بـالأسماء التـي علـمها آدم، ولا تكاد العرب تكنـي بـالهاء والـميـم إلا عن أسماء بنـي آدم والـملائكة وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الـخـلق، سوى من وصفنا، فإنها تكنـي عنها بـالهاء والألف، أو بـالهاء والنون، فقالت: عرضهن، أو عرضها. وكذلك تفعل إذا كنت عن أصناف من الـخـلق، كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمـم، وفـيها أسماء بنـي آدم والـملائكة، فإنها تكنـي عنها بـما وصفنا من الهاء والنون، أو الهاء والألف. وربـما كنت عنها إذ كان كذلك بـالهاء والـميـم، كما قال جل ثناؤه: وَاللّه خَـلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى رِجْلَـيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى أرْبَعٍ فكنـي عنها بـالهاء والـميـم، وهي أصناف مختلفة فـيها الاَدميّ وغيره. وذلك وإن كان جائزا فإن الغالب الـمستفـيض فـي كلام العرب ما وصفنا من إخراجهم كناية أسماء أجناس الأمـم إذا اختلطت بـالهاء والألف، أو الهاء والنون. فلذلك قلت: أولـى بتأويـل الآية أن تكون الأسماء التـي علـمها آدم أسماء أعيان بنـي آدم وأسماء الـملائكة. وإن كان ما قال ابن عبـاس جائزا علـى مثال ما جاء فـي كتاب اللّه من قوله: وَاللّه خَـلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَـمْشِي علـى بَطْنِهِ الآية. وقد ذكر أنها فـي حرف ابن مسعود: (ثم عرضهن)، وأنها فـي حرف أبـيّ: (ثم عرضها). ولعلّ ابن عبـاس تأوّل ما تأوّل من قوله: علـمه اسم كل شيء حتـى الفسوة والفسية علـى قراءة أبـيّ، فإنه فـيـما بلغنا كان يقرأ قراءة أبـيّ. وتأويـل ابن عبـاس علـى ما حكي عن أبـيّ من قراءته غير مستنكر، بل هو صحيح مستفـيض فـي كلام العرب علـى نـحو ما تقدم وصفـي ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ. قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويـل الذي هو أوْلـى بـالآية علـى قراءتنا ورسم مصحفنا، وأن قوله: ثُمّ عَرَضَهُمْ بـالدلالة علـى بنـي آدم والـملائكة أولـى منه بـالدلالة علـى أجناس الـخـلق كلها، وإن كان غير فـاسد أن يكون دالاّ علـى جميع أصناف الأمـم للعلل التـي وصفنا. ويعنـي جل ثناؤه بقوله: ثُمّ عَرَضَهُمْ ثم عرض أهل الأسماء علـى الـملائكة. وقد اختلف الـمفسرون فـي تأويـل قوله: ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلاَئِكَةِ نـحو اختلافهم في قوله: وَعَلّـمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها وسأذكر قول من انتهى إلـينا عنه فـيه قول. ٤٢٨ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ ثم عرض هذه الأسماء يعنـي أسماء جميع الأشياء التـي علـمها آدم من أصناف جميع الـخـلق. ٤٢٩ـ وحدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: ثُمّ عَرَضَهُمْ ثم عرض الـخـلق علـى الـملائكة. ٤٣٠ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلها أخذهم من ظهره قال: ثم عرضهم علـى الـملائكة. ٤٣١ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: ثُمّ عَرَضَهُمْ قال: علـمه اسم كل شيء ثم عرض تلك الأسماء علـى الـملائكة. ٤٣٢ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: ثُمّ عَرَضَهُمْ عرض أصحاب الأسماء علـى الـملائكة. ٤٣٣ـ وحدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن قـيس، عن خصيف عن مـجاهد ثُمّ عَرَضَهُمْ علـى الـمَلائِكَةِ يعنـي عرض الأسماء الـحمامة والغراب. ٤٣٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن جرير بن حازم، ومبـارك عن الـحسن، وأبـي بكر عن الـحسن، وقتادة قالا: علـمه اسم كل شيء هذه الـخيـل وهذه البغال وما أشبه ذلك، وجعل يسمي كل شيء بـاسمه، وعرضت علـيه أمة أمة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فقالَ أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ. قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: أنْبِئُونِـي أخبرونـي، كما: ٤٣٥ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : أنْبِئُونِـي يقول: أخبرونـي بأسماء هؤلاء. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: وأنْبأهُ الـمُنَبّىء أنّ حَيّاحُلُولٌ مِنْ حَرَامٍ أوْ جُذَامِ يعنـي بقوله أنبأه: أخبره وأعلـمه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بِأسْماءِ هَولاءِ. قال أبو جعفر: ٤٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : بِأسْماءِ هَؤلاءِ قال: بأسماء هذه التـي حدثت بها آدم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: أنْبئُونِـي بأسماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ يقول: بأسماء هؤلاء التـي حدثت بها آدم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنْ كُنْتُـمِ صَادِقِـينَ. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك. ٤٣٧ـ فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إن كنتـم تعلـمون لِـمَ أجعل فـي الأرض خـلـيفة. ٤٣٨ـ وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أن بنـي آدم يفسدون فـي الأرض ويسفكون الدماء. ٤٣٩ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم، ومبـارك عن الـحسن وأبـي بكر، عن الـحسن وقتادة قالا: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَولاَءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أنـي لـم أخـلق خـلقا إلا كنتـم أعلـم منه، فأخبرونـي بأسماء هؤلاء إن كنتـم صادقـين. قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية تأويـل ابن عبـاس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك فقال: أنبئونـي بأسماء من عرضته علـيكم أيتها الـملائكة القائلون: أتَـجْعَل فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ من غيرنا، أم منّا؟ فنـحن نسبح بحمدك ونقدس لك إن كنتـم صادقـين فـي قـيـلكم أنـي إن جعلت خـلـيفتـي فـي الأرض من غيركم عصانـي ذريته، وأفسدوا فـيها، وسفكوا الدماء، وإن جعلتـم فـيها أطعتـمونـي، واتبعتـم أمري بـالتعظيـم لـي والتقديس. فإنكم إن كنتـم لا تعلـمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم علـيكم من خـلقـي وهم مخـلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعلـمه غيركم بتعلـيـمي إياه، فأنتـم بـما هو غير موجود من الأمور الكائنة التـي لـم توجد بعد، وبـما هو مستتر من الأمور التـي هي موجودة عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالـمين، فلا تسألونـي ما لـيس لكم به علـم، فإنـي أعلـم بـما يصلـحكم ويصلـح خـلقـي. وهذا الفعل من اللّه جل ثناؤه بـملائكته الذين قالوا له: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها من جهة عتابه جل ذكره إياهم، نظير قوله جل جلاله لنبـيه نوح صلوات اللّه علـيه، إذ قال: رَبّ إنّ ابْنِـي مِنْ أهْلِـي وَإِنّ وَعْدَكَ الـحَقّ وَأنْتَ أحْكَمُ الـحاكِمينَ: لا تَسْألْنِ ما لَـيْسَ لَكَ بهِ عِلْـمٌ إنّـي أعظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ. فكذلك الـملائكة سألت ربها أن تكون خـلفـاءه فـي الأرض يسبحوه ويقدسوه فـيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله فـي الأرض خـلـيفة، يفسدون فـيها، ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: إنـي أعْلَـمُ ما لا تَعْلَـمُونَ يعنـي بذلك أنـي أعلـم أن بعضكم فـاتـح الـمعاصي وخاتـمها وهو إبلـيس منكرا بذلك تعالـى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هفوتهم فـي قـيـلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علـمهم عما هم له شاهدون عيانا، فكيف بـما لـم يروه ولـم يخبروا عنه بعرضه ما عرض علـيهم من خـلقه الـموجودين يومئذٍ، وقـيـله لهم: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أنكم إن استـخـلفتكم فـي أرضي سبحتـمونـي وقدستـمونـي، وإن استـخـلفت فـيها غيركم عصانـي ذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلـما اتضح لهم موضع خطأ قـيـلهم، وبدت لهم هفوة زلتهم أنابوا إلـى اللّه بـالتوبة فقالوا: سُبحانَكَ لا علـمَ لنَا إِلاّ ما علـمتنا فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبـادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح حين عوتب فـي مسألته، فقـيـل له: لا تَسألْنِ ما لَـيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ: رَبّ إنّـي أعُوذُ بِكَ أنْ أسألَكَ مَا لَـيْسَ لِـي بِهِ عِلْـمٌ وإلا تَغْفِرْ لِـي وَتَرْحَمْنِـي أكُنْ مِنَ الـخاسِرِينَ وكذلك فعل كل مسدد للـحق موفق له، سريعة إلـى الـحقّ إنابته، قريبة إلـيه أوبته. وقد زعم بعض نـحويـي أهل البصرة أن قوله: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَولاَءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ لـم يكن ذلك لأن الـملائكة ادّعوا شيئا، إنـما أخبر اللّه عن جهلهم بعلـم الغيب وعلـمه بذلك وفضله، فقال: أنبئونـي إن كنتـم صادقـين كما يقول الرجل للرجل: أنبئنـي بهذا إن كنت تعلـم، وهو يعلـم أنه لا يعلـم يريد أنه جاهل. وهذا قول إذا تدبره متدبر علـم أن بعضه مفسد بعضا، وذلك أن قائله زعم أن اللّه جل ثناؤه قال للـملائكة إذ عرض علـيهم أهل الأسماء: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَؤلاءِ وهو يعلـم أنهم لا يعلـمون، ولا هم ادّعوا علـم شيء يوجب أن يوبخوا بهذا القول. وزعم أن قوله: إِنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ نظير قول الرجل للرجل: أنبئنـي بهذا إن كنت تعلـم، وهو يعلـم أنه لا يعلـم يريد أنه جاهل. ولا شك أن معنى قوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ إنـما هو إن كنتـم صادقـين، إما فـي قولكم، وإما فـي فعلكم لأن الصدق فـي كلام العرب إنـما هو صدق فـي الـخبر لا فـي العلـم وذلك أنه غير معقول فـي لغة من اللغات أن يقال صدق الرجل بـمعنى علـم. فإذا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون اللّه جل ثناؤه قال للـملائكة علـى تأويـل قول هذا الذي حكينا قوله فـي هذه الآية: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ وهو يعلـم أنهم غير صادقـين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأن زعم أن الـملائكة لـم تدع شيئا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتـم صادقـين فأنبئونـي بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول الذي حكيناه عن صاحبه من أقوال جميع الـمتقدمين والـمتأخرين من أهل التأويـل والتفسير. وقد حكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأوّل قوله: إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ بـمعنى: إذ كنتـم صادقـين. ولو كانت (إن) بـمعنى (إذ) فـي هذا الـموضع لوجب أن تكون قراءتها بفتـح ألفها، لأن (إذ) إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببـا له، وذلك كقول القائل: أقوم إذ قمت، فمعناه: أقوم من أجل أنك قمت، والأمر بـمعنى الاستقبـال. فمعنى الكلام: لو كانت إن بـمعنى إذ أنبئونـي بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وضعت (إن) مكان ذلك، قـيـل: (أنبئونـي بأسماء هؤلاء أنْ كنتـم صادقـين مفتوحة الألف، وفـي إجماع جميع قرّاء أهل الإسلام علـى كسر الألف من (إن) دلـيـل واضح علـى خطأ تأويـل من تأوّل (إنْ) بـمعنى (إذ) فـي هذا الـموضع. ٣٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } قال أبو جعفر: وهذا خبر من اللّه جل ذكره عن ملائكته بـالأوبة إلـيه، وتسلـيـم علـم ما لـم يعلـموه له، وتبريهم من أن يعلـموا أو يعلـم أحد شيئا إلا ما علـمه تعالـى ذكره. وفـي هذه الاَيات الثلاث العبرة لـمن اعتبر، والذكرى لـمن اذّكر، والبـيان لـمن كان له قلب أو ألقـى السمع وهو شهيد، عما أودع اللّه جل ثناؤه أي هذا القرآن من لطائف الـحكم التـي تعجز عن أوصافها الألسن. وذلك أن اللّه جل ثناؤه احتـجّ فـيها لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى من كان بـين ظهرانـيه من يهود بنـي إسرائيـل بـاطلاعه إياه من علوم الغيب التـي لـم يكن جل ثناؤه أطلع علـيها من خـلقه إلا خاصّا، ولـم يكن مدركا علـمه إلا بـالإنبـاء والإخبـار، لتتقرّر عندهم صحة نبوّته، ويعلـموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فـيها علـى أن كل مخبر خبرا عما قد كان أو عما هو كائن مـما لـم يكن ولـم يأته به خبر ولـم يوضع له علـى صحته برهان فمتقوّل ما يستوجب به من ربه العقوبة. ألا ترى أن اللّه جل ذكره ردّ علـى ملائكته قـيـلهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قالَ إنّـي أعْلَـمُ مَا لاَ تَعْلَـمُونَ وعرّفهم أن قـيـل ذلك لـم يكن جائزا لهم بـما عرّفهم من قصور علـمهم عند عرضه ما عرض علـيهم من أهل الأسماء، فقال: أنْبِئُونِـي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فلـم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بـالعجز والتبرّي إلـيه أن يعلـموا إلا ما علـمهم بقولهم: سُبْحَانَكَ لاَ عِلْـمَ لَنَا إِلاّ ما عَلـمْتَنَا فكان فـي ذلك أوضح الدلالة وأبـين الـحجة علـى كذب مقالة كل من ادّعى شيئا من علوم الغيب من الـحزاة والكهنة والقافة والـمنـجمة. وذكر بها الذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه علـى آبـائهم، وأياديه عند أسلافهم، عند إنابتهم إلـيه، وإقبـالهم إلـى طاعته مستعطفهم بذلك إلـى الرشاد، ومستعتبهم به إلـى النـجاة، وحذّرهم بـالإصرار والتـمادي فـي البغي والضلال، حلولَ العقاب بهم نظير ما أحلّ بعدوّه إبلـيس، إذ تـمادى فـي الغيّ والـخسار. قال: وأما تأويـل قوله: سُبْحانَكَ لا عِلْـمَ لَنَا إِلاّ ما عَلـمْتَنَا فهو كما: ٤٤٠ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : قالوا: سُبْحانَكَ تنزيها للّه من أن يكون أحد يعلـم الغيب غيره، تبنا إلـيك، لا علـم لنا إلا ما علـمتنا: تبرّءوا منهم من علـم الغيب، إلا ما علـمتنا كما علـمت آدم. وسبحان مصدر لا تصرّف له، ومعناه: نسبحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبـيحا، وننزّهك تنزيها، ونبرّئك من أن نعلـم شيئا غير ما علـمتنا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنكَ أنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ. قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك: أنك أنت يا ربنا العلـيـم من غير تعلـيـم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالـم للغيوب دون جميع خـلقك. وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم: لا عِلْـمَ لَنا إِلاّ ما عَلّـمْتَنَا أن يكون لهم علـم إلا ما علـمهم ربهم، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: إنكَ أنْتَ العَلِـيـمُ يعنون بذلك العالـم من غير تعلـيـم، إذ كان من سواك لا يعلـم شيئا إلا بتعلـيـم غيره إياه. والـحكيـم: هو ذو الـحكمة. كما: ٤٤١ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، العلـيـم: الذي قد كمل فـي علـمه والـحكيـم: الذي قد كمل فـي حكمه. وقد قـيـل: إن معنى الـحكيـم: الـحاكم، كما أن العلـيـم بـمعنى العالـم، والـخبـير بـمعنى الـخابر. ٣٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ..... } قال أبو جعفر: إن اللّه جل ثناؤه عرّف ملائكته الذين سألوه أن يجعلهم الـخـلفـاء فـي الأرض ووصفوا أنفسهم بطاعته والـخضوع لأمره دون غيرهم الذين يفسدون فـيها ويسفكون الدماء، أنهم من الـجهل بـمواقع تدبـيره ومـحل قضائه، قبل إطلاعه إياهم علـيه، علـى نـحو جهلهم بأسماء الذين عرضهم علـيهم، إذْ كان ذلك مـما لـم يعلـمهم فـيعلـموه، وأنهم وغيرهم من العبـاد لا يعلـمون من العلـم إلا ما علـمهم إياه ربهم، وأنه يخصّ بـما شاء من العلـم من شاء من الـخـلق ويـمنعه منهم من شاء كما علـم آدم أسماء ما عرض علـى الـملائكة ومنعهم من علـمها إلا بعد تعلـيـمه إياهم. فأما تأويـل قوله: قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ يقول: أخبر الـملائكة. والهاء والـميـم في قوله: أنْبِئْهُمْ عائدتان علـى الـملائكة، وقوله: بِأسْمَائِهِمْ يعنـي بأسماء الذين عرضهم علـى الـملائكة. والهاء والـميـم اللتان فـي (أسمائهم) كناية عن ذكر هؤلاء التـي في قوله: أنْبِئُونِـي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ. فلـما أنبـاهم يقول: فلـما أخبر آدم الـملائكة بأسماء الذين عرضهم علـيهم، فلـم يعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خطأ قـيـلهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَـحْن نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وأنهم قد هفوا فـي ذلك و قالوا: ما لا يعلـمون كيفـية وقوع قضاء ربهم فـي ذلك، لو وقع علـى ما نطقوا به، قال لهم ربهم: ألَـمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلـم يعاينوه توبـيخا من اللّه جل ثناؤه لهم بذلك علـى ما سلف من قـيـلهم وفرط منهم من خطأ مسألتهم، كما: ٤٤٢ـ حدثنا به مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس : قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ يقول: أخبرهم بأسمائهم، فَلَـمّا أنْبَأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَـمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الـملائكة خاصة إنـي أعْلَـمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلـمه غيري. ٤٤٣ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قصة الـملائكة وآدم، فقال اللّه للـملائكة: كما لـم تعلـموا هذه الأسماء فلـيس لكم علـم، إنـما أردت أن أجعلهم لـيفسدوا فـيها، هذا عندي قد علـمته فكذلك أخفـيت عنكم أنـي أجعل فـيها من يعصينـي ومن يطيعنـي قال: وسبق من اللّه : لأمْلأَنّ جَهَنّـمَ مِنَ الـجِنّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ قال: ولـم تعلـم الـملائكة ذلك ولـم يدروه قال: فلـما رأوا ما أعطى اللّه آدم من العلـم أقرّوا لاَدم بـالفضل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأعُلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكتُـمُونَ. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فروى عن ابن عبـاس فـي ذلك ما: ٤٤٤ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وأعْلَـمُ ما تُبْدُون يقول: ما تظهرون وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ يقول: أعلـم السرّ كما أعلـم العلانـية. يعنـي ما كتـم إبلـيس فـي نفسه من الكبر والاغترار. ٤٤٥ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال قولهم: أتَـجْعَلُ فـيها مَنْ يُفْسِدُ فـيها فهذا الذي أبدوا، وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ يعنـي ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر. ٤٤٦ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه. ٤٤٧ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان في قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمونَ قال: ما أسرّ إبلـيس فـي نفسه من الكبر أن لا يسجد لاَدم. ٤٤٨ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: أخبرنا الـحجاج الأنـماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميـمون، قال: سمعت الـحسن بن دينار، قال للـحسن ونـحن جلوس عنده فـي منزله: يا أبـا سعيد أرأيت قول اللّه للـملائكة: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ ما الذي كتـمت الـملائكة؟ فقال الـحسن: إن اللّه لـما خـلق آدم رأت الـملائكة خـلقا عجيبـا، فكأنهم دخـلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلـى بعض، وأسرّوا ذلك بـينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا الـمخـلوق إن اللّه لـم يخـلق خـلقا إلا كنا أكرم علـيه منه. ٤٤٩ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وأعْلَـم ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: أسرّوا بـينهم فقالوا: يخـلق اللّه ما يشاء أن يخـلق، فلن يخـلق خـلقا إلا ونـحن أكرم علـيه منه. ٤٥٠ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: وَأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ فكان الذي أبدوا حين قالوا: أتَـجْعَلُ فِـيها مَن يُفْسِدُ فـيها وكان الذي كتـموا بـينهم قولهم: لن يخـلق ربنا خـلقا إلا كنا نـحن أعلـم منه وأكرم. فعرفوا أن اللّه فضل علـيهم آدم فـي العلـم والكرم. قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية ما قاله ابن عبـاس ، وهو أن معنى قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وأعلـم مع علـمي غيب السموات والأرض ما تظهرون بألسنتكم وَما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ وما كنتـم تـخفونه فـي أنفسكم، فلا يخفـى علـيّ شيء سواء عندي سرائركم وعلانـيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أتَـجْعَلُ فِـيها مَنْ يُفْسِدُ فِـيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَـحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ والذي كانوا يكتـمونه ما كان منطويا علـيه إبلـيس من الـخلاف علـى اللّه فـي أمره والتكبر عن طاعته لأنه لا خلاف بـين جميع أهل التأويـل أن تأويـل ذلك غير خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا. والاَخر ما ذكرنا من قول الـحسن وقتادة. ومن قال: إن معنى ذلك كتـمان الـملائكة بـينهم لن يخـلق اللّه خـلقا إلا كنا أكرم علـيه منه فإذْ كان لا قول فـي تأويـل ذلك إلا أحد القولـين اللذين وصفت ثم كان أحدهما غير موجودة علـى صحته الدلالة من الوجه الذي يجب التسلـيـم له صحّ الوجه الاَخر. فـالذي حكي عن الـحسن وقتادة ومن قال بقولهما فـي تأويـل ذلك غير موجودة الدلالة علـى صحته من الكتاب ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عبـاس يدلّ علـى صحته خبر اللّه جل ثناؤه عن إبلـيس وعصيانه إياه إذ دعاه إلـى السجود لاَدم، فأتـى واستكبر، وإظهاره لسائر الـملائكة من معصيته وكبره ما كان له كاتـما قبل ذلك. فإن ظنّ ظانّ أن الـخبر عن كتـمان الـملائكة ما كانوا يكتـمونه لـما كان خارجا مخرج الـخبر عن الـجميع كان غير جائز أن يكون ما رُوي فـي تأويـل ذلك عن ابن عبـاس ومن قال بقوله من أن ذلك خبر عن كتـمان إبلـيس الكبر والـمعصية صحيحا، فقد ظنّ غير الصواب وذلك أن من شأن العرب إذا أخبرت خبرا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه أن تـخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم: قتل الـجيش وهزموا، وإنـما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض، فتـخرج الـخبر عن الـمهزوم منه والـمقتول مخرج الـخبر عن جميعهم كما قال جل ثناؤه: إنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الـحُجُرَاتِ أكْثُرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ذكر أن الذي نادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية فـيه، كان رجلاً من جماعة بنـي تـميـم، كانوا قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عن الـجماعة، فكذلك قوله: وأعْلَـمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ أخرج الـخبر مخرج الـخبر عن الـجميع، والـمراد به الواحد منهم. ٣٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } قال أبو جعفر: أما قوله: وإذْ قُلْنَا فمعطوف علـى قوله: وَإذْ قَالَ رَبّكَ للْـمَلاَئِكَةِ كأنه قال جل ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بنـي إسرائيـل معدّدا علـيهم نعمه، ومذكرهم آلاءه علـى نـحو الذي وصفنا فـيـما مضى قبل: اذكروا فعلـي بكم إذ أنعمت علـيكم، فخـلقت لكم ما فـي الأرض جميعا، وإذ قلت للـملائكة إنـي جاعل فـي الأرض خـلـيفة، فكرّمت أبـاكم آدم بـما آتـيته من علـمي وفضلـي وكرامتـي، وإذ أسجدت له ملائكتـي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبلـيس، فدل بـاستثنائه إياه منهم علـى أنه منهم، وأنه مـمن قد أُمِرَ بـالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: إلاّ إبْلِـيسَ لَـمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبلـيس فـيـمن أمره من الـملائكة بـالسجود لاَدم. ثم استثناءه جل ثناؤه مـما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لاَدم، فأخرجه من الصفة التـي وصفهم بها من الطاعة لأمره ونَفَـى عنه ما أثبته لـملائكته من السجود لعبده آدم. ثم اختلف أهل التأويـل فـيه هل هو من الـملائكة أم هو من غيرهم؟ فقال بعضهم بـما: ٤٥١ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: كان إبلـيس من حيّ من أحياء الـملائكة، يقال لهم (الـجنّ)، خـلقوا من نار السموم من بـين الـملائكة قال: فكان اسمه الـحارث قال: وكان خازنا من خزان الـجنة قال: وخـلقت الـملائكة من نور غير هذا الـحيّ قال: وخـلقت الـجنّ الذين ذكروا فـي القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فـي طرفها إذا التهبت. ٤٥٢ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عبـاس ، قال: كان إبلـيس قبل أن يركب الـمعصية من الـملائكة اسمه عزازيـل، وكان من سكان الأرض وكان من أشدّ الـملائكة اجتهادا وأكثرهم علـما، فذلك دعاه إلـى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنّا. ٤٥٣ـ وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مـجاهد أبـي الـحجاج، عن ابن عبـاس وغيره بنـحوه، إلا أنه قال: كان ملكا من الـملائكة اسمه عزازيـل، وكان من سكان الأرض وعمّارها، وكان سكان الأرض فـيهم يسمون الـجنّ من بـين الـملائكة. ٤٥٤ـ وحدثنـي موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: جعل إبلـيس علـى ملك سماء الدنـيا، وكان من قبـيـلة من الـملائكة يقال لهم الـجنّ، وإنـما سموا الـجن لأنهم خزّان الـجنة، وكان إبلـيس مع ملكه خازنا. ٤٥٥ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : كان إبلـيس من أشراف الـملائكة وأكرمهم قبـيـلة، وكان خازنا علـى الـجنان، وكان له سلطان سماء الدنـيا، وكان له سلطان الأرض قال: قال ابن عبـاس : وقوله: كانَ منَ الـجنّ، إنـما يسمى بـالـجنان أنه كان خازنا علـيها، كما يقال للرجل: مكي، ومدنـي، وكوفـي، وبصري. قال ابن جريج: وقال آخرون: هم سبط من الـملائكة قبـيـلة، فكان اسم قبـيـلته الـجن. ٤٥٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن صالـح مولـى التوأمة وشريك بن أبـي نـمر أحدهما أو كلاهما، عن ابن عبـاس ، قال: إن من الـملائكة قبـيـلة من الـجن، وكان إبلـيس منها، وكان يسوس ما بـين السماء والأرض. وحدثت عن الـحسن بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، يقول في قوله: فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ قال: كان ابن عبـاس يقول: إن إبلـيس كان من أشرف الـملائكة وأكرمهم قبـيـلة، ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الأول سواء. ٤٥٧ـ وحدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنـي شيبـان، قال: حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، قال: كان إبْلِـيس رئيس ملائكة سماء الدنـيا. ٤٥٨ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإذْ قُلْنا للْـمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِـيسَ كَانَ مِنَ الـجِنّ كان من قبـيـل من الـملائكة يقال لهم الـجن. وكان ابن عبـاس يقول: لو لـم يكن من الـملائكة لـم يؤمر بـالسجود، وكان علـى خزانة سماء الدنـيا قال: وكان قتادة يقول: جنّ عن طاعة ربه. وحدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ قال: كان من قبـيـل من الـملائكة يقال لهم الـجنّ. ٤٥٩ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: أما العرب فـيقولون: ما الـجنّ إلا كلّ من اجتنّ فلـم يروأما قوله: إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ أي كان من الـملائكة، وذلك أن الـملائكة اجتنّوا فلـم يروا، وقد قال اللّه جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَـيْنَهُ وَبَـيْنَ الـجِنةِ نَسَبـا وَلَقدْ علـمتِ الـجنّةُ أنهم لَـمُـحْضَرُونَ وذلك لقول قريش: إن الـملائكة بنات اللّه . فـيقول اللّه : إن تكن الـملائكة بناتـي فإبلـيس منها، وقد جعلوا بـينـي وبـين إبلـيس وذرّيته نسبـا قال: وقد قال الأعشى، أعشى بنـي قـيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سلـيـمان بن داود وما أعطاه اللّه : وَلَوْ كانَ شَيْء خالِدا أوْ مُعَمّرالَكانَ سُلَـيْـمَانُ البَرِيّ مِنَ الدّهْرِ بَرَاهُ إلهي واصْطَفَـاهُ عبـادَهُوَمَلّكَهُ مَا بَـيْنَ ثُرْيَا إلـى مِصْرِ وَسَخّرَ مِنْ جِنّ الـمَلائِكِ تِسْعَةًقِـياما لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أجْرِ قال: فأبت العرب فـي لغتها إلا أن (الـجنّ) كل ما اجتنّ. يقول: ما سمي اللّه الـجن إلا أنهم اجتنوا فلـم يُرَوْا، وما سمي بنـي آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلـم يجتنّوا، فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلـم يُرَ فهو جنّ. وقال آخرون بـما: ٤٦٠ـ حدثنا به مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عوف، عن الـحسن، قال: ما كان إبلـيس من الـملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الـجن كما أن آدم أصل الإنس. ٤٦١ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الـحسن يقول في قوله: إلا إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ إلـجاءٌ إلـى نسبه، فقال اللّه : أفَتَتّـخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِـي الآية... وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. ٤٦٢ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد الـيحمدي، حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم، قال: حدثنا سوار بن الـجعد الـيحمدي، عن شهر بن حوشب قوله: مِنَ الـجِنّ قال: كان إبلـيس من الـجنّ الذين طردتهم الـملائكة، فأسره بعض الـملائكة فذهب به إلـى السماء. ٤٦٣ـ وحدثنـي علـيّ بن الـحسين، قال: حدثنـي أبو نصر أحمد بن مـحمد الـخلال، قال: حدثنـي سنـيد بن داود، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نـمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الـملائكة تقاتل الـجنّ، فسُبـي إبلـيس وكان صغيرا، فكان مع الـملائكة فتعبّد معها. فلـما أمروا بـالسجود لاَدم سجدوا، فأبى إبلـيس فلذلك قال اللّه : إلاّ إبْلِـيسَ كانَ مِنَ الـجِنّ. ٤٦٤ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: حدثنا الـمبـارك بن مـجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبداللّه بن أبـي نـمرطط، عن صالـح مولـى التوأمة، عن ابن عبـاس ، قال: إن من الـملائكة قبـيلاً يقال لهم الـجنّ، فكان إبلـيس منهم، وكان إبلـيس يسوس ما بـين السماء والأرض فعصى، فمسخه اللّه شيطانا رجيـما. ٤٦٥ـ قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبلـيس أبو الـجنّ، كما آدم أبو الإنس. وعلة من قال هذه الـمقالة، أن اللّه جل ثناؤه أخبر فـي كتابه أنه خـلق إبلـيس من نار السموم ومن مارج من نار، ولـم يخبر عن الـملائكة أنه خـلقها من شيء من ذلك. وأن اللّه جل ثناؤه أخبر أنه من الـجن. فقالوا: فغير جائز أن ينسب إلـى غير ما نسبه اللّه إلـيه. قالوا: ولإبلـيس نسل وذرّية، والـملائكة لا تتناسل ولا تتوالد. ٤٦٦ـ حدثنا مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: إن اللّه خـلق خـلقا، فقال: اسجدوا لاَدم فقالوا: لا نفعل. فبعث اللّه علـيهم نارا تـحرقهم. ثم خـلق خـلقا آخر، فقال: إنـي خالق بشرا من طين، اسجدوا لاَدم فأبوا، فبعث اللّه علـيهم نارا فأحرقتهم قال: ثم خـلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لاَدم فقالوا: نعم. وكان إبلـيس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لاَدم. قال أبو جعفر: وهذه علل تنبىء عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون اللّه جل ثناؤه خـلق أصناف ملائكته من أصناف من خـلقه شتـى، فخـلق بعضا من نور، وبعضا من نار، وبعضا مـما شاء من غير ذلك. ولـيس فـي ترك اللّه جل ثناؤه الـخبر عما خـلق منه ملائكته وإخبـاره عما خـلق منه إبلـيس ما يوجب أن يكون إبلـيس خارجا عن معناهم، إذ كان جائزا أن يكون خـلق صنفـا من ملائكته من نار كان منهم إبلـيس، وأن يكون أفرد إبلـيس بأن خـلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الـملائكة بأن كان له نسل وذرية لـما ركب فـيه من الشهوة واللذّة التـي نزعت من سائر الـملائكة لـما أراد اللّه به من الـمعصية. وأما خبر اللّه عن أنه من الـجن، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جِنّا، كما قد ذكرنا قبلُ فـي شعر الأعشى، فـيكون إبلـيس والـملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بنـي آدم. القول فـي معنى إبلـيس. قال أبو جعفر: وإبلـيس (إفعيـل) من الإبلاس: وهو الإياس من الـخير والندم والـحزن. كما: ٤٦٧ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: إبلـيس أبلسه اللّه من الـخير كله وجعله شيطانا رجيـما عقوبة لـمعصيته. ٤٦٨ـ وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي، قال: كان اسم إبلـيس الـحارث، وإنـما سمي إبلـيس حين أبلس متـحيرا. قال أبو جعفر: وكما قال اللّه جل ثناؤه: فإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ يعنـي به أنهم آيسون من الـخير، نادمون حزنا، كما قال العجاج: يا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْما مُكْرَسَاقالَ نَعَمْ أعْرِفُهُ وأبْلَسا وقال رؤبة: وَحَضَرَتْ يَوْمَ الـخَمِيسِ الأخْماسوَفِـي الوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإبْلاسْ يعنـي به اكتئابـا وكسوفـا. فإن قال لنا قائل: فإن كان إبلـيس كما قلت (إفعيـل) من الإبلاس، فهلاّ صرف وأُجري؟ قـيـل: ترك إجراؤه استثقالاً إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التـي لا تـجري، وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلـم يجروه، وهو من أسحقه اللّه إسحاقا، إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مـجراه، وهو من أسماء العجم فـي الإعراب، فلـم يصرف. وكذلك أيوب إنـما هو فـيعول من آب يئوب. وتأويـل قوله: أبى يعنـي جل ثناؤه بذلك إبلـيس أنه امتنع من السجود لاَدم فلـم يسجد له. واستكبر يعنـي بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة اللّه فـي السجود لاَدم. وهذا وإن كان من اللّه جل ثناؤه خبرا عن إبلـيس، فإنه تقريع لضربـائه من خـلق اللّه الذين يتكبرون عن الـخضوع لأمر اللّه والانقـياد لطاعته فـيـما أمرهم به وفـيـما نهاهم عنه، والتسلـيـم له فـيـما أوجب لبعضهم علـى بعض من الـحقّ. وكان مـمن تكبر عن الـخضوع لأمر اللّه والتذلل لطاعته والتسلـيـم لقضائه فـيـما ألزمهم من حقوق غيرهم الـيهودُ الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأحبـارهم الذين كانوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصفته عارفـين وبأنه للّه رسول عالـمين، ثم استكبروا مع علـمهم بذلك عن الإقرار بنبوّته والإذعان لطاعته، بغيا منهم له وحسدا، فقرّعهم اللّه بخبره عن إبلـيس الذي فعل فـي استكبـاره عن السجود لاَدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم فـي التكبر عن الإذعان لـمـحمد نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته، إذ جاءهم بـالـحقّ من عند ربهم حسدا وبغيا. ثم وصف إبلـيس بـمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلاً فـي الاستكبـار والـحسد والاستنكاف عن الـخضوع لـمن أمره اللّه بـالـخضوع له، فقال جل ثناؤه: وكان يعنـي إبلـيس من الكافرين من الـجاحدين نعم اللّه علـيه وأياديه عنده بخلافه علـيه فـيـما أمره به من السجود لاَدم، كما كفرت الـيهود نعم ربها التـي آتاها وآبـاءها قبل: من إطعام اللّه أسلافهم الـمنّ والسلوى، وإظلال الغمام علـيهم وما لا يحصى من نعمه التـي كانت لهم، خصوصا ما خصّ الذين أدركوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة اللّه علـيهم فجحدت نبوّته بعد علـمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدا وبغيا. فنسبه اللّه جل ثناؤه إلـى الكافرين، فجعله من عدادهم فـي الدين والـملة، وإن خالفهم فـي الـجنس والنسبة، كما جعل أهل النفـاق بعضهم من بعض لاجتـماعهم علـى النفـاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: الـمُنافِقُونَ والـمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعنـي بذلك أن بعضهم من بعض فـي النفـاق والضلال، فكذلك قوله فـي إبلـيس: كانَ مِنَ الكَافِرِينَ كان منهم فـي الكفر بـاللّه ومخالفته أمره وإن كان مخالفـا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم. ومعنى قوله: وكانَ مِنَ الكَافِرينَ أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ. وقد رُوي عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية أنه كان يقول فـي تأويـل قوله: وكانَ مِنَ الكافِرِينَ فـي هذا الـموضع وكان من العاصين. ٤٦٩ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وكانَ مِنَ الكافِرِينَ يعنـي العاصين. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله. وذلك شبـيه بـمعنى قولنا فـيه. وكان سجود الـملائكة لاَدم تكرمة لاَدم وطاعة للّه، لا عبـادة لاَدم. كما: ٤٧٠ـ حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإذْ قُلْنَا للْـمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فكانت الطاعة للّه، والسجدة لاَدم، أكرم اللّه آدم أن أسجد له ملائكته. ٣٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ .....} قال أبو جعفر: وفـي هذه الآية دلالة واضحة علـى صحة قول من قال: إن إبلـيس أخرج من الـجنة بعد الاستكبـار عن السجود لاَدم، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبلـيس إلـى الأرض ألا تسمعون اللّه جل ثناؤه يقول: وَقُلْنَا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنةَ وكلا مِنْهَا رَغدا حَيْثُ شِئْتُـمَا وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ فأزَلّهُما الشّيْطانُ عَنْها فأخْرَجَهُما مِـمّا كانا فِـيهِ. فقد تبـين أن إبلـيس إنـما أزلّهما عن طاعة اللّه ، بعد أن لُعن وأظهر التكبر لأن سجود الـملائكة لاَدم كان بعد أن نفخ فـيه الروح، وحينئذٍ كان امتناع إبلـيس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلت علـيه اللعنة. كما: ٤٧١ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أن عدوّ اللّه إبلـيس أقسم بعزّة اللّه لـيغوينّ آدم وذريته وزوجه، إلا عبـاده الـمخـلصين منهم، بعد أن لعنه اللّه ، وبعد أن أخرج من الـجنة، وقبل أن يهبط إلـى الأرض، وعلّـم اللّه آدم الأسماء كلها. ٤٧٢ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما فرغ اللّه من إبلـيس ومعاتبته، وأبى إلا الـمعصية، وأوقع علـيه اللعنة، ثم أخرجه من الـجنة أقبل علـى آدم وقد علّـمه الأسماء كلها، فقال: يا آدَمُ أنْبئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ إلـى قوله: إنكَ أنْتَ العَلِـيـم الـحَكِيـم. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـحال التـي خـلقت لاَدم زوجته والوقت الذي جعلت له سكنا. فقال ابن عبـاس بـما: ٤٧٣ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فأخرج إبلـيس من الـجنة حين لعن، وأسكن آدم الـجنة، فكان يـمشي فـيها وَحْشا لـيس له زوج يسكن إلـيها. فنام نومة فـاستـيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خـلقها اللّه من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة، قال: ولـم خـلقت؟ قالت: تسكن إلـيّ. قالت له الـملائكة ينظرون ما بلغ علـمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء، قالوا: ولـم سميت حوّاء؟ قال: لأنها خُـلقت من شيء حيّ. فقال اللّه له: يا آدَمَ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا. فهذا الـخبر ينبىء عن أن حوّاء خـلقت بعد أن سكن آدم الـجنة فجُعلت له سكنا. وقال آخرون: بل خـلقت قبل أن يسكن آدم الـجنة. ذكر من قال ذلك: ٤٧٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، قال: لـما فرغ اللّه من معاتبة إبلـيس أقبل علـى آدم وقد علـمه الأسماء كلها، فقال: يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ إلـى قوله: إنّكَ أَنْتَ العَلِـيـمُ الـحَكِيـمُ قال: ثم ألقـى السّنة علـى آدم فـيـما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلـم، عن عبد اللّه بن عبـاس وغيره ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لـحما وآدم نائم لـم يهبّ من نومته حتـى خـلق اللّه من ضلعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأة لـيسكن إلـيها. فلـما كشف عنه السنة وهبّ من نومته رآها إلـى جنبه، فقال فـيـما يزعمون واللّه أعلـم: لـحمي ودمي وزوجتـي. فسكن إلـيها. فلـما زوّجه اللّه تبـارك وتعالـى وجعل له سكنا من نفسه، قال له، فتلا: يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَجُكَ الـجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا وَلاَ تَقْرَبـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ. قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل زوجه وزوجته، والزوجة بـالهاء أكثر فـي كلام العرب منها بغير الهاء، والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزد شنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فـيه بـين العرب فهو زوج الـمرأة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا. قال أبو جعفر: أما الرغد، فإنه الواسع من العيش، الهنـيء الذي لا يعنـي صاحبه، يقال: أرغد فلان: إذا أصاب واسعا من العيش الهنـيء، كما قال امرؤ القـيس بن حجر: بَـيْنَـمَا الـمَرْؤُ تَرَاهُ ناعِمايَأمَنُ الأحْدَاثَ فِـي عَيْش رَغَدْ ٤٧٥ـ وحدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا قال: الرغد: الهنـيء. ٤٧٦ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: رَغَدا قال: لا حساب علـيهم. وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد: وكُلا مِنْهَا رَغَدا أي لا حساب علـيهم. ٤٧٧ـ وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وكُلا مِنْها رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـمَا قال: الرغد: سعة الـمعيشة. فمعنى الآية: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الـجنة، وكلا من الـجنة رزقا واسعا هنـيئا من العيش حيث شئتـما. كما: ٤٧٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: يا آدَم اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُـما ثم إن البلاء الذي كتب علـى الـخـلق كتب علـى آدم كما ابتُلـي الـخـلق قبله أن اللّه جل ثناؤه أحلّ له ما فـي الـجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء غير شجرة واحدة نُهي عنها. وقدم إلـيه فـيها، فما زال به البلاء حتـى وقع بـالذي نُهي عنه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبـا هَذِهِ الشجرَةَ. قال أبو جعفر: والشجر فـي كلام العرب: كل ما قام علـى ساق، ومنه قول اللّه جل ثناؤه: وَالنّـجمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ يعنـي بـالنـجم: ما نـجم من الأرض من نبت. وبـالشجر: ما استقلّ علـى ساق. ثم اختلف أهل التأويـل فـي عين الشجرة التـي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم هي السنبلة. ذكر من قال ذلك: ٤٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي قال: حدثنا عبد الـحميد الـحمانـي، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: الشجرة التـي نُهي عن أكل ثمرها آدمُ هي السنبلة. ٤٨٠ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، حدثنا هشيـم، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عتـيبة جميعا، عن حصين، عن أبـي مالك في قوله: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: هي السنبلة. وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قالا جميعا: حدثنا سفـيان عن حصين عن أبـي مالك، مثله. ٤٨١ـ وحدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبـي عن عطية في قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: السنبلة. ٤٨٢ـ وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة قال: الشجرة التـي نُهي عنها آدم هي السنبلة. ٤٨٣ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنـي رجل من بنـي تـميـم أن ابن عبـاس كتب إلـى أبـي الـجَلْد يسأله عن الشجرة التـي أكل منها آدم والشجرة التـي تاب عندها، فكتب إلـيه أبو الـجلد: سألتنـي عن الشجرة التـي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة. وسألتنـي عن الشجرة التـي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة. وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلـم، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، أنه كان يقول: الشجرة التـي نُهي عنها آدم: البُرّ. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة. وابن الـمبـارك، عن الـحسن بن عمارة، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: كانت الشجرة التـي نُهي اللّه عنها آدم وزوجته السنبلة. ٤٨٤ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة. عن ابن إسحاق، عن بعض أهل الـيـمن، عن وهب بن منبه الـيـمانـي أنه كان يقول: هي البرّ ولكن الـحبة منها فـي الـجنة ككُلَـى البقر ألـين من الزبد وأحلـى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ. ٤٨٥ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حدث أنها الشجرة التـي تـحتكّ بها الـملائكة للـخُـلْد. ٤٨٦ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يـمان عن جابر بن يزيد بن رفـاعة، عن مـحارب بن دثار قال: هي السنبلة. ٤٨٧ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن، قال: هي السنبلة التـي جعلها اللّه رزقا لولده فـي الدنـيا. قال أبو جعفر، وقال آخرون: هي الكرمة. ذكر من قال ذلك: ٤٨٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن إسرائيـل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عبـاس ، قال: هي الكرمة. ٤٨٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي، فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: هي الكرمة. وتزعم الـيهود أنها الـحنطة. ٤٩٠ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الشجرة هي الكرم. ٤٩١ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن الشعبـي، عن جعدة بن هبـيرة، قال: هو العنب في قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنـي أبـي، عن خلاد الصفـار، عن بـيان، عن الشعبـي، عن جعدة بن هبـيرة: وَلا تَقْرَبـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: الكرم. وحدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنـي الـحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بـيان، عن الشعبـي، عن جعدة بن هبـيرة: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: الكرم. ٤٩٢ـ وحدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي، عن جعدة بن هبـيرة، قال: الشجرة التـي نُهي عنها آدم: شجرة الـخمر. ٤٩٣ـ وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا عبـاد بن العوّام، قال: حدثنا سفـيان بن حسين، عن يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير قوله: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ قال: الكرم. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، قال: العنب. ٤٩٤ـ وحدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن قـيس، قال: عنب. وقال آخرون: هي التّـينة. ذكر من قال ذلك: ٤٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن بعض أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: تـينة. قال أبو جعفر: والقول فـي ذلك عندنا أن اللّه جل ثناؤه أخبر عبـاده أن آدم وزوجته أكلا من الشجرة التـي نهاهما ربهما عن الأكل منها، فأتـيا الـخطيئة التـي نهاهما عن إتـيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بـين اللّه جل ثناؤه لهما عين الشجرة التـي نهاهما عن الأكل منها وأشار لهما إلـيها بقوله: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ. ولـم يضع اللّه جل ثناؤه لعبـاده الـمخاطبـين بـالقرآن دلالة علـى أي أشجار الـجنة كان نهيه آدم أن يقربها بنصّ علـيها بـاسمها ولا بدلالة علـيها. ولو كان للّه فـي العلـم بأيّ ذلك من أي رضا لـم يُخْـلِ عبـادَه من نصب دلالة لهم علـيها يصلون بها إلـى معرفة عينها، لـيطيعوه بعلـمهم بها، كما فعل ذلك فـي كل ما بـالعلـم به له رضا. فـالصواب فـي ذلك أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الـجنة دون سائر أشجارها، فخالفـا إلـى ما نهاهما اللّه عنه، فأكلا منها كما وصفهما اللّه جل ثناؤه به. ولا علـم عندنا أي شجرة كانت علـى التعيـين، لأن اللّه لـم يضع لعبـاده دلـيلاً علـى ذلك فـي القرآن ولا فـي السنة الصحيحة، فأنى يأتـي ذلك من أتـى؟ وقد قـيـل: كانت شجرة البرّ. وقـيـل: كانت شجرة العنب. وقـيـل: كانت شجرة التـين. وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك إن علـمه عالـم لـم ينفع العالـم به علـمه، وإن جهله جاهل لـم يضرّه جهله به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ. قال أبو جعفر: اختلف أهل العربـية فـي تأويـل قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ فقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: تأويـل ذلك: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ فإنكما إن قربتـماها كنتـما من الظالـمين. فصار الثانـي فـي موضع جواب الـجزاء، وجواب الـجزاء يعمل فـيه أوّله كقولك: إن تقم أقم، فتـجزم الثانـي بجزم الأول. فكذلك قوله: فتكونا لـما وقعت الفـاء فـي موضع شرط الأول نصب بها، وصيرت بـمنزلة (كي) فـي نصبها الأفعال الـمستقبلة للزومها الاستقبـال، إذ كان أصل الـجزاء الاستقبـال. وقال بعض نـحويـي أهل البصرة: تأويـل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالـمين. غير أنه زعم أنّ (أن) غير جائز إظهارها مع (لا)، ولكنها مضمرة لا بد منها لـيصح الكلام بعطف اسم وهي (أن) علـى الاسم، كما غير جائز في قولهم (عسى أن يفعل). عسى الفعل، ولا فـي قولك: (ما كان لـيفعل). ما كان لأن يفعل. وهذا القول الثانـي يفسده إجماع جميعهم علـى تـخطئة قول القائل: سرّنـي تقوم يا هذا، وهو يريد: سرّنـي قـيامك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ علـى هذا الـمذهب قول القائل: لا تقم، إذا كان الـمعنى: لا يكن منك قـيام. وفـي إجماع جميعهم علـى صحة قول القائل: لا تقم، وفساد قول القائل: سرّنـي تقوم بـمعنى سرّنـي قـيامك، الدلـيـل الواضح علـى فساد دعوى الـمدعي أن مع (لا) التـي في قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا هَذِهِ الشّجَرَةَ ضمير (أن)، وصحة القول الاَخر. وفي قوله: فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ وجهان من التأويـل: أحدهما أن يكون (فتكونا) فـي نـية العطف علـى قوله: وَلاَ تَقْرَبَـا فـيكون تأويـله حينئذ: ولا تقربـا هذه الشجرة، ولا تكونا من الظالـمين. فـيكون (فتكونا) حينئذ فـي معنى الـجزم مـجزوم بـما جزم به وَلاَ تَقْرَبَـا، كما يقول القائل: لا تكلـم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القـيس: فَقُلْتُ لَهُ صَوّبْ وَلاَ تَـجْهَدَنّهُفَـيُذْرِكَ مِنْ أُخْرَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ فجزم (فـيذرك) بـما جزم به (لا تـجهدنه)، كأنه كرر النهي. والثانـي أن يكون: فتكونَا منَ الظالـمينَ بـمعنى جواب النهي، فـيكون تأويـله حينئذ: لا تقربـا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتـماها كنتـما من الظالـمين كما تقول: لا تشتـم عمرا فـيشتـمك مـجازاة. فـيكون (فتكونا) حينئذ فـي موضع نصب إذ كان حَرْفَ عطف علـى غير شكله لـمّا كان فـي ولا تقْربَـا حرف عامل فـيه، ولا يصلـح إعادته فـي (فتكونا)، فنصب علـى ما قد بـينت فـي أول هذه الـمسألة. وأما تأويـل قوله: فَتَكُونَا مِنَ الظّالِـمِينَ فإنه يعنـي به فتكونا من الـمتعدّين إلـى غير ما أذن لهم وأبـيح لهم فـيه. وإنـما عنى بذلك أنكما إن قربتـما هذه الشجرة كنتـما علـى منهاج من تعدّى حدودي وعصى أمري واستـحلّ مـحارمي لأن الظالـمين بعضهم أولـياء بعض، واللّه ولـيّ الـمتقـين. وأصل الظلـم فـي كلام العرب وضع الشيء فـي غير موضعه ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: إلا أُلاوَارِيّ لأْيا ما أُبَـيّنُهاوَالنّؤْيُ كالـحَوْضِ بـالـمَظْلُومَةِ الـجَلَدِ فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فـيها النوى حفر فـي غير موضع الـحفر، فجعلها مظلومة لوضع الـحفرة منها فـي غير موضعها. ومن ذلك قول ابن قميئة فـي صفة غيث: ظَلَـمَ البِطَاحَ بِها انْهلالُ حَرِيصَةٍفَصَفـا النّطافُ لَهُ بُعَيْدَ الـمُقْلَعِ وظلـمه إياه: مـجيئه فـي غير أوانه، وانصبـابه فـي غير مصبه. ومنه: ظلـم الرجل جَزوره، وهو نـحره إياه لغير علة وذلك عند العرب: وضع النـحر فـي غير موضعه. وقد يتفرع الظلـم فـي معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبـينها فـي أماكنها إذا أتـينا علـيها إن شاء اللّه تعالـى وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء فـي غير موضعه. ٣٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ و.......} قال أبو جعفر: اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك فقرأته عامتهم: فأزلّهما بتشديد اللام، بـمعنى استزلهما من قولك: زلّ الرجل فـي دينه: إذا هفـا فـيه وأخطأ فأتـى ما لـيس له إتـيانه فـيه، وأزلّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من آجله فـي دينه أو دنـياه. ولذلك أضاف اللّه تعالـى ذكره إلـى إبلـيس خروج آدم وزوجته من الـجنة فقال: فأخْرَجَهُما يعنـي إبلـيس مِـمّا كانا فِـيهِ لأنه كان الذي سبب لهما الـخطيئة التـي عاقبهما اللّه علـيها بإخراجهما من الـجنة. وقرأه آخرون: (فأزالهما)، بـمعنى إزالة الشيء عن الشيء، وذلك تنـحيته عنه. وقد رُوي عن ابن عبـاس فـي تأويـل قوله فأزَلّهما ما: ٤٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: قال: قال ابن عبـاس فـي تأويـل قوله تعالى: فأزَلّهُما الشّيطان قال: أغواهما. وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: فأزَلّهُما لأن اللّه جل ثناؤه قد أخبر فـي الـحرف الذي يتلوه بأن إبلـيس أخرجهما مـما كانا فـيه، وذلك هو معنى قوله فأزالهما، فلا وجه إذ كان معنى الإزالة معنى التنـحية والإخراج أن يقال: (فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مـما كانا فـيه)، فـيكون كقوله: (فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مـما كانا فـيه)، ولكن الـمعنى الـمفهوم أن يقال: فـاستزلهما إبلـيس عن طاعة اللّه ، كما قال جل ثناؤه: فأزلّهُما الشّيْطانُ وقرأت به القراء، فأخرجهما بـاستزلاله إياهما من الـجنة. فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبلـيس آدم وزوجته حتـى أضيف إلـيه إخراجهما من الـجنة؟ قـيـل: قد قالت العلـماء فـي ذلك أقوالاً سنذكر بعضها. فحكي عن وهب بن منبه فـي ذلك ما: ٤٩٧ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرب، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لـما أسكن اللّه آدم وذرّيته، أو زوجته، الشك من أبـي جعفر، وهو فـي أصل كتابه: وذرّيته ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها فـي بعض، وكان لها ثمر تأكله الـملائكة لـخـلدهم، وهي الثمرة التـي نهى اللّه آدم عنها وزوجته. فلـما أراد إبلـيس أن يستزلهما دخـل فـي جوف الـحية، وكانت للـحية أربع قوائم كأنها بُخْتـية من أحسن دابة خـلقها اللّه . فلـما دخـلت الـحية الـجنة، خرج من جوفها إبلـيس، فأخذ من الشجرة التـي نهى اللّه عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلـى حوّاء، فقال: انظري إلـى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها فأخذت حوّاء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلـى آدم، فقالت: انظر إلـى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخـل آدم فـي جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب، قال: ألا تـخرج: قال: أستـحيـي منك يا ربّ، قال: ملعونة الأرض التـي خـلقت منها لعنة يتـحوّل ثمرها شوكا قال: ولـم يكن فـي الـجنة ولا فـي الأرض شجرة كان أفضل من الطلـح والسدر ثم قال: يا حوّاء أنت التـي غررت عبدي، فإنك لا تـحملـين حملاً إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما فـي بطنك أشرفت علـى الـموت مرارا وقال للـحية: أنت التـي دخـل الـملعون فـي جوفك حتـى غرّ عبدي، ملعونة أنت لعنة تتـحوّل قوائمك فـي بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بنـي آدم وهم أعداؤك حيث لقـيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقـيك شدخ رأسك. قال عمر: قـيـل لوهب: وما كانت الـملائكة تأكل؟ قال: يفعل اللّه ما يشاء. ورُوي عن ابن عبـاس نـحو هذه القصة. ٤٩٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: لـما قال اللّه لاَدم: اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الـجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شئْتُـما وَلا تَقْرَبَـا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِـمِينَ أراد إبلـيس أن يدخـل علـيهما الـجنة فمنعته الـخزنة، فأتـى الـحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدوابّ، فكلـمها أن تدخـله فـي فمها حتـى تدخـل به إلـى آدم، فأدخـلته فـي فمها، فمرّت الـحية علـى الـخزنة فدخـلت ولا يعلـمون لـما أراد اللّه من الأمر، فكلـمه من فمها فلـم يبـال بكلامه، فخرج إلـيه فقال: يا آدم هَلْ أَدُلّكَ علـى شَجَرَةِ الـخُـلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَـى يقول: هل أدلك علـى شجرة إن أكلت منها كنت ملكا مثل اللّه عزّ وجل، أو تكونا من الـخالدين فلا تـموتان أبدا. وحلف لهما بـاللّه إنـي لَكُمَا لَـمِنَ النّاصِحِينَ. وإنـما أراد بذلك لـيبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما بهتك لبـاسهما. وكان قد علـم أن لهما سوأة لـما كان يقرأ من كتب الـملائكة، ولـم يكن آدم يعلـم ذلك، وكان لبـاسهما الظفر. فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حوّاء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل فإنـي قد أكلت فلـم يضرّنـي. فلـما أكل آدم بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهما وَطَفِقَا يَخْصِفـانِ عَلَـيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الـجَنّةِ. ٤٩٩ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: حدثنـي مـحدّث أن الشيطان دخـل الـجنة فـي صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير قال: فلعن فسقطت قوائمه، فصار حية. ٥٠٠ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: وحدثنـي أبو العالـية أن من الإبل ما كان أولها من الـجنّ، قال: فأبـيحت له الـجنة كلها إلا الشجرة، وقـيـل لهما: لا تَقْرَبـا هذهِ الشّجرَةَ فتكُونا منَ الظالـمينَ قال: فأتـى الشيطان حوّاء فبدأ بها فقال: أنهيتـما عن شيء؟ قالت: نعم، عن هذه الشجرة. فقال: ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الـخالِدِينَ قال: فبدأت حوّاء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها قال: وكانت شجرة من أكل منها أحدث قال: ولا ينبغي أن يكون فـي الـجنة حدث قال: فأزَلّهُما الشّيْطَانُ عَنْها فأخْرجَهُما مِـمّا كانَا فِـيهِ قال: فـاخرج آدم من الـجنة. ٥٠١ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن آدم حين دخـل الـجنة ورأى ما فـيها من الكرامة وما أعطاه اللّه منها، قال: لو أن خُـلْدا كان فـاغتنـمها منه الشيطان لـما سمعها منه، فأتاه من قِبَل الـخُـلْد. ٥٠٢ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثت أن أوّل ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح علـيهما نـياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي علـيكما تـموتان فتفـارقان ما أنتـما فـيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك فـي أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إلـيهما، فقال: يا آدمَ هَلْ أدُلّكَ عَلـى شَجَرَةِ الـخُـلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَـى وقال: مَا نَهاكُما رَبّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الـخالِدِينَ وقاسَمَهُما إنّـي لَكُما لـمِنَ النّاصِحِينَ أي تكونا ملكين أو تـخـلدا إن لـم تكونا ملكين فـي نعمة الـجنة فلا تـموتان، يقول اللّه جل ثناؤه: فَدَلاّهُما بِغُرُورٍ. ٥٠٣ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلـى حوّاء فـي الشجرة حتـى أتـى بها إلـيها، ثم حسّنها فـي عين آدم قال: فدعاها آدم لـحاجته، قالت: لا، إلا أن تأتـي ههنا. فلـما أتـى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال: فأكلا منها فبدت لـما سوآتهما قال: وذهب آدم هاربـا فـي الـجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنـي تفرّ؟ قال: لا يا ربّ، ولكن حياءً منك قال: يا آدم أنّى أُتـيت؟ قال: من قبل حوّاء أي ربّ. فقال اللّه : فإن لها علـيّ أن أدميها فـي كل شهر مرة كما أدميت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفـيهة، فقد كنت خـلقتها حلـيـمة، وأن أجعلها تـحمل كرها وتضع كرها، فقد كنت جعلتها تـحمل يسرا وتضع يسرا. قال ابن زيد: ولولا البلـية التـي أصابت حوّاء لكان نساء الدنـيا لا يحضن، ولكنّ حلـيـمات، وكنّ يحملن يُسْرا ويضعن يُسْرا. ٥٠٤ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن سعيد بن الـمسيب، قال: سمعته يحلف بـاللّه ما يستثنـي ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حوّاء سقته الـخمر حتـى إذا سكر قادته إلـيها فأكل. ٥٠٥ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن لـيث بن أبـي سلـيـم، عن طاوس الـيـمانـي، عن ابن عبـاس ، قال: إن عدوّ اللّه إبلـيس عرض نفسه علـى دوابّ الأرض أنها تـحمله حتـى يدخـل الـجنة معها، ويكلـم آدم وزوجته، فكل الدوابّ أبى ذلك علـيه، حتـى كلـم الـحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت فـي ذمتـي إن أنت أدخـلتنـي الـجنة فجعلته بـين نابـين من أنـيابها، ثم دخـلت به. فكلـمهما من فـيها، وكانت كاسية تـمشي علـى أربع قوائم، فأعراها اللّه ، وجعلها تـمشي علـى بطنها قال: يقول ابن عبـاس : اقتلوها حيث وجدتـموها، اخفروا ذمة عدوّ اللّه فـيها. ٥٠٦ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرسون: إنـما كلّـم آدم الـحية، ولـم يفسروا كتفسير ابن عبـاس . ٥٠٧ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن قـيس، قال: نهى اللّه آدم وحوّاء أن يأكلا من شجرة واحدة فـي الـجنة ويأكلا منها رغدا حيث شاآ. فجاء الشيطان فدخـل فـي جوف الـحية، فكلـم حواء، ووسوس الشيطان إلـى آدم، فقال: ما نَهاكُما رَبكُما عَنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الـخالِدِينَ وَقَاسَمَهُما إنّـي لَكُما لـمِنَ النّاصِحِينَ قال: فعضت حواء الشجرة، فدميت الشجرة وسقط عنهما رياشهما الذي كان علـيهما وَطَفِقا يَخْصِفـانِ عَلَـيْهِما منْ وَرَقِ الـجَنةِ وَنادَاهُما رَبهُما ألَـمْ أنْهَكُما عَنْ تلْكُما الشجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنّ الشّيْطانَ لَكُما عَدوّ مُبـينٌ لـم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا ربّ أطعمتنـي حوّاء. قال لـحوّاء: لـم أطعمته؟ قالت: أمرتنـي الـحية. قال للـحية: لـم أمرتها؟ قالت: أمرنـي إبلـيس قال: ملعون مدحور أما أنت يا حوّاء فكما أدميت الشجرة فتَدْمين فـي كل هلالوأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتـمشين جريا علـى وجهك، وسيشدخ رأسك من لقـيك بـالـحجر اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ. قال أبو جعفر: وقد رويت هذه الأخبـار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم فـي صفة استزلال إبلـيس عدوّ اللّه آدم وزوجته حتـى أخرجهما من الـجنة. وأولـى ذلك بـالـحقّ عندنا، ما كان لكتاب اللّه موافقا، وقد أخبر اللّه تعالـى ذكره عن إبلـيس أنه وسوس لاَدم وزوجته لـيبدي لهما ما وورى عنهما من سوآتهما، وأنه قال لهما: ما نَهاكُما رَبّكُما عَنْ هَذِهِ الشجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونَا مِنَ الـخالِدِينَ وأنه قاسمهما إنـي لكما لـمن الناصحين مدلّـيا لهما بغرور. ففـي إخبـاره جل ثناؤه عن عدوّ اللّه أنه قاسم آدم وزوجته بقـيـله لهما: إنّـي لَكُما لـمِنَ الناصِحِينَ الدلـيـل الواضح علـى أنه قد بـاشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرا لأعينهما، وإما مستـجنّا فـي غيره. وذلك أنه غير معقول فـي كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانا فـي كذا وكذا، إذا سبب له سببـا وصل به إلـيه دون أن يحلف له. والـحلف لا يكون بتسبب السبب، فكذلك قوله: فوسوس إلـيه الشيطان، لو كان ذلك كان منه إلـى آدم علـى نـحو الذي منه إلـى ذريته من تزيـين أكل ما نهى اللّه آدم عن أكله من الشجرة بغير مبـاشرة خطابه إياه بـما استزله به من القول والـحيـل، لـما قال جل ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إنّـي لَكُمَا لَـمِنَ النّاصِحِينَ كما غير جائز أن يقول الـيوم قائل مـمن أتـى معصية: قاسمنـي إبلـيس أنه لـي ناصح فـيـما زين لـي من الـمعصية التـي أتـيتها، فكذلك الذي كان من آدم وزوجته لو كان علـى النـحو الذي يكون فـيـما بـين إبلـيس الـيوم وذرية آدم لـمّا قال جل ثناؤه: وَقَاسَمَهُما إنّـي لَكُما لَـمِنَ الناصِحِينَ ولكن ذلك كان إن شاء اللّه علـى نـحو ما قال ابن عبـاس ومن قال بقوله. فأما سبب وصوله إلـى الـجنة حتـى كلـم آدم بعد أن أخرجه اللّه منها وطرده عنها، فلـيس فـيـما رُوي عن ابن عبـاس ووهب بن منبه فـي ذلك معنى يجوز لذي فهم مدافعته، إذ كان ذلك قولاً لا يدفعه عقلٌ ولا خبرٌ يـلزم تصديقه من حجة بخلافه، وهو من الأمور الـمـمكنة. والقول فـي ذلك أنه قد وصل إلـى خطابهما علـى ما أخبرنا اللّه جل ثناؤه، ومـمكن أن يكون وصل إلـى ذلك بنـحو الذي قاله الـمتأوّلون بل ذلك إن شاء اللّه كذلك لتتابع أقوال أهل التأويـل علـى تصحيح ذلك، وإن كان ابن إسحاق قد قال فـي ذلك ما: ٥٠٨ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق فـي ذلك، واللّه أعلـم، كما قال ابن عبـاس وأهل التوراة: أنه خـلص إلـى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل اللّه له لـيبتلـي ب.ه آدم وذريته، وأنه يأتـي ابن آدم فـي نومته وفـي يقظته، وفـي كل حال من أحواله، حتـى يخـلص إلـى ما أراد منه حتـى يدعوه إلـى الـمعصية، ويوقع فـي نفسه الشهوة وهو لا يراه، وقد قال اللّه : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيْطانُ فأخْرَجُهُما مِـما كانا فِـيهِ وقال: يا بَنِـي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطانُ كَما أخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الـجَنّةِ يَنْزِع عَنْهُما لِبـاسَهُما لِـيُريَهُما سوآتِهِما إنه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِـيـلُه مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنا جَعَلْنَا الشياطينَ أوْلِـياءَ للذينَ لا يُؤْمِنْونَ وقد قال اللّه لنبـيه علـيه الصلاة والسلام: قُلْ أعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ إلـى آخر السورة. ثم ذكر الأخبـار التـي رويت عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مـجرَى الدّمِ) قال ابن إسحاق: وإنـما أمر ابن آدم فـيـما بـينه وبـين عدوّ اللّه ، كأمره فـيـما بـينه وبـين آدم، فقال اللّه : اهْبِطْ مِنْها فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فِـيها فـاخْرُجْ إنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ. ثم خـلص إلـى آدم وزوجته حتـى كلـمهما، كما قصّ اللّه علـينا من خبرهما، قال: فَوَسْوَسَ إلَـيْهِ الشّيْطَانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أدُلّكَ علـى شَجَرَةِ الـخُـلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَـى فخـلص إلـيهما بـما خـلص إلـى ذريته من حيث لا يريانه، واللّه أعلـم أي ذلك كان فتابـا إلـى ربهما. قال أبو جعفر: ولـيس فـي يقـين ابن إسحاق لو كان قد أيقن فـي نفسه أن إبلـيس لـم يخـلص إلـى آدم وزوجته بـالـمخاطبة بـما أخبر اللّه عنه أنه قال لهما وخاطبهما به ما يجوز لذي فهم الاعتراض به علـى ما ورد من القول مستفـيضا من أهل العلـم مع دلالة الكتاب علـى صحة ما استفـاض من ذلك بـينهم، فكيف بشكه؟ واللّه نسأل التوفـيق. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فأخْرَجَهُما مِـمّا كانا فِـيه. قال أبو جعفر: وأما تأويـل قوله: فأخْرَجَهُما فإنه يعنـي: فأخرج الشيطان آدم وزوجته مـما كانا، يعنـي مـما كان فـيه آدم وزوجته من رغد العيش فـي الـجنة، وسعة نعيـمها الذي كانا فـيه. وقد بـينا أن اللّه جل ثناؤه إنـما أضاف إخراجهما من الـجنة إلـى الشيطان، وإن كان اللّه هو الـمخرج لهما لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، وأضيف ذلك إلـيه لتسبـيبه إياه كما يقول القائل لرجل وصل إلـيه منه أذى حتـى تـحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: ما حوّلنـي من موضعي الذي كنت فـيه إلا أنت، ولـم يكن منه له تـحويـل، ولكنه لـما كان تـحوّله عن سبب منه جاز له إضافة تـحويـله إلـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ. قال أبو جعفر: يقال: هبط فلان أرض كذا ووادي كذا: إذا حلّ ذلك كما قال الشاعر: ما زِلْتُ أرْمُقُهُمْ حَتّـى إذَا هَبَطَتْأيْدِي الرّكابِ بِهِمْ مِنْ رَاكسٍ فَلَقا وقد أبـان هذا القول من اللّه جل ثناؤه عن صحة ما قلنا من أن الـمخرج آدم من الـجنة هو اللّه جل ثناؤه، وأن إضافة اللّه إلـى إبلـيس ما أضاف إلـيه من إخراجهما كان علـى ما وصفنا. ودل بذلك أيضا علـى أن هبوط آدم وزوجته وعدوّهما إبلـيس كان فـي وقت واحد. بجَمْعِ اللّه إياهم فـي الـخبر عن إهبـاطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبب إبلـيس ذلك لهما، علـى ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم. وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى بقوله: اهْبِطُوا مع إجماعهم علـى أن آدم وزوجته مـمن عُنـي به. ٥٠٩ـ فحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبـي عوانة، عن إسماعيـل بن سالـم، عن أبـي صالـح: اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم، وحوّاء، وإبلـيس، والـحية. ٥١٠ـ حدثنا ابن وكيع وموسى بن هارون، قالا: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: فلعن الـحية وقطع قوائمها وتركها تـمشي علـى بطنها وجعل رزقها من التراب، وأهبط إلـى الأرض آدم وحوّاء وإبلـيس والـحية. ٥١١ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم، وإبلـيس، والـحية. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: اهْبِطُوا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ آدم، وإبلـيس، والـحية، ذرية بعضهم أعداء لبعض. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم وذريته، وإبلـيس وذريته. ٥١٢ـ وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم بن أبـي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: بَعُضكُمْ لبَعْضٍ عَدُوّ قال: يعنـي إبلـيس، وآدم. ٥١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، عن إسرائيـل، عن السدي، عمن حدثه عن ابن عبـاس في قوله: اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: بعضهم عدوّ آدم، وحوّاء، وإبلـيس، والـحية. وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنـي عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيـل، عن إسماعيـل السدي، قال: حدثنـي من سمع ابن عبـاس يقول: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال: آدم، وحوّاء، وإبلـيس، والـحية. ٥١٤ـ وحدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: اهْبِطُوا بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال: لهما ولذرّيتهما. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بـين آدم وزوجته، وإبلـيس، والـحية؟ قـيـل: أما عداوة إبلـيس آدم وذرّيته، فحسده إياه، واستكبـاره عن طاعة اللّه فـي السجود له حين قال لربه: أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَـلَقْتَنِـي مِنْ نارٍ وَخَـلَقْتَهُ مِنْ طِينٍوأما عداوة آدم وذرّيته إبلـيس، فعداوة الـمؤمنـين إياه لكفره بـاللّه وعصيانه لربه فـي تكبره علـيه ومخالفته أمره وذلك من آدم ومؤمنـي ذرّيته إيـمان بـاللّه وأما عداوة إبلـيس آدم، فكفر بـاللّه وأما عداوة ما بـين آدم وذرّيته، والـحية، فقد ذكرنا ما رُوي فـي ذلك عن ابن عبـاس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التـي بـيننا وبـينها، كما رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما سالَـمْنَاهُن مُنْذُ حارَبْناهُن فَمَنْ تَرَكَهُنّ خَشْيَةَ ثَأْرِهِن فَلَـيْسَ مِنّا). ٥١٥ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنـي حجاج بن رشد، قال: حدثنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما سالَـمْناهُنّ مُنْدُ حارَبْناهُنّ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئا مِنْهُنّ خِيفَةً فَلَـيْسَ مِنّا). قال أبو جعفر: وأحسب أن الـحرب التـي بـيننا كان أصله ما ذكره علـماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم فـي إدخالها إبلـيس الـجنة بعد أن أخرجه اللّه منها حتـى استزله عن طاعة ربه فـي أكله ما نهى عن أكله من الشجرة. ٥١٦ـ وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام، وحدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي، قال: حدثنـي آدم جميعا، عن شيبـان، عن جابر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتل الـحيات، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (خُـلِقَتْ هِيَ وَالإنْسانُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدُوّ لِصَاحِبِهِ، إنْ رآها أفْزَعَتْه، وَإنْ لَذَغَتْه أوْجَعَتْه، فـاقْتُلْها حَيْثُ وَجَدْتَها). القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَكم فـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك. فقال بعضهم بـما: ٥١٧ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَلَكُمْ فـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: هوقوله: الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا. ٥١٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَلَكُمْ فِـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: هوقوله: جَعَلَ لَكُم الأرْضَ قَرَارا. وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم فـي الأرض قرار فـي القبور. ذكر من قال ذلك: ٥١٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَكُمْ فِـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ يعنـي القبور. ٥٢٠ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيـل، عن إسماعيـل السدي، قال: حدثنـي من سمع ابن عبـاس قال: وَلَكُمْ فـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: القبور. ٥٢١ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَلَكُمْ فِـي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال: مقامهم فـيها. قال أبو جعفر: والـمستقرّ فـي كلام العرب هو موضع الاستقرار. فإذا كان ذلك كذلك، فحيث كان من فـي الأرض موجودا حالاّ، فذلك الـمكان من الأرض مستقرّه. إنـما عنى اللّه جل ثناؤه بذلك: أن لهم فـي الأرض مستقرّا ومنزلاً بأماكنهم ومستقرّهم من الـجنة والسماء، وكذلك قوله وَمَتَاعٌ يعنـي به أن لهم فـيها متاعا بـمتاعهم فـي الـجنة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم: ولكم فـيها بلاغ إلـى الـموت. ذكر من قال ذلك: ٥٢٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي في قوله: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال يقول: بلاغ إلـى الـموت. ٥٢٣ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيـل، عن إسماعيـل السدي، قال: حدثنـي من سمع ابن عبـاس : وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال: الـحياة. وقال آخرون: يعنـي بقوله: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ: إلـى قـيام الساعة. ذكر من قال ذلك: ٥٢٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال: إلـى يوم القـيامة إلـى انقطاع الدنـيا. وقال آخرون إلـى حين، قال: إلـى أجل. ذكر من قال ذلك: ٥٢٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ قال: إلـى أجل. والـمتاع فـي كلام العرب: كل ما استـمتع به من شيء من معاش استـمتع به أو رياش أو زينة أو لذّة أو غير ذلك. فإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه جل ثناؤه قد جعل حياة كل حيّ متاعا له يستـمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان متاعا أيام حياته بقراره علـيها، واغتذائه بـما أخرج اللّه منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بـما خـلق فـيها من الـملاذ وجعلها من بعد وفـاته لـجثته كِفـاتا، ولـجسمه منزلاً وقرارا، وكان اسم الـمتاع يشمل جميع ذلك كان أولـى التأويلات بـالآية. إذْ لـم يكن اللّه جل ثناؤه وضع دلالة دالّة علـى أنه قصد بقوله: وَمَتَاعٌ إلـى حِينٍ بعضا دون بعض، وخاصّا دون عام فـي عقل ولا خبر أن يكون ذلك فـي معنى العام، وأن يكون الـخبر أيضا كذلك إلـى وقت يطول استـمتاع بنـي آدم وبنـي إبلـيس بها، وذلك إلـى أن تبدّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولـى التأويلات بـالآية لـما وصفنا، فـالواجب إذا أن يكون تأويـل الآية: ولكن فـي الأرض منازل ومساكن، تستقرّون فـيها استقراركم كان فـي السموات، وفـي الـجنات فـي منازلكم منها، واستـمتاع منكم بها وبـما أخرجت لكم منها، وبـما جعلت لكم فـيها من الـمعاش والرياش والزّيْن والـملاذ، وبـما أعطيتكم علـى ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفـاتكم لأرماسكم وأجداثكم، تُدفنون فـيها وتبلغون بـاستـمتاعكم بها إلـى أن أبدّلكم بها غيرها. ٣٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ } قال أبو جعفر: أما تأويـل قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ فقـيـل إنه أخذ وقبل، وأصله التفعل من اللقاء كما يتلقـى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر، فكذلك ذلك في قوله: فَتَلَقّـى كأنه استقبله فتلقاه بـالقبول، حين أوحى إلـيه، أو أخبر به. فمعنى ذلك إذا: فلقّـى اللّه آدمَ كلـمات توبة فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبـا فتاب اللّه علـيه بقـيـله إياها وقبوله إياها من ربه. كما: ٥٢٦ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ الآية، قال: لقاهما هذه الآية: ربنا ظلـمنا أنفسنا وإن لـم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الـخاسرين. وقد قرأ بعضهم: (فَتَلَقّـى آدَمَ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٌ) فجعل الكلـمات هي الـمتلقـية آدم. وذلك وإن كان من وجهة العربـية جائزا إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق وما لقـيه فقد لقـيه، فصار للـمتكلـم أن يوجه الفعْل إلـى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب، فغير جائز عندي فـي القراءة إلا رفع (آدم) علـى أنه الـمتلقـي الكلـمات لإجماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل من علـماء السلف والـخـلف علـى توجيه التلقـي إلـى آدم دون الكلـمات، وغير جائز الاعتراض علـيها فـيـما كانت علـيه مـجمعة بقول من يجوز علـيه السهو والـخطأ. واختلف أهل التأويـل فـي أعيان الكلـمات التـي تلقاها آدم من ربه، فقال بعضهم بـما: ٥٢٧ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قـيس، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ فَتابَ عَلَـيْهِ قال: أي ربّ ألـم تـخـلقنـي بـيدك؟ قال: بلـى، قال: أي ربّ ألـم تنفخ فـيّ من روحك؟ قال: بلـى، قال: أي ربّ ألـم تسكنـي جنتك؟ قال: بلـى، أي ربّ ألـم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلـى، قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت أراجعي أنت إلـى الـجنة؟ قال: نعم قال: فهوقوله: فَتَلَقّـى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ. وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن قـيس بن الربـيع، عن عاصم بن كلـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس نـحوه. ٥٢٨ـ وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلـماتٍ فَتابَ عَلَـيْهِ قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت؟ فقال له ربه: إنـي راجعك إلـى الـجنة. ٥٢٩ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ منْ رَبّهِ كَلِـماتٍ ذكر لنا أنه قال: يا ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت؟ قال: إنـي إذا راجعك إلـى الـجنة قال: وقال الـحسن إنهما قالا: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ. ٥٣٠ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلـماتٍ قال: إن آدم لـما أصاب الـخطيئة، قال: يا ربّ أرأيت إن تبت وأصلـحت؟ فقال اللّه : إذا أرجعك إلـى الـجنة. فهي من الكلـمات. ومن الكلـمات أيضا: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخَاسِرِينَ. ٥٣١ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: ربّ ألـم تـخـلقنـي بـيدك؟ قـيـل له: بلـى، قال: ونفخت فـيّ من روحك؟ قـيـل له: بلـى، قال: وسبقت رحمتك غصبك؟ قـيـل له: بلـى، قال: ربّ هل كنت كتبت هذا علـيّ؟ قـيـل له: نعم، قال: ربّ إن تبت وأصلـحت هل أنت راجعي إلـى الـجنة؟ قـيـل له: نعم. قال اللّه تعالـى: ثُمّ اجْتَبـاهُ رَبهُ فَتابَ عَلَـيْهِ وَهَدَى. وقال آخرون بـما: ٥٣٢ـ حدثنا به مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، قال: حدثنـي من سمع عبـيد بن عمير، يقول: قال آدم: يا ربّ خطيئتـي التـي أخطأتها أشيء كتبته علـيّ قبل أن تـخـلقنـي، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بلـى شيء كتبته علـيك قبل أن أخـلقك قال: فكما كتبته علـيّ فـاغفره لـي قال: فهو قول اللّه : فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كلِـماتٍ. وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، قال: أخبرنـي من سمع عبـيد بن عمير بـمثله. وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الـجرّاح، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، عمن سمع عبـيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نـحوه. وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، قال: أخبرنـي من سمع عبـيد اللّه بن عمير بنـحوه. وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد العزيز، عن عبـيد بن عمير بـمثله. وقال آخرون بـما: ٥٣٣ـ حدثنـي به أحمد بن عثمان بن حكيـم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أنه قال: قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ فَتاب عَلَـيْهِ قال آدم: اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إلـيك، تب علـيّ إنك أنت التوّاب الرحيـم. ٥٣٤ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير، وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان وقـيس جميعا عن خصيف، عن مـجاهد في قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال قوله: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسنَا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا حتـى فرغ منها. ٥٣٥ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنـي شبل، عن ابن نـجيح، عن مـجاهد، كان يقول في قول اللّه : فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ الكلـمات: اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنـي ظلـمت نفسي فـاغفر لـي إنك خير الغافرين. اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربـي إنـي ظلـمت نفسي فـارحمنـي إنك خير الراحمين. اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنـي ظلـمت نفسي فتب علـيّ إنك أنت التوّاب الرحيـم. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن النضر بن عربـي، عن مـجاهد: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: هوقوله: ربنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لـمْ تَغفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا الآية. ٥٣٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: أي ربّ أتتوب علـيّ إن تبت؟ قال: نعم فتاب آدم، فتاب علـيه ربه. ٥٣٧ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَتَلَقّـى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: هوقوله: ربّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وإن لـمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخَاسِرِينَ. ٥٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هوقوله: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ. وهذه الأقوال التـي حكيناها عمن حكيناها عنه وإن كانت مختلفة الألفـاظ، فإن معانـيها متفقة فـي أن اللّه جل ثناؤه لقّـى آدم كلـمات، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن وتاب بقـيـله إياهن وعمله بهن إلـى اللّه من خطيئته، معترفـا بذنبه، متنصلاً إلـى ربه من خطيئته، نادما علـى ما سلف منه من خلاف أمره. فتاب اللّه علـيه بقبوله الكلـمات التـي تلقاهن منه وندمه علـى سالف الذنب منه. والذي يدلّ علـيه كتاب اللّه أن الكلـمات التـي تلقاهن آدم من ربه هنّ الكلـمات التـي أخبر اللّه عنه أنه قالها متنصلاً بقـيـلها إلـى ربه معترفـا بذنبه، وهوقوله: رَبّنا ظَلَـمْنَا أَنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكونَن مِنَ الـخَاسِرِينَ ولـيس ما قاله من خالف قولنا هذا من الأقوال التـي حكيناها بـمدفوع قوله، ولكنه قول لا شاهد علـيه من حجة يجب التسلـيـم لها فـيجوز لنا إضافته إلـى آدم، وأنه مـما تلقاه من ربه عند إنابته إلـيه من ذنبه. وهذا الـخبر الذي أخبر اللّه عن آدم من قـيـله الذي لقاه إياه فقاله تائبـا إلـيه من خطيئته، تعريف منه جل ذكره جميع الـمخاطبـين بكتابه كيفـية التوبة إلـيه من الذنوب، وتنبـيه للـمخاطبـين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرونَ بـاللّه وكُنْتُـمْ أَمْوَاتا فأحْياكُمْ علـى موضع التوبة مـما هم علـيه من الكفر بـاللّه ، وأن خلاصهم مـما هم علـيه مقـيـمون من الضلالة نظير خلاص أبـيهم آدم من خطيئته مع تذكيره إياهم من السالف إلـيهم من النعم التـي خصّ بها أبـاهم آدم وغيره من آبـائهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَتابَ عَلَـيْهِ. قال أبو جعفر: وقوله: فَتابَ عَلَـيْهِ يعنـي علـى آدم، والهاء التـي فـي (علـيه) عائدة علـى (آدم) وقوله: فَتابَ عَلَـيْهِ يعنـي رزقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلـى اللّه والأوبة إلـى طاعته مـما يكره من معصيته. قال أبو جعفر وتأويـل قوله: إنّهُ هُوَ التَوّابُ الرّحِيـمُ أن اللّه جل ثناؤه هو التواب علـى من تاب إلـيه من عبـاده الـمذنبـين من ذنوبه التارك مـجازاته بإنابته إلـى طاعته بعد معصيته بـما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلـى ربه: إنابته إلـى طاعته، وأوبته إلـى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الأمور التـي كان علـيها مقـيـما مـما يكرهه ربه، فكذلك توبة اللّه علـى عبده هو أن يرزقه ذلك، ويتوب من غضبه علـيه إلـى الرضا عنه، ومن العقوبة إلـى العفو والصفح عنه. وأما قوله: الرّحِيـمُ فإنه يعنـي أنه الـمتفضل علـيه مع التوبة بـالرحمة، ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه. ٣٨القول فـي تأويـل قوله:{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فـيـما مضى فلا حاجة بنا إلـى إعادته، إذ كان معناه فـي هذا الـموضع هو معناه فـي ذلك الـموضع. وقد: ٥٣٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، عن أبـي صالـح في قوله: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعا قال: آدم، وحوّاء، والـحية، وإبلـيس. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فإمّا يَأْتِـيَنّكُمْ مِنّـي هُدًى. قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: فإمّا يأتِـيَنّكُمْ فإن يأتكم، و(ما) التـي مع (إن) توكيد للكلام، ولدخولها مع (إن) أدخـلت النون الـمشددة فـي (يأتـينكم) تفرقة بدخولها بـين (ما) التـي تأتـي بـمعنى توكيد الكلام التـي تسميها أهل العربـية صلة وحشوا، وبـين (ما) التـي تأتـي بـمعنى (الذي)، فتؤذن بدخولها فـي الفعل، أن (ما) التـي مع (إن) التـي بـمعنى الـجزاء توكيد، ولـيست (ما) التـي بـمعنى (الذي). وقد قال بعض نـحويـي البصريـين: إنّ (إما) (إن) زيدت معها (ما)، وصار الفعل الذي بعده بـالنون الـخفـيفة أو الثقـيـلة، وقد يكون بغير نون. وإنـما حسنت فـيه النون لـمّا دخـلته (ما)، لأن (ما) نفـي، فهي مـما لـيس بواجب، وهي الـحرف الذي ينفـي الواجب، فحسنت فـيه النون، نـحو قولهم: (بعين ما أرينك) حين أدخـلت فـيها (ما) حسنت النون فـيـما هنا. وقد أنكر جماعة من أهل العربـية دعوى قائلـي هذه الـمقالة أن (ما) التـي مع (بعين ما أرينّك) بـمعنى الـجحد، وزعموا أن ذلك بـمعنى التوكيد للكلام. وقال آخرون: بل هو حشو فـي الكلام، ومعناها الـحذف، وإنـما معنى الكلام: بعين أراك، وغير جائز أن يجعل مع الاختلاف فـيه أصلاً يقاس علـيه غيره. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مِنّـي هُدًى فَمَنْ تَبِع هُداي فَلا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قال أبو جعفر: والهدى فـي هذا الـموضع البـيان والرشاد، كما: ٥٤٠ـ حدثنا الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: فإمّا يَأتِـيَنكُمْ مِنّـي هُدًى قال: الهدى: الأنبـياء والرسل والبـيان. فإن كان ما قال أبو العالـية فـي ذلك كما قال، فـالـخطاب بقوله: اهْبِطُوا وإن كان لاَدم وزوجته، فـيجب أن يكون مرادا به آدم وزوجته وذرّيتهما. فـيكون ذلك حينئذٍ نظير قوله: فَقالَ لَهَا وللأرْضِ ائْتِـيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَـيْنا طائِعِينَ بـمعنى أتـينا بـما فـينا من الـخـلق طائعين. ونظير قوله فـي قراءة ابن مسعود: (رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنا أمةً مُسْلِـمَةً لَكَ وأرِهِمْ مَناسِكَهُمْ) فجمع قبل أن تكون ذرية، وهو فـي قراءتنا: وأرِنا مَناسِكنَا وكما يقول القائل لاَخر: كأنك قد تزوّجت وولد لك وكثرتـم وعززتـم. ونـحو ذلك من الكلام. وإنـما قلنا إن ذلك هو الواجب علـى التأويـل الذي ذكرناه عن أبـي العالـية لأن آدم كان هو النبـي صلى اللّه عليه وسلم أيام حياته بعد أن أهبط إلـى الأرض، والرسول من اللّه جل ثناؤه إلـى ولده، فغير جائز أن يكون معنـيا وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم بقوله: فإما يَأتَـيّنَكُمْ مِنّـي هُدًى خطابـا له ولزوجته: فإما يأتـينكم منـي هدى أنبـياء ورسل إلا علـى ما وصفت من التأويـل. وقول أبـي العالـية فـي ذلك وإن كان وجها من التأويـل تـحتـمله الآية، فأقرب إلـى الصواب منه عندي وأشبه بظاهر التلاوة أن يكون تأويـلها: فإما يأتـينكم منـي يا معشر من أهبطته إلـى الأرض من سمائي، وهو آدم وزوجته وإبلـيس، كما قد ذكرنا قبل فـي تأويـل الآية التـي قبلها: إما يأتـينكم منـي بـيان من أمري وطاعتـي ورشاد إلـى سبـيـلـي ودينـي، فمن اتبعه منكم فلا خوف علـيهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إلـيّ معصية وخلاف لأمري وطاعتـي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب علـى من تاب إلـيه من ذنوبه، والرحيـم لـمن أناب إلـيه كما وصف نفسه بقوله: إنه هُوَ التّوّاب الرّحِيـمُ. وذلك أن ظاهر الـخطاب بذلك إنـما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهْبِطُوا مِنْهَا جِمِيعا والذين خوطبوا به هم من سمينا فـي قول الـحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدمنا الرواية عنهم. وذلك وإن كان خطابـا من اللّه جل ذكره لـمن أهبط حينئذٍ من السماء إلـى الأرض، فهو سنة اللّه فـي جميع خـلقه، وتعريف منه بذلك للذين أخبر عنهم فـي أول هذه السورة بـما أخبر عنهم في قوله: إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وفي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ وأن حكمه فـيهم إن تابوا إلـيه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البـيان من عند اللّه ، علـى لسان رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، أنهم عنده فـي الاَخرة، مـمن لا خوف علـيهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا علـى كفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار الـمخـلدين فـيها. وقوله: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ يعنـي فمن اتبع بـيانـي الذي أبـينه علـى ألسن رسلـي أو مع رسلـي، كما: ٥٤١ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ يعنـي بـيانـي. وقوله: فَلاَ خَوْف عَلَـيْهِمْ يعنـي فهم آمنون فـي أهوال القـيامة من عقاب اللّه غير خائفـين عذابه، بـما أطاعوا اللّه فـي الدنـيا واتبعوا أمره وهداه وسبـيـله ولا هم يحزنون يومئذٍ علـى ما خالفوا بعد وفـاتهم فـي الدنـيا، كما: ٥٤٢ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ يقول لا خوف علـيكم أمامكم، ولـيس شيء أعظم فـي صدر الذي يـموت مـما بعد الـموت، فأمّنهم منه وسلاّهم عن الدنـيا، فقال: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. ٣٩وقوله: {وَالّذِينَ كَفَرواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعنـي: والذين جحدوا آياتـي وكذّبوا رسلـي، وآيات اللّه : حججه وأدلته علـى وحدانـيته وربوبـيته، وما جاءت به الرسل من الأعلام والشواهد علـى ذلك، وعلـى صدقها فـيـما أنبأت عن ربها. وقد بـينا أن معنى الكفر: التغطية علـى الشيء. أولَئِكَ أصْحابُ النّارِ يعنـي أهلها الذين هم أهلها دون غيرهم الـمخـلدون فـيها أبدا إلـى غير أمد ولا نهاية، كما: ٥٤٣ـ حدثنا به عقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غسان بن مضر، قال: حدثنا سعيد بن يزيد، وحدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا أبو مسلـمة سعيد بن يزيد، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، وأبو بكر بن عون، قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية، عن سعيد بن يزيد، عن أبـي نضرة، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أمّا أهْلُ النّارِ الّذِينَ هَمْ أهْلُها فإنَهُمْ لاَ يَـمُوتُونَ فِـيها وَلاَ يَحْيَوْنَ وَلَكِنّ أقْوَاما أصَابَتْهُمُ النارُ بِخَطاياهُمْ أوْ بِذُنُوبِهِمْ فأماتَتْهُمْ إماتَةً حتـى إذَا صَارُوا فَحْما أُذِنَ فِـي الشفـاعَة). ٤٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ: يا ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيـم خـلـيـل الرحمن وكان يعقوب يدعى إسرائيـل، بـمعنى عبد اللّه وصفوته من خـلقه وإيـل هو اللّه وإسرا: هو العبد، كما قـيـل جبريـل بـمعنى عبد اللّه . وكما: ٥٤٤ـ حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن الأعمش، عن إسماعيـل بن رجاء، عن عمير مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس : إن إسرائيـل كقولك عبد اللّه . ٥٤٥ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن عبد اللّه بن الـحارث، قال: إيـل: اللّه بـالعبرانـية. وإنـما خاطب اللّه جل ثناؤه بقوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ أحبـار الـيهود من بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنسبهم جلّ ذكره إلـى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلـى آدم، فقال: يا بَنِـي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وما أشبه ذلك. وإنـما خصهم بـالـخطاب فـي هذه الآية والتـي بعدها من الاَي التـي ذكرهم فـيها نعمه، وإن كان قد تقدم ما أنزل فـيهم وفـي غيرهم فـي أول هذه السورة ما قد تقدم أن الذي احتـجّ به من الـحجج والاَيات التـي فـيها أنبـاء أسلافهم وأخبـار أوائلهم، وقصص الأمور التـي هم بعلـمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمـم لـيس عند غيرهم من العلـم بصحته، وحقـيقته مثل الذي لهم من العلـم به إلا لـمن اقتبس علـم ذلك منهم. فعرّفهم بـاطلاع مـحمد علـى علـمها مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم دراسة الكتب التـي فـيها أنبـاء ذلك، أن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم لـم يصل إلـى علـم ذلك إلا بوحي من اللّه وتنزيـل منه ذلك إلـيه لأنهم من علـم صحة ذلك بـمـحل لـيس به من الأمـم غيرهم. فلذلك جل ثناؤه خصّ بقوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ خطابهم كما: ٥٤٦ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير عن ابن عبـاس قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ قال: يا أهل الكتاب للأحبـار من يهود. القول فـي تأويـل قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِـي التِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ. قال أبو جعفر: ونعمته التـي أنعم بها علـى بنـي إسرائيـل جل ذكره اصطفـاؤه منهم الرسل، وإنزاله علـيهم الكتب، واستنقاذه إياهم مـما كانوا فـيه من البلاء والضرّاء من فرعون وقومه، إلـى التـمكين لهم فـي الأرض، وتفجير عيون الـماء من الـحجر، وإطعام الـمنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلـى آبـائهم علـى ذكر، وأن لا ينسوا صنـيعه إلـى أسلافهم وآبـائهم، فـيحلّ بهم من النقم ما أحل بـمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه عنده. كما: ٥٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : اذْكُرُوا نَعْمَتِـي التـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ أي آلائي عندكم وعند آبـائكم لـما كان نـجاهم به من فرعون وقومه. ٥٤٨ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِـيَ قال: نعمته أن جعل منهم الأنبـياء والرسل، وأنزل علـيهم الكتب. ٥٤٩ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: اذْكُرُوا نِعْمَتِـيَ التِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ يعنـي نعمته التـي أنعم علـى بنـي إسرائيـل فـيـما سمي وفـيـما سوى ذلك، فجر لهم الـحجر، وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى، وأنـجاهم عن عبودية آل فرعون. ٥٥٠ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: نِعمتـي الّتِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ قال: نعمه عامة، ولا نعمة أفضل من الإسلام، والنعم بعد تبعَ لها. وقرأ قول اللّه يَـمُنّونَ عَلَـيْكَ أنْ أسْلَـمُوا قُلْ لاَ تَـمُنّوا عَلَـيّ إسْلاَمَكُمْ الآية. وتذكير اللّه الذين ذكرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه علـى لسان رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، نظير تذكير موسى صلوات اللّه علـيه أسلافهم علـى عهده الذي أخبر اللّه عنه أنه قال لهم. وذلك قوله: وَإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِـيكُمْ أنْبِـياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلوكا وآتاكُمْ ما لَـمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العَالَـمِينَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. قال أبو جعفر: قد تقدم بـياننا معنى العهد فـيـما مضى من كتابنا هذا واختلاف الـمختلفـين فـي تأويـله والصوابُ عندنا من القول فـيه. وهو فـي هذا الـموضع عهد اللّه ووصيته التـي أخذ علـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة أن يبـينوا للناس أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أنه رسول، وأنهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة أنه نبـيّ اللّه ، وأن يؤمنوا به وبـما جاء به من عند اللّه . أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وعهده إياهم: أنهم إذا فعلوا ذلك أدخـلهم الـجنة، كما قال جل ثناؤه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَـي عَشَرَ نَقِـيبـا الآية، وكما قال: فَسأكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالّذِينَ هُمْ بآياتنا يُؤْمِنُونَ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِـيّ أُلامّيّ الآية. وكما: ٥٥١ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وأوْفُوا بعَهْدِي الذي أخذت فـي أعناقكم للنبـي صلى اللّه عليه وسلم إذا جاءكم. أُوفِ بعَهْدِكُمْ: أي أنـجز لكم ما وعدتكم علـيه بتصديقه واتبـاعه، بوضع ما كان علـيكم من الإصر والأغلال التـي كانت فـي أعناقكم بذنوبكم التـي كانت من أحداثكم. ٥٥٢ـ وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: أوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال: عهده إلـى عبـاده: دين الإسلام أن يتبعوه. أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يعنـي الـجنة. ٥٥٣ـ وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أوْفُوا بعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أما أوفوا بعهدي: فما عهدت إلـيكم فـي الكتاب، وأما أوف بعهدكم: فـالـجنة، عهدت إلـيكم أنكم إن عملتـم بطاعتـي أدخـلتكم الـجنة. ٥٥٤ـ وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج في قوله: وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال: ذلك الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي الـمائدة وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ بَنـي إسْرَائِيـلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَـي عَشَرَ نَقِـيبـا إلـى آخر الآية. فهذا عهد اللّه الذي عهد إلـيهم، وهو عهد اللّه فـينا، فمن أوفـى بعهد اللّه وفـى اللّه له بعهده. ٥٥٥ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وأُوفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ يقول: أوفوا بـما أمرتكم به من طاعتـي ونهيتكم عنه من معصيتـي فـي النبـي صلى اللّه عليه وسلم وفـي غيره أوف بعهدكم يقول: أرض عنكم وأدخـلكم الـجنة. ٥٥٦ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأُوْفوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال: أوفوا بأمري، أوف بـالذي وعدتكم، وقرأ: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ أنُفُسَهُمْ وأمُوَالَهُمْ حتـى بلغ: وَمَنْ أَوْفـى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه قال: هذا عهده الذي عهده لهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإِيّايَ فـارْهَبُونِ. قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: وَإِيّايَ فَـارْهَبُونِ وإياي فـاخشوا، واتقوا أيها الـمضيعون عهدي من بنـي إسرائيـل والـمكذّبون رسولـي الذي أخذت ميثاقكم فـيـما أنزلت من الكتب علـى أنبـيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه، أن أحلّ بكم من عقوبتـي، إن لـم تنـيبوا وتتوبوا إلـيّ بـاتبـاعه والإقرار بـما أنزلت إلـيه ما أحللت بـمن خالف أمري وكذّب رسلـي من أسلافكم. كما: ٥٥٧ـ حدثنـي به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإيّايَ فَـارْهَبُونِ أن أنزل بكم ما أنزلت بـمن كان قبلكم من آبـائكم من النقمات التـي قد عرفتـم من الـمسخ وغيره. ٥٥٨ـ وحدثنا الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنـي آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَإيّايَ فَـارْهَبُونِ يقول: فـاخشون. ٥٥٩ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإِيّايَ فَـارْهَبُونِ بقول: وإياي فـاخشون. ٤١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: آمِنُوا: صدّقوا، كما قد قدمنا البـيان عنه قبل. ويعنـي بقوله: بـمَا أنْزَلْت: ما أنزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من القرآن. ويعنـي بقوله: مُصَدّقا لِـمَا مَعَكُمْ أن القرآن مصدّق لـما مع الـيهود من بنـي إسرائيـل من التوراة. فأمرهم بـالتصديق بـالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن فـي تصديقهم بـالقرآن تصديقا منهم للتوراة لأن الذي فـي القرآن من الأمر بـالإقرار بنبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتصديقه واتبـاعه نظير الذي من ذلك فـي الإنـجيـل والتوراة. ففـي تصديقهم بـما أنزل علـى مـحمد تصديق منهم لـما معهم من التوراة، وفـي تكذيبهم به تكذيب منهم لـما معهم من التوراةوقوله: مُصَدّقا قَطْعٌ من الهاء الـمتروكة فـي أنْزَلْتُهُ من ذكر (ما). ومعنى الكلام: وآمنوا بـالذي أنزلته مصدّقا لـما معكم أيها الـيهود. والذي معهم هو التوراة والإنـجيـل. كما: ٥٦٠ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَآمِنُوا بِـمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِـمَا مَعَكُمْ يقول: إنـما أنزلت القرآن مصدقا لـما معكم التوراة والإنـجيـل. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٥٦١ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وآمِنُوا بِـمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِـمَا مَعَكُمْ يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بـما أنزلت علـى مـحمد مصدّقا لـما معكم. يقول: لأنهم يجدون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قـيـل: وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ والـخطاب فـيه لـجمع وكافر واحد؟ وهل نـجيز إن كان ذلك جائزا أن يقول قائل: لا تكونوا أوّل رجل قام؟ قـيـل له: إنـما يجوز توحيد ما أضيف له (أفعل)، وهو خبر لـجمع، إذا كان مشتقا من (فعل) و(يفعل) لأنه يؤدي عن الـمراد معه الـمـحذوف من الكلام، وهو (مَنْ)، ويقوم مقامه فـي الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه (مَنْ) من الـجمع والتأنـيث وهو فـي لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوّل من يكفر به، ف(مَنْ) بـمعنى جمع وهو غير متصرّف تصرّف الأسماء للتثنـية والـجمع والتأنـيث. فإذا أقـيـم الاسم الـمشتق من فعل ويفعل مقامه، جرى وهو موحد مـجراه فـي الأداء عما كان يؤدّي عنه من معنى الـجمع والتأنـيث، كقولك: الـجيش ينهزم، والـجند يقبل فتوحد الفعل لتوحيد لفظ الـجيش والـجند، وغير جائز أن يقال: الـجيش رجل، والـجند غلام، حتـى تقول: الـجند غلـمان، والـجيش رجال لأن الواحد من عدد الأسماء التـي هي غير مشتقة من فعل ويفعل لا يؤدي عن معنى الـجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر: وَإذَا هُمُ طَعِمُوا فألأَمُ طاعِمٍوَإِذَا هُمُ جاعُوا فَشَرّ جِياعِ فوحد مرّة علـى ما وصفت من نـية (مَنْ)، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتقّ من فعل ويفعل مقامه. وجمع أخرى علـى الإخراج علـى عدد أسماء الـمخبر عنهم. ولو وحد حيث جمع أو جمع حيث وحد كان صوابـا جائزا. فأما تأويـل ذلك فإنه يعنـي به: يا معشر أحبـار أهل الكتاب صدّقوا بـما أنزلت علـى رسولـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من القرآن الـمصدّق كتابكم، والذي عندكم من التوراة والإنـجيـل الـمعهود إلـيكم فـيهما أنه رسولـي ونبـي الـمبعوث بـالـحقّ، ولا تكونوا أوّل من كذّب به وجحد أنه من عندي وعندكم من العلـم به ما لـيس عند غيركم. وكفرُهم به: جحودهم أنه من عند اللّه ، والهاء التـي فـي (به) من ذكر (ما) التـي مع قوله: وآمِنُوا بِـمَا أنْزَلْتُ. كما: ٥٦٢ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: وَلا تَكُونُوا أولَ كَافِرٍ بِهِ بـالقرآن. قال أبو جعفر: ورُوي عن أبـي العالـية فـي ذلك ما: ٥٦٣ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلاَ تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ يقول: لا تكونوا أوّل من كفر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال بعضهم: وَلا تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ يعنـي بكتابكم، ويتأوّل أن فـي تكذيبهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم تكذيبـا منهم بكتابهم لأن فـي كتابهم الأمر بـاتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ علـيه التلاوة بعيدان. وذلك أن اللّه جل ثناؤه أمر الـمخاطبـين بهذه الآية فـي أوّلها بـالإيـمان بـما أنزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فقال جل ذكره: وَآمِنُوا بِـمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقا لِـمَا مَعَكُمْ ومعقول أن الذي أنزله اللّه فـي عصر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم هو القرآن لا مـحمد، لأن مـحمدا صلوات اللّه علـيه رسول مرسل لا تنزيـلٌ مُنزل، والـمنزل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوّل من يكفر بـالذي أمرهم بـالإيـمان به فـي أوّل الآية من أهل الكتاب. فذلك هو الظاهر الـمفهوم، ولـم يجر لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي هذه الآية ذكر ظاهر فـيعاد علـيه بذكره مكنـيّا في قوله: وَلا تَكُونُوا أوّلَ كافِرٍ بِهِ وإن كان غير مـحال فـي الكلام أن يذكر مكنـيّ اسم لـم يجر له ذكر ظاهر فـي الكلام. وكذلك لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر فـي (به) علـى (ما) التـي في قوله: لِـمَا مَعَكُمْ لأنّ ذلك وإن كان مـحتـملاً ظاهر الكلام فإنه بعيد مـما يدلّ علـيه ظاهر التلاوة والتنزيـل، لـما وصفنا قبل من أن الـمأمور بـالإيـمان به فـي أوّل الآية هو القرآن، فكذلك الواجب أن يكون الـمنهي عن الكفر به فـي آخرها هو القرآنوأما أن يكون الـمأمور بـالإيـمان به غير الـمنهي عن الكفر به فـي كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر فـي الكلام، هذا مع بعد معناه فـي التأويـل. ٥٦٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَآمنُوا بِـمَا أنْزَلْتَ مصَدّقا لِـمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أولَ كافِرٍ بِهِ وعندكم فـيه من العلـم ما لـيس عند غيركم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِـي ثَمَنا قَلِـيلاً. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك: ٥٦٥ـ فحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية وَلاَ تَشْتَرُوا بِآياتِـي ثَمَنا قَلِـيلاً يقول: لا تأخذوا علـيه أجرا قال: هو مكتوب عندهم فـي الكتاب الأول: يا ابن آدم عَلّـمْ مـجانا كما عُلّـمْتَ مَـجّانا. وقال آخرون بـما: ٥٦٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِـي ثَمَنا قَلِـيلاً يقول: لا تأخذوا طمعا قلـيلاً وتكتـموا اسم اللّه . فذلك الطمع هو الثمن. فتأويـل الآية إذا: لا تبـيعوا ما آتـيتكم من العلـم بكتابـي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنـيا قلـيـل. وبـيعهم إياه تركهم إبـانة ما فـي كتابهم من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فـيه أنه النبـيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل بثمن قلـيـل، وهو رضاهم بـالرياسة علـى أتبـاعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجر مـمن بـينوا له ذلك علـى ما بـينوا له منه. وإنـما قلنا معنى ذلك: (لا تبـيعوا) لأن مشترى الثمن القلـيـل بآيات اللّه بـائع الاَيات بـالثمن، فكل واحد من الثمن والـمثمن مبـيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري. وإنـما معناه علـى ما تأوّله أبو العالـية: بـينوا للناس أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولا تبتغوا علـيه منهم أجرا. فـيكون حينئذٍ نهيه عن أخذ الأجر علـى تبـيـينه هو النهي عن شراء الثمن القلـيـل بآياته. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإيّايَ فـاتّقُونِ. قال أبو جعفر: يقول: فـاتقون فـي بـيعكم آياتـي بـالـخسيس من الثمن، وشرائكم بها القلـيـل من العَرَض، وكفركم بـما أنزلت علـى رسولـي، وجحودكم نبوّة نبـيه أن أحلّ بكم ما أحللت بأخلافكم الذين سلكوا سبـيـلكم من الـمَثُلات والنّقِمَات. ٤٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَلا تَلْبِسُوا: لا تـخـلطوا، واللبس: هو الـخـلط، يقال منه: لبست علـيهم الأمر ألْبِسُه لبسا: إذا خـلطته علـيهم. كما: ٥٦٧ـ حدثت عن الـمنـجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَللَبَسْنا عَلَـيْهِمْ مَا يَـلْبِسُونَ يقول: لـخـلطنا علـيهم ما يخـلطون. ومنه قول العجاج: لَـمّا لَبِسْنَ الـحَقّ بـالتّـجَنّـيغَنِـينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدا مِنّـي يعنـي بقوله: لبسن: خـلطنوأما اللّبْس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسا ومَلْبَسا، وذلك فـي الكسوة يكتسيها فـيـلبسها. ومن اللّبْس قول الأخطل: لقَدْ لبِسْتُ لِهَذا الدهْرِ أعْصُرَهُحَتّـى تَـجَلّلَ رأسِي الشّيْبُ وَاشْتَعَلاَ ومن اللبس قول اللّه جل ثناؤه: وللبَسْنا عَلَـيْهِمْ ما يَـلْبِسُونَ. فإن قال لنا قائل: وكيف كانوا يـلبسون الـحق بـالبـاطل وهم كفـار، وأيّ حقّ كانوا علـيه مع كفرهم بـاللّه ؟ قـيـل: إنه كان فـيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ويستبطنون الكفر به، وكان أعُظْمُهم يقولون: مـحمد نبـي مبعوث إلا أنه مبعوث إلـى غيرنا. فكان لَبْسُ الـمنافق منهم الـحقّ بـالبـاطل إظهاره الـحق بلسانه وإقراره لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به جهارا، وخـلطه ذلك الظاهر من الـحقّ بـالبـاطل الذي يستبطنه. وكان لَبْسُ الـمقرّ منهم بأنه مبعوث إلـى غيرهم الـجاحد أنه مبعوث إلـيهم إقراره بأنه مبعوث إلـى غيرهم وهو الـحقّ، وجحوده أنه مبعوث إلـيهم وهو البـاطل، وقد بعثه اللّه إلـى الـخـلق كافة. فذلك خـلطهم الـحق بـالبـاطل ولبسهم إياه به. كما: ٥٦٨ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روح، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس قوله: وَلاَ تَلْبِسُوا الـحَق بـالبـاطِلِ قال: لا تـخـلطوا الصدق بـالكذب. ٥٦٩ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلاَ تَلْبسُوا الـحَق بـالبـاطِلِ يقول: لا تـخـلطوا الـحقّ بـالبـاطل، وأدوا النصيحة لعبـاد اللّه فـي أمر مـحمد علـيه الصلاة والسلام. ٥٧٠ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: وَلاَ تَلْبِسُوا الـحَق بـالبـاطِلِ الـيهودية والنصرانـية بـالإسلام. ٥٧١ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَلاَ تَلْبسوا الـحَق بـالبـاطلِ قال: الـحقّ: التوراة الذي أنزل اللّه علـى موسى، والبـاطل: الذي كتبوه بأيديهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وتَكْتُـمُوا الـحَقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ. قال أبو جعفر: وفي قوله: وَتَكْتُـمُوا الـحَق وجهان من التأويـل: أحدهما أن يكون اللّه جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتـموا الـحقّ كما نهاهم أن يـلبسوا الـحقّ بـالبـاطل. فـيكون تأويـل ذلك حينئذٍ: ولا تلبسوا الـحقّ بـالبـاطل، ولا تكتـموا الـحقّ. ويكون قوله: وتَكْتُـمُوا عند ذلك مـجزوما بـما جزم به (تلبسوا) عطفـا علـيه. والوجه الاَخر منهما أن يكون النهي من اللّه جل ثناؤه لهم عن أن يـلبسوا الـحق بـالبـاطل، ويكون قوله: وتَكْتُـمُوا الـحَق خبرا منه عنهم بكتـمانهم الـحقّ الذي يعلـمونه، فـيكون قوله: (وتكتـموا) حينئذٍ منصوبـا، لانصرافه عن معنى قوله: وَلا تَلْبِسُوا الـحَق بـالبـاطِلِ إذ كان قوله: وَلا تَلْبِسُوا نهيا، وقوله: وَتَكْتُـمُوا الـحَق خبرا معطوفـا علـيه غير جائز أن يعاد علـيه ما عمل في قوله: تَلْبِسُوا من الـحرف الـجازم، وذلك هو الـمعنى الذي يسميه النـحويون صرفـا. ونظير ذلك فـي الـمعنى والإعراب قول الشاعر: لاتَنْهَ عَنْ خُـلُقٍ وتَأتِـيَ مِثْلَهُعارٌ عَلَـيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيـمُ فنصب (تأتـي) علـى التأويـل الذي قلنا في قوله: وَتَكْتُـمُوا الآية، لأنه لـم يرد: لا تنه عن خـلق ولا تأت مثله، وإنـما معناه: لا تنه عن خـلق وأنت تأتـي مثله. فكان الأوّل نهيا والثانـي خبرا، فنصب الـخبر إذ عطفه علـى غير شكله. فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تـحتـملهما، فهو علـى مذهب ابن عبـاس الذي: ٥٧٢ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس قوله: وتَكْتُـمُوا الـحَقّ يقول: ولا تكتـموا الـحَقّ وأنتـم تعلـمون. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَتَكْتُـمُوا الـحَقّ: أي ولا تكتـموا الـحق. وأما الوجه الثانـي منهما فهو علـى مذهب أبـي العالـية ومـجاهد. ٥٧٣ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وتَكْتُـمُوا الـحقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ قال: كتـموا بعث مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ٥٧٤ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه. وأما تأويـل الـحقّ الذي كتـموه وهم يعلـمونه، فهو ما: ٥٧٥ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَتَكْتُـمُوا الـحَقّ يقول: لا تكتـموا ما عندكم من الـمعرفة برسولـي وما جاء به، وأنتـم تـجدونه عندكم فـيـما تعلـمون من الكتب التـي بأيديكم. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَتَكْتُـمُوا الـحَقّ يقول: إنكم قد علـمتـم أن مـحمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنهاهم عن ذلك. ٥٧٦ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَتَكْتُـمُوا الـحَقّ وأنتـم تَعْلَـمونَ قال: يكتـم أهل الكتاب مـحمدا، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٥٧٧ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: وتَكْتُـمُوا الـحَقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ قال: الـحقّ هو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ٥٧٨ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَتَكْتُـمُوا الـحَقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ قال: كتـموا بعث مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبـا عندهم. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: تكتـمون مـحمدا وأنتـم تعلـمون، وأنتـم تـجدونه عندكم فـي التوراة والإنـجيـل. فتأويـل الآية إذا: ولا تـخـلطوا علـى الناس أيها الأحبـار من أهل الكتاب فـي أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلـى بعض أجناس الأمـم دون بعض أو تنافقوا فـي أمره، وقد علـمتـم أنه مبعوث إلـى جميعكم، وجميع الأمـم غيركم، فتـخـلطوا بذلك الصدق بـالكذب، وتكتـموا به ما تـجدونه فـي كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولـي إلـى الناس كافة، وأنتـم تعلـمون أنه رسولـي، وأن ما جاء به إلـيكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت علـيكم فـي كتابكم الإيـمان به وبـما جاء به والتصديق به. ٤٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ } قال أبو جعفر: ذكر أن أحبـار الـيهود والـمنافقـين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه فأمرهم اللّه بإقام الصلاة مع الـمسلـمين الـمصدّقـين بـمـحمد وبـما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم وأن يخضعوا للّه ولرسوله كما خضعوا كما: ٥٧٩ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة في قوله: وأقـيـمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ قال: فريضتان واجبتان، فأدّوهما إلـى اللّه . وقد بـينا معنى إقامة الصلاة فـيـما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته. أما إيتاء الزكاة: فهو أداء الصدقة الـمفروضة وأصل الزكاة: نـماء الـمال وتثميره وزيادته. ومن ذلك قـيـل: زكا الزرع: إذا كثر ما أخرج اللّه منه وزكت النفقة: إذا كثرت. وقـيـل: زكا الفرد، إذا صار زوجا بزيادة الزائد علـيه حتـى صار به شفعا، كما قال الشاعر: كانُوا خَسا أوْ زَكا مِنْ دُونِ أرْبَعَةٍلَـم يَخْـلَقُوا وَجُدُودُ النّاسُ تَعْتَلِـجُ وقال آخر: فَلا خَسا عَدِيدُهُ ولا زَكاكمَا شِرارُ البَقْلِ أطْرافُ السّفَـا قال أبو جعفر: السفـا: شوك البهمي، والبهمي: الذي يكون مدوّرا فـي السّلاّء. يعنـي بقوله: (ولا زكا) لـم يصيرهم شفعا من وتر بحدوثه فـيهم. وإنـما قـيـل للزكاة زكاة وهي مال يخرج من مال لتثمير اللّه بإخراجها مـما أخرجت منه ما بقـي عند ربّ الـمال من ماله. وقد يحتـمل أن تكون سميت زكاة لأنها تطهير لـما بقـي من مال الرجل، وتـخـلـيص له من أن تكون فـيه مظلـمة لأهل السهمان، كما قال جل ثناؤه مخبرا عن نبـيه موسى صلوات اللّه علـيه: أقَتَلْتَ نَفْسا زَكِيّةً يعنـي بريئة من الذنوب طاهرة، وكما يقال للرجل: هو عدل زكىّ لذلك الـمعنى. وهذا الوجه أعجب إلـيّ فـي تأويـل زكاة الـمال من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولاً فـي تأويـلها. وإيتاؤها: إعطاؤها أهلها. وأما تأويـل الركوع: فهو الـخضوع للّه بـالطاعة، يقال منه: ركع فلان لكذا وكذا: إذا خضع له، ومنه قول الشاعر: بِـيعَتْ بِكَسْرٍ لتَـيْـمٍ واسْتَغَاثَ بهامِنَ الهُزَالِ أبُوها بَعْدَمَا رَكَعا يعنـي: بعد ما خضع من شدّة الـجهد والـحاجة. وهذا أمر من اللّه جل ثناؤه لـمن ذكر من أحبـار بنـي إسرائيـل ومنافقـيها بـالإنابة والتوبة إلـيه، وبإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والدخول مع الـمسلـمين فـي الإسلام، والـخضوع له بـالطاعة. ونهيٌ منه لهم عن كتـمان ما قد علـموه من نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد تظاهر حججه علـيهم بـما قد وصفنا قبل فـيـما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إلـيهم والإنذار، وبعد تذكيرهم نعمه إلـيهم وإلـى أسلافهم تعطفـا منه بذلك علـيهم وإبلاغا إلـيهم فـي الـمعذرة. ٤٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي معنى البرّ الذي كان الـمخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم علـى أن كل طاعة للّه فهي تسمى برّا. فروي عن ابن عبـاس ما: ٥٨٠ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : أتأْمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ أي تنهون الناس عن الكفر بـما عندكم من النبوّة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم: أي وأنتـم تكفرون بـما فـيها من عهدي إلـيكم فـي تصديق رسولـي، وتنقضون ميثاقـي، وتـجحدون ما تعلـمون من كتابـي. ٥٨١ـ وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: أتأْمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ يقول: أتأمرون الناس بـالدخول فـي دين مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وغير ذلك مـما أمرتـم به من إقام الصلاة وَتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ. وقال آخرون بـما: ٥٨٢ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنـي عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أتأْمُرُونَ النّاسَ بـالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة اللّه وبتقواه وهم يعصونه. ٥٨٣ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: أتأمُرُونَ النّاسَ بـالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ قال: كان بنو إسرائيـل يأمرون الناس بطاعة اللّه وبتقواه وبـالبرّ ويخالفون، فعيّرهم اللّه . ٥٨٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا الـحجاج، قال: قال ابن جريج: أتأْمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ أهل الكتاب والـمنافقون كانوا يأمرون الناس بـالصوم والصلاة، ويدعون العمل بـما يأمرون به الناس، فعيّرهم اللّه بذلك، فمن أمر بخير فلـيكن أشدّ الناس فـيه مسارعة. وقال آخرون بـما: ٥٨٥ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء الـيهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما لـيس فـيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بـالـحقّ، فقال اللّه لهم: أتأْمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ. ٥٨٦ـ وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم الـحرمي، قال: حدثنا مخـلد بن الـحسين، عن أيوب السختـيانـي، عن أبـي قلابة في قول اللّه : أتأْمُرُونَ النّاسَ بـالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتـى يـمقت الناس فـي ذات اللّه ثم يرجع إلـى نفسه فـيكون لها أشدّ مَقْتا. قال أبو جعفر: وجميع الذي قال فـي تأويـل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب الـمعنى لأنهم وإن اختلفوا فـي صفة البرّ الذي كان القوم يأمرون به غيرهم الذين وصفهم اللّه بـما وصفهم به، فهم متفقون فـي أنهم كانوا يأمرون الناس بـما للّه فـيه رضا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلـى غيره بأفعالهم. فـالتأويـل الذي يدلّ علـى صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة اللّه وتتركون أنفسكم تعصيه، فهلا تأمرونها بـما تأمرون به الناس من طاعة ربكم معيرهم بذلك ومقبحا إلـيهم ما أتوا به. ومعنى نسيانهم أنفسهم فـي هذا الـموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ بـمعنى: تركوا طاعة اللّه فتركهم اللّه من ثوابه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: تَتْلُونَ: تدرسون وتقرءون. كما: ٥٨٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس : وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعنـي بـالكتاب: التوراة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أفَلا تَعْقِلُونَ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: أفَلا تَعْقِلُونَ: أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التـي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتـم راكبوها، وأنتـم تعلـمون أن الذي علـيكم من حقّ اللّه وطاعته فـي اتبـاع مـحمد والإيـمان به وبـما جاء به مثل الذي علـى من تأمرونه بـاتبـاعه. كما: ٥٨٨ـ حدثنا به مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : أفَلا تَعْقلُونَ يقول: أفلا تفهمون فنهاهم عن هذا الـخـلق القبـيح. وهذا يدل علـى صحة ما قلنا من أمر أحبـار يهود بنـي إسرائيـل غيرهم بـاتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وأنهم كانوا يقولون هو مبعوث إلـى غيرنا كما ذكرنا قبل. ٤٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ: استعينوا علـى الوفـاء بعهدي الذي عاهدتـمونـي فـي كتابكم من طاعتـي واتبـاع أمري، وترك ما تهوونه من الرياسة وحبّ الدنـيا إلـى ما تكرهونه من التسلـيـم لأمري، واتبـاع رسولـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بـالصبر علـيه والصلاة. وقد قـيـل: إن معنى الصبر فـي هذا الـموضع: الصوم، والصومُ بعض معانـي الصبر عندنا. بل تأويـل ذلك عندنا: أن اللّه تعالـى ذكره أمرهم بـالصبر علـى ما كرهته نفوسهم من طاعة اللّه ، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس مـحابّها وكفّها عن هواها ولذلك قـيـل للصابر علـى الـمصيبة: صابر، لكفه نفسه عن الـجزع وقـيـل لشهر رمضان: شهر الصبر، لصبر صائمه عن الـمطاعم والـمشارب نهارا، وصبرُه إياهم عن ذلك: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما يصبر الرجل الـمسيء للقتل فتـحبسه علـيه حتـى تقتله. ولذلك قـيـل: قتل فلان فلانا صبرا، يعنـي به حبسه علـيه حتـى قتله، فـالـمقتول مصبور، والقاتل صابروأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فـيـما مضى. فإن قال لنا قائل: قد علـمنا معنى الأمر بـالاستعانة بـالصبر علـى الوفـاء بـالعهد والـمـحافظة علـى الطاعة، فما معنى الأمر بـالاستعانة بـالصلاة علـى طاعة اللّه ، وترك معاصيه، والتعرّي عن الرياسة، وترك الدنـيا؟ قـيـل: إن الصلاة فـيها تلاوة كتاب اللّه ، الداعية آياته إلـى رفض الدنـيا وهجر نعيـمها، الـمسلـية النفوس عن زينتها وغرورها، الـمذكرة الاَخرة وما أعدّ اللّه فـيها لأهلها. ففـي الاعتبـار بها الـمعونة لأهل طاعة اللّه علـى الـجدّ فـيها، كما رُوي عن نبـينا صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا حَزَ به أمر فزع إلـى الصلاة. ٥٨٩ـ حدثنـي بذلك إسماعيـل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا الـحسين بن رتاق الهمدانـي، عن ابن جرير، عن عكرمة بن عمار، عن مـحمد بن عبـيد بن أبـي قدامة، عن عبد العزيز بن الـيـمان، عن حذيفة قال: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذا حز به أمر فزع إلـى الصلاة). وحدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا خـلف بن الولـيد الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار، عن مـحمد بن عبد اللّه الدولـي، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حَزَ به أمر صلـى). وكذلك رُوي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى أبـا هريرة منبطحا علـى بطنه فقال له: (اشكنب دَرْد)؟ قال: نعم، قال: (قُمْ فَصَلّ فَـانّ فِـي الصّلاَةِ شفـاءً). فأمر اللّه جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبـار بنـي إسرائيـل أن يجعلوا مفزعهم فـي الوفـاء بعهد اللّه الذي عاهدوه إلـى الاستعانة بـالصبر والصلاة كما أمر نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فقال له: فـاصْبرْ يا مـحمد علـى ما يَقُولُونَ وَسبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ فَسَبّحْ وأطْرَافَ النّهارِ لَعَلّك تَرْضَى فأمره جل ثناؤه فـي نوائبه بـالفزع إلـى الصبر والصلاة. ٥٩٠ـ وقد حدثنا مـحمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيـم قالا: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا عيـينة بن عبد الرحمن عن أبـيه: أن ابن عبـاس نعى إلـيه أخوه قثم وهو فـي سفر، فـاسترجع ثم تنـحى عن الطريق، فأناخ فصلـى ركعتـين أطال فـيهما الـجلوس، ثم قام يـمشي إلـى راحلته وهو يقول: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاة وإنّها لَكَبِـيرَةٌ إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ. وأما أبو العالـية فإنه كان يقول بـما: ٥٩١ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاةِ قال يقول: استعينوا بـالصبر والصلاة علـى مرضاة اللّه ، واعلـموا أنهما من طاعة اللّه . وقال ابن جريج بـما: ٥٩٢ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاَةِ قال: إنهما معونتان علـى رحمة اللّه . ٥٩٣ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَاسْتَعينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاَةِ الآية، قال: قال الـمشركون: واللّه يا مـحمد إنك لتدعونا إلـى أمر كبـير، قال: إلـى الصلاة والإيـمان بـاللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالى: وإنّها لَكَبِـيرَةٌ إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: وإنّها وإن الصلاة، فـالهاء والألف فـي (وإنها) عائدتان علـى (الصلاة). وقد قال بعضهم: إن قوله: وإنها بـمعنى: إن إجابة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولـم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكرٌ فتـجعل الهاء والألف كناية عنه، وغير جائز ترك الظاهر الـمفهوم من الكلام إلـى بـاطن لا دلالة علـى صحته. ويعنـي بقوله: لَكَبِـيرةٌ: لشديدة ثقـيـلة. كما: ٥٩٤ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا ابن يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، في قوله: وإنها لَكَبِـيرَةٌ إلا علـى الـخاشِعِينَ قال: إنها لثقـيـلة. ويعنـي بقوله: إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ: إلا علـى الـخاضعين لطاعته، الـخائفـين سطواته، الـمصدّقـين بوعده ووعيده. كما: ٥٩٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ يعنـي الـمصدّقـين بـما أنزل اللّه . ٥٩٦ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ قال: يعنـي الـخائفـين. ٥٩٧ـ وحدثنـي مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد: إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ قال: الـمؤمنـين حقّا. وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٥٩٨ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الـخشوع: الـخوف والـخشية للّه. وقرأ قول اللّه : خاشِعينَ منَ الذّلّ قال: قد أذلهم الـخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له. وأصل (الـخشوع): التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر: لَـمّا أتـى خَبَرُ الزّبَـيْرِ تَوَاضَعَتْسُورُ الـمَدِينَةِ وَالـجِبَـالُ الـخُشّعُ يعنـي والـجبـال خشع متذللة لعظم الـمصيبة بفقده. فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبـار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم علـى طاعة اللّه ، وكفها عن معاصي اللّه ، وبإقامة الصلاة الـمانعة من الفحشاء والـمنكر، الـمقرّ به من مراضي اللّه ، العظيـمة إقامتها إلا علـى الـمتواضعين للّه الـمستكينـين لطاعته الـمتذللـين من مخافته. ٤٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر اللّه جل ثناؤه عمن قد وصفه بـالـخشوع له بـالطاعة أنه يظنّ أنه ملاقـيه، والظنّ: شكّ، والشاكّ فـي لقاء اللّه عندك بـاللّه كافر؟ قـيـل له: إن العرب قد تسمي الـيقـين ظنا، والشك ظنا، نظير تسميتهم الظلـمة سُدْفة والضياء سُدْفة، والـمغيث صارخا، والـمستغيث صارخا، وما أشبه ذلك من الأسماء التـي تسمي بها الشيء وضدّه. ومـما يدل علـى أنه يسمى به الـيقـين قول دُريد بن الصمة: فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنّوا بإِلْفَـيْ مُدَجّجٍسَرَاتُهُمُ فـي الفـارِسيّ الـمُسَرّدِ يعنـي بذلك: تـيقنوا ألفـي مدجج تأتـيكم. وقول عَميرة بن طارق: بِأنْ تَغْتَزُوا قَوْمي وأقْعُدُ فِـيكُمُوأجْعَلَ مِنّـي غَيْبـا مُرَجّمَا يعنـي: وأجعل منـي الـيقـين غيبـا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها علـى أن الظنّ فـي معنى الـيقـين أكثر من أن تـحصى، وفـيـما ذكرنا لـمن وُفّق لفهمه كفـاية. ومنه قول اللّه جل ثناؤه: ورأى الـمُـجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا أنّهُمْ مُواقِعوها. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك جاء تفسير الـمفسرين. ٥٩٩ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: يظّنونَ أنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهمْ قال: إن الظنّ ههنا يقـين. ٦٠٠ـ وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، قال: كل ظنّ فـي القرآن يقـين، إنـي ظننت وظنوا. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو داود الـحفري، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كل ظنّ فـي القرآن فهو علـم. ٦٠١ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الّذين يظنّون أنّهم مُلاقوا ربّهم أما يظنون فـيستـيقنون. ٦٠٢ـ وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: الّذين يظنّونَ أنّهم مُلاقُوا ربّهم علـموا أنهم ملاقوا ربهم، هي كقوله: إنّـي ظَنَنْتُ أنـي مُلاقٍ حِسابِـيَه يقول علـمت. ٦٠٣ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الّذِينَ يَظُنون أنَهُمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ قال: لأنهم لـم يعاينوا، فكان ظنهم يقـينا، ولـيس ظنا فـي شك. وقرأ: إنّـي ظَنَنْتُ أنّـي مُلاقٍ حسابـيَهْ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أنّهّمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ. قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قـيـل إنهم ملاقوا ربهم فأضيف الـملاقون إلـى الربّ جل ثناؤه وقد علـمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يـلقون ربهم؟ وإذا كان الـمعنى كذلك، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبـات النون، وإنـما تسقط النون وتُضيف فـي الأسماء الـمبنـية من الأفعال إذا كانت بـمعنى فعل، فأما إذا كانت بـمعنى يفعل وفـاعل، فشأنها إثبـات النون، وترك الإضافة قـيـل: لا تَدَافُعَ بـين جميع أهل الـمعرفة بلغات العرب وألسنها فـي إجازة إضافة الاسم الـمبنـي من فعل ويفعل، وإسقاط النون وهو بـمعنى يفعل وفـاعل، أعنـي بـمعنى الاستقبـال وحالِ الفعل ولـما ينقض، فلا وجه لـمسألة السائل عن ذلك: لـم قـيـل؟ وإنـما اختلف أهل العربـية فـي السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون. فقال نـحويو البصرة: أسقطت النون من: مُلاقوا رَبّهمْ وما أشبهه من الأفعال التـي فـي لفظ الأسماء وهي فـي معنى يفعل وفـي معنى ما لـم ينقض استثقالاً لها، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الـمَوْتِ وكما قال: إنّا مُرْسِلُوا النّاقَة فِتْنَةً لَهُمْ ولـما يرسلها بعد وكما قال الشاعر: هَلْ أَنْتَ بـاعِثُ دِينارٍ لِـحاجَتِناأوْ عَبْدَ رَبَ أخا عَوْنِ بْنِ مخْرَاقِ فأضاف بـاعثا إلـى الدينار، ولـما يبعث، ونصب عبد ربّ عطفـا علـى موضع دينار لأنه فـي موضع نصب وإن خفض. وكما قال الاَخر: الـحافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرَةِ لايَأتـيهِمُ مِنْ وَرَائِهِمْ نَطَفُ بنصب العورة وخفضها. فـالـخفض علـى الإضافة، والنصب علـى حذف النون استثقالاً، وهي مرادة. وهذا قول نـحويـي البصرة. وأما نـحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز فـي مُلاقُوا الإضافة، وهي فـي معنى يـلقون، وإسقاط النون منه لأنه فـي لفظ الأسماء، فله فـي الإضافة إلـى الأسماء حظّ الأسماء، وكذلك حكم كل اسم له كان نظيرا. قالوا: وإذا أثبت فـي شيء من ذلك النون وتركت الإضافة، فإنـما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لـم يكن ولـم يجب بعد. قالوا: فـالإضافة فـيه للفظ، وترك الإضافة للـمعنى. فتأويـل الآية إذا: واستعينوا علـى الوفـاء بعهدي بـالصبر علـيه والصلاة، وإن الصلاة لكبـيرة إلا علـى الـخائفـين عقابـي، الـمتواضعين لأمري، الـموقنـين بلقائي والرجوع إلـيّ بعد مـماتهم. وإنـما أخبر اللّه جل ثناؤه أن الصلاة كبـيرة إلا علـى من هذه صفته لأن من كان غير موقن بـمعاد ولا مصدّق بـمرجع ولا ثواب ولا عقاب، فـالصلاة عنده عناء وضلال، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضرّ، وحقّ لـمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة علـيه كبـيرة، وإقامتها علـيه ثقـيـلة، وله فـادحة. وإنـما خفت علـى الـمؤمنـين الـمصدّقـين بلقاء اللّه ، الراجين علـيها جزيـل ثوابه، الـخائفـين بتضيـيعها ألـيـم عقابه، لـما يرجون بإقامتها فـي معادهم من الوصول إلـى ما وعد اللّه علـيها أهلها، ولـما يحذرون بتضيـيعها ما أوعد مضيعها. فأمر اللّه جل ثناؤه أحبـار بنـي إسرائيـل الذين خاطبهم بهذه الاَيات أن يكونوا من مقـيـميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقـين بأنهم إلـى اللّه راجعون وإياه فـي القـيامة ملاقون. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأنّهُمْ إلَـيْهِ رَاجِعُونَ. قال أبو جعفر: والهاء والـميـم اللتان في قوله: وأنّهُمْ من ذكر الـخاشعين، والهاء فـي (إلـيه) من ذكر الربّ تعالـى ذكره في قوله: مُلاقُوا رَبّهِمْ فتأويـل الكلـمة: وإنها لكبـيرة إلا علـى الـخاشعين الـموقنـين أنهم إلـى ربهم راجعون. ثم اختلف فـي تأويـل الرجوع الذي في قوله: وأنّهُمْ إلَـيْهِ رَاجِعُونَ. فقال بعضهم بـما: ٦٠٤ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وأنّهُمْ إلَـيْهِ رَاجِعُونَ قال: يستـيقنون أنهم يرجعون إلـيه يوم القـيامة. وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إلـيه يرجعون بـموتهم. وأولـى التأويـلـين بـالآية القول الذي قاله أبو العالـية لأن اللّه تعالـى ذكره، قال فـي الآية التـي قبلها كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّه وكُنْتُـمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُـمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِـيكُمْ ثُمّ إِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ فأخبر اللّه جل ثناؤه أنَ مرجعهم إلـيه بعد نشرهم وإحيائهم من مـماتهم، وذلك لا شك يوم القـيامة، فكذلك تأويـل قوله: وأنّهُمْ إلَـيْهِ رَاجِعُونَ. ٤٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك فـي هذه الآية نظير تأويـله فـي التـي قبلها في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِـي الّتِـي أنْعَمْتُ عَلَـيْكُمْ وأوْفُوا بعَهْدِي وقد ذكرته هنالك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ علـى العَالـمِينَ. قال أبو جعفر: وهذا أيضا مـما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعنـي بقوله: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ عَلـى العَالَـمِينَ: أنـي فضلت أسلافكم، فنسب نعمه علـى آبـائهم وأسلافهم إلـى أنها نعم منه علـيهم، إذ كانت مآثر الاَبـاء مآثر للأبناء، والنعم عند الاَبـاء نعما عند الأبناء، لكون الأبناء من الاَبـاء، وأخرج جلّ ذكره قوله: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ علـى العَالَـمِينَ مخرج العموم، وهو يريد به خصوصا لأن الـمعنى: وإنـي فضلتكم علـى عالـم من كنتـم بـين ظهريه وفـي زمانه. كالذي: ٦٠٥ـ حدثنا به مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ عَلـى العَالَـمِينَ قال: فضلهم علـى عالـم ذلك الزمان. ٦٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ عَلَـى العَالَـمِينَ قال: بـما أعطوا من الـملك والرسل والكتب علـى عالـم من كان فـي ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالـما. ٦٠٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد في قوله: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ عَلَـى العَالَـمِينَ قال: علـى من هم بـين ظهرانـيه. وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: علـى من هم بـين ظهرانـيه. ٦٠٨ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول اللّه : وأنّـي فَضّلْتُكُمْ عَلَـى العَالَـمِينَ قال: عالـم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول اللّه : وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَـى عِلْـمٍ عَلـى العَالَـمِينَ قال: هذه لـمن أطاعه واتبع أمره، وقد كان فـيهم القردة وهم أبغض خـلقه إلـيه، وقال لهذه الأمة: كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ قال: هذه لـمن أطاع اللّه واتبع أمره واجتنب مـحارمه. قال أبو جعفر: والدلـيـل علـى صحة ما قلنا من أن تأويـل ذلك علـى الـخصوص الذي وصفنا ما: ٦٠٩ـ حدثنـي به يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر جميعا، عن بهز بن حكيـم، عن أبـيه، عن جده. قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ألا إنّكُمْ وَفّـيْتُـمْ سَبْعِين أُمّةً) قال يعقوب فـي حديثه: (أنتـم آخرها) وقال الـحسن: (أنتـم خيرها وأكرمها علـى اللّه ). فقد أنبأ هذا الـخبر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن بنـي إسرائيـل لـم يكونوا مفضلـين علـى أمة مـحمد علـيه الصلاة والسلام، وأن معنى قوله: وَفَضّلْناهُمْ عَلَـى العَالَـمِينَ وقوله: وأنّـي فَضّلْتُكُمْ عَلـى العَالَـمِينَ علـى ما بـينا من تأويـله. وقد أتـينا علـى بـيان تأويـل قوله: العَالَـمِينَ بـما فـيه الكفـاية فـي غير هذا الـموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. ٤٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: قال أبو جعفر: وتأويـل قوله: وَاتّقُوا يَوْما لا تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفَسٍ شَيْئا: واتقوا يوما لا تـجزى فـيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويـله: واتقوا يوما لا تـجزيه نفس عن نفس شيئا، كما قال الراجز: قَدْ صَبّحَتْ صَبّحَها السّلامُبِكَبِدٍ خالَطَها سَنَامُ فِـي ساعَةٍ يُحَبّها الطّعامُ وهو يعنـي: يحبّ فـيها الطعام، فحذفت الهاء الراجعة علـى (الـيوم)، إذ فـيه اجتزاء بـما ظهر من قوله: وَاتّقُوا يَوْما لاَ تَـجْزِي نَفْسٌ الدال علـى الـمـحذوف منه عما حذف، إذ كان معلوما معناه. وقد زعم قوم من أهل العربـية أنه لا يجوز أن يكون الـمـحذوف فـي هذا الـموضع إلا الهاء. وقال آخرون: لا يجوز أن يكون الـمـحذوف إلا (فـيه). وقد دللنا فـيـما مضى علـى جواز حذف كل ما دل الظاهر علـيه. وأما الـمعنى في قوله: وَاتّقُوا يَوْما لاَ تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا فإنه تـحذير من اللّه تعالـى ذكره عبـاده الذين خاطبهم بهذه الآية عقوبته أن تـحلّ بهم يوم القـيامة، وهو الـيوم الذي لا تـجزي فـيه نفس عن نفس شيئا، ولا يجزي فـيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. وأما تأويـل قوله: لا تَـجْزِي نَفْسٌ فإنه يعنـي: لا تغنـي. كما: ٦١٠ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَاتّقُوا يَوْما لاَ تَـجْزِي نَفْسٌ أما تـجزي: فتغنـي. وأصل الـجزاء فـي كلام العرب: القضاء والتعويض، يقال: جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء، بـمعنى: قضيته دينه، ومن ذلك قـيـل: جزى اللّه فلانا عنـي خيرا أو شرّا، بـمعنى: أثابه عنـي وقضاه عنـي ما لزمنـي له بفعله الذي سلف منه إلـيّ. وقد قال قوم من أهل العلـم بلغة العرب: يقال: أجزيت عنه كذا: إذا أعنته علـيه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته. وقال آخرون منهم: بل جزيت عنك: قضيت عنك، وأجزيت: كفـيت. وقال آخرون منهم: بل هما بـمعنى واحد، يقال: جزت عنك شاة وأجزت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تَـجْزي عنك شاة ولا تُـجْزي بـمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن جزت عنك ولا تُـجزي عنك من لغة أهل الـحجاز، وأن أجزأ وتُـجزىء من لغة غيرهم. وزعموا أن تـميـما خاصة من بـين قبـائل العرب تقول: أجزأت عنك شاة، وهي تُـجزىء عنك. وزعم آخرون أن جَزَى بلا همز: قضى، وأجزأ بـالهمز: كافأ. فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغنـي عنها غِنًى. فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغنـي عنها غنى؟ قـيـل: هو أن أحدنا الـيوم ربـما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه وأما فـي الاَخرة فإنه فـيـما أتتنا به الأخبـار عنها يسرّ الرجل أن يبرد له علـى ولده أو والده حقّ، وذلك أن قضاء الـحقوق فـي القـيامة من الـحسنات والسيئات. كما: ٦١١ـ حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن أبـي خالد الدولابـي يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبـي أنـيسة، عن سعيد بن أبـي سعيد الـمقبري، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (رَحِمَ اللّه عَبْدا كَانَتْ عِنْدَهُ لأخِيهِ مَظْلَـمَةٌ فِـي عِرْضٍ) قال أبو بكر فـي حديثه: (أوْ مالٍ أوْ جاهٍ، فـاسْتَـحَلّهُ قَبْلَ أنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ وَلَـيْسَ ثَمّ دِينارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فإنْ كانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَخَذُوا مِنْ حَسَناتِهِ، وَإِنْ لَـمْ تَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ حَمَلُوا عَلَـيْهِ مِنْ سَيئَاتِهِمْ). حدثنا أبو عثمان الـمقدمي، قال: حدثنا القروي، قال: حدثنا مالك، عن الـمقبري، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: حدثنا أبو همام الأهوازي، قال: أخبرنا عبد اللّه بن سعيد، عن سعيد عن أبـي هريرة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. ٦١٢ـ حدثنا موسى بن سهل الرملـي، قال: حدثنا نعيـم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبـي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يَـمُوتَنّ أحَدُكُمْ وَعَلَـيْهِ دَيْنٌ، فَإنّهُ لَـيْسَ هُنَاكَ دِينارٌ وَلا دِرْهَمٌ، إنّـمَا يَقْتَسِمُونَ هنَالِكَ الـحسناتِ وَالسّيّئاتِ) وأشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـيده يـمينا وشمالاً. ٦١٣ـ حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: قال: حدثنا سالـم بن قادم، قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى، قال: أخبرنـي الـحارث بن مسلـم، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحو حديث أبـي هريرة. قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: لا تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا يعنـي أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها لأن القضاء هنالك من الـحسنات والسيئات علـى ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسرّه أن يثبت له علـى ولده أو والده حقّ، فـيأخذه منه ولا يُتـجافـى له عنه؟. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن معنى قوله: لاَ تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا: لا تـجزي منها أن تكون مكانها. وهذا قول يشهد ظاهر القرآن علـى فساده، وذلك أنه غير معقول فـي كلام العرب أن يقول القائل: ما أغنـيت عنـي شيئا، بـمعنى: ما أغنـيت منـي أن تكون مكانـي، بل إذا أرادوا الـخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء، قالوا: لا يجزي هذا من هذا، ولا يستـجيزون أن يقولوا: لا يجزي هذا من هذا شيئا. فلو كان تأويـل قوله: لا تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا ما قاله من حكينا قوله لقال: وَاتقُوا يَوْما لا تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ كما يقال: لا تـجزي نفس من نفس، ولـم يقل لا تـجزي نفس عن نفس شيئا: وفـي صحة التنزيـل بقوله: لا تـجزي نفس عن نفس شيئا أوضح الدلالة علـى صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله فـي ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلا تُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـاعَةٌ. قال أبو جعفر: والشفـاعة مصدر من قول الرجل: شفع لـي فلان إلـى فلان شفـاعة، وهو طلبه إلـيه فـي قضاء حاجته. وإنـما قـيـل للشفـيع شفـيع وشافع لأنه ثنّى الـمستشفع به، فصار له شَفْعا، فكان ذو الـحاجة قبل استشفـاعه به فـي حاجته فردا، فصار صاحبه له فـيها شافعا، وطلبُه فـيه وفـي حاجته شفـاعة ولذلك سمي الشفـيع فـي الدار وفـي الأرض شفـيعا لـمصير البـائع به شفعا. فتأويـل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها للّه جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل اللّه منها شفـاعة شافع، فـيترك لها ما لزمها من حق. وقـيـل: إن اللّه عزّ وجلّ خاطب أهل هذه الآية بـما خاطبهم به فـيها لأنهم كانوا من يهود بنـي إسرائيـل، وكانوا يقولون: نـحن أبناء اللّه وأحبـاؤه وأولاد أنبـيائه، وسيشفع لنا عنده آبـاؤنا. فأخبرهم اللّه جل وعزّ أن نفسا لا تـجزي عن نفس شيئا فـي القـيامة، ولا يقبل منها شفـاعة أحد فـيها حتـى يُستوفـى لكل ذي حقّ منها حقه. كما: ٦١٤ـ حدثنـي عبـاس بن أبـي طالب، قال: حدثنا حجاج بن نصير، عن شعبة، عن العوام بن مزاحم رجل من قـيس بن ثعلبة، عن أبـي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفـان: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إِنّ الـجَمّاءَ لَتَقْتَصّ مِنَ القَرْناءِ يَوْمَ القِـيَامَةِ، كَما قَالَ اللّه عَزّ وَجَلّ وَنَضَعُ الـمَوَازِينَ القِسْطَ لِـيَوْمِ القِـيَامَةِ فَلا تُظْلَـمُ نَفْسٌ شَيْئا الآية...). فآيسهم اللّه جل ذكره مـما كانوا أطمعوا فـيه أنفسهم من النـجاة من عذاب اللّه مع تكذيبهم بـما عرفوا من الـحقّ وخلافهم أمر اللّه فـي اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاءهم به من عنده بشفـاعة آبـائهم وغيرهم من الناس كلهم، وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إلـيه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سنّ فـيهم من ذلك إماما لكل من كان علـى مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلـحاد فـي رحمة اللّه . وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما فـي التلاوة، فإن الـمراد بها خاص فـي التأويـل لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (شَفَـاعَتِـي لأَهْلِ الكَبَـائِرِ مِنْ أُمّتـي) وأنه قال: (لَـيْسَ مِنْ نبِـيّ إِلاّ وَقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وَإِنّـي خَبَأتُ دَعْوَتِـي شَفَـاعَةً لامّتـي، وَهِيَ نائلَةٌ إِنْ شَاءَ اللّه مِنْهُمْ مَنْ لا يُشْرِكُ بـاللّه شَيْئا). فقد تبـين بذلك أن اللّه جل ثناؤه قد يصفح لعبـاده الـمؤمنـين بشفـاعة نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم لهم عن كثـير من عقوبة إجرامهم بـينه وبـينهم، وأن قوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـاعَةٌ إنـما هي لـمن مات علـى كفره غير تائب إلـى اللّه عزّ وجلّ. ولـيس هذا من مواضع الإطالة فـي القول فـي الشفـاعة والوعد والوعيد، فنستقصي الـحِجَاجَ فـي ذلك، وسنأتـي علـى ما فـيه الكفـاية فـي مواضعه إن شاء اللّه تعالـى. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ. قال أبو جعفر: والعدل فـي كلام العرب بفتـح العين: الفدية. كما: ٦١٥ـ حدثنا به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ قال: يعنـي فداء. ٦١٦ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر عن السدي: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ أما عدل فـيعدلها من العدل، يقول: لو جاءت بـملء الأرض ذهبـا تفتدي به ما تقبل منها. ٦١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ولا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ قال: لو جاءت بكل شيء لـم يقبل منها. ٦١٨ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: قال ابن عبـاس : وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ قال: بدل، والبدل: الفدية. ٦١٩ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ قال: لو أن لها ملء الأرض ذهبـا لـم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شيء لـم يقبل منها. ٦٢٠ـ وحدثنـي نـجيح بن إبراهيـم، قال: حدثنا علـيّ بن حكيـم، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبـيه، عن الـملائي، عن رجل من بنـي أمية من أهل الشام أحسن علـيه الثناء، قال: قـيـل يا رسول اللّه ما العدل؟ قال: (العَدْلُ: الفِدْيَةُ). وإنـما قـيـل للفدية من الشيء والبدل منه عدل، لـمعادلته إياه وهو من غير جنسه ومصيره له مثلاً من وجه الـجزاء، لا من وجه الـمشابهة فـي الصورة والـخـلقة، كما قال جل ثناؤه: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا بـمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها، يقال منه: هذا عَدْله وعَدِيـله. وأما العِدْل بكسر العين، فهو مثل الـحمل الـمـحمول علـى الظهر، يقال من ذلك: عندي غلام عِدْل غلامك، وشاة عِدْل شاتك بكسر العين، إذا كان غلام يعدل غلاما، وشاة تعدل شاة، وكذلك ذلك فـي كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قـيـمته من غير جنسه نصبت العين فقـيـل: عندي عَدْل شاتك من الدراهم. وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من العِدْل الذي هو بـمعنى الفدية لـمعادلة ما عادله من جهة الـجزاء، وذلك لتقارب معنى العَدْل والعِدْل عندهم، فأما واحد الأعدال فلـم يسمع فـيه إلا عِدْل بكسر العين. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وتأويـل قوله: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يعنـي أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك الـمـحابـاة واضمـحلت الرّشَا والشفـاعات، وارتفع بـين القوم التعاون والتناصر، وصار الـحكم إلـى العدل الـجبـار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فـيجزي بـالسيئة مثلها وبـالـحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: وَقِـفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْؤولُونَ مَا لَكْمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الـيَوْمَ مُسْتَسْلِـمُونَ. وكان ابن عبـاس يقول فـي معنى: لا تَنَاصَرُونَ ما: ٦٢١ـ حدثت به عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : ما لَكُمْ لاَ تَناصَرُونَ ما لكم لا تُـمَانعون منا؟ هيهات لـيس ذلك لكم الـيوم وقد قال بعضهم فـي معنى قوله: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ: ولـيس لهم من اللّه يومئذٍ نصير ينتصر لهم من اللّه إذا عاقبهم. وقد قـيـل: ولا هم ينصرون بـالطلب فـيهم والشفـاعة والفدية. قال أبو جعفر: والقول الأول أولـى بتأويـل الآية لـما وصفنا من اللّه جل ثناؤه إنـما أعلـم الـمخاطبـين بهذه الآية أن يوم القـيامة يوم لا فدية لـمن استـحقّ من خـلقه عقوبته، ولا شفـاعة فـيه، ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم فـي الدنـيا، فأخبر أن ذلك يوم القـيامة معدوم لا سبـيـل لهم إلـيه. ٤٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ } أما تأويـل قوله: وإذْ نَـجّيْناكُمْ فإنه عطف علـى قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـيَ فكأنه قال: اذكروا نعمتـي التـي أنعمت علـيكم، واذكروا إنعامنا علـيكم إذ نـجيناكم من آل فرعون بإنـجائنا لكم منهم. وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه. وأصل (آل) أهل، أبدلت الهاء همزة، كما قالوا ماه، فأبدلوا الهاء همزة، فإذا صغروه قالوا مُوَيه، فردّوا الهاء فـي التصغير وأخرجوه علـى أصله. وكذلك إذا صغروا آل، قالوا: أهيـل. وقد حُكي سماعا من العرب فـي تصغير آل: أويـل. وقد يقال: فلان من آل النساء، يراد به أنه منهن خـلق، ويقال ذلك أيضا بـمعنى أنه يريدهنّ ويهواهن، كما قال الشاعر: فإنّكَ مِنْ آلِ النّساءِ وَإِنّـمَايَكُنّ لأدْنى لا وِصَالَ لِغَائِبِ وأحسن أماكن (آل) أن ينطق به مع الأسماء الـمشهورة، مثل قولهم: آل النبـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وآل علـيّ، وآل عبـاس، وآل عقـيـل. وغير مستـحسن استعماله مع الـمـجهول، وفـي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك غير حسن عند أهل العلـم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل، ورآنـي آل الـمرأة، ولا رأيت آل البصرة، وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: رأيت آل مكة وآل الـمدينة، ولـيس ذلك فـي كلامهم بـالـمستعمل الفـاشيوأما فرعون فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بـمصر تسمّى به، كما كانت ملوك الروم يُسمّي بعضهم قـيصر وبعضهم هرقل، وكما كانت ملوك فـارس تُسمى الأكاسرة واحدهم كسرى، وملوك الـيـمن تسمى التبـابعة واحدهم تبعوأما فرعون موسى الذي أخبر اللّه تعالـى عن بنـي إسرائيـل أنه نـجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه الولـيد بن مصعب بن الريان، وكذلك ذكر مـحمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه. ٦٢٢ـ حدثنا بذلك مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: أن اسمه الولـيد بن مصعب بن الريان. وإنـما جاز أن يقال: وَإِذْ نَـجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ والـخطاب به لـمن لـم يدرك فرعون ولا الـمنـجين منه، لأن الـمخاطبـين بذلك كانوا أبناء من نـجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه علـى آبـائهم إلـيهم، وكذلك ما كان من كفران آبـائهم علـى وجه الإضافة، كما يقول القائل لاَخر: فعلنا بكم كذا، وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبـيناكم، والـمخبر إما أن يكون يعنـي قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان الـمقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لـم يدركه، كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية: وَلَقَدْ سَمَا لَكُمْ الهُذَيْـلُ فنالَكُمْبإرَابَ حَيْثُ يُقْسَمّـمُ الأنْفـالا فـي فَـيْـلَقٍ يَدْعو الأرَاقمَ لـمْ تكُنْفرْسَانُهُ عُزْلاً وَلا أكْفَـالا ولـم يـلق جرير هذيلاً ولا أدركه، ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لـما كان يوما من أيام قوم الأخطل علـى قوم جرير، أضاف الـخطاب إلـيه وإلـى قومه، فكذلك خطاب اللّه عزّ وجلّ من خاطبه بقوله: وَإِذْ نَـجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لـما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بـالآية وآبـائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبـائهم إلـى الـمخاطبـين بـالآية وقومهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَاب. وفي قوله: يَسُومُونَكُمْ وجهان من التأويـل، أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفـا عن فعل فرعون ببنـي إسرائيـل، فـيكون معناه حينئذٍ: واذكروا نعمتـي علـيكم إذ نـجّيتكم من آل فرعون، وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويـله كان موضع (يسومونكم) رفعا. والوجه الثانـي: أن يكون (يسومونكم) حالاً، فـيكون تأويـله حينئذٍ: وإذْ نـجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب، فـيكون حالاً من آل فرعون. وأما تأويـل قوله: يَسُومُونَكُمْ فإنه يوردونكم، ويذيقونكم، ويُولونكم، يقال منه: سامه خطة ضيـم: إذا أولاه ذلك وأذاقه، كما قال الشاعر: إنْ سِيـمَ خَسْفـا وَجْهُهُ تَرَبّدَا فأما تأويـل قوله: سُوءَ العَذَابِ فإنه يعنـي: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشدّ العذاب ولو كان ذلك معناه لقـيـل: أسوأ العذاب. فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم؟ قـيـل: هو ما وصفه اللّه تعالـى فـي كتابه فقال: يُذَبّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ. وقد قال مـحمد بن إسحاق فـي ذلك ما: ٦٢٣ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: أخبرنا ابن إسحاق، قال: كان فرعون يعذّب بنـي إسرائيـل فـيجعلهم خدما وخولاً، وصنّفهم فـي أعماله، فصنفٌ يبنون، وصنف يزرعون له، فهم فـي أعماله، ومن لـم يكن منهم فـي صنعة من عمله فعلـيه الـجزية، فسامهم كما قال اللّه عزّ وجل: سُوءَ العَذَابِ. وقال السدي: جعلهم فـي الأعمال القذرة، وجعل يقتل أبناءهم، ويستـحيـي نساءهم. ٦٢٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ. قال أبو جعفر: وأضاف اللّه جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببنـي إسرائيـل من سَوْمهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستـحيائهم نساءهم دون فرعون، وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوّة فرعون وعن أمره، لـمبـاشرتهم ذلك بأنفسهم. فبـين بذلك أن كل مبـاشر قتل نفس أو تعذيب حيّ بنفسه وإن كان عن أمر غيره، ففـاعله الـمتولـي ذلك هو الـمستـحق إضافة ذلك إلـيه، وإن كان الاَمر قاهرا الفـاعل الـمأمور بذلك سلطانا كان الاَمر أو لصّا خاربـا أو متغلبـا ف.اجرا، كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بنـي إسرائيـل واستـحياء نسائهم إلـى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوّة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلـما فهو الـمقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له علـى قتله. وأما تأويـل ذبحهم أبناء بنـي إسرائيـل، واستـحيائهم نساءهم، فإنه كان فـيـما ذكر لنا عن ابن عبـاس وغيره كالذي: ٦٢٥ـ حدثنا به العبـاس بن الولـيد الاَملـي وتـميـم بن الـمنتصر الواسطي، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد، قال: حدثنا القاسم بن أيوب، قال: حدثنا سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان اللّه وعد إبراهيـم خـلـيـله أن يجعل فـي ذرّيته أنبـياء وملوكا وائتـمروا، وأجمعوا أمرهم علـى أن يبعث رجالاً معهم الشّفـارَ، يطوفون فـي بنـي إسرائيـل، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا. فلـما رأوا أن الكبـار من بنـي إسرائيـل يـموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تُفنوا بنـي إسرائيـل فتصيروا إلـى أن تبـاشروا من الأعمال والـخدمة ما كانوا يكفونكم، فـاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما. فحملت أمّ موسى بهارون فـي العام الذي لا يذبح فـيه الغلـمان، فولدته علانـية أمه، حتـى إذا كان القابل حملت بـموسى. ٦٢٦ـ وقد حدثنا عبد الكريـم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار الرمادي، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد فـي هذه العام مولود يذهب بـملكك قال: فجعل فرعون علـى كل ألف امرأة مائة رجل، وعلـى كل مائة عشرة، وعلـى كل عشرة رجلاً فقال: انظروا كل امرأة حامل فـي الـمدينة، فإذا وضعت حملها فـانظروا إلـيه، فإن كان ذكرا فـاذبحوه، وإن كان أنثى فخـلّوا عنها. وذلك قوله: يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ. ٦٢٧ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَإِذْ نَـجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَابِ قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بـمصر غلام يكون هلاكك علـى يديه. فبعث فـي أهل مصر نساء قوابل، فإذا ولدت امرأة غلاما أتـى به فرعون فقتله ويستـحيـي الـجواري. ٦٢٨ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس في قوله: وَإِذْ نَـجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية، قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، وإنه أتاه آت، فقال: إنه سينشأ فـي مصر غلام من بنـي إسرائيـل فـيظهر علـيك ويكون هلاكك علـى يديه. فبعث فـي مصر نساء. فذكر نـحو حديث آدم. ٦٢٩ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر عن السدي، قال: كان من شأن فرعون أنه رأى فـي منامه أن نارا أقبلت من بـيت الـمقدس حتـى اشتـملت علـى بـيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بنـي إسرائيـل وأخربت بـيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والـحازَة، فسألهم عن رؤياه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيـل منه يعنون بـيت الـمقدس رجل يكون علـى وجهه هلاك مصر. فأمر ببنـي إسرائيـل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت وقال للقبط: انظروا مـملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخـلوهم، واجعلوا بنـي إسرائيـل يـلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بنـي إسرائيـل فـي أعمال غلـمانهم، وأدخـلوا غلـمانهم فذلك حين يقول اللّه تبـارك وتعالـى: إِنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِـي الأرْضِ يقول: تـجبر فـي الأرض: وجعل أهلها شِيَعا، يعنـي بنـي إسرائيـل، حين جعلهم فـي الأعمال القذرة، يستضعفُ طائِفَةً منهم يُذَبّحُ أبْنَاءَهُمْ. فجعل لا يولد لبنـي إسرائيـل مولود إلا ذبح فلا يكبر الصغير. وقذف اللّه فـي مشيخة بنـي إسرائيـل الـموت، فأسرع فـيهم. فدخـل رءوس القبط علـى فرعون، فكلـموه، فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فـيهم الـموت، فـيوشك أن يقع العمل علـى غلـماننا بذبح أبنائهم فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبـار، فلو أنك كنت تبقـي من أولادهم فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلـما كان فـي السنة التـي لا يذبحون فـيها ولد هارون، فترك فلـما كان فـي السنة التـي يذبحون فـيها حملت بـموسى. ٦٣٠ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر لـي أنه لـما تقارب زمان موسى أتـى منـجمو فرعون وحُزَاتُه إلـيه، فقالوا له: تعلّـم أنا نـجد فـي علـمنا أن مولودا من بنـي إسرائيـل قد أظلك زمانه الذي يولد فـيه، يسلبك ملكك ويغلبك علـى سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدّل دينك. فلـما قالوا له ذلك، أمر بقتل كل مولود يولد من بنـي إسرائيـل من الغلـمان، وأمر بـالنساء يستـحيـين. فجمع القوابل من نساء مـملكته، فقال لهن: لا يسقطن علـى أيديكن غلام من بنـي إسرائيـل إلا قتلتُنّه. فكنّ يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلـمان، ويأمر بـالـحبـالـى فـيعذّبن حتـى يطرحن ما فـي بطونهن. ٦٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: لقد ذكر أنه كان لـيأمر بـالقصب فـيشقّ حتـى يجعل أمثال الشّفـار، ثم يصف بعضه إلـى بعض، ثم يؤتـي بـالـحبـالـى من بنـي إسرائيـل، فـيوقـفن علـيه فـيحزّ أقدامهن، حتـى إن الـمرأة منهن لتـمصَعُ بولدها فـيقع من بـين رجلـيها، فتظلّ تطؤه تتقـي به حدّ القصب عن رجلها لـما بلغ من جهدها. حتـى أسرف فـي ذلك وكاد يفنـيهم، فقـيـل له: أفنـيت الناس وقطعت النسل، وإنهم خَوَلُك وعمالك. فأمر أن يقتل الغلـمان عاما ويستـحيوا عاما. فولد هارون فـي السنة التـي يستـحيا فـيها الغلـمان، وولد موسى فـي السنة التـي فـيها يقتلون. قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلـم كان ذبح آل فرعون أبناء بنـي إسرائيـل واستـحياؤهم نساءهم، فتأويـل قوله إذا علـى ما تأوّله الذين ذكرنا قولهم: ويستـحيون نساءكم: يستبقونهن فلا يقتلونهن. وقد يجب علـى تأويـل من قال بـالقول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس وأبـي العالـية والربـيع بن أنس والسدي فـي تأويـل قوله: ويَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ: أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الإناث فـي حال صبـاها وبعد ولادها امرأة، والصبـايا الصغار وهن أطفـال: نساء، لأنهم تأوّلوا قول اللّه جل وعزّ: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ: يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن. وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال بـما: ٦٣٢ـ حدثنا به القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ قال: يسترقّون نساءكم. فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إنه استـحياء الصبـايا الأطفـال، قال: إذ لـم نـجدهن يـلزمهن اسم نساء. ثم دخـل فـيـما هو أعظم مـما أنكر بتأويـله (ويستـحيون) يسترقّون، وذلك تأويـل غير موجود فـي لغة عربـية ولا عجمية، وذلك أن الاستـحياء إنـما هو استفعالٌ من الـحياة نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقـي، وهو معنى من الاسترقاق بـمعزل. وقد قال آخرون: قوله يُذَبّحونَ أبْناءَكُمْ بـمعنى يذبحون رجالكم آبـاء أبنائكم. وأنكروا أن يكون الـمذبوحون الأطفـال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: فـي إخبـار اللّه جل ثناؤه إن الـمستـحين هم النساء الدلالة الواضحة علـى أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبـيان، لأن الـمذبحين لو كانوا هم الأطفـال لوجب أن يكون الـمستـحيون هم الصبـايا. قالوا: وفـي إخبـار اللّه عزّ وجل أنهم النساء ما يبـين أن الـمذبحين هم الرجال. وقد أغفل قائلوا هذه الـمقالة مع خروجهم من تأويـل أهل التأويـل من الصحابة والتابعين موضع الصواب، وذلك أن اللّه جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلـى أمّ موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت علـيه أن تلقـيه فـي التابوت ثم تلقـيه فـي الـيـم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنـما يقتلون الرجال ويتركون النساء لـم يكن بأمّ موسى حاجة إلـى إلقاء موسى فـي الـيـمّ، أو لو أن موسى كان رجلاً لـم تـجعله أمه فـي التابوت ولكن ذلك عندنا علـى ما تأوّله ابن عبـاس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبـيان وتركهم من القتل الصبـايا. وإنـما قـيـل: وَيَسْتَـحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إذ كان الصبـايا داخلات مع أمهاتهن، وأمهاتهن لا شك نساء فـي الاستـحياء، لأنهم لـم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبـارهن، فقـيـل: وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْ يعنـي بذلك الوالدات والـمولودات كما يقال: قد أقبل الرجال وإن كان فـيهم صبـيان، فكذلك قوله: وَيَسْتَـحْيُونَ نِساءَكُمْوأما من الذكور فإنه لـما لـم يكن يذبح إلا الـمولودون قـيـل: يذبحون أبناءكم، ولـم يقل يذبحون رجالكم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ منْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ. أما قوله: وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ فإنه يعنـي: وفـي الذي فعلنا بكم من إنـجائنا إياكم مـما كنتـم فـيه من عذاب آل فرعون إياكم علـى ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيـم. ويعنـي بقوله بلاء: نعمة. كما: ٦٣٣ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ قال: نعمة. ٦٣٤ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي في قوله: وفـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ أما البلاء: فـالنعمة. ٦٣٥ـ وحدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد: وفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ قال: نعمة من ربكم عظيـمة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثل حديث سفـيان. ٦٣٦ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاح، عن ابن جريج: وَفِـي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيـمٌ قال: نعمة عظيـمة. وأصل البلاء فـي كلام العرب: الاختبـار والامتـحان، ثم يستعمل فـي الـخير والشرّ، لأن الامتـحان والاختبـار قد يكون بـالـخير كما يكون بـالشرّ، كما قال اللّه جل ثناؤه: وَبَلَوْناهُمْ بـالـحسناتِ وَالسّيّئات لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: وَنَبْلُوكُمْ بـالشّرّ والـخَيْرِ فِتْنَةً. ثم تسمي العرب الـخير بلاء والشرّ بلاء، غير أن الأكثر فـي الشرّ أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفـي الـخير: أبلـيته أبلـيه إبلاءً وبلاءً ومن ذلك قول زهير بن أبـي سلـمى: جَزَى اللّه بـالإحْسانِ ما فَعَلا بكُمْوأبلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الّذِي يَبْلُو فجمع بـين اللغتـين لأنه أراد: فأنعم اللّه علـيهما خير النعم التـي يختبر بها عبـاده. ٥٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أما تأويـل قوله: وَإذْ فَرَقْنا بكُمُ فإنه عطف علـى: وَإذْ نَـجّيْناكُمْ بـمعنى: واذكروا نعمتـي التـي أنعمت علـيكم، واذكروا إذ نـجيناكم من آل فرعون، وإذ فرقنا بكم البحر. ومعنى قوله: فَرَقْنا بِكُمْ: فصلنا بكم البحر، لأنهم كانوا اثنـي عشر سبطا، ففرق البحر اثنـي عشر طريقا، فسلك كل سبط منهم طريقا منها. فذلك فرق اللّه بهم جل ثناؤه البحر، وفصله بهم بتفريقهم فـي طريق الاثنـي عشر. كما: ٦٣٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي: لـما أتـى موسى البحر كناه أبـا خالد، وضربه فـانفلق فكان كل فرق كالطود العظيـم، فدخـلت بنو إسرائيـل، وكان فـي البحر اثنا عشر طريقا فـي كل طريق سبط. وقد قال بعض نـحويـي البصرة: معنى قوله: وَإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فرقنا بـينكم وبـين الـماء: يريد بذلك: فصلنا بـينكم وبـينه وحجزناه حيث مررتـم به. وذلك خلاف ما فـي ظاهر التلاوة لأن اللّه جل ثناؤه إنـما أخبر أنه فرق البحر بـالقوم، ولـم يخبر أنه فرق بـين القوم وبـين البحر، فـيكون التأويـل ما قاله قائلوا هذه الـمقالة، وفرقه البحر بـالقوم، إنـما هو تفريقه البحر بهم علـى ما وصفنا من افتراق سبـيـله بهم علـى ما جاءت به الاَثار. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فأنْـجَيْناكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ. قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف غرق اللّه جل ثناؤه آل فرعون، ونَـجّى بنـي إسرائيـل؟ قـيـل له: كما: ٦٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن كعب القرظي، عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكر لـي أنه خرج فرعون فـي طلب موسى علـى سبعين ألفـا من دُهْم الـخيـل سوى ما فـي جنده من شُهْبِ الـخيـل وخرج موسى، حتـى إذا قابله البحر ولـم يكن له عنه منصرف، طلع فرعون فـي جنده من خـلفهم، فلـما تراءى الـجمعان قال أصحاب موسى إنّا لَـمُدْرَكُونَ قال موسى: كَلاّ إنّ مَعِي رَبـي سَيَهْدِينِ أي للنـجاة، وقد وعدنـي ذلك ولا خـلف لوعده. ٦٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: أوحى اللّه إلـى البحر فـيـما ذكر إذا ضربك موسى بعصاه فـانفلقْ له، قال: فبـات البحر يضرب بعضه بعضا فَرَقا من اللّه وانتظار أمره، فأوحى اللّه جل وعزّ إلـى موسى: أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فضربه بها وفـيها سلطان اللّه الذي أعطاه، فـانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيـمِ أي كالـجبل علـى يبس من الأرض. يقول اللّه لـموسى: اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبَسا لاَ تَـخافُ دَرَكا وَلا تَـخْشَى فلـما استقرّ له البحر علـى طريق قائمة يَبَسٍ سلك فـيه موسى ببنـي إسرائيـل، وأتبعه فرعون بجنوده. ٧٦٢وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن كعب القرظي، عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد اللـيثـي، قال: حدثت أنه لـما دخـل بنو إسرائيـل البحر، فلـم يبق منهم أحد، أقبل فرعون وهو علـى حصان له من الـخيـل حتـى وقـف علـى شفـير البحر، وهو قائم علـى حاله، فهاب الـحصان أن ينفذه فعرض له جبريـل علـى فرس أنثى وَدِيق، فقرّبها منه فشمها الفحل، فلـما شمها قدّمها، فتقدم معها الـحصان علـيه فرعون، فلـما رأى جند فرعون فرعونَ قد دخـل دخـلوا معه وجبريـل أمامه، وهم يتبعون فرعون وميكائيـل علـى فرس من خـلف القوم يسوقهم، يقول: الـحقوا بصاحبكم. حتـى إذا فصل جبريـل من البحر لـيس أمامه أحد، ووقـف ميكائيـل علـى ناحيته الأخرى ولـيس خـلفه أحد، طبق علـيهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان اللّه عزّ وجلّ وقدرته ما رأى وعرف ذلته وخذلته نفسه: آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيـلَ وأنا مِنَ الـمُسْلِـمِينَ. ٦٤٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبـي إسحاق الهمدانـي، عن عمرو بن ميـمون الأودي في قوله: وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأنْـجَيْنَاكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ قال: لـما خرج موسى ببنـي إسرائيـل بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتـى يصيح الديك قال: فواللّه ما صاح لـيـلتئذ ديك حتـى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتـى يجتـمع إلـيّ ستـمائة ألف من القبط. فلـم يفرغ من كبدها حتـى اجتـمع إلـيه ستـمائة ألف من القبط. ثم سار، فلـما أتـى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك يشير إلـى البحر. فأقحم يوشك فرسه فـي البحر حتـى بلغ الغمر، فذهب به ثم رجع، فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فواللّه ما كذبت ولا كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى اللّه جل ثناؤه إلـى موسى: أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْر فـانْفَلَقَ فَكانَ كُل فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيـم يقول: مثل جبل قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون فـي طريقهم، حتـى إذا تتاموا فـيه أطبقه اللّه علـيهم، فلذلك قال: وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ قال معمر: قال قتادة: كان مع موسى ستـمائة ألف، وأتبعه فرعون علـى ألف ألف ومائة ألف حصان. ٦٤١ـ وحدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار الرمادي، قال: حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: أوحى اللّه جل وعز إلـى موسى أنْ أسْرِ بعِبـادِي لَـيْلاً إنّكُمْ مُتّبَعُونَ قال: فسرى موسى ببنـي إسرائيـل لـيلاً، فأتبعهم فرعون فـي ألف ألف حصان سوى الإناث وكان موسى فـي ستـمائة ألف، فلـما عاينهم فرعون قال: إنّ هؤلاءِ لِشَرْذِمَةٌ قَلِـيـلُونَ وإنّهُمْ لَنا لَغَائِظُونَ وإنّا لَـجَمِيعٌ حَذِرُونَ. فسرى موسى ببنـي إسرائيـل حتـى هجموا علـى البحر، فـالتفتوا فإذا هم برَهْج دوابّ فرعون فقالوا: يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تأتِـيَنَا ومِن بعدِ ما جِئْتَنا هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بـمن معه. قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَـخْـلِفَكم فِـي الأرْضِ فَـيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال: فأوحى اللّه جل ثناؤه إلـى موسى أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر وأوحى إلـى البحر: أن اسمع لـموسى وأطع إذا ضربك قال: فبـات البحر له أفكل يعنـي له رعدة لا يدرى من أي جوانبه يضربه، قال: فقال يوشع لـموسى: بـماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر قال: فـاضربه قال: فضرب موسى البحر بعصاه، فـانفلق، فكان فـيه اثنا عشر طريقا، كل طريق كالطود العظيـم، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فـيه. فلـما أخذوا فـي الطريق، قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لـموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم علـى طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتـى نراهم قال سفـيان، قال عمار الدهنـي: قال موسى: اللّه مّ أعنـي علـى أخلاقهم السيئة قال: فأوحى اللّه إلـيه: أن قل بعصاك هكذا وأومأ إبراهيـم بـيده يديرها علـى البحر قال موسى بعصاه علـى الـحيطان هكذا، فصار فـيها كُوًى ينظر بعضهم إلـى بعض، قال سفـيان: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : فساروا حتـى خرجوا من البحر، فلـما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون علـى البحر هو وأصحابه، وكان فرعون علـى فرس أدهم ذَنُوب حصان. فلـما هجم علـى البحر هاب الـحصان أن يقتـحم فـي البحر، فتـمثل له جبريـل علـى فرس أنثى وَدِيق. فلـما رآها الـحصان تقحّم خـلفها، وقـيـل لـموسى: اترك البحر رَهْوا قال: طرقا علـى حاله قال: ودخـل فرعون وقومه فـي البحر، فلـما دخـل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر علـى فرعون وقومه فأغرقوا. ٦٤٢ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي: أن اللّه أمر موسى أن يخرج ببنـي إسرائيـل، فقال: أسْرِ بِعِبَـادِي لَـيْلاً إنّكُمْ مُتَبّعُونَ فخرج موسى وهارون فـي قومهما، وأُلقـي علـى القبط الـموت فمات كل بكر رجل. فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتـى طلعت الشمس، فذلك حين يقول اللّه جل ثناؤه: فأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِـينَ فكان موسى علـى ساقة بنـي إسرائيـل، وكان هارون أمامهم يقدُمُهم. فقال الـمؤمن لـموسى: يا نبـيّ اللّه ، أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتـحم، فمنعه موسى. وخرج موسى فـي ستـمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدّون ابنَ العشرين لصغره ولا ابن الستـين لكبره، وإنـما عدوّا ما بـين ذلك سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلـى مقدمته هامان فـي ألف ألف وسبعمائة ألف حصان لـيس فـيها ما ذبـانه، يعنـي الأنثى وذلك حين يقول اللّه جل ثناؤه: فأرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِـي الـمَدَائِنِ حاشِرِينَ إنّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِـيـلُونَ يعنـي بنـي إسرائيـل. فتقدم هارون، فضرب البحر، فأبى البحر أن ينفتـح، وقال: من هذا الـجبـار الذي يضربنـي؟ حتـى أتاه موسى، فكناه أبـا خالد وضربه فـانفلق فكانَ كلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيـم يقول: كالـجبل العظيـم. فدخـلت بنو إسرائيـل. وكان فـي البحر اثنا عشر طريقا، فـي كل طريق سبط، وكانت الطرق انفلقت بجدران، فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا: فلـما رأى ذلك موسى، دعا اللّه ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطّيقان. فنظر آخرهم إلـى أولهم، حتـى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه، فلـما نظر فرعون إلـى البحر منفلقا، قال: ألا ترون البحر فرق منـي قد انفتـح لـي حتـى أدرك أعدائي فأقتلهم؟ فذلك حين يقول اللّه جل ثناؤه: وأزْلَفْنا ثَمّ الاَخرِينَ يقول: قرّبنا ثم الاَخرين يعنـي آل فرعون. فلـما قام فرعون علـى أفواه الطرق أبت خيـله أن تقتـحم، فنزل جبريـل علـى ماذبـانه، فشامّ الـحصان ريح الـماذبـانه، فـاقتـحم فـي أثرها، حتـى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخـل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فـالتطم علـيهم. ٦٤٣ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـما أخذ علـيهم فرعون الأرض إلـى البحر قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخـلون البحر إن كانوا صادقـين. فلـما رآهم أصحاب موسى، قالوا: إنّا لَـمُدْرَكُونَ قال كَلاّ إنّ مَعِي رَبـي سَيَهْدِينِ فقال موسى للبحر: ألست تعلـم أنـي رسول اللّه ؟ قال: بلـى قال: وتعلـم أن هؤلاء عبـاد من عبـاد اللّه أمرنـي أن آتـي بهم؟ قال: بلـى قال: أتعلـم أن هذا عدوّ اللّه ؟ قال: بلـى قال: فـانفرقْ لـي طريقا ولـمن معي قال: يا موسى، إنـما أنا عبد مـملوك لـيس لـي أمر إلا أن يأمرنـي اللّه تعالـى. فأوحى اللّه عزّ وجل إلـى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فـانفرق، وأوحى إلـى موسى أن يضرب البحر، وقرأ قول اللّه تعالـى: فـاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبَسا لاَ تَـخافُ دَرَكا وَلا تَـخْشَى وقرأ قوله: وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوا سَهَلاً لـيس فـيه تعدّ. فـانفرق اثنتـي عشرة فرقة، فسلك كل سبط فـي طريق قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخـلوا البحر قال: ادخـلوا علـيهم، قال: وجبريـل فـي آخر بنـي إسرائيـل يقول لهم: لـيـلـحق آخركم أولكم. وفـي أول آل فرعون، يقول لهم: رويدا يـلـحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط فـي البحر يقولون للسبط الذين دخـلوا قبلهم: قد هلكوا. فلـما دخـل ذلك قلوبهم، أوحى اللّه جلّ وعزّ إلـى البحر، فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلـى هؤلاء، حتـى إذا خرج آخر هؤلاء ودخـل آخر هؤلاء أمر اللّه البحر فأطبق علـى هؤلاء. ويعنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ أي تنظرون إلـى فَرْقِ اللّه لكم البحر وإهلاكه آل فرعون فـي الـموضع الذي نـجاكم فـيه، وإلـى عظيـم سلطانه فـي الذي أراكم من طاعة البحر إياه من مصيره رُكاما فَلِقا كهيئة الأطواد الشامخة غير زائل عن حدّه، انقـيادا لأمر اللّه وإذعانا لطاعته، وهو سائل ذائب قبل ذلك. يوقـفهم بذلك جل ذكره علـى موضع حججه علـيهم، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم، ويحذرهم فـي تكذيبهم نبـينا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يحلّ بهم ما حلّ بفرعون وآله فـي تكذيبهم موسى صلى اللّه عليه وسلم. وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ كمعنى قول القائل: (ضُربت وأهلك ينظرون، فما أتوك ولا أعانوك) بـمعنى: وهم قريب بـمرأى ومسمع، وكقول اللّه تعالـى: ألَـمْ تَرَ إلـى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ ولـيس هناك رؤية، إنـما هو علـم. والذي دعاه إلـى هذا التأويـل أنه وجه قوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ: أي وأنتـم تنظرون إلـى غرق فرعون. فقال: قد كانوا فـي شغل من أن ينظروا مـما اكتنفهم من البحر إلـى فرعون وغرقه. ولـيس التأويـل الذي تأوله تأويـل الكلام، إنـما التأويـل: وأنتـم تنظرون إلـى فرق اللّه البحر لكم علـى ما قد وصفنا آنفـا، والتطام أمواج البحر بآل فرعون فـي الـموضع الذي صير لكم فـي البحر طريقا يبسا، وذلك كان لا شك نظر عيان لا نظر علـم كما ظنه قائل هذا القول الذي حكينا قوله. ٥١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأ بعضهم: وَاعَدْنا بـمعنى أن اللّه تعالـى واعد موسى ملاقاة الطور لـمناجاته، فكانت الـمواعدة من اللّه لـموسى، ومن موسى لربه. وكان من حجتهم علـى اختـيارهم قراءة وَاعَدْنا علـى (وعدنا) أن قالوا: كل إيعاد كان بـين اثنـين للالتقاء أو الاجتـماع، فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك، فلذلك زعموا أنه وجب أن يقضي لقراءة من قرأ: واعدنا بـالاختـيار علـى قراءة من قرأ (وعدنا). وقرأ بعضهم: (وعَدْنا) بـمعنى أن اللّه الواعد موسى، والـمنفرد بـالوعد دونه. وكان من حجتهم فـي اختـيارهم ذلك، أن قالوا: إنـما تكون الـمواعدة بـين البشر، فأما اللّه جل ثناؤه فإنه الـمنفرد بـالوعد والوعيد فـي كل خير وشرّ. قالوا: وبذلك جاء التنزيـل فـي القرآن كله، فقال جل ثناؤه: إنّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الـحَقّ وقال: وَإذْ يَعِدُكُمُ اللّه إحْدَى الطّائِفَتَـيْنِ أنها لَكُمْ قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو الـمنفرد بـالوعد في قوله: (وإذْ وَعَدْنا مُوسَى). والصواب عندنا فـي ذلك من القول، أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القراء، ولـيس فـي القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى، وإن كان فـي إحداهما زيادة معنى علـى الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة الـمفهوم بهما فهما متفقتان، وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بـموضع من الـمواضع، فمعلوم أن الـموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك الـمكان، مثل الذي وعده من ذلك صاحبه إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفـاق منهما علـيه. ومعلوم أن موسى صلوات اللّه علـيه لـم يَعِدْه ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك، إذ كان موسى غير مشكوك فـيه أنه كان بكل ما أمر اللّه به راضيا، وإلـى مـحبته فـيه مسارعا. ومعقول أن اللّه تعالـى لـم يعد موسى ذلك إلا وموسى إلـيه مستـجيب. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن اللّه عزّ ذكره قد كان وعد موسى الطور، ووعده موسى اللقاء، وكان اللّه عزّ ذكره لـموسى واعدا ومواعدا له الـمناجاة علـى الطور، وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأيّ القراءتـين من (وعد) و(واعد) قرأ القارىء، فهو الـحقّ فـي ذلك من جهة التأويـل واللغة، مصيب لـما وصفنا من العلل قبل. ولا معنى لقول القائل: إنـما تكون الـمواعدة بـين البشر، وأن اللّه بـالوعد والوعيد منفرد فـي كل خير وشرّ وذلك أن انفراد اللّه بـالوعد والوعيد فـي الثواب والعقاب والـخير والشرّ والنفع والضرّ الذي هو بـيده وإلـيه دون سائر خـلقه، لا يحيـل الكلام الـجاري بـين الناس فـي استعمالهم إياه عن وجوهه ولا يغيره عن معانـيه. والـجاري بـين الناس من الكلام الـمفهوم ما وصفنا من أن كل إيعاد كان بـين اثنـين فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه ومواعدة بـينهما، وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد، وأن الوعد الذي يكون به الإنفراد من الواعد دون الـموعود إنـما هو ما كان بـمعنى الوعد الذي هو خلاف الوعيد. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مُوسَى. وموسى فـيـما بلغنا بـالقبطية كلـمتان، يعنـي بهما: ماء وشجر، فمو: هو الـماء، وسا: هو الشجر. وإنـما سُمي بذلك فـيـما بلغنا، لأن أمه لـما جعلته فـي التابوت حين خافت علـيه من فرعون وألقته فـي الـيـم كما أوحى اللّه إلـيها وقـيـل: إن الـيـم الذي ألقته فـيه هو النـيـل دفعته أمواج الـيـم، حتـى أدخـلته بـين أشجار عند بـيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن التابوت، فأخذنه، فسُمي بـاسم الـمكان الذي أصيب فـيه. وكان ذلك الـمكان فـيه ماء وشجر، فقـيـل: موسى ماء وشجر: كذلك: ٦٤٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسبـاط بن نصر، عن السدي. وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيـل اللّه بن إسحاق ذبـيح اللّه ابن إبراهيـم خـلـيـل اللّه ، فـيـما زعم ابن إسحاق. ٦٤٥ـ حدثنـي بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عنه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً. ومعنى ذلك وَإذْ وَاعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً بتـمامها، فـالأربعون لـيـلة كلها داخـلة فـي الـميعاد. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن معناه: وإذْ واعدنا موسى انقضاء أربعين لـيـلة أي رأس الأربعين، ومثل ذلك بقوله: واسألِ القَرْيَةَ وبقولهم الـيوم أربعون منذ خرج فلان، والـيوم يومان، أي الـيوم تـمام يومين وتـمام أربعين. وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويـل وخلاف ظاهر التلاوة، فأما ظاهر التلاوة، فإن اللّه جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين لـيـلة، فلـيس لأحد إحالة ظاهر خبره إلـى بـاطن بغير برهان دالّ علـى صحتهوأما أهل التأويـل فإنهم قالوا فـي ذلك ما أنا ذاكره، وهو ما: ٦٤٦ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية قوله: وَإذْ وَاعَدْنا مُوسَى أرْبَعِينَ لَـيْـلَةً قالَ: يعنـي ذا القعدة وعشرا من ذي الـحجة. وذلك حين خـلف موسى أصحابه، واستـخـلف علـيهم هارون، فمكث علـى الطور أربعين لـيـلة، وأنزل علـيه التوراة فـي الألواح، وكانت الألواح من زبرجد. فقرّبه الربّ إلـيه نـجيّا، وكلـمه، وسمع صريف القلـم. وبلغنا أنه لـم يحدث حدثا فـي الأربعين لـيـلة حتـى هبط من الطور. وحدثت عن عمار بن الـحسن، حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بنـحوه. ٦٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: وعد اللّه موسى حين أهلك فرعون وقومه، ونـجاه وقومه ثلاثـين لـيـلة، ثم أتـمها بعشر، فتـمّ ميقات ربه أربعين لـيـلة، تلقاه ربه فـيها بـما شاء. واستـخـلف موسى هارون علـى بنـي إسرائيـل، وقال: إنـي متعجل إلـى ربـي فـاخـلفنـي فـي قومي ولا تتبع سبـيـل الـمفسدين فخرج موسى إلـى ربه متعجلاً للقائه شوقا إلـيه، وأقام هارون فـي بنـي إسرائيـل ومعه السامريّ يسير بهم علـى أثر موسى لـيـلـحقهم به. ٦٤٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي، قال: انطلق موسى واستـخـلف هارون علـى بنـي إسرائيـل، وواعدهم ثلاثـين لـيـلة وأتـمها اللّه بعشر. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ثُمّ اتّـخَذْتُـمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأنْتُـمْ ظالِـمُونَ. وتأويـل قوله: ثُمّ اتّـخَذْتُـمُ العجْلَ منْ بَعْدِهِ ثم اتـخذتـم فـي أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فـارقكم موسى متوجها إلـى الـموعد. والهاء في قوله (من بعده) عائدة علـى ذكر موسى. فأخبر جل ثناؤه الـمخالفـين نبـينا صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل الـمكذّبـين به الـمخاطبـين بهذه الآية، عن فعل آبـائهم وأسلافهم وتكذيبهم رسلهم وخلافهم أنبـياءهم، مع تتابع نعمه علـيهم وسبوغ آلائه لديهم، معرّفهم بذلك أنهم من خلافهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وتكذيبهم به وجحودهم لرسالته، مع علـمهم بصدقه علـى مثل منهاج آبـائه وأسلافهم، ومـحذّرهم من نزول سطوته بهم بـمقامهم علـى ذلك من تكذيبهم ما نزل بأوائلهم الـمكذّبـين بـالرسل من الـمسخ واللعن وأنواع النقمات. وكان سبب اتـخاذهم العجل ما: ٦٤٩ـ حدثنـي به عبد الكريـم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار الرمادي، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما هجم فرعون علـى البحر هو وأصحابه، وكان فرعون علـى فرس أدهم ذنوب حصان فلـما هجم علـى البحر هاب الـحصان أن يقتـحم فـي البحر، فتـمثل له جبريـل علـى فرس أنثى وديق، فلـما رآها الـحصان تقحّم خـلفها قال: وعرف السامريّ جبريـل لأن أمه حين خافت أن يذبح خـلفته فـي غار وأطبقت علـيه، فكان جبريـل يأتـيه فـيغذوه بأصابعه، فـيجد فـي بعض أصابعه لبنا، وفـي الأخرى عسلاً، وفـي الأخرى سمنا. فلـم يزل يغذوه حتـى نشأ، فلـما عاينه فـي البحر عرفه، فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تـحت الـحافر قبضة. قال سفـيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: (فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول). قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عبـاس : وألقـي فـي رُوع السامري أنك لا تلقـيها علـى شيء فتقول كن كذا وكذا إلا كان. فلـم تزل القبضة معه فـي يده حتـى جاوز البحر. فلـما جاوز موسى وبنو إسرائيـل البحر، وأغرق اللّه آل فرعون، قال موسى لأخيه هارون: اخْـلُفْنِـي فِـي قَوْمِي وأصْلِـحْ ومضى موسى لـموعد ربه قال: وكان مع بنـي إسرائيـل حلـيّ من حلـيّ آل فرعون قد تعوّروه، فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله، فلـما جمعوه، قال السامريّ بـالقبضة التـي كانت فـي يده هكذا، فقذفها فـيه وأومأ ابن إسحاق بـيده هكذا وقال: كن عجلاً جسدا له خوار فصار عجلاً جسدا له خوار. وكان يدخـل الريح فـي دبره ويخرج من فـيه يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا علـى العجل يعبدونه، فقال هارون: يا قَوْمِ إنّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ وإنّ رَبّكُمْ الرّحْمَنُ فـاتّبِعُونِـي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَح عَلَـيْهِ عاكِفـينَ حتـى يَرْجَعَ إلَـيْنَا مُوسَى. ٦٥٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي: لـما أمر اللّه موسى أن يخرج ببنـي إسرائيـل يعنـي من أرض مصر أمر موسى بنـي إسرائيـل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الـحلـيّ من القبط. فلـما نـجّى اللّه موسى ومن معه من بنـي إسرائيـل من البحر، وغرق آل فرعون، أتـى جبريـل إلـى موسى يذهب به إلـى اللّه ، فأقبل علـى فرس فرآه السامري، فأنكره، وقال: إنه فرس الـحياة. فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الـحافر حافر الفرس. فـانطلق موسى، واستـخـلف هارون علـى بنـي إسرائيـل، وواعدهم ثلاثـين لـيـلة، وأتـمها اللّه بعشر. فقال لهم هارون: يا بنـي إسرائيـل إن الغنـيـمة لا تـحل لكم، وإن حلـيّ القبط إنـما هو غنـيـمة، فـاجمعوها جميعا، واحفروا لها حفرة فـادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتـموها، وإلا كان شيئا لـم تأكلوه. فجمعوا ذلك الـحلـيّ فـي تلك الـحفرة، وجاء السامريّ بتلك القبضة، فقذفها، فأخرج اللّه من الـحلـيّ عجلاً جسدا له خوار. وعدّت بنو إسرائيـل موعد موسى، فعدّوا اللـيـلة يوما والـيوم يوما، فلـما كان تـمام العشرين خرج لهم العجل فلـما رأوه قال لهم السامري: هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا علـيه يعبدونه. وكان يخور ويـمشي، فقال لهم هارون: يا بنـي إسرائيـل إنّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ يقول: إنـما ابتلـيتـم به يقول: بـالعجل وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بنـي إسرائيـل لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلـى إلهه يكلـمه، فلـما كلـمه قال له: وما أعجلَكَ عَنْ قَوْمكَ يا موسَى قالَ هُمْ أُولاءِ علـى أثَرِي وعَجِلْتُ إلَـيْكَ رَبـي لِتَرْضَى قال فإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ منْ بَعْدِكَ وأضَلّهُمُ السّامِري فأخبره خبرهم. قال موسى: يا ربّ هذا السامري أمرهم أن يتـخذوا العجل، أرأيت الروح من نفخها فـيه؟ قال الرب: أنا قال: ربّ أنت إذا أضللتهم. ٦٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، قال: كان فـيـما ذكر لـي أن موسى قال لبنـي إسرائيـل فـيـما أمره اللّه عزّ وجلّ به: استعيروا منهم يعنـي من آل فرعون الأمتعة والـحلـيّ والثـياب، فإنـي منفلكم أموالهم مع هلاكهم. فلـما أذن فرعون فـي الناس، كان مـما يحرّض به علـى بنـي إسرائيـل أن قال: حين سار ولـم يرضوا أن يخرجوا بأنفسهم حتـى ذهبوا بأموالكم معهم. ٦٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، عن حكيـم بن جبـير، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: كان السامري رجلاً من أهل بـاجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حبّ عبـادة البقر فـي نفسه، وكان قد أظهر الإسلام فـي بنـي إسرائيـل. فلـما فضل هارون فـي بنـي إسرائيـل وفضل موسى إلـى ربه، قال لهم هارون: أنتـم قد حملتـم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحلـيّا، فتطهروا منها، فإنها نـجس. وأوقد لهم نارا، فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فـيها قالوا: نعم. فجعلوا يأتون بـما كان معهم من تلك الأمتعة وذلك الـحلـيّ، فـيقذفون به فـيها، حتـى إذا تكسر الـحلـيّ فـيها ورأى السامريّ أثر فرس جبريـل أخذ ترابـا من أثر حافره، ثم أقبل إلـى النار فقال لهارون: يا نبـيّ اللّه ألقـي ما فـي يدي؟ قال: نعم. ولا يظنّ هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الـحلـيّ والأمتعة. فقذفه فـيها فقال: كن عجلاً جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة، فقال: هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فعكفوا علـيه، وأحبوه حبـا لـم يحبوا مثله شيئا قط. يقول اللّه عز وجل: فَنَسِيَ أي ترك ما كان علـيه من الإسلام، يعنـي السامري، أفَلا يَرَوْنَ أنْ لا يَرْجعُ إلَـيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَـمْلِكُ لَهُمْ ضَرّا وَلا نَفْعا وكان اسم السامري موسى بن ظفر، وقع فـي أرض مصر، فدخـل فـي بنـي إسرائيـل. فلـما رأى هارون ما وقعوا فـيه: قالَ يا قَوْمِ إنّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ وَإنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فـاتّبِعُونِـي وأطِيعُوا أمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَـيْهِ عَاكِفِـينَ حتـى يَرْجِعَ إلَـيْنَا مُوسَى فأقام هارون فـيـمن معه من الـمسلـمين مـمن لـم يفتتن، وأقام من يعبد العجل علـى عبـادة العجل. وتـخوّف هارون إن سار بـمن معه من الـمسلـمين أن يقول له موسى: فَرّقْتَ بَـيْنَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ وَلَـمْ تَرْقُبْ قَوْلِـي وكان له هائبـا مطيعا. ٦٥٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـما أنـجى اللّه عز وجل بنـي إسرائيـل من فرعون، وأغرق فرعون ومن معه، قال موسى لأخيه هارون: اخْـلُفْنِـي فِـي قَوْمِي وأصْلِـحْ وَلا تَتّبِعْ سَبِـيـلَ الـمُفْسِدِينَ قال: لـما خرج موسى وأمر هارون بـما أمره به، وخرج موسى متعجلاً مسرورا إلـى اللّه . قد عرف موسى أن الـمرء إذا نـجح فـي حاجة سيده كان يسرّه أن يتعجل إلـيه قال: وكان حين خرجوا استعاروا حلـيا وثـيابـا من آل فرعون، فقال لهم هارون: إن هذه الثـياب والـحلـيّ لا تـحلّ لكم، فـاجمعوا نارا، فألقوه فـيها فأحرقوه قال: فجمعوا نارا قال: وكان السامري قد نظر إلـى أثر دابة جبريـل، وكان جبريـل علـى فرس أنثى، وكان السامري فـي قوم موسى قال: فنظر إلـى أثره فقبض منه قبضة، فـيبست علـيها يده فلـما ألقـى قوم موسى الـحلـيّ فـي النار، وألقـى السامري معهم القبضة، صوّر اللّه جل وعز ذلك لهم عجلاً ذهبـا، فدخـلته الريح، فكان له خوارٌ، فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الـخبـيث: هذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ... الآية، إلـى قوله: حتـى يَرْجِعَ إلَـيْنَا مُوسَى قال: حتـى إذا أتـى موسى الـموعد، قال اللّه : ما أعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسَى قالَ هُمْ أُولاَءِ علـى أثَرِي فقرأ حتـى بلغ: أفَطالَ عَلَـيْكُمُ العَهْدُ. ٦٥٤ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد في قوله: ثمّ اتّـخَذْتُـمْ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ قال: العجل حَسِيـل البقرة قال: حلـيّ استعاروه من آل فرعون، فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريـل، فطرحه فـيه فـانسبك، وكان له كالـجوف تهوي فـيه الرياح. ٦٥٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: إنـما سمي العجل، لأنهم عَجِلُوا فـاتـخذوه قبل أن يأتـيهم موسى. حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحو حديث القاسم، عن الـحسن. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، بنـحوه. وتأويـل قوله وأنْتُـمْ ظالِـمُونَ يعنـي وأنتـم واضعوا العبـادة فـي غير موضعها لأن العبـادة لا تنبغي إلا للّه عز وجل وعبدتـم أنتـم العجل ظلـما منكم ووضعا للعبـادة فـي غير موضعها. وقد دللنا فـي غير هذا الـموضع مـما مضى من كتابنا أن أصل كل ظلـم وضع الشيء فـي غير موضعه، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. ٥٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } وتأويـل قوله: ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلكَ يقول: تركنا معاجلتكم بـالعقوبة من بعد ذلك، أي من بعد اتـخاذكم العجل إلها. كما: ٦٥٦ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يعنـي من بعد ما اتـخذتـم العجل. وأما تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ فإنه يعنـي به: لتشكروا. ومعنى (لعل) فـي هذا الـموضع معنى (كي)، وقد بـينت فـيـما مضى قبل أن أحد معانـي (لعل) (كي) بـما فـيه الكفـاية عن إعادته فـي هذا الـموضع. فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتـخاذكم العجل إلها لتشكرونـي علـى عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر علـى أهل اللبّ والعقل. ٥٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } يعنـي بقوله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ واذكروا أيضا إذ آتـينا موسى الكتاب والفرقان. ويعنـي بـالكتاب: التوراة، وبـالفرقان: الفصل بـين الـحقّ والبـاطل. كما: ٦٥٧ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية، في قوله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ والفُرْقانَ قال: فرق به بـين الـحقّ والبـاطل. ٦٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ وَالفُرْقانَ قال: الكتاب: هو الفرقان، فرقان بـين الـحق والبـاطل. حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. وحدثنـي القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ وَالفُرْقان قال: الكتاب: هو الفرقان، فرق بـين الـحقّ والبـاطل. ٦٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: و قال ابن عبـاس : الفرقان: جماع اسم التوراة والإنـجيـل والزبور والفرقان. وقال ابن زيد فـي ذلك بـما: ٦٦٠ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته، يعنـي ابن زيد، عن قول اللّه عز وجل: وَإذْ آتَـيْنَا مُوسى الكتابَ والفُرْقانَ فقال: أما الفرقان الذي قال اللّه جل وعز: يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ فذلك يوم بدر، يوم فرق اللّه بـين الـحق والبـاطل، والقضاءُ الذي فرق به بـين الـحق والبـاطل قال: فكذلك أعطى اللّه موسى الفرقان، فرق اللّه بـينهم، وسلـمه اللّه وأنـجاه فرق بـينهم بـالنصر، فكما جعل اللّه ذلك بـين مـحمد والـمشركين، فكذلك جعله بـين موسى وفرعون. قال أبو جعفر: وأولـى هذين التأويـلـين بتأويـل الآية ما رُوي عن ابن عبـاس وأبـي العالـية ومـجاهد، من أن الفرقان الذي ذكر اللّه أنه آتاه موسى فـي هذا الـموضع هو الكتاب الذي فرق به بـين الـحقّ والبـاطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فـيكون تأويـل الآية حينئذ: وإذ آتـينا موسى التوراة التـي كتبناها له فـي الألواح، وفرقنا بها بـين الـحقّ والبـاطل. فـيكون الكتاب نعتا للتوراة أقـيـم مقامها استغناءً به عن ذكر التوراة، ثم عطف علـيه بـالفرقان، إذ كان من نعتها. وقد بـينا معنى الكتاب فـيـما مضى من كتابنا هذا، وأنه بـمعنى الـمكتوب. وإنـما قلنا هذا التأويـل أولـى بـالآية وإن كان مـحتـملاً غيره من التأويـل، لأن الذي قبله ذكر الكتاب، وأن معنى الفرقان الفصل، وقد دللنا علـى ذلك فـيـما مضى من كتابنا هذا، فإلـحاقه إذ كان كذلك بصفة ما ولـيه أَوْلـى من إلـحاقه بصفة ما بعد منه. وأما تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ فنظير تأويـل قوله تعالى: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ومعناه لتهتدوا. وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتـينا موسى التوراة التـي تفرق بـين الـحقّ والبـاطل لتهتدوا بها وتتبعوا الـحقّ الذي فـيها لأنـي جعلتها كذلك هدى لـمن اهتدى بها واتبع ما فـيها. ٥٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ...... } وتأويـل ذلك: واذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بنـي إسرائيـل: يا قوم إنكم ظلـمتـم أنفسكم. وظلـمهم إياها كان فعلهم بها ما لـم يكن لهم أن يفعلوه بها مـما أوجب لهم العقوبة من اللّه تعالـى، وكذلك كل فـاعل فعلاً يستوجب به العقوبة من اللّه تعالـى فهو ظالـم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من اللّه تعالـى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلـموا به أنفسهم، هو ما أخبر اللّه عنهم من ارتدادهم بـاتـخاذهم العجل ربـا بعد فراق موسى إياهم، ثم أمرهم موسى بـالـمراجعة من ذنبهم والإنابة إلـى اللّه من ردّتهم بـالتوبة إلـيه، والتسلـيـم لطاعته فـيـما أمرهم به وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى التوبة: الأوبة مـما يكرهه اللّه إلـى ما يرضاه من طاعته. فـاستـجاب القوم لـما أمرهم به موسى من التوبة مـما ركبوا من ذنوبهم إلـى ربهم علـى ما أمرهم به. كما: ٦٦١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبد الرحمن، أنه قال فـي هذه الآية: فـاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ قال: عمدوا إلـى الـخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضا. ٦٦٢ـ حدثنـي عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج بن مـحمد، قال ابن جريج، أخبرنـي القاسم بن أبـي بزة أنه سمع سعيد بن جبـير ومـجاهدا قالا: قام بعضهم إلـى بعض بـالـخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحنّ رجل علـى رجل قريب ولا بعيد، حتـى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فتكشف عن سبعين ألف قتـيـل، وإن اللّه أوحى إلـى موسى أن حسبـي قد اكتفـيت، فذلك حين ألوى بثوبه. ٦٦٣ـ حدثنـي عبد الكريـم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيـم بن بشار، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، قال: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال موسى لقومه: تُوبُوا إلـى بـارِئكُمْ فَـاقْتُلُوا أنفُسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ بـارِئِكُمْ فتَابَ علَـيكُمْ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيـمُ قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عزّ وجلّ أن يقتلوا أنفسهم، قال: فـاختبأ الذين عكفوا علـى العجل فجلسوا، وقام الذين لـم يعكفوا علـى العجل وأخذوا الـخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلـمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا. فـانـجلت الظلـمة عنهم، وقد أجْلَوْا عن سبعين ألف قتـيـل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقـي كانت له توبة. ٦٦٤ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما رجع موسى إلـى قومه قال يا قَوْمِ ألـمْ يَعِدْكُمْ رَبكُمْ وعْدا حَسَنا إلـى قوله: فَكَذَلِكَ ألْقَـى السّامِرِيّ فألْقَـى مُوسَى الألْوَاحَ وأخَذَ برأسِ أخيهِ يَجُرّهُ إلَـيْهِ قالَ يا ابْنَ أُمّ لا تأخُذْ بِلِـحْيَتِـي وَلا بِرأسِي إنـي خَشِيتُ أنْ تَقُول فَرّقْت بـينَ بَنِـي إسْرائِيـلَ ولَـمْ تَرْقُبْ قَوْلِـي فترك هارون ومال إلـى السامري، فقال ما خَطْبُكَ يا سامِرِيّ إلـى قوله: ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ فـي الـيَـمّ نَسْفـا. ثم أخذه فذبحه، ثم حرّقه بـالـمبرد، ثم ذراه فـي الـيـم، فلـم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فـيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا، فمن كان يحبه خرج علـى شاربـيه الذهب، فذلك حين يقول: واشْرِبُوا فـي قُلُوبِهِمْ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. فلـما سقط فـي أيدي بنـي إسرائيـل حين جاء موسى، وَرَأوْا أنهُمْ قَدْ ضَلّوا قالُوا لَئِنْ لـمْ يَرْحَمْنا ربّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنّ مِن الـخاسِرِينَ فأبى اللّه أن يقبل توبة بنـي إسرائيـل إلا بـالـحال التـي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَـمْتُـمْ أنْفُسَكُمْ بـاتّـخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ فـاقْتُلوا أنْفُسَكُمْ قال: فصفوا صفّـين ثم اجتلدوا بـالسيوف. فـاجتلد الذين عبدوه والذين لـم يعبدوه بـالسيوف، فكان من قتل من الفريقـين شهيدا، حتـى كثر القتل حتـى كادوا أن يهلكوا حتـى قتل بـينهم سبعون ألفـا، وحتـى دعا موسى وهارون: ربنا هلكت بنو إسرائيـل، ربنا البقـية البقـية فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب علـيهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقـي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: فتَاب عَلَـيْكُمْ إنّهُ هُو التّوّابُ الرحِيـمُ. ٦٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه تعالـى: بـاتّـخَاذِكُمُ العِجْلَ قال: كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضا بـالـخناجر، فجعل الرجل يقتل أبـاه ويقتل ولده، فتاب اللّه علـيهم. ٦٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وإذْ قال مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَـمْتُـمْ أنْفُسَكُمْ الآية قال: فصاروا صفـين، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فبلغ القتلـى ما شاء اللّه ، ثم قـيـل لهم: قد تـيب علـى القاتل والـمقتول. ٦٦٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي اللـيث، قال: حدثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، قال: لـما أمرت بنو إسرائيـل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى، فتضاربوا بـالسيوف، وتطاعنوا بـالـخناجر، وموسى رافع يديه. حتـى إذا فتر أتاه بعضهم قالوا: يا نبـيّ اللّه ادع اللّه لنا وأخذوا بعضديه يشدّون يديه، فلـم يزل أمرهم علـى ذلك حتـى إذا قبل اللّه توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيـل للذي كان من القتل فـيهم، فأوحى اللّه جل ثناؤه إلـى موسى: لا يحزنك، أما من قتل منكم فحيّ عندي يرزق، وأما من بقـي فقد قبلت توبته. فسرّ بذلك موسى وبنو إسرائيـل. ٦٦٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: فـاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ قال: قاموا صفـين فقتل بعضهم بعضا حتـى قـيـل لهم كفوا. قال قتادة: كانت شهادة للـمقتول وتوبة للـحيّ. ٦٦٩ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء: سمعت عبـيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلـى بعض يقتل بعضهم بعضا، ما يتوقـى الرجل أخاه ولا أبـاه ولا ابنه ولا أحدا حتـى نزلت التوبة. قال ابن جريج، و قال ابن عبـاس : بلغ قتلاهم سبعين ألفـا، ثم رفع اللّه عزّ وجل عنهم القتل، وتاب علـيهم. قال ابن جريج: قاموا صفـين، فـاقتتلوا بـينهم، فجعل اللّه القتل لـمن قتل منهم شهادة، وكانت توبة لـمن بقـي. وكان قتل بعضهم بعضا أن اللّه علـم أن ناسا منهم علـموا أن العجل بـاطل فلـم يـمنعهم أن ينكروا علـيهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا. ٦٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما رجع موسى إلـى قومه، وأحرق العجل وذراه فـي الـيـم خرج إلـى ربه بـمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا. سأل موسى ربه التوبة لبنـي إسرائيـل من عبـادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم قال: فبلغنـي أنهم قالوا لـموسى: نصبر لأمر اللّه ، فأمر موسى من لـم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بـالأفنـية وأصلت علـيهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبَهَش إلـيه النساء والصبـيان يطلبون العفو عنهم، فتاب علـيهم وعفـا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. ٦٧١ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـما رجع موسى إلـى قومه، وكانوا سبعون رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لـم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلـى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى أما من توبة؟ قال: بلـى فـاقْتُلُوا أنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ حَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بـارِئِكُمْ فَتابَ عَلَـيْكُمْ الآية.... فـاخترطوا السيوف والـجِرَزة والـخناجر والسكاكين قال: وبعث علـيهم ضبـابة، قال: فجعلوا يتلامسون بـالأيدي، ويقتل بعضهم بعضا قال: ويـلقـى الرجل أبـاه وأخاه فـيقتله ولا يدري، ويتنادون فـيها: رحم اللّه عبدا صبر حتـى يبلغ اللّه رضاه. وقرأ قول اللّه جل ثناؤه: وآتَـيْناهُمْ مِنَ الاَياتِ ما فِـيهِ بَلاءٌ مُبِـينٌ قال: فقتلاهم شهداء، وتـيب علـى أحيائهم. وقرأ: فَتابَ عَلَـيْكُمْ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيـم. فـالذي ذكرنا عمن روينا عنه الأخبـار التـي رويناها كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فـيـما بـينهم وبـين ربهم بعبـادتهم العجل مع ندمهم علـى ما سلف منهم من ذلك. وأما معنى قوله: فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ فإنه يعنـي به: ارجعوا إلـى طاعة خالقكم وإلـى ما يرضيه عنكم. كما: ٦٧٢ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: فَتُوبُوا إلـى بـارِئِكُمْ أي إلـى خالقكم. وهو من برأ اللّه الـخـلق يبرؤه فهو بـارىء. والبريّة: الـخـلق، وهي فعيـلة بـمعنى مفعولة، غير أنها لا تهمز كما لا يهمز ملك، وهو من (لأك)، لكنه جرى بترك الهمزة، كذلك قال نابغة بنـي ذبـيان: إلاّ سُلَـيْـمانَ إذْ قالَ الـمَلِـيكُ لَهُقُمْ فـي البَرِيّةِ فـاحْدُدْها عَنِ الفَندِ وقد قـيـل: إن البرية إنـما لـم تهمز لأنها فعيـلة من البَرَى، والبَرَى: التراب. فكأن تأويـله علـى قول من تأوله كذلك أنه مخـلوق من التراب. وقال بعضهم: إنـما أخذت البرية من قولك بريت العود، فلذلك لـم يهمز. قال أبو جعفر: وترك الهمز من بـارئكم جائز، والإبدال منها جائز، فإذ كان ذلك جائزا فـي بـاريكم فغير مستنكر أن تكون البرية من برى اللّه الـخـلق بترك الهمزة. وأما قوله: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بـارِئِكُمْ فإنه يعنـي بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بـارئكم لأنكم تنـجون بذلك من عقاب اللّه فـي الاَخرة علـى ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منهوقوله: فتَاب عَلَـيْكُمْ أي بـما فعلتـم مـما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من الـمـحذوف الذي استغنـي بـالظاهر منه عن الـمتروك، لأن معنى الكلام: فتوبوا إلـى بـارئكم، فـاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بـارئكم، فتبتـم فتاب علـيكم. فترك ذكر قوله (فتبتـم) إذْ كان في قوله: فتَابَ عَلَـيْكُمْ دلالة بـينة علـى اقتضاء الكلام فتبتـم. ويعنـي بقوله: فَتابَ عَلَـيْكُمْ رجع لكم ربكم إلـى ما أحببتـم من العفو عن ذنوبكم، وعظيـم ما ركبتـم، والصفح عن جرمكم إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيـمُ يعنـي الراجع لـمن أناب إلـيه بطاعته إلـى ما يحبّ من العفو عنه. ويعنـي بـالرحيـم: العائد إلـيه برحمته الـمنـجية من عقوبته. ٥٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } وتأويـل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتـم: يا موسى لن نصدّقك ولن نقرّ بـما جئتنا به حتـى نرى اللّه جهرة عيانا، برفع الساتر بـيننا وبـينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه حتـى ننظر إلـيه بأبصارنا، كما تُـجهر الركِيّة، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنفـى ما قد غطاه حتـى ظهر الـماء وصَفَـا، يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهرا وجهرة ولذلك قـيـل: قد جهر فلان بهذا الأمر مـجاهرة وجهارا: إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب: من اللاّئي يَضِلّ الألفُ منْهُمِسَحّا مِنْ مَخافَتِهِ جِهارا ٦٧٣ـ وكما حدثنا به القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : حتـى نَرى اللّه جَهْرَةً قال: علانـية. ٦٧٤ـ وحدثت، عن عمارة بن الـحسن قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع: حتّـى نَرى اللّه جَهْرَةً يقول: عيانا. ٦٧٥ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حتّـى نَرَى اللّه جَهْرَةً: حتـى يطلع إلـينا. ٦٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: حتّـى نَرَى اللّه جَهْرَةً: أي عيانا. فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبـائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبـيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات اللّه جل وعزّ وعِبَره ما تثلـج بأقلها الصدور، وتطمئنّ بـالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الـحجج علـيه، وسبوغ النعم من اللّه لديهم. وهم مع ذلك مرّة يسألون نبـيهم أن يجعل لهم إلها غير اللّه ومرة يعبدون العجل من دون اللّه ، ومرة يقولون لا نصدقك حتـى نرى اللّه جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلـى القتال: فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ومرة يقال لهم: قُولُوا حِطّة وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَاياكُمْ فـيقولون: حنطة فـي شعيرة، ويدخـلون البـاب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التـي آذوا بها نبـيهم علـيه السلام التـي يكثر إحصاؤها. فأعلـم ربنا تبـارك وتعالـى ذكره الذين خاطبهم بهذه الاَيات من يهود بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا فـي تكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، وجحودهم نبوّته، وتركهم الإقرار به وبـما جاء به، مع علـمهم به ومعرفتهم بحقـيقة أمره كأسلافهم وآبـائهم الذين فصل علـيهم قصصهم فـي ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم علـى نبـيهم موسى صلوات اللّه وسلامه علـيه تارة بعد أخرى، مع عظيـم بلاء اللّه جل وعزّ عندهم وسبوغ آلائه علـيهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ. اختلف أهل التأويـل فـي صفة الصاعقة التـي أخذتهم. فقال بعضهم بـما: ٦٧٧ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: ماتوا. ٦٧٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: سمعوا صوتا فصعقوا. يقول: فماتوا. وقال آخرون: بـما: ٦٧٩ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ والصاعقة: نار. وقال آخرون بـما: ٦٨٠ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وأصل الصاعقة: كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه حتـى يصير من هوله وعظيـم شأنه إلـى هلاك وعطب، وإلـى ذهاب عقل وغُمور فهم، أو فقد بعض آلات الـجسم، صوتا كان ذلك، أو نارا، أو زلزلة، أو رَجْفـا. ومـما يدل علـى أنه قد يكون مصعوقا وهو حيّ غير ميت، قول اللّه عز وجل: وَخَرّ مُوسَى صَعِقا يعنـي مغشيّا علـيه. ومنه قول جرير بن عطية: وهَلْ كان الفَرَزْذَقُ غَيْرَ قِرْدٍأصَابَتْهُ الصّواعِقُ فـاسْتَدَارَا فقد علـم أن موسى لـم يكن حين غشي علـيه وصعق ميتا لأن اللّه جل وعزّ أخبر عنه أنه لـما أفـاق قال: تُبْتُ إلـيك ولا شبه جرير الفرزدق وهو حيّ بـالقرد ميتا، ولكن معنى ذلك ما وصفنا. ويعنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ: وأنتـم تنظرون إلـى الصاعقة التـي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتـم تنظرون إلـيها. ٥٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ثُمّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } يعنـي بقوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ ثم أحيـيناكم. وأصل البعث: إثارة الشيء من مـحله، ومنه قـيـل: بعث فلان راحلته: إذا أثارها من مبركها للسير، كما قال الشاعر: فأبْعَثُهااَوهِيّ صَنـيعُ حَوْلٍحول كركنِ الرّعْنِ ذِعْلِبَةً وَقَاحَا والرعن: منقطع أنف الـجبل، والذعلبة: الـخفـيفة، والوقاح، الشديدة الـحافر أو الـخفّ. ومن ذلك قـيـل: بعثت فلانا لـحاجتـي: إذا أقمته من مكانه الذي هو فـيه للتوجه فـيها. ومن ذلك قـيـل لـيوم القـيامة: يوم البعث، لأنه يوم يثار الناس فـيه من قبورهم لـموقـف الـحساب. ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ من بعد موتكم بـالصاعقة التـي أهلكتكم. وقوله: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكرونـي علـى ما أولـيتكم من نعمتـي علـيكم بإحيائي إياكم استبقاء منـي لكم لتراجعوا التوبة من عظيـم ذنبكم بعد إحلالـي العقوبة بكم بـالصاعقة التـي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيـم خطئكم الذي كان منكم فـيـما بـينكم وبـين ربكم. وهذا القول علـى تأويـل من تأوّل قوله قول ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ ثم أحيـيناكم. وقال آخرون: معنى قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ أي بعثناكم أنبـياء. ٦٨١ـ حدثنـي بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي. قال أبو جعفر: وتأويـل الكلام علـى ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحيـيناكم من بعد موتكم، وأنتـم تنظرون إلـى إحيائنا إياكم من بعد موتكم، ثم بعثناكم أنبـياء لعلكم تشركون. وزعم السدي أن ذلك من الـمقدم الذي معناه التأخير، والـمؤخر الذي معناه التقديـم. ٦٨٢ـ حدثنا بذلك موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي. وهذا تأويـل يدل ظاهر التلاوة علـى خلافه مع إجماع أهل التأويـل علـى تـخطئته. والواجب علـى تأويـل السدي الذي حكيناه عنه أن يكون معنى قوله: لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ تشكرونـي علـى تصيـيري إياكم أنبـياء. وكان سبب قـيـلهم لـموسى ما أخبر اللّه جل وعزّ عنهم أنهم قالوا له من قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتـى نَرَى اللّه جَهْرَةً، ما: ٦٨٣ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، قال: لـما رجع موسى إلـى قومه، ورأى ما هم فـيه من عبـادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرّق العجل وذراه فـي الـيـم اختار موسى منهم سبعين رجلاً الـخيّر فـالـخيرُ، وقال: انطلقوا إلـى اللّه عزّ وجل، فتوبوا إلـيه مـما صنعتـم وسلوه التوبة علـى من تركتـم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثـيابكم فخرج بهم إلـى طور سيناء لـميقات وقته له ربه، وكان لا يأتـيه إلا بإذن منه وعلـم. فقال له السبعون فـيـما ذكر لـي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا للقاء اللّه : يا موسى اطلب لنا إلـى ربك لنسمع كلام ربنا فقال: أفعل. فلـما دنا موسى من الـجبل وقع علـيه الغمام حتـى تغشى الـجبل كله، ودنا موسى فدخـل فـيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلـمه ربه وقع علـى جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنـي آدم أن ينظر إلـيه، فضرب دونه الـحجاب. ودنا القوم حتـى إذا دخـلوا فـي الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلـم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلـما فرغ من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إلـيهم فقالوا لـموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّـى نَرَى اللّه جَهْرَةً فأخَذَتْهُمْ الرّجْفَةُ وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إلـيه و يقول: ربّ لوْ شئتَ أهلكتهمْ مِن قبلُ وإيّايَ قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بنـي إسرائيـل بـما تفعل السفهاء منا؟ أي أن هذا لهم هلاك، اخترت منهم سبعين رجلاً، الـخيّر فـالـخيّر ارجع إلـيهم، ولـيس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدّقونـي به أو يأمنونـي علـيه بعد هذا؟ إنّا هُدنا إلـيكَ. فلـم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إلـيه، حتـى ردّ إلـيهم أرواحهم، فطلب إلـيه التوبة لبنـي إسرائيـل من عبـادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. ٦٨٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي: لـما تابت بنو إسرائيـل من عبـادة العجل، وتاب اللّه علـيهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر اللّه تعالـى موسى أن يأتـيه فـي ناس من بنـي إسرائيـل يعتذرون إلـيه من عبـادة العجل، ووعدهم موعدا، فـاختار موسى من قومه سبعين رجلاً علـى عينه، ثم ذهب بهم لـيعتذروا. فلـما أتوا ذلك الـمكان قالوُا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّه جَهْرَةً فإنك قد كلـمته فأرناه. فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي، ويدعو اللّه و يقول: ربّ ماذا أقول لبنـي إسرائيـل إذا أتـيتهم وقد أهلكت خيارهم رَبّ لو شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإيّايَ أتُهْلِكُنا بِـما فَعَلَ السّفَهاءُ مِنّا. فأوحى اللّه إلـى موسى إن هؤلاء السبعين مـمن اتـخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِها مَنْ تَشاءُ وتَهْدِي مَنْ تَشاءُ... إنّا هُدْنا إلَـيْكَ وذلك قوله: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّه جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمْ الصّاعِقَةُ. ثُم إن اللّه جل ثناؤه أحياهم، فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلـى بعض كيف يحيون، فقالوا: يا موسى أنت تدعو اللّه فلا تسأله شيئا إلا أعطاك، فـادعه يجعلنا أنبـياء فدعا اللّه تعالـى، فجعلهم أنبـياء، فذلك قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ منْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ولكنه قدّم حرفـا وأخر حرفـا. ٦٨٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال لهم موسى لـما رجع من عند ربه بـالألواح، قد كتب فـيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب اللّه علـيهم، فقال: إن هذه الألواح فـيها كتاب اللّه فـيه أمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا واللّه حتـى نرى اللّه جهرة، حتـى يطلع اللّه علـينا فـ يقول: هذا كتابـي فخذوه فماله لا يكلـمنا كما يكلـمك أنت يا موسى؟ فـ يقول: هذا كتابـي فخذوه؟ وقرأ قول اللّه تعالـى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّه جَهْرَةً قال: فجاءت غضبة من اللّه عز وجل، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون قال: ثم أحياهم اللّه من بعد موتهم، وقرأ قول اللّه تعالـى: ثُمّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ فقال لهم موسى: خذوا كتاب اللّه فقالوا لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيـينا قال: خذوا كتاب اللّه قالوا لا. فبعث اللّه تعالـى ملائكة، فنتقت الـجبل فوقهم. ٦٨٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأخَذَتْكُمْ الصّاعِقَةُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قال: أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم اللّه تعالـى لـيكملوا بقـية آجالهم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس في قوله: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرى اللّه جَهْرَةً قال: فسمعوا صوتا فصعقوا. يقول: ماتوا. فذلك قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ منْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَبُعِثُوا من بعد موتهم لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم، فبعثوا لبقـية آجالهم. فهذا ما روي فـي السبب الذي من أجله قالوا لـموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتـى نَرَى اللّه جَهْرَةً ولا خبر عندنا بصحة شيء مـما قاله من ذكرنا قوله فـي سبب قـيـلهم ذلك لـموسى تقوم به حجة فتسلـم لهم. وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذا كان لا خبر بذلك تقوم به حجة، فـالصواب من القول فـيه أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: يا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتّـى نَرَى اللّه جَهْرَةً كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنـما أخبر اللّه عزّ وجلّ بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات توبـيخا لهم فـي كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وقد قامت حجته علـى من احتـج به علـيه، ولا حاجة لـمن انتهت إلـيه إلـى معرفة السبب الداعي لهم إلـى قـيـل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التـي ذكرناها، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال. ٥٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ ...... } وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ عطف علـى قوله: ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فتأويـل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا علـيكم الغمام، وعدد علـيهم سائر ما أنعم به علـيهم لعلكم تشكرون. والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غمّ السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مـما يسترها عن أعين الناظرين، وكل مغطّى فإن العرب تسميه مغموما. وقد قـيـل: إن الغمام التـي ظللّها اللّه علـى بنـي إسرائيـل لـم تكن سحابـا. ٦٨٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: لـيس بـالسحاب. وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: وَظَلّلْنَا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: لـيس بـالسحاب هو الغمام الذي يأتـي اللّه فـيه يوم القـيامة لـم يكن إلا لهم. وحدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه جل ثناؤه: وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: هو بـمنزلة السحاب. ٦٨٨ـ وحدثنـي القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : وَظَلّلْنا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتـي اللّه عز وجل فـيه يوم القـيامة في قوله: فـي ظلل من الغمام، وهو الذي جاءت فـيه الـملائكة يوم بدر. قال ابن عبـاس : وكان معهم فـي التـيه. وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا مـما غمّ السماء من شيء فغطى وجهها عن الناظر إلـيها، فلـيس الذي ظللّه اللّه عز وجل علـى بنـي إسرائيـل فوصفه بأنه كان غماما بأولـى بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابـا منه بأن يكون غير ذلك مـما ألبس وجه السماء من شيء، وقد قـيـل: إنه ما ابـيضّ من السحاب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ. اختلف أهل التأويـل فـي صفة الـمنّ. فقال بعضهم بـما: ٦٨٩ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَأنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ قال: الـمن: صمغة. حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٦٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة في قوله: وَأنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ وَالسّلْوَى يقول: كان الـمنّ ينزل علـيهم مثل الثلـج. وقال آخرون: هو شراب. ذكر من قال ذلك: ٦٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: الـمنّ: شراب كان ينزل علـيهم مثل العسل، فـيـمزجونه بـالـماء، ثم يشربونه. وقال آخرون: الـمن: عسل. ذكر من قال ذلك: ٦٩٢ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الـمنّ: عسل كان ينزل لهم من السماء. ٦٩٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن جابر، عن عامر، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من الـمنّ. وقال آخرون: الـمنّ: خبز الرقاق. ذكر من قال ذلك: ٦٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد، قال: سمعت وهبـا وسئل ما الـمنّ، قال: خبز الرقاق، مثل الذرة، ومثل النّقْـي. وقال آخرون: الـمنّ: الترنـجبـين. ذكر من قال ذلك: ٦٩٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الـمنّ كان يسقط علـى شجر الترنـجبـين. وقال آخرون: الـمنّ هو الذي يسقط علـى الشجر الذي تأكله الناس. ذكر من قال ذلك: ٦٩٦ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : كان الـمنّ ينزل علـى شجرهم فـيغدون علـيه فـيأكلون منه ما شاءوا. ٦٩٧ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن مـجالد. عن عامر في قوله: وأنْزلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ قال: الـمنّ: الذي يقع علـى الشجر. وحدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: الـمنّ قال: الـمن: الذي يسقط من السماء علـى الشجر فتأكله الناس. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن مـجالد، عن عامر، قال: الـمنّ: هذا الذي يقع علـى الشجر. وقد قـيـل إن الـمنّ: هو الترنـجبـين. وقال بعضهم: الـمنّ: هو الذي يسقط علـى الثمام والعُشَر، وهو حلو كالعسل، وإياه عنى الأعشى ميـمون بن قـيس بقوله: لَوْ أُطْعِمُوا الـمَنّ وَالسّلْوَى مكانَهُمُما أبْصَرَ النّاسُ طُعْما فِـيهمُ نَـجَعا وتظاهرت الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (الكمأةُ مِنَ الـمَنّ، وَمأُوها شِفـاءٌ للْعَيْنِ). . وقال بعضهم: الـمنّ: شراب حلو كانوا يطبخونه فـيشربونهوأما أمية بن أبـي الصلت فإنه جعله فـي شعره عسلاً، فقال يصف أمرهم فـي التـيه وما رزقوا فـيه: فَرأى اللّه أنّهُمْ بِـمَضيعٍلا بِذِي مَزْرَعٍ وَلا مَثْمُورَا فنساها عَلَـيْهِمُ غَادِياتٍومَرَى مُزْنَهُمْ خَلايا وخُورَا عَسَلاً ناطِفـا ومَاءً فُرَاتاوَحَلـيبـا ذَا بَهْجَةٍ مَـمْرُورَا الـمـمرور: الصافـي من اللبن، فجعل الـمنّ الذي كان ينزل علـيهم عسلاً ناطفـا، والناطف: هو القاطر. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَالسّلْوَى والسلوى: اسم طائر يشبه السمانَـي، واحده وجماعه بلفظ واحد، كذلك السمانَـي لفظ جماعها ووأحدها سواء. وقد قـيـل: إن واحدة السلوى سلواة. ذكر من قال ذلك: ٦٩٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنـي عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: السلوى: طير يشبه السمانَـي. ٦٩٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: كان طيرا أكبر من السمانـي. ٧٠٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: السلوى: طائر كانت تـحشرها علـيهم الريح الـجنوب. ٧٠١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: السلوى: طائر. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: السلوى: طير. ٧٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد، قال: سمعت وهبـا وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الـحمام. ٧٠٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: السلوى: طير. ٧٠٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: السلوى: كان طيرا يأتـيهم مثل السمانـي. ٧٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن مـجالد، عن عامر، قال: السلوى: السمانـي. ٧٠٦ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: السلوى: هو السمانـي. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن مـجالد، عن عامر، قال: السلوى: السمانـي. ٧٠٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرة، عن الضحاك ، قال: السمانَى هو السلوى. فإن قال قائل: وما سبب تظلـيـل اللّه جل ثناؤه الغمام وإنزاله الـمنّ والسلوى علـى هؤلاء القوم؟ قـيـل: قد اختلف أهل العلـم فـي ذلك، ونـحن ذاكرون ما حضرنا منه. ٧٠٨ـ فحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي: لـما تاب اللّه علـى قوم موسى وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم اللّه بـالـمسير إلـى أريحا، وهي أرض بـيت الـمقدس. فساروا حتـى إذا كانوا قريبـا منها بعث موسى اثنـي عشر نقـيبـا. وكان من أمرهم وأمر الـجبـارين، وأمر قوم موسى ما قد قصّ اللّه فـي كتابه، فقال قوم موسى لـموسى: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ فغضب موسى، فدعا علـيهم قال: رَبّ إنـي لا أمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وأخِي فَـافْرُقْ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَ القَوْمِ الفـاسِقِـينَ فكانت عجلة من موسى عجلها فقال اللّه تعالـى: إِنّهَا مُـحَرّمَةٌ عَلَـيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِـيهُونَ فِـي الأرْضِ. فلـما ضرب علـيهم التـيه ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلـما ندم أوحى اللّه إلـيه أنْ لا تأسَ علـى القَوْمِ الفـاسقِـينَ أي لا تـحزن علـى القوم الذين سميتهم فـاسقـين. فلـم يحزن. فقالوا: يا موسى كيف لنا بـماء ههنا، أين الطعام؟ فأنزل اللّه علـيهم الـمنّ، فكان يسقط علـى شجر الترنـجبـين، والسلوى: وهو طير يشبه السمانـي، فكان يأتـي أحدهم، فـينظر إلـى الطير إن كان سمينا ذبحه، وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الـحجر، فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظلّ؟ فظلل علـيهم الغمام، فقالوا: هذا الظلّ فأين اللبـاس؟ فكانت ثـيابهم تطول معهم كما تطول الصبـيان، ولا يتـخرّق لهم ثوب، فذلك قوله: وَظَلّلْنَا عَلَـيْكُمْ الغَمَامَ وأنْزَلْنا عَلَـيْكُمْ الـمَنّ وَالسّلْوَى وقوله: وَإِذْ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الـحَجَرَ فَـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا قَدْ عَلِـمَ كلّ أُناسِ مَشْرَبَهُمْ. ٧٠٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما تاب اللّه عز وجل علـى بنـي إسرائيـل وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبـادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلـى الأرض الـمقدسة، وقال: إننـي قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً، فـاخرج إلـيها وجاهد من فـيها من العدوّ فإنـي ناصركم علـيهم فسار بهم موسى إلـى الأرض الـمقدسة بأمر اللّه عزّ وجل، حتـى إذا نزل التـيه بـين مصر والشام وهي أرض لـيس فـيها خَمَر ولا ظلّ، دعا موسى ربه حين آذاهم الـحر، فظلل علـيهم بـالغمام، ودعا لهم بـالرزق، فأنزل اللّه لهم الـمنّ والسلوى. ٧١٠ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس. وحدثت عن عمار بن الـحسن، حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَظَلّلْنَا عَلَـيْكُمْ الغَمامَ قال: ظلل علـيهم الغمام فـي التـيه: تاهوا فـي خمسة فراسخ أو ستة، كلـما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم فـي مكانهم الذي ارتـحلوا منه، فكانوا كذلك حتـى مرّت أربعون سنة قال: وهم فـي ذلك ينزل علـيهم الـمنّ والسلوى ولا تبلـى ثـيابهم، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ٧١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد، قال: سمعت وهبـا يقول: إن بنـي إسرائيـل لـما حرّم اللّه علـيهم أن يدخـلوا الأرض الـمقدسة أربعين سنة يتـيهون فـي الأرض شكوا إلـى موسى، فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن اللّه سيأتـيكم بـما تأكلون. قالوا: من أين لنا إلا أن يـمطر علـينا خبزا؟ قال: إن اللّه عز وجل سينزل علـيكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل علـيهم الـمنّ. سئل وهب: ما الـمنّ؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقـي قالوا: وما نأتدم، وهل بدّ لنا من لـحم؟ قال: فإن اللّه يأتـيكم به. فقالوا: من أين لنا إلا أن تأتـينا به الريح؟ قال: فإن الريح تأتـيكم به، وكانت الريح تأتـيهم بـالسلوى فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الـحمام كانت تأتـيهم فـيأخذون منه من السبت إلـى السبت قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخـلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نـحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة، قالوا: فإن فـينا أولادا فما نكسوهم؟ قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الـماء؟ قال: يأتـيكم به اللّه . قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الـحجر. فأمر اللّه تبـارك وتعالـى موسى أن يضرب بعصاه الـحجر. قالوا: فبـم نبصر؟ تغشانا الظلـمة. فضرب لهم عمود من نور فـي وسط عسكرهم أضاء عسكرهم كله، قالوا: فبـم نستظل؟ فإن الشمس علـينا شديدة قال: يظلكم اللّه بـالغمام. حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نـحو حديث موسى بن هارون عن عمرو بن حماد، عن أسبـاط، عن السدي. ٧١٢ـ حدثنـي القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال: عبد اللّه بن عبـاس: خـلق لهم فـي التـيه ثـياب لا تـخـلق ولا تدرن قال: وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من الـمنّ والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون فـي يوم الـجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فـاسدا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيّبـات ما رزَقْنَاكُمْ. وهذا مـما استغنـي بدلالة ظاهره علـى ما ترك منه، وذلك أن تأويـل الآية: وظللنا علـيكم الغمام، وأنزلنا علـيكم الـمن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبـات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله: (وقلنا لكم...) لـما بـينا من دلالة الظاهر فـي الـخطاب علـيه. وعنى جل ذكره بقوله: كُلُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا رزَقْنَاكُمْ كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه. وقد قـيـل عنى بقوله: مِنْ طَيبَـاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ من حلاله الذي أبحناه لكم، فجعلناه لكم رزقا. والأول من القولـين أولـى بـالتأويـل لأنه وصف ما كان القوم فـيه من هنـيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك بـالطيب الذي هو بـمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنه حلال مبـاح. و(ما) التـي مع (رزقناكم) بـمعنى (الذي) كأنه قـيـل: كلوا من طيبـات الرزق الذي رزقناكموه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ومَا ظَلَـمُونا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ. وهذا أيضا من الذي استغنـي بدلالة ظاهره علـى ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبـات ما رزقناكم، فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم ثم رسولنا إلـيهم، وما ظلـمونا. فـاكتفـى بـما ظهر عما تركوقوله: وَما ظَلَـمُونَا يقول: وما ظلـمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ. ويعنـي بقوله: وَمَا ظَلَـمُونَا: وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرّة علـينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة علـيها ومنقصة لها. كما: ٧١٣ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَما ظَلَـمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِـمُونَ قال: يضرّون. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن أصل الظلـم وضع الشيء فـي غير موضعه بـما فـيه الكفـاية، فأغنى ذلك عن إعادته. وكذلك ربنا جل ذكره لا تضرّه معصية عاص، ولا يتـحيف خزائنه ظلـم ظالـم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد فـي ملكه عدل عادل بل نفسه يظلـم الظالـم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع الـمطيع، وحظها يصيب العادل. ٥٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً .....} والقرية التـي أمرهم اللّه جل ثناؤه أن يدخـلوها، فـيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فـيـما ذكر لنا: بـيت الـمقدس. ذكر الرواية بذلك: ٧١٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ قال: بـيت الـمقدس. ٧١٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنـي عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُـلُوا هَذِذِ القَرْيَةَ أما القرية فقرية بـيت الـمقدس. ٧١٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ يعنـي بـيت الـمقدس. ٧١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته يعنـي ابن زيد عن قوله: ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا قال: هي أريحا، وهي قريبة من بـيت الـمقدس. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُـمْ رَغَدا. يعنـي بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتـم عيشا هنـيا واسعا بغير حساب. وقد بـينا معنى الرغد فـيـما مضى من كتابنا، وذكرنا أقوال أهل التأويـل فـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا. أما البـاب الذي أمروا أن يدخـلوه، فإنه قـيـل: هو بـاب الـحطة من بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك: ٧١٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: بـاب الـحطة من بـاب إيـلـياء من بـيت الـمقدس. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٧١٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا أما البـاب فبـاب من أبواب بـيت الـمقدس. ٧٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا أنه أحد أبواب بـيت الـمقدس، وهو يدعى بـاب حطة. وأما قوله: سُجّدا فإن ابن عبـاس كان يتأوّله بـمعنى الركع. ٧٢١ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس في قوله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: ركعا من بـاب صغير. حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن سفـيان، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد، عن ابن عبـاس في قوله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: أمروا أن يدخـلوا ركعا. وأصل السجود: الانـحناء لـمن سجد له معظما بذلك، فكل منـحن لشيء تعظيـما له فهو ساجد، ومنه قول الشاعر: بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِـي حَجَرَاتِهِتَرَى أُلاكْمَ فِـيهِ سُجّدا للْـحَوَافِرِ ) يعنـي بقوله: سجدا: خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بنـي قـيس بن ثعلبة: يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الـمَلِـيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُءَوارَا فذلك تأويـل ابن عبـاس قوله: سُجّدا ركعا، لأن الراكع منـحن، وإن كان الساجد أشدّ انـحناء منه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَقُولُوا حِطّةٌ. وتأويـل قوله: حِطّةٌ: فعلة، من قول القائل: حطّ اللّه عنك خطاياك فهو يحطها حطة، بـمنزلة الردة والـحدّة والـمدة من حددت ومددت. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـله، فقال بعضهم بنـحو الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك منهم: ٧٢٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أنبأنا معمر: وَقُولُوا حِطّةٌ قال الـحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا. ٧٢٣ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَقُولُوا حِطّةٌ: يحطّ اللّه بها عنكم ذنبكم وخطاياكم. ٧٢٤ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس : قُولُوا حِطّةٌ قال: يحطّ عنكم خطاياكم. ٧٢٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن الأعمش، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: حِطّةٌ: مغفرة. ٧٢٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: حِطّةٌ قال: يحطّ عنكم خطاياكم. ٧٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: أخبرنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء في قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: سمعنا أنه يحطّ عنهم خطاياهم. وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا لا إلَه إلا اللّه . كأنهم وجهوا تأويـله: قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم، وهو قول لا إلَه إلا اللّه . ذكر من قال ذلك: ٧٢٨ـ حدثنـي الـمثنى وسعد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قالا: أخبرنا حفص بن عمر، حدثنا الـحكم بن أبـان، عن عكرمة: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: قولوا لا إلَه إلا اللّه . وقال آخرون بـمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقـيـله الاستغفـار. ذكر من قال ذلك: ٧٢٩ـ حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي، حدثنا أبو أسامة، عن سفـيان، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَقُولُوا حِطّةٌ قال: أمروا أن يستغفروا. وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولون هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قـيـل لكم. ذكر من قال ذلك: ٧٣٠ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ قال: قولوا هذا الأمر حقّ كما قـيـل لكم. واختلف أهل العربـية فـي الـمعنى الذي من أجله رفعت الـحطة، فقال بعض نـحويـي البصرة: رفعت الـحطة بـمعنى (قولوا) لـيكن منكم حطة لذنوبنا، كما تقول للرجل سَمْعُك. وقال آخرون منهم: هي كلـمة أمرهم اللّه أن يقولوها مرفوعة، وفرض علـيهم قـيـلها كذلك. وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: رفعت الـحطة بضمير (هذه)، كأنه قال: وقولوا هذه حطة. وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الـخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة، فتكون حطة حينئذٍ خبرا ل(ما). والذي هو أقرب عندي فـي ذلك إلـى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب، أن يكون رفع حطة بنـية خبر مـحذوف قد دل علـيه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا البـاب سجدا حطة، فكفـى من تكريره بهذا اللفظ ما دل علـيه الظاهر من التنزيـل، وهوقوله: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا كما قال جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَتْ أُمّة مِنْهُمْ لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّه مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلـى رَبّكُمْ يعنـي موعظتنا إياهم معذرة إلـى ربكم. فكذلك عندي تأويـل قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ يعنـي بذلك: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُـلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ... وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا دخولنا ذلك سجدا حُطّةٌ لذنوبنا، وهذا القول علـى نـحو تأويـل الربـيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفـا. وأما علـى تأويـل قول عكرمة، فإن الواجب أن تكون القراءة بـالنصب فـي (حطة)، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: لا إلَه إلا اللّه ، أو أن يقولوا: نستغفر اللّه ، فقد قـيـل لهم: قولوا هذا القول، ف(قولوا) واقع حينئذٍ علـى الـحطة، لأن الـحطة علـى قول عكرمة هي قول لا إلَه إلا اللّه ، وإذ كانت هي قول لا إلَه إلا اللّه ، فـالقول علـيها واقع، كما لو أمر رجل رجلاً بقول الـخير، فقال له: (قل خيرا) نصبـا، ولـم يكون صوابـا أن يقول له (قل خير) إلا علـى استكراه شديد. وفـي إجماع القراء علـى رفع (الـحطة) بـيان واضح علـى خلاف الذي قاله عكرمة من التأويـل في قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ. وكذلك الواجب علـى التأويـل الذي رويناه عن الـحسن وقتادة في قوله: وَقُولُوا حِطّةٌ أن تكون القراءة فـي (حطة) نصبـا، لأن من شأن العرب إذا وضعوا الـمصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا الـمصادر، كما قال الشاعر: أُبِـيدوا بأيْدِي عُصْبَةٍ وَسُيُوفُهُمْعلـى أُمّهاتِ الهَامِ ضَرْبـا شآمِيَا وكقول القائل للرجل: سمعا وطاعة، بـمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذ اللّه بـمعنى: نعوذ بـاللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ. يعنـي بقوله: نَغْفِرْ لَكُمْ نتغمد لكم بـالرحمة خطاياكم ونسترها علـيكم، فلا نفضحكم بـالعقوبة علـيه. وأصل الغفر: التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قـيـل للبـيضة من الـحديد التـي تتـخذ جنة للرأس (مِغْفر)، لأنها تغطي الرأس وتُـجِنّه، ومثله غمد السيف، وهو ما يغمده فـيواريه ولذلك قـيـل لزئبر الثوب (عَفْرة)، لتغطيته الثوب، وحَوْلِه بـين الناظر والنظر إلـيها. ومنه قول أوس بن حجر: فَلا أعْتِبُ ابنَ العَمّ إنْ كانَ جاهِلاًوأغْفِرُ عَنْهُ الـجَهْلَ إنْ كانَ أَجْهَلاَ يعنـي بقوله: وأغفر عنه الـجهل: أستر علـيه جهله بحلـمي عنه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: خَطاياكُمْ والـخطايا جمع خطية بغير همز كما الـمطايا جمع مطية، والـحشايا جمع حشية. وإنـما ترك جمع الـخطايا بـالهمز، لأن ترك الهمز فـي خطيئة أكثر من الهمز، فجمع علـى خطايا، علـى أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت الـخطايا مـجموعة علـى خطيئة بـالهمز لقـيـل خطائي علـى مثل قبـيـلة وقبـائل، وصحيفة وصحائف. وقد تـجمع خطيئة بـالتاء فـيهمز فـيقال خطيئات، والـخطيئة فعلـية من خَطِىء الرجل يَخْطَا خِطْأً، وذلك إذا عدل عن سبـيـل الـحق. ومنه قول الشاعر: وَإِنْ مُهاجِرَينَ تَكَنّفـاهُلَعَمْرُ اللّه قَدْ خَطِئا وَخابَـا يعنـي أضلا الـحقّ وأثما. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الـمُـحْسِنِـينَ. وتأويـل ذلك ما رُوي لنا عن ابن عبـاس ، وهو ما: ٧٣١ـ حدثنا به القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس : وَسَنَزِيدُ الـمُـحْسِنِـينَ: من كان منكم مـحسنا زيد فـي إحسانه، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته. فتأويـل الآية: وإذْ قلنا ادخـلوا هذه القرية مبـاحا لكم كل ما فـيها من الطيبـات، موسعا علـيكم بغير حساب، وادخـلوا البـاب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا للّه حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب الـمذنب منكم، فنسترها علـيه، ونـحطّ أوزاره عنه، وسنزيد الـمـحسنـين منكم إلـى إحساننا السالف عنده إحسانا. ثم أخبر اللّه جل ثناؤه عن عظيـم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبـيائهم واستهزائهم برسله، مع عظيـم آلاء اللّه عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات، ومعلـمهم أنهم إن تعدّوا فـي تكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيـم إحسان اللّه بـمبعثه فـيهم إلـيهم، وعجائب ما أظهر علـى يديه من الـحجج بـين أظهرهم، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم. وقصّ علـينا أنبـاءهم فـي هذه الآيات فقال جل ثناؤه: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قـيـل لهمْ فَأَنْزَلْنا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السّماء الآية. ٥٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ .....} وتأويـل قوله: فَبَدّلَ فغير. ويعنـي بقوله: الّذِينَ ظَلَـمُوا الذين فعلوا ما لـم يكن لهم فعله. ويعنـي بقوله: قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قـيـل لهمْ بدلوا قولاً غير الذي أمروا أن يقولوه فقالوا خلافه، وذلك هو التبديـل والتغيـير الذي كان منهم. وكان تبديـلهم بـالقول الذي أمروا أن يقولوه قولاً غيره، ما: ٧٣٢ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبـا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قال اللّه لِبَنِـي إسْرَائِيـلَ: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ نَغْفِرُ لَكُمْ خَطاياكُمْ، فَبدلُوا وَدَخَـلُوا البـابَ يَزْحَفُونَ علـى أسْتاهِهِمْ و قالُوا: حَبّةٌ فـي شَعِيرَةٍ). حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة وعلـيّ بن مـجاهد، قالا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن صالـح بن كيسان، عن صالـح مولـى التوأمة، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: ٧٣٣ـ حدثت عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير، أو عن عكرمة، عن ابن عبـاس عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (دَخَـلُوا البـابَ الّذِي أُمِرُوا أنْ يَدْخُـلُوا مِنْهُ سُجّدا يَزْحُفُونَ علـى أسْتاهِهِمْ يَقُولُونَ حِنْطَةٌ فِـي شَعِيرةٍ). ٧٣٤ـ وحدثنـي مـحمد بن عبد اللّه الـمـحاربـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، عن معمر، عن همام، عن أبـي هريرة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم في قوله: حِطّةٌ قال: (بدّلوا فقالوا: حبة). ٧٣٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن أبـي سعيد عن أبـي الكنود، عن عبد اللّه : ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّة قالوا: حنطة حمراء فـيها شعيرة، فأنزل اللّه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. ٧٣٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس في قوله: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا قال: ركوعا من بـاب صغير. فجعلوا يدخـلون من قِبَلِ أستاههم. ويقولون حنطة فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن سفـيان، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد، عن ابن عبـاس ، قال: أمروا أن يدخـلوا ركعا، ويقولوا حطة قال: أمروا أن يستغفروا قال: فجعلوا يدخـلون من قبل أستاههم من بـاب صغير ويقولون حنطة يستهزئون، فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. ٧٣٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة والـحسن: ادْخُـلُوا البـابَ سُجدا قالا: دخـلوها علـى غير الـجهة التـي أمروا بها، فدخـلوها متزحفـين علـى أوراكهم، وبدلوا قولاً غير الذي قـيـل لهم، فقالوا: حبة فـي شعيرة. ٧٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أمر موسى قومه أن يدخـلوا البـاب سجدا ويقولوا حطة، وطُؤْطِىءَ لهم البـاب لـيسجدوا فلـم يسجدوا ودخـلوا علـى أدبـارهم وقالوا حنطة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أمر موسى قومه أن يدخـلوا الـمسجد ويقولوا حطة، وطؤطىء لهم البـاب لـيخفضوا رءوسهم، فلـم يسجدوا ودخـلوا علـى أستاههم إلـى الـجبل، وهو الـجبل الذي تـجلـى له ربه و قالوا: حنطة. فذلك التبديـل الذي قال اللّه عز وجل: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. ٧٣٩ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: (هطى سمقا يا ازبة هزبـا)، وهو بـالعربـية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فـيها شعيرة سوداء. فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. ٧٤٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَادْخُـلُوا البـاب سُجّدا قال: فدخـلوا علـى أستاههم مُقْنِعي رءوسهم. ٧٤١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي النضر بن عديّ، عن عكرمة: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا فدخـلوا مقنعى رءوسهم، وَقُولُوا حِطّة فقالوا: حنطة حمراء فـيها شعيرة، فذلك قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. ٧٤٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس: وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ قال: فكان سجود أحدهم علـى خده، وقُولُوا حِطّة نـحطّ عنكم خطاياكم، فقالوا: حنطة، . وقال بعضهم: حبة فـي شعيرة. فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قـيـل لهمْ. ٧٤٣ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ يحط اللّه بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم قال: فـاستهزءوا به يعنـي بـموسى و قالوا: ما يشاء موسى أن يـلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة. ٧٤٤ـ حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنـي الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، وقال ابن عبـاس : لـما دخـلوا قالوا: حبة فـي شعيرة. حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: حدثنـي أبـي سعيد بن مـحمد بن الـحسن، قال: أخبرنـي عمي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لـما دخـلوا البـاب قالوا حبة فـي شعيرة، فبدلوا قولاً غير الذي قـيـل لهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فأنْزلْنا عَلـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ. يعنـي بقوله: فأنْزَلْنا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا علـى الذين فعلوا ما لـم يكن لهم فعله من تبديـلهم القول الذي أمرهم اللّه جل وعزّ أن يقولوه قولاً غيره، ومعصيتهم إياه فـيـما أمرهم به وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه رِجْزا مِنَ السمّاءِ بِـما كانُوا يَفْسُقُونَ. والرّجز فـي لغة العرب: العذاب، وهو غير الرّجْز، وذلك أن الرّجز: البَثْر، ومنه الـخبر الذي رُوي عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم فـي الطاعون أنه قال: (إنّهُ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعْضُ أُلامَـمِ الّذِينَ قَبْلَكُمْ). ٧٤٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي عامر بن سعد بن أبـي وقاص، عن أسامة بن زيد، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إِنّ هَذا الوَجَعَ أوِ السّقْمَ رِجْزٌ عُذّبَ بِهِ بَعْضُ أُلامَـمِ قَبْلَكُمْ). ٧٤٦ـ وحدثنـي أبو شيبة بن أبـي بكر بن أبـي شيبة، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبـي عن الشيبـانـي عن ربـاح بن عبـيدة، عند عامر بن سعد، قال: شهدت أسامة بن زيد عن سعد بن مالك يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ الطّاعُونَ رِجْز أُنْزِلَ علـى مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ أوْ علـى بَنِـي إسْرائيـلَ). وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك: ٧٤٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: رِجْزا قال: عذابـا. ٧٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: فأنْزلْنا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ قال: الرجز: الغضب. ٧٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـما قـيـل لبنـي إسرائيـل: ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا وَقُولُوا حِطّةٌ فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيرَ الّذِي قـيـل لهمْ بعث اللّه جل وعز علـيهم الطاعون، فلـم يبق منهم أحدا. وقرأ: فأنْزَلْنَا علـى الّذِينَ ظَلَـمُوا رِجْزا مِنَ السمّاءِ بِـما كانُوا يَفْسُقُونَ قال: وبقـي الأبناء، ففـيهم الفضل والعبـادة التـي توصف فـي بنـي إسرائيـل والـخير، وهلك الاَبـاء كلهم، أهلكهم الطاعون. ٧٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرجز: العذاب، وكل شيء فـي القرآن رجز فهو عذاب. ٧٥١ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: رِجْزا قال: كل شيء فـي كتاب اللّه من الرجز، يعنـي به العذاب. وقد دللنا علـى أن تأويـل الرجز: العذاب. وعذابُ اللّه جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر اللّه جل ثناؤه أنه أنزل علـى الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء، وجائز أن يكون ذلك طاعونا، وجائز أن يكون غيره، ولا دلالة فـي ظاهر القرآن ولا فـي أثر عن الرسول ثابت أي أصناف ذلك كان. فـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال كما قال اللّه عزّ وجل: فأنْزَلْنا عَلَـيْهِمْ رِجْزا مِنَ السّماءِ بفسقهم. غير أنه يغلب علـى النفس صحة ما قاله ابن زيد للـخبر الذي ذكرت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي إخبـاره عن الطاعون أنه رجز، وأنه عذّب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقـينا لأن الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا بـيان فـيه أي أمة عذّبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذّبوا به كانوا غير الذين وصف اللّه صفتهم في قوله: فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَـمُوا قَوْلاً غَيرَ الذي قـيـل لهمْ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن معنى الفسق: الـخروج من الشيء. فتأويـل قوله: بِـمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ إذا بـما كانوا يتركون طاعة اللّه عزّ وجلّ، فـيخرجون عنها إلـى معصيته وخلاف أمره. ٦٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَىَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ.......} عنـي بقوله: وَإِذِ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ: وإذ استسقانا موسى لقومه: أي سألنا أن نسقـي قومه ماء. فترك ذكر الـمسؤول ذلك، والـمعنى الذي سأل موسى، إذ كان فـيـما ذكر من الكلام الظاهر دلالة علـى معنى ما ترك. وكذلك قوله: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الـحَجَرَ فَـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا مـما استغنـي بدلالة الظاهر علـى الـمتروك منه. وذلك أن معنى الكلام، فقلنا: اضرب بعصاك الـحجر، فضربه فـانفجرت. فترك ذكر الـخبر عن ضرب موسى الـحجر، إذ كان فـيـما ذكر دلالة علـى الـمراد منه. وكذلك قوله: قَدْ عَلِـمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ إنـما معناه: قد علـم كل أناس منهم مشربهم، فترك ذكر منهم لدلالة الكلام علـيه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن الناس جمع لا واحد له من لفظه، وأن الإنسان لو جمع علـى لفظه لقـيـل: أناسيّ وأناسية. وقوم موسى هم بنو إسرائيـل الذين قصّ اللّه عز وجل قصصهم فـي هذه الآيات ، وإنـما استسقـى لهم ربه الـماء فـي الـحال التـي تاهوا فـيها فـي التـيه، كما: ٧٥٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة قوله: وَإِذِ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ الآية قال: كان هذا إذ هم فـي البرية اشتكوا إلـى نبـيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوريّ أي من الطور أن يضربه موسى بعصاه، فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفـيض ماؤها لهم. ٧٥٣ـ حدثنـي تـميـم بن الـمنتصر، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبـي أيوب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: ذلك فـي التـيه ظلل علـيهم الغمام، وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى، وجعل لهم ثـيابـا لا تبلـى ولا تتسخ، وجعل بـين ظهرانـيهم حجر مربّع، وأمر موسى فضرب بعصاه الـحجر، فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فـي كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين، ولا يرتـحلون مَنْقلة إلا وجدوا ذلك الـحجر معهم بـالـمكان الذي كان به معهم فـي الـمنزل الأول. ٧٥٤ـ حدثنـي عبد الكريـم، قال: أخبرنا إبراهيـم بن بشار، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي سعيد، عن عكرمة عن ابن عبـاس ، قال: ذلك فـي التـيه، ضرب لهم موسى الـحجر، فصار فـيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها. ٧٥٥ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الـحَجَرَ فـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنا لكل سبط منهم عين، كل ذلك كان فـي تـيههم حين تاهوا. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: وَإذِ اسْتَسْقَـى مُوسَى لِقَوْمِهِ قال: خافوا الظمأ فـي تـيههم حين تاهوا، فـانفجر لهم الـحجر اثنتـي عشرة عينا ضربه موسى. قال ابن جريج، قال ابن عبـاس : الأسبـاط: بنو يعقوب كانوا اثنـي عشر رجلاً كل واحد منهم ولد سبطا أمّة من الناس. ٧٥٦ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: استسقـى لهم موسى فـي التـيه، فسقوا فـي حجر مثل رأس الشاة قال: يـلقونه فـي جوانب الـجوالق إذا ارتـحلوا، ويقرعه موسى بـالعصا إذا نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين. فكان بنو إسرائيـل يشربون منه، حتـى إذا كان الرحيـل استـمسكت العيون، وقـيـل به فألقـي فـي جانب الـجوالق، فإذا نزل رُمي به. فقرعه بـالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر. ٧٥٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنـي أسبـاط، عن السدي، قال: كان ذلك فـي التـيه. وأما قوله: قَدْ عَلِـمَ كُلّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ فإنـما أخبر اللّه عنهم بذلك، لأن معناهم فـي الذي أخرج اللّه جل وعز لهم من الـحجر الذي وصف جل ذكره فـي هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفـا معانـي سائر الـخـلق عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويـل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بعَصَاكَ الـحَجَرَ فضربه فـانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علـم كل أناس مشربهم، فقـيـل لهم: كلوا واشربوا من رزق اللّه أخبر اللّه جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم فـي التـيه من الـمنّ والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فـيه من الـماء من الـحجر الـمتعاور الذي لا قرار له فـي الأرض ولا سبـيـل إلـيه لـمالكيه يتدفق بعيون الـماء ويزخر بـينابـيع العذب الفرات بقدرة ذي الـجلال والإِكرام ثم تقدم جل ذكره إلـيهم مع إبـاحتهم ما أبـاح وإنعامه علـيهم بـما أنعم به علـيهم من العيش الهنـيء بـالنهي عن السعي فـي الأرض فسادا والعثا فـيها استكبـارا فقال جل ثناؤه: لهم ولا تعثوا فـي الأرض مفسدين القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ولا تعثوا فـي الأرض مفسدين} يعنـي بقوله لا تعثوا لا تطغوا ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين كما: ٧٥٨ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا. ٧٥٩ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا، ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما: ٧٦٠ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا. ٧٦١ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا، ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما: ٧٦٢ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا. ٧٦٣ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا، ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما: ٧٦٤ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا. ٧٦٥ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا، ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما: ٧٦٦ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا. ٧٦٧ـ حدلا تَعْثَوْا لا تطغوا، ولا تسعوا فـي الأرض مفسدين. كما: ٧٦٨ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلا تَعْثَوْا فِـي الأرْضِ مُفْسِدِينَ يقول: لا تسعوا فـي الأرض فسادا. ٧٦٩ـ حد لن نطيق حبس أنفسنا علـى طعام واحد وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر اللّه جل ثناؤه أنه أطعمهموه فـي تـيههم وهو السلوى فـي قول بعض أهل التأويـل، وفـي قول وهب بن منبه هو الـخبز النّقـيّ مع اللـحم فـاسأل لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من البقل والقثاء. وما سمى اللّه مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى. وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فـيـما بلغنا، ما: ٧٧٠ـ حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِر علـى طَعامٍ وَاحِدٍ قال: كان القوم فـي البرية قد ظلل علـيهم الغمام، وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بـمصر، فسألوه موسى، فقال اللّه تعالـى: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فـيه قبل ذلك، قالُوا ادْعُ لَنّا ربّكَ يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائِها وَفُومِها... الآية. ٧٧١ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ علـى طعَامٍ وَاحِدٍ قال: كان طعامهم السلوى، وشرابهم الـمنّ، فسألوا ما ذكر، فقـيـل لهم: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ. قال أبو جعفر، وقال قتادة: إنهم لـما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التـي كانوا يأكلونها، فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثّائِها وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا وكانوا قد ظلل علـيهم الغمام وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كانوا فـيه بـمصر. ٧٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، قال: سمعت ابن أبـي نـجيح في قوله عزّ وجل: لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ الـمنّ والسلوى، فـاستبدلوا به البقل وما ذكر معه. ٧٧٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمثله سواء. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بـمثله. ٧٧٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أعطوا فـي التـيه ما أعطوا، فملوا ذلك. ٦١تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ......} ٧٧٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أنبأنا ابن زيد، قال: كان طعام بنـي إسرائيـل فـي التـيه واحدا، وشرابهم واحدا، كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له الـمنّ، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لـم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره. فقالوا: يا موسى إنا لن نصبر علـى طعام واحد، فـادع لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من بقلها فقرأ حتـى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ. وإنـما قال جل ذكره: يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ولـم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه لـيخرج لهم من الأرض، فـ يقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مـما تنبته الأرض من بقلها وقثائها، لأن (من) تأتـي بـمعنى التبعيض لـما بعدها، فـاكْتُفـي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بـالكلام الذي هي فـيه كقول القائل: أصبح الـيوم عند فلان من الطعام يريد شيئا منه. وقد قال بعضهم: (من) ههنا بـمعنى الإلغاء والإسقاط، كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد علـى ذلك بقول العرب: ما رأيت من أحد، بـمعنى: ما رأيت أحدا، وبقول اللّه : وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئَاتِكُمْ وبقولهم: قد كان من حديث، فخـلّ عنـي حتـى أذهب، يريدون: قد كان حديث. وقد أنكر من أهل العربـية جماعة أن تكون (من) بـمعنى الإلغاء فـي شيء من الكلام، وادّعُوا أنّ دخولها فـي كل موضع دخـلت فـيه مؤذن أن الـمتكلـم مريد لبعض ما أدخـلت فـيه لا جميعه، وأنها لا تدخـل فـي موضع إلا لـمعنى مفهوم. فتأويـل الكلام إذا علـى ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فـادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بـينهم من نبـات الأرض وحبهاوأما الفوم، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيه. فقال بعضهم: هو الـحنطة والـخبز. ذكر من قال ذلك. ٧٧٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد ومؤمل، قالا: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: الفوم: الـخبز. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد قوله: وَفُومِها قالا: خبزها. حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة ومـحمد بن عمرو، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَفُومِها قال: الـخبز. ٧٧٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والـحسن: الفوم: هو الـحبّ الذي تـختبزه الناس. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن بـمثله. ٧٧٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك في قوله: وَفُومِها قال: الـحنطة. ٧٧٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر عن السدي: وَفُومِهَا الـحنطة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن وحصين، عن أبـي مالك في قوله: وَفُومِها: الـحنطة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم: الـحبّ الذي يختبز الناس منه. حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء بن أبـي ربـاح قوله: وَفُومِها قال: خبزها. قالها مـجاهد. ٧٨٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال لـي ابن زيد: الفوم: الـخبز. ٧٨١ـ حدثنـي يحيى بن عثمان السهمي، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس في قوله: وَفُومِها يقول: الـحنطة والـخبز. حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَفُومِها قال: هو البرّ بعينه الـحنطة. حدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم الـجرمي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبـيه، عن ابن عبـاس في قول اللّه عز وجل: وَفُومِها قال: الفوم: الـحنطة بلسان بنـي هاشم. ٧٨٢ـ حدثنـي عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبـي نعيـم أن عبد اللّه بن عبـاس سئل عن قول اللّه : وَفُومِها قال: الـحنطة، أما سمعت قول أحيحة بن الـجلاح وهو يقول: قَدْ كُنْتُ أغْنَى النّاسِ شَخْصا وَاحداوَرَدَ الـمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ وقال آخرون: هو الثوم. ذكر من قال ذلك: ٧٨٣ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: هو هذا الثوم. ٧٨٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الفوم: الثوم. وهو فـي بعض القراءات (وثومها). وقد ذكر أن تسمية الـحنطة والـخبز جميعا فوما من اللغة القديـمة، حكي سماعا من أهل هذه اللغة: فوّموا لنا، بـمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد اللّه بن مسعود (وثومها) بـالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الـحروف الـمبدلة، كقولهم: وقعوا فـي عاثور شرّ وعافور شرّ، وكقولهم للأثافـي أثاثـي، وللـمغافـير مغاثـير، وما أشبه ذلك مـما تقلب الثاء فـاء والفـاء ثاء لتقارب مخرج الفـاء من مخرج الثاء. والـمغافـير شبـيه بـالشيء الـحلو يشبه بـالعسل ينزل من السماء حلوا يقع علـى الشجر ونـحوها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ. يعنـي بقوله: قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقـيـمة وقدرا من العيش، بدلاً بـالذي هو خير منه خطرا وقـيـمة وقدرا وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لاَخر غيره مكان الـمتروك. ومعنى قوله: أدْنى أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا، وأصله من قولهم: هذا رجل دنـيّ بـيّن الدناءة، وإنه لـيدنـي فـي الأمور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب فـي ذلك سماعا منهم، يقولون: ما كنت دنـيا ولقد دنأت. وأنشدنـي بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بنـي كلاب ينشد بـيت الأعشى: بـاسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِـيـلُهابِـيضٌ إلـى دانِئها الظّاهرِ بهمز الدانىء، وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانىء خبـيث، بـالهمز. فإن كان ذلك عنهم صحيحا، فـالهمز فـيه لغة وتركه أخرى. ولا شكّ أن من استبدل بـالـمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بـالرفـيع منه. وقد تأول بعضهم قوله: الّذي هُوَ أدْنَى بـمعنى الذي هو أقرب، ووجه قوله: أدنى إلـى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بـمعنى القرب. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: الّذِي هُوَ أدْنى قاله عدد من أهل التأويـل فـي تأويـله. ذكر من قال ذلك: ٧٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: أتَسْتَبْدِلُونَ الّذي هُوَ أدْنى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ يقول: أتستبدلون الذي هو شرّ بـالذي هو خير منه؟. ٧٨٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: الّذِي هُوَ أدْنى قال: أردأ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ. وتأويـل ذلك: فدعا موسى فـاستـجبنا له، فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من الـمـحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره علـى ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى الهبوط إلـى الـمكان إنـما هو النزول إلـيه والـحلول به. فتأويـل الآية إذا: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ فـادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بـالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فـاستـجاب اللّه له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال اللّه لهم: اهْبُطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ. ثم اختلف القرّاء فـي قراءة قوله: مِصْرا فقرأه عامة القرّاء: (مصرا) بتنوين الـمصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نوّنوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه، فتأويـله علـى قراءتهم: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم فـي البدو، والذي طلبتـم لا يكون فـي البوادي والفـيافـي، وإنـما يكون فـي القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتـموه ما سألتـم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بـالإجراء والتنوين، كان تأويـل الكلام عنده: اهبطوا مصرا البلدة التـي تعرف بهذا الاسم وهي (مصر) التـي خرجوا عنها، غير أنه أجراها ونوّنها اتبـاعا منه خط الـمصحف، لأن فـي الـمصحف ألفـا ثابتة فـي مصر، فـيكون سبـيـل قراءته ذلك بـالإجراء والتنوين سبـيـل من قرأ: قَوَارِيرا قَوَارِيرا مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتبـاعا منه خط الـمصحفوأما الذي لـم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التـي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها. وقد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك نظير اختلاف القرّاء فـي قراءته. ٧٨٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: اهْبِطُوا مِصْرا أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ. ٧٨٨ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: اهْبُطُوا مِصْرا من الأمصار، فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ فلـما خرجوا من التـيه رفع الـمنّ والسلوى وأكلوا البقول. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: اهْبُطُوا مِصْرا قال: يعنـي مصرا من الأمصار. ٧٨٩ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: اهْبِطُوا مِصْرا قال: مصرا من الأمصار، زعموا أنهم لـم يرجعوا إلـى مصر. ٧٩٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: اهْبِطُوا مِصْرا قال: مصرا من الأمصار. ومصر لا تـجري فـي الكلام، فقـيـل: أي مصر؟ فقال: الأرض الـمقدسة التـي كتب اللّه لهم. وقرأ قول اللّه جل ثناؤه: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَةَ الّتِـي كَتَبَ اللّه لَكُمْ. وقال آخرون: هي مصر التـي كان فـيها فرعون. ذكر من قال ذلك: ٧٩١ـ حدثنـي الـمثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: اهْبِطُوا مِصْرا قال: يعنـي به مصر فرعون. ٧٩٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ومن حجة من قال: إن اللّه جل ثناؤه إنـما عنى بقوله: اهْبُطُوا مِصْرا مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها، أن اللّه جعل أرض الشام لبنـي إسرائيـل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنـما ابتلاهم بـالتـيه بـامتناعهم علـى موسى فـي حرب الـجبـابرة إذ قال لهم: يا قَوْمُ ادْخُـلُوا الأرْضُ الـمُقَدّسَةَ الّتِـي كَتَبَ اللّه لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا علـى أدْبـارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِـيهَا قَوْما جَبّـارِينَ إلـى قوله: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها أبَدا ما دَامُوا فِـيها فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ. فحرّم اللّه جل وعز علـى قائل ذلك فـيـما ذكر لنا دخولها حتـى هلكوا فـي التـيه وابتلاهم بـالتـيهان فـي الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذرّيتهم الشام، فأسكنهم الأرض الـمقدسة، وجعل هلاك الـجبـابرة علـى أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفـاة موسى بن عمران. فرأينا اللّه جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض الـمقدسة، ولـم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلـى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فـيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوّله أنه ردّهم إلـيها. قالوا: فإن احتـجّ مـحتـجّ بقول اللّه جل ثناؤه: فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِـي إسْرَائِيـلَ. قـيـل لهم: فإن اللّه جل ثناؤه إنـما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولـم يردّهم إلـيها، وجعل مساكنهم الشأم.
وأما الذين قالوا: إن اللّه إنـما عنى بقوله جل وعز: اهْبِطُوا مِصْرا مِصْرَ، فإن من حجتهم التـي احتـجوا بها الآية التـي قال فـيها: فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِـي إسْرَائِيـلَ وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِـيها فـاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ. قالوا: فأخبر اللّه جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم، فلـم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بـمصير بعضهم إلـيها، وإلا فلا وجه للانتفـاع بها إن لـم يصيروا أو يصر بعضهم إلـيها. قالوا: وأخرى أنها فـي قراءة أبـيّ بن كعب وعبد اللّه بن مسعود: (اهْبِطُوا مِصْرَ) بغير ألف، قالوا: ففـي ذلك الدلالة البـينة أنها مصر بعينها. والذي نقول به فـي ذلك أنه لا دلالة فـي كتاب اللّه علـى الصواب من هذين التأويـلـين، ولا خبر به عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقطع مـجيئه العذر، وأهل التأويـل متنازعون تأويـله. فأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبـات الأرض علـى ما بـينه اللّه جل وعز فـي كتابه وهم فـي الأرض تائهون، فـاستـجاب اللّه لـموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بـمن معه من قومه قرارا من الأرض التـي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إلـيه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بـالألف والتنوين: اهْبِطُوا مِصْرا وهي القرائة التـي لا يجوز عندي غيرها لاجتـماع خطوط مصاحف الـمسلـمين، واتفـاق قراءة القراء علـى ذلك. ولـم يقرأ بترك التنوين فـيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به علـى الـحجة فـيـما جاءت به من القراءة مستفـيضا بـينها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَضُرِبَتْ أي فُرضت، ووضعت علـيهم الذلة وأُلزموها من قول القائل: ضرب الإمام الـجزية علـى أهل الذمة، وضرب الرجل علـى عبده الـخراج يعنـي بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير علـى الـجيش البعث، يراد به ألزمهموه. وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة، كالصغرة من صغر الأمر، والقعدة من قعد، والذلة: هي الصغار الذي أمر اللّه جل ثناؤه عبـاده الـمؤمنـين أن لا يعطوهم أمانا علـى القرار علـى ماهم علـيه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الـجزية علـيه لهم، فقال جل وعز: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّه وَلاَ بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الـحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّـى يُعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. كما: ٧٩٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن وقتادة في قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ قالا: يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون. وأما الـمسكنة، فإنها مصدر الـمسكين، يقال: ما فـيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تـمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تـمسكن تـمسكنا. والـمسكنة فـي هذا الـموضع مسكنة الفـاقة والـحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما: ٧٩٤ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَالـمَسْكَنَةُ قال: الفـاقة. ٧٩٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ قال: الفقر. ٧٩٦ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ قال هؤلاء يهود بنـي إسرائيـل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا واللّه ما هم هم، ولكنهم الـيهود يهود بنـي إسرائيـل. فأخبرهم اللّه جل ثناؤه أنه يبدلهم بـالعزّ ذلاّ، وبـالنعمة بؤسا، وبـالرضا عنهم غضبـا، جزاءً منه لهم علـى كفرهم بآياته وقتلهم أنبـياءه ورسله اعتداءً وظلـما منهم بغير حقّ، وعصيانهم له، وخلافـا علـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَبَـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه . قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه انصرفوا ورجعوا، ولا يقال بـاءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ، يقال منه: بـاء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَوْاءً. ومنه قول اللّه عز وجل إنـي أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يعنـي: تنصرف متـحملهما وترجع بهما قد صارا علـيك دونـي. فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفـين متـحملـين غضب اللّه ، قد صار علـيهم من اللّه غضب، ووجب علـيهم منه سخط. كما: ٧٩٧ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِن اللّه فحدث علـيهم غضب من اللّه . ٧٩٨ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه قال: استـحقوا الغضب من اللّه . وقدمنا معنى غضب اللّه علـى عبده فـيـما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: (ذلك) ضرب الذلة والـمسكنة علـيهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: (ذلك) وهي يعنـي به ما وصفنا علـى أن قول القائل ذلك يشمل الـمعانـي الكثـيرة إذا أشير به إلـيها. ويعنـي بقوله: بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ: من أجل أنهم كانوا يكفرون، يقول: فعلنا بهم من إحلال الذلّ والـمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ، ويقتلون النبـيـين بغير الـحقّ، كما قال أعشى بنـي ثعلبة: مَلِـيكِيّةٌ جَاوَرتْ بـالـحِجَازِ قَوما عُداةً وأرْضا شَطِيرا بِـمَا قَدْ تَربّعُ روْضَ القَطاوَرَوْضَ التّناضِبِ حتّـى تَصِيرَا يعنـي بذلك: جاورتْ بهذا الـمكان هذه الـمرأةُ قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله لـمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده من تربعها روض القطا وروض التناضب. فكذلك قوله: وضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ والـمَسْكَنَةُ وبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ذلكَ بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبـياءنا. وقد بـينا فـيـما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره، وأن آيات اللّه : حججه وأعلامه وأدلته علـى توحيده وصدق رسله. فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج اللّه علـى توحيده، وتصديق رسله ويدفعون حقـيتها، ويكذبون بها. ويعنـي بقوله: وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ: ويقتلون رسل اللّه الذين ابتعثهم لإنبـاء ما أرسلهم به عنه لـمن أرسلوا إلـيه. وهم جماع واحدهم نبـيّ غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من أنبأ عن اللّه ، فهو يُنْبِىء عنه إنبـاء، وإنـما الاسم منه منبىء ولكنه صرف وهو (مُفعِل) إلـى (فَعِيـل)، كما صرف سميع إلـى فعيـل من مفعل، وبصير من مبصر، وأشبـاه ذلك، وأبدل مكان الهمزة من النبىء الـياء، فقـيـل نبـي هذا. ويجمع النبـيّ أيضا علـى أنبـياء، وإنـما جمعوه كذلك لإلـحاقهم النبـيء بإبدال الهمزة منه ياء بـالنعوت التـي تأتـي علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو، وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو جمعوه علـى أفعلاء، كقولهم ولـي وأولـياء، ووصي وأوصياء، ودعيّ وأدعياء، ولو جمعوه علـى أصله الذي هو أصله، وعلـى أن الواحد (نبـيء) مهموز لـجمعوه علـى فعلاء، فقـيـل لهم النبآء، علـى مثال النبغاء، لأن ذلك جمع ما كان علـى فعيـل من غير ذوات الـياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء، والعلـيـم علـماء، والـحكيـم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب فـي جمع النبـي النبآء، وذلك من لغة الذين يهمزون النبـيء، ثم يجمعونه علـى النبآء علـى ما قد بـينت، ومن ذلك قول عبـاس بن مرداس فـي مدح النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: يا خاتـمَ النّبآءِ إنّك مُرْسَلبـالـخَير كُلّ هُدى السّبِـيـلِ هُدَاكَا فقال: يا خاتـم النبآء، علـى أن واحدهم نبـيء مهموز. وقد قال بعضهم: النبـي والنبوّة غير مهموز، لأنهما مأخوذان من النّبْوَة، وهي مثل النـجوة، وهو الـمكان الـمرتفع. وكان يقول: إن أصل النبـي الطريق، ويستشهد علـى ذلك ببـيت القطامي: لـمّا وَرَدْنَ نَبِـيّا واسْتَتَبّ بهامُسْحَنْفِرٌ كخُطوط السّيْحِ مُنْسَحِلُ يقول: إنـما سمي الطريق نبـيا، لأنه ظاهر مستبـين من النّبوّة. و يقول: لـم أسمع أحدا يهمز النبـي قال: وقد ذكرنا ما فـي ذلك وبـينا ما فـيه الكفـاية إن شاء اللّه . ويعنـي بقوله: وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ: أنهم كانوا يقتلون رسل اللّه بغير إذن اللّه لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ذلكَ بـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ. وقوله: ذلكَ ردّ علـى (ذلك) الأولـى. ومعنى الكلام: وضربت علـيهم الذلة والـمسكنة، وبـاءوا بغضب من اللّه ، من أجل كفرهم بآيات اللّه ، وقتلهم النبـيـين بغير الـحقّ، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه: ذلك بِـمَا عَصَوْا والـمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تـجاوز الـحدّ الذي حدّه اللّه لعبـاده إلـى غيره، وكل متـجاوز حدّ شيء إلـى غيره فقد تعدّاه إلـى ما جاوز إلـيه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بـما عصوا أمري، وتـجاوزوا حدّي إلـى ما نهيتهم عنه. ٦٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } قال أبو جعفر: أما الذين آمنوا فهم الـمصدّقون رسول اللّه فـيـما أتاهم به من الـحقّ من عند اللّه ، وإيـمانهم بذلك: تصديقهم به علـى ما قد بـيناه فـيـما مضى من كتابنا هذاوأما الذين هادوا، فهم الـيهود، ومعنى هادوا: تابوا، يقال منه: هاد القوم يهودون هَوْدا وهادةً. وقـيـل: إنـما سميت الـيهود يهود من أجل قولهم: إنا هُدْنا إلَـيْكَ. ٧٩٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاح، عن ابن جريج، قال: إنـما سميت الـيهود من أجل أنهم قالوا: إنّا هُدْنا إلَـيْكَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَالنّصَارَى. قال أبو جعفر: والنصارى جمع، واحدهم نَصْران، كما واحد سَكارى سكران، وواحد النّشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده علـى فعلان، فإن جمعه علـى فعالـى إلا أن الـمستفـيض من كلام العرب فـي واحد النصارى نصرانـيّ. وقد حُكي عنهم سماعا (نَصْرَان) بطرح الـياء، ومنه قول الشاعر: تَرَاهُ إذَا زَارَ العَشِيّ مُـحَنّفـاويُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ وسمع منهم فـي الأنثى نصرانة، قال الشاعر: فكِلْتاهُما خَرّتْ وأسْجَدَ رأسُهاكما سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لـمْ تَـحَنّفِ يقال: أسجد: إذا مال. وقد سمع فـي جمعهم أنصار بـمعنى النصارى، قال الشاعر: لَـمّا رأيْتُ نَبَطا أنْصَارَاشَمّرْتُ عَنْ رُكْبَتِـي الإزارَا كُنْتُ لَهُمْ مِن النّصَارَى جارَا وهذه الأبـيات التـي ذكرتها تدل علـى أنهم سُموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بـينهم. وقد قـيـل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها (ناصرة). ٨٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: النصارى إنـما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة. ويقول آخرون: لقوله: مَنْ أنْصارِي إلـى اللّه . وقد ذكر عن ابن عبـاس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول: إنـما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريـم كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصريـين، وكان يقال لعيسى: الناصري. ٨٠١ـ حدثت بذلك عن هشام بن مـحمد، عن أبـيه، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس . ٨٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إنـما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريـم، فهو اسم تسموا به ولـم يؤمروا به. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: الّذِين قالُوا إنا نَصَارَى قال: تسموا بقرية يقال لها ناصرة، كان عيسى ابن مريـم ينزلها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: والصّابِئِينَ قال أبو جعفر: والصابئون جمع صابىء، وهو الـمستـحدث سوى دينه دينا، كالـمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان علـيه إلـى آخر غيره تسميه العرب صابئا، يقال منه: صَبَأ فلان يَصْبَأ صَبْأً، ويقال: صبأت النـجوم: إذا طلعت، وصبأ علـينا فلان موضع كذا وكذا، يعنـي به طلع. واختلف أهل التأويـل فـيـمن يـلزمه هذا الاسم من أهل الـملل. فقال بعضهم: يـلزم ذلك كل من خرج من دين إلـى غير دين. و قالوا: الذين عنى اللّه بهذا الاسم قوم لا دين لهم. ذكر من قال ذلك: ٨٠٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: الصّابِئُونَ لـيسوا بـيهود ولا نصارى ولا دين لهم. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الـحجاج بن أرطاة، عن القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد، مثله. ٨٠٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حجام، عن عنبسة، عن الـحجاج، عن مـجاهد، قال: الصابئون بـين الـمـجوس والـيهود لا تؤكل ذبـائحهم ولا تنكح نساؤهم. ٨٠٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن حجاج، عن قتادة، عن الـحسن مثل ذلك. ٨٠٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح: الصابئين بـين الـيهود والـمـجوس لا دين لهم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: الصابئين بـين الـمـجوس والـيهود، لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: (الصابئين) زعموا أنها قبـيـلة من نـحو السواد لـيسوا بـمـجوس ولا يهود ولا نصارى قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال الـمشركون للنبـي صلى اللّه عليه وسلم: قد صبأ. ٨٠٧ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الصّابِئُون قال: الصابئون: دين من الأديان، كانوا بجزيرة الـموصل يقولون: (لا إلَه إلاّ اللّه )، ولـيس لهم عمل ولا كتاب ولا نبـيّ إلا قول لا إلَه إلاّ اللّه قال: ولـم يؤمنوا برسول اللّه ، فمن أجل ذلك كان الـمشركون يقولون للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم. وقال آخرون: هم قوم يعبدون الـملائكة، ويصلون إلـى القبلة. ذكر من قال ذلك: ٨٠٨ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، عن الـحسن، قال: حدثنـي زياد: أن الصابئين يصلون إلـى القبلة ويصلون الـخمس قال: فأراد أن يضع عنهم الـجزية قال: فخُبّر بعد أنهم يعبدون الـملائكة. ٨٠٩ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: والصّابِئِين قال: الصابئون قوم يعبدون الـملائكة، ويصلون إلـى القبلة، ويقرؤن الزبور. ٨١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغنـي أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الـملائكة، ويقرءون الزبور، ويصلون إلـى القبلة. وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: ٨١١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن سفـيان، قال: سئل السدي عن الصابئين فقال: هم طائفة من أهل الكتاب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ وعمِل صَالِـحا فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهمْ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: مَنْ آمَنَ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ: من صدق وأقرّ بـالبعث بعد الـمـمات يوم القـيامة وعمل صالـحا فأطاع اللّه ، فلهم أجرهم عند ربهم، يعنـي بقوله: فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ فلهم ثواب عملهم الصالـح عند ربهم. فإن قال لنا قائل: فأين تـمام قوله: إن الّذينَ آمَنُوا والّذِين هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئين؟ قـيـل: تـمامه جملة قوله: مَنْ آمَنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ لأن معناه: من آمن منهم بـاللّه والـيوم الاَخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام علـيه استغناء بـما ذكر عما ترك ذكره. فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟ قـيـل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر فلهم أجرهم عند ربهم. فإن قال: وكيف يؤمن الـمؤمن؟ قـيـل: لـيس الـمعنى فـي الـمؤمن الـمعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلـى دين كانتقال الـيهودي والنصرانـي إلـى الإيـمان، وإن كان قد قـيـل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب علـى إيـمانه بعيسى، وبـما جاء به، حتـى أدرك مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، فآمن به وصدّقه، فقـيـل لأولئك الذين كانوا مؤمنـين بعيسى وبـما جاء به إذ أدركوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم: آمنوا بـمـحمد وبـما جاء به، ولكن معنى إيـمان الـمؤمن فـي هذا الـموضع ثبـاته علـى إيـمانه وتركه تبديـله. وأما إيـمان الـيهود والنصارى والصابئين، فـالتصديق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به، فمن يؤمن منهم بـمـحمد، وبـما جاء به والـيوم الاَخر، ويعمل صالـحا، فلـم يبدّل ولـم يغير، حتـى توفـي علـى ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه. فإن قال قائل: وكيف قال: فلهم أجرهم عند ربهم، وإنـما لفظ من لفظ واحد، والفعل معه موحد؟ قـيـل: (مَنْ) وإن كان الذي يـلـيه من الفعل موحدا، فإن له معنى الواحد والاثنـين والـجمع والتذكير والتأنـيث، لأنه فـي كل هذه الأحوال علـى هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير، فـالعرب توحد معه الفعل وإن كان فـي معنى جمع للفظه، وتـجمع أخرى معه الفعل لـمعناه، كما قال جل ثناؤه: ومِنْهُمْ مَنْ يَسْتَـمِعُونَ إلَـيْكَ أفأنْتَ تُسْمع الصّمّ ولَوْ كانُوا لا يَعْقِلُون ومِنهم مَنْ يَنْظُرُ إلَـيْكَ أفأنْتَ تَهْدِي العُمْي وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فجمع مرة مع من الفعل لـمعناه، ووحد أخرى معه الفعل لأنه فـي لفظ الواحد، كما قال الشاعر: ألِـمّا بسَلْـمَى عَنْكما إنْ عَرَضْتُـماوَقُولا لَهَا عُوجي علـى مَنْ تَـخَـلّفُوا فقال: تـخـلفوا، وجعل (من) بـمنزلة الذين وقال الفرزدق: تَعالَ فإنْ عاهَدْتَنِـي لا تـخُونُنِـينَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذِئبُ يَصْطَحِبـانِ فثنى يصطحبـان لـمعنى (من). فكذلك قوله: مَنْ آمَنَ بـاللّه والـيَوْمِ الاَخِرِ فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ ربّهِمْ وحد آمن وعمل صالـحا للفظ من، وجمع ذكرهم في قوله: فَلَهُمْ أجْرُهُمْ لـمعناه، لأنه فـي معنى جمع. وأما قوله: ولا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون فإنه يعنـي به جل ذكره: ولا خوف علـيهم فـيـما قدموا علـيه من أهوال القـيامة، ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم من الدنـيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ اللّه لهم من الثواب والنعيـم الـمقـيـم عنده. ذكر من قال عُنِـي بقوله: مَنْ آمَنَ بـاللّه : مؤمنوا أهل الكتاب الذين أدركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ٨١٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن السدي: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هادُوا الآية، قال: نزلت هذه الآية فـي أصحاب سلـمان الفـارسي، وكان سلـمان من جُنْد يْسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الـملك صديقا له مواخيا، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه، وكانا يركبـان إلـى الصيد جميعا. فبـينـما هما فـي الصيد إذ رفع لهما بـيت من خبَـاء، فأتـياه فإذا هما فـيه برجل بـين يديه مصحف يقرأ فـيه وهو يبكي، فسألاه ما هذا، فقال: الذي يريد أن يعلـم هذا لا يقـف موقـفكما، فإن كنتـما تريدان أن تعلـما ما فـيه فـانزلا حتـى أعلـمكما، فنزلا إلـيه، فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند اللّه ، أمر فـيه بطاعته، ونهى عن معصيته، فـيه: أن لا تزنـي، ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بـالبـاطل. فقصّ علـيهما ما فـيه، وهو الإنـجيـل الذي أنزله اللّه علـى عيسى. فوقع فـي قلوبهما وتابعاه فأسلـما، وقال لهما: إن ذبـيحة قومكما علـيكما حرام، فلـم يزالا معه كذلك يتعلـمان منه، حتـى كان عيد للـملك، فجعل طعاما، ثم جمع الناس والأشراف، وأرسل إلـى ابن الـملك فدعاه إلـى صنـيعه لـيأكل مع الناس، فأبى الفتـى وقال: إنـي عنك مشغول، فكل أنت وأصحابك، فلـما أكثر علـيه من الرسل، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم، فبعث الـملك إلـى ابنه، فدعاه وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبـائحكم، إنكم كفـار لـيس تـحلّ ذبـائحكم، فقال له الـملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك، فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابنـي؟ قال: صدق ابنك، قال له: لولا أن الدم فـينا عظيـم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا فأجّله أجلاً. فقال سلـمان: فقمنا نبكي علـيه، فقال لهما: إن كنتـما صادقـين، فإنا فـي بـيعة بـالـموصل مع ستـين رجلاً نعبد اللّه فـيها، فأتونا فـيها. فخرج الراهب، وبقـي سلـمان وابن الـملك فجعل يقول لابن الـملك: انطلق بنا، وابن الـملك يقول: نعم، وجعل ابن الـملك يبـيع متاعه يريد الـجهاز. فلـما أبطأ علـى سلـمان، خرج سلـمان حتـى أتاهم، فنزل علـى صاحبه وهو ربّ البـيعة، وكان أهل تلك البـيعة من أفضل الرهبـان، فكان سلـمان معهم يجتهد فـي العبـادة، ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبـادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز، فـارفق بنفسك وخفف علـيها فقال له سلـمان: أرأيت الذي تأمرنـي به أهو أفضل، أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع؟ قال: فخـلّ عنـي. ثم إن صاحب البـيعة دعاه فقال: أتعلـم أن هذه البـيعة لـي، وأنا أحقّ الناس بها، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت؟ ولكنـي رجل أضعف عن عبـادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتـحوّل من هذه البـيعة إلـى بـيعة أخرى هم أهون عبـادة من هؤلاء، فإن شئت أن تقـيـم ههنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فـانطلق. قال له سلـمان: أي البـيعتـين أفضل أهلاً؟ قال: هذه. قال سلـمان: فأنا أكون فـي هذه. فأقام سلـمان بها وأوصى صاحب البـيعة عالـم البـيعة بسلـمان، فكان سلـمان يتعبد معهم، ثم إن الشيخ العالـم أراد أن يأتـي بـيت الـمقدس، فقال لسلـمان: إن أردت أن تنطلق معي فـانطلق، وإن شئت أن تقـيـم فأقم. فقال له سلـمان: أيهما أفضل أنطلق معك أم أقـيـم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فـانطلق معه فمرّوا بـمقعد علـى ظهر الطريق ملقـى، فلـما رآهما نادى: يا سيد الرهبـان ارحمنـي يرحمك اللّه ، فلـم يكلـمه، ولـم ينظر إلـيه، وانطلقا حتـى أتـيا بـيت الـمقدس، فقال الشيخ لسلـمان: اخرج فـاطلب العلـم فإنه يحضر هذا الـمسجد علـماء أهل الأرض. فخرج سلـمان يسمع منهم، فرجع يوما حزينا، فقال له الشيخ: مالك يا سلـمان؟ قال: أرى الـخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبـياء وأتبـاعهم، فقال له الشيخ: يا سلـمان لا تـحزن، فإنه قد بقـي نبـيّ لـيس من نبـيّ بأفضل تبعا منه وهذا زمانه الذي يخرج فـيه، ولا أرانـي أدركه، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه، وهو يخرج فـي أرض العرب، فإن أدركته فآمن به واتبعه فقال له سلـمان: فأخبرنـي عن علامته بشيء قال: نعم، هو مختوم فـي ظهره بخاتـم النبوّة، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتـى بلغا مكان الـمقعد، فناداهما فقال: يا سيد الرهبـان ارحمنـي يرحمك اللّه ، فعطف إلـيه حماره، فأخذ بـيده فرفعه، فضرب به الأرض ودعا له، وقال: قم بإذن اللّه ، فقام صحيحا يشتدّ، فجعل سلـمان يتعجب وهو ينظر إلـيه يشتدّ. وسار الراهب فتغيب عن سلـمان ولا يعلـم سلـمان. ثم إن سلـمان فزع فطلب الراهب، فلقـيه رجلان من العرب من كلب فسألهما: هل رأيتـما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته، قال: نعم راعي الصّرْمة هذا، فحمله فـانطلق به إلـى الـمدينة. قال سلـمان: فأصابنـي من الـحزن شيء لـم يصبنـي مثله قط. فـاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى علـيها هو وغلام لها يتراوحان الغنـم هذا يوما وهذا يوما، فكان سلـمان يجمع الدراهم ينتظر خروج مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. فبـينا هو يوما يرعى، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه، فقال: أشعرت أنه قد قدم الـيوم الـمدينة رجل يزعم أنه نبـيّ؟ فقال له سلـمان: أقم فـي الغنـم حتـى آتـيك. فهبط سلـمان إلـى الـمدينة، فنظر إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم ودار حوله، فلـما رآه النبـي صلى اللّه عليه وسلم عرف ما يريد، فأرسل ثوبه، حتـى خرج خاتـمه، فلـما رآه أتاه وكلـمه، ثم انطلق، فـاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزا، ثم أتاه به، فقال: (ما هذا؟) قال سلـمان: هذه صدقة قال: (لا حاجة لـي بها فأخْرِجْها فلـيأْكُلْها الـمسلـمون). ثم انطلق فـاشترى بدينار آخر خبزا ولـحما، فأتـى به النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (ما هذا؟) قال: هذه هدية، قال: (فـاقْعُدْ)، فقعد فأكلا جميعا منها. فبـينا هو يحدّثه إذ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبـيا فلـما فرغ سلـمان من ثنائه علـيهم قال له نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا سَلْـمانُ هُمْ مِنْ أهْلِ النّارِ). فـاشتدّ ذلك علـى سلـمان، وقد كان قال له سلـمان: لو أدركوك صدّقوك واتبعوك، فأنزل اللّه هذه الآية: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالنّصَارَى والصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ. فكان إيـمان الـيهود أنه من تـمسك بـالتوراة وسنة موسى حتـى جاء عيسى، فلـما جاء عيسى كان من تـمسك بـالتوراة وأخذ بسنة موسى فلـم يدعها ولـم يتبع عيسى كان هالكا. وإيـمان النصارى أنه من تـمسك بـالإنـجيـل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولاً منه، حتـى جاء مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فمن لـم يتبع مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم منهم ويدع ما كان علـيه من سنة عيسى والإنـجيـل كان هالكا. ٨١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا الآية. قال سلـمان الفـارسي للنبـي صلى اللّه عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لـم يـموتوا علـى الإسلام. قال سلـمان: فأظلـمت علـيّ الأرض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلـمان فقال: (نزلت هذه الآية فـي أصحابك). ثم قال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ مَاتَ علـى دِينِ عِيسَى ومات علـى الإسْلامِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ بِـي فَهُوَ علـى خَيْرٍ وَمَنْ سَمِعَ بِـي الـيَوْمَ وَلَـمْ يُؤْمِنْ بِـي فَقَدْ هَلَكَ). وقال ابن عبـاس بـما: ٨١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والذِين هادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ إلـى قوله: ولا هُمْ يَحْزَنُونَ. فأنزل اللّه تعالـى بعد هذا: وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ مِنَ الـخَاسِرِينَ. وهذا الـخبر يدلّ علـى أن ابن عبـاس كان يرى أن اللّه جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالـحا من الـيهود والنصارى والصابئين علـى عمله فـي الاَخرة الـجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غيرَ الإسْلامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ. فتأويـل الآية إذا علـى ما ذكرنا عن مـجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من الـيهود والنصارى والصابئين بـاللّه والـيوم الاَخر، فلهُمْ أجرُهمْ عندَ ربهمْ ولاَ خَوْفٌ علـيهِمْ ولاَ هُمْ يحزَنُونَ. والذي قلنا من التأويـل الأول أشبه بظاهر التنزيـل، لأن اللّه جل ثناؤه لـم يخصص بـالأجر علـى العمل الصالـح مع الإيـمان بعض خـلقه دون بعض منهم، والـخبر بقوله: مَنْ آمَنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ عن جميع ما ذكر فـي أول الآية. ٦٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } قال أبو جعفر: الـميثاق: الـمفعال من الوثـيقة إما بـيـمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. ويعنـي بقوله: وَأذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ الـميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرائيـلَ لاَ تَعْبُدُونَ إلاّ اللّه وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الـميثاق علـيهم فـيـما ذكره ابن زيد ما: ٨١٥ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: لـما رجع موسى من عند ربه بـالألواح قال لقومه بنـي إسرائيـل: إن هذه الألواح فـيها كتاب اللّه ، وأمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا واللّه حتـى نرى اللّه جهرة حتـى يطلع اللّه علـينا فـ يقول: هذا كتابـي فخذوه فما له لا يكلـمنا كما كلـمك أنت يا موسى فـ يقول: هذا كتابـي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من اللّه فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون قال: ثم أحياهم اللّه بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب اللّه فقالوا: لا، قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيـينا، قال: خذوا كتاب اللّه قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الـجبل فوقهم، فقـيـل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه علـيكم قال: فأخذوه بـالـميثاق. وقرأ قول اللّه : وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدونَ إلاّ اللّه وَبـالوَالِدَيْنِ إحْسانا حتـى بلغ: وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ قال: ولو كانوا أخذوه أوّل مرّة لأخذوه بغير ميثاق. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ. قال أبو جعفر: وأما الطور فإنه الـجبل فـي كلام العرب، ومنه قول العجاج: دَانَى جنَاحَيْهِ مِنَ الطّورِ فَمَرّتَقَضّيَ البـازِي إذا البـازِي كَسَرْ وقـيـل إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الـجبل الذي ناجى اللّه علـيه موسى. وقـيـل: إنه من الـجبـال ما أنبت دون ما لـم ينبت. ذكر من قال: هو الـجبل كائنا ما كان. ٨١٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أمر موسى قومه أن يدخـلوا البـاب سجدا ويقولوا حطة وطؤطىء لهم البـاب لـيسجدوا، فلـم يسجدوا ودخـلوا علـى أدبـارهم، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الـجبل يقول: أخرج أصل الـجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة، والطور بـالسريانـية: الـجبل تـخويفـا أو خوفـا، شك أبو عاصم فدخـلوا سُجّدا علـى خوف وأعينهم إلـى الـجبل، وهو الـجبل الذي تـجلـى له ربه. ٨١٧ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: رفع الـجبل فوقهم كالسحابة، فقـيـل لهم: لتؤمننّ أو لـيقعنّ علـيكم، فآمنوا. والـجبل بـالسريانـية: الطور. ٨١٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ قال: الطور: الـجبل، كانوا بأصله فرفع علـيهم فوق رءوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري أو لأرمينكم به. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ قال: الطور: الـجبل اقتلعه اللّه فرفعه فوقهم، فقال: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ فأقرّوا بذلك. ٨١٩ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر عن الربـيع، عن أبـي العالـية: ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور قال: رفع فوقهم الـجبل يخوّفهم به. ٨٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـيّ، عن النضر، عن عكرمة، قال: الطور: الـجبل. ٨٢١ـ وحدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لـما قال اللّه لهم: ادْخُـلُوا البـاب سُجدا وقُولُوا حِطّة فأبوا أن يسجدوا أمر اللّه الـجبل أن يقع علـيهم، فنظروا إلـيه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا علـى شقّ، ونظروا بـالشق الاَخر. فرحمهم اللّه ، فكشفه عنهم. فذلك قوله: وإذْ نَتَقْنَا الـجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنّهُ ظُلّة وقوله: ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور. ٨٢٢ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الـجبل بـالسريانـية: الطور. وقال آخرون: الطور: اسم للـجبل الذي ناجى اللّه موسى علـيه. ذكر من قال ذلك: ٨٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس الطور: الـجبل الذي أنزلت علـيه التوراة، يعنـي علـى موسى، وكانت بنو إسرائيـل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لـي عطاء: رفع الـجبل علـى بنـي إسرائيـل فقال: لتؤمننّ به أو لـيقعن علـيكم، فذلك قوله: كأنّهُ ظُلّة. وقال آخرون: الطور من الـجبـال: ما أنبت خاصة. ذكر من قال ذلك: ٨٢٤ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: الطّورَ قال: الطور من الـجبـال: ما أنبت، وما لـم ينبت فلـيس بطور. القول فـي تأويـل قوله تعالى: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بقُوّةٍ. قال أبو جعفر: اختلف أهل العربـية فـي تأويـل ذلك، فقال بعض نـحويـي أهل البصرة: هو مـما استغنـي بدلالة الظاهر الـمذكور عما ترك ذكره له، وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور وقلنا لكم خذوا ما آتـيناكم بقوة، وإلا قذفناه علـيكم. وقال بعض نـحويـي أهل الكوفة: أخذ الـميثاق قول فلا حاجة بـالكلام إلـى إضمار قول فـيه، فـيكون من كلامين غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بـمعنى القول أن يكون معه أن كما قال اللّه جل ثناؤه: إنّا أرْسَلْنا نُوحا إلـى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ قال: ويجوز أن تـحذف أن. والصواب فـي ذلك عندنا أن كل كلام نطق به مفهوم به معنى ما أريد ففـيه الكفـاية من غيره، ويعنـي بقوله: خُذُوا ما آتَـيْناكُمْ: ما أمرناكم به فـي التوراة، وأصل الإيتاء: الإعطاء. ويعنـي بقوله: بِقُوّةٍ بجدّ فـي تأدية ما أمركم فـيه وافترض علـيكم. كما: ٨٢٥ـ حدثت عن إبراهيـم بن بشار، قال: حدثنا ابن عيـينة، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: تعملوا بـما فـيه. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٨٢٦ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: خُذُوا مَا آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: بطاعة. ٨٢٧ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: القوّة: الـجدّ، وإلا قذفته علـيكم قال: فأقرّوا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوّة. ٨٢٨ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: بِقُوةً: يعنـي بجدّ واجتهاد. ٨٢٩ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وسألته عن قول اللّه : خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وبحقّ. فتأويـل الآية إذا: خذوا ما افترضناه علـيكم فـي كتابنا من الفرائض فـاقبلوه واعملوا بـاجتهاد منكم فـي أدائه من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إيّاه بقوّة بجدّ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِـيهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ. قال أبو جعفر: يعنـي: واذكروا ما فـيـما آتـيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد وترغيب وترهيب، فـاتلوه واعتبروا به وتَدبّرُوه إذا فعلتـم ذلك كي تتقوا وتـخافوا عقابـي بإصراركم علـى ضلالكم فتنتهوا إلـى طاعتـي وتنزّعوا عما أنتـم علـيه من معصيتـي. كما: ٨٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن داود بن الـحصين، عن عكرمة عن ابن عبـاس : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال: تنزعون عما أنتـم علـيه. والذي آتاهم اللّه هو التوراة. كما: ٨٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَاذْكُرُوا ما فِـيهِ يقول: اذكروا ما فـي التوراة. ٨٣٢ـ كما حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: اذْكُرُوا ما فِـيهِ يقول: أمروا بـما فـي التوراة. وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول اللّه : وَذْكُرُوا ما فِـيهِ قال: اعملوا بـما فـيه طاعةٍ للّه وصدق، قال: وقال اذكروا ما فـيه لا تنسوه ولا تُغفلوه. ٦٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ ثم أعرضتـم. وإنـما هو (تفعّلتـم) من قولهم: ولانـي فلان دبره: إذا استدبر عنه وخـلفه خـلف ظهره، ثم يستعمل ذلك فـي كل تارك طاعة أمر بها عزّ وجل معرض بوجهه، يقال: قد تولـى فلان عن طاعة فلان، وتولـى عن مواصلته. ومنه قول اللّه جل ثناؤه: فَلَـمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بخِـلُوا بِهِ وَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون يعنـي بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا اللّه من قولهم: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِـحِينَ ونبذوا ذلك وراء ظهورهم، ومن شأن العرب استعارة الكلـمة ووضعها مكان نظيرها، كما قال أبو ذؤيب الهذلـي: فَلَـيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يا أُمّ مالِكٍولَكِنْ أحاطَتْ بـالرّقابِ السّلاسِلُ وَعادَ الفَتَـى كالكَهْلِ لَـيْسَ بقائِلٍسِوَى الـحَقّ شَيْئا واسْتَرَاح العَواذِلُ يعنـي بقوله: (أحاطت بـالرقاب السلاسل) أن الإسلام صار فـي منعه إيانا ما كنا نأتـيه فـي الـجاهلـية مـما حرّمه اللّه علـينا فـي الإسلام بـمنزلة السلاسل الـمـحيطة برقابنا التـي تـحول بـين من كانت فـي رقبته مع الغلّ الذي فـي يده وبـين ما حاول أن يتناوله. ونظائر ذلك فـي كلام العرب أكثر من أن تـحصى، فكذلك قوله: ثُمّ تَولـيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ذلك يعنـي بذلك أنكم تركتـم العمل بـما أخذنا ميثاقكم وعهودكم علـى العمل به بجدّ واجتهاد بعد إعطائكم ربكم الـمواثـيق علـى العمل به والقـيام بـما أمركم به فـي كتابكم فنبذتـموه وراء ظهوركم. وكنـي بقوله جلّ ذكره: (ذلك) عن جميع ما قبله فـي الآية الـمتقدمة، أعنـي قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ذكره: فَلَوْلاَ فَضْل اللّه عَلَـيْكُمْ فلولا أن اللّه تفضل علـيكم بـالتوبة بعد نكثكم الـميثاق الذي واثقتـموه، إذ رفع فوقكم الطور، بأنكم تـجتهدون فـي طاعته، وأداء فرائضه، والقـيام بـما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه فـي الكتاب الذي آتاكم، فأنعم علـيكم بـالإسلام ورحمته التـي رحمكم بها، وتـجاوز عنكم خطيئتكم التـي ركبتـموها بـمراجعتكم طاعة ربكم لكنتـم من الـخاسرين. وهذا وإن كان خطابـا لـمن كان بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنـما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الـخبر مخرج الـمخبر عنهم علـى نـحو ما قد بـينا فـيـما مضى من أن القبـيـلة من العرب تـخاطب القبـيـلة عند الفخار أو غيره بـما مضى من فعل أسلاف الـمخاطب بأسلاف الـمخاطب، فتضيف فعل أسلاف الـمخاطب إلـى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد فـي ذلك من شعرهم فـيـما مضى. وقد زعم بعضهم أن الـخطاب فـي هذه الآيات إنـما أخرج بإضافة الفعل إلـى الـمخاطبـين به والفعل لغيرهم لأن الـمخاطبـين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بنـي إسرائيـل، فصيرهم اللّه منهم من أجل ولايتهم لهم. وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالـمين، وإن كان الـخطاب خرج خطابـا للأحياء من بنـي إسرائيـل وأهل الكتاب إذ الـمعنى فـي ذلك إنـما هو خبر عما قصّ اللّه من أنبـاء أسلافهم، فـاستغنى بعلـم السامعين بذلك عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثّل ذلك بقول الشاعر: إذَا ما انْتَسَبْنا لَـمْ تَلِدْنِـي لَئِيـمَةٌولَـمْ تَـجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا فقال: (إذا ما انتسبنا)، و(إذا) تقتضي من الفعل مستقبلاً. ثم قال: (لـم تلدنـي لئيـمة)، فأخبر عن ماض من الفعل، وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنـما فعل ذلك عند الـمـحتـجّ به لأن السامع قد فهم معناه، فجعل ما ذكرنا من خطاب اللّه أهل الكتاب الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بإضافة أفعال أسلافهم إلـيهم نظير ذلك. والأول الذي قلنا هو الـمستفـيض من كلام العرب وخطابها. وكان أبو العالـية يقول في قوله: فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فـيـما ذكر لنا نـحو القول الذي قلناه. ٨٣٣ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو النضر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ قال: فضل اللّه : الإسلام، ورحمته: القرآن. ٨٣٤ـ وحدثت عن عمار، حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لَكُنْتُـمْ مِنَ الـخاسِرِينَ. قال أبو جعفر: فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَـيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم بـانقاذه إياكم بـالتوبة علـيكم من خطيئتكم وجرمكم، لكنتـم البـاخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بـما اجترمتـم من نقض ميثاقكم وخلافكم أمره وطاعته. وقد تقدم بـياننا قبل بـالشواهد عن معنى الـخسار بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. ٦٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } يعنـي بقوله: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمْ ولقد عرفتـم، كقولك: قد علـمت أخاك ولـم أكن أعلـمه، يعنـي عرفته ولـم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه: وآخَرِين مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَـمُونَهُمْ اللّه يَعْلَـمُهُمْ يعنـي: لا تعرفونهم اللّه يعرفهموقوله: الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ أي الذين تـجاوزوا حدى وركبوا ما نهيتهم عنه فـي يوم السبت وعصوا أمري. وقد دللت فـيـما مضى علـى أن الاعتداء أصله تـجاوز الـحدّ فـي كل شيء بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. قال: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مـما عدّد جل ثناؤه فـيها علـى بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين خلال دور الأنصار زمان النبـي صلى اللّه عليه وسلم الذين ابتدأ بذكرهم فـي أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد اللّه وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود، وحذّر الـمخاطبـين بها أن يحلّ بهم بإصرارهم علـى كفرهم ومقامهم علـى جحود نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتركهم أتبـاعه والتصديق بـما جاءهم به من عند ربه مثل الذي حلّ بأوائلهم من الـمسخ والرّجْف والصّعْق، وما لا قِبَل لهم به من غضب اللّه وسخطه. كالذي: ٨٣٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنُكُمْ فِـي السّبْتِ يقول: ولقد عرفتـم وهذا تـحذير لهم من الـمعصية، يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصونـي، اعتدوا يقول اجترءوا فـي السبت قال: لـم يبعث اللّه نبـيا إلا أمره بـالـجمعة وأخبره بفضلها وعظمها فـي السموات وعند الـملائكة، وأن الساعة تقوم فـيها، فمن اتبع الأنبـياء فـيـما مضى كما اتبعت أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم مـحمدا قبل الـجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت علـيها بـما أمره اللّه تعالـى به ونبـيه صلى اللّه عليه وسلم، ومن لـم يفعل ذلك كان بـمنزلة الذين ذكر اللّه فـي كتابه، فقال: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمْ الّذِينَ اعْتَدُوا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنا لهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ. وذلك أن الـيهود قالت لـموسى حين أمرهم بـالـجمعة وأخبرهم بفضلها: يا موسى كيف تأمرنا بـالـجمعة وتفضلها علـى الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها لأن اللّه خـلق السموات والأرض والأقوات فـي ستة أيام وسَبَت له كل شيء مطيعا يوم السبت، وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريـم حين أمرهم بـالـجمعة، قالوا له: كيف تأمرنا بـالـجمعة، وأوّل الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، واللّه واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى اللّه إلـى عيسى أن دعهم والأحد، ولكن لـيفعلوا فـيه كذا وكذا مـما أمرهم به. فلـم يفعلوا، فقصّ اللّه تعالـى قصصهم فـي الكتاب بـمعصيتهم قال: وكذلك قال اللّه لـموسى حين قالت له الـيهود ما قالوا فـي أمر السبت: أن دعهم والسبت فلا يصيدوا فـيه سمكا ولا غيره، ولا يعملون شيئا كما قالوا قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الـحيتان علـى الـماء فهوقوله: إذْ تأتِـيهمْ حِيتانُهُمْ يَوْم سَبتِهمْ شُرّعا يقول: ظاهرة علـى الـماء، ذلك لـمعصيتهم موسى. وإذا كان غير يوم السبت صارت صيدا كسائر الأيام، فهوقوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تأتِـيهِمْ. ففعلت الـحيتان ذلك ما شاء اللّه فلـما رأوها كذلك طمعوا فـي أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلـم تـمتنع علـيه، وحذر العقوبة التـي حذّرهم موسى من اللّه تعالـى. فلـما رأوا أن العقوبة لا تـحلّ بهم عادوا وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولـم يصبهم شيء، فكثروا فـي ذلك وظنوا أن ما قال لهم موسى كان بـاطلاً، وهو قول اللّه جل ثناؤه: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ يقول لهؤلاء الذين صادوا السمك، فمسخهم اللّه قردة بـمعصيتهم، يقول: إذا لـم يحيوا فـي الأرض إلا ثلاثة أيام، ولـم تأكل، ولـم تشرب، ولـم تنسل، وقد خـلق اللّه القردة والـخنازير وسائر الـخـلق فـي الستة الأيام التـي ذكر اللّه فـي كتابه، فمسخ هؤلاء القوم فـي صورة القردة، وكذلك يفعل بـمن شاء كما يشاء، ويحوّله كما يشاء. ٨٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن داود بن الـحصين، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، قال: قال ابن عبـاس : إن اللّه إنـما افترض علـى بنـي إسرائيـل الـيوم الذي افترض علـيكم فـى عيدكم يوم الـجمعة، فخالفوا إلـى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به، فلـما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم اللّه فـيه، فحرّم علـيهم ما أحلّ لهم فـي غيره. وكانوا فـي قرية بـين أيـلة والطور يقال لها (مَدْيَن)، فحرّم اللّه علـيهم فـي السبت الـحيتان صيدها وأكلها، وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إلـيهم شُرّعا إلـى ساحل بحرهم، حتـى إذا ذهب السبت ذهبن، فلـم يروا حوتا صغيرا ولا كبـيرا. حتـى إذا كان يوم السبت أتـين إلـيهم شرّعا، حتـى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتـى إذا طال علـيهم الأمد وقَرِموا إلـى الـحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرّا يوم السبت فخَزَمه بخيط، ثم أرسله فـي الـماء، وأوتَد له وتدا فـي الساحل، فأوثقه ثم تركه. حتـى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إنـي لـم آخذه فـي يوم السبت، ثم انطلق به فأكله. حتـى إذا كان يوم السبت الاَخر عاد لـمثل ذلك. ووجد الناس ريح الـحيتان. فقال أهل القرية: واللّه لقد وجدنا ريح الـحيتان. ثم عثروا علـى ما صنع ذلك الرجل قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرّا زمانا طويلاً لـم يعجل اللّه علـيهم بعقوبة حتـى صادوها علانـية وبـاعوها بـالأسواق، وقالت طائفة منهم من أهل التقـية: ويحكم اتقوا اللّه ونهوهم عما كانوا يصنعون وقالت طائفة أخرى لـم تأكل الـحيتان ولـم تنه القوم عما صنعوا: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّه مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا قالُوا مَعْذِرة إلـى ربّكُمْ لسخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون. قال ابن عبـاس : فبـينـما هم علـى ذلك أصبحت تلك البقـية فـي أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم، فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا فـانظروا ما هو فذهبوا ينظرون فـي دورهم، فوجدوها مغلقة علـيهم، قد دخـلوا لـيلاً فغلقوها علـى أنفسهم كما تغلق الناس علـى أنفسهم، فأصبحوا فـيها قردة، إنهم لـيعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والـمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبـي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عبـاس : فلولا ما ذكر اللّه أنه أنـجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الـجميع منهم. قالوا: وهي القرية التـي قال اللّه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: واسألْهُمْ عنِ القَرْيَةِ الّتِـي كانَتْ حاضرةَ البَحْرِ الآية. ٨٣٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قردة خاسِئِينَ أحلت لهم الـحيتان وحرمت علـيهم يوم السبت بلاءً من اللّه لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن الـمعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة اللّه ، وأما صنف فـانتهك حرمة اللّه ومرَد علـى الـمعصية، فلـما أبوا إلا الاعتداء إلـى ما نهوا عنه، قال اللّه لهم: كُونُوا قِرَدَة خاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذنابٌ، تَعَاوَى، بعد ما كانوا رجالاً ونساء. ٨٣٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة في قوله: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْت قال: نُهوا عن صيد الـحيتان يوم السبت، فكانت تشرع إلـيهم يوم السبت، وبُلوا بذلك فـاعتدوا فـاصطادوها، فجعلهم اللّه قردة خاسئين. ٨٣٩ـ حدثنـي موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ولَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِين اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فـي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِردة خاسِئِينَ قال: فهم أهل أيـلة، وهي القرية التـي كانت حاضرة البحر. فكانت الـحيتان إذا كان يوم السبت وقد حرّم اللّه علـى الـيهود أن يعملوا فـي السبت شيئا لـم يبق فـي البحر حوت إلا خرج حتـى يخرجن خراطيـمهن من الـماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلـم ير منهن شيء حتـى يكون يوم السبت. فذلك قوله: وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتِـي كانَتْ حاضِرَة البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِـي السّبْتِ إذْ تأتِـيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا ويَوْمَ لا يَسْبِتُون لا تأتِـيهِمْ. فـاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الـحفـيرة ويجعل لها نهرا إلـى البحر، فإذا كان يوم السبت فتـح النهر، فأقبل الـموج بـالـحيتان يضربها حتـى يـلقـيها فـي الـحفـيرة، ويريد الـحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فـيـمكث، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك، فـيجد جاره ريحه، فـيسأله فـيخبره فـيصنع مثل ما صنع جاره. حتـى إذا فشا فـيهم أكل السمك قال لهم علـماؤهم: ويحكم إنـما تصطادون السمك يوم السبت، وهو لا يحلّ لكم فقالوا: إنـما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا، ولكنكم صدتـموه يوم فتـحتـم له الـماء فدخـل فقالوا: لا. وعتوا أن ينتهوا، فقال بعض الذين نهوهم لبعض: لِـمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّه مهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابـا شَدِيدا يقول: لـم تعظونهم وقد وعظتـموهم فلـم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرةً إلَـى رَبّكُمْ ولعلّهم يَتّقُون. فلـما أبوا قال الـمسلـمون: واللّه لا نساكنكم فـي قرية واحدة فقسموا القرية بجدار، ففتـح الـمسلـمون بـابـا والـمعتدون فـي السبت بـابـا، ولعنهم داود. فجعل الـمسلـمون يخرجون من بـابهم والكفـار من بـابهم فخرج الـمسلـمون ذات يوم ولـم يفتـح الكفـار بـابهم، فلـما أبطئوا علـيهم تسوّر الـمسلـمون علـيهم الـحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم علـى بعض، ففتـحوا عنهم فذهبوا فـي الأرض. فذلك قول اللّه عز وجل: فَلَـمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فذلك حين يقول: لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ علـى لِسانِ دَاوُدَ وعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ فهم القردة. ٨٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ قال: لـم يـمسخوا إنـما هو مثل ضربه اللّه لهم مثل ما ضرب مثل الـحمار يحمل أسفـارا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِـي السّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خَاسِئِينَ قال: مسخت قلوبهم، ولـم يـمسخوا قردة، وإنـما هو مثل ضربه اللّه لهم كمثل الـحمار يحمل أسفـارا. وهذا القول الذي قاله مـجاهد قول لظاهر ما دل علـيه كتاب اللّه مخالف، وذلك أن اللّه أخبر فـي كتابه أنه جعل منهم القردة والـخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبـيـم: أرِنا اللّه جَهْرَةً وأن اللّه تعالـى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أُمروا بدخول الأرض الـمقدسة، فقالوا لنبـيهم: اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ فـابتلاهم بـالتـيه. فسواء قال قائل: هم لـم يـمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لـم يكن شيء مـما أخبر اللّه عن بنـي إسرائيـل أنه كان منهم من الـخلاف علـى أنبـيائهم والعقوبـات والأنكال التـي أحلها اللّه بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقرّ بآخر منه، سئل البرهان علـى قوله وعورض فـيـما أنكر من ذلك بـما أقرّ به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفـيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مـجاهد قول جميع الـحجة التـي لا يجوز علـيها الـخطأ والكذب فـيـما نقلته مـجمعة علـيه، وكفـى دلـيلاً علـى فساد قول إجماعها علـى تـخطئته. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قرَدَةً خاسِئِينَ. يعنـي بقوله: فَقُلْنَا لَهُمْ أي فقلنا للذين اعتدوا فـي السبت يعنـي فـي يوم السبت. وأصل السبت الهدوّ السكون فـي راحة ودعة، ولذلك قـيـل للنائم مسبوت لهدوّه وسكون جسده واستراحته، كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُبـاتا أي راحة لأجسادكم، وهو مصدر من قول القائل: سبت فلان يسبُتُ سَبْتا. وقد قـيـل إنه سمي سبتا لأن اللّه جل ثناؤه فرغ يوم الـجمعة، وهو الـيوم الذي قبله، من خـلق جميع خـلقه. وقوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِين أي صيروا كذلك. والـخاسىء: الـمبعد الـمطرود كما يخسأ الكلب، يقال منه: خسأته أخسؤه خَسْأً وخُسوءا، وهو يخسأ خُسوءا، قال: ويقال خسأته فخسأ وانـخسأ، ومنه قول الراجز: كالكَلْبِ إنْ قُلْتَ لَهُ اخْسأ انْـخَسأْ يعنـي إن طردته انطرد ذلـيلاً صاغرا. فكذلك معنى قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مبعدين من الـخير أذلاء صغراء. كما: ٨٤١ـ حدثنا بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ قال: صاغرين. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٨٤٢ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: خاسِئِينَ قال: صاغرين. ٨٤٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي أذلة صاغرين. ٨٤٤ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : خاسئا: يعنـي ذلـيلاً. القول فـي تأويـل قوله تعالى: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الهاء والألف في قوله: فَجَعَلْناها وعلام هي عائدة، فروي عن ابن عبـاس فـيها قولان: أحدهما ما: ٨٤٥ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : فَجَعَلْنَاها فجعلنا تلك العقوبة وهي الـمسخة نكالاً. فـالهاء والألف من قوله: فَجَعَلْناها علـى قول ابن عبـاس هذا كناية عن الـمسخة، وهي (فَعْلَة) من مَسَخَهم اللّه مَسْخَةً. فمعنى الكلام علـى هذا التأويـل: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِردَةً خاسِئِينَ فصاروا قردة مـمسوخين فَجَعَلْناها فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وما خَـلْفَها وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ. والقول الاَخر من قولـي ابن عبـاس ما: ٨٤٦ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : فجَعَلْناها يعنـي الـحيتان. والهاء والألف علـى هذا القول من ذكر الـحيتان، ولـم يجر لها ذكر. ولكن لـما كان فـي الـخبر دلالة كنـي عن ذكرها، والدلالة علـى ذلك قوله: ولَقَدْ عَلِـمْتُـمُ الّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فـي السّبْتِ. وقال آخرون: فجعلنا القرية التـي اعتدى أهلها فـي السبت. فـالهاء والألف فـي قول هؤلاء كناية عن قرية القوم الذين مسخوا. وقال آخرون: معنى ذلك: فجعلنا القردة الذين مسخوا نكالاً لـما بـين يديها وما خـلفها، فجعلوا الهاء والألف كناية عن القردة. وقال آخرون: فجَعَلْناها يعنـي به: فجعلنا الأمة التـي اعتدت فـي السبت نكالاً. القول فـي تأويـل قوله تعالى: نَكالاً. والنكال مصدر من قول القائل: نكل فلان بفلان تنكيلاً ونكالاً، وأصل النكال: العقوبة، كما قال عديّ بن زيد العبـادي: لا يَسخُطّ الضّلّـيـلُ ما صَنَعَ الْعَبْدُ وَلا فِـي نَكالِهِ تَنْكِيرُ وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن ابن عبـاس : ٨٤٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : نَكالاً يقول: عقوبة. ٨٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي إسحاق، قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: فجَعَلْناها نَكالاً أي عقوبة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك. فقال بعضهم بـما: ٨٤٩ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : لِـمَا بـينَ يَدَيْها يقول: لـيحذر من بعدهم عقوبتـي، وَما خَـلْفَها يقول: الذين كانوا بقوا معهم. ٨٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: لِـمَا بـينَ يَدَيْهَا وَما خَـلْفَها لـما خلا لهم من الذنوب، وما خـلفها: أي عبرة لـمن بقـي من الناس. وقال آخرون بـما: ٨٥١ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن داود بن الـحصين، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، قال: قال ابن عبـاس : فجَعلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها أي من القرى. وقال آخرون بـما: ٨٥٢ـ حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال اللّه : فَجَعَلْناها نَكالاً لِـما بـينَ يَدَيْها من ذنوب القوم، وَما خَـلْفَها أي للـحيتان التـي أصابوا. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لِـمَا بـينَ يَدَيْها من ذنوبها وَما خَـلْفَها من الـحيتان. ٨٥٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه تعالـى: لِـمَا بـينَ يَدَيْها ما مضى من خطاياهم إلـى أن هلكوا به. حدثنـيالـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها يقول: بـين يديها ما مضى من خطاياهم، وما خـلفها: خطاياهم التـي هلكوا بها. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله إلا أنه قال: وَما خَـلْفَها خطيئتهم التـي هلكوا بها. وقال آخرون بـما: ٨٥٤ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فجَعَلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها قال: أما ما بـين يديها: فما سلف من عملهم، وماخـلفها: فمن كان بعدهم من الأمـم أن يعصوا فـيصنع اللّه بهم مثل ذلك. وقال آخرون بـما: ٨٥٥ـ حدثنـي به ابن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَجَعَلْناها نَكالاً لِـمَا بـينَ يَدَيْها ومَا خَـلْفَها يعنـي الـحيتان جعلها نكالاً لـما بـين يديها وما خـلفها من الذنوب التـي عملوا قبل الـحيتان، وما عملوا بعد الـحيتان، فذلك قوله: ما بـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها. وأولـى هذه التأويلات بتأويـل الآية ما رواه الضحاك عن ابن عبـاس وذلك لـما وصفنا من أن الهاء والألف في قوله: فجَعَلْناها نَكالاً بأن تكون من ذكر العقوبة والـمَسْخة التـي مسخها القوم أولـى منها بأن تكون من ذكر غيرها، من أجل أن اللّه جل ثناؤه إنـما يحذّر خـلقه بأسه وسطوته، وبذلك يخوّفهم. وفـي إبـانته عز ذكره بقوله: نَكالاً أنه عنى به العقوبة التـي أحلها بـالقوم ما يعلـم أنه عنى بقوله: فجَعَلْناهَا نَكالاً لِـمَا بَـينَ يَدَيْها وَما خَـلْفَها: فجعلنا عقوبتنا التـي أحللناها بهم عقوبة لـما بـين يديها وما خـلفها، دون غيره من الـمعانـي. وإذا كانت الهاء والألف بأن تكون من ذكر الـمسخة والعقوبة أولـى منها بأن تكون من ذكر غيرها، فكذلك العائد في قوله: لِـمَا بـينَ يَدَيها وَما خَـلْفَها من الهاء والألف أن يكون من ذكر الهاء والألف اللتـين في قوله: فَجَعَلْناها أولـى من أن يكون من غيره. فتأويـل الكلام إذا كان الأمر علـى ما وصفنا: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لـما بـين يديها من ذنوبهم السالفة منهم مسخنا إياهم وعقوبتنا لهم، ولـما خـلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم، أن يعمل بها عامل، فـيـمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحلّ بهم مثل الذي حلّ بهم تـحذيرا من اللّه تعالـى ذكره عبـاده أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتـى الـمـمسوخون فـيعاقبوا عقوبتهم. وأما الذي قال فـي تأويـل ذلك: فجَعَلْناها يعنـي الـحيتان عقوبة لـما بـين يدي الـحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم، فإنه أبْعَدَ فـي الانتزاع وذلك أن الـحيتان لـم يجر لها ذكر فـيقال: فجَعَلْناها فإن ظنّ ظانّ أن ذلك جائز وإن لـم يكن جرى للـحيتان ذكر، لأن العرب قد تكنـي عن الاسم ولـم يجر له ذكر، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغير جائز أن يترك الـمفهوم من ظاهر الكتاب والـمعقول به ظاهر فـي الـخطاب والتنزيـل إلـى بـاطن لا دلالة علـيه من ظاهر التنزيـل ولا خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم منقول ولا فـيه من الـحجة إجماع مستفـيض. وأما تأويـل من تأوّل ذلك: لـما بـين يديها من القرى وما خـلفها، فـينظر إلـى تأويـل من تأول ذلك بـما بـين يدي الـحيتان وما خـلفها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَوْعِظَةً. والـموعظة مصدر من قول القائل: وعظت الرجل أعظه وَعْظا وموعظة: إذا ذكّرته. فتأويـل الآية: فجعلناها نكالاً لـما بـين يديها وما خـلفها، وتذكرة للـمتقـين، لـيتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها، كما: ٨٥٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَمَوْعِظَةً يقول: وتذكرة وعبرة للـمتقـين. القول فـي تأويـل قوله تعالى للْـمَتّقِـينَ. وأما الـمتقون فهم الذين اتقوا بأداء فرائضه واجتناب معاصيه كما: ٨٥٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ يقول: للـمؤمنـين الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعتـي. فجعل تعالـى ذكره ما أحلّ بـالذين اعتدوا فـي السبت من عقوبته موعظة للـمتقـين خاصة وعبرة للـمؤمنـين دون الكافرين به إلـى يوم القـيامة. ٨٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن داود بن الـحصين، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، عن عبد اللّه بن عبـاس في قوله: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ إلـى يوم القـيامة. ٨٥٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ: أي بعدهم. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. ٨٦٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما موعظة للـمتقـين، فهم أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ٨٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ قال: فكانت موعظة للـمتقـين خاصة. ٨٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج في قوله: وَمَوْعِظَةً للْـمُتّقِـينَ: أي لـمن بعدهم. ٦٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ } وهذه الآية مـما وبخ اللّه بها الـمخاطبـين من بنـي إسرائيـل فـي نقض أوائلهم الـميثاق الذي أخذه اللّه علـيهم بـالطاعة لأنبـيائه، فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقـي، إذ قال موسى لقومه، وقومه بنو إسرائيـل، إذ ادّارءوا فـي القتـيـل الذي قتل فـيهم إلـيه ٦٧انظر تفسير الآية: ٦٨ ٦٨تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ......} والهزو: اللعب والسخرية، كما قال الراجز: قَدْ هَزِئَتْ مِنّـي أُمّ طَيْسَلَهْقالَتْ أرَاهُ مُعْدِما لا شَيْءَ لَهْ يعنـي بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت. ولا ينبغي أن يكون من أنبـياء اللّه فـيـما أخبرت عن اللّه من أمر أو نهي هزو أو لعب. فظنوا بـموسى أنه فـي أمره إياهم عن أمر اللّه تعالـى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم فـي القتـيـل إلـيه أنه هازىء لاعب، ولـم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبـيّ اللّه ، وهو يخبرهم أن اللّه هو الذي أمرهم بذبح البقرة، وحذفت الفـاء من قوله: أتَتّـخِذُنا هُزُوا وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه، وحسن السكوت علـى قوله: إنّ اللّه يَأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فجاز لذلك إسقاط الفـاء من قوله: أتَتّـخِذُنا هُزُوا كما جاز وحسن إسقاط من قوله تعالى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أيّها الـمُرْسَلُونَ قالُوا إنّا أُرْسِلْنا ولـم يقل: فقالوا إنا أرسلنا، ولو قـيـل: (فقالوا)، كان حسنا أيضا جائزا، ولو كان ذلك علـى كلـمة واحدة لـم تسقط منه الفـاء وذلك أنك إذا قلت قمت وفعلت كذا وكذا ولـم تقل: قمت فعلت كذا وكذا، لأنها عطف لا استفهام يوقـف علـيه، فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا إن الـمخبر عن اللّه جل ثناؤه بـالهزء والسخرية من الـجاهلـين وبرأ نفسه مـما ظنوا به من ذلك، فقال: أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ يعنـي من السفهاء الذين يروون عن اللّه الكذب والبـاطل. وكان سبب قـيـل موسى لهم: إنّ اللّه يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ما: ٨٦٣ـ حدثنا به مـحمد بن عبد الأعلـى قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أيوب، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة، قال: كان فـي بنـي إسرائيـل رجل عقـيـم أو عاقر، قال: فقتله ولـيه، ثم احتـمله، فألقاه فـي سبط غير سبطه قال: فوقع بـينهم فـيه الشرّ، حتـى أخذوا السلاح قال: فقال أولو النّهَى: أتقتتلون وفـيكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: فأتوا نبـيّ اللّه ، فقال: اذبحوا بقرة فقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجَاهِلـينَ قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما هي قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة إلـى قوله: فَذَبَحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال: فضُرب فأخبرهم بقاتله قال: ولـم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبـا قال: ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم، فلـم يورث قاتل بعد ذلك. ٨٦٤ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنـي أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قول اللّه إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قال: كان رجل من بنـي إسرائيـل، وكان غنـيا ولـم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله لـيرثه، ثم ألقاه علـى مـجمع الطريق، وأتـى موسى، فقال له: إن قريبـي قتل، وأتـى إلـيّ أمرٌ عظيـم، وإنـي لا أجد أحدا يبـين لـي من قتله غيرك يا نبـيّ اللّه قال: فنادى موسى فـي الناس: أنشد اللّه من كان عنده من هذا علـم إلا بـينه لنا فلـم يكن عندهم علـمه، فأقبل القاتل علـى موسى فقال: أنت نبـيّ اللّه ، فـاسأل لنا ربك أن يبـين لنا فسأل ربه فأوحى اللّه إلـيه: إنّ اللّه يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فعجبوا وقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَـيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّه يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة لا فـارِض يعنـي هرمة وَلا بكْر يعنـي ولا صغيرة عَوَان بـينَ ذلكَ أي نصف بـين البكر والهرمة، قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنا ما لَوْنُها قال إنهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة صَفْرَاءُ فـاقِع لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرّ النَاظِرِينَ أي تعجب الناظرين. قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَـيّنْ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَـيْنَا وَإنَا إنْ شاءَ اللّه لـمهتدون قال أنه يقول أنها بقرة لا ذلول أي يذللّها العمل تثـير الأرض يعنـي يسق بذلول فتثـير الأرض ولا تسقـي الـحرث يقول ولا تعمل فـي الـحرب مسلـمة يعنـي مسلـمة من العيوب لاشية فـيها. يقول لا بـياض فـيها. قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا علـى أنفسهم، فشدّد اللّه علـيهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا إنا إن شاء اللّه لـمهتدون لـما هدوا إلـيها أبدا فبلغنا أنهم لـم يجدوا البقرة التـي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى وهي القـيـمة علـيهم فلـما علـمت أنهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت علـيهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لـم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألتهم أضعاف ثمنها فقال لهم موسى أن اللّه قد كان خفف علـيكم فشددتـم علـى أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فـيضربو به القتـيـل ففعلوا فرجع إلـيه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتـى موسى فشكى إلـيه فقتله اللّه علـى أسوء عمله. حدثنـي موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسبـاط عن السدي وإذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة قال كان رجل من بنـي إسرائيـل مكثرا من الـمال، وكانت له ابنة وكان له ابن أخ مـحتاج. فخطب إلـيه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوّجه إياها، فغضب الفتـى وقال: واللّه لأقتلنّ عمي ولاَخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ولاَكلنّ ديته فأتاه الفتـى وقد قدم تـجار فـي بعض أسبـاط بنـي إسرائيـل، فقال: يا عم انطلق معي فخذ لـي من تـجارة هؤلاء القوم لعلـي أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطونـي. فخرج العم مع الفتـى لـيلاً، فلـما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتـى ثم رجع إلـى أهله. فلـما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو فلـم يجده، فـانطلق نـحوه فإذا هو بذلك السبط مـجتـمعين علـيه، فأخذهم وقال: قتلتـم عمي فأدّوا إلـيّ ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب علـى رأسه وينادي واعماه. فرفعهم إلـى موسى، فقضى علـيهم بـالدية، فقالوا له: يا رسول اللّه : ادع لنا حتـى يتبـين له من صاحبه فـيؤخذ صاحب الـجريـمة، فواللّه إن ديته علـينا لهينة، ولكنا نستـحي أن نعير به. فذلك حين يقول اللّه جل ثناؤه: وَإذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا فـادّارَأتُـمْ فـيها وَاللّه مُخْرِجٌ ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ فقال لهم موسى: إنّ اللّه يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالوا: نسألك عن القتـيـل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة، أتهزأ بنا؟ قال موسى: أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجَاهِلِـينَ قال: قال ابن عبـاس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى، فشدد اللّه علـيهم فقالوا: ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا فـارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بـينَ ذلكَ والفـارض: الهرمة التـي لا تلد، والبكر: التـي لـم تلد إلا ولدا واحدا، والعوان: النصف التـي بـين ذلك التـي قد ولدت وولد ولدها فـافعلوا ما تؤمرون. قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: تعجب الناظرين: قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَـيْنا وَإنّا إنْ شاءَ اللّه لَـمُهْتَدُونَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ مُسَلّـمَةٌ لا شِيَةَ فِـيها من بـياض ولا سواد ولا حمرة. قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ فطلبوها فلـم يقدروا علـيها. وكان رجل من بنـي إسرائيـل من أبرّ الناس بأبـيه. وأن رجلاً مرّ به معه لؤلؤ يبـيعه، فكان أبوه نائما تـحت رأسه الـمفتاح، فقال له الرجل: تشتري منـي هذا اللؤلؤ بسبعين ألفـا؟ فقال له الفتـى: كما أنت حتـى يستـيقظ أبـي فآخذه بثمانـين ألفـا. فقال له الاَخر: أيقظ أبـاك وهو لك بستـين ألفـا. فجعل التاجر يحطّ له حتـى بلغ ثلاثـين ألفـا، وزاد الاَخر علـى أن ينتظر حتـى يستـيقظ أبوه حتـى بلغ مائة ألف. فلـما أكثر علـيه قال: لا واللّه لا أشتريه منك بشيء أبدا، وأبى أن يوقظ أبـاه. فعوّضه اللّه من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرّت به بنو إسرائيـل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبـيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى، فأعطوه ثنتـين فأبى، فزادوه حتـى بلغوا عشرا فأبى، فقالوا: واللّه لا نتركك حتـى نأخذها منك. فـانطلقوا به إلـى موسى، فقالوا: يا نبـيّ اللّه إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك فقال: يا رسول اللّه أنا أحقّ بـمالـي. فقال: صدقت، وقال للقوم: أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبـا فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها حتـى أعطوه وزنها عشر مرّات، فبـاعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها فذبحوها، فقال: اضربوه ببعضها فضربوه بـالبضعة التـي بـين الكتفـين فعاش، فأسلوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي قال: أقتله وآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه. ٨٦٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة. وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، عن مـجاهد. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: حدثنـي خالد بن يزيد، عن مـجاهد. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل، عن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا يذكر. وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، وحجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن كعب القرظي ومـحمد بن قـيس. وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: أخبرنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس . فذكر جميعهم: أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً نـحو السبب الذي ذكره عبـيدة وأبو العالـية والسدي. غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتـيـل الذي اختصم فـي أمره إلـى موسى كان أخا الـمقتول. وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه. وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مـجمعون علـى أن موسى إنـما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتـيـل إذا احتكموا إلـيه عن أمر اللّه إياهم بذلك، فقالوا له: وما ذبح البقرة يبـين لنا خصومتنا التـي اختصمنا فـيها إلـيك فـي قتل من قتل فـادعى علـى بعضنا أنه القاتل أتهزأ بنا؟ كما: ٨٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قتل قتـيـل من بنـي إسرائيـل، فطرح فـي سبط من الأسبـاط. فأتـى أهل ذلك القتـيـل إلـى ذلك السبط، فقالوا: أنتـم واللّه قتلتـم صاحبنا قالوا: لا واللّه . فأتوا موسى، قالوا: هذا قتـيـلنا بـين أظهرهم وهم واللّه قتلوه. فقالوا: لا واللّه يا نبـيّ اللّه طرح علـينا. فقال لهم موسى: إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فقالوا: أتستهزىء بنا؟ وقرأ قول اللّه جل ثناؤه: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قالوا: نأتـيك فنذكر قتـيـلنا والذي نـحن فـيه فتستهزىء بنا؟ فقال موسى: أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ. ٨٦٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وحجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن كعب القرظي، ومـحمد بن قـيس: لـما أتـى أولـياء القتـيـل والذين ادّعوا علـيهم قتل صاحبهم موسى وقصوا قصتهم علـيه، أوحى اللّه إلـيه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتّـخِذُنَا هُزُوا قالَ أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ قالوا: وما البقرة والقتـيـل؟ قال: أقول لكم إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة، وتقولون: أتتـخذنا هزوا قال أبو جعفر: فقال الذين قـيـل لهم: إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذبَحُوا بَقَرَةً بعد أن علـموا واستقرّ عندهم أن الذي أمرهم به موسى علـيه السلام من ذلك عن أمر اللّه من ذبح بقرة جدّ وحق: ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا مَا هِيَ فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان اللّه قد كفـاهم بقوله لهم: اذبحوا بقرة لأنه جل ثناءه إنـما أمرهم بذبح بقرة من البقر أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك علـى نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف، فقالوا بجفـاء أخلاقهم وغلظ طبـائعهم وسوء أفهامهم، وتكلف ما قد وضع اللّه عنهم مؤنته، تعنتا منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. كما: ٨٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي، أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لـما قال لهم موسى: أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـين قالوا له يتعنتونه: ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما هيَ فلـما تكلفوا جهلاً منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التـي أمروا بذبحها تعنتا منهم بنبـيهم موسى صلوات اللّه علـيه بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فـيـما أخبرهم عن اللّه جل ثناؤه بقولهم: أتَتّـخِذُنا هُزُوا عاقبهم عز وجل بأن خصّ بذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر علـى نوع منها دون نوع، فقال لهم جل ثناؤه إذ سألوه فقالوا: ما هي صفتها وما حلـيتها؟ حَلّها لنا لنعرفها قالَ إنّهَا بَقَرَةٌ لا فَـارِضٌ وَلا بِكْرٌ يعنـي بقوله جل ثناؤه: لا فـارض: لا مسنة هرمة، يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا، يعنـي بذلك أسنّت، ومن ذلك قول الشاعر: يا رُبّ ذِي ضِغْنٍ عَلَـيّ فـارِضِلَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الـحائِضِ يعنـي بقوله فـارض: قديـم يصف ضغنا قديـما. ومنه قول الاَخر: لَهُ زِجاجٌ ولَهَاةُ فـارِرُضهَدْلاء كالوَطْبِ نَـحَاهُ الـمَاخِضُ وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل فـارض قال الـمتأوّلون. ذكر من قال ذلك: ٨٦٩ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مـجاهد: لا فـارِض قال: لا كبـيرة. ٨٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، أو عن عكرمة، شك شريك لا فَـارِضٌ قال: الكبـيرة. ٨٧١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: أخبرنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لا فـارِضٌ الفـارض: الهرمة. حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : لا فـارِضٌ يقول: لـيست بكبـيرة هرمة. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس : لا فـارِضٌ الهرمة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: الفـارض: الكبـيرة. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن مـجاهد قوله: لا فـارِض قال: الكبـيرة. ٨٧٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: لا فـارِضٌ يعنـي لا هرمة. ٨٧٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٨٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: الفـارض: الهرمة. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر، قال قتادة: الفـارض: الهرمة يقول: لـيست بـالهرمة ولا البكر عوان بـين ذلك. ٨٧٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الفـارض: الهرمة التـي لا تلد. ٨٧٦ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الفـارض: الكبـيرة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ولا بِكْر. والبكر من إناث البهائم وبنـي آدم ما لـم يفتـحله الفحل، وهي مكسورة البـاء لـم يسمع منه (فَعَل) ولا (يفعل)وأما (البَكْر) بفتـح البـاء فهو الفتـى من الإبل. وإنـما عنى جل ثناؤه بقوله وَلا بِكْر ولا صغيرة لـم تلد. كما: ٨٧٧ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مـجاهد: وَلا بِكْر صغيرة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: البكر: الصغيرة. ٨٧٨ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا الـحسن بن عطية، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد، عن ابن عبـاس أو عكرمة شك: ولا بِكْر قال: الصغيرة. ٨٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس : ولا بِكْر الصغيرة. ٨٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة: ولا بِكْرٌ ولا صغيرة. حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَلا بكْرٌ ولا صغيرة ضعيفة. ٨٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع: عن أبـي العالـية: وَلا بِكْرٌ يعنـي ولا صغيرة. ٨٨٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٨٨٣ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فـي (البكر) لـم تلد إلا ولدا واحدا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: عَوَانٌ. قال أبو جعفر: العوان: النصف التـي قد ولدت بطنا بعد بطن، ولـيست بنعت للبكر، يقال منه: قد عوّنت إذا صارت كذلك. وإنـما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فـارض ولا بكر بل عوان بـين ذلك. ولا يجوز أن يكون عوان إلا مبتدأ، لأن قوله: بَـيْنَ ذَلِكَ كناية عن الفـارض والبكر، فلا يجوز أن يكون متقدما علـيهما. ومنه قول الأخطل: وَما بِـمَكّةَ مِنْ شُمْطٍ مُـحَفّلَةٍوَما بِـيَثْرِبَ مِنْ عُونٍ وأبْكارٍ وجمعها عون يقال: امرأة عَوَانٌ من نسوة عُونٍ. ومنه قول تـميـم بن مقبل: وَمأتـم كالدّمَى حُورٍ مَدَامِعُهالَـمْ تَبْأسِ العَيْشَ أبْكارا وَلا عُونَا وبقرة عوان وبقر عون قال: وربـما قالت العرب: بقرٌ عُون، مثل رسل يطلبون بذلك الفرق بـين جمع عوان من البقر، وجمع عانة من الـحمر. ويقال: هذه حرب عوان: إذا كانت حربـا قد قوتل فـيها مرّة بعد مرة، يـمثل ذلك بـالـمرأة التـي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال: حالة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة. ٨٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن ابن زيد أنشده: قُعُود لَدَى الأبْوَابِ طُلاّبُ حاجَةٍعَوَانٍ مِنَ الـحاجاتِ أوْ حاجَةً بِكْرا قال أبو جعفر: والبـيت للفرزدق. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك تأوله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك. ٨٨٥ـ حدثنا علـيّ بن سعد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مـجاهد: عَوَانٌ بـينَ ذلكَ: وسط قد ولدن بطنا أو بطنـين. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: عَوانٌ قال: العوان: العانس النصف. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: العوان: النصف. ٨٨٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس أو عكرمة، شكّ شريك: عَوَانٌ قال: بـين ذلك. ٨٨٧ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : عَوَانٌ قال بـين الصغيرة والكبـيرة، وهي أقوى ما تكون من البقر والدوابّ وأحسن ما تكون. ٨٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس : عَوَانٌ قال: النصف. ٨٨٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: عَوَانٌ نصف. ٨٩٠ـ وحدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٨٩١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: العوان: نصف بـين ذلك. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن مـجاهد: عَوَانٌ التـي تنتـج شيئا بشرط أن تكون التـي قد نتـجت بكرة أو بكرتـين. ٨٩٢ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: العوان: النصف التـي بـين ذلك، التـي قد ولدت وولد ولدها. ٨٩٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: العوان: بـين ذلك لـيست ببكر ولا كبـير. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بَـيْن ذلكَ. يعنـي بقوله: بـينَ ذلكَ: بـين البكر والهرمة. كما: ٨٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: بـينَ ذلكَ: أي بـين البكر والهرمة. فإن قال قائل: قد علـمت أن (بـين) لا تصلـح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا، فكيف قـيـل بـين ذلك وذلك واحد فـي اللفظ؟ قـيـل: إنـما صلـحت مع كونها واحدة، لأن (ذلك) بـمعنى اثنـين، والعرب تـجمع فـي (ذلك) و(ذاك) شيئين ومعنـيـين من الأفعال، كما يقول القائل: أظنّ أخاك قائما، وكان عمرو أبـاك، ثم يقول: قد كان ذاك، وأظن ذلك. فـيجمع بذلك وذاك الاسم والـخبر الذي كان لا بد ل(ظَنّ) و(كان) منهما. فمعنى الكلام: قال: إنه يقول أنها بقرة لا مسنة هرمة ولا صغيرة لـم تلد، ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن بـين الهرم والشبـاب. فجمع ذلك معنى الهرم والشبـاب لـما وصفنا، ولو كان مكان الفـارض والبكر اسما شخصين لـم يجمع مع بـين ذلك، وذلك أن (ذلك) لا يؤدي عن اسم شخصين، وغير جائز لـمن قال: كنت بـين زيد وعمرو، أن يقول: كنت بـين ذلك، وإنـما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فـافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. يقول اللّه لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به تدركوا حاجاتكم وطلبـاتكم عندي، واذبحوا البقرة التـي أمرتكم بذبحها، تصلوا بـانتهائكم إلـى طاعتـي بذبحها إلـى العلـم بقاتل قتـيـلكم. ٦٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ } ومعنى ذلك: قال قوم موسى لـموسى: ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما لَوْنُها: أي لون البقرة التـي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنّت آخر منهم بعد الأول، وتكلّف طلب ما قد كانوا كفوه فـي الـمرة الثانـية والـمسألة الاَخرة وذلك أنهم لـم يكونوا حصروا فـي الـمرة الثانـية، إذ قـيـل لهم بعد مسألتهم عن حلـية البقرة التـي كانوا أمروا بذبحها فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من الـمسألة عن صفتها فحصروا علـى نوع دون سائر الأنواع عقوبة من اللّه لهم علـى مسألتهم التـي سألوها نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم تعنتا منهم له، ثم لـم يحصرهم علـى لون منها دون لون، فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنـياء، فقالوا تعنتا منهم لنبـيهم صلى اللّه عليه وسلم كما ذكر ابن عبـاس : ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنا ما لَوْنُها فقـيـل لهم عقوبة لهم: إنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ فحُصِروا علـى لون منها دون لون، ومعنى ذلك أن البقرة التـي أمرتكم بذبحها صفراء فـاقع لونها. قال: ومعنى قوله: يُبَـيّنُ لَنا مَا لَوْنُها أي شيء لونها، فلذلك كان اللون مرفوعا، لأنه مرفوع (ما) وإنـما لـم ينصب (ما) بقوله (يبـين لنا)، لأن أصل (أي) و(ما) جمع متفرّق الاستفهام. يقول القائل: بـين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلـما لـم يكن لقوله (بـيّن لنا) ارتفع علـى الاستفهام منصرفـا (عما) لـم يكن له ارتفع علـى أي لأنه جمع ذلك الـمتفرّق، وكذلك كل ما كان من نظائره، فـالعمل فـيه واحد فـي (ما) و(أي). واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: صَفْرَاءُ فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد. ذكر من قال ذلك منهم: ٨٩٥ـ حدثنـي أبو مسعود إسماعيـل بن مسعود الـجحدري، قال: حدثنا نوح بن قـيس، عن مـحمد بن سيف، عن الـحسن: صَفْرَاءُ فَـاقِع لَوْنُهَا قال: سوداء شديدة السواد. حدثنـي أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، والـمثنى بن إبراهيـم قالا: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا نوح بن قـيس، عن مـحمد بن سيف، عن أبـي رجاء، عن الـحسن، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف. ذكر من قال ذلك: ٨٩٦ـ حدثنـي هشام بن يونس النهشلـي، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الـحسن في قوله: صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُهَا قال: صفراء القرن والظلف. ٨٩٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنـي هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن كثـير بن زياد، عن الـحسن في قوله: صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُهَا قال: كانت وحشية. ٨٩٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن إبراهيـم، عن أبـي حفص، عن مغراء، أو عن رجل، عن سعيد بن جبـير: بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها قال: صفراء القرن والظلف. ٨٩٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هي صفراء. ٩٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا الضحاك بن مخـلد، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: صَفْرَاءُ يعنـي به سوداء، ذهب إلـى قوله فـي نعت الإبل السود: هذه إبل صفر، وهذه ناقة صفراء يعنـي بها سوداء. وإنـما قـيـل ذلك فـي الإبل لأن سوادها يضرب إلـى الصفرة، ومنه قول الشاعر: تِلْكَ خَيْـلِـي مِنْهَا وَتِلْكَ رِكابِـيهُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود، وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع، وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـيهُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود، وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع، وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـيهُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود، وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع، وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـي هُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود، وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع، وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـي هُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود، وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع، وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلككَ رِكابِـي هُنّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزّبِـيبِ يعنـي بقوله: هنّ صفر: هنّ سود، وذلك إن وصفت الإبل به فلـيس مـما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بـالفقوع، وإنـما تصف السواد إذا وصفته بـالشدة بـالـحلوكة ونـحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلكيْهِ الوَرْدَ حَتـى تَرَكْتُهُ ذلِـيلاً يَسُفّ التّرْبَ وَاللّوْنُ فَـاقِعُ القول فـي تأويـل قوله تعالى: تَسُرّ النّاظِرِينَ. يعنـي بقوله: تَسُرّ النّاظِرِينَ تعجب هذه البقرة فـي حسن خـلقها ومنظرها وهيئتها الناظر إلـيها. كما: ٩٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: تَسُرّ النّاظِرِينَ أي تعجب الناظرين. ٩٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا: تَسُرّ النّاظِرِينَ إذا نظرت إلـيها يخيـل إلـيك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. ٩٠٣ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: تعجب الناظرين. ٧٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّن لّنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنّآ إِن شَآءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: قالُوا قال قوم موسى الذين أمروا بذبح البقرة لـموسى. فترك ذكر موسى وذكر عائد ذكره اكتفـاءً بـما دلّ علـيه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: (ادع ربك)، فلـم يذكر له لـما وصفناوقوله: يُبَـيّنْ لَنَا ما هِيَ خبر من اللّه عن القوم بجهلة منهم ثالثة، وذلك أنهم لو كانوا إذ أمروا بذبح البقرة ذبحوا أيتها تـيسرت مـما يقع علـيه اسم بقرة كانت عنهم مـجزئة، ولـم يكن علـيهم غيرها، لأنهم لـم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة، فلـما سألوا بـيانها بأيّ صفة هي، فبـين لهم أنها بسنّ من الأسنان دون سنّ سائر الأسنان، فقـيـل لهم: هي عوان بـين الفـارض والبكر الضرع. فكانوا إذا بـينت لهم سنها لو ذبحوا أدنى بقرة بـالسنّ التـي بـينت لهم كانت عنهم مـجزئة، لأنهم لـم يكونوا كلفوها بغير السنّ التـي حدّت لهم، ولا كانوا حصروا علـى لون منها دون لون. فلـما أبوا إلا أن تكون معرّفة لهم بنعوتها مبـينة بحدودها التـي تفرّق بـينها وبـين سائر بهائم الأرض فشدّدوا علـى أنفسهم شدّد اللّه علـيهم بكثرة سؤالهم نبـيهم واختلافهم علـيه ولذلك قال نبـينا صلى اللّه عليه وسلم لأمته: (ذَرُونِـي ما تَرَكْتُكُمْ فَـانّـمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ علـى أنْبـيائِهِمْ، فإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأتُوهُ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَـانْتَهُوا عَنْهُ مَا اسْتَطَعْتُـمْ). قال أبو جعفر: ولكن القوم لـما زادوا نبـيهم موسى صلى اللّه عليه وسلم أذى وتعنتا، زادهم اللّه عقوبة وتشديدا، كما: ٩٠٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـي، عن الأعمش، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها لكنهم شدّدوا فشدد اللّه علـيهم. ٩٠٥ـ حدثنا عمر بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت أيوب، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. ٩٠٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن أيوب، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان جميعا، عن ابن سيرين، عن عبـيدة السلـمانـي، قال: سألوا وشدّدوا فشدّد اللّه علـيهم. ٩٠٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، قال: لو أخذ بنو إسرائيـل بقرة لأجزأت عنهم، ولولا قولهم: وَإِنّا إنْ شاءَ اللّه لـمُهْتَدُونَ لـما وجدوها. ٩٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّه يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرة لو أخذوا بقرة ما كانت لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا ما هِيَ قالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّها بَقَرَةٌ لا فـارِضٌ وَلا بِكْرٌ قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا لَوْنُها قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إنها بَقَرَة صَفْرَاءَ فَـاقِع لَوْنُها تَسُرّ النَاظِرِينَ قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّك يُبَـيّنْ لنَا ما هِي قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَة لا ذَلُول تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ الآية. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه، وزاد فـيه، ولكنهم شددوا فشدد علـيهم. ٩٠٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: لو أخذوا بقرة ما كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج: قال لـي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّـمَا أُمِرُوا بِأدْنَى بَقَرَة وَلَكِنّهُمْ لَـمّا شَدّدُوا علـى أنْفُسِهِمْ شَدّدَ اللّه عَلَـيْهِمْ وايْـمُ الللّه لَوْ أَنّهُمْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا لَـما بُبّتَتْ لَهُمْ آخِرَ الأبَدِ). ٩١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا علـى أنفسهم فشدّد اللّه علـيهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنّا إنْ شاءَ اللّه لَـمُهْتَدُونَ لـما هدوا إلـيها أبدا. ٩١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إِنّـمَا أُمِر القَوْمُ بِأدْنى بَقَرَةٍ وَلَكِنّهُمْ لَـمّا شَدّدُوا علـى أنْفُسَهُمْ شُدّدَ عَلَـيْهِمْ، وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ لَوْ لَـمْ يَسْتَثْنُوا لَـمَا بُـيّنَتْ لَهُمْ آخِرَ الأبَدِ). حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى فشدّد اللّه علـيهم. حدثنا أبو كريب قال: قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عبـاس : لو أن القوم نظروا أدنى بقرة، يعنـي بنـي إسرائيـل لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدّد علـيهم، فـاشتروها بـملء جلدها دنانـير. ٩١٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم اللّه كفـاهم ذلك، ولكن البلاء فـي هذه الـمسائل، فقَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا هِيَ فشدّد علـيهم، فقال: إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لا فَـارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَـيْنَ ذلكَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنْ لَنَا مَا لَوْنُها قال إنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَـاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال: وشدد علـيهم أشد من الأول فقرأ حتـى بلغ: مُسلّـمَةٌ لا شَيةَ فِـيها فأبوا أيضا. قالوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَـيّنُ لَنَا مَا هِيَ إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا وَإنّا إنْ شَاءَ اللّه لَـمُهْتَدُونَ فشدّد علـيهم فقَالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ مُسْلّـمَةٌ لا شِيَةَ فِـيهَا قال: فـاضطروا إلـى بقرة لا يُعلـم علـى صفتها غيرها، وهي صفراء، لـيس فـيها سواد ولا بـياض. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من الصحابة والتابعين والـخالفـين بعدهم من قولهم: إن بنـي إسرائيـل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا فشدّد اللّه علـيهم، من أوضح الدلالة علـى أن القوم كانوا يرون أن حكم اللّه فـيـما أمر ونهى فـي كتابه وعلـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم علـى العموم الظاهر دون الـخصوص البـاطن، إلا أن يخصّ بعض ما عمه ظاهر التنزيـل كتاب من اللّه أو رسول اللّه ، وأن التنزيـل أو الرسول إن خصّ بعض ما عمه ظاهر التنزيـل بحكم خلاف ما دل علـيه الظاهر، فـالـمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التـي عمت ذلك الـجنس خاصة، وسائر حكم الآية علـى العموم، علـى نـحو ما قد بـيناه فـي كتابنا كتاب (الرسالة من لطيف القول فـي البـيان عن أصول الأحكام) فـي قولنا فـي العموم والـخصوص، وموافقة قولهم فـي ذلك قولنا، ومذهبهم مذهبنا، وتـخطئتهم قول القائلـين بـالـخصوص فـي الأحكام، وشهادتهم علـى فساد قول من قال: حكم الآية الـجائية مـجيء العموم علـى العموم ما لـم يختصّ منها بعض ما عمته الآية، فإن خصّ منها بعض، فحكم الآية حينئذٍ علـى الـخصوص فـيـما خصّ منها، وسائر ذلك علـى العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفـا مـمن عاب علـى بنـي إسرائيـل مسألتهم نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم عن صفة البقرة التـي أمروا بذبحها وسنها وحلـيتها، رأوا أنهم كانوا فـي مسألتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم موسى ذلك مخطئين، ون خصّ منها بعض، فحكم الآية حينئذٍ علـى الـخصوص فـيـما خصّ منها، وسائر ذلك علـى العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفـا مـمن عاب علـى بنـي إسرائيـل مسألتهم نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم عن صفة البقرة التـي أمروا بذبحها وسنها وحلـيتها، رأوا أنهم كانوا فـي مسألتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم موسى ذلك مخطئين، ومع ذلك فأنهم إذا سألوا موسى عن سنها، فأخبرهم عنها وحصرهم منها علـى سنّ دون سنّ، ونوع دون نوع، وخصّ من جميع أنواع البقر نوعا منها، كانوا فـي مسألتهم إياه فـي الـمسألة الثانـية بعد الذي خصّ لهم من أنواع البقر من الـخطأ علـى مثل الذي كانوا علـيه من الـخطأ فـي وقد زعم بعض من عظمت جهالته واشتدت حيرته، أن القوم إنـما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر اللّه إياهم بذبح بقرة من البقر لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك، كما خصت عصا موسى فـي معناها، فسألوه أن يحلـيها لهم لـيعرفوها. ولو كان الـجاهل تدبر قوله هذا، لسهل علـيه ما استصعب من القول وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبـيهم ما سألوه تشددا منهم فـي دينهم، ثم أضاف إلـيهم من الأمر ما هو أعظم مـما استنكره أن يكون كان منهم، فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض اللّه علـيهم فرضا ويتعبدهم بعبـادة، ثم لا يبـين لهم ما يفرض علـيهم ويتعبدهم به حتـى يسألوا بـيان ذلك لهم. فأضاف إلـى اللّه تعالـى ذكره ما لا يجوز إضافته إلـيه، ونسب القوم من الـجهل إلـى ما لا ينسب الـمـجانـين إلـيه، فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض علـيهم الفرائض. فتعوذ بـاللّه من الـحيرة، ونسأله التوفـيق والهداية. وأما قوله: إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا فإن البقر جماع بقرة. وقد قرأ بعضهم: (إن البـاقر)، وذلك وإن كان فـي الكلام جائزا لـمـجيئه فـي كلام العرب وأشعارها، كما قال ميـمون بن قـيس: وَما ذَنْبُهُ أنْ عافَتِ الـمَاءَ بـاقِرٌوَما إِنْ يَعافُ الـمَاءَ إِلاّ لِـيُضْرَبَـا وكما قال أمية: وَيَسُوقُونَ بـاقِرَ الطّودِ للسّهْلِ مَهازِيـلَ خَشْيَةً أنْ تَبُورَا فغير جائزة القراءة به لـمخالفته القراءة الـجائية مـجيء الـحجة بنقل من لا يجوز علـيه فما نقلوه مـجمعين علـيه الـخطأ والسهو والكذب. وأما تأويـل: تَشَابَهَ عَلَـيْنَا فإنه يعنـي به: التبس علـينا. والقراء مختلفة فـي تلاوته، فبعضهم كانوا يتلونه: تشابه علـينا، بتـخفـيف الشين ونصب الهاء علـى مثال تفـاعل، ويذكر الفعل وإن كان البقر جماعا، لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وِحْدَانُه بـالهاء وجمعه بطرح الهاء، وتأنـيثه كما قال اللّه تعالـى فـي نظيره فـي التذكير: كَأنّهُمْ أعْجَازُ نَـخْـلٍ مُنْقَعِرٍ فذكر الـمنقعر وهو من صفة النـخـل لتذكير لفظ النـخـل، وقال فـي موضع آخر: كأنّهم أعْجازُ نَـخْـلٍ خاوِيَةٍ فأنث الـخاوية وهي من صفة النـخـل بـمعنى النـخـل لأنها وإن كانت فـي لفظ الواحد الـمذكر علـى ما وصفنا قبل فهي جماع نـخـلة. وكان بعضهم يتلوه: (إنّ البَقَرَ تَشّابَهُ عَلَـيْنَا) بتشديد الشين وضم الهاء، فـيؤنث الفعل بـمعنى تأنـيث البقر، كما قال: أعْجازُ نَـخْـلٍ خاوِيَةٍ ويدخـل فـي أول تشابه تاء تدل علـى تأنـيثها، ثم تدغم التاء الثانـية فـي شين تشابه لتقارب مخرجها ومخرج الشين فتصير شينا مشددة وترفع الهاء بـالاستقبـال والسلام من الـجوازم والنواصب. وكان بعضهم يتلوه: (إنّ البَقَرَ يُشابَهُ عَلَـيْنَا) فـيخرج يشابه مخرج الـخبر عن الذكر لـما ذكرنا من العلة فـي قراءة من قرأ ذلك: تشابَهَ بـالتـخفـيف، ونصب الهاء غير أنه كان يرفعه بـالـياء التـي يحدثها فـي أول تشابه التـي تأتـي بـمعنى الاستقبـال، وتدغم التاء فـي الشين كما فعله القارىء فـي تشابه بـالتاء والتشديد. والصواب فـي ذلك من القراءة عندنا: إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا بتـخفـيف شين تشابه ونصب هائه، بـمعنى تفـاعل، لإجماع الـحجة من القراء علـى تصويب ذلك ورفعهم ما سواه من القراءات، ولا يعترض علـى الـحجة بقول من يجوز علـيه فـيـما نقل السهو والغفلة والـخطأ. وأما قوله: وَإنّا إنْ شاءَ اللّه لَـمُهْتَدُونَ فإنهم عنوا: وإنا إن شاء اللّه لـمبـين لنا ما التبس علـينا وتشابه من أمر البقرة التـي أمرنا بذبحها. ومعنى اهتدائهم فـي هذا الـموضع معنى تبـينهم أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مـما سواه من أجناس البقر. ٧١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قَالَ إِنّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ ....... } وتأويـل ذلك، قال موسى: إن اللّه يقول: إن البقرة التـي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعنـي بقوله: لا ذَلُولٌ: أي لـم يذللّها العمل. فمعنى الآية: أنها بقرة لـم تذللّها إثارة الأرض بأظلافها، ولا سُنِـيَ علـيها الـماء فـيسقـى علـيها الزرع، كما يقال للدابة التـي قد ذللّها الركوب أو العمل: دابة ذلول بـينة الذّل، بكسر الذال، ويقال فـي مثله من بنـي آدم: رجل ذلـيـل بـين الذلّ والذلة. ٩١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: إِنّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ يقول: صعبة لـم يذلها عمل، تُثِـيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِـي الـحَرْثَ. ٩١٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ يقول: بقرة لـيست بذلول يزرع علـيها، ولـيست تسقـي الـحرث. ٩١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: إِنّها بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ أي لـم يذللّها العمل، تُثِـيرُ الأرْضَ يعنـي لـيست بذلول فتثـير الأرض، وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: ولا تعمل فـي الـحرث. ٩١٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إِنّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ يقول: لـم يذلها العمل، تُثِـيرُ الأرْضَ يقول: تثـير الأرض بأظلافها، وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: لا تعمل فـي الـحرث. ٩١٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال: الأعرج: قال مـجاهد: قوله: لا ذَلُولٌ تُثِـيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِـي الـحَرْثَ يقول: لـيست بذلول فتفعل ذلك. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة: لـيست بذلول تثـير الأرض ولا تسقـي الـحرث. ويعنـي بقوله: تُثِـيرُ الأرْضَ: تقلب الأرض للـحرث، يقال منه: أثرت الأرض أثـيرها إثارة: إذا قلبتها للزرع. وإنـما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة لأنها كانت فـيـما قـيـل وحشية. ٩١٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن كثـير بن زياد، عن الـحسن قال: كانت وحشية. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مُسَلّـمَةٌ. ومعنى مُسَلّـمَةٌ مفعلة من السلامة، يقال منه: سلـمت تسلـم فهي مسلـمة. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي سلـمت منه، فوصفها اللّه بـالسلامة منه. فقال مـجاهد بـما: ٩١٩ـ حدثنا به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: مُسَلّـمَةٌ يقول: مسلـمة من الشية، ولاشِيَة فِـيها لا بـياض فـيها ولا سواد. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: لاشِيَةَ فِـيها قال: مسلـمة من الشية لاشِيَةَ فِـيها لا بـياض فـيها ولا سواد. وقال آخرون: مسلـمة من العيوب. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: مُسَلّـمَة لاشِيَة فِـيها أي مسلـمة من العيوب. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: مُسَلّـمَةٌ يقول: لا عيب فـيها. ٩٢٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: مُسَلّـمَةٌ يعنـي مسلـمة من العيوب. حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله. ٩٢١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس قوله: مُسَلّـمَةٌ لا عَوَار فـيها. والذي قاله ابن عبـاس وأبو العالـية ومن قال بـمثل قولهما فـي تأويـل ذلك أولـى بتأويـل الآية مـما قاله مـجاهد لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: مُسَلّـمَة مكتفًـى عن قوله: لاشِيَةَ فِـيها. وفي قوله: لاشِيَةَ فِـيها ما يوضح عن أن معنى قوله: مُسَلّـمَة غير معنى قوله: لاشِيَةَ فِـيها. وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لـم تذللّها إثارة الأرض وقلبها للـحراثة ولا السّنُوّ علـيها للـمزارع، وهي مع ذلك صحيحة مسلـمة من العيوب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لاشِيَةَ فِـيها. يعنـي بقوله: لاشِيَةَ فِـيها: لا لون فـيها يخالف لون جلدها. وأصله من وَشْي الثوب، وهو تـحسين عيوبه التـي تكون فـيه بضروب مختلفة من ألوان سَداه ولُـحمته، يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا. ومنه قـيـل للساعي بـالرجل إلـى السلطان أو غيره: واشٍ، لكذبه علـيه عنده وتـحسينه كذبه بـالأبـاطيـل، يقال منه: وشيت به إلـى السلطان وشاية، ومنه قول كعب بن زهير: تَسْعَى الوُشَاةُ جَنابَـيْها وَقَوْلُهُمإنّكَ يا ابْنَ أبـي سُلْـمَى لَـمَقْتُولُ والوشاة جمع واش: يعنـي أنهم يتقوّلون بـالأبـاطيـل، ويخبرونه أنه إن لـحق بـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قتله. وقد زعم بعض أهل العربـية أن الوشي: العلامة. وذلك لا معنى له إلا أن يكون أراد بذلك تـحسين الثوب بـالأعلام، لأنه معلوم أن القائل: وشيت بفلان إلـى فلان غير جائز أن يتوهم علـيه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنـما قـيـل: لاشِيةَ فِـيها وهي من وشيت، لأن الواو لـما أسقطت من أولها أبدلت مكانها الهاء فـي آخرها، كما قـيـل: وزنته زنة، ووسيته سية، ووعدته عدة، ووديته دية. وبـمثل الذي قلنا فـي معنى قوله: لاشِيَةَ فِـيها قال أهل التأويـل. ٩٢٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: لاشِيَةَ فِـيها أي لا بـياض فـيها. حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. ٩٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: لاشِيَةَ فِـيها يقول: لا بـياض فـيها. ٩٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لاشِيَةَ فِـيها أي لا بـياض فـيها ولا سواد. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٩٢٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبـيه، عن عطية: لاشِيَةَ فِـيها قال: لونها واحد لـيس فـيها لون سوى لونها. ٩٢٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لاشِيَةَ فِـيها من بـياض ولا سواد ولا حمرة. ٩٢٧ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لاشِيَةَ فِـيها هي صفراء لـيس فـيها بـياض ولا سواد. ٩٢٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: لاشِيَةَ فِـيها يقول: لا بـياض فـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحقّ. فقال بعضهم: معنى ذلك: الاَن بـينت لنا الـحقّ فتبـيناه، وعرفنا أية بقرة عينت. ومـمن قال ذلك قتادة. ٩٢٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قَالُوا الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ أي الاَن بـينت لنا. وقال بعضهم: ذلك خبر من اللّه جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبـيّ اللّه موسى صلوات اللّه علـيه إلـى أنه لـم يكن يأتـيهم بـالـحقّ فـي أمر البقرة قبل ذلك. ومـمن رُوي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد. ٩٣٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: اضطروا إلـى بقرة لا يعلـمون علـى صفتها غيرها، وهي صفراء لـيس فـيها سواد ولا بـياض، فقالوا: هذه بقرة فلان الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ وقبل ذلك واللّه قد جاءهم بـالـحق. وأولـى التأويـلـين عندنا بقوله: قالُوا الاَنَ جِئْتَ بـالـحَقّ قول قتادة وهو أن تأويـله: الاَن بـينت لنا الـحق فـي أمر البقرة، فعرفنا أنها الواجب علـينا ذبحها منها لأن اللّه جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قـيـلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها علـيهم وثقل أمرها، فقال: فَذَبحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الاَن بـينت لنا الـحق، هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلاً من الأمر. وذلك أن نبـي اللّه موسى صلى اللّه عليه وسلم كان مبـينا لهم فـي كل مسألة سألوها إياه، وردّ رادّوه فـي أمر البقرة الـحق. وإنـما يقال: الاَن بـينت لنا الـحق لـمن لـم يكن مبـينا قبل ذلك، فأما من كان كل قـيـله فـيـما أبـان عن اللّه تعالـى ذكره حقا وبـيانا، فغير جائز أن يقال له فـي بعض ما أبـان عن اللّه فـي أمره ونهيه وأدّى عنه إلـى عبـاده من فرائضه التـي أوجبها علـيهم: الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ كأنه لـم يكن جاءهم بـالـحق قبل ذلك. وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم، وكفروا بقولهم لـموسى: الاَنَ جِئْتَ بِـالـحَقّ ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بـالـحق فـي أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك من فعلهم وقـيـلهم كفر. ولـيس الذي قال من ذلك عندنا كما قال لأنهم أذعنوا بـالطاعة بذبحها، وإن كان قـيـلهم الذي قالوه لـموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَذَبحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ. يعنـي بقوله: فَذَبحُوها فذبح قوم موسى البقرة التـي وصفها اللّه لهم وأمرهم بذبحها. ويعنـي بقوله: وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ أي قاربوا أن يدعوا ذبحها، ويتركوا فرض اللّه علـيهم فـي ذلك. ثم اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض اللّه علـيهم فـي ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التـي أمروا بذبحها وبـينت لهم صفتها. ذكر من قال ذلك: ٩٣١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو معشر الـمدنـي، عن مـحمد بن كعب القرظي في قوله: فَذَبحُوهَا ومَا كادُوا يَفْعَلُونَ قال: لغلاء ثمنها. حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبـيد الهلالـي، قال: حدثنا عبد العزيز بن الـخطاب، قال: حدثنا أبو معشر، عن مـحمد بن كعب القرظي: فَذَبحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال: من كثرة قـيـمتها. ٩٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: أخبرنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد وحجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن كعب القرظي، ومـحمد بن قـيس فـي حديث فـيه طول، ذكر أن حديث بعضهم دخـل فـي حديث بعض، قوله: فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة الثمن، أخذوها بـملء مَسْكها ذهبـا من مال الـمقتول، فكان سواء لـم يكن فـيه فضل فذبحوها. ٩٣٣ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : فَذَبحُوهَا وَما كَادُوا يَفْعَلُونَ يقول: كادوا لا يفعلون. ولـم يكن الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، وكل شيء فـي القرآن (كاد) أو (كادوا) أو (لو) فإنه لا يكون، وهو مثل قوله: أكادُ أُخْفِـيها. وقال آخرون: لـم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع اللّه علـى قاتل القتـيـل الذي اختصموا فـيه إلـى موسى. والصواب من التأويـل عندنا، أن القوم لـم يكادوا يفعلون ما أمرهم اللّه به من ذبح البقرة للـخـلّتـين كلتـيهما إحداهما غلاء ثمنها مع ذكر ما لنا من صغر خطرها وقلة قـيـمتها. والأخرى خوف عظيـم الفضيحة علـى أنفسهم بإظهار اللّه نبـيه موسى صلوات اللّه علـيه وأتبـاعه علـى قاتله. فأما غلاء ثمنها فإنه قد روى لنا فـيه ضروب من الروايات. ٩٣٤ـ فحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: اشتروها بوزنها عشر مرّات ذهبـا، فبـاعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها. ٩٣٥ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أيوب، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة قال: اشتروها بـملء جلدها دنانـير. ٩٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كانت البقرة لرجل يبرّ أمه، فرزقه اللّه أن جعل تلك البقرة له، فبـاعها بـملء جلدها ذهبـا. ٩٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: حدثنـي خالد بن يزيد، عن مـجاهد، قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبـا فبـاعها منهم. ٩٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل، عن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبـا يقول: اشتروها منه علـى أن يـملئوا له جلدها دنانـير، ثم ذبحوها فعمدوا إلـى جلد البقرة فملئوه دنانـير، ثم دفعوها إلـيه. ٩٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي يحيى، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه لـيس بـائعها بـمال أبدا، فلـم يزالوا به حتـى جعلوا له أن يسلـخوا له مسكها فـيـملئوه له دنانـير، فرضي به فأعطاهم إياها. ٩٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: لـم يجدوها إلا عند عجوز، وإنها سألتهم أضعاف ثمنها، فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. ٩٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبـيدة، قال: لـم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد، فبـاعها بوزنها ذهبـا، أو ملء مسكها ذهبـا، فذبحوها. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة السلـمانـي، قال: وجدوا البقرة عند رجل، فقال: إنـي لا أبـيعها إلا بـملء جلدها ذهبـا، فـاشتروها بـملء جلدها ذهبـا. ٩٤٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتـى ملئوا له مسكها وهو جلدها ذهبـا. وأما صغر خطرها وقلة قـيـمتها، فإن: ٩٤٣ـ الـحسن بن يحيى حدثنا، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، قال: حدثنـي مـحمد بن سوقة، عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانـير. وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة علـى أنفسهم، فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذْ أُمروا بذبح البقرة إنـما قالوا لـموسى: أتَتّـخِذُونا هُزُوا لعلـمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت فحادوا عن ذبحها. ٩٤٤ـ حدثت بذلك عن إسماعيـل بن عبد الكريـم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. وكان ابن عبـاس يقول: إن القوم بعد أن أحيا اللّه الـميت فأخبرهم بقاتله، أنكرت قتلته قتله، فقالوا: واللّه ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والـحقّ. ٩٤٥ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس . ٧٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّه مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإِذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا: واذكروا يا بنـي إسرائيـل إذ قتلتـم نفسا. والنفس التـي قتلوها هي النفس التـي ذكرنا قصتها فـي تأويـل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّه يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةًوقوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها يعنـي فـاختلفتـم وتنازعتـم، وإنـما هو (فتدارأتـم فـيها) علـى مثال تفـاعلتـم من الدرء، والدرء: العوج، ومنه قول أبـي النـجم العجلـي: خَشْيَةَ طغامٍ إذَا هَمّ جسَرْيأكُلُ ذَا الدّرْءِ وَيُقْصِي منْ حَقَرْ يعنـي ذا العوج والعُسْر. ومنه قول رؤبة بن العجاج: أدْرَكْتُها قُدّام كلّ مِدْرَهِبـالدّفْعِ عَنّـي دَرْءَ كلّ عُنْـجُهِ ومنه الـخبر الذي: ٩٤٦ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، عن إسرائيـل، عن إبراهيـم بن الـمهاجر، عن مـجاهد، عن السائب، قال: جاءنـي عثمان وزهير ابنا أمية، فـاستأذنا لـي علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أنا أعْلَـمُ بِهِ مِنْكُمَا، ألَـمْ تَكُنْ شَرِيكي فـي الـجاهِلِـيّةِ؟) قلت: نعم بأبـي أنت وأمي، فنعم الشريك كنت لا تـماري ولا تداري يعنـي بقوله: لا تداري: لا تـخالف رفـيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارّه. وإنـما أصل فـادّارأتُـمْ فتدارأتـم، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال، وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتـين، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنـيتـين، فأدغمت التاء فـي الدال فجعلت دالاً مشددة، كما قال الشاعر: تُولـي الضّجيعَ إذَا ما اسْتافَها خَصِراعَذْبَ الـمذَاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ يريد إذا ما تتابع القبل، فأدغم إحدى التاءين فـي الأخرى. فلـما أدغمت التاء فـي الدال فجعلت دالاً مثلها سكنت، فجلبوا ألفـا لـيصلوا إلـى الكلام بها، وذلك إذا كان قبله شيء لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء، ومنه قول اللّه جل ثناؤه: حَتّـى إذَا ادّارَكُوا فِـيهَا جَمِيعا إنـما هو تداركوا، ولكن التاء منها أدغمت فـي الدال فصارت دالاً مشددة، وجعلت فـيها ألف إذا وصلت بكلام قبلها لـيسلـم الإدغام. وإذا لـم يكن قبل ذلك ما يواصله، وابتدىء به، قـيـل: تداركوا وتثاقلوا، فأظهروا الإدغام. وقد قـيـل: يقال: ادّاركوا وادّارأوا. وقد قـيـل إن معنى قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها فتدافعتـم فـيها، من قول القائل: درأت هذا الأمر عنـي، ومن قول اللّه : وَيَدْرَأُ اعَنْها العَذَابَ بـمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب الـمعنى من القول الأول لأن القوم إنـما تدافعوا قتل قتـيـل، فـانتفـى كل فريق منهم أن يكون قاتله، كما قد بـينا قبل فـيـما مضى من كتابنا هذا. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها قال أهل التأويـل. ٩٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : فـادّارأتُـم فِـيها قال: اختلفتـم فـيها. حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٩٤٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: وَإِذْ قَتَلْتُـمْ نَفْسا فَـادّارأتُـمْ فِـيها قال بعضهم: أنتـم قتلتـموه، وقال الاَخرون: أنتـم قتلتـموه. ٩٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فـادّارأتُـمْ فِـيها قال: اختلفتـم، وهو التنازع تنازعوا فـيه قال: قال هؤلاء: أنتـم قتلتـموه، وقال هؤلاء: لا. وكان تدارؤهم فـي النفس التـي قتلوها. كما: ٩٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: صاحب البقرة رجل من بنـي إسرائيـل قتله رجل فألقاه علـى بـاب ناس آخرين، فجاء أولـياء الـمقتول فـادعوا دمه عندهم فـانتفوا أو انتفلوا منه شك أبو عاصم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمثله سواء، إلا أنه قال: فـادعوا دمه عندهم، فـانتفوا ولـم يشكّ منه. ٩٥١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: قتـيـل كان فـي بنـي إسرائيـل فقذف كل سبط منهم حتـى تفـاقم بـينهم الشرّ حتـى ترافعوا فـي ذلك إلـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأوحى إلـى موسى أن اذبح بقرة فـاضربه ببعضها. فذكر لنا أن ولـيه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله من أجل ميراث كان بـينهم. ٩٥٢ـ حدثنـي ابن سعد، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي شأن البقرة: وذلك أن شيخا من بنـي إسرائيـل علـى عهد موسى كان مكثرا من الـمال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته، فقالوا: لـيت عمنا قد مات فورثنا ماله. وأنه لـما تطاول علـيهم أن لا يـموت عمهم أتاهم الشيطان، فقال: هل لكم إلـى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل الـمدينة التـي لستـم بها ديته؟ وذلك أنهما كانتا مدينتـين كانوا فـي إحداهما، فكان القتـيـل إذا قتل وطرح بـين الـمدينتـين، قـيس ما بـين القتـيـل وما بـين الـمدينتـين، فأيهما كانت أقرب إلـيه غرمت الدية. وإنهم لـما سوّل لهم الشيطان ذلك وتطاول علـيهم أن لا يـموت عمهم، عمدوا إلـيه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه علـى بـاب الـمدينة التـي لـيسوا فـيها. فلـما أصبح أهل الـمدينة جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قُتل علـى بـاب مدينتكم، فواللّه لتغرمنّ لنا دية عمنا قال أهل الـمدينة: نقسم بـاللّه ما قتلنا ولا علـمنا قاتلاً ولا فتـحنا بـاب مدينتنا منذ أغلق حتـى أصبحنا وإنهم عمدوا إلـى موسى، فلـما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً علـى بـاب مدينتهم، وقال أهل الـمدينة: نقسم بـاللّه ما قتلناه ولا فتـحنا بـاب الـمدينة من حين أغلقناه حتـى أصبحنا. وإن جبريـل جاء بأمر ربنا السميع العلـيـم إلـى موسى، فقال: قل لهم: إِنّ اللّه يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فتضربوه ببعضها. ٩٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا حسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، وحجاج عن أبـي معشر، عن مـحمد بن كعب القرظي، ومـحمد بن قـيس، دخـل حديث بعضهم فـي حديث بعض، قالوا: إن سبطا من بنـي إسرائيـل لـما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فـاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لـم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخـلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرّف فإذا لـم ير شيئا فتـح الـمدينة فكانوا مع الناس حتـى يـمسوا. وكان رجل من بنـي إسرائيـل له مال كثـير، ولـم يكن له وارث غير ابن أخيه، فطال علـيه حياته، فقتله لـيرثه. ثم حمله فوضعه علـى بـاب الـمدينة. ثم كمن فـي مكان هو وأصحابه، قال: فتشرّف رئيس الـمدينة علـى بـاب الـمدينة فنظر فلـم ير شيئا، ففتـح البـاب، فلـما رأى القتـيـل ردّ البـاب فناداه ابن أخي الـمقتول وأصحابه: هيهات قتلتـموه ثم تردّون البـاب وكان موسى لـما رأى القتل كثـيرا فـي أصحابه بنـي إسرائيـل كان إذا رأى القتـيـل بـين ظهري القوم آخذهم، فكاد يكون بـين أخي الـمقتول وبـين أهل الـمدينة قتال حتـى لبس الفريقان السلاح، ثم كفّ بعضهم عن بعض، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم فقالوا: يا رسول اللّه إن هؤلاء قتلوا قتـيلاً ثم ردوا البـاب، وقال أهل الـمدينة: يا رسول اللّه قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنـينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ما قتلنا ولا علـمنا قاتلاً. فأوحى اللّه تعالـى ذكره إلـيه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إِنّ اللّه يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ٩٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة، قال: كان فـي بنـي إسرائيـل رجل عقـيـم وله مال كثـير، فقتله ابن أخ له فجرّه فألقاه علـى بـاب ناس آخرين. ثم أصبحوا فـادعاه علـيهم حتـى تسلّـح هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يقتتلوا، فقال ذوو النهي منهم: أتقتتلون وفـيكم نبـيّ اللّه فأمسكوا حتـى أتوا موسى، فقصوا علـيه القصة، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فـيضربوه ببعضها، فقالوا: أتَتّـخِذُنا هُزُوا قال أعُوذُ بـاللّه أنْ أكُونَ مِنَ الـجاهِلِـينَ. ٩٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قتـيـل من بنـي إسرائيـل طرح فـي سبط من الأسبـاط، فأتـى أهل ذلك السبط إلـى ذلك السبط، فقالوا: أنتـم واللّه قتلتـم صاحبنا، فقالوا: لا واللّه . فأتوا إلـى موسى قالوا: هذا قتـيـلنا بـين أظهرهم، وهم واللّه قتلوه، فقالوا: لا واللّه يا نبـي اللّه طرح علـينا. فقال لهم موسى صلى اللّه عليه وسلم: إِنّ اللّه يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بـينهم فـي أمر القتـيـل الذي ذكرنا أمره علـى ما روينا من علـمائنا من أهل التأويـل هو الدرء الذي قال اللّه جل ثناؤه لذرّيتهم وبقايا أولادهم: فـادّارأتُـمْ فِـيها وَاللّه مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَاللّه مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ. ويعنـي بقوله: وَاللّه مُخْرِجٌ ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ واللّه معلن ما كنتـم تسرّونه من قتل القتـيـل الذي قتلتـم ثم ادارأتـم فـيه. ومعنى الإخراج فـي هذا الـموضع: الإظهار والإعلان لـمن خفـي ذلك عنه وإطلاعهم علـيه، كما قال اللّه تعالـى ذكره: ألاّ يَسْجُدوا للّه الّذِي يُخْرِجُ الـخَبْءَ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يعنـي بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفـائه. والذي كانوا يكتـمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتـيـل، كما كتـم ذلك القاتل ومن علـمه مـمن شايعه علـى ذلك حتـى أظهره اللّه وأخرجه، فأعلن أمره لـمن لا يعلـم أمره. وعنـي جل ثناؤه بقوله: تَكْتُـمُونَ تسرّون وتغيبون. كما: ٩٥٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَاللّه مُخْرِجٌ مَا كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ قال: تغيبون. ٩٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ما كُنْتُـمْ تَكْتُـمُونَ ما كنتـم تغيبون. ٧٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّه الْمَوْتَىَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } يعنـي جل ذكره بقوله: فَقُلْنا لقوم موسى الذين ادّارؤا فـي القتـيـل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتـيـل. والهاء التـي في قوله: اضْرِبُوهُ من ذكر القتـيـل ببعضها أي ببعض البقرة التـي أمرهم اللّه بذبحها فذبحوها. ثم اختلف العلـماء فـي البعض الذي ضرب به القتـيـل من البقرة وأيّ عضو كان ذلك منها، فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتـيـل. ذكر من قال ذلك: ٩٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: ضرب بفخذ البقرة، فقام حيا، فقال: قتلنـي فلان ثم عاد فـي ميتته. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: ضرب بفخذ البقرة، ثم ذكر مثله. ٩٥٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جرير بن نوح، عن النضر بن عربـي، عن عكرمة: فقلنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها قال: بفخذها فلـما ضرب بها عاش وقال: قتلنـي فلان ثم عاد إلـى حاله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن خالد بن يزيد، عن مـجاهد، قال: ضرب بفخذها الرجل فقام حيا، فقال: قتلنـي فلان، ثم عاد فـي ميتته. ٩٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الزراق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال أيوب عن ابن سيرين، عن عبـيدة، ضربوا الـمقتول ببعض لـحمها وقال معمر عن قتادة: ضربوه بلـحم الفخذ فعاش، فقال: قتلنـي فلان. ٩٦١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه اللّه ، فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلـم، ثم مات. وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التـي بـين الكتفـين. ذكر من قال ذلك: ٩٦٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فضربوه بـالبضعة التـي بـين الكتفـين فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي. وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها. ذكر من قال ذلك: ٩٦٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فـيضربوا به القتـيـل ففعلوا، فرجع إلـيه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله وهو الذي أتـى موسى فشكا إلـيه فقتله اللّه علـى أسوإ عمله. وقال آخرون بـما: ٩٦٤ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ضربوا الـميت ببعض آرابها، فإذا هو قاعد، قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي قال: وكان قتله وطرحه علـى ذلك السبط، أراد أن يأخذ ديته. والصواب من القول فـي تأويـل قوله عندنا: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا أن يقال: أمرهم اللّه جل ثناؤه أن يضربوا القتـيـل ببعض البقرة لـيحيا الـمضروب. ولا دلالة فـي الآية ولا خبر تقوم به حجة علـى أي أبعاضها التـي أمر القوم أن يضربوا القتـيـل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضرّ الـجهل بأيّ ذلك ضربوا القتـيـل، ولا ينفع العلـم به مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتـيـل ببعض البقرة بعد ذبحها، فأحياه اللّه . فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتـيـل ببعضها؟ قـيـل: لـيحيا فـينبىء نبـي اللّه موسى صلى اللّه عليه وسلم والذين ادّارءوا فـيه من قاتله. فإن قال قائل: وأين الـخبر عن أن اللّه جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قـيـل: ترك ذلك اكتفـاءً بدلالة ما ذكر من الكلام الدال علـيه نـحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فـيـما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها لـيحيا، فضربوه فحيـي كما قال جل ثناؤه: أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَـانْفَلَقَ والـمعنى: فضرب فـانفلق. يدل علـى ذلك قوله: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّه الـمَوْتَـى ويُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّه الـمَوْتَـى. وقوله: كَذَلِكَ يُحْيِـي اللّه الـمَوْتَـى مخاطبة من اللّه عبـاده الـمؤمنـين، واحتـجاج منه علـى الـمشركين الـمكذّبـين بـالبعث، وأمرهم بـالاعتبـار بـما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتـيـل بنـي إسرائيـل بعد مـماته فـي الدنـيا، فقال لهم تعالـى ذكره: أيها الـمكذّبون بـالبعث بعد الـمـمات، اعتبروا بإحيائي هذا القتـيـل بعد مـماته، فإنـي كما أحيـيته فـي الدنـيا فكذلك أحيـي الـموتـى بعد مـماتهم، فأبعثهم يوم البعث، فإنـما احتـجّ جل ذكره بذلك علـى مشركي العرب وهم قوم أُمّيون لا كتاب لهم، لأن الذين كانوا يعلـمون علـم ذلك من بنـي إسرائيـل كانوا بـين أظهرهم وفـيهم نزلت هذه الاَيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك لـيتعرّفوا علـم من قبلهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ. يعنـي جل ذكره: ويريكم اللّه أيها الكافرون الـمكذّبون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به من عند اللّه من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة علـى نبوّته لتعقلوا وتفهموا أنه مـحقّ صادق فتؤمنوا به وتتبعوه. ٧٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ.......} يعنـي بذلك كفـار بنـي إسرائيـل، وهم فـيـما ذكر بنو أخي الـمقتول، فقال لهم: ثم قست قلوبكم: أي جفت وغلظت وعست، كما قال الراجز: وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتـي يقال: قسا وعسا وعتا بـمعنى واحد، وذلك إذا جفـا وغلظ وصلب، يقال منه: قسا قلبه يقسو قَسْوا وقسوةً وقساوة وقَسَاءً. ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ من بعد أن أحيا الـمقتول لهم الذي ادّارءوا فـي قتله. فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل علـى ما جاءت الاَثار والأخبـار وفصل اللّه تعالـى ذكره بخبره بـين الـمـحقّ منهم والـمبطل. وكانت قساوة قلوبهم التـي وصفهم اللّه بها أنهم فـيـما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتـيـل الذي أحياه اللّه ، فأخبر بنـي إسرائيـل بأنهم كانوا قتلته بعد إخبـاره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانـية. كما: ٩٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لـما ضرب الـمقتول ببعضها يعنـي ببعض البقرة جلس حيا، فقـيـل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلونـي. ثم قُبض، فقال بنو أخيه حين قُبض: واللّه ما قتلناه. فكذّبوا بـالـحق بعد إذ رأوه، فقال اللّه : ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذِلكَ يعنـي بنـي أخي الشيخ، فَهِيَ كالـحجارَة أوْ أشَدّ قَسْوَةً. ٩٦٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يقول: من بعد ما أراهم اللّه من إحياء الـموتـى، وبعد ما أراهم من أمر القتـيـل ما أراهم، فهي كالـحجارة أو أشدّ قسوة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً. يعنـي بقوله: فَهِيَ قلوبكم. يقول: ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتـم الـحقّ فتبـينتـموه وعرفتـموه عن الـخضوع له والإذعان لواجب حق اللّه علـيكم، فقلوبكم كالـحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدّة، أو أشد صلابة يعنـي قلوبكم عن الإذعان لواجب حقّ اللّه علـيهم، والإقرار له بـاللازم من حقوقه لهم من الـحجارة. فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: فَهِيَ كالـحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وأو عند أهل العربـية إنـما تأتـي فـي الكلام لـمعنى الشك، واللّه تعالـى جل ذكره غير جائز فـي خبره الشك؟ قـيـل: إن ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من اللّه جل ذكره فـيـما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عبـاده الذين هم أصحابها الذين كذّبوا بـالـحقّ بعد ما رأوا العظيـم من آيات اللّه كالـحجارة قسوة أو أشدّ من الـحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم، وقد قال فـي ذلك جماعة من أهل العربـية أقوالاً: فقال بعضهم: إنـما أراد اللّه جل ثناؤه بقوله: فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي تأتـي ب(أو)، كقوله: وأرْسَلْنَاهُ إلـى مائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ وكقول اللّه جل ذكره: وَإِنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ فهو عالـم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، وهو عالـم أي ذلك أكل ولكنه أبهم علـى الـمخاطب، كما قال أبو الأسود الدؤلـي: أُحِبّ مُـحَمّدا حُبّـا شَدِيداوَعَبّـاسا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا فَإنْ يَكُ حُبّهُمْ رَشَدا أُصِبْهوَلَسْتُ بِـمُخْطِىءٍ إِنْ كَانَ غَيّا قالوا: ولا شك أن أبـا الأسود لـم يكن شاكّا فـي أن حب من سَمّى رشد، ولكنه أبهم علـى من خاطبه به. وقد ذكر عن أبـي الأسود أنه لـما قال هذه الأبـيات قـيـل له: شككت؟ فقال: كلا واللّه ثم انتزع بقول اللّه عز وجل وإنّا وإيّاكُمْ لَعَلـى هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ فقال: أو كان شاكّا من أخبر بهذا فـي الهادي من الضلال من الضلال؟ وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لـم يكن شاكّا أنه قد أطعم صاحبه الـحلو والـحامض كلـيهما، ولكنه أراد الـخبر عما أطعمه إياه أنه لـم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: فَهِيَ كالـحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً إنـما معناه: فقلوبهم لا تـخرج من أحد هذين الـمثلـين إما أن تكون مثلاً للـحجارة فـي القسوة، وإما أن تكون أشدّ منها قسوة. ومعنى ذلك علـى هذا التأويـل: فبعضها كالـحجارة قسوة، وبعضها أشدّ قسوة من الـحجارة. وقال بعضهم: (أو) في قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً بـمعنى: وأشدّ قسوة، كما قال تبـارك وتعالـى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثما أوْ كَفُورا بـمعنى: وكفورا. وكما قال جرير بن عطية: نالَ الـخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَراكَما أتـى رَبّهُ مُوسَى عَلـى قَدَرِ يعنـي نال الـخلافة وكانت له قدرا. وكما قال النابغة: قالَتْ ألا لَـيْتَـما هَذَا الـحَمَامُ لَناإلـى حَمامَتِنا أوْ نِصْفُهُ فَقَدِ يريد ونصفه. وقال آخرون: (أو) فـي هذا الـموضع بـمعنى (بل)، فكان تأويـله عندهم فهي كالـحجارة بل أشدّ قسوة، كما قال جل ثناؤه: وأرْسَلْناهُ إلـى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ بـمعنى: بل يزيدون. وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالـحجارة أو أشدّ قسوة عندكم. قال أبو جعفر: ولكل مـما قـيـل من هذه الأقوال التـي حكينا وجه ومخرج فـي كلام العرب، غير أن أعجب الأقوال إلـيّ فـي ذلك ما قلناه أوّلاً، ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلـى أنه بـمعنى: فهي أوجه فـي القسوة من أن تكون كالـحجارة أو أشدّ، علـى تأويـل أن منها كالـحجارة، ومنها أشدّ قسوة لأن (أو) وإن استعملت فـي أماكن من أماكن الواو حتـى يـلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنـيـيهما فـي بعض تلك الأماكن، فإن أصلها أن تأتـي بـمعنى أحد الاثنـين، فتوجيهها إلـى أصلها من وجد إلـى ذلك سبـيلاً أعجب إلـيّ من إخراجها عن أصلها ومعناها الـمعروف لها. قال: وأما الرفع في قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً فمن وجهين: أحدهما أن يكون عطفـا علـى معنى الكاف التـي في قوله: كالـحِجارَةِ لأن معناها الرفع، وذلك أن معناها معنى مثل: فهي مثل الـحجارة أو أشدّ قسوة من الـحجارة. والوجه الاَخر: أن يكون مرفوعا علـى معنى تكرير (هي) علـيه فـيكون تأويـل ذلك: فهي كالـحجارة أو هي أشدّ قسوة من الـحجارة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ. يعنـي بقوله جل ذكره: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وإن من الـحجارة حجارة يتفجر منها الـماء الذي تكون منه الأنهار، فـاستغنى بذكر الـماء عن ذكر الأنهار، وإنـما ذكّر فقال (منه) للفظ (ما). والتفجر: التفعل من فجر الـماء، وذلك إذا تنزّل خارجا من منبعه، وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك، ومنه قوله عمر بن لـجأ: ولَـمّا أنْ قُرِئْتُ إلـى جَرِيرٍأبَى ذُو بَطْنِهِ إلاّ انْفِجارَا يعنـي: إلا خروجا وسيلانا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشَقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ. يعنـي بقوله جل ثناؤه وَإنّ مِنَ الـحِجَارةِ لـحجارة تشقق. وتشققها: تصدّعها. وإنـما هي: لِـمَا يتشقق، ولكن التاء أدغمت فـي الشين فصارت شينا مشددةوقوله: فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ فـيكون عينا نابعة وأنهارا جارية. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإنّ مِنْها لَـمَا يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه . قال أبو جعفر: يعنـي بذلك جل ثناؤه: وإن من الـحجارة لـما يهبط: أي يتردّى من رأس الـجبل إلـى الأرض والسفح من خوف اللّه وخشيته. وقد دللنا علـى معنى الهبوط فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأدخـلت هذه اللامات اللواتـي فـي (ما) توكيدا للـخبر. وإنـما وصف اللّه تعالـى ذكره الـحجارة بـما وصفها به من أن منها الـمتفجر منه الأنهار، وأن منها الـمتشقق بـالـماء، وأن منها الهابط من خشية اللّه بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بنـي إسرائيـل مثلاً، معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بنـي إسرائيـل إذ كانوا بـالصفة التـي وصفهم اللّه بها من التكذيب برسله والـجحود لاَياته بعد الذي أراهم من الاَيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والـحجج مع ما أعطاهم تعالـى ذكره من صحة العقول ومنّ به علـيهم من سلامة النفوس التـي لـم يعطها الـحجر والـمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بـالأنهار ومنه ما يتشقق بـالـماء ومنه ما يهبط من خشية اللّه ، فأخبر تعالـى ذكره أن من الـحجارة ما هو ألـين من قلوبهم لـما يدعون إلـيه من الـحقّ. كما: ٩٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل ذكر من قال ذلك: ٩٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه جل ثناؤه: ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذلكَ فَهِيَ كالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشّقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه قال: كل حجر يتفجر منه الـماء أو يتشقق عن ماء، أو يتردّى من رأس جبل، فهو من خشية اللّه عزّ وجل، نزل بذلك القرآن. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٩٦٩ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَهِيَ كَالـحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً ثم عذر الـحجارة ولـم يعذر شقـيّ ابن آدم، فقال: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ أَلانْهَارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه . حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. ٩٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: ثم عذر اللّه الـحجارة فقال: وَإنّ مِنَ الـحِجَارَةِ لَـمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْهَا لَـمَا يَشَقّقُ فَـيَخْرُجُ مِنْهُ الـمَاءُ. ٩٧١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج أنه قال: فـيها كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردّى من جبل، فمن خشية اللّه نزل به القرآن. ثم اختلف أهل النـحو فـي معنى هبوط ما هبط من الـحجارة من خشية اللّه . فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية اللّه : تفـيؤ ظلاله. وقال آخرون: ذلك الـجبل الذي صار دكا إذ تـجلّـى له ربه. وقال بعضهم: ذلك كان منه، ويكون بأن اللّه جل ذكره أعطى بعض الـحجارة الـمعرفة والفهم، فعقل طاعة اللّه فأطاعه كالذي رُوي عن الـجذع الذي كان يستند إلـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب فلـما تـحوّل عنه حنّ. وكالذي رُوي عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنّ حَجَرا كانَ يُسَلّـمُ عَلـيّ فِـي الـجاهِلِـيّة إنّـي لأَعْرِفُهُ الاَنَ). وقال آخرون: بل قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه كقوله: جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ولا إرادة له، قالوا: وإنـما أريد بذلك أنه من عظم أمر اللّه يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية اللّه ، كما قال زيد الـخيـل: بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِـي حَجَرَاتِهِتَرَى أُلاكْمَ فِـيها سُجّدا للْـحَوَافِرِ وكما قال سويد بن أبـي كاهل يصف عدوّا له يريد أنه ذلـيـل: ساجِدَ الـمَنْـخَرِ لا يَرْفَعُهُخاشِعَ الطّرْفِ أصَمّ الـمُسْتَـمَعْ وكما قال جرير بن عطية: لَـمَا أتـى خَبَرُ الرّسُولِ تَضَعْضَعَتْسُورُ الـمَدِينَةِ والـجِبـالُ الـخُشّعُ وقال آخرون: معنى قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه أي يوجب الـخشية لغيره بدلالته علـى صانعه كما قـيـل: ناقة تاجرة: إذا كانت من نـجابتها وفراهتها تدعو الناس إلـى الرغبة فـيها، كما قال جرير بن عطية: وأعْوَرُ مِنْ نَبْهانَ أمّا نَهارُهُفأعْمَى وأمّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرٌ فجعل الصفة للـيـل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهانـي الذي يهجوه، من أجل أنه فـيهما كان ما وصفه به. وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات الـمعنى مـما تـحتـمله الآية من التأويـل، فإن تأويـل أهل التأويـل من علـماء سلف الأمة بخلافها فلذلك لـم نستـجز صرف تأويـل الآية إلـى معنى منها. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الـخشية، وأنها الرهبة والـمخافة، فكرهنا إعادة ذلك فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما اللّه بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ. يعنـي بقوله: وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ وما اللّه بغافل يا معشر الـمكذّبـين بآياته والـجاحدين نبوّة رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، والـمتقوّلـين علـيه الأبـاطيـل من بنـي إسرائيـل وأحبـار الـيهود، عما تعملون من أعمالكم الـخبـيثة وأفعالكم الرديئة ولكنه يحصيها علـيكم، فـيجازيكم بها فـي الاَخرة أو يعاقبكم بها فـي الدنـيا. وأصل الغفلة عن الشيء: تركه علـى وجه السهو عنه والنسيان له، فأخبرهم تعالـى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الـخبـيثة ولا ساه عنها، بل هو لها مـحص، ولها حافظ. ٧٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ .....} يعنـي بقوله جل ثناؤه: أفَتَطْمَعُونَ يا أصحاب مـحمد، أي أفترجون يا معشر الـمؤمنـين بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم والـمصدّقـين ما جاءكم به من عند اللّه أن يؤمن لكم يهود بنـي إسرائيـل؟ ويعنـي بقوله: أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يصدقوكم بـما جاءكم به نبـيكم صلى اللّه عليه وسلم مـحمد من عند ربكم. كما: ٩٧٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ يعنـي أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أن يؤمنوا لكم، يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم الـيهود؟. ٩٧٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الآية، قال: هم الـيهود. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. قال أبو جعفر: أما الفريق فجمع كالطائفة لا واحد له من لفظه، وهو فعيـل من التفرّق سمي به الـجماع كما سميت الـجماعة بـالـحزب من التـحزّب وما أشبه ذلك، ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة: أَجَدّوا فلَـمّا خِفْتُ أنْ يَتَفَرّقُوافَرِيقَـيْنِ مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوّبُ يعنـي بقوله: مِنْهُمْ من بنـي إسرائيـل. وإنـما جعل اللّه الذين كانوا علـى عهد موسى ومن بعدهم من بنـي إسرائيـل من الـيهود الذين قال اللّه لأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم لأنهم كانوا آبـاؤهم وأسلافهم، فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل الـيوم الرجل وقد مضى علـى منهاج الذاكر وطريقته وكان من قومه وعشيرته، فـ يقول: كان منا فلان يعنـي أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه أو من قومه وعشيرته فكذلك قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّه ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ. اختلف أهل التأويـل فـي الذيننَعنَى اللّه بقوله: وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّه ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ. فقال بعضهم بـما: ٩٧٤ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فـالذين يحرّفونه والذين يكتـمونه: هم العلـماء منهم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه. ٩٧٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أَفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه ثُمّ يُحَرّفونَهُ منْ بَعْدِ ما عَقَلُوه قال: هي التوراة حرّفوها. ٩٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه ثُمّ يُحَرّفُونَهُ قال: التوراة التـي أنزلها علـيهم يحرّفونها، يجعلون الـحلال فـيها حراما والـحرام فـيها حلالاً، والـحقّ فـيها بـاطلاً والبـاطل فـيها حقا، إذا جاءهم الـمـحقّ برشوة أخرجوا له كتاب اللّه ، وإذا جاءهم الـمبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فـيه مـحقّ، وإن جاء أحد يسألهم شيئا لـيس فـيه حقّ ولا رشوة ولا شيء أمروه بـالـحقّ، فقال لهم: أتأمُرُونَ النّاسَ بـالبرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وأنْتُـمْ تَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا تَعْقِلُونَ. وقال آخرون فـي ذلك بـما: ٩٧٧ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّه ثُمّ يُحَرّفُونَه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوّة، ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون. ٩٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق في قوله: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّه الآية، قال: لـيس قوله: يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّه يسمعون التوراة، كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم، فأخذتهم الصاعقة فـيها. ٩٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: بلغنـي عن بعض أهل العلـم أنهم قالوا لـموسى: يا موسى قد حِيـلَ بـيننا وبـين رؤية اللّه عز وجل، فأسمعنا كلامه حين يكلـمك فطلب ذلك موسى إلـى ربه، فقال: نعم، فمرهم فلـيتطهروا ولـيطهروا ثـيابهم ويصوموا ففعلوا، ثم خرج بهم حتـى أتـى الطور، فلـما غشيهم الغمام أمرهم موسى علـيه السلام، فوقعوا سجودا، وكلـمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتـى عقلوا ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلـى بنـي إسرائيـل، فلـما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبنـي إسرائيـل: إن اللّه قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذي ذكرهم اللّه : إنـما قال كذا وكذا خلافـا لـما قال اللّه عز وجل لهم. فهم الذين عنى اللّه لرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وأولـى التأويـلـين اللذين ذكرت بـالآية وأشبههما بـما دل علـيه ظاهر التلاوة، ما قاله الربـيع بن أنس والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلـم، من أن اللّه تعالـى ذكره إنـما عنى بذلك من سمع كلامه من بنـي إسرائيـل سماع موسى إياه منه ثم حرّف ذلك وبدّل من بعد سماعه وعلـمه به وفهمه إياه. وذلك أن اللّه جل ثناؤه إنـما أخبر أن التـحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام اللّه عزّ وجلّ استعظاما من اللّه لـما كانوا يأتون من البهتان بعد توكيد الـحجة علـيهم والبرهان، وإيذانا منه تعالـى ذكره عبـاده الـمؤمنـين وقطع أطماعهم من إيـمان بقايا نسلهم بـما أتاهم به مـحمد من الـحقّ والنور والهدى، فقال لهم: كيف تطمعون فـي تصديق هؤلاء الـيهود إياكم وإنـما تـخبرونهم بـالذي تـخبرونهم من الإنبـاء عن اللّه عزّ وجلّ عن غيب لـم يشاهدوه ولـم يعاينوه؟ وقد كان بعضهم يسمع من اللّه كلامه، وأمره ونهيه، ثم يبدّله ويحرّفه ويجحده، فهؤلاء الذين بـين أظهركم من بقايا نسلهم أحرى أن يجحدوا ما أتـيتـموهم به من الـحقّ وهم لا يسمعونه من اللّه ، وإنـما يسمعونه منكم وأقرب إلـى أن يحرّفوا ما فـي كتبهم من صفة نبـيكم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته ويبدّلوه وهم به عالـمون فـيجحدوه ويكذّبوا من أوائلهم الذين بـاشروا كلام اللّه من اللّه جل ثناؤه ثم حرّفوه من بعد ما عقلوه وعلـموه متعمدين التـحريف. ولو كان تأويـل الآية علـى ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه يسمعون التوراة، لـم يكن لذكر قوله: يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه معنى مفهوم لأن ذلك قد سمعه الـمـحرّف منهم وغير الـمـحرّف. فخصوص الـمـحرّف منهم بأنه كان يسمع كلام اللّه إن كان التأويـل علـى ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم مـمن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له. فإن ظن ظانّ إنـما صلـح أن يقال ذلك لقوله: يُحَرّفُونَهُ فقد أغفل وجه الصواب فـي ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقـيـل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرّفون كلام اللّه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من الـيهود كانوا أعطوا من مبـاشرتهم سماع كلام اللّه تعالـى ما لـم يعطه أحد غير الأنبـياء والرسل، ثم بدلوا وحرّفوا ما سمعوا من ذلك، فلذلك وصفهم بـما وصفهم به للـخصوص الذي كان خصّ به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم فـي كتابه تعالـى ذكره. ويعنـي بقوله: ثُمّ يُحَرّفُونَهُ ثم يبدلون معناه، وتأويـله: ويغيرونه. وأصله من انـحراف الشيء عن جهته، وهو ميـله عنها إلـى غيرها. فكذلك قوله: يُحَرّفُونَهُ: أي يـميـلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه إلـى غيره. فأخبر اللّه جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك علـى علـم منهم بتأويـل ما حرّفوا، وأنه بخلاف ما حرّفوه إلـيه، فقال: يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ يعنـي من بعد ما عقلوا تأويـله وَهُمْ يَعْلَـمُونَ أي يعلـمون أنهم فـي تـحريفهم ما حرّفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبـار من اللّه جل ثناؤه عن إقدامهم علـى البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى اللّه عليه وسلم، وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة للّه ولرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بغيا وحسدا علـى مثل الذي كان علـيه أوائلهم من ذلك فـي عصر موسى علـيه الصلاة والسلام. ٧٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَاْ آمَنّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُوَاْ أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ لِيُحَآجّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أما قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا فإنه خبر من اللّه جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من إيـمانهم من يهود بنـي إسرائيـل الذين كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلـمون، وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بـاللّه ورسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا آمنا. يعنـي بذلك أنهم إذا لقوا الذين صدّقوا بـاللّه وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به من عند اللّه قالوا آمنا أي صدقنا بـمـحمد وبـما صدقتـم به وأقررنا بذلك. أخبر اللّه عز وجل أنهم تـخـلقوا بأخلاق الـمنافقـين وسلكوا منهاجهم. كما: ٩٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس قوله: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـما فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ وذلك أن نفرا من الـيهود كانوا إذا لقوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلـى بعض قالوا: أتـحدثونهم بـما فتـح اللّه علـيكم. ٩٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا يعنـي الـمنافقـين من الـيهود كانوا إذا لقوا أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا آمنا. وقد رُوي عن ابن عبـاس فـي تأويـل ذلك قول آخر، وهو ما: ٩٨٢ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي بصاحبكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولكنه إلـيكم خاصة. ٩٨٣ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا الآية، قال: هؤلاء ناس من الـيهود آمنوا ثم نافقوا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـما فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ. يعنـي بقوله: وَإذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ أي إذا خلا بعض هؤلاء الـيهود الذين وصف اللّه صفتهم إلـى بعض منهم فصاروا فـي خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الـموضع الذي لـيس فـيه غيرهم، قالوا يعنـي قال بعضهم لبعض: أتـحدثونهم بـما فتـح اللّه علـيكم؟. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ. فقال بعضهم بـما: ٩٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ يعنـي بـما أمركم اللّه به، فـيقول الاَخرون: إنـما نستهزىء بهم ونضحك. وقال آخرون بـما: ٩٨٥ـ حدثنا ابن حميد، عن ابن عبـاس : وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا أي بصاحبكم رسول اللّه ، ولكنه إلـيكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلـى بعض قالوا: لا تـحدّثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتـم تستفتـحون به علـيهم، فكان منهم. فأنزل اللّه : وإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا، وَإذا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أَتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أي تقرّون بأنه نبـي، وقد علـمتـم أنه قد أخذ له الـميثاق علـيكم بـاتبـاعه، وهو يخبرهم أنه النبـي صلى اللّه عليه وسلم الذي كنا ننتظر ونـجده فـي كتابنا؟ اجحدوه ولا تقرّوا لهم به. يقول اللّه : أو لا يعلـمون أن اللّه يعلـم ما يسرّون وما يعلنون. ٩٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: أتُـحَدّثونهُم بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ أي بـما أنزل اللّه علـيكم فـي كتابكم من نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ٩٨٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ أي بـما منّ اللّه علـيكم فـي كتابكم من نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فإنكم إذا فعلتـم ذلك احتـجوا به علـيكم أفَلاَ تَعْقِلُونَ؟. ٩٨٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ لـيحتـجوا به علـيكم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: قال قتادة: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ يعنـي بـما أنزل اللّه علـيكم من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته. وقال آخرون فـي ذلك بـما: ٩٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ قال: قول يهود بنـي قريظة حين سبهم النبـي صلى اللّه عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والـخنازير، قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إلـيهم علـيّا فآذوا مـحمدا، فقال: (يا إخوة القردة والـخنازير). حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله إلا أنه قال: هذا حين أرسل إلـيهم علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه، وآذوا النبـي صلى اللّه عليه وسلم فقال: (اخْسَئُوا يا إِخْوَةَ القِرَدَة والـخَنَازِيرِ). ٩٩٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنـي الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي القاسم بن أبـي بزّة، عن مـجاهد في قوله: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ قال: قام النبـي صلى اللّه عليه وسلم يوم قريظة تـحت حصونهم، فقال: (يا إخْوَانَ القِرَدَةِ ويا إخْوَانَ الـخَنَازِيرِ وَيا عَبَدَةَ الطّاغُوتِ) فقالوا: من أخبر هذا مـحمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم أتُـحَدّثُونهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ بـما حكم اللّه للفتـح لـيكون لهم حجة علـيكم قال ابن جريج، عن مـجاهد: هذا حين أرسل إلـيهم علـيّا فآذوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم. وقال آخرون بـما: ٩٩١ـ حدثنـي موسى: قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: قالوا أتُـحَدّثونهم بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ من العذاب لـيحاجوكم به عند ربكم؟ هؤلاء ناس من الـيهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدّثون الـمؤمنـين من العرب بـما عذّبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتـحدثونهم بـما فتـح اللّه علـيكم من العذاب لـيقولوا نـحن أحبّ إلـى اللّه منكم، وأكرم علـى اللّه منكم؟ وقال آخرون بـما: ٩٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلـى بَعْضٍ قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ لِـيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ ربّكُمْ قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلـمون فـي التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلـى قال: وهم يهود، فـيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إلـيهم: ما لكم تـخبرونهم بـالذي أنزل اللّه علـيكم فـيحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يَدْخُـلَنّ عَلَـيْنَا قَصبَة الـمَدِينَةِ إلاّ مُؤْمِنٌ) فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفـاق: اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتـم قال: فكانوا يأتون الـمدينة بـالبكر ويرجعون إلـيهم بعد العصر. وقرأ قول اللّه : وقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وجْه النّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُون. وكانوا يقولون إذا دخـلوا الـمدينة: نـحن مسلـمون، لـيعلـموا خبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمره وإذا رجعوا، رجعوا إلـى الكفر. فلـما أخبر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بهم، قطع ذلك عنهم فلـم يكونوا يدخـلون. وكان الـمؤمنون الذين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون، فـيقولون لهم: ألـيس قد قال اللّه لكم كذا وكذا؟ فـيقولون: بلـى. فإذا رجعوا إلـى قومهم قالُوا أتُـحَدّثُونهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ الآية. وأصل الفتـح فـي كلام العرب: النصر والقضاء والـحكم، يقال منه: اللّه م افتـح بـينـي وبـين فلان: أي احكم بـينـي وبـينه، ومنه قول الشاعر: ألا أبْلِغْ بنِـي عُصَمٍ رَسُولاًبِأنـي عَنْ فُتاحَتِكُمْ غنِـيّ قال: ويقال للقاضي: الفتاح، ومنه قول اللّه عز وجل: ربّنا افْتَـحْ بَـيْنَنَا وَبـينَ قَوْمِنَا بـالـحَقّ وأنْت خَيْرُ الفـاتِـحِينَ أي احكم بـيننا وبـينهم. فإذا كان معنى الفتـح ما وصفنا، تبـين أن معنى قوله: قالُوا أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـح اللّه عَلَـيْكُمْ لِـيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ إنـما هو أتـحدثونهم بـما حكم اللّه به علـيكم وقضاه فـيكم، ومن حكمه جل ثناؤه علـيهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيـمان بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به فـي التوراة، ومن قضائه فـيهم أن جعل منهم القردة والـخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فـيهم، وكل ذلك كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين به حجة علـى الـمكذّبـين من الـيهود الـمقرّين بحكم التوراة وغير ذلك. فإن كان كذلك فـالذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ من بعث مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إلـى خـلقه لأن اللّه جل ثناؤه إنـما قصّ فـي أول هذه الآية الـخبر عن قولهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـالذي هو أولـى بآخرها أن يكون نظير الـخبر عما ابتدىء به أولها. وإذا كان ذلك كذلك، فـالواجب أن يكون تلاومهم كان فـيـما بـينهم فـيـما كانوا أظهروه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به، وكان قـيـلهم ذلك من أجل أنهم يجدون ذلك فـي كتبهم وكانوا يخبرون أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فكان تلاومهم فـيـما بـينهم إذا خـلوا علـى ما كانوا يخبرونهم بـما هو حجة للـمسلـمين علـيهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي كتبهم ويكفرون به، وكان فتـح اللّه الذي فتـحه للـمسلـمين علـى الـيهود وحكمه علـيهم لهم فـي كتابهم أن يؤمنوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث، فلـما بعث كفروا به مع علـمهم بنبوتّه. وقوله: أفَلا تَعْقِلُونَ خبر من اللّه تعالـى ذكره عن الـيهود اللائمين إخوانهم علـى ما أخبروا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـما فتـح اللّه لهم علـيهم أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون أن إخبـاركم أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم بـما فـي كتبكم أنه نبـيّ مبعوث حجة لهم علـيكم عند ربكم يحتـجون بها علـيكم؟ أي فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتـم، ولا تـخبروهم بـمثل ما أخبرتـموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّه يَعْلَـمُ مَا يُسرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. ٧٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } يعنـي بقوله جل ثناؤه: أو لا يَعْلَـمُونَ أَنّ اللّه يَعْلَـمُ مَا يُسِرّونَ ومَا يُعْلِنُونَ أو لا يعلـم هؤلاء اللائمون من الـيهود إخوانهم من أهل ملتهم، علـى كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وعلـى إخبـارهم الـمؤمنـين بـما فـي كتبهم من نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومبعثه، القائلون لهم: أتُـحَدّثُونَهُمْ بِـمَا فَتَـحَ اللّه عَلَـيْكُمْ لـيُحاجوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أن اللّه عالـم بـما يسرّون فـيخفونه عن الـمؤمنـين فـي خلائهم من كفرهم وتلاومهم بـينهم علـى إظهارهم ما أظهروا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين به من الإقرار بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وعلـى قـيـلهم لهم آمنا، ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا الـمؤمنـين بـما فتـح اللّه للـمؤمنـين علـيهم، وقضى لهم علـيهم فـي كتبهم من حقـيقة نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته ومبعثه، وما يعلنون فـيظهرونه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ولأصحابه الـمؤمنـين به إذا لقوهم من قـيـلهم لهم: آمنا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به نفـاقا وخداعا للّه ولرسوله وللـمؤمنـين. كما: ٩٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّه يَعْلَـمُ ما يُسِرّونَ من كفرهم وتكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلـى بعض، وما يُعْلِنُونَ إذا لقوا أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا آمنا لـيرضوهم بذلك. ٩٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: أوَ لا يَعْلَـمُونَ أنّ اللّه يَعْلَـمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يعنـي ما أسرّوا من كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم. وَما يُعْلِنُونَ يعنـي ما أعلنوا حين قالوا للـمؤمنـين آمنا. ٧٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ } يعنـي بقوله جل ثناؤه: ومِنْهُمْ أُمّيون ومن هؤلاء الـيهود الذين قصّ اللّه قصصهم فـي هذه الاَيات، وأيأس أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من إيـمانهم، فقال لهم: أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وهم إذا لقوكم قالوا آمنا. كما: ٩٩٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ يعنـي من الـيهود. ٩٩٦ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٩٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: أناس من يهود. قال أبو جعفر: يعنـي بـالأميـين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون، ومنه قول النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَـحْسُبُ) يقال منه رجل أميّ بـيّن الأمية. كما: ٩٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن منصور عن إبراهيـم: وَمِنْهُمْ أُمّيُونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتَابَ قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. ٩٩٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: أميون لا يقرءون الكتاب من الـيهود. ورُوي عن ابن عبـاس قول خلاف هذا القول، وهو ما: ١٠٠٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ قال: الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله اللّه ، ولا كتابـا أنزله اللّه ، فكتبوا كتابـا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميـين لـجحودهم كتب اللّه ورسله. وهذا التأويـل تأويـل علـى خلاف ما يعرف من كلام العرب الـمستفـيض بـينهم، وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب. قال أبو جعفر: وأرى أنه قـيـل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلـى أمه، لأن الكتاب كان فـي الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلـى أمه فـي جهله بـالكتابة دون أبـيه كما ذكرنا عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم من قوله: (إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَـحْسُبُ) وكما قال: هُوَ الّذِي بَعَثَ فِـي أُلامّيَـينَ رَسُولاً مِنْهُمْ فإذا كان معنى الأمي فـي كلام العرب ما وصفنا، فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما قاله النـخعي من أن معنى قوله: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ: ومنهم من لا يحسن أن يكتب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِـيّ. يعنـي بقوله: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتَابَ لا يعلـمون ما فـي الكتاب الذي أنزله اللّه ولا يدرون ما أودعه اللّه من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم، كالذي: ١٠٠١ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِـيّ إنـما هم أمثال البهائم لا يعلـمون شيئا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتاب يقول: لا يعلـمون الكتاب ولا يدرون ما فـيه. ١٠٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لا يَدْرُونَ ما فـيه. ١٠٠٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ قال: لا يدرون بـما فـيه. ١٠٠٤ـ حدثنا بشر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لا يعلـمون شيئا، لا يقرءون التوراة لـيست تستظهر إنـما تقرأ هكذا، فإذا لـم يكتب أحدهم لـم يستطع أن يقرأ. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله اللّه . قال أبو جعفر: وإنـما عنى بـالكتاب: التوراة، ولذلك أدخـلت فـيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه. ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما فـي الكتاب الذي عرفتـموه الذي هو عندهم وهم ينتـحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام اللّه وفرائضه وما فـيه من حدوده التـي بـينها فـيه إِلاّ أمانِـيّ فقال بعضهم بـما: ١٠٠٥ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس إلا أمانـي يقول إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبـا حدثنـي مـحمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد لا يعلـمون الكتاب إلا أمانـي إلا حدثنـي الـمثنـي قال حدثنا أبو حذيفز قال حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد مثله وقال آخرون بـما حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة الأمانـي يقول يتـمنون علـى الدر البـاطل وما لـيس لهم حدثنـي الـمثنـي قال حدثنا أبو صالـح عن علـي بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله لا يعلـمون الكتاب إلا أمانـي يقول إلا أحاديث. ١٠٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ قال: أناس من يهود لـم يكونوا يعلـمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلـمون بـالظنّ بغير ما فـي كتاب اللّه ، ويقولون هو من الكتاب، أمانـيّ يتـمنونها. ١٠٠٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: إلاّ أمانِـيّ يتـمنون علـى اللّه ما لـيس لهم. ١٠٠٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: إلاّ أمانِـيّ قال: تـمنوا فقالوا: نـحن من أهل الكتاب. ولـيسوا منهم. وأولـى ما روينا فـي تأويـل قوله: إلاّ أمانِـيّ بـالـحقّ وأشبهه بـالصواب، الذي قاله ابن عبـاس ، الذي رواه عنه الضحاك ، وقول مـجاهد: إن الأميـين الذين وصفهم اللّه بـما وصفهم به فـي هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله اللّه علـى موسى شيئا، ولكنهم يتـخرّصون الكذب ويتقوّلون الأبـاطيـل كذبـا وزورا. والتـمنـي فـي هذا الـموضع، هو تـخـلق الكذب وتـخرّصه وافتعاله، يقال منه: تـمنـيت كذا: إذا افتعلته وتـخرّصته. ومنه الـخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفـان رضي اللّه عنه: (ما تغنّـيت ولا تـمنـيت). يعنـي بقوله ما تـمنـيت: ما تـخرّصت البـاطل ولا اختلقت الكذب والإفك. والذي يدلّ علـى صحة ما قلنا فـي ذلك وأنه أولـى بتأويـل قوله: إلاّ أمانِـيّ من غيره من الأقوال، قول اللّه جل ثناؤه: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتـمنون ما يتـمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقـينا. ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لـم يكونوا ظانـين، وكذلك لو كان معناه: يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علـمه، ولا يستـحقّ الذي يتلو كتابـا قرأه وإن لـم يتدبره بتركه التدبـير أن يقال: هو ظانّ لـما يتلو إلا أن يكون شاكّا فـي نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم بـاطل. ولـم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة علـى عصر نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الـيهود فـيـما بلغنا شاكين فـي التوراة أنها من عند اللّه . وكذلك الـمتـمنـي الذي هو فـي معنى الـمتشهي غير جائز أن يقال: هو ظانّ فـي تـمنـيه، لأن التـمنـي من الـمتـمنـي إذا تـمنى ما قد وجد عينه، فغير جائز أن يقال: هو شاك فـيـما هو به عالـم لأن العلـم والشك معنـيان ينفـي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتـماعهما فـي حيز واحد، والـمتـمنـي فـي حال تـمنـيه موجود غير جائز أن يقال: هو يظنّ تـمنـيه. وإنـما قـيـل: لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ والأمانـي من غير نوع الكتاب، كما قال ربنا جل ثناؤه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ والظنّ من العلـم بـمعزل، وكما قال: وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُـجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ أَلاعْلَـى. وكما قال الشاعر: لَـيْسَ بَـيْنِـي وَبَـينَ قَـيْسٍ عِتابُغيرَ طَعْنِ الكُلَـى وَضَرْبِ الرّقابِ وكما قال نابغة بنـي ذبـيان: حَلَفْتُ يَـمِينا غيرَ ذِي مَثْنَوِيّةٍوَلا عِلْـمَ إلاّ حُسْنَ ظَنّ بِغائِبِ فـي نظائر لـما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب. ويخرج ب(إلاّ) ما بعدها من معنى ما قبلها، ومن صفته، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الاَخر ومن غير نوعه، ويسمي ذلك بعض أهل العربـية استثناء منقطعا لانقطاع الكلام الذي يأتـي بعد إلا عن معنى ما قبلها. وإنـما يكون ذلك كذلك فـي كل موضع حسن أن يوضع فـيه مكان (إلا) (لكن)، فـيعلـم حينئذ انقطاع معنى الثانـي عن معنى الأول، ألا ترى أنك إذا قلت: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لاَ يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ ثم أردت وضع (لكن) مكان (إلا) وحذف (إلا)، وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفـيه (إلا)؟ وذلك إذا قلت: وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ لكن أمانـي، يعنـي لكنهم يتـمنون، وكذلك قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ لكن اتبـاع الظنّ، بـمعنى: لكنهم يتبعون الظنّ، وكذلك جميع هذا النوع من الكلام علـى ما وصفنا. وقد ذكر عن بعض القرّاء أنه قرأ: (إلاّ أمانِـيَ) مخففة، ومن خفف ذلك وجهه إلـى نـحو جمعهم الـمفتاح مفـاتـح، والقرقور قراقر، وأن ياء الـجمع لـما حذفت خففت الـياء الأصلـية، أعنـي من الأمانـي، كما جمعوا الأثفـية أثافـي مخففة، كما قال زهير بن أبـي سلـمى: أثَافِـيَ سُفْعا فِـي مُعَرّسِ مِرَجَلٍونُؤْيا كجِذْمِ الـحَوْضِ لَـمْ يَتَثَلّـمِ وأما من ثقل: أمانِـيّ فشدّد ياءها فإنه وجه ذلك إلـى نـحو جمعهم الـمفتاح مفـاتـيح، والقرقور قراقـير، والزنبور زنابـير، فـاجتـمعت ياء فعالـيـل ولامها وهما جميعا ياءان، فأدغمت إحداهما فـي الأخرى فصارتا ياء واحدة مشددة. فأما القراءة التـي لا يجوز غيرها عندي لقارىء فـي ذلك فتشديد ياء الأمانـيّ، لإجماع القرّاء علـى أنها القراءة التـي مضى علـى القراءة بها السلف مستفـيض، ذلك بـينهم غير مدفوعة صحته، وشذوذ القارىء بتـخفـيفها عما علـيه الـحجة مـجمعة فـي ذلك وكفـى خطأ علـى قارىء ذلك بتـخفـيفها إجماعا علـى تـخطئته. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ. يعنـي بقوله جل ثناءه: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّون (وما هم) كما قال جل ثناؤه: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَـحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعنـي بذلك: ما نـحن إلا بشر مثلكم. ومعنى قوله: إلاّ يَظُنّونَ ألا يشكون ولا يعلـمون حقـيقته وصحته، والظنّ فـي هذا الـموضع الشك، فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلـم كتاب اللّه ولا يدري ما فـيه إلا تـخرّصا وتقوّلاً علـى اللّه البـاطل ظنا منه أنه مـحقّ فـي تـخرّصه وتقوّله البـاطل. وإنـما وصفهم اللّه تعالـى ذكره بأنهم فـي تـخرصهم علـى ظنّ أنهم مـحقون وهم مبطلون، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبـارهم أمورا حسبوها من كتاب اللّه ، ولـم تكن من كتاب اللّه ، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بـالذي يوقنون به أنه من عند اللّه مـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ويتبعون ما هم فـيه شاكون، وفـي حقـيقته مرتابون مـما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبـارهم عنادا منهم للّه ولرسوله، ومخالفة منهم لأمر اللّه واغترارا منهم بإمهال اللّه إياهم. وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ قال فـيه الـمتأوّلون من السلف. ١٠٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ: إلا يكذبون. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. ١٠١٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : لا يَعْلَـمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِـيّ وإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ أي لا يعلـمون ولا يدرون ما فـيه، وهم يجحدون نبوّتك بـالظنّ. ١٠١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ قال: يظنون الظنون بغير الـحقّ. ١٠١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: يظنون الظنون بغير الـحقّ. ١٠١٣ـ حدثت عن عمارة، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٧٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ .......} اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فوَيْـلٌ. فقال بعضهم بـما: ١٠١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس فَوَيْـلٌ لَهُمْ يقول: فـالعذاب علـيهم. وقال آخرون بـما: ١٠١٥ـ حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن زياد بن فـياض، قال: سمعت أبـا عياض يقول: الويـل: ما يسيـل من صديد فـي أصل جهنـم. حدثنا بشر بن أبـان الـحطاب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن زياد بن فـياض، عن أبـي عياض في قوله: فَوَيْـلٌ قال: صهريج فـي أصل جهنـم يسيـل فـيه صديدهم. حدثنا علـيّ بن سهل الرملـي، قال: حدثنا زيد بن أبـي الزرقاء، قال: حدثنا سفـيان بن زياد بن فـياض، عن أبـي عياض، قال: الويـل واد من صديد فـي جهنـم. ١٠١٦ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن شقـيق قال: وَيْـلٌ: ما يسيـل من صديد فـي أصل جهنـم. وقال آخرون بـما: ١٠١٧ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام بن صالـح التستري، قال: حدثنا علـيّ بن جرير، عن حماد بن سلـمة بن عبد الـحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفـان، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: قال: (الوَيْـلُ جَبَلٌ فِـي النّارِ). ١٠١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي عمرو بن الـحارث، عن دراج، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (وَيْـلٌ وَادٍ فـي جَهَنّـمَ يَهْوِي فـيهِ الكافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفـا قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ إلـى قَعْرِهِ). قال أبو جعفر: فمعنى الآية علـى ما روي عمن ذكرت قوله فـي تأويـل وَيْـلٌ فـالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنـم فـي أسفل الـجحيـم للـيهود الذين يكتبون البـاطل بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالى: لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً. يعنـي بذلك: الذين حرّفوا كتاب اللّه من يهود بنـي إسرائيـل وكتبوا كتابـا علـى ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفـا لـما أنزل اللّه علـى نبـيه موسى صلى اللّه عليه وسلم ثم بـاعوه من قوم لا علـم لهم بها ولا بـما فـي التوراة جهال بـما فـي كتب اللّه لطلب عرض من الدنـيا خسيس فقال اللّه لهم فويـل لهم مـما كتبت أيديهم وويـل لهم مـما يكسبون. كما حدثنـي موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسبـاط عن السدي فويـل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللّه لـيشتروا به ثمنا قلـيلاً قال كان ناس من الـيهود كتبوا كتابـا من عندهم يبـيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند اللّه لـيأخذوا به ثمنا قلـيلاً. ١٠١٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله اللّه ، ولا كتابـا أنزله اللّه فكتبوا كتابـا بأيديهم ثم قالو لقوم سفلة جهال هذا من عند اللّه لـيشتروا به ثمنا قلـيلاً قال عرضا من عروض الدنـيا. الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية قوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه لِـيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: عمدوا إلـى ما أنزل اللّه فـي كتابهم من نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فحرّفوه عن مواضعه يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنـيا، فقال: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ. ١٠٢٠ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إبراهيـم بن عبد السلام، قال: حدثنا علـي بن جرير، عن حماد بن سلـمة، عن عبد الـحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفـان رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ: (الويـل: جبل فـي النار). وهو الذي أنزل فـي الـيهود لأنهم حرّفوا التوراة، وزادوا فـيها ما يحبون، ومـحوا منها ما يكرهون، ومـحوا اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من التوراة، فلذلك غضب اللّه علـيهم فرفع بعض التوراة فقال: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ. ١٠٢١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب، عن مـحمد بن عجلان، عن زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، قال: وَيْـلٌ: واد فـي جهنـم لو سيرت فـيه الـجبـال لانـماعت من شدّة حرّه. قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكُتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ؟ وهل تكون الكتابة بغير الـيد حتـى احتاج الـمخاطب بهذه الـمخاطبة إلـى أن يخبروا عن هؤلاء القوم الذين قصّ اللّه قصتهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟ قـيـل له: إن الكتاب من بنـي آدم وإن كان منهم بـالـيد، فإنه قد يضاف الكتاب إلـى غير كاتبه وغير الـمتولـي رسم خطه، فـيقال: كتب فلان إلـى فلان بكذا، وإن كان الـمتولـي كتابته بـيده غير الـمضاف إلـيه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر الـمضاف إلـيه الكتاب. فأعلـم ربنا بقوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ عبـاده الـمؤمنـين أن أحبـار الـيهود تلـي كتابة الكذب والفرية علـى اللّه بأيديهم علـى علـم منهم وعمد للكذب علـى اللّه ثم تنـحله إلـى أنه من عند اللّه وفـي كتاب اللّه تكذّبـا علـى اللّه وافتراء علـيه. فنفـى جل ثناؤه بقوله: يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ أن يكون ولـي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علـمائهم وأحبـارهم. وذلك نظير قول القائل: بـاعنـي فلان عينه كذا وكذا، فـاشترى فلان نفسه كذا، يراد بإدخال النفس والعين فـي ذلك نفـي اللبس عن سامعه أن يكون الـمتولـي بـيع ذلك وشراءه غير الـموصوف به بأمره، ويوجب حقـيقة الفعل للـمخبر عنه فكذلك قوله: فَوَيْـلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي فـالعذاب فـي الوادي السائل من صديد أهل النار فـي أسفل جهنـم لهم، يعنـي للذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بنـي إسرائيـل مـحرّفـا، ثم قالوا: هذا من عند اللّه ابتغاء عرض من الدنـيا به قلـيـل مـمن يبتاعه منهموقوله: مِـمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِم يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك وَوَيْـلٌ لَهُمْ أيضا مِـمّا يَكْسِبُونَ يعنـي مـما يعملون من الـخطايا، ويجترحون من الاَثام، ويكسبون من الـحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم، بخلاف ما أنزل اللّه ، ثم يأكلون ثمنه وقد بـاعوه مـمن بـاعوه منهم علـى أنه من كتاب اللّه . كما: ١٠٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ يعنـي من الـخطيئة. ١٠٢٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : فَوَيْـلٌ لَهُمْ يقول: فـالعذاب علـيهم قال: يقول من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وَوَيْـلٌ لَهُمْ مِـمّا يَكْسِبُونَ يقول: مـما يأكلون به من السفلة وغيرهم. قال أبو جعفر: وأصل الكسب: العمل، فكل عامل عملاً بـمبـاشرة منه لـما عمل ومعاناة بـاحتراف، فهو كاسب لـما عمل، كما قال لبـيد بن ربـيعة: لِـمُعَفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شَلْوَهُغُبْسٌ كَواسِبُ لا يُـمَنّ طَعامُها ٨٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَةً ........} يعنـي بقوله: وقَالُوا الـيهود، يقول: وقالت الـيهود: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ، يعنـي لن تلاقـي أجسامنا النار، ولن ندخـلها إلا أياما معدودة. وإنـما قـيـل معدودة وإن لـم يكن مبـينا عددها فـي التنزيـل لأن اللّه جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام التـي يوقتونها لـمكثهم فـي النار، فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام وسماها معدودة لـما وصفنا. ثم اختلف أهل التأويـل فـي مبلغ الأيام الـمعدودة التـي عينها الـيهود القائلون ما أخبر اللّه عنهم من ذلك. فقال بعضهم بـما: ١٠٢٤ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً قال ذلك أعداء اللّه الـيهود، قالوا: لن يدخـلنا اللّه النار إلا تَـحِلّةَ القسم الأيام التـي أصبنا فـيها العجل أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب والقسم. ١٠٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً قالوا: أياما معدودة بـما أصبنا فـي العجل. ١٠٢٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: قالت الـيهود: إن اللّه يدخـلنا النار فنـمكث فـيها أربعين لـيـلة، حتـى إذا أكلت النار خطايانا واسْتَنْقَتْنا، نادى منادٍ: أخرجوا كلّ مختون من ولد بنـي إسرائيـل، فلذلك أمرنا أن نـختتن. قالوا: فلا يدعون منّا فـي النار أحدا إلا أخرجوه. ١٠٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: قالت الـيهود: إن ربنا عتب علـينا فـي أمرنا، فأقسم لـيعذّبنا أربعين لـيـلة، ثم يخرجنا. فأكذبهم اللّه . حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن قتادة، قال: قالت الـيهود: لن ندخـل النار إلا تـحلّة القسم، عدد الأيام التـي عبدنا فـيها العجل. ١٠٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الآية. قال ابن عبـاس : ذكر أن الـيهود وجدوا فـي التوراة مكتوبـا: (إن ما بـين طرفـي جهنـم مسيرة أربعين سنة إلـى أن ينتهوا إلـى شجرة الزقوم نابتة فـي أصل الـجحيـم). وكان ابن عبـاس يقول: إن الـجحيـم سَقَر، وفـيه شجرة الزقّوم، فزعم أعداء اللّه أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا فـي كتابهم أياما معدودة. وإنـما يعنـي بذلك الـمسير الذي ينتهي إلـى أصل الـجحيـم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل فلا عذاب وتذهب جهنـم وتهلك فذلك قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عبـاس : لـما اقتـحموا من بـاب جهنـم ساروا فـي العذاب، حتـى انتهوا إلـى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام الـمعدودة، قال لهم خزّان سقر: زعمتـم أنكم لن تـمسكم النار إلا أياما معدودة، فقد خلا العدد وأنتـم فـي الأبد فأخذ بهم فـي الصّعود فـي جهنـم يرهقون. ١٠٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً إلا أربعين لـيـلة. ١٠٣٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، قال: خاصمت الـيهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: لن ندخـل النار إلا أربعين لـيـلة، وسيخـلفنا فـيها قوم آخرون يعنون مـحمدا وأصحابه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـيده علـى رءوسهم: (بَلْ أَنْتُـمْ فِـيها خَالِدُونَ لاَ يَخْـلُفُكُمْ فِـيها أحَدٌ) فأنزل اللّه جل ثناؤه: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، قال: اجتـمعت يهود يوما تـخاصم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً وسموا أربعين يوما ثم يخـلفنا أو يـلـحقنا فـيها أناس فأشاروا إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كَذَبْتُـمْ، بَلْ أنْتُـمْ فِـيها خَالِدُونَ مُخَـلّدُونَ لاَ نَلْـحَقُكُمْ وَلا نَـخْـلُفَكُمْ فِـيها إِنْ شاءَ اللّه أبَدا). ١٠٣١ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا علـيّ بن معبد، عن أبـي معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: قالت الـيهود: لا نعذّب فـي النار يوم القـيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العِجْلَ. ١٠٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثنـي أبـي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم: (أَنْشُدُكُمْ بِـاللّه وَبِـالتّوْرَاةِ الّتِـي أنْزَلَهَا اللّه علـى مُوسَى يَوْمَ طُورِسَيْنَاءَ، مَنْ أَهْلُ النّارِ الّذِينَ أنْزَلَهُمُ اللّه فِـي التّوْرَاةِ؟) قالوا: إن ربهم غضب علـيهم غضبة، فنـمكث فـي النار أربعين لـيـلة، ثم نـخرج فتـخـلفوننا فـيها. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (كَذَبْتُـمْ وَاللّه لا نَـخْـلَفُكُمْ فِـيها أبَدا). فنزل القرآن تصديقا لقول النبـي صلى اللّه عليه وسلم، وتكذيبـا لهم: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قُلْ اتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا إلـى قوله: هُمْ فِـيها خالِدُونَ. وقال آخرون فـي ذلك بـما: ١٠٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كانت يهود يقولون: إنـما مدة الدنـيا سبعة آلاف سنة، وإنـما يعذّب اللّه الناس يوم القـيامة بكل ألف سنة من أيام الدنـيا يوما واحدا من أيام الاَخرة، وإنها سبعة أيام. فأنزل اللّه فـي ذلك من قولهم: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الآية. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة ويهود تقول: إنـما مدة الدنـيا سبعة آلاف سنة، وإنـما يعذّب الناس فـي النار بكل ألف سنة من أيام الدنـيا يوما واحدا فـي النار من أيام الاَخرة، فإنـما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب. فأنزل اللّه عزّ وجل فـي ذلك من قولهم لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ الآية. ١٠٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً قال: كانت تقول: إنـما الدنـيا سبعة آلاف سنة، وإنـما نعذّب مكان كل ألف سنة يوما. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله، إلا أنه قال: كانت الـيهود تقول: إنـما الدنـيا، وسائر الـحديث مثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: وَقَالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أيّاما مَعْدُودَةً من الدهر، وسموا عدة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة يوما يهودُ تقول. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا فَلَنْ يُخْـلِفَ اللّه عَهْدَهُ أمْ تَقُولُونَ عَلـى اللّه مَا لا تَعْلَـمُونَ. قال أبو جعفر: لـما قالت الـيهود ما قالت من قولها: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً علـى ما قد بـينا من تأويـل ذلك، قال اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد لـمعشر الـيهود أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا أخذتـم بـما تقولن من ذلك من اللّه ميثاقا فـاللّه لا ينقض ميثاقه ولا يبدل وعده وعقده، أم تقولون علـى اللّه البـاطل جهلاً وجراءة علـيه؟ كما: ١٠٣٥ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا أي مَوْثِقا من اللّه بذلك أنه كما تقولون. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٠٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: قالت الـيهود: لن ندخـل النار إلا تَـحِلّة القسم عدّة الأيام التـي عبدنا فـيها العجل. فقال اللّه : أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا بهذا الذي تقولونه، ألكم بهذا حجة وبرهان فَلَنْ يَخْـلفَ اللّه عَهْدَهُ فهاتوا حجتكم وبرهانكم أمْ تَقُولُونَ عَلـى اللّه مَا لا تَعْلَـمُونَ. ١٠٣٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: لـما قالت الـيهود ما قالت، قال اللّه جل ثناؤه لـمـحمد: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا يقول: أدّخرتـم عند اللّه عهدا؟ يقول: أقلتـم لا إلَه إلا اللّه لـم تشركوا، ولـم تكفروا به؟ فإن كنتـم قلتـموها فـارجوا بها، وإن كنتـم لـم تقولوها فلـم تقولون علـى اللّه ما لا تعلـمون؟ يقول: لو كنتـم قلتـم لا إلَه إلا اللّه ، ولـم تشركوا به شيئا، ثم متّـم علـى ذلك لكان لكم ذخرا عندي، ولـم أخـلف وعدي لكم أنـي أجازيكم بها. ١٠٣٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي، قال: لـما قالت الـيهود ما قالت، قال اللّه عز وجل: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا فَلَنْ يُخْـلِفَ اللّه عَهْدَهُ وقال فـي مكان آخر: وَغَرّهُمْ فِـي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. ثم أخبر الـخبر فقال: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً. وهذه الأقوال التـي رويناها عن ابن عبـاس ومـجاهد وقتادة بنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: قُلْ أتّـخَذْتُـمْ عِنْدَ اللّه عَهْدا لأن مـما أعطاه اللّه عبـاده من ميثاقه أن من آمن به وأطاع أمره نـجّاه من ناره يوم القـيامة. ومن الإيـمان به الإقرارُ بأن لا إلَه إلا اللّه ، وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به أن من أتـى اللّه يوم القـيامة بحجة تكون له نـجاة من النار فـينـجيه منها. وكل ذلك وإن اختلفت ألفـاظ قائلـيه، فمتفق الـمعانـي علـى ما قلنا فـيه، واللّه تعالـى أعلـم. ٨١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {بَلَىَ مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـَئَتُهُ ........} وقوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً تكذيب من اللّه القائلـين من الـيهود: لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاما مَعْدُودَةً وإخبـار منه لهم أنه يعذّب من أشرك وكفر به وبرسله وأحاطت به ذنوبه فمخـلّدُه فـي النار فإن الـجنة لا يسكنها إلا أهل الإيـمان به وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده. كما: ١٠٣٩ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بـمثل ما كفرتـم به حتـى يحيط كفره بـما له من حسنة، فـاولَئِك أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ. قال: وأما بَلـى فإنها إقرار فـي كل كلام فـي أوله جحد، كما (نعم) إقرار فـي الاستفهام الذي لا جحد فـيه، وأصلها (بل) التـي هي رجوع عن الـجحد الـمـحض فـي قولك: ما قام عمرو بل زيد فزيد فـيها الـياء لـيصلـح علـيها الوقوف، إذ كانت (بل) لا يصلـح علـيها الوقوف، إذْ كانت عطفـا ورجوعا عن الـجحد، ولتكون أعنـي بلـى رجوعا عن الـجحد فقط، وإقرارا بـالفعل الذي بعد الـجحد فدلت الـياء منها علـى معنى الإقرار والإنعام، ودلّ لفظ (بل) عن الرجوع عن الـجحد. قال: وأما السيئة التـي ذكر اللّه فـي هذا الـمكان فإنها الشرك بـاللّه . كما: ١٠٤٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفـيان، قال: حدثنـي عاصم، عن أبـي وائل بَلْـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: الشرك بـاللّه . ١٠٤١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً شركا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٠٤٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: أما السيئة فـالشرك. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. ١٠٤٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً أما السيئة فهي الذنوب التـي وعد علـيها النار. ١٠٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً قال: الشرك. قال ابن جريج، قال: قال مـجاهد: سَيّئَةً شركا. ١٠٤٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً يعنـي الشرك. وإنـما قلنا: إن السيئة التـي ذكر اللّه جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار الـمخـلدين فـيها فـي هذا الـموضع، إنـما عنى اللّه بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها فـي التلاوة عاما، لأن اللّه قضى علـى أهلها بـالـخـلود فـي النار، والـخـلود فـي النار لأهل الكفر بـاللّه دون أهل الإيـمان به لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن أهل الإيـمان لا يخـلدون فـيها، وأن الـخـلود فـي النار لأهل الكفر بـاللّه دون أهل الإيـمان به فإن اللّه جل ثناؤه قد قرن بقوله: بَلـى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فـاولئِكَ أصحَابُ النارِ هُم فِـيها خالِدُونَ قوله: والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الـخـلود فـي النار من أهل السيئات، غير الذي لهم الـخـلود فـي الـجنة من أهل الإيـمان. فإن ظنّ ظانّ أن الذين لهم الـخـلود فـي الـجنة من الذين آمنوا هم الذين عملوا الصالـحات دون الذين عملوا السيئات، فإن فـي إخبـار اللّه أنه مكفر بـاجتنابنا كبـائر ما ننهى عنه سيئاتنا، ومدخـلنا الـمدخـل الكريـم، ما ينبىء عن صحة ما قلنا فـي تأويـل قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً بأن ذلك علـى خاص من السيئات دون عامها. فإن قال لنا قائل: فإن اللّه جل ثناؤه إنـما ضمن لنا تكفـير سيئاتنا بـاجتنابنا كبـائر ما ننهى عنه، فما الدلالة علـى أن الكبـائر غير داخـلة في قوله: بَلـى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً؟ قـيـل: لـما صحّ من أن الصغائر غير داخـلة فـيه، وأن الـمعنّى بـالآية خاص دون عام، ثبت وصحّ أن القضاء والـحكم بها غير جائز لأحد علـى أحد إلا علـى من وَقَـفَه اللّه علـيه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصحّ أن اللّه تعالـى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة، فوجب بذلك القضاء علـى أن أهل الشرك والكفر مـمن عناه اللّه بـالآية. فأما أهل الكبـائر فإن الأخبـار القاطعة عذر من بلغته قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنـيـين بها، فمن أنكر ذلك مـمن دافع حجة الأخبـار الـمستفـيضة والأنبـاء الـمتظاهرة فـاللازم له ترك قطع الشهادة علـى أهل الكبـائر بـالـخـلود فـي النار بهذه الآية ونظائرها التـي جاءت بعمومهم فـي الوعيد، إذْ كان تأويـل القرآن غير مدرك إلا ببـيان من جَعَلَ اللّه إلـيه بـيانَ القرآن، وكانت الآية تأتـي عاما فـي صنف ظاهرها، وهي خاص فـي ذلك الصنف بـاطنها. ويُسئل مدافعوا الـخبر بأن أهل الكبـائر من أهل الاستثناء سؤالنا منكر رجم الزانـي الـمـحصن، وزوال فرض الصلاة عن الـحائض فـي حال الـحيض، فإن السؤال علـيهم نظير السؤال علـى هؤلاء سواء. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ اجتـمعت علـيه فمات علـيها قبل الإنابة والتوبة منها. وأصل الإحاطة بـالشيء: الإحداق به بـمنزلة الـحائط الذي تـحاط به الدار فتـحدق به، ومنه قول اللّه جل ثناؤه: نارا أحاطَ بِهِمْ سُرَادِقُها. فتأويـل الآية إذا: من أشرك بـاللّه واقترف ذنوبـا جمة فمات علـيها قبل الإنابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فـيها مخـلدون أبدا. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، قال الـمتأولون. ذكر من قال ذلك: ١٠٤٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي روق، عن الضحاك : وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات بذنبه. ١٠٤٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جرير بن نوح، قال: حدثنا الأعمش، عن أبـي رزين، عن الربـيع بن خثـيـم: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات علـيها. ١٠٤٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: أخبرنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: يحيط كفره بـما له من حسنة. ١٠٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: ما أوجب اللّه فـيه النار. ١٠٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أما الـخطيئة فـالكبـيرة الـموجبة. حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن قتادة: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الـخطيئة: الكبـائر. ١٠٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا وكيع ويحيى بن آدم، عن سلام بن مسكين، قال: سأل رجل الـحسن عن قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فقال: ما ندري ما الـخطيئة يا بنـيّ اتْلُ القرآن، فكل آية وعد اللّه علـيها النار فهي الـخطيئة. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد في قوله: بَلَـى مَنْ كَسَبَ سَيئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: كل ذنب مـحيط فهو ما وعد اللّه علـيه النار. ١٠٥٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي رزين: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: مات بخطيئته. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا مسعود أبو رزين، عن الربـيع بن خثـيـم في قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: هو الذي يـموت علـى خطيئته، قبل أن يتوب. ١٠٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ مات بذنوبه. ١٠٥٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الكبـيرة الـموجبة. ١٠٥٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فمات ولـم يتب. ١٠٥٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حسان، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: وأحاطَت بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الشرك، ثم تلا: وَمَنْ جَاءَ بِـالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وجُوهُهُمْ فِـي النّارِ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فـاولَئِكَ أصحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: فأولئك الذين كسبوا السّيئات وأحاطتْ بهم خطيئاتهم أصحاب النار هم فـيها خالدون. ويعنـي بقوله جل ثناؤه: أصحَابُ النّارِ أهل النار وإنـما جعلهم لها أصحابـا لإيثارهم فـي حياتهم الدنـيا ما يوردهموها، ويوردهم سعيرها علـى الأعمال التـي توردهم الـجنة، فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبـابها علـى أسبـاب الـجنة لها أصحابـا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته علـى صحبة غيره حتـى يعرف به. هُمْ فِـيها يعنـي فـي النار خالدون، ويعنـي بقوله خالِدُونَ مقـيـمون. كما: ١٠٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : هُمْ فِـيها خالِدُونَ: أي خالدون أبدا. ١٠٥٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: هُمْ فِـيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا. ٨٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُولَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ويعنـي بقوله: وَالّذِينَ آمَنُوا: أي صدقوا بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ويعنـي بقوله: وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ: أطاعوا اللّه فأقاموا حدوده، وأدّوا فرائضه، واجتنبوا مـحارمه. ويعنـي بقوله: أُولَئِكَ الذين هم كذلك أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ يعنـي أهلها الذين هم أهلها هم فـيها خالدون، مقـيـمون أبدا. وإنـما هذه الآية والتـي قبلها إخبـار من اللّه عبـاده عن بقاء النار وبقاء أهلها فـيها، ودوام ما أعدّ فـي كل واحدة منهما لأهلها، تكذيبـا من اللّه جل ثناؤه القائلـين من يهود بنـي إسرائيـل إن النار لن تـمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلـى الـجنة فأخبرهم بخـلود كفـارهم فـي النار وخـلود مؤمنـيهم فـي الـجنة. كما: ١٠٥٩ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ أُولَئِكَ أصحَابُ الـجَنّةِ هُمْ فِـيها خَالِدُونَ أي من آمن بـما كفرتـم به وعمل بـما تركتـم من دينه، فلهم الـجنة خالدين فـيها يخبرهم أن الثواب بـالـخير والشرّ مقـيـم علـى أهله أبدا لا انقطاع له أبدا. ١٠٦٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أولئك أصحاب الـجنة هُمْ فِـيها خَالِدُونَ ٨٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .........} قد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن الـميثاق مفعال، من التوثق بـالـيـمين ونـحوها من الأمور التـي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضا يا معشر بنـي إسرائيـل إذْ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا اللّه . كما: ١٠٦١ـ حدثنـي به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ أي ميثاقكم لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّه . قال أبو جعفر: والقراءة مختلفة فـي قراءة قوله: لا تَعْبُدُونَ فبعضهم يقرؤها بـالتاء، وبعضهم يقرؤها بـالـياء، والـمعنى فـي ذلك واحد. وإنـما جازت القراءة بـالـياء والتاء وأن يقال: (لا تعبدون)، و(لا يعبدون) وهم غَيَب لأن أخذ الـميثاق بـمعنى الاستـحلاف، فكما تقول: استـحلفت أخاك لـيقومنّ، فتـخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك، وتقول: استـحلفته لتقومنّ، فتـخبر عنه خبرك عن الـمخاطب لأنك قد كنت خاطبته بذلك، فـيكون ذلك صحيحا جائزا، فكذلك قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّه و(لا يعبدون). من قرأ ذلك بـالتاء فمعنى الـخطاب إذْ كان الـخطاب قد كان بذلك، ومن قرأ بـالـياء فلأنهم ما كانوا مخاطبـين بذلك فـي وقت الـخبر عنهموأما رفع لا تعبدون فبـالتاء التـي فـي تعبدون، ولا ينصب ب(أن) التـي كانت تصلـح أن تدخـل مع: لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّه لأنها إذا صلـح دخولها علـى فعل فحذفت ولـم تدخـل كان وجه الكلام فـيه الرفع كما قال جل ثناؤه: قُلْ أفَغَيْرَ اللّه تَأمُرُونّـي أعْبُدُ أيّها الـجاهِلُونَ فرفع (أعبدُ) إذ لـم تدخـل فـيها أن بـالألف الدالة علـى معنى الاستقبـال. وكما قال الشاعر: ألاَ أيّهذَا الزّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَىوأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْـلِدِي فرفع (أحضر) وإن كان يصلـح دخول (أن) فـيها، إذ حذفت بـالألف التـي تأتـي الاستقبـال. وإنـما صلـح حذف (أن) من قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ لدلالة ما ظهر من الكلام علـيها، فـاكتفـى بدلالة الظاهر علـيها منها. وقد كان بعض نـحويـي البصرة يقول: معنى قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّه حكاية، كأنك قلت: استـحلفناهم لا تعبدون، أي قلنا لهم: واللّه لا تعبدون، و قالوا: واللّه لا يعبدون. والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا فـي ذلك. وبنـحو الذي قلنا في قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّه تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٠٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: أخذ مواثـيقهم أن يخـلصوا له وأن لا يعبدوا غيره. ١٠٦٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاق بنِـي إسْرَائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّه قال: أخذنا ميثاقهم أن يخـلصوا للّه ولا يعبدوا غيره. ١٠٦٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنـي إسْرَائيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّه قال: الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي الـمائدة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا. وقوله جل ثناؤه: وبـالْوَالِدَيْنِ إحْسانا عطف علـى موضع (أن) الـمـحذوفة فـي لا تعبدون إلا اللّه . فكان معنى الكلام: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا اللّه وبـالوالدين إحسانا. فرفع (لا تعبدون) لـما حذف (أن)، ثم عطف بـالوالدين علـى موضعها، كما قال الشاعر: مُعاوِيَ إنّنا بَشَر فأسْجِحْفَلَسْنا بـالـجبـال وَلا الـحَدِيدا فنصب (الـحديد) علـى العطف به علـى موضع الـجبـال لأنها لو لـم تكن فـيها بـاء خافضة كانت نصبـا، فعطف بـالـحديث علـى معنى الـجبـال لا علـى لفظها، فكذلك ما وصفت من قوله: وَبـالْوَالِدَيْنِ إحْساناوأما الأحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: وَبِـالْوَالِدَيْنِ إذْ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام لو أظهر الـمـحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بأن لا تعبدوا إلا اللّه ، وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحسانا. فـاكتفـى بقوله: وَبـالْوَالِدَيْنِ من أن يقال: وبأن تـحسنوا إلـى الوالدين إحسانا، إذْ كان مفهوما أن ذلك معناه بـما ظهر من الكلام. وقد زعم بعض أهل العربـية فـي ذلك أن معناه: وبـالوالدين فأحسنوا إحسانا فجعل (البـاء) التـي فـي (الوالدين) من صلة الإحسان مقدمة علـيه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا اللّه ، وأحسنوا بـالوالدين إحسانا. فزعموا أن (البـاء) التـي فـي (الوالدين) من صلة الـمـحذوف، أعنـي (أَحْسِنوا)، فجعلوا ذلك من كلامين. وإنـما يصرف الكلام إلـى ما ادعوا من ذلك إذا لـم يوجد لاتساق الكلام علـى كلام واحد وجه، فأما وللكلام وجه مفهوم علـى اتساقه علـى كلام واحد فلا وجه لصرفه إلـى كلامين. وأخرى: أن القول فـي ذلك لو كان علـى ما قالوا لقـيـل: (وإلـى الوالدين إحسانا) لأنه إنـما يقال: أحسن فلان إلـى والديه، ولا يقال: أحسن بوالديه، إلاّ علـى استكراه للكلام. ولكن القول فـيه ما قلنا، وهو: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل بكذا وبـالوالدين إحسانا، علـى ما بـينا قبل. فـيكون (الإحسان) حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بـينا فـيـما مضى من نظائره. فإن قال قائل: وما ذلك الإحسان الذي أخذ علـيهم وبـالوالدين الـميثاق؟ قـيـل: نظير ما فرض اللّه علـى أمتنا لهما من فعل الـمعروف لهما والقول الـجميـل، وخفض جناح الذل رحمة بهما والتـحنن علـيهما، والرأفة بهما والدعاء بـالـخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال التـي ندب اللّه عبـاده أن يفعلوا بهما. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَذي القُرْبَى وَالـيتَامَى وَالـمسَاكين. يعنـي بقوله: وَذي القرْبَى وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمة. والقربى مصدر علـى تقدير (فُعْلَـى) من قولك: قربت منـي رحم فلان قرابة وقربى وقربـا بـمعنى واحدوأما الـيتامى فهم جمع يتـيـم، مثل أسير وأَسارى ويدخـل فـي الـيتامى الذكور منهم والإناث. ومعنى ذلك: وإذْ أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدون إلا اللّه وحده دون من سواه من الأنداد وبـالوالدين إحسانا وبذي القربى، أن تصلوا رَحِمَه، وتعرفوا حقه، وبـالـيتامى: أن تتعطفوا علـيهم بـالرحمة والرأفة، وبـالـمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التـي ألزمها اللّه أموالكم. والـمسكين: هو الـمتـخشع الـمتذلل من الفـاقة والـحاجة، وهو (مِفْعيـل) من الـمسكنة، والـمسكنة هي ذلّ الـحاجة والفـاقة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَقُولُوا للنّاس حُسُنا. إن قال قائل: كيف قـيـل: وقُولُوا للنّاس حُسْنا فأخرج الكلام أمرا ولـما يتقدمه أمرٌ، بل الكلام جار من أول الآية مـجرى الـخبر؟ قـيـل: إن الكلام وإن كان قد جرى فـي أول الآية مـجرى الـخبر فإنه مـما يحسن فـي موضعه الـخطاب بـالأمر والنهي، فلو كان مكان: (لا تعبدون إلا اللّه ) (لا تعبدوا إلا اللّه ) علـى وجه النهي من اللّه لهم عن عبـادة غيره كان حسنا صوابـا وقد ذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب. وإنـما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لأن أخذ الـميثاق قول، فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك: وإذْ قلنا لبنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا اللّه ، كما قال جل ثناؤه فـي موضع آخر: وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ ورَفَعْنا فَوْقَكُمْ الطّورَ خُذُوا ما آتـيْناكُمْ بِقُوّة. فلـما كان حسنا وضع الأمر والنهي فـي موضع: لا تعبدون إلا اللّه ، عطف بقوله: وَقُولُوا للنّاس حُسْنا علـى موضع لا تعبدون، وإن كان مخالفـا كل واحد منهما معناه معنى ما فـيه، لـما وصفنا من جواز وضع الـخطاب بـالأمر والنهي موضع لا تعبدون فكأنه قـيـل: وإذا أخذنا ميثاق بنـي إسرائيـل لا تعبدوا إلا اللّه ، وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البـيان عنه من أن العرب تبتدىء الكلام أحيانا علـى وجه الـخبر عن الغائب فـي موضع الـحكايات لـما أخبرت عنه، ثم تعود إلـى الـخبر علـى وجه الـخطاب، وتبتدىء أحيانا علـى وجه الـخطاب ثم تعود إلـى الإخبـار علـى وجه الـخبر عن الغائب لـما فـي الـحكاية من الـمعنـيـين كما قال الشاعر: أَسِيئي بنا أوْ أحْسِنـي لا مَلُومَةًلَديْنا وَلا مَقْلِـيّةً إنْ تَقَلّتِ يعنـي تقلّـيت، وأمّا (الـحسن) فإن القراءة اختلفت فـي قراءته، فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم: (وَقُولُوا للنّاس حَسَنا) بفتـح الـحاء والسين. وقرأته عامة قرّاء الـمدينة: حُسْنا بضم الـحاء وتسكين السين. وقد رُوي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وَقُولُوا للنّاس حُسْنَى) علـى مثال (فُعْلَـى). واختلف أهل العربـية فـي فرق ما بـين معنى قوله: حُسْنا، وحَسَنا. فقال بعض البصريـين: هو علـى أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـالـحسن الـحسن، وكلاهما لغة، كما يقال: البُخْـل والبَخَـلوأما أن يكون جعل الـحسن هو الـحسن فـي التشبـيه، وذلك أن الـحسن مصدر، والـحسن هو الشيء الـحسن، ويكون ذلك حينئذ كقولك: (إنـما أنت أَكْلٌ وشُرْب)، وكما قال الشاعر: وخَيْـلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْـلٍتَـحِيّةُ بَـيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ فجعل التـحية ضربـا. وقال آخر: بل (الـحسن) هو الاسم العام الـجامع جميع معانـي الـحسن، (والـحسن) هو البعض من معانـي الـحسن، قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بـالوالدين: وَوَصّيْنا الإنْسانَ بوَالِدَيْهِ حُسْنا يعنـي بذلك أنه وصاه فـيهما بجميع معانـي الـحسن، وأمر فـي سائر الناس ببعض الذي أمره به فـي والديه فقال: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا يعنـي بذلك بعض معانـي الـحسن. والذي قاله هذا القائل فـي معنى (الـحسن) بضم الـحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي بهوأما (الـحسن) فإنه صفة وقعت لـما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك، فـالصواب من القراءة في قوله: (وَقُولُوا للنّاسِ حَسَنا) لأن القوم إنـما أمروا فـي هذا العهد الذي قـيـل لهم: وقولوا للناس بـاستعمال الـحسن من القول دون سائر معانـي الـحسن، الذي يكون بغير القول، وذلك نعت لـخاص من معانـي الـحسن وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتـح الـحاء والسين، علـى قراءته بضم الـحاء وسكون السين. وأما الذي قرأ ذلك: (وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنَى) فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الإسلام، وكفـى شاهدا علـى خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لـم يكن علـى خطئها شاهد غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجة من الـمعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلـم بفُعْلـى وأَفْعل إلا بـالألف واللام أو بـالإضافة، لا يقال: جاءنـي أحسن حتـى يقولوا الأحسن، ولا يقال أجمل حتـى يقولوا الأجمل وذلك أن الأفعل والفُعْلَـى لا يكادان يوجدان صفة إلا لـمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الأحسن، وبل أختك الـحسنى، وغير جائز أن يقال: امرأة حُسْنى، ورجل أحسن. وأما تأويـل القول الـحسن الذي أمر اللّه به الذين وصف أمرهم من بنـي إسرائيـل فـي هذه الآية أن يقولوه للناس، فهو ما: ١٠٦٥ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا أمرهم أيضا بعد هذا الـخـلق أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بلا إله إلا اللّه من لـم يقلها ورغب عنها حتـى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من اللّه جل ثناؤه. وقال الـحسن أيضا: لـين القول من الأدب الـحسن الـجميـل، والـخـلق الكريـم، وهو مـما ارتضاه اللّه وأحبه. ١٠٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: قولوا للناس معروفـا. ١٠٦٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: صدقا فـي شأن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٠٦٨ـ وحدثت عن يزيد بن هارون، قال: سمعت سفـيان الثوري، يقول في قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: مروهم بـالـمعروف، وانهوهم عن الـمنكر. ١٠٦٩ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، قال: حدثنا عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح، عن قول اللّه جل ثناؤه: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: من لقـيت من الناس فقل له حسنا من القول قال: وسألت أبـا جعفر، فقال مثل ذلك. ١٠٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا القاسم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن أبـي جعفر وعطاء بن أبـي ربـاح في قوله: وَقُولُوا للنّاسِ حُسْنا قال: للناس كلهم. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأقِـيـمُوا الصّلاةَ. يعنـي بقوله: وأقِـيـمُو الصّلاةَ أدّوها بحقوقها الواجبة علـيكم فـيها. كما: ١٠٧١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن مسعود، قال: وأقِـيـمُوا الصّلاة هذه، وإقامة الصلاة تـمام الركوع والسجود والتلاوة والـخشوع والإقبـال علـيها فـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَآتُوا الزّكاة. قد بـينا فـيـما مضى قبلُ معنى الزكاة وما أصلهاوأما الزكاة التـي كان اللّه أمر بها بنـي إسرائيـل الذين ذكر أمرهم فـي هذه الآية، فهي ما: ١٠٧٢ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وآتُوا الزّكاةَ قال: إيتاء الزكاة ما كان اللّه فرض علـيهم فـي أموالهم من الزكاة، وهي سنّة كانت لهم غير سنة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم كانت زكاة أموالهم قربـانا تهبط إلـيه نار فتـحملها، فكان ذلك تَقَبّله، ومن لـم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل. وكان الذي قُرّب من مكسب لا يحلّ من ظلـم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمر اللّه به وبـينه له. ١٠٧٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَآتُوا الزّكاةَ يعنـي بـالزكاة: طاعة اللّه والإخلاص. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ. وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن يهود بنـي إسرائيـل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ اللّه ميثاقهم علـى الوفـاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلـى الاَبـاء والأمهات، ويَصِلُوا الأرحام، ويتعطفوا علـى الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل الـمسكنة إلـيهم، ويأمروا عبـاد اللّه بـما أمرهم اللّه به ويحثوهم علـى طاعته، ويقـيـموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم. فخالفوا أمره فـي ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه اللّه منهم فوفـى للّه بعهده وميثاقه. كما: ١٠٧٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس ، قال: لـما فرض اللّه جل وعزّ علـيهم يعنـي علـى هؤلاء الذين وصف اللّه أمرهم فـي كتابه من بنـي إسرائيـل هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالاً وكراهية، وطلبوا ما خفّ علـيهم إلا قلـيلاً منهم، وهم الذين استثنى اللّه فقال: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ يقول: أعرضتـم عن طاعتـي إلاّ قَلِـيلاً منكمْ قال: القلـيـل الذين اخترتهم لطاعتـي، وسيحلّ عقابـي بـمن تولّـى وأعرض عنها يقول: تركها استـخفـافـا بها. ١٠٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عن عكرمة، عن ابن عبـاس : ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرِضُونَ أي تركتـم ذلك كله. وقال بعضهم: عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: وأنتُـمْ مُعْرِضُونَ الـيهود الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم كأنه ذهب إلـى أن معنى الكلام: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ ثم تولـى سلفكم إلا قلـيلاً منهم، ولكنه جعل خطابـا لبقايا نسلهم علـى ما ذكرناه فـيـما مضى قبل. ثم قال: وأنتـم يا معشر بقاياهم مُعْرضون أيضا عن الـميثاق الذي أخذ علـيكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم. وقال آخرون: بل قوله: ثُمّ تَوَلّـيْتُـمْ إلاّ قَلِـيلاً مِنْكُمْ وأنْتُـمْ مُعْرضُونَ خطاب لـمن كان بـين ظهرانـي مُهَاجَرِ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل، وذمّ لهم بنقضهم الـميثاق الذي أخذ علـيهم فـي التوراة وتبديـلهم أمر اللّه وركوبهم معاصيه. ٨٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: قال أبو جعفر: قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ فـي الـمعنى والإعراب نظير قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَ بَنِـي إسْرائِيـلَ لا تَعْبُدُونَ إلاّ اللّه وأما سفك الدم، فإنه صبه وإراقته. فإن قال قائل: وما معنى قوله: لا تَسْفِكونَ دِماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ؟ وقال: أَوَ كان القوم يقتلون أنفسهم، ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننتَ، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا، فكان فـي قتل الرجل منهم الرجلَ قتلُ نفسه، إذْ كانت ملّتهما بـمنزلة رجل واحد، كما قال علـيه الصلاة والسلام: (إنّـمَا الـمُؤْمِنُونَ فِـي تَرَاحُمِهمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَـيْنَهُمْ بـمَنْزِلَةِ الـجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سائرُ الـجَسَدِ بِـالـحُمّى وَالسّهَرِ). وقد يجوز أن يكون معنى قوله: لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فـيقاد به قصاصا، فـيكون بذلك قاتلاً نفسه لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استـحقت به القتل، فأضيف بذلك إلـيه قتل ولـيّ الـمقتول إياه قصاصا بولـيه، كما يقال للرجل يركب فعلاً من الأفعال يستـحقّ به العقوبة فـيعاقب العقوبة: أنت جنـيت هذا علـى نفسك. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك: ١٠٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا، وَلاَ تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ونفسُك يا ابن آدم أهل ملّتك. ١٠٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَإذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، وَلاَ تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ. يعنـي بقوله: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ بـالـميثاق الذي أخذنا علـيكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. كما: ١٠٧٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ يقول: أقررتـم بهذا الـميثاق. وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ. اختلف أهل التأويـل فـيـمن خوطب بقوله وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ. فقال بعضهم: ذلك خطاب من اللّه تعالـى ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانَـيْ مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام هجرته إلـيه مؤنبـا لهم علـى تضيـيع أحكام ما فـي أيديهم من التوراة التـي كانوا يقرّون بحكمها، فقال اللّه تعالـى لهم: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ يعنـي بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم وأنْتُـمُ تَشْهَدُونَ علـى إقراركم بأخذ الـميثاق علـيهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقون بأن ذلك حقّ من ميثاقـي علـيهم. ومـمن حكي معنى هذا القول عنه ابن عبـاس . ١٠٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: وَإذْ أخَذْنا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُـمْ وأنْتُـمُ تَشْهَدُونَ أن هذا حق من ميثاقـي علـيكم. وقال آخرون: بل ذلك خبر من اللّه جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالـى ذكره أخرج الـخبر بذلك عنهم مخرج الـمخاطبة علـى النـحو الذي وصفنا فـي سائر الاَيات التـي هي نظائرها التـي قد بـينا تأويـلها فـيـما مضى. وتأولوا قوله وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ علـى معنى: وأنتـم شهود. ذكر من قال ذلك: ١٠٨٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية قوله: وأنتُـمْ تَشْهَدُونَ يقول وأنتـم شهود. قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب عندي أن يكون قوله: وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ خبرا عن أسلافهم، وداخلاً فـيه الـمخاطبون منهم الذين أدركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما كان قوله: وَإذْ أخَذْنا ميثاقَكُمْ خبرا عن أسلافهم وإن كان خطابـا للذين أدركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأن اللّه تعالـى أخذ ميثاق الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه موسى صلى اللّه عليه وسلم من بنـي إسرائيـل علـى سبـيـل ما قد بـينه لنا فـي كتابه، فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة مثل الذي ألزم منه من كان علـى عهد موسى منهم. ثم أنّب الذين خاطبهم بهذه الاَيات علـى نقضهم ونقض سلفهم ذلك الـميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا علـى أنفسهم له بـالوفـاء من العهود، بقوله: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ فإذْ كان خارجا علـى وجه الـخطاب للذين كانوا علـى عهد نبـينا صلى اللّه عليه وسلم منهم، فإنه معنـيّ به كل من واثق بـالـميثاق منهم علـى عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما فـي التوراة لأن اللّه جل ثناؤه لـم يخصص بقوله: ثُمّ أقْرَرْتُـمْ وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ وما أشبه ذلك من الاَي بعضهم دون بعض والآية مـحتـملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك فلـيس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التـي بعدها، أعنـي قوله: ثُمّ أنْتُـمُ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ الآية لأنه قد ذكر لها أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ٨٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {ثُمّ أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ .....} قال أبو جعفر: ويتـجه في قوله: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاَءِ وجهان: أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتـم يا هؤلاء، فترك (يا) استغناء بدلالة الكلام علـيه، كما قال: يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا وتأويـله: يا يوسف أعرض عن هذا. فـيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتـم يا معشر يهود بنـي إسرائيـل بعد إقراركم بـالـميثاق الذي أخذته علـيكم لا تسفكون دماءكم ولا تـخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتـم بعد شهادتكم علـى أنفسكم بأن ذلك حق لـي علـيكم لازم لكم الوفـاء لـي به تقتلون أنفسكم وتـخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونـين علـيهم فـي إخراجكم إياهم بـالإثم والعدوان. والتعاون: هو التظاهر وإنـما قـيـل: للتعاون التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض، فهو تفـاعل من الظهر، وهو مساندة بعضهم ظهره إلـى ظهر بعض. والوجه الاَخر أن يكون معناه: ثم أنتـم قومٌ تقتلون أنفسكم فـيرجع إلـى الـخبر عن (أنتـم)، وقد اعترض بـينهم وبـين الـخبر عنهم بهؤلاء، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس، وإذْ قـيـل: أنا هذا أجلس كان صحيحا جائزا، كذلك أنت ذاك تقوم. وقد زعم بعض البصريـين أن قوله (هؤلاء) في قوله: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تنبـيه وتوكيد ل(أنتـم)، وزعم أن (أنتـم) وإن كانت كناية أسماء جماع الـمخاطبـين، فإنـما جاز أن يؤكدوا ب(هؤلاء) و(أولاء)، لأنها كناية عن الـمخاطبـين، كما قال خُفـاف بن ندبة: أقُولُ لَهُ وَالرّمْـحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُتَبَـيّنْ خُفـافـا إنّنِـي أنا ذَلِكا يريد: أنا هذا. وكما قال جل ثناؤه: حتـى إذَا كُنْتُـمْ فـي الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية نـحو اختلافهم فـيـمن عنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَشْهَدونَ. ذكر اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك: ١٠٨١ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: ثُمّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُـخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بإِلاثْمِ والعُدْوَانِ إلـى أهل الشرك حتـى تسفكوا دماءهم معهم، وتـخرجوهم من ديارهم معهم. فقال: أنّبهم اللّه (علـى ذلك) من فعلهم، وقد حرّم علـيهم فـي التوراة سفك دمائهم، وافترض علـيهم فـيها فداء أسراهم فكانوا فريقـين طائفة منهم من بنـي قـينقاع حلفـاء الـخزرج والنضير وقريظة حلفـاء الأوس، فكانوا إذا كانت بـين الأوس والـخزرج حرب خرجت بنو قـينقاع مع الـخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقـين حلفـاءه علـى إخوانه حتـى يتسافكوا دماءهم بـينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما علـيهم وما لهم، والأوس والـخزرج أهل شِرْكٍ يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا، ولا قـيامة، ولا كتابـا، ولا حراما، ولا حلالاً فإذا وضعت الـحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقا لـما فـي التوراة وأخذا به بعضهم من بعض: يفتدي بنو قـينقاع ما كان من أسراهم فـي أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان فـي أيدي الـخزرج منهم، ويُطِلّون ما أصابوا من الدماء وقتلوا من قتلوا منهم فـيـما بـينهم مظاهرا لأهل الشرك علـيهم. يقول اللّه تعالـى ذكره حين أنّبهم بذلك: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي تفـادونه بحكم التوراة وتقتلونه وفـي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من ذلك، ولا يظاهر علـيه من يشرك بـاللّه ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عَرضَ من عَرضَ الدنـيا. ففـي ذلك من فعلهم مع الأوس والـخزرج فـيـما بلغنـي نزلت هذه القصة. ١٠٨٢ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنـي عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دماءَكُمْ وَلا تُـخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارَكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُـمْ وَأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ قال: إن اللّه أخذ علـى بنـي إسرائيـل فـي التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيّـما عبد أو أمة وجدتـموه من بنـي إسرائيـل فـاشتروه بـما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة حلفـاء الأوس، والنضير حلفـاء الـخزرج، فكانوا يقتتلون فـي حرب سُمَيْر، فتقاتل بنو قريظة مع حلفـائها النضير وحلفـاءَها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفـاءها فـيغلبونهم، فـيخرّبون بـيوتهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر الرجل من الفريقـين كلـيهما جمعوا له حتـى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علـينا قتالهم، قالوا: فلـم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستـحيـي أن تستذلّ حلفـاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: ثُمّ أنْتُـمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُـخْرِجُونَ فَرَيقا مِنْكُمْ مِنْ ديارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بِـالإثم وَالعُدْوَانَ. ١٠٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه الـمثابة، وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والـخزرج أخوين فـافترقا، وافترقت قريظة والنضير، فكانت النضير مع الـخزرج، وكانت قريظة مع الأوس. فـاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا، فقال اللّه جل ثناؤه: ثُمّ أنّتُـمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُـخْرجُونَ فَريقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارهِمْ الآية. وقال آخرون بـما: ١٠٨٤ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية قال: كان فـي بنـي إسرائيـل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ علـيهم الـميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم. وأما العدوان فهو الفعلان من التعدي، يقال منه: عدا فلان فـي كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداءً، وذلك إذا جاوز حدّه ظلـما وبغيا. وقد اختلف القراء فـي قراءة: تَظَاهَرُونَ فقرأها بعضهم: تظاهرون، علـى مثال (تفـاعلون) فحذف التاء الزائدة وهي التاء الاَخرة. وقرأها آخرون: (تظّاهرون)، فشدّد بتأويـل (تتظاهرون)، غير أنهم أدغموا التاء الثانـية فـي الظاء لتقارب مخرجيهما فصيّروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان وإن اختلفت ألفـاظهما فإنهما متفقتا الـمعنى، فسواء بأي ذلك قرأ القارىء لأنهما جميعا لغتان معروفتان وقراءتان مستفـيضتان فـي أمصار الإسلام بـمعنى واحد لـيس فـي إحداهما معنى تستـحق به اختـيارها علـى الأخرى إلا أن يختار مختار تظاهرون الـمشددة طلبـا منه تتـمة الكلـمة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإِنْ يَأتُوكُمْ أسارَى تُفـادُوهُمْ ..... يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أسارَى تُفـادُوهُمْ الـيهود يوبخهم بذلك، ويعرّفهم به قبـيح أفعالهم التـي كانوا يفعلونها. فقال لهم: ثم أنتـم بعد إقراركم بـالـميثاق الذي أخذته علـيكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تـخرجوا أنفسكم من دياركم تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ يعنـي به يقتل بعضُكم بعضا، وأنتـم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتـم الأسير منكم فـي أيدي غيركم من أعدائكم تَفْدُونه ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقَتْلُكم إياهم وإخراجُكُموهم من ديارهم حرام علـيكم وتَرْكُهم أسرى فـي أيدي عدوّكم، فكيف تستـجيزون قتلهم ولا تستـجيزون ترك فدائهم من عدوّهم؟ أم كيف لا تستـجيزون ترك فدائهم وتستـجيزون قتلهم؟ وهم جميعا فـي اللازم لكم من الـحكم فـيهم سواء لأن الذي حرّمت علـيكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت علـيكم من تركهم أسرى فـي أيدي عدوّهم أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْض الكِتاب الذي فرضت علـيكم فـيه فرائضي وبـينت لكم فـيه حدودي وأخذت علـيه بـالعمل بـما فـيه ميثاقـي فتصدّقون به، فتفـادون أسراكم من أيدي عدوّكم وتَكْفُرُونَ ببعضه فتـجحدونه فتقتلون من حرّمت علـيكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتـخرجونهم من ديارهم؟ وقد علـمتـم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقـي. كما: ١٠٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ثُمّ أنْتُـمْ هَولاء تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وَتُـخْرِجُونَ فَرِيقا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَـيْهِمْ بِـالإثْمِ والعُدْوَانِ وَإِنْ يأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَـادُوهم وَهُوَ مُـحَرّمٌ عَلَـيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ أفتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فـادين واللّه إن فداءهم لإيـمان وإن إخراجهم لكفر، فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى فـي أيدي عدوّهم افْتَكّوهم. ١٠٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عن عكرمة، عن ابن عبـاس : (وَإِنْ يَأتُوكُمْ أُسارَى تَفْدُوهُمْ) قد علـمتـم أن ذلكم علـيكم فـي دينكم، وَهُوَ مـحرّمٌ علـيكُم فـي كتابكم إخراجهُم أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أتفـادونهم مؤمنـين بذلك، وتـخرجونهم كفرا بذلك؟ ١٠٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: (وَإِنْ يأتُوكُمْ أسَارَى تَفْدُوهُمْ) يقول: إن وجدته فـي يد غيرك فديته وأنت تقتله بـيدك؟ ١٠٨٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، قال: قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكان إخراجهم كفرا وفداؤهم إيـمانا. ١٠٨٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: ثُمّ أنتُـمْ هَولاَءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ الآية، قال: كان فـي بنـي إسرائيـل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ علـيهم الـميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسم من ديارهم، وأخذ علـيهم الـميثاق إن أسر بعضهم أن يفـادوهم. فأخرجوهم من ديارهم ثم فـادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض آمنوا بـالفداء ففدوا، وكفروا بـالإخراج من الديار فأخرجوا. ١٠٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا الربـيع بن أنس، قال: أخبرنـي أبو العالـية: أن عبد اللّه بن سلام مرّ علـى رأس الـجالوت بـالكوفة وهو يفـادي من النساء من لـم يقع علـيه العرب ولا يفـادي من وقع علـيه العرب، فقال له عبد اللّه بن سلام: أما إنه مكتوب عندك فـي كتابك أنْ فـادوهنّ كلهن. ١٠٩١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ قال: كفرهم القتل والإخراج، وإيـمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتـخرجونهم من ديارهموأما إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغنـي أن عمر بن الـخطاب قال فـي قصة بنـي إسرائيـل: إن بنـي إسرائيـل قد مضوا وإنكم أنتـم تُعْنَون بهذا الـحديث. واختلف القراء فـي قراءة قوله: (وَإنْ يأتُوكُمْ أسارَى تَفْدوهُمْ) فقرأه بعضهم: (أسرى تفدوهم)، وبعضهم: (أسارى تفـادوهم)، وبعضهم: (أسارى تفدوهم)، وبعضهم: (أسرى تفـادوهم). قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى)، فإنه أراد جمع الأسير، إذْ كان علـى (فعيـل) علـى مثال جمع أسماء ذوي العاهات التـي يأتـي وأحدها علـى تقدير فعيـل، إذْ كان الأسر شبـيه الـمعنى فـي الأذى والـمكروه الداخـل علـى الأسير ببعض معانـي العاهات وألـحق جمع الـمستلـحق به بجمع ما وصفنا، فقـيـل أسير وأَسْرى، كما قـيـل مريض ومَرْضَى وكَسِير وكَسْرى، وجريح وجَرْحى. وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: (أُسارى)، فإنهم أخرجوه علـى مخرج جمع فُعْلان، إذ كان جمع (فعلان) الذي له (فَعْلَـى) قد يشارك جمع (فعيـل)، كما قالوا سكارى وسكرى وكسالـى وكسلـى، فشبهوا أسيرا وجمعوه مرة أُسارى وأخرى أَسْرى بذلك. وكان بعضهم يزعم أن معنى الأسرى مخالف معنى الأسارى، ويزعم أن معنى الأسرى استئسار القوم بغير أسر من الـمستأسر لهم، وأن معنى الأسارى معنى مصير القوم الـمأسورين فـي أيدي الاَسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة. قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم فـي لغة أحد من العرب، ولكن ذلك علـى ما وصفت من جمع الأسير مرة علـى (فَعْلـى) لـما بـينت من العلة، ومرة علـى (فُعالـى) لـما ذكرت من تشبـيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك. وأولـى بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: (وَإِنْ يَأتُوكُمْ أَسْرَى) لأن (فُعالـى) فـي جمع (فَعِيـل) غير مستفـيض فـي كلام العرب. فإذا كان ذلك غير مستفـيض فـي كلامهم، وكان مستفـيضا فـاشيا فـيهم جمع ما كان من الصفـات التـي بـمعنى الاَلام والزمانة واحدة علـى تقدير (فعيـل) علـى (فَعْلـى) كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك الأسير كان الواجب أن يـلـحق بنظائره وأشكاله فـيجمع جمعها دون غيرها مـمن خالفها. وأما من قرأ: تُفـادُوهُمْ فإنه أراد أنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدى منكم الذين أسروهم ففـادوكم بهم أسراكم منهم. وأما من قرأ ذلك: (تَفْدُوهُمْ) فإنه أراد أنكم يا معشر الـيهود إن أتاكم الذين أخرجتـموهم منكم من ديارهم أسرى فديتـموهم فـاستنقذتـموهم. وهذه القراءة أعجب إلـيّ من الأولـى، أعنـي: (أسرى تفدوهم) لأن الذي علـى الـيهود فـي دينهم فداء أسراهم بكل حال فَدَى الاَسرون أسراهم منهم أم لـم يفدوهم. وأما قوله: وَهُوَ مُـحَرّمٌ عَلَـيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ فإن في قوله: وَهُوَ وجهين من التأويـل أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره، كأنه قال: وتـخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم مـحرّم علـيكم. ثم كرّر الإخراج الذي بعد وهو مـحرم علـيكم تكريرا علـى (هو)، لـما حال بـين (الإخراج) و(هو) كلام. والتأويـل الثانـي: أن يكون عمادا لـما كانت الواو التـي مع (هو) تقتضي اسما يـلـيها دون الفعل، فلـما قدم الفعل قبل الاسم الذي تقتضيه الواو أن يـلـيها أولِـيَتْ (هو) لأنه اسم، كما تقول: أتـيتك وهو قائم أبوك، بـمعنى: وأبوك قائم، إذْ كانت الواو تقتضي اسما فعمدت ب(هو)، إذ سبق الفعل الاسم لـيصلـح الكلام كما قال الشاعر: فأبْلِغْ أبـا يَحيى إذَا ما لَقِـيتَهُعلـى العِيسِ فِـي آبـاطِها عَرَقٌ يَبْسُ بأنّ السّلامَى الّذِي بِضَرِيّةٍأمِيرَ الـحِمَى قدْ بَـاعَ حَقّـي بنـي عَبْسِ بِثَوْبٍ وَدِينارٍ وَشاةٍ ودِرْهَمٍفَهْل هُوَ مَرْفُوعٌ بِـما هَهُنَا رأسُ فأولـيت (هل) لطلبها الاسم العماد. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِـي الـحَيَاةِ الدّنْـيَا. يعنـي بقوله جل ثناؤه: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ فلـيس لـمن قتل منكم قتـيلاً فكفر بقتله إياه بنقض عهد اللّه الذي حكم به علـيه فـي التوراة، وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا علـيهم أعداءهم من أهل الشرك ظلـما وعدوانا وخلافـا لـما أمره اللّه به فـي كتابه الذي أنزله إلـى موسى، جزاء يعنـي بـالـجزاء: الثواب وهو العوض مـما فعل من ذلك والأجر علـيه، إِلاّ خِزْيٌ فِـي الـحَيَاةِ الدّنْـيَا والـخِزْي الذلّ والصغار، يقال منه: (خَزِي) الرجل يَخْزَى خِزْيا). فِـي الـحياة الدنـيا، يعنـي فـي عاجل الدنـيا قبل الاَخرة. ثم اختلف فـي الـخزي الذي أخزاهم اللّه بـما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم اللّه الذي أنزله إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من أخذ القاتل بـمن قتل والقَوَد به قصاصا، والانتقام للـمظلوم من الظالـم. وقال آخرون: بل ذلك هو أخذ الـجزية منهم ما أقاموا علـى دينهم ذلة لهم وصَغَارا. وقال آخرون: بل ذلك الـخزي الذي جَوّزوا به فـي الدنـيا إخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النّضِيرَ من ديارهم لأوّل الـحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسَبْـي ذراريهم فكان ذلك خزيا فـي الدنـيا، ولهم فـي الاَخرة عذاب عظيـم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيَوْمَ القِـيَامَةِ يُرَدّونَ إِلـى أشَدّ العَذَابِ. يعنـي بقوله: وَيَوْمَ القِـيَامَةِ يُرَدّونَ إلـى أشَدّ العَذَابِ: ويوم تقوم الساعة يردّ من يفعل ذلك منكم بعد الـخزي الذي يحلّ به فـي الدنـيا جزاءً علـى معصية اللّه إلـى أشدّ العذاب الذي أعدّ اللّه لأعدائه. وقد قال بعضهم: معنى ذلك: وَيَوْمَ القِـيَامَةِ يُرَدّونَ إلـى أشَدّ العَذَابِ من عذاب الدنـيا. ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن اللّه جل ثناؤه إنـما أخبر أنهم يردّون إلـى أشدّ معانـي العذاب ولذلك أدخـل فـيه الألف واللام، لأنه عنى به جنس العذاب كله دون نوع منه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ. اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: (وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ) بـالـياء علـى وجه الإخبـار عنهم، فكأنهم نَـحَوْا بقراءتهم معنى (فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلكَ مِنْكُمْ إلاّ خِزْيٌ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويَوْمَ القِـيامَةِ يُرَدّونَ إلـى أشَدّ العَذَابِ وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ) يعنـي عما يعمله الذين أخبر اللّه عنهم أنه لـيس لهم جزاء علـى فعلهم إلا الـخزي فـي الـحياة الدنـيا، ومرجعهم فـي الاَخرة إلـى أشدّ العذاب. وقرأه آخرون: وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ بـالتاء علـى وجه الـمخاطبة قال: فكأنهم نَـحَوْا بقراءتهم: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ... وَما اللّه بِغافِلٍ يا معشر الـيهود عَمّا تَعْمَلُونَ أنتـم. وأعجب القراءتـين إلـيّ قراءة من قرأ بـالـياء إتبـاعا لقوله: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلكَ مِنْكُمْ ولقوله: وَيَوْمَ القِـيامَةِ يُرَدّونَ لأن قوله: (وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ) إلـى ذلك أقرب منه إلـى قوله: أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُون بِبَعْضٍ فإتبـاعه الأقرب إلـيه أولـى من إلـحاقه بـالأبعد منه. والوجه الاَخر غير بعيد من الصواب. وتأويـل قوله: وما اللّه بساه عن أعمالهم الـخبـيثة، بل هو مُـحْصٍ لها وحافظها علـيهم حتـى يجازيهم بها فـي الاَخرة ويخزيهم فـي الدنـيا فـيذلهم ويفضحهم. ٨٦ القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ .....} يعنـي بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب فـيفـادون أسراهم من الـيهود، ويكفرون ببعض، فـيقتلون من حرّم اللّه علـيهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرّم اللّه علـيهم إخراجه من داره، نقضا لعهد اللّه وميثاقه فـي التوراة إلـيهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين اشتروا رياسة الـحياة الدنـيا علـى الضعفـاء وأهل الـجهل والغبـاء من أهل ملتهم، وابتاعوا الـمآكل الـخسيسة الرديئة فـيها، بـالإيـمان الذي كان يكون لهم به فـي الاَخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الـخـلود فـي الـجنان. وإنـما وصفهم اللّه جل ثناؤه بأنهم اشتروا الـحياة الدنـيا بـالاَخرة لأنهم رضوا بـالدنـيا بكفرهم بـاللّه فـيها عوضا من نعيـم الاَخرة الذي أعده اللّه للـمؤمنـين، فجعل حظوظهم من نعيـم الاَخرة بكفرهم بـاللّه ثمنا لـما ابتاعوه به من خسيس الدنـيا. كما: ١٠٩٢ـ حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الـحَياةَ الدّنْـيَا بـالاَخِرَةِ: استـحبوا قلـيـل الدنـيا علـى كثـير الاَخرة. قال أبو جعفر: ثم أخبر اللّه جل ثناؤه أنهم إذْ بـاعوا حظوظهم من نعيـم الاَخرة بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والـخسيس من الدنـيا علـيه، لا حظّ لهم فـي نعيـم الاَخرة، وأن الذي لهم فـي الاَخرة العذاب غير مخفف عنهم فـيها العذاب لأن الذي يخفف عنه فـيها من العذاب هو الذي له حظ فـي نعيـمها، ولا حظ لهؤلاء لاشترائهم الذي كان فـي الدنـيا ودنـياهم بآخرتهم. وأما قوله: وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم فـي الاَخرة أحد فـيدفع عنهم بنصرته عذاب اللّه ، لا بقوّته ولا بشفـاعته ولا غيرهما. ٨٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ ......} يعنـي بقوله جل ثناؤه: آتَـيْنَا مُوسَى الكِتابَ: أنزلناه إلـيه. وقد بـينا أن معنى الإيتاء: الإعطاء فـيـما مضى قبل، والكتاب الذي آتاه اللّه موسى علـيه السلام هو التوراة. وأما قوله: وَقَـفّـيْنا فإنه يعنـي: وأرْدَفْنا وأتبعنا بعضهم خـلف بعض، كما يقـفو الرجل الرجل إذا سار فـي أثره من ورائه. وأصله من القَـفَـا، يقال منه: قـفوت فلانا: إذا صرت خـلف قـفـاه، كما يقال دَبَرْته: إذا صرت فـي دبره. ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِهِ: من بعد موسى. ويعنـي بـالرّسُلِ الأنبـياء، وهم جمع رسول، يقال: هو رسول وهم رسل، كما يقال: هو صبور وهم قوم صُبُر، وهو رجل شكور وهم قوم شُكُر. وإنـما يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَقَـفّـيْنا مِنْ بَعْدِهِ بـالرّسُلِ أي أتبعنا بعضهم بعضا علـى منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه اللّه نبـيّا بعد موسى صلى اللّه عليه وسلم إلـى زمان عيسى ابن مريـم، فإنـما بعثه يأمر بنـي إسرائيـل بإقامة التوراة والعمل بـما فـيها والدعاء إلـى ما فـيها، فلذلك قـيـل: وَقَـفّـيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بـالرّسُلِ يعنـي علـى منهاجه وشريعته، والعمل بـما كان يعمل به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ. يعنـي بقوله: وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ أعطينا عيسى ابن مريـم. ويعنـي بـالبـينات التـي آتاه اللّه إياها ما أظهر علـى يديه من الـحجج والدلالة علـى نبوّته من إحياء الـموتـى وإبراء الأكْمةِ ونـحو ذلك من الاَيات التـي أبـانت منزلته من اللّه ، ودلت علـى صدقه وصحة نبوّته. كما: ١٠٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ أي الاَيات التـي وضع علـى يديه من إحياء الـموتـى، وخـلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فـيه فـيكون طائرا بإذن اللّه ، وإبراء الأسقام، والـخبر بكثـير من الغيوب مـما يدّخرون فـي بـيوتهم، وما ردّ علـيهم من التوراة مع الإنـجيـل الذي أحدث اللّه إلـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ. أما معنى قوله: وأيّدْناهُ فإنه قوّيناه فأعنّاه، كما: ١٠٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك : وأيّدْناهُ يقول: نصرناه. يقال منه: أيدك اللّه : أي قوّاك، وهو رجل ذو أيد وذو آدٍ، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج: مِنْ أن تَبَدّلْتُ بِآدِي آدا يعنـي بشبـابـي قوّة الـمشيب. ومنه قول الاَخر: إنّ القِدَاحَ إذا اجْتَـمَعْنَ فَرَامَهَابـالكَسْرِ ذُو جَلَدٍ وَبَطْشٍ أيّدِ يعني بالأيّد القويّ. ثم اختلف فـي تأويـل قوله: بِرُوحِ القُدُسِ. فقال بعضهم: روح القدس الذي أخبر اللّه تعالـى ذكره أنه أيد عيسى به هو جبريـل علـيه السلام. ذكر من قال ذلك: ١٠٩٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: هو جبريـل. ١٠٩٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: هو جبريـل علـيه السلام. ١٠٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: روح القدس: جبريـل. ١٠٩٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: أيد عيسى بجبريـل وهو روح القدس. ١٠٩٩ـ وقال ابن حميد: حدثنا سلـمة عن إسحاق، قال: حدثنـي عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبـي الـحسين الـمكي، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من الـيهود سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح قال: (أَنْشُدُكُمْ بِـاللّه وَبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّهُ جبريـل، وَهُوَ يأتـينـي؟) قالوا: نعم. وقال آخرون: الروح الذي أيد اللّه به عيسى هو الإنـجيـل. ذكر من قال ذلك: ١١٠٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: أيد اللّه عيسى بـالإنـجيـل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح اللّه ، كما قال اللّه : وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَـيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنَا. وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيـي به الـموتـى. ذكر من قال ذلك: ١١٠١ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: هو الاسم الذي كان يحيـي عيسى به الـموتـى. وأولـى التأويلات فـي ذلك بـالصواب قول من قال: الروح فـي هذا الـموضع جبريـل لأن اللّه جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: إذْ قَالَ اللّه يا عِيسَى ابنَ مَرْيَـمَ اذْكُرْ نِعْمَتِـي عَلَـيْكَ وَعَلـى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدْسِ تُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وكَهْلاً وإذْ عَلّـمْتُكَ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإنـجِيـلَ. فلو كان الروح الذي أيده اللّه به هو الإنـجيـل لكان قوله: (إذ أيدتك بروح القدس وإذ علـمتك الكتاب والـحكمة والتوراة والإنـجيـل) تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه علـى تأويـل قول من قال: معنى: إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ إنـما هو: إذْ أيدتك بـالإنـجيـل، وإذْ علـمتك الإنـجيـل وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو معلـمه. فذلك تكرير كلام واحد من غير زيادة معنى فـي أحدهما علـى الاَخر، وذلك خُـلْفٌ من الكلام، واللّه تعالـى ذكره يتعالـى عن أن يخاطب عبـاده بـما لا يفـيدهم به فـائدة. وإذا كان ذلك كذلك فبـيّنٌ فساد قول من زعم أن الروح فـي هذا موضع الإنـجيـل، وإن كان جميع كتب اللّه التـي أوحاها إلـى رسله روحا منه لأنها تـحيا بها القلوب الـميتة، وتنتعش بها النفوس الـمولـيّة، وتهتدي بها الأحلام الضالة. وإنـما سمى اللّه تعالـى جبريـل روحا وأضافه إلـى القدس لأنه كان بتكوين اللّه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده، فسماه بذلك روحا، وأضافه إلـى القدس والقدس: هو الطهر كما سمي عيسى ابن مريـم روحا للّه من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده. وقد بـينا فـيـما مضى من كتابنا هذا أن معنى التقديس: التطهير، والقدس: الطهر من ذلك. وقد اختلف أهل التأويـل فـي معناه فـي هذا الـموضع نـحو اختلافهم فـي الـموضع الذي ذكرناه. ١١٠٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: القدس: البركة. ١١٠٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: القدس: هو الربّ تعالـى ذكره. ١١٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ قال: اللّه القدس، وأيّد عيسى بروحه قال: نَعْتُ اللّه القدس. وقرأ قول اللّه جل ثناؤه: هُوَ اللّه الّذِي لا إلَهَ إِلاّ هُوَ الـمَلِكُ القُدّوسُ قال: القدس والقُدّوس واحد. ١١٠٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث، عن سعيد بن أبـي هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، قال: قال: نَعْتُ اللّه : القدس. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أفَكُلّـما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِـمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُـمْ فَرَيِقا كَذّبْتُـمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: أفَكُلّـما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِـما لا تَهْوَى أنْفُسَكُمْ الـيهود من بنـي إسرائيـل. ١١٠٦ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد. قال أبو جعفر: يقول اللّه جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بنـي إسرائيـل، لقد آتـينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده بـالرسل إلـيكم، وآتـينا عيسى ابن مريـم البـينات والـحجج إذ بعثناه إلـيكم، وقوّيناه بروح القدس. وأنتـم كلـما جاءكم رسول من رسلـي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتـم علـيهم تـجبرا وبغْيا استكبـارَ إمامكم إبلـيس فكذبتـم بعضا منهم، وقتلتـم بعضا، فهذا فعلكم أبدا برسلـي. وقوله: أفَكُلّـما إن كان خرج مخرج التقرير فـي الـخطاب فهو بـمعنى الـخبر. ٨٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ } اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ مخففة اللام ساكنة، وهي قراءة عامة الأمصار فـي جميع الأقطار. وقرأه بعضهم: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ) مثقلة اللام مضمومة. فأما الذين قرءوها بسكون اللام وتـخفـيفها، فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا قلوبنا فـي أكنة وأغطية وغُلْف. والغُلْفُ علـى قراءة هؤلاء، جمع أغلف، وهو الذي فـي غلاف وغطاء كما يقال للرجل الذي لـم يختتن: أغلف، والـمرأة غلفـاء، وكما يقال للسيف إذا كان فـي غلافه: سيف أغلف، وقوس غلفـاء، وجمعها (غُلْف)، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره علـى أفعل وأنثاه علـى فعلاء، يجمع علـى (فُعْل) مضمومة الأول ساكنة الثانـي، مثل أحمر وحُمر، وأصفر وصُفر، فـيكون ذلك جماعا للتأنـيث والتذكير، ولا يجوز تثقـيـل عين (فُعْل) منه إلا فـي ضرورة شعر، كما قال طَرَفة بن العبد: أيّها الفِتْـيَانُ فِـي مَـجْلِسِنَاجَرّدوا مِنْها وِرادا وشُقُرْ يريد: شُقْرا، لأن الشعر اضطره إلـى تـحريك ثانـيه فحركه. ومنه الـخبر الذي: ١١٠٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير بن سلـمان، قال: حدثنا الـملائي، عن عمرو بن مرة الـجملـي، عن أبـي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة. ثم ذكرها، فقال فـيـما ذكر: وقلب أغلف: معصوب علـيه، فذلك قلب الكافر. ذكر من قال ذلك، يعنـي أنها فـي أغطية. ١١٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي فـي أكنة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي فـي غطاء. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ فهي القلوب الـمطبوع علـيها. ١١٠٩ـ حدثنـي عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد قوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ علـيها غشاوة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ علـيها غشاوة. ١١١٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك عن الأعمش قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: هي فـي غلف. ١١١١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي لا تفقه. ١١١٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ قال: هو كقوله: قُلُوبُنَا فِـي أكِنّةٍ. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: علـيها طابع، قال هو كقوله: قُلُوبُنَا فِـي أكِنّةٍ. ١١١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي لا تفقه. ١١١٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: يقولون: علـيها غلاف وهو الغطاء. ١١١٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ قال: يقول قلبـي فـي غلاف، فلا يخـلص إلـيه مـما تقول. وقرأ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِـي أكِنّةٍ مِـمّا تَدْعُونَا إلَـيْهِ. قال أبو جعفر: وأما الذين قرءوها: (غُلُفٌ) بتـحريك اللام وضمها، فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا: قلوبنا غُلُف للعلـم، بـمعنى أنها أوعية قال: والغلف علـى تأويـل هؤلاء جمع غلاف، كما يجمع الكتاب كُتُب، والـحجاب حُجُب، والشهاب شُهُب. فمعنى الكلام علـى تأويـل قراءة من قرأ: (غُلُفٌ) بتـحريك اللام وضمها: وقالت الـيهود قلوبنا غُلُف للعلـم، وأوعية له ولغيره. ذكر من قال ذلك: ١١١٦ـ حدثنـي عبـيد بن أسبـاط بن مـحمد، قال: حدثنا أبـي، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ) قال: أوعية للذكر. حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا فضيـل، عن عطية في قوله: (قُلُوبُنَا غُلُفٌ) قال: أوعية للعلـم. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فضيـل، عن عطية، مثله. ١١١٧ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ قال: مـملوءة علـما لا تـحتاج إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ولا غيره. والقراءة التـي لا يجوز غيرها في قوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ هي قراءة من قرأ (غُلْف) بتسكين اللام بـمعنى أنها فـي أغشية وأغطية لاجتـماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل علـى صحتها، وشذوذ من شذّ عنهم بـما خالفه من قراءة ذلك بضم اللام. وقد دللنا علـى أن ما جاءت به الـحجة متفقة علـيه حجة علـى من بلغه، وما جاء به الـمنفرد فغير جائز الاعتراض به علـى ما جاءت به الـجماعة التـي تقوم بها الـحجة نقلاً وقولاً وعملاً فـي غير هذا الـموضع، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـمكان. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه : بل أقصاهم اللّه وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات اللّه وبـيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبـياءه. فأخبر تعالـى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بـما كانوا يفعلون من ذلك. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد والإقصاء، يقال: لَعَنَ اللّه فلانا يـلعنُه لَعْنا وهو ملعون، ثم يصرّف مفعول فـيقال هو لَعِينٌ ومنه قول الشماخ بن ضرار: ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَـيْتُ عنْهُمَكَانَ الذّئْبِ كالرّجُلِ اللّعِينِ قال أبو جعفر: في قول اللّه تعالـى ذكره: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ تكذيبٌ منه للقائلـين من الـيهود: قُلُوبُنَا غُلْفٌ لأن قوله: بَلْ دلالة علـى جحده جل ذكره، وإنكاره ما ادّعوا من ذلك إذ كانت (بل) لا تدخـل فـي الكلام إلا نقضا لـمـجحود. فإذا كان ذلك كذلك، فبـيّنٌ أن معنى الآية: وقالت الـيهود قلوبنا فـي أكنة مـما تدعونا إلـيه يا مـحمد. فقال اللّه تعالـى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن اللّه أقصى الـيهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقلـيلاً ما يؤمنون. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَقَلِـيلاً ما يُؤْمِنُونَ. فقال بعضهم: معناه: فقلـيـل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قلـيـل. ذكر من قال ذلك: ١١١٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكْفْرِهِمْ فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ فلعمري لَـمن رجع من أهل الشرك أكثر مـمن رجع من أهل الكتاب، إنـما آمن من أهل الكتاب رهط يسير. ١١١٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: فَقَلِـيلاً ما يُؤْمِنُونَ قال: لا يؤمن منهم إلا قلـيـل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقلـيـل مـما فـي أيديهم. ذكر من قال ذلك: ١١٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ قال: لا يؤمن منهم إلاّ قلـيـل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلاّ بقلـيـل مـما فـي أيديهم. وأولـى التأويلات في قوله: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ بـالصواب ما نـحن مُتقنوه إن شاء اللّه وهو أن اللّه جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم فـي هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قلـيـلو الإيـمان بـما أنزل اللّه إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولذلك نصب قوله: فَقَلِـيلاً لأنه نعت للـمصدر الـمتروك ذكره، ومعناه: بل لعنهم اللّه بكفرهم فإيـمانا قلـيلاً ما يؤمنون. فقد تبـين إذا بـما بـينا فساد القول الذي روي عن قتادة فـي ذلك لأن معنى ذلك لو كان علـى ما روي من أنه يعنـي به: فلا يؤمن منهم إلا قلـيـل، أو فقلـيـل منهم من يؤمن، لكان القلـيـل مرفوعا لا منصوبـا لأنه إذا كان ذلك تأويـله كان القلـيـل حينئذٍ مرافعا (ما) وإن نصب القلـيـل، و(ما) فـي معنى (من) أو (الذي) بقـيت (ما) لا مرافع لها، وذلك غير جائز فـي لغة أحد من العرب. فأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي معنى (ما) التـي في قوله: فَقَلِـيلاً مَا يُؤْمِنُونَ فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنـما تأويـل الكلام: فقلـيلاً يؤمنون، كما قال جل ذكره: فَبِـمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وما أشبه ذلك. فزعم أن (ما) فـي ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من اللّه لنت لهم وأنشد فـي ذلك مـحتـجّا لقوله ذلك ببـيت مهلهل: لَوْ بِأبـانَـيْنِ جاءَ يَخْطُبُهاخُضّبَ ما أنْفُ خاطِبٍ بدَمِ ورغم أنه يعنـي: خضب أنف خاطب بدم، وأن (ما) زائدة. وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول فـي (ما) فـي الآية، وفـي البـيت الذي أنشده، و قالوا: إنـما ذلك من الـمتكلـم علـى ابتداء الكلام بـالـخبر عن عموم جميع الأشياء، إذ كانت (ما) كلـمة تـجمع كل الأشياء ثم تـخصّ وتعمّ ما عمته بـما تذكره بعدها. وهذا القول عندنا أولـى بـالصواب لأن زيادة (ما) لا تفـيد من الكلام معنى فـي الكلام غير جائز إضافته إلـى اللّه جل ثناؤه. ولعل قائلاً أن يقول: هل كان للذين أخبر اللّه عنهم أنهم قلـيلاً ما يؤمنون من الإيـمان قلـيـل أو كثـير فـيقال فـيهم فقلـيلاً ما يؤمنون؟ قـيـل: إن معنى الإيـمان هو التصديق، وقد كانت الـيهود التـي أخبر اللّه عنها هذا الـخبر تصدّق بوحدانـية اللّه وبـالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته، وكل ذلك كان فرضا علـيهم الإيـمان به لأنه فـي كتبهم، ومـما جاءهم به موسى فصدّقوا ببعض هو ذلك القلـيـل من إيـمانهم، وكذّبوا ببعض فذلك هو الكثـير الذي أخبر اللّه عنهم أنهم يكفرون به. وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنـين بشيء، وإنـما قـيـل: فَقَلِـيلاً ما يُؤْمِنُونَ وهم بـالـجميع كافرون، كما تقول العرب: قلّـما رأيت مثل هذا قط، وقد رُوي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلـما تنبت إلا الكُرّاث والبصل، يعنـي: ما تنبت غير الكرّاث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـالقلة، والـمعنى فـيه نفـي جميعه. ٨٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّه مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ ....... } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّق لِـمَا مَعَهُمْ: ولـما جاء الـيهود من بنـي إسرائيـل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم، كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه يعنـي بـالكتاب: القرآن الذي أنزله اللّه علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ يعنـي مصدّق للذي معهم من الكتب التـي أنزلها اللّه من قبل القرآن. كما: ١١٢١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وهو القرآن الذي أنزل علـى مـحمد مصدق لـما معهم من التوراة والإنـجيـل. ١١٢٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّق لِـمَا مَعَهُمْ وهو القرآن الذي أنزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم مصدق لـما معهم من التوراة والإنـجيـل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا أي وكان هؤلاء الـيهود الذين لـما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لـما معهم من الكتب التـي أنزلها اللّه قبل الفرقان، كفروا به يستفتـحون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ومعنى الاستفتاح: الاستنصار يستنصرون اللّه به علـى مشركي العرب من قبل مبعثه أي من قبل أن يبعث. كما: ١١٢٣ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فـينا واللّه وفـيهم يعنـي فـي الأنصار وفـي الـيهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة، يعنـي: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا قالوا: كنا قد علوناهم دهرا فـي الـجاهلـية، ونـحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبـيّا الاَن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإرَم فلـما بعث اللّه تعالـى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. يقول اللّه : فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. ١١٢٤ـ حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس : أن يهود كانوا يستفتـحون علـى الأوس والـخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل مبعثه. فلـما بعثه اللّه من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فـيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بنـي سلـمة: يا معشر يهود، اتقوا اللّه وأسلـموا فقد كنتـم تستفتـحون علـينا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونـحن أهل شِرْك، وتـخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بنـي النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بـالذي كنا نذكر لكم فأنزل اللّه جل ثناؤه فـي ذلك من قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ عَلَـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه علـى الكافِرِينَ. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، مثله. ١١٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا يقول: يستنصرون بخروج مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى مشركي العرب يعنـي بذلك أهل الكتاب فلـما بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه. ١١٢٦ـ وحدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن علـيّ الأزدي في قول اللّه : وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا قال: الـيهود، كانوا يقولون: اللّه مّ ابعث لنا هذا النبـيّ يحكم بـيننا وبـين الناس يَسْتَفْتِـحُونَ يستنصرون به علـى الناس. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، علـى عن الأزدي وهو البـارقـي في قول اللّه جل ثناؤه: وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ فذكر مثله. ١١٢٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا كانت الـيهود تستفتـح بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى كفـار العرب من قبل، و قالوا: اللّه مّ ابعث هذا النبـيّ الذي نـجده فـي التوراة يعذّبهم ويقتلهم فلـما بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلـمون أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة فَلَـمّا جَاءَهُمْ مَا عرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. ١١٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: كانت الـيهود تستنصر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى مشركي العرب، يقولون: اللّه مّ ابعث هذا النبـيّ الذي نـجده مكتوبـا عندنا حتـى يعذّب الـمشركين ويقتلهم فلـما بعث اللّه مـحمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلـمون أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اللّه : فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه علـى الكافِرِينَ. ١١٢٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ولـمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: كانت العرب تـمرّ بـالـيهود فـيؤذونهم، وكانوا يجدون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـي التوراة، ويسألون اللّه أن يبعثه فـيقاتلوا معه العرب فلـما جاءهم مـحمد كفروا به حين لـم يكن من بنـي إسرائيـل. ١١٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: وَكَانُوا مِنْ قَبْل يَسْتَفْتِـحُونَ عَلـى الّذِينَ كَفَرُوا قال: كانوا يستفتـحون علـى كفـار العرب بخروج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، ويرجون أن يكون منهم. فلـما خرج ورأوه لـيس منهم كفروا، وقد عرفوا أنه الـحقّ وأنه النبـيّ قال: فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّه علـى الكافِرِينَ. قال: حدثنا ابن جريج، وقال مـجاهد: يستفتـحون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم تقول أنه يخرج، فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا وكان من غيرهم، كَفَرُوا بِهِ. ١١٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: و قال ابن عبـاس : كانوا يستفتـحون علـى كفـار العرب. ١١٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي الـحمانـي، قال: حدثنـي شريك، عن أبـي الـحجاب، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جبـير قوله: فَلَـمّا جاءهُمْ مَا عرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: هم الـيهود عرفوا مـحمدا أنه نبـيّ، وكفروا به. ١١٣٣ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا قال: كانوا يستظهرون يقولون نـحن نعين مـحمدا علـيهم، ولـيسوا كذلك يكذبون. ١١٣٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول اللّه عز وجل: وكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِـحُونَ علـى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: كانت يهود يستفتـحون علـى كفـار العرب يقولون: أما واللّه لو قد جاء النبـيّ الذي بشر به موسى وعيسى أحمد لكان لنا علـيكم. وكانوا يظنون أنه منهم والعرب حولهم، وكانوا يستفتـحون علـيهم به ويستنصرون به فَلَـمّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وحسدوه. وقرأ قول اللّه جل ثناؤه: كُفّـارا حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ قال: قد تبـين لهم أنه رسول، فمن هنالك نفع اللّه الأوس والـخزرج بـما كانوا يسمعون منهم أن نبـيّا خارج. فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدق لِـمَا مَعَهُمْ؟ قـيـل: قد اختلف أهل العربـية فـي جوابه، فقال بعضهم: هو مـما تُرك جوابه استغناء بـمعرفة الـمخاطبـين به بـمعناه وبـما قد ذكر من أمثاله فـي سائر القرآن. وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتـي بأشياء لها أجوبة فتـحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بـمعرفتهم بـمعناها عن ذكر الأجوبة، كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ أَنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الـجِبَـالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوّ كُلّـمَ بِهِ الـمَوْتَـى بَلْ للّه الأمْرُ جَمِعيا فترك جوابه. والـمعنى: (ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الـجبـال لسُيّرت بهذا القرآن) استغناءً بعلـم السامعين بـمعناه. قالوا: فكذلك قوله: وَلَـمّا جَاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ. وقال آخرون: جواب قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ كِتاب مِنْ عِنْدِ اللّه فـي (الفـاء) التـي في قوله: فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ وجواب الـجزاءين فـي (كفروا به) كقولك: لـما قمت فلـما جئتنا أحسنت، بـمعنى: لـما جئتنا إذْ قمتَ أحسنتَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَلَعنَةُ اللّه علـى الكافِرِينَ. قد دللنا فـيـما مضى علـى معنى اللعنة وعلـى معنى الكفر، بـما فـيه الكفـاية. فمعنى الآية: فخزي اللّه وإبعاده علـى الـجاحدين ما قد عرفوا من الـحقّ علـيهم للّه ولأنبـيائه الـمنكرين، لـما قد ثبت عندهم صحته من نبوة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ففـي إخبـار اللّه عزّ وجل عن الـيهود بـما أخبر اللّه عنهم بقوله: فَلَـمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ البـيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد قـيام الـحجة بنبوّته علـيهم وقطع اللّه عذرهم بأنه رسوله إلـيهم. ٩٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّه بَغْياً .......} ومعنى قوله جل ثناؤه: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ ساء ما اشتروا به أنفسهم. وأصل (بِئْسَ): (بَئِسَ) من البؤس، سكنت همزتها ثم نقلت حركتها إلـى البـاء، كما قـيـل فـي ظَلِلْت: ظِلْتُ، وكما قـيـل للكَبِد: كِبْدٌ، فنقلت حركة البـاء إلـى الكاف لـما سكنت البـاء. وقد يحتـمل أن تكون (بِئْس) وإن كان أصلها (بَئِسَ) من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلـى الفـاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الـحلق الستة، كما قالوا من (لَعِبَ) (لِعْبَ)، ومن (سَئِمَ) (سِئْمَ)، وذلك فـيـما يقال لغة فـاشية فـي تـميـم، ثم جعلت دالّة علـى الذمّ والتوبـيخ ووصلت ب(ما). واختلف أهل العربـية فـي معنى (ما) التـي مع (بئسما)، فقال بعض نـحويـي البصرة: هي وحدها اسم، و(أن يكفروا) تفسير له، نـحو: نعم رجلاً زيد. و(أن ينزل اللّه ) بدل من (أنزل اللّه ). وقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف(ما) اسم بئس، و(أن يكفروا) الاسم الثانـي. وزعم أن (أن ينزل اللّه من فضله) إن شئت جعلت (أن) فـي موضع رفع، وإن شئت فـي موضع خفض. أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن فعلوه وأما الـخفض: فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بـما أنزل اللّه بغيا قال: وقوله: لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ أنْ سَخِطَ اللّه عَلَـيْهِمْ كمثل ذلك. والعرب تـجعل (ما) وحدها فـي هذا البـاب بـمنزلة الاسم التام كقوله: فَنعِمّا هِيَ و(بئسما أنت). واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرّجّاز: لا تَعْجِلا فِـي السّيْرِ وادْلُوَاهَالَبِئْسَما بُطْءٌ وَلا نَرعاها قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر، فـيجعلون (ما) وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه الـمقالة لا يجيز أن يكون الذي يـلـي (بئس) معرفة موَقّتة وخبره معرفة موقّتة. وقد زعم أن (بئسما) بـمنزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم، فقد صارت (ما) بصلتها اسما موقتا لأن (اشتروا) فعل ماض من صلة (ما) فـي قول قائل هذه الـمقالة، وإذا وصلت بـماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة فـيصير تأويـل الكلام حينئذٍ: (بئس شراؤهم كفرهم)، وذلك عنده غير جائز، فقد تبـين فساد هذا القول. وكان آخر منهم يزعم أن (أن) فـي موضع خفض إن شئت، ورفع إن شئت، فأما الـخفض فأن تردّه علـى الهاء التـي فـي (به) علـى التكرير علـى كلامين، كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بـالكفروأما الرفع فأن يكون مكرّرا علـى موضع (ما) التـي تلـي (بئس) قال: ولا يجوز أن يكون رفعا علـى قولك: بئس الرجلُ عبدُ اللّه . وقال بعضهم: (بئسما) شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب: (بئسما تزويج ولا مهر) فرافع تزويج (بئسما)، كما يقال: (بئسما زيد، وبئسما عمرو)، فـيكون (بئسما) رفعا بـما عاد علـيها من الهاء، كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم، وتكون (أن) مترجمة عن (بئسما). وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من جعل (بئسما) مرفوعا بـالراجع من الهاء في قوله: اشْتَرَوا بِهِ كما رفعوا ذلك بعبد اللّه ، إذ قالوا: بئسما عبد اللّه ، وجعل (أن يكفروا) مترجمة عن (بئسما)، فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: بئس الشي بـاع الـيهود به أنفسم كفرهم بـما أنزل اللّه بغيا وحسدا أن ينزل اللّه من فضله. وتكون (أن) التـي في قوله: (أن ينزل اللّه )، فـي موضع نصب لأنه يعنـي به أن يكفروا بـما أنزل اللّه من أجل أن ينزل اللّه من فضله علـى من يشاء من عبـاده وموضعه أن جر. وكان بعض أهل العربـية من الكوفـيـين يزعم أن (أن) فـي موضع خفض بنـية البـاء. وإنـما اخترنا فـيها النصب لتـمام الـخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها، والـحرف الـخافض لا يخفض مضمراوأما قوله: اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ فإنه يعنـي به بـاعوا أنفسهم. كما: ١١٣٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ يقول: بـاعوا أنفسهم أن يكفروا بـما أنزل اللّه بغيا. ١١٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ يهود شروا الـحق بـالبـاطل وكتـمان ما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بأن يبـينوه. والعرب تقول: شَريته بـمعنى بعته، واشتروا فـي هذا الـموضع (افتعلوا) من شريت. وكلام العرب فـيـما بلغنا أن يقولوا: شَرَيْت بـمعنى بعت، واشتريت بـمعنى ابتعت. وقـيـل إنـما سمي الشاري شاريا لأنه بـاع نفسه ودنـياه بآخرته. ومن ذلك قول يزيد بن مفرّغ الـحميري: وَشَرَيْتُ بُرْدا لَـيْتَنِـيمِنْ قَبْلُ بُرْدٍ كُنْتُ هامَهْ ومنه قول الـمسيّب بن عَلَس: يُعْطَى بِها ثَمَنا فَـيَـمْنَعُهاويَقُولُ صَاحِبُهَا ألا تَشْرِي يعنـي به: بعت بردا. وربـما استعمل (اشتريت) بـمعنى (بعت)، و(شريت) فـي معنى (ابتعت)، والكلام الـمستفـيض فـيهم هو ما وصفت. وأما معنى قوله: بَغْيا فإنه يعنـي به: تعدّيا وحسدا. كما: ١١٣٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد بن قتادة: بَغْيا قال: أي حسدا، وهم الـيهود. ١١٣٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: بَغْيا قال: بغوا علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وحسدوه، و قالوا: إنـما كانت الرسل من بنـي إسرائيـل، فما بـال هذا من بنـي إسماعيـل فحسدوه أن ينزل اللّه من فضله علـى من يشاء من عبـاده. ١١٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: بَغْيا يعنـي حسدا أن ينزل اللّه من فضله علـى من يشاء من عبـاده، وهم الـيهود كفروا بـما أنزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء بـاعوا به أنفسهم الكفر بـالذي أنزل اللّه فـي كتابه علـى موسى من نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم والأمر بتصديقه واتبـاعه، مِنْ أجل أن أنزل اللّه من فضله، وفضلُه حكمته وآياته ونبوّته علـى من يشاء من عبـاده يعنـي به علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بغيا وحسدا لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، من أجل أنه كان من ولد إسماعيـل، ولـم يكن من بنـي إسرائيـل. فإن قال قائل: وكيف بـاعت الـيهود أنفسها بـالكفر فقـيـل: بئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ أنْ يَكْفُرُوا بِـمَا أنْزَلَ اللّه ؟ وهل يشترى بـالكفر شيء؟ قـيـل: إن معنى الشراء والبـيع عند العرب: هو إزالة مالك ملكه إلـى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم تستعمل العرب ذلك فـي كل معتاض من عمله عوضا شرّا أو خيرا، فتقول: نِعْمَ ما بـاع به فلان نفسه، وبئس ما بـاع به فلان نفسه، بـمعنى: نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه علـيها خيرا أو شرّا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لـما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم فأهلكوها، خاطبهم اللّه والعرب بـالذي يعرفونه فـي كلامهم فقال: بئسما اشتروا به أنفسهم يعنـي بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بـاللّه فـي تكذيبهم مـحمدا، إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب اللّه وما أعدّ لهم لو كانوا آمنوا بـاللّه وما أنزل علـى أنبـيائه بـالنار، وما أعدّ لهم بكفرهم بذلك. وهذه الآية وما أخبر اللّه فـيها عن حسد الـيهود مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وقومه من العرب، من أجل أن اللّه جعل النبوّة والـحكمة فـيهم دون الـيهود من بنـي إسرائيـل، حتـى دعاهم ذلك إلـى الكفر به مع علـمهم بصدقه، وأنه نبـيّ للّه مبعوث ورسول مرسل نظيرة الآية الأخرى فـي سورة النساء، وذلك قوله: ألـم تَرَ الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِـالـجِبْتِ وَالطّاغُوتِ ..... القول فـي تأويـل قوله تعالى: أنْ يُنَزّلَ اللّه مِنْ فَضْلِهِ علـى مَنْ يَشاءُ منْ عِبـادِهِ. قد ذكرنا تأويـل ذلك وبـيّنا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فـيه. ١١٤٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قوله: بَغْيا أنْ يُنَزّلَ اللّه مِنْ فَضْلِهِ علـى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبـادِهِ أي أن اللّه تعالـى جعله فـي غيرهم. ١١٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: هم الـيهود، ولـما بعث اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلـمون أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة. ١١٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، مثله. ١١٤٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ١١٤٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: قالوا: إنـما كانت الرسل من بنـي إسرائيـل، فما بـال هذا من بنـي إسماعيـل. ١١٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن علـيّ الأزدي قال: نزلت فـي الـيهود. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَبـاءوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ. يعنـي بقوله: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ فرجعت الـيهود من بنـي إسرائيـل بعد الذي كانوا علـيه من الاستنصار بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبـيّ مبعوث مرتدين علـى أعقابهم حين بعثه اللّه نبـيّا مرسلاً، فبـاءوا بغضب من اللّه استـحقّوه منه بكفرهم بـمـحمد حين بعث، وجحودهم نبوّته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته فـي كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب عَلـى غَضَبٍ سالف كان من اللّه علـيهم قبل ذلك سابق غضبه الثانـي لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريـم، أو لعبـادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستـحقون بها الغضب من اللّه . كما: ١١٤٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، فـيـما أروي عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ فـالغضب علـى الغضب غضبه علـيهم فـيـما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبـيّ الذي أحدث اللّه إلـيهم. ١١٤٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفـيان عن أبـي بكير، عن عكرمة: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ قال: كُفْرٌ بعيسى وكفرٌ بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي بكير، عن عكرمة: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ قال: كفرهم بعيسى ومـحمد صلى اللّه عليه وسلم. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي بكير، عن عكرمة مثله. ١١٤٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي، قال: الناس يوم القـيامة علـى أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بـمـحمد صلـى اللّه علـيهما فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بـمـحمد، فبـاء بغضب علـى غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فبـاء بغضب. ١١٤٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَبـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ غضب اللّه علـيهم بكفرهم بـالإنـجيـل وبعيسى، وغضب علـيهم بكفرهم بـالقرآن وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١١٥٠ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فبَـاءُوا بِغَضَبٍ الـيهود بـما كان من تبديـلهم التوراة قبل خروج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، عَلَـى غَضَبٍ جحودهم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وكفرهم بـما جاء به. ١١٥١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: فَبَـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ يقول: غضب اللّه علـيهم بكفرهم بـالإنـجيـل وعيسى، ثم غضبه علـيهم بكفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـالقرآن. ١١٥٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَبـاءُوا بِغَضَبً علـى غَضَبٍ أما الغضب الأول: فهو حين غضب اللّه علـيهم فـي العجل، وأما الغضب الثانـي: فغضب علـيهم حين كفروا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١١٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبـيد بن عمير قوله: فَبَـاءُوا بِغَضَبٍ علـى غَضَبٍ قال: غضب اللّه علـيهم فـيـما كانوا فـيه من قبل خروج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من تبديـلهم وكفرهم، ثم غضب علـيهم فـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذ خرج فكفروا به. قال أبو جعفر: وقد بـينا معنى الغضب من اللّه علـى من غضب علـيه من خـلقه واختلاف الـمختلفـين فـي صفته فـيـما مضى من كتابنا هذا بـما أغنى عن إعادته، واللّه تعالـى أعلـم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وللْكافِرِينَ عَذَابَ مُهِين. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وللْكافِرِينَ عَذَاب مُهِين: وللـجاحدين نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الناس كلهم عذاب من اللّه إما فـي الاَخرة، وإما فـي الدنـيا والاَخرة مهين هو الـمذلّ صاحبه الـمخزي الـملبسه هوانا وذلة. فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه فـيكون للكافرين الـمهين منه؟ قـيـل: إن الـمهين هو الذي قد بـينا أنه الـمورث صاحبه ذلّةً وهوانا الذي يخـلد فـيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلـى عزّ وكرامة أبدا، وهو الذي خصّ اللّه به أهل الكفر به وبرسله وأما الذي هو غير مهين صاحبه: فهو ما كان تـمـحيصا لصاحبه، وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب علـيه به القطع فتُقطع يده، والزانـي منهم يزنـي فـيقام علـيه الـحدّ، وما أشبه ذلك من العذاب، والنكال الذي جعله اللّه كفـارات للذنوب التـي عذّب بها أهلها، وكأهل الكبـائر من أهل الإسلام الذين يعذّبون فـي الاَخرة بـمقادير أجرامهم التـي ارتكبوها لـيـمـحّصوا من ذنوبهم ثم يدخـلون الـجنة. فإن كل ذلك وإن كان عذابـا فغير مهين من عذّب به، إذ كان تعذيب اللّه إياه به لـيـمـحصه من آثامه ثم يورده معدن العزّ والكرامة ويخـلده فـي نعيـم الـجنان. ٩١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّه .......} يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإذَا قـيـل لهمْ وإذا قـيـل للـيهود من بنـي إسرائيـل للذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: آمِنُوا أي صدّقوا، بِـمَا أنْزَلَ اللّه يعنـي بـما أنزل اللّه من القرآن علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. قالُوا نُؤْمِنُ أي نصدّق، بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا يعنـي بـالتوراة التـي أنزلها اللّه علـى موسى. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ ويجحدون بـما وراءه، يعنـي بـما وراء التوراة. قال أبو جعفر: وتأويـل (وراءه) فـي هذا الـموضع (سوى) كما يقال للرجل الـمتكلـم بـالـحسن: ما وراء هذا الكلام شيء، يراد به لـيس عند الـمتكلـم به شيء سوى ذلك الكلام فكذلك معنى قوله: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ أي بـما سوى التوراة وبـما بعده من كتب اللّه التـي أنزلها إلـى رسله. كما: ١١٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَيَكُفُرُونَ بِـمَا وراءَهُ يقول: بـما بعده. ١١٥٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ أي بـما بعده، يعنـي بـما بعد التوراة. ١١٥٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ يقول: بـما بعده. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَهُوَ الـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وهُوَ الـحَقّ مُصدّقا أي ما وراء الكتاب الذي أنزل علـيهم من الكتب التـي أنزلها اللّه إلـى أنبـيائه الـحق. وإنـما يعنـي بذلك تعالـى ذكره القرآن الذي أنزله إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. كما: ١١٥٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإذَا قـيـل لهمْ آمِنُوا بِـمَا أنْزَلَ اللّه قالُوا نُؤْمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِـمَا وَرَاءَهُ وهو القرآن. يقول اللّه جل ثناؤه: وَهُوَ الـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ. وإنـما قال جل ثناؤه: مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ لأن كتب اللّه يصدّق بعضها بعضا ففـي الإنـجيـل والقرآن من الأمر بـاتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم والإيـمان به وبـما جاء به، مثل الذي من ذلك فـي توراة موسى علـيه السلام فلذلك قال جل ثناؤه للـيهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله علـى موسى صلوات اللّه علـيه من الكتب التـي أنزلها إلـى أنبـيائه: إنّهُ الـحَقّ مُصَدّقا للكتاب الذي معهم، يعنـي أنه له موافق فـيـما الـيهود به مكذّبون. قال: وذلك خبر من اللّه أنهم من التكذيب بـالتوراة علـى مثل الذي هم علـيه من التكذيب بـالإنـجيـل والفرقان، عنادا للّه وخلافـا لأمره وبغيا علـى رسله صلوات اللّه علـيهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قُلْ لـمَ تَقْتُلُونَ أنبـياءَ اللّه مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ. يعنـي جل ذكره بقوله: قُلْ فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِـيَاءَ اللّه : قل يا مـحمد لـيهود بنـي إسرائيـل الذين إذا قلت لهم: آمِنُوا بِـما أنْزَلَ اللّه قالُوا نُؤْمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا لِـمَ تَقْتُلُونَ إن كنتـم يا معشر الـيهود مؤمنـين بـما أنزل اللّه علـيكم أنْبِـياءهُ وقد حرّم اللّه فـي الكتاب الذي أنزل علـيكم قتلهم، بل أمركم فـيه بـاتبـاعهم وطاعتهم وتصديقهم. وذلك من اللّه جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: نُؤمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا وتعيـير لهم. كما: ١١٥٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: قال اللّه تعالـى ذكره وهو يعيرهم، يعنـي الـيهود: فلـم تَقْتُلُون أنبـياء اللّه من قبل إن كنتـم مؤمنـين. فإن قال قائل: وكيف قـيـل لهم: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياء اللّه مِنْ قَبْلُ فـابتدأ الـخبر علـى لفظ الـمستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى؟ قـيـل: إن أهل العربـية مختلفون فـي تأويـل ذلك، فقال بعض البصريـين: معنى ذلك: فلـم قتلتـم أنبـياء اللّه من قبل؟ كما قال جل ثناؤه: وَاتّبعُوا ما تَتْلُو الشّياطِين أي ما تلت، وكما قال الشاعر: ولقَدْ أمُرّ علـى اللّئِيـمِ يسُبّنِـيفمَضَيْتُ عَنْهُ وقُلْتُ لا يعنـينِـي يريد بقوله: (ولقد أمرّ): ولقد مررت. واستدلّ علـى أن ذلك كذلك بقوله: (فمضيت عنه)، ولـم يقل: (فأمضي عنه). وزعم أن (فعل ويفعل) قد تشترك فـي معنى واحد، واستشهد علـى ذلك بقول الشاعر: وإنّـي لاَتِـيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَىمِنَ الأمرِ واسْتِـيجابَ ما كانَ فِـي غَدِ يعنـي بذلك: ما يكون فـي غد. وبقول الـحطيئة: شَهِدَ الـخَطَيْئَةُ يَوْمَ يَـلْقَـى رَبّهُأنّ الوَلِـيدَ أحَقّ بـالعُذْرِ يعنـي: يشهد. وكما قال الاَخر: فَمَا أُضْحي وَلا أمْسَيْتُ إلاّأرَانِـي مِنْكُمُ فـي كَوّفـانٍ فقال: أضحي، ثم قال: ولا أمسيت. وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: إنـما قـيـل: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياءَ اللّه مِنْ قَبْلُ فخاطبهم بـالـمستقبل من الفعل ومعناه الـماضي، كما يعنف الرجلُ الرجل علـى ما سلف منه من فعل، فـيقول له: ويحك لـم تكذب ولـم تبغّض نفسك إلـى الناس؟ كما قال الشاعر: إذَا ما انْتَسَبْنا لَـمْ تَلِدنِـي لَئِيـمَةٌولَـمْ تَـجْدِي مِنْ أَنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا فـالـجزاء للـمستقبل، والولادة كلها قد مضت وذلك أن الـمعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله فـي الكلام إذا نظرت فـي سيرة عمر لـم تـجده يسيء، الـمعنى: لـم تـجده أساء، فلـما كان أمر عمر لا يشكّ فـي مضيه لـم يقع فـي الوهم أنه مستقبل، فلذلك صلـحت من قبل مع قوله: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـيَاءَ اللّه مِنْ قَبْلُ. قال: ولـيس الذين خوطبوا بـالقتل هم القتلة، إنـما قتلَ الأنبـياءَ أسلافُهم الذين مضوا، فتلوهم علـى ذلك ورضوا فنسب القتل إلـيهم. والصواب فـيه من القول عندنا أن اللّه خاطب الذين أدركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل، بـما خاطبهم فـي سورة البقرة وغيرها من سائر السور، بـما سلف من إحسانه إلـى أسلافهم، وبـما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم علـيه وعلـى أنبـيائه، وأضاف ذلك إلـى الـمخاطبـين به نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا وكذا، وفعلتـم بنا يوم كذا كذا وكذا، علـى نـحو ما قد بـيناه فـي غير موضع من كتابنا هذا يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياءَ اللّه مِنْ قَبْلُ إذ كان قد خرج علـى لفظ الـخبر عن الـمخاطبـين به خبرا من اللّه تعالـى ذكره عن فعل السالفـين منهم علـى نـحو الذي بـينا، جاز أن يقال من قبل إذْ كان معناه: قل فلـم يقتل أسلافكم أنبـياء اللّه من قبل؟ وكان معلوما بأن قوله: فَلِـمَ تَقْتُلُونَ أنْبِـياءَ اللّه مِنْ قَبْلُ إنـما هو خبر عن فعل سلفهم. وتأويـل قوله: مِنْ قَبْلُ أي من قبل الـيوم. أما قوله: إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ فإنه يعنـي إن كنتـم مؤمنـين بـما أنزل اللّه علـيكم كما زعمتـم. وإنـما عَنَى بذلك الـيهود الذين أدركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأسلافهم، إن كانوا وكنتـم كما تزعمون أيها الـيهود مؤمنـين. وإنـما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبـياءه عند قولهم حين قـيـل لهم: آمِنُوا بِـمَا أَنْزَلَ اللّه قالُوا نُؤمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا لأنهم كانوا لأوائلهم الذين تولوا قتل أنبـياء اللّه مع قـيـلهم: نُؤْمِنُ بِـمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنا متولّـين، وبفعلهم راضين، فقال لهم: إن كنتـم كما تزعمون مؤمنـين بـما أنزل علـيكم، فلـم تتولون قتله أنبـياء اللّه ؟ أي ترضون أفعالهم. ٩٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسَى بـالبَـيّناتِ أي جاءكم بـالبـينات الدالّة علـى صدقه وحقـية نبوّته كالعصا التـي تـحوّلت ثعبـانا مبـينا، ويده التـي أخرجها بـيضاء للناظرين، وفَلْق البحر، ومصير أرضه له طريقا يبسا، والـجراد والقمّل والضفـادع، وسائر الاَيات التـي بـينت صدقه وحقـية نبوّته. وإنـما سماها اللّه بـينات لتبـينها للناظرين إلـيها أنها معجزة لا يقدر علـى أن يأتـي بها بشر إلا بتسخير اللّه ذلك له، وإنـما هي جمع بـيّنة مثل طيبة وطيبـات. قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم يا معشر يهود بنـي إسرائيـل موسى بـالاَيات البـينات علـى أمره وصدقه وحقـية نبوّتهوقوله: ثُمّ اتّـخَذْتُـم العجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُـمْ ظالِـمُونَ يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتـخذتـم العجل من بعد موسى إلها، فـالهاء التـي في قوله: (من بعده) من ذكر موسى. وإنـما قال: (من بعد موسى)، لأنهم اتـخذوا العجل من بعد أن فـارقهم موسى ماضيا إلـى ربه لـموعده، علـى ما قد بـيّنا فـيـما مضى من كتابنا هذا. وقد يجوز أن تكون (الهاء) التـي فـي (بعده) إلـى ذكر الـمـجيء، فـيكون تأويـل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بـالبـينات ثم اتـخذتـم العجل من بعد مـجيء البـينات وأنتـم ظالـمون، كما تقول: جئتنـي فكرهته يعنـي كرهت مـجيئك. وأما قوله: وأنْتُـمْ ظالِـمُوهَ فإنه يعنـي بذلك أنكم فعلتـم ما فعلتـم من عبـادة العجل، ولـيس ذلك لكم وعبدتـم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لأن العبـادة لا تنبغي لغير اللّه . وهذا توبـيخ من اللّه للـيهود، وتعيـير منه لهم، وإخبـار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتـخاذ العجل إلها وهو لا يـملك لهم ضرّا ولا نفعا، بعد الذي علـموا أن ربهم هو الربّ الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه علـى يدي موسى صلوات اللّه علـيه من الأمول التـي لا يقدر علـيها أحد من خـلق اللّه ، ولـم يقدر علـيها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتبـاعه، وقرب عهدهم بـما عاينوا من عجائب حكم اللّه فهم إلـى تكذيب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وجحوده ما فـي كتبهم التـي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بـينهم وبـين عهد موسى من الـمدة أسرع، وإلـى التكذيب بـما جاءهم به موسى من ذلك أقرب. ٩٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ ...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ: واذكروا إذ أخذنا عهودكم بأن خذوا ما آتـيناكم من التوراة التـي أنزلتها إلـيكم أن تعملوا بـما فـيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم فـيها بجدّ منكم فـي ذلك ونشاط، فأعطَيْتُـمْ علـى العمل بذلك ميثاقكم، إذْ رفعنا فوقكم الـجبل. أما قوله: وَاسْمَعُوا فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به، وتقبلوه بـالطاعة كقول الرجل للرجل يأمره بـالأمر: سمعت وأطعت، يعنـي بذلك: سمعت قولك وأطعت أمرك. كما قال الراجز: السّمْعُ والطّاعَةُ والتّسْلِـيـمُخَيْرٌ وأعْفَـى لِبَنِـي تَـمِيـمْ يعنـي بقوله السمع: قبول ما يسمع والطاعة لـما يؤمر. فكذلك معنى قوله: وَاسْمَعُوا اقبلوا ما سمعتـم واعملوا به. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتـيناكم بقوّة، واعملوا بـما سمعتـم، وأطيعوا اللّه ، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك. وأما قوله: قالُوا سَمِعْنا فإن الكلام خرج مخرج الـخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بـالـخطاب، فإن ذلك كما وصفنا من أن ابتداء الكلام إذا كان حكاية فـالعرب تـخاطب فـيه ثم تعود فـيه إلـى الـخبر عن الغائب وتـخبر عن الغائب ثم تـخاطب كما بـينا ذلك فـيـما مضى قبل. فكذلك ذلك فـي هذه الآية لأن قوله: وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ بـمعنى: قلنا لكم فأجبتـموناوأما قوله: قالُوا سَمِعْنا فإنه خبر من اللّه عن الـيهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بـما فـي التوراة وأن يطيعوا اللّه فـيـما يسمعون منها أنهم قالوا حين قـيـل لهم ذلك: سمعنا قولك وعصينا أمرك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهُمُ العِجْلَ بكُفْرِهِمْ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: وأشربوا فـي قلوبهم حبّ العجل. ذكر من قال ذلك: ١١٥٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهمُ العِجْلَ قال: أشربوا حبه حتـى خـلص ذلك إلـى قلوبهم. ١١٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ قال: أشربوا حبّ العجل بكفرهم. ١١٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر عن أبـيه، عن الربـيع: وَأُشْرِبُوا فـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ قال: أشربوا حبّ العجل فـي قلوبهم. وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الـماء الذي ذُرّي فـيه سحالة العجل. ذكر من قال ذلك. ١١٦٢ـ حدثنـي موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لـما رجع موسى إلـى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفـين علـيه فذبحه، ثم حَرَقَه بـالـمبرد، ثم ذراه فـي الـيـمّ، فلـم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فـيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا منه، فمن كان يحبه خرج علـى شاربه الذهب فذلك حين يقول اللّه عز وجل: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. ١١٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: لـما سُحِل فألقـي فـي الـيـمّ استقبلوا جرية الـماء، فشربوا حتـى ملئوا بطونهم، فأورث ذلك من فعله منهم جُبْنا. قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين اللذين ذكرت بقول اللّه جل ثناؤه: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ تأويـل من قال: وأشربوا فـي قلوبهم حبّ العجل لأن الـماء لا يقال منه: أشرب فلان فـي قلبه، وإنـما يقال ذلك فـي حبّ الشيء، فـيقال منه: أشرب قلب فلان حبّ كذا، بـمعنى سقـي ذلك حتـى غلب علـيه وخالط قلبه كما قال زهير: فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبّ داخِـلٍوالـحُبّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ قال: ولكنه ترك ذكر الـحبّ اكتفـاءً بفهم السامع لـمعنى الكلام، إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه: وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتـي كانَتْ حاضرَةَ البَحْرِ وَاسْألِ القَرْيَةَ الّتِـي كُنّا فِـيهَا وَالْعِيرَ الّتِـي أقْبَلْنَا فِـيهَا، وكما قال الشاعر: ألا إنّنـي سُقّـيتُ أسودَ حالِكاأَلاَ بَجَلـي مِنَ الشّرَابِ أَلا بَجَلْ يعنـي بذلك سَمّا أسود، فـاكتفـى بذكر أسود عن ذكر السم لـمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: (سُقـيت أسود)، ويروى: ألا إنّنـي سُقِـيتُ أسْوَدَ سالـخا وقد تقول العرب: إذا سرّك أن تنظر إلـى السخاء فـانظر إلـى هَرِم أو إلـى حاتـم، فتـجتزىء بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفـا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفـات. ومنه قول الشاعر: يَقُولُونَ جاهِدْ يا جَمِيـلُ بِغَزْوَةٍوَإنّ جِهادا طَيّءٌ وَقِتالُهَا القول فـي تأويـل قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يأْمُرُكُمْ بِهِ إيـمانُكُمْ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لـيهود بنـي إسرائيـل: بئس الشيء يأمركم به إيـمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبـياء اللّه ورسله، والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده. ومعنى إيـمانهم تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدّقون من كتاب اللّه ، إذ قـيـل لهم: آمنوا بـما أنزل اللّه ، فقالوا: نؤمن بـما أنزل علـينا. وقوله: إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ أي إن كنتـم مصدقـين كما زعمتـم بـما أنزل اللّه علـيكم. وإنـما كذّبهم اللّه بذلك لأن التوراة تنهي عن ذلك كله وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بـالتوراة إن كان يأمرهم بذلك فبئس الأمر تأمر به. وإنـما ذلك نفـي من اللّه تعالـى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مـما يكرهه اللّه من أفعالهم، وأن يكون التصديق بها يدلّ علـى شيء من مخالفة أمر اللّه ، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم علـيه البغيُ والعدوانُ. ٩٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِندَ اللّه خَالِصَةً مّن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال أبو جعفر: وهذه الآية مـما احتـجّ اللّه بها لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجره، وفضح بها أحبـارهم وعلـماءهم. وذلك أن اللّه جل ثناؤه أمر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعوهم إلـى قضية عادلة بـينه وبـينهم فـيـما كان بـينه وبـينهم من الـخلاف، كما أمره اللّه أن يدعو الفريق الاَخر من النصارى إذ خالفوه فـي عيسى صلوات اللّه علـيه وجادلوا فـيه إلـى فـاصلة بـينه وبـينهم من الـمبـاهلة وقال لفريق الـيهود: إن كنتـم مـحقـين فتـمنوا الـموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتـم مـحقـين فـيـما تدّعون من الإيـمان وقرب الـمنزلة من اللّه ، بل إن أعطيتـم أمنـيتكم من الـموت إذا تـمنـيتـم فإنـما تصيرون إلـى الراحة من تعب الدنـيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار اللّه فـي جنانه، إن كان الأمر كما تزعمون أن الدار الاَخرة لكم خالصة دوننا. وإن لـم تُعْطَوْها علـم الناس أنكم الـمبطلون ونـحن الـمـحقون فـي دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فـامتنعت الـيهود من إجابة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلـى ذلك لعلـمها أنها إن تـمنت الـموت هلكت فذهبت دنـياها وصارت إلـى خزي الأبد فـي آخرتها. كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي عيسى إذ دُعوا إلـى الـمبـاهلة من الـمبـاهلة فبلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لَوْ أنّ الـيَهُودَ تَـمَنّوُا الـمَوْتَ لَـمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقاعِدَهُمْ مِنَ النّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الّذِينَ يُبَـاهِلُونَ رَسُولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لَرَجَعُوا لا يَجِدُونَ أَهْلاً وَلا مالاً). ١١٦٤ـ حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا أبو زكريا بن عديّ، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عمرو، عن عبد الكريـم، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ١١٦٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، عن الأعمش، عن ابن عبـاس في قوله: فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ قال: لو تـمنوا الـموت لشرق أحدهم بريقه. ١١٦٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريـم الـجزري، عن عكرمة في قوله: فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ قال: قال ابن عبـاس : لو تـمنى الـيهود الـموت لـماتوا. حدثنـي موسى، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، عن ابن عبـاس ، مثله. ١١٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، قال أبو جعفر فـيـما أروي: أنبأنا عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عبـاس قال: لو تـمنوه يوم قال لهم ذلك، ما بقـي علـى ظهر الأرض يهودي إلا مات. قال أبو جعفر: فـانكشف، لـمن كان مشكلاً علـيه أمر الـيهود يومئذ، كذبهم وبَهْتهم وبغيهم علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وظهرت حجة رسول اللّه وحجة أصحابه علـيهم، ولـم تزل والـحمد للّه ظاهرة علـيهم وعلـى غيرهم من سائر أهل الـملل. وإنـما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم: فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ لأنهم فـيـما ذكر لنا قالُوا نَـحْنُ أبْناءُ اللّه وأحبّـاؤهُ و قالوا: لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى فقال اللّه لنبـيّه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم إن كنتـم صادقـين فـيـما تزعمون فتـمنوا الـموت فأبـان اللّه كذبهم بـامتناعهم من تـمنـي ذلك، وأفلـج حجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقد اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو الـيهود أن يتـمنوا الـموت، وعلـى أي وجه أمروا أن يتـمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتـمنوه علـى وجه الدعاء علـى الفريق الكاذب منهما. ذكر من قال ذلك: ١١٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال اللّه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَة عندَ اللّه خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَـمَنّوا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ أي ادعوا بـالـموت علـى أي الفريقـين أكذب. وقال آخرون بـما: ١١٦٩ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّه خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ وذلك أنهم قالُوا لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصارى وَ قالُوا: نـحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّـاؤُهُ فقـيـل لهم: فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ. ١١٧٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: قالت الـيهود: لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أوْ نَصَارَى وَ قالُوا: نَـحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّـاؤُهُ فقال اللّه : قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّه خَالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فلـم يفعلوا. ١١٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنـي أبو جعفر، عن الربـيع قوله: قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ عِنْدَ اللّه خَالِصَةً الآية، وذلك بأنهم قالُوا لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى و قالُوا: نَـحْنُ أَبْناءُ اللّه وأحِبـاؤُهُ. وأما تأويـل قوله: قلْ إنْ كانَت لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةِ عِنْدَ اللّه خَالِصَةً فإنه يقول: قل يا مـحمد إن كان نعيـم الدار الاَخرة ولذاتها لكم يا معشر الـيهود عند اللّه . فـاكتفـى بذكر (الدار) من ذكر نعيـمها لـمعرفة الـمخاطبـين بـالآية معناها. وقد بـينا معنى الدار الاَخرة فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأما تأويـل قوله: خالِصَةً فإنه يعنـي به صافـية، كما يقال: خـلص لـي فلان بـمعنى صار لـي وحدي وصَفَـا لـي يقال: منه خـلص لـي هذا الشيء، فهو يخـلص خُـلُوصا وخالصة، والـخالصة مصدر مثل العافـية، ويقال للرجل: هذا خُـلْصانـي، يعنـي خالصتـي من دون أصحابـي. وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه كان يتأول قوله: خالِصَةً خاصة، وذلك تأويـل قريب من معنى التأويـل الذي قلناه فـي ذلك. ١١٧٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس : قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ قال: قل يا مـحمد لهم يعنـي الـيهود إن كانت لكم الدار الاَخرة يعنـي الـخير عِنْدَ اللّه خَالِصَةً يقول: خاصة لكم. وأما قوله: مِنْ دُونِ النّاسِ فإن الذي يدل علـيه ظاهر التنزيـل أنهم قالوا: لنا الدار الاَخرة عند اللّه خالصة من دون جميع الناس. ويبـين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بنـي آدم إخبـارُ اللّه عنهم أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى. إلا أنه رُوي عن ابن عبـاس قول غير ذلك. ١١٧٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : مِنْ دُونِ النّاسِ يقول: من دون مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتـم بهم، وزعمتـم أن الـحق فـي أيديكم، وأن الدار الاَخرة لكم دونهم. وأما قوله: فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ فإن تأويـله: تشهّوه وأَرِيدُوه. وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه قال فـي تأويـله: (فسلوا الـموت). ولا يعرف التـمنـي بـمعنى الـمسألة فـي كلام العرب، ولكن أحسب أن ابن عبـاس وجه معنى الأمنـية إذا كانت مـحبة النفس وشهوتها إلـى معنى الرغبة والـمسألة، إذ كانت الـمسألة هي رغبة السائل إلـى اللّه فـيـما سأله. ١١٧٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس : فَتَـمَنّوُ الـمَوْتَ فسلوا الـموت إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ. ٩٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظّالِمينَ } وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن الـيهود وكراهتهم الـموت وامتناعهم عن الإجابة إلـى ما دعوا إلـيه من تـمنـي الـموت، لعلـمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فـالوعيد بهم نازل والـموت بهم حالّ، ولـمعرفتهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم أنه رسول من اللّه إلـيهم مرسل وهم به مكذّبون، وأنه لـم يخبرهم خبرا إلا كان حقّا كما أخبر، فهم يحذرون أن يتـمنوا الـموت خوفـا أن يحلّ بهم عقاب اللّه بـما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي: ١١٧٥ـ حدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد فـيـما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الاَخِرَةُ الآية، أي ادعوا بـالـموت علـى أي الفريقـين أكذب، فَأبَوْا ذلك علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. يقول اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: وَلَنْ يَتَـمَنّوْهُ أَبَدا بِـمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ أي لعلـمهم بـما عندهم من العلـم بك والكفر بذلك. ١١٧٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك عن ابن عبـاس : وَلَنْ يَتَـمَنّوْهُ أبَدا يقول: يا مـحمد ولن يتـمنوه أبدا لأنهم يعلـمون أنهم كاذبون، ولو كانوا صادقـين لتـمنوه ورغبوا فـي التعجيـل إلـى كرامتـي، فلـيس يتـمنونه أبدا بـما قدمت أيديهم. ١١٧٧ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: فَتَـمَنّوُا الـمَوْتَ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ وكانت الـيهود أشدّ فرارا من الـموت، ولـم يكونوا لـيتـمنوه أبدا. وأما قوله: بِـمَا قَدَمَتْ أيْدِيهِمْ فإنه يعنـي به بـما أسلفته أيديهم. وإنـما ذلك مثل علـى نـحو ما تتـمثل به العرب فـي كلامها، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرّها أو جناية جناها فـيعاقب علـيها: نالك هذا بـما جنت يداك، وبـما كسبت يداك، وبـما قدمت يداك فتضيف ذلك إلـى الـيد، ولعلّ الـجناية التـي جناها فـاستـحقّ علـيها العقوبة كانت بـاللسان أو بـالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى الـيد. قال: وإنـما قـيـل ذلك بإضافته إلـى الـيد لأن عظم جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام بـاستعمال إضافة الـجنايات التـي يجنـيها الناس إلـى أيديهم حتـى أضيف كل ما عوقب علـيه الإنسان مـما جناه بسائر أعضاء جسده إلـى أنها عقوبة علـى ما جنته يده فلذلك قال جل ثناؤه للعرب: ولَنْ يَتَـمَنّوْهُ أبَدا بِـمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ يعنـي به: ولن يتـمنى الـيهود الـموت بـما قدموا أمامهم من حياتهم من كفرهم بـاللّه فـي مخالفتهم أمره وطاعته فـي اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من عند اللّه ، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة، ويعلـمون أنه نبـيّ مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت علـيه قلوبهم وأضمرته أنفسهم ونطقت به ألسنتهم من حسد مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، والبغي علـيه، وتكذيبه، وجحود رسالته إلـى أيديهم، وأنه مـما قدمته أيديهم، لَعَلِـمَ العرب معنى ذلك فـي منطقها وكلامها، إذ كان جل ثناؤه إنـما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما: ١١٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : بِـمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ يقول: بـما أسلفت أيديهم. ١١٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: بِـمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ قال: إنهم عرفوا أن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم نبـيّ فكتـموه. وأما قوله: واللّه عَلِـيـم بـالظالِـمِينَ فإنه يعنـي جل ثناؤه: واللّه ذو علـم بظَلَـمَةِ بنـي آدم: يهودِها ونصاراها وسائر أهل الـملل غيرها، وما يعملون. وظلـم الـيهود كفرهم بـاللّه فـي خلافهم أمره وطاعته فـي اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد أن كانوا يستفتـحون به وبـمبعثه، وجحودهم نبوّته وهم عالـمون أنه نبـيّ اللّه ورسوله إلـيهم. وقد دللنا علـى معنى الظالـم فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. ٩٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ ...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَتَـجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ علـى حَياةٍ الـيهود يقول: يا مـحمد لتـجدن أشدّ الناس حرصا علـى الـحياة فـي الدنـيا وأشدّهم كراهة للـموت الـيهود. كما: ١١٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد فـيـما يروي أبو جعفر عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وَلَتَـجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ علـى حَياةٍ يعنـي الـيهود. ١١٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن أبـي العالـية: وَلَتَـجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ علـى حَياةٍ يعنـي الـيهود. ١١٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ١١٨٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. وإنـما كراهتهم الـموت لعلـمهم بـما لهم فـي الاَخرة من الـخزي والهوان الطويـل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا وأحرص من الذين أشركوا علـى الـحياة، كما يقال: هو أشجع الناس ومن عنترة، بـمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة، فكذلك قوله: وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا لأن معنى الكلام: ولتـجدنّ يا مـحمد الـيهود من بنـي إسرائيـل أحرص الناس علـى حياة ومن الذين أشركوا. فلـما أضيف (أحرص) إلـى (الناس)، وفـيه تأويـل (من) أظهرت بعد حرف العطف ردّا علـى التأويـل الذي ذكرناه. وإنـما وصف اللّه جل ثناؤه الـيهود بأنهم أحرص الناس علـى الـحياة لعلـمهم بـما قد أعدّ لهم فـي الاَخرة علـى كفرهم بـما لا يقرّ به أهل الشرك، فهم للـموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بـالبعث لأنهم يؤمنون بـالبعث، ويعلـمون ما لهم هنالك من العذاب، وأن الـمشركين لا يصدّقون بـالبعث، ولا العقاب. فـالـيهود أحرص منهم علـى الـحياة وأكره للـموت. وقـيـل: إن الذين أشركوا الذين أخبر اللّه تعالـى ذكره أن الـيهود أحرص منهم فـي هذه الآية علـى الـحياة هم الـمـجوس الذين لا يصدّقون بـالبعث. ذكر من قال هم الـمـجوس: ١١٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ يعنـي الـمـجوس. ١١٨٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ قال: الـمـجوس. ١١٨٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنـي ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا قال: يهود أحرص من هؤلاء علـى الـحياة. ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث: ١١٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد فـيـما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وَلَتَـجِدنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ علـى حَياةٍ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا وذلك أن الـمشرك لا يرجو بعثا بعد الـموت فهو يحبّ طول الـحياة، وأن الـيهودي قد عرف ما له فـي الاَخرة من الـخزي بـما ضيع مـما عنده من العلـم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ. هذا خبر من اللّه جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا، الذين أخبر أن الـيهود أحرص منهم علـى الـحياة، يقول جل ثناؤه: يودّ أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا بعد فناء دنـياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو مـحيا أو فرح أو سرور لو يعمر ألف سنة حتـى جعل بعضهم تـحية بعض عشرة آلاف عام حِرْصا منهم علـى الـحياة. كما: ١١٨٨ـ حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق، قال: سمعت أبـي علـيا، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس في قوله: يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ قال: هو قول الأعاجم سأل زه نوروز مهرجان حر. ١١٨٩ـ وحدثت عن نعيـم النـحوي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير: يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: زه هزارسال. ١١٩٠ـ حدثنا إبراهيـم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية، عن ابن أبـي نـجيح عن قتادة في قوله: يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ قال: حُببت إلـيهم الـخطيئة طول العمر. حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنـي ابن معبد، عن ابن علـية، عن ابن أبـي نـجيح في قوله: يَوَدّ أحَدُهُمْ فذكر مثله. ١١٩١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وَلَتَـجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ علـى حَياةٍ حتـى بلغ: لَوْ يُعَمّرُ ألْف سَنَةٍ يهود أحرص من هؤلاء علـى الـحياة، وقد ودّ هؤلاء لو يعمّر أحدهم ألف سنة. ١١٩٢ـ وحدثت عن أبـي معاوية، عن الأعمش، عن سعيد، عن ابن عبـاس في قوله: يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ قال: هو قول أحدهم إذا عطس زه هزار سال، يقول: عشرة آلاف سنة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ وما التعمير وهو طول البقاء بـمُزَحْزِحه من عذاب اللّه وقوله: هُوَ عماد لطلب (ما) الاسم أكثر من طلبها الفعل، كما قال الشاعر: فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِـمَا هَهُنَا رأسُ و(أن) التـي فـي: أنْ يُعَمّرَ رفع بـمزحزحه، أو هو الذي مع (ما) تكرير عماد للفعل لاستقبـاح العرب النكرة قبل الـمعرفة. وقد قال بعضهم إن (هو) الذي مع (ما) كناية ذكر العمر، كأنه قال: يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بـمزحزحه من العذاب. وجعل (أن يعمر) مترجما عن (هو)، يريد: ما هو بـمزحزحه التعمير. وقال بعضهم: قوله: وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ نظير قولك: ما زيد بـمزحزحه أن يعمر. وأقرب هذه الأقوال عندنا إلـى الصواب ما قلنا، وهو أن يكون هو عمادا نظير قولك: ما هو قائم عمرو. وقد قال قوم من أهل التأويـل: إن (أن) التـي في قوله: (أن يعمر) بـمعنى: وإن عمّر، وذلك قول لـمعانـي كلام العرب الـمعروف مخالف. ذكر من قال ذلك: ١١٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع عن أبـي العالـية: ومَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ يقول: وإن عمر. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع مثله. ١١٩٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أن يعمر ولو عمر. وأما تأويـل قوله: بِـمُزَحْزِحِهِ فإنه بـمبعده ومُنَـحّيه، كما قال الـحُطَيئة: وقالُوا تَزَحْزَحْ ما بِنا فَضْلُ حاجَةٍإلَـيْكَ وَما مِنّا لِوَهْيِكَ رَاقِعُ يعنـي بقوله تزحزح: تبـاعد، يقال منه: زحزحه يزحزحه زحزحةً وزِحزاحا، وهو عنك متزحزح: أي متبـاعد. فتأويـل الآية: وما طول العمر بـمبعده من عذاب اللّه ولا منـحيه منه لأنه لا بد للعمر من الفناء ومصيره إلـى اللّه . كما: ١١٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد فـيـما أُري، عن سعيد بن جبـير، أو عن عكرمة، عن ابن عبـاس : وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ أي ما هو بـمنـحّيه من العذاب. ١١٩٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ يقول: وإن عمر، فما ذاك بـمغيثه من العذاب ولا منـجّيه. حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ١١٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ فهم الذين عادوا جبريـل علـيه السلام. ١١٩٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِـمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ ويهود أحرص علـى الـحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، ولـيس ذلك بـمزحزحه من العذاب لو عُمّر كما عُمّر إبلـيس لـم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا ولـم يزحزحه ذلك عن العذاب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: واللّه بَصِير بِـمَا يَعْمَلُونَ يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَاللّه بَصِير بِـمَا يَعْمَلُونَ واللّه ذو إبصار بـما يعملون، لا يخفـى علـيه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها مـحيط ولها حافظ ذاكر حتـى يذيقهم بها العقاب جزاءها. وأصل بصير مبصر من قول القائل: أبصرت فأنا مبصر ولكن صرف إلـى فعيـل، كما صرف مسمع إلـى سميع، وعذاب مؤلـم إلـى ألـيـم، ومبدع السموات إلـى بديع، وما أشبه ذلك. ٩٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لّجِبْرِيلَ ...} أجمع أهل العلـم بـالتأويـل جميعا علـى أن هذه الآية نزلت جوابـا للـيهود من بنـي إسرائيـل، إذْ زعموا أن جبريـل عدوّ لهم، وأن ميكائيـل ولـيّ لهم. ثم اختلفوا فـي السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنـما كان سبب قـيـلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بـينهم وبـين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي أمر نبوّته ذكر من قال ذلك: ١١٩٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس، عن بكير، عن عبد الـحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عبـاس أنه قال: حضرت عصابة من الـيهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا أبـا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا يعلـمهن إلا نبـيّ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سَلُوا عَمّا شِئْتُـمْ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِـي ذِمّةَ اللّه وَمَا أخَذَ يَعْقُوبُ علـى بَنِـيهِ لَئِنْ أنا حَدّثْتُكُمْ شَيْئا فَعَرَفْتُـمُوهُ لَتُتابِعُنّـي علـى الإسْلامِ). فقالوا: ذلك لك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سَلُونِـي عَمّا شِئْتُـمْ) فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيـل علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء الـمرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبـيّ الأميّ فـي النوم ومَنْ ولـيه من الـملائكة؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (عَلَـيْكُمْ عَهْدُ اللّه لَئِنْ أنا أنْبَأْتُكُمْ لَتُتابعُنّـي). فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، فقال: (نَشَدْتُكُمْ بـالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ علـى مُوسَى هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّ إسْرَائِيـلَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا فَطالَ سَقَمُه مِنْه، فَنَذَرَ نَذْرا لَئِنْ عافـاه اللّه مِنْ سَقَمِهِ لَـيُحَرّمَنّ أحَبّ الطّعامِ والشرَابِ إلَـيْهِ وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَـيْهِ لَـحْمُ الإبِلِ؟) قال أبو جعفر: فـيـما أُري: (وأحَبّ الشّرَابِ إلَـيْهِ ألْبـانها) فقالوا: اللّه م نعم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أشْهِد اللّه عَلَـيْكُمْ وأنْشُدُكُمْ بِـاللّه الّذِي لا إلَه إلاّ هُوَ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ علـى مُوسَى، هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّ ماءَ الرّجُلِ أبْـيَضُ غَلِـيظٌ، وأنّ مَاءَ الـمَرأةِ أصْفَرُ رَقِـيقٌ، فَأيّهُما عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشّبَهُ بإذْنِ اللّه ، فَـاذَا عَلاَ مَاءُ الرّجُلِ مَاءَ الـمَرْأَةِ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرا بِـاذْنِ اللّه وَإِذَا عَلاَ مَاءُ الْـمَرَأَةِ مَاءَ الرّجُلِ كَانَ الْوَلَدُ أُنْثَى بِـاذْنِ اللّه ؟). قالوا: اللّه م نعم قال: (اللّه مّ اشْهَدْ) قال: (وَأنْشُدُكُمْ بـالّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ علـى مُوسَى، هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّ هَذَا النّبِـيّ أُلاميّ تَنامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنامُ قَلْبُهُ؟). قالوا: اللّه م نعم قال: (اللّه مّ أشهَدْ). قالوا: أنت الاَن تـحدثنا مَنْ ولـيك من الـملائكة؟ فعندها نتابعك أو نفـارقك قال: (فَـانّ وَلِـيّـي جبريـل، وَلَـمْ يَبْعَثِ اللّه نَبِـيّا قَطّ إِلاّ وَهُوَ وَلِـيّهُ). قالوا: فعندها نفـارقك، لو كان ولـيك سواه من الـملائكة تابعناك وصدقناك قال: (فَمَا يَـمْنَعُكُمْ أنْ تُصَدّقُوهُ؟) قالوا: إنه عدوّنا. فأنزل اللّه عزّ وجل: مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ علـى قَلْبِكَ بِـاذْنِ اللّه إلـى قوله: كأنّهُمْ لا يَعْلَـمُونَ. فعندها بـاءوا بغضب علـى غضب. ١٢٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبـي الـحسين، يعنـي الـمكي، عن شهر بن حوشب الأشعري، أن نفرا من الـيهود جاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا مـحمد أخبرنا عن أربع نسألك عنهن فإن فعلت اتبعناك وصدّقناك وآمنا بك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (عَلَـيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّه وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أنا أخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لَتُصَدّقُنّـي) قالوا: نعم قال: (فـاسألُوا عَمّا بَدَا لَكُمْ). فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنـما النطفة من الرجل؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أَنْشُدُكُمْ بِـاللّه وَبِءَايّامِهِ عِنْدَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّ نُطْفَةَ الرّجُلِ بَـيْضَاءُ غَلِـيظَةٌ، وَنُطْفَةَ الـمَرأةِ صَفْرَاءُ رَقِـيقَةٌ، فَأيّهُمَا غَلَبَتْ صَاحِبَتها كانَ لَهَا الشّبَهُ؟) قالوا: نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: (أنْشُدُكُمْ بِـاللّه وَبِأيّامِهِ عِنْدَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ، هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّ هَذَا النّبِـيّ الأميّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ؟) قالوا: اللّه م نعم قال: (اللّه مّ اشْهَدْ) قالوا: أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيـل علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال: (هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّهُ كَانَ أحَبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَـيْهِ ألْبـانُ الإبِلِ ولُـحُومِهَا، وأنّهُ اشْتَكَى شَكْوَى فَعافَـاهُ اللّه مِنْهَا، فَحَرّمَ أحَبّ الطّعامِ وَالشّرَابِ إلَـيْهِ شُكْرا للّه فَحَرّمَ علـى نَفْسِهِ لُـحُومَ الإبِلِ وألْبَـانِهَا؟) قالوا: اللّه م نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح قال: (أنْشَدُكُمْ بـاللّه وبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ، هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّهُ جبريـل وَهُوَ الّذِي يأتِـينِـي؟) قالوا: نعم، ولكنه لنا عدوّ، وهو مَلَك إنـما يأتـي بـالشدّة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل اللّه فـيهم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ علـى قَلْبِكَ إلـى قوله: كأنّهُمْ لاَ يَعْلَـمُونَ. ١٢٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثنـي القاسم بن أبـي بزة: أن يهود سألوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مَنْ صاحبه الذي ينزل علـيه بـالوحي، فقال: (جبريـل). قالوا: فإنه لنا عدوّ ولا يأتـي إلا بـالـحرب والشدة والقتال. فَنَزَلَ: مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل الآية. قال ابن جريج: وقال مـجاهد: قالت يهود: يا مـحمد ما ينزل جبريـل إلا بشدة وحرب، و قالوا: إنه لنا عدوّ فنزل: مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل الآية. وقال آخرون: بل كان سبب قـيـلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بـين عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه وبـينهم فـي أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ١٢٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ربعي بن علـية، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي، قال: نزل عمر الرّوْحَاء، فرأى رجالاً يبتدرون أحجارا يصلّون إلـيها، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلـى ههنا. فكره ذلك وقال: إنـما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أدركته الصلاة بوادٍ فصلـى ثم ارتـحل فتركه. ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد الـيهود يوم مِدْرَاسهم فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة، فبـينـما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الـخطاب ما من أصحابك أحد أحبّ إلـينا منك قلت: ولـم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتـينا قال: قلت إنـي آتـيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدّق التوراة ومن التوراة كيف تصدّق الفرقان قال: ومَرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا ابن الـخطاب ذاك صاحبكم فـالـحق به قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بـاللّه الذي لا إلَه إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلـمون أنه رسول اللّه ؟ قال: فسكتوا قال: فقال عالـمهم وكبـيرهم: إنه قد عظّم علـيكم فأجيبوه قالوا: أنت عالـمنا وسيدنا فأجبه أنت قال: أما إذْ أنشدتنا به، فإنا نعلـم أنه رسول اللّه قال: قلت: ويحكم إذا هلكتـم. قالوا: إنا لـم نهلك قال: قلت: كيف ذاك وأنتـم تعلـمون أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم لا تتبعونه، ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدوّا من الـملائكة وسِلْـما من الـملائكة، وإنه قُرِنَ به عدوّنا من الـملائكة قال: قلت: ومن عدوّكم ومن سِلْـمُكم؟ قالوا: عدوّنا جبريـل وسلـمنا ميكائيـل قال: قلت: وفـيـم عاديتـم جبريـل وفـيـم سالـمتـم ميكائيـل؟ قالوا: إن جبريـل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونـحو هذا، وإن ميكائيـل ملك الرأفة والرحمة والتـخفـيف ونـحو هذا قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يـمينه والاَخر عن يساره، قال: قلت: فواللّه الذي لا إلَه إلا هو إنهما والذي بـينهما لعدوّ لـمن عاداهما وسلـم لـمن سالـمهما، ما ينبغي لـجبريـل أن يسالـم عدوّ ميكائيـل، ولا لـميكائيـل أن يسالـم عدوّ جبريـل قال: ثم قمت فـاتبعت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلـحقته وهو خارج من مَخْرَفة لبنـي فلان فقال لـي: (يَا ابْنَ الـخَطّابِ أَلاَ أُقْرِئُكَ آياتٍ نَزَلْنَ؟) فقرأ علـي: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ عَلـى قَلْبِكَ بِـاذْنِ اللّه مُصَدّقا لَـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ حتـى قرأ الاَيات قال: قلت: بأبـي أنت وأمي يا رسول اللّه والذي بعثك بـالـحقّ لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الـخبر فأسمع اللطيف الـخبـير قد سبقنـي إلـيك بـالـخبر. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، عن الشعبـي، قال: قال عمر: كنت رجلاً أغشى الـيهود فـي يوم مدراسهم ثم ذكر نـحو حديث ربعي. ١٢٠٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الـخطاب انطلق ذات يوم إلـى الـيهود، فلـما أبصروه رحّبوا به، فقال لهم عمر: أما واللّه ما جئت لـحبكم ولا للرغبة فـيكم، ولكن جئت لأسمع منكم فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريـل. فقالوا: ذاك عدوّنا من أهل السماء يُطْلع مـحمدا علـى سرّنا، وإذا جاء جاء بـالـحرب والسّنَةِ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيـل، وكان إذا جاء جاء بـالـخصب وبـالسلـم، فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريـل وتنكرون مـحمدا ففـارقهم عمر عند ذلك وتوجه نـحو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـيحدّثه حديثهم، فوجده قد أُنزل علـيه هذه الآية: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فإنّهُ نَزّلَهُ علـى قَلْبِكَ بإذْنِ اللّه . حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر عن قتادة، قال: بلغنا أن عمر بن الـخطاب أقبل علـى الـيهود يوما فذكر نـحوه. ١٢٠٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل قال: قالت الـيهود: إن جبريـل هو عدوّنا لأنه ينزل بـالشدّة والـحرب والسنة، وإن ميكائيـل ينزل بـالرخاء والعافـية والـخصب، فجبريـل عدوّنا. فقال اللّه جل ثناؤه: مَنْ كَانَ عَدُوّا لـجبريـل. ١٢٠٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ عَلَـى قَلْبِكَ بِـاذْنِ اللّه مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ قال: كان لعمر بن الـخطاب أرض بأعلـى الـمدينة، فكان يأتـيها، وكان مـمرّه علـى طريق مدراس الـيهود، وكان كلـما دخـل علـيهم سمع منهم. وإنه دخـل علـيهم ذات يوم، فقالوا: يا عمر ما فـي أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أحد أحبّ إلـينا منك إنهم يـمرّون بنا فـيؤذوننا، وتـمرّ بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فـيك. فقال لهم عمر: أي يـمين فـيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة علـى موسى بطورسيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بـالرحمن الذي أنزل التوراة علـى موسى بطورسيناء، أتـجدون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم عندكم؟ فـاسكتوا. فقال: تكلـموا ما شأنكم؟ فواللّه ما سألتكم وأنا شاكّ فـي شيء من دينـي فنظر بعضهم إلـى بعض، فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل لتـخْبِرُنّه أو لأخبرنّه قالوا: نعم، إنا نـجده مكتوبـا عندنا ولكن صاحبه من الـملائكة الذي يأتـيه بـالوحي هو جبريـل وجبريـل عدوّنا، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف، ولو أنه كان ولـيه ميكائيـل إذا لاَمنا به، فإن ميكائيـل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بـالرحمن الذي أنزل التوراة علـى موسى بطورسيناء، أين مكان جبريـل من اللّه ؟ قالوا: جبريـل عن يـمينه، وميكائيـل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدوّ للذي عن يـمينه عدوّ للذي هو عن يساره، والذي هو عدوّ للذي هو عن يساره عدوّ للذي هو عن يـمينه، وأنه من كان عدوّهما فإنه عدوّ اللّه . ثم رجع عمر لـيخبر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فوجد جبريـل قد سبقه بـالوحي، فدعاه النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فقرأ علـيه، فقال عمر: والذي بعثك بـالـحقّ، لقد جئتك وما أريد إلاّ أن أخبرك. ١٢٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج الرازي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، قال: حدثنا زهير، عن مـجاهد، عن الشعبـي، قال: انطلق عمر إلـى يهود، فقال: إنـي أنشدكم بـالذي أنزل التوراة علـى موسى هل تـجدون مـحمدا فـي كتابكم؟ قالوا: نعم قال: فما يـمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن اللّه لـم يبعث رسولاً إلا كان له كِفْلٌ من الـملائكة، وإن جبريـل هو الذي يتكفل لـمـحمد، وهو عدوّنا من الـملائكة، وميكائيـل سِلْـمُنا فلو كان هو الذي يأتـيه اتبعناه قال: فإنـي أنشدكم بـالذي أنزل التوراة علـى موسى، ما منزلتهما من ربّ العالـمين؟ قالوا: جبريـل عن يـمينه، وميكائيـل عن جانبه الاَخر. فقال: إنـي أشهد ما يقولون إلا بإذن اللّه ، وما كان لـميكائيـل أن يعادي سلـم جبريـل، وما كان جبريـل لـيسالـم عدوّ ميكائيـل. (فبـينـما هو عندهم) إذ مرّ نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الـخطاب. فقام إلـيه فأتاه وقد أنزل علـيه: مَن كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ علـى قَلْبِكَ بِـاذْنِ اللّه إلـى قوله: فَـانّ اللّه عَدُوّ للكافِرِينَ. ١٢٠٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبـي لـيـلـى في قوله: مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل قال: قالت الـيهود للـمسلـمين: لو أن ميكائيـل كان الذي ينزل علـيكم لتبعناكم، فإنه ينزل بـالرحمة والغيث، وإن جبريـل ينزل بـالعذاب والنقمة وهو لنا عدوّ قال: فنزلت هذه الآية: مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل. ١٢٠٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء بنـحو ذلك. وأما تأويـل الآية، أعنـي قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ عَلـى قَلْبِكَ بِـاذْنِ اللّه فهو أن اللّه يقول لنبـيه: قل يا مـحمد لـمعاشر الـيهود من بنـي إسرائيـل الذين زعموا أن جبريـل لهم عدوّ من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبـات لا صاحب وحي وتنزيـل ورحمة، فأبوا اتبـاعك وجحدوا نبوّتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتـي وبـينات حكمي من أجل أن جبريـل ولـيك وصاحب وحيـي إلـيك، وزعموا أنه عدوّ لهم: من يكن من الناس لـجبريـل عدوّا ومنكرا أن يكون صاحب وحي اللّه إلـى أنبـيائه وصاحب رحمته فإنـي له ولـيّ وخـلـيـل، ومقرّ بأنه صاحب وحي إلـى أنبـيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي اللّه علـى قلبـي من عند ربـي بإذن ربـي له بذلك يربط به علـى قلبـي ويشدّ فؤادي. كما: ١٢٠٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل قال: وذلك أن الـيهود قالت حين سألت مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم عن أشياء كثـير، فأخبرهم بها علـى ما هي عندهم إلا جبريـل، فإن جبريـل كان عند الـيهود صاحب عذاب وسطوة، ولـم يكن عندهم صاحب وحي يعنـي تنزيـل من اللّه علـى رسله ولا صاحب رحمة. فأخبرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـما سألوه عنه أن جبريـل صاحب وحي اللّه ، وصاحب نقمته، وصاحب رحمته. فقالوا: لـيس بصاحب وحي ولا رحمة هو لنا عدوّ. فأنزل اللّه عزّ وجل إكذابـا لهم: قُلْ يا مـحمد مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ عَلَـى قَلْبِكَ يقول: فإن جبريـل نزّله. يقول: نزل القرآن بأمر اللّه يشدّ به فؤادك ويربط به علـى قلبك، يعنـي بوحينا الذي نزل به جبريـل علـيك من عند اللّه ، وكذلك يفعل بـالـمرسلـين والأنبـياء من قبلك. ١٢١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِـجبريـل فَـانّهُ نَزّلَهُ عَلـى قَلْبِكَ بإذْنِ اللّه يقول: أنزل الكتاب علـى قلبك بإذن اللّه . ١٢١١ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فإنّهُ نَزّلَهُ عَلَـى قَلْبِكَ يقول: نزّل الكتاب علـى قلبك جبريـل. قال أبو جعفر: وإنـما قال جل ثناؤه: فَـانّهُ نَزّلَهُ عَلَـى قَلْبِكَ وهو يعنـي بذلك قلب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وقد أمر مـحمدا فـي أول الآية أن يخبر الـيهود بذلك عن نفسه، ولـم يقل: فإنه نزّله علـى قلبـي. ولو قـيـل (علـى قلبـي) كان صوابـا من القول لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلاً أن يحكي ما قـيـل له عن نفسه أن تـخرج فعل الـمأمور مرّة مضافـا إلـى كناية نفس الـمخبر عن نفسه، إذ كان الـمخبر عن نفسه ومرّة مضافـا إلـى اسمه كهيئة كناية اسم الـمخاطب لأنه به مخاطب فتقول فـي نظير ذلك: (قل للقوم إن الـخير عندي كثـير) فتـخرج كناية اسم الـمخبر عن نفسه لأنه الـمأمور أن يخبر بذلك عن نفسه، و(قل للقوم: إن الـخير عندك كثـير) فتـخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم الـمخاطب لأنه وإن كان مأمورا بقـيـل ذلك فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قـيـل له. وكذلك: (لا تقل للقوم: إنـي قائم)، و(لا تقل لهم: إنك قائم)، والـياء من إنـي اسم الـمأمور بقول ذلك علـى ما وصفنا ومن ذلك قول اللّه عز وجل: (قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ) و(تُغلبون) بـالـياء والتاء. وأما جبريـل، فإن للعرب فـيه لغات. فأما أهل الـحجاز فإنهم يقولون جبريـل وميكال بغير همز بكسر الـجيـم والراء من جبريـل وبـالتـخفـيف وعلـى القراءة بذلك عامة قراء أهل الـمدينة والبصرة. أما تـميـم وقـيس وبعض نـجد فـيقولون جَبْرَئيـل وميكائيـل، علـى مثال جَبْرَعِيـل وميكاعيـل بفتـح الـجيـم والراء وبهمز وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلـى القراءة بذلك عامة قرّاء أهل الكوفة، كما قال جرير بن عطية: عَبَدُوا الصّلِـيبَ وَكَذّبوا بِـمُـحَمّدٍوبِجَبْرَئِيـلَ وَكَذّبُوا مِيكالاَ وقد ذكر عن الـحسن البصري وعبد اللّه بن كثـير أنهما كانا يقرآن: (جبريـل) بفتـح الـجيـم وترك الهمز. قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزة القراءة بها، لأن (فعيـل) فـي كلام العرب غير موجود. وقد اختار ذلك بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي كما يقال: سَمْوِيـل، وأنشد فـي ذلك: بِحَيْثُ لَوْ وُزِنَتْ لَـخْمٌ بأجمَعِهاما وَازَنَتْ رِيشَةً مِنْ رِيشِ سَمْوِيلا وأما بنو أسد فإنها تقول (جِبْرِين) بـالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد فـي جبريـل ألفـا فتقول: جبرائيـل وميكائيـل. وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ (جَبْرَئَلّ) بفتـح الـجيـم والهمز وترك الـمدّ وتشديد اللام، فأما (جبر) و(ميك) فإنهما هما الاسمان اللذان أحدهما بـمعنى عبد والاَخر بـمعنى عبـيد، وأما (إيـل) فهو اللّه تعالـى ذكره. كما: ١٢١٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جرير بن نوح الـحمانـي، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، قال: قال ابن عبـاس : جبريـل وميكائيـل كقولك عبد اللّه . ١٢١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: جبريـل: عبد اللّه ، وميكائيـل: عبـيد اللّه ، وكل اسم إيـل فهو اللّه . ١٢١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إسماعيـل بن رجاء، عن عمير مولـى ابن عبـاس : أن إسرائيـل وميكائيـل وجبريـل وإسرافـيـل، كقولك عبد اللّه . ١٢١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الـمنهال بن عمرو، عن عبد اللّه بن الـحارث، قال: (إيـل) اللّه بـالعبرانـية. ١٢١٦ـ حدثنا الـحسين بن يزيد الضحاك ، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا قـيس، عن عاصم، عن عكرمة، قال: جبريـل اسمه عبد اللّه ، وميكائيـل اسمه عبـيد اللّه ، إيـل: اللّه . ١٢١٧ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن عمرو بن عطاء، عن علـيّ بن حسين، قال: اسم جبريـل عبد اللّه ، واسم ميكائيـل عبـيد اللّه ، واسم إسرافـيـل عبد الرحمن وكل معبد بإيـل فهو عبد اللّه . ١٢١٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد الـمدنـي قال الـمثنى، قال قبـيصة: أراه مـحمد بن إسحاق عن مـحمد بن عمرو بن عطاء، عن علـي بن حسين، قال: ما تعدّون جبريـل فـي أسمائكم؟ قال: جبريـل عبد اللّه ، وميكائيـل عبـيد اللّه ، وكل اسم فـيه إيـل فهو معبّد للّه. ١٢١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن عمرو بن عطاء، عن علـيّ بن حسين، قال: قال لـي: هل تدري ما اسم جبريـل من أسمائكم؟ قلت: لا، قال: عبد اللّه ، قال: فهل تدري ما اسم ميكائيـل من أسمائكم؟ قال: لا، قال: عبـيد اللّه . وقد سمّى لـي إسرائيـل بـاسم نـحو ذلك فنسيته، إلا أنه قد قال لـي: أرأيت كل اسم يرجع إلـى إيـل فهو معبد به. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله: جبريـل قال: جبر: عبد، إيـل: اللّه ، وميكا قال: عبد، إيـل: اللّه . قال أبو جعفر: فهذا تأويـل من قرأ جبرائيـل بـالفتـح والهمز والـمدّ، وهو إن شاء اللّه معنى من قرأ بـالكسر وترك الهمز. وأما تأويـل من قرأ ذلك بـالهمز وترك الـمدّ وتشديد اللام، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك إلـى إضافة (جبر) و(ميكا) إلـى اسم اللّه الذي يسمى به بلسان العرب دون السريانـي والعبرانـي وذلك أن إِلالّ بلسان العرب اللّه كما قال: لاَ يَرْقُبُونَ فِـي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً فقال جماعة من أهل العلـم: إِلالّ: هو اللّه . ومنه قول أبـي بكر الصديق رضي اللّه عنه لوفد بنـي حنـيفة حين سألهم عما كان مسيـلـمة يقول، فأخبروه، فقال لهم: ويحكم أين ذهب بكم واللّه ، إن هذا الكلام ما خرج من إلَ ولا بِرَ. يعنـي من إلّ: من اللّه . وقد: ١٢٢٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سلـيـمان التـيـمي، عن أبـي مـجلز في قوله: لاَ يَرْقُبُونَ فِـي مُؤْمِنٍ إِلاّ وَلاَ ذِمّةً قال: قول جبريـل وميكائيـل وإسرافـيـل، كأنه يقول حين يضيف (جبر) و(ميكا) و(إسرا) إلـى (إيـل) يقول: عبد اللّه ، لا يرقبون فـي مُؤْمِنٍ إِلاّ كأنه يقول: لا يرقبون اللّه عزّ وجلّ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ القرآن. ونصب مصدّقا علـى القطع من الهاء التـي في قوله: نَزّلَهُ علـى قَلْبِكَ. فمعنى الكلام: فإن جبريـل نزّل القرآن علـى قلبك يا مـحمد مصدقا لـما بـين يدي القرآن، يعنـي بذلك مصدقا لـما سلف من كتب اللّه أمامه، ونزلت علـى رسله الذين كانوا قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتصديقه إياها موافقة معانـيه معانـيها فـي الأمر بـاتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وما جاء به من عند اللّه ، وهي تصدّقُه. كما: ١٢٢١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ يقول: لـما قبله من الكتب التـي أنزلها اللّه والاَيات والرسل الذين بعثهم اللّه بـالاَيات نـحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالـح وأشبـاههم من الرسل صلـى اللّه علـيهم. ١٢٢٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّورَاةِ وَالإنـجِيـلِ. ١٢٢٣ـ حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَهُدًى وبُشْرَى للْـمُؤْمِنِـينَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَهُدًى ودلـيـل وبرهان. وإنـما سماه اللّه جل ثناؤه (هُدًى) لاهتداء الـمؤمن به، واهتداؤه به اتـخاذه إياه هاديا يتبعه وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. والهادي من كل شيء ما تقدم أمامه، ومن ذلك قـيـل لأوائل الـخيـل: هَوَادِيها، وهو ما تقدم أمامها، وكذلك قـيـل للعنق: الهادي، لتقدمها أمام سائر الـجسد. وأما البشرى فإنها البشارة. أخبر اللّه عبـاده الـمؤمنـين جل ثناؤه أن القرآن لهم بشرى منه لأنه أعلـمهم بـما أعدّ لهم من الكرامة عنده فـي جناته، وما هم إلـيه صائرون فـي معادهم من ثوابه. وذلك هو البشرى التـي بشر اللّه بها الـمؤمنـين فـي كتابه لأن البشارة فـي كلام العرب هي إعلام الرجل بـما لـم يكن به عالـما مـما يسره من الـخير قبل أن يسمعه من غيره أو يعلـمه من قبل غيره. وقد روي فـي ذلك عن قتادة قول قريب الـمعنى مـما قلناه. ١٢٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: هُدًى وبُشْرَى لِلْـمُؤْمِنِـينَ لأن الـمؤمن إذا سمع القرآن حفظه ورعاه وانتفع به واطمأن إلـيه وصدّق بـموعود اللّه الذي وعد فـيه، وكان علـى يقـين من ذلك. ٩٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للّه وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنّ اللّه عَدُوّ لّلْكَافِرِينَ } وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه: من كان عدوا للّه من عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله، وإعلام منه أن من عادى جبريـل فقد عاداه وعادى ميكائيـل وعادى جميع ملائكته ورسله لأن الذين سماهم اللّه فـي هذه الآية هم أولـياء اللّه وأهل طاعته، ومن عادى للّه ولـيّا فقد عادى اللّه وبـارزه بـالـمـحاربة، ومن عادى اللّه فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته لأن العدوّ للّه عدوّ لأولـيائه، والعدوّ لأولـياء اللّه عدوّ له. فكذلك قال للـيهود الذين قالوا: إن جبريـل عدوّنا من الـملائكة، وميكائيـل ولـينا منهم: مَنْ كَانَ عَدُوّا للّه وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجبريـل وَمِيكَالَ فَـانّ اللّه عَدُوّ للكافِرِينَ من أجل أن عدوّ جبريـل عدوّ كل ولـيّ للّه. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوّا لـجبريـل فهو لكل من ذكره من ملائكته ورسله وميكال عدوّ، وكذلك عدوّ بعض رسل اللّه عدوّ للّه ولكل ولـيّ. وقد: ١٢٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد اللّه يعنـي العتكي عن رجل من قريش، قال: سأل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الـيهود فقال: (أسألُكُمْ بِكِتابِكُمْ الّذِي تَقْرَءونَ هَلْ تَـجِدُونَ بِهِ قَدْ بَشّرَ بـي عِيسَى ابْنُ مَرَيْـمَ أنْ يأتِـيكُمْ رَسُولٌ اسمُهُ أحْمَدُ؟) فقالوا: اللّه مّ وجدناك فـي كتابنا ولكنا كرهناك لأنك تستـحل الأموال وتهريق الدماء فأنزل اللّه : مَنْ كَانَ عَدُوّا للّه وَمَلاَئِكَتِهِ الآية. ١٢٢٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، قال: إن يهوديّا لقـي عمر فقال له: إن جبريـل الذي يذكره صاحبك هو عدوّ لنا. فقال له عمر: مَنْ كَانَ عَدُوّا للّه وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجبريـل وَمِيكالَ فَـانّ اللّه عَدُوّ للكافِرِين قال: فنزلت علـى لسان عمر. وهذا الـخبر يدل علـى أن اللّه أنزل هذه الآية توبـيخا للـيهود فـي كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وإخبـارا منه لهم أن من كان عدوّا لـمـحمد فـاللّه له عدوّ، وأن عدوّ مـحمد من الناس كلهم لـمن الكافرين بـاللّه الـجاحدين آياته. فإن قال قائل: أَوَ لـيس جبريـل وميكائيـل من الـملائكة؟ قـيـل: بلـى. فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما، وقد مضى ذكرهما فـي الآية فـي جملة أسماء الـملائكة؟ قـيـل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن الـيهود لـما قالت: جبريـل عدوّنا وميكائيـل ولـيّنا، وزعمت أنها كفرت بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم من أجل أن جبريـل صاحب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، أعلـمهم اللّه أن من كان لـجبريـل عدوّا، فإن اللّه له عدوّ، وأنه من الكافرين. فنصّ علـيه بـاسمه، وعلـى ميكائيـل بـاسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنـما قال اللّه : من كان عدوّا للّه وملائكته ورسله، ولسنا للّه ولا لـملائكته ورسله أعداء لأن الـملائكة اسم عام مـحتـمل خاصّا وجبريـل وميكائيـل غير داخـلـين فـيه. وكذلك قوله: وَرُسُلِهِ فلست يا مـحمد داخلاً فـيهم. فنصّ اللّه تعالـى علـى أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم لـيقطع بذلك تلبـيسهم علـى أهل الضعف منهم، ويحسم تـمويههم أمورهم علـى الـمنافقـينوأما إظهار اسم اللّه في قوله: فَـانّ اللّه عَدُوّ للْكَافِرِينَ وتكريره فـيه، وقد ابتدأ أوّل الـخبر بذكره فقال: مَنْ كَانَ عَدُوّا للّه وَمَلاَئِكَتِهِ فلئلا يـلتبس لو ظهر ذلك بكناية، فقـيـل: فإنه عدوّ للكافرين علـى سامعه مَن الـمعنّـي بـالهاء التـي فـي (فإنه) أاللّه أم رسل اللّه جل ثناؤه، أم جبريـل، أم ميكائيـل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية علـى ما وصفت، فإنه يـلتبس معنى ذلك علـى من لـم يوقـف علـى الـمعنى بذلك لاحتـمال الكلام ما وصفت. وقد كان بعض أهل العربـية يوجه ذلك إلـى نـحو قول الشاعر: لَـيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبـاكانَ الغُرَابُ مُقَطّعَ الأوْدَاجِ وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر فـي ذلك بخلاف ما قال وذلك أن الغراب الثانـي لو كان مكنـيّ عنه لـما التبس علـى أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم الغراب الأوّل، إذ كان لا شيء قبله يحتـمل الكلام أن يوجه إلـيه غير كناية اسم الغراب الأول وأن قبل قوله: فَـانّ اللّه عَدُوّ للْكَافِرِينَ أسماء لو جاء اسم اللّه تعالـى ذكره مكنـيا عنه لـم يعلـم من الـمقصود إلـيه بكناية الاسم إلا بتوقـيف من حجة، فلذلك اختلف أمراهما. ٩٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاّ الْفَاسِقُونَ } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَقَدْ أنْزَلْنَا إِلَـيْكَ آياتٍ أي أنزلنا إلـيك يا مـحمد علامات واضحات دالات علـى نبوّتك. وتلك الاَيات هي ما حواه كتاب اللّه الذي أنزله إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من خفـايا علوم الـيهود ومَكْنُون سرائر أخبـارهم وأخبـار أوائلهم من بنـي إسرائيـل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التـي لـم يكن يعلـمها إلا أحبـارهم وعلـماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدّلوه من أحكامهم، التـي كانت فـي التوراة، فأطلعها اللّه فـي كتابه الذي أنزله علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. فكان فـي ذلك من أمره الاَيات البـينات لـمن أنصف نفسه ولـم يدعه إلـى إهلاكها الـحسد والبغي، إذْ كان فـي فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتـى بـمثل الذي أتـى به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الاَيات البـينات التـي وصفت من غير تعلّـم تعلـمه من بشر ولا أَخْذِ شيء منه عن آدمي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك روي الـخبر عن ابن عبـاس . ١٢٢٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَـيْكَ آياتٍ بَـيّنَاتٍ يقول: فأنت تتلوه علـيهم وتـخبرهم به غدوة وعشية وبـين ذلك، وأنت عندهم أميّ لـم تقرأ كتابـا، وأنت تـخبرهم بـما فـي أيديهم علـى وجهه. يقول اللّه : ففـي ذلك لهم عبرة وبـيان وعلـيهم حجة لو كانوا يعلـمون. ١٢٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، وعن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: قال ابن صوريا القطيونـي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل اللّه علـيك من آية بـينة فنتبعك بها فأنزل اللّه عزّ وجل: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إلَـيْكَ آياتٍ بَـيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلا الفـاسِقُونَ. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس قال: قال ابن صوريا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَا يَكْفُرُ بِها إِلاّ الفـاسِقُونَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاّ الفَـاسِقُونَ وما يجحد بها. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى أن معنى الكفر الـجحود بـما أغنى عن إعادته هاهنا. وكذلك بـينا معنى الفسق، وأنه الـخروج عن الشيء إلـى غيره. فتأويـل الآية: ولقد أنزلنا إلـيك فـيـما أوحينا إلـيك من الكتاب علامات واضحات تبـين لعلـماء بنـي إسرائيـل وأحبـارهم الـجاحدين نبوّتك والـمكذّبـين رسالتك أنك لـي رسول إلـيهم ونبـيّ مبعوث، وما يجحد تلك الاَيات الدالات علـى صدقك ونبوّتك التـي أنزلتها إلـيك فـي كتابـي فـيكذّب بها منهم، إلا الـخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي علـيه فـي الكتاب الذي تدين بتصديقه. فأما الـمتـمسك منهم بدينه والـمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بـالذي أنزلت إلـيك من آياتـي مصدق. وهم الذين كانوا آمنوا بـاللّه وصدقوا رسوله مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل. ١٠٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَوَكُلّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } اختلف أهل العربـية فـي حكم (الواو) التـي في قوله: أوَ كُلّـما عاهَدُوا عَهْدا فقال بعض نـحويـي البصريـين: هي واو تـجعل مع حروف الاستفهام، وهي مثل (الفـاء) في قوله: أفَكُلّـما جاءَكُمْ رَسُول بِـمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُـمْ قال: وهما زائدتان فـي هذا الوجه، وهي مثل (الفـاء) التـي في قوله: فـاللّه لتصنعنّ كذا وكذا، وكقولك للرجل: أفلا تقوم وإن شئت جعلت الفـاء والواو ههنا حرف عطف وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: هي حرف عطف أدخـل علـيها حرف الاستفهام. والصواب فـي ذلك عندي من القول أنها واو عطف أدخـلت علـيها ألف الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه: وَإِذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُورَ خُذُوا ما آتَـيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا أو كُلّـما عاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ثم أدخـل ألف الاستفهام علـى (وكلـما)، فقال: قالوا سمعنا وعصينا أَوَكُلّـمَا عَاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فريقٌ مِنْهُمْ وقد بـينا فـيـما مضى أنه غير جائز أن يكون فـي كتاب اللّه حرف لا معنى له، فأغنى ذلك عن إعادة البـيان علـى فساد قول من زعم أن الواو والفـاء من قوله: أوَكُلّـما و أفَكُلّـما زائداتان لا معنى لهما. وأما العهد: فإنه الـميثاق الذي أعطته بنو إسرائيـل ربهم لـيعملن بها فـي التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بـما كان منهم من ذلك وعَيّر به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم فـي بعض ما كان جل ذكره أخذ علـيهم بـالإيـمان به من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من العهد والـميثاق فكفروا وجحدوا ما فـي التوراة من نعته وصفته، فقال تعالـى ذكره: أَوَكُلّـما عاهد الـيهود من بنـي إسرائيـل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا نبذه فريق منهم فتركه ونقضه؟ كما: ١٢٢٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال مالك بن الصيف حين بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ علـيهم من الـميثاق وما عهد اللّه إلـيهم فـيه: واللّه ما عهد إلـينا فـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما أخذ له علـينا ميثاقا فأنزل اللّه جل ثناؤه: أوَكُلّـما عاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس مثله. قال أبو جعفر: وأما النبْذُ فإن أصله فـي كلام العرب الطرح، ولذلك قـيـل للـملقوط الـمنبوذ لأنه مطروح. مرمى به، ومنه سُمي النبـيذ نبـيذا، لأنه زبـيب أو تـمر يطرح فـي وعاء ثم يعالـج بـالـماء. وأصله مفعول صرف إلـى فعيـل، أعنـي أن النبـيذ أصله منبوذ ثم صرف إلـى فعيـل، فقـيـل نبـيذ كما قـيـل كفّ خضيب ولـحية دهين، يعنـي مخضوبة ومدهونة يقال منه: نبذته أنبذه نبذا، كما قال أبو الأسود الدؤلـي: نَظَرْتَ إلـى عُنْوَانِهِ فَنَبذْتَهُكَنَبْذِكَ نَعْلاً أخْـلَقَتْ من نِعالِكا فمعنى قوله جل ذكره: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طرحه فريق منهم فتركه ورفضه ونقضه. كما: ١٢٣٠ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يقول: نقضه فريق منهم. ١٢٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ قال: لـم يكن فـي الأرض عهد يعاهَدُون علـيه إلا نقضوه، ويعاهدون الـيوم وينقضون غدا قال: وفـي قراءة عبد اللّه : (نقضَهُ فريق منهم). والهاء التـي في قوله: نَبَذَهُ من ذكر العهد، فمعناه: أَوَكلـما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم. والفريق الـجماعة لا واحد له من لفظه بـمنزلة الـجيش والرهط الذي لا واحد له من لفظه. والهاء والـميـم اللتان في قوله: فَرِيقٌ مِنْهُمْ من ذكر الـيهود من بنـي إسرائيـل. وأما قوله: بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنْونَ فإنه يعنـي جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء الذين كلـما عاهدوا اللّه عهدا وواثقوه موثقا نقضه فريق منهم لا يؤمنون. ولذلك وجهان من التأويـل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة علـى الزيادة والتكثـير فـي عدد الـمكذّبـين الناقضين عهد اللّه علـى عدد الفريق، فـيكون الكلام حينئذٍ معناه: أَوَكلـما عاهدت الـيهود من بنـي إسرائيـل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فـيكفر بـاللّه أكثرهم لا القلـيـل منهم. فهذا أحد وجهيه. والوجه الاَخر: أن يكون معناه: أَوَكلـما عاهدت الـيهود ربها عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فـينقضه علـى الإيـمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم، ولكن أكثرهم لا يصدّقون بـاللّه ورسله، ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فـيـما مضى من كتابنا هذا علـى معنى الإيـمان وأنه التصديق. ١٠١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّه مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ أحبـار الـيهود وعلـماءها من بنـي إسرائيـل رَسُولٌ يعنـي بـالرسول مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم. كما: ١٢٣٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي في قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ قال: لـما جاءهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وأما قوله: مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ فإنه يعنـي به أن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم يصدق التوراة، والتوراة تصدقه فـي أنه للّه نبـيّ مبعوث إلـى خـلقه. وأما تأويـل قوله: وَلَـمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ فإنه للذي هو مع الـيهود، وهو التوراة. فأخبر اللّه جل ثناؤه أن الـيهود لـما جاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اللّه بتصديق ما فـي أيديهم من التوراة أن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم نبـيّ اللّه ، نبذَ فريقٌ، يعنـي بذلك أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرّين حسدا منهم له وبَغْيا علـيه. وقوله: مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وهم علـماء الـيهود الذين أعطاهم اللّه العلـم بـالتوراة وما فـيها. ويعنـي بقوله: كِتابَ اللّه التوراة، وقوله: نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ جعلوه وراء ظهورهم وهذا مَثَلٌ، يقال لكل رافض أمرا كان منه علـى بـال: قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر وجعله وراء ظهره، يعنـي به أعرض عنه وصدّ وانصرف. كما: ١٢٣٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَـمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِن عِندِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابِ كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ قال: لـما جاءهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم عارضوه بـالتوراة فخاصموه بها، فـاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فذلك قوله اللّه : كأنّهُمْ لاَ يَعْلَـمُونَ. ومعنى قوله: كأنّهُمْ لا يَعْلَـمُونَ كأنّ هؤلاء الذين نبذوا كتاب اللّه من علـماء الـيهود فنقضوا عهد اللّه بتركهم العمل بـما واثقوا اللّه علـى أنفسهم العمل بـما فـيه لا يعلـمون ما فـي التوراة من الأمر بـاتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتصديقه. وهذا من اللّه جل ثناؤه إخبـار عنهم أنهم جحدوا الـحقّ علـى علـم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر اللّه فخالفوا علـى علـم منهم بوجوبه علـيهم. كما: ١٢٣٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يقول: نقض فريق مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كَتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كأنّهُمْ لاَ يَعْلَـمُونَ أي أن القوم كانوا يعلـمون. ولكنهم أفسدوا علـمهم وجحدوا وكفروا وكتـموا. ١٠٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ...} يعنـي بقوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ الفريق من أحبـار الـيهود وعلـمائها الذين وصفهم اللّه جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله علـى موسى وراء ظهورهم، تـجاهلاً منهم وكفرا بـما هم به عالـمون، كأنهم لا يعلـمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلـمون أنه منزل من عنده علـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه علـيهم فـي العمل بـما فـيه، وآثروا السحر الذي تَلَتْه الشياطين فـي ملك سلـيـمان بن داود فـاتبعوه وذلك هو الـخسار والضلال الـمبـين. واختلف أهل التأويـل فـي الذين عُنوا بقوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ. فقال بعضهم: عنى اللّه بذلك الـيهودَ الذين كانوا بـين ظهرانـيْ مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً، تأمره من اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتصديقه بـمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بـالكتب التـي كان الناس اكتتبوها من الكهنة علـى عهد سلـيـمان. ذكر من قال ذلك: ١٢٣٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ علـى عهد سلـيـمان قال: كانت الشياطين تصعد إلـى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فـيستـمعون من كلام الـملائكة فـيـما يكون فـي الأرض من موت أو غيث أو أمر، فـيأتون الكهنة فـيخبرونهم، فتـحدّث الكهنة الناس فـيجدونه كما قالوا. حتـى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، فأدخـلوا فـيه غيره فزادوا مع كل كلـمة سبعين كلـمة. فـاكتتب الناس ذلك الـحديث فـي الكتب وفشا فـي بنـي إسرائيـل أن الـجنّ تعلـم الغيب. فبعث سلـيـمان فـي الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها فـي صندوق، ثم دفنها تـحت كرسيه، ولـم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: (لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلـم الغيب إلا ضربت عنقه). فلـما مات سلـيـمان، وذهبت العلـماء الذين كانوا يعرفون أمر سلـيـمان، وخـلف بعد ذلك خَـلْفٌ، تـمثل الشيطان فـي صورة إنسان، ثم أتـى نفرا من بنـي إسرائيـل، فقال: هل أدلكم علـى كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم قال: فـاحفروا تـحت الكرسي وذهب معهم فأراهم الـمكان. فقام ناحية، فقالوا له: فـادْنُ قال: لا ولكنـي هاهنا فـي أيديكم، فإن لـم تـجدوه فـاقتلونـي. فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلـما أخرجوها قال الشيطان: إن سلـيـمان إنـما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا فـي الناس أن سلـيـمان كان ساحرا واتـخذت بنو إسرائيـل تلك الكتب. فلـما جاءهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول: وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. ١٢٣٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ قالوا: إن الـيهود سألوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل اللّه علـيه ما سألوه عنه فـيَخْصِمهم. فلـما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلـم بـما أنزل إلـينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل اللّه جلّ وعزّ: واتّبَعوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. وإن الشياطين عمدوا إلـى كتاب فكتبوا فـيه السحر والكهانة وما شاء اللّه من ذلك، فدفنوه تـحت مـجلس سلـيـمان، وكان سلـيـمان لا يعلـم الغيب، فلـما فـارق سلـيـمان الدنـيا استـخرجوا ذلك السحر، وخدعوا به الناس و قالوا: هذا علـم كان سلـيـمان يكتـمه ويحسد الناس علـيه. فأخبرهم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بهذا الـحديث. فرجعوا من عنده، وقد حزنوا وأدحض اللّه حجتهم. ١٢٣٧ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمانَ قال: لـما جاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مُصَدّقا لِـمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ الآية قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتـى بلغ: وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك الـيهود الذين كانوا علـى عهد سلـيـمان. ذكر من قال ذلك: ١٢٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر علـى الـيهود علـى ملك سلـيـمان فـاتبعته الـيهود علـى ملكه يعنـي اتبعوا السحر علـى ملك سلـيـمان. ١٢٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سلـيـمان بن داود علـيه السلام، فكتبوا أصناف السحر: من كان يحبّ أن يبلغ كذا وكذا، فلـيفعل كذا وكذا. حتـى إذا صنعوا أصناف السحر، جعلوه فـي كتاب، ثم ختـموا علـيه بخاتـم علـى نقش خاتـم سلـيـمان، وكتبوا فـي عنوانه: (هذا ما كتب آصف بن برخيا الصدّيق للـملك سلـيـمان بن داود من ذخائر كنوز العلـم). ثم دفنوه تـحت كرسيه، فـاستـخرجته بعد ذلك بقايا بنـي إسرائيـل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلـما عثروا علـيه قالوا: ما كان سلـيـمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر فـي الناس وتعلـموه وعلـموه، فلـيس فـي أحد أكثر منه فـي يهود. فلـما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـما نزل علـيه من اللّه سلـيـمان بن داود وعدّه فـيـمن عدّه من الـمرسلـين، قال من كان بـالـمدينة من يهود: ألا تعجبون لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم يزعم أن سلـيـمان بن داود كان نبـيّا واللّه ما كان إلا ساحرا فأنزل اللّه فـي ذلك من قولهم علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانَ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا قال: كان حين ذهب ملك سلـيـمان ارتدّ فِئَامٌ من الـجنّ والإنس واتبعوا الشهوات. فلـما رجع اللّه إلـى سلـيـمان ملكه، قام الناس علـى الدين كما كانوا. وإن سلـيـمان ظهر علـى كتبهم فدفنها تـحت كرسيه. وتوفـي سلـيـمان حِدْثان ذلك، فظهرت الـجنّ والإنس علـى الكتب بعد وفـاة سلـيـمان، و قالوا: هذا كتاب من اللّه نزل علـى سلـيـمان أخفـاه منا. فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل اللّه : وَلَـمّا جاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْدِ اللّه مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ كِتَابَ اللّه وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كأنّهُمْ لاَ يَعْلَـمُونَ وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ وهي الـمعازف واللعب وكلّ شيء يصدّ عن ذكر اللّه . والصواب من القول فـي تأويـل قوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ أن ذلك توبـيخ من اللّه لأحبـار الـيهود الذين أدركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجحدوا نبوّته وهم يعلـمون أنه للّه رسول مرسل، وتأنـيب منه لهم فـي رفضهم تنزيـله، وهجرهم العمل به وهو فـي أيديهم يعلـمونه ويعرفون أنه كتاب اللّه ، واتّبـاعهم واتّبـاع أوائلهم وأسلافهم ما تَلَتْهُ الشياطين فـي عهد سلـيـمان. وقد بـينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إلـيهم فـيـما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وإنـما اخترنا هذا التأويـل لأن الـمتبعة ما تلته الشياطين فـي عهد سلـيـمان وبعده إلـى أن بعث اللّه نبـيه بـالـحقّ وأمر السحر لـم يزل فـي الـيهود، ولا دلالة فـي الآية أن اللّه تعالـى أراد بقوله: واتبعوا بعضا منهم دون بعض، إذ كان جائزا فصيحا فـي كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتبـاع أسلاف الـمخبر عنهم بقوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ إلـى أخلافهم بعدهم. ولـم يكن بخصوص ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدلّ علـيه، فكان الواجب من القول فـي ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان من الـيهود داخـل فـي معنى الآية، علـى النـحو الذي قلنا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: ما تَتْلُوا الشّياطِينُ: الذي تتلو. فتأويـل الكلام إذا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين. واختلف فـي تأويـل قوله: تَتْلُوا فقال بعضهم: يعنـي بقوله: تَتْلُوا تـحدّث وتروى وتتكلـم به وتـخبر، نـحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته. ووجه قائلوا هذا القول تأويـلهم ذلك إلـى أن الشياطين هي التـي علـمت الناس السحر وروته لهم. ذكر من قال ذلك: ١٢٤٠ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن عمرو، عن مـجاهد في قول اللّه : وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ قال: كانت الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلـمة زادوا فـيها مائتـين مثلها، فأرسل سلـيـمان إلـى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلـما توفـي سلـيـمان وجدته الشياطين فعلـمته الناس وهو السحر. ١٢٤١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ من الكهانة والسحر وذكر لنا واللّه أعلـم أن الشياطين ابتدعت كتابـا فـيه سحر وأمر عظيـم، ثم أفشوه فـي الناس وعلـموهم إياه. ١٢٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: قوله: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشياطِينُ قال: نراه ما تـحدّث. ١٢٤٣ـ حدثنـي سَلْـم بن جنادة السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: انطلقت الشياطين فـي الأيام التـي ابتلـى فـيها سلـيـمان، فكتبت فـيها كُتبـا فـيها سحر وكفر، ثم دفنوها تـحت كرسي سلـيـمان، ثم أخرجوها فقرءوها علـى الناس. وقال آخرون: معنى قوله: ما تَتْلُوا ما تتبعه وترويه وتعمل به. ذكر من قال ذلك: ١٢٤٤ـ حدثنا الـحسن بن عمرو العنقزي، قال: حدثنـي أبـي، عن أسبـاط، عن السدي، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس : تَتْلُوا قال: تتبع. ١٢٤٥ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن إبراهيـم، عن سفـيان الثوري، عن منصور، عن أبـي رزين مثله. قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين علـى عهد سلـيـمان بـاتبـاعهم ما تلته الشياطين. ولقول القائل: (هو يتلو كذا) فـي كلام العرب معنـيان: أحدهما الاتبـاع، كما يقال: تلوت فلانا إذا مشيت خـلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه: هُنالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسَلَفَتْ يعنـي بذلك تتّبع. والاَخر: القراءة والدراسة، كما تقول: فلان يتلو القرآن، بـمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت: نَبِـيّ يَرَى مَا لا يَرَى النّاسُ حَوْلَهُويَتْلُو كِتابَ اللّه فـي كُلّ مَشْهَدِ ولـم يخبرنا اللّه جل ثناؤه بأيّ معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر علـى عهد سلـيـمان بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسةً وروايةً وعملاً، فتكون كانت متبعته بـالعمل، ودارسته بـالرواية فـاتبعت الـيهود منهاجها فـي ذلك وعملت به وروته. القول فـي تأويـل قوله تعالى: علـى مُلْكِ سُلَـيْـمان. يعنـي بقوله جل ثناؤه: علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ فـي ملك سلـيـمان وذلك أن العرب تضع (فـي) موضع (علـى) و(علـى) فـي موضع (فـي)، من ذلك قول اللّه جل ثناؤه: ولاصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ يعنـي به: علـى جذوع النـخـل، وكما قال: (فعلت كذا فـي عهد كذا وعلـى عهد كذا) بـمعنى واحد. وبـما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان فـي تأويـله. ١٢٤٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: عَلَـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ يقول: فـي ملك سلـيـمان. ١٢٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق في قوله: علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ أي فـي ملك سلـيـمان. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِين كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام من قوله: واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ ولا خير معنا قبلُ عن أحد أنه أضاف الكفر إلـى سلـيـمان، بل إنـما ذكر اتبـاع من اتبع من الـيهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفـي الكفر عن سلـيـمان بعقب الـخبر عن اتبـاع من اتبعت الشياطين فـي العمل بـالسحر وروايته من الـيهود؟ قـيـل: وجه ذلك أن الذين أضاف اللّه جل ثناؤه إلـيهم اتبـاع ما تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان من السحر والكفر من الـيهود، نسبوا ما أضافه اللّه تعالـى ذكره إلـى الشياطين من ذلك إلـى سلـيـمان بن داود، وزعموا أن ذلك كان من علـمه وروايته، وأنه إنـما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والـجنّ والشياطين وسائر خـلق اللّه بـالسحر. فحسّنوا بذلك من ركوبهم ما حرّم اللّه علـيهم من السحر أَنْفُسَهم عند من كان جاهلاً بأمر اللّه ونهيه، وعند من كان لا علـم له بـما أنزل اللّه فـي ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلـى سلـيـمان من سلـيـمان، وهو نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم بشرٌ، وأنكروا أن يكون كان للّه رسولاً، و قالوا: بل كان ساحرا. فبرأ اللّه سلـيـمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلـى السحر والكفر لأسبـاب ادعوها علـيه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر بـاقـي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الاَخرين الذين كانوا يعملون بـالسحر، متزينـين عند أهل الـجهل فـي عملهم ذلك بأن سلـيـمان كان يعمله. فنفـى اللّه عن سلـيـمان علـيه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلـمهم أنهم إنـما اتبعوا فـي عملهم السحر ما تلته الشياطين فـي عهد سلـيـمان، دون ما كان سلـيـمان يأمرهم من طاعة اللّه واتبـاع ما أمرهم به فـي كتابه الذي أنزله علـى موسى صلوات اللّه علـيه. ذكر الدلائل علـى صحة ما قلنا من الأخبـار والاَثار: ١٢٤٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبـي الـمغيرة، عن سعيد بن جبـير، قال: كان سلـيـمان يتتبع ما فـي أيدي الشياطين من السحر، فـيأخذه فـيدفنه تـحت كرسيه فـي بـيت خزانته. فلـم تقدر الشياطين أن يصلوا إلـيه، فدَنَتْ إلـى الإنس، فقالوا لهم: أتريدون العلـم الذي كان سلـيـمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم: قالوا: فإنه فـي بـيت خزانته وتـحت كرسيه. فـاستثارته الإنس فـاستـخرجوه فعملوا به. فقال أهل الـحجاز: كان سلـيـمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنزل اللّه جل ثناؤه علـى لسان نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم براءة سلـيـمان، فقال: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ الآية، فأنزل اللّه براءة سلـيـمان علـى لسان نبـيه علـيهما السلام. ١٢٤٩ـ حدثنـي أبو السائب السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: كان الذي أصاب سلـيـمان بن داود فـي سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه علـيه، قال: فكان هوى سلـيـمان أن يكون الـحق لأهل الـجرادة فـيقضي لهم، فعوقب حين لـم يكن هواه فـيهم واحد قال: وكان سلـيـمان بن داود إذا أراد أن يدخـل الـخلاء أو يأتـي شيئا من نسائه أعطى الـجرادة خاتـمه. فلـما أراد اللّه أن يبتلـي سلـيـمان بـالذي ابتلاه به، أعطى الـجرادة ذات يوم خاتـمه، فجاء الشيطان فـي صورة سلـيـمان فقال لها: هاتـي خاتـمي فأخذه فلبسه، فلـما لبسه دانت له الشياطين والـجنّ والإنس قال: فجاءها سلـيـمان فقال: هاتـي خاتـمي فقالت: كذبت لست بسلـيـمان قال: فعرف سلـيـمان أنه بلاء ابتلـي به قال: فـانطلقت الشياطين فكتبت فـي تلك الأيام كتبـا فـيها سحر وكفر ثم دفنوها تـحت كرسي سلـيـمان، ثم أخرجوها فقرءوها علـى الناس و قالوا: إنـما كان سلـيـمان يغلب الناس بهذه الكتب قال: فبرىء الناس من سلـيـمان وأكفروه، حتـى بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فأنزل جل ثناؤه: وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ عَلـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ يعنـي الذي كتب الشياطين من السحر والكفر وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا فأنزل اللّه جل وعزّ وعذره. ١٢٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبـي مـجلز، قال: أخذ سلـيـمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خُـلّـي عنه، فرأى الناس السجعَ والسحرَ و قالوا: هذا كان يعمل به سلـيـمان فقال اللّه جل ثناؤه: وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. ١٢٥١ـ حدثنا أبو حميد، قال: حدثنا جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الـحارث، قال: بـينا نـحن عند ابن عبـاس إذ جاءه رجل، فقال له ابن عبـاس : من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أَيّهِ؟ قال: من الكوفة قال: فما الـخبر؟ قال: تركتهم يتـحدثون أن علـيّا خارج إلـيهم. ففزع فقال: ما تقول لا أبـا لك لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إنـي أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فـيأتـي أحدهم بكلـمة حقّ قد سمعها، فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فـيشربها قلوب الناس فأطلع اللّه علـيها سلـيـمانَ فدفنها تـحت كرسيه. فلـما توفـي سلـيـمان بن داود قام شيطان بـالطريق فقال: ألا أدلكم علـى كنزه الـمـمَنّع الذي لا كنز مثله؟ تـحت الكرسي. فأخرجوه فقالوا: هذا سحر. فتناسخها الأمـم، حتـى بقاياهم ما يتـحدّث به أهل العراق. فأنزل اللّه عذر سلـيـمان: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ عَلـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمانُ ولَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. ١٢٥٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا واللّه أعلـم أن الشياطين ابتدعت كتابـا فـيه سحر وأمر عظيـم، ثم أفشوه فـي الناس وأعلـموهم إياه. فلـما سمع بذلك سلـيـمان نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم تتبّع تلك الكتب، فأتـى بها فدفنها تـحت كرسيه كراهية أن يتعلـمها الناس. فلـما قبض اللّه نبـيه سلـيـمان عمدت الشياطين فـاستـخرجوها من مكانها الذي كانت فـيه فعلـموها الناس، فأخبروهم أن هذا علـم كان يكتـمه سلـيـمان ويستأثر به. فعذر اللّه نبـيه سلـيـمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كتبت الشياطين كتبـا فـيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تـحت كرسي سلـيـمان. فلـما مات سلـيـمان استـخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علـم كَتَـمَنَاهُ سلـيـمان. فقال اللّه جل وعزّ: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. ١٢٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، حدثنا الـحسين قال: عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ قال: كانت الشياطين تستـمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلـمة زادوا فـيها مثلها. وإن سلـيـمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تـحت كرسيه فلـما توفـي وجدته الشياطين فعلـمته الناس. ١٢٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن شهر بن حوشب، قال: لـما سُلب سلـيـمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر فـي غيبة سلـيـمان، فكتبت: من أراد أن يأتـي كذا وكذا فلـيستقبل الشمس ولـيقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فلـيستدبر الشمس ولـيقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: (هذا ما كتب آصف بن برخيا للـملك سلـيـمان بن داود من ذخائر كنوز العلـم)، ثم دفنته تـحت كرسيه. فلـما مات سلـيـمان قام إبلـيس خطيبـا فقال: يا أيها الناس إن سلـيـمان لـم يكن نبـيا، وإنـما كان ساحرا، فـالتَـمِسُوا سحره فـي متاعه وبـيوته ثم دلهم علـى الـمكان الذي دفن فـيه، فقالوا: واللّه لقد كان سلـيـمان ساحرا، هذا سحره، بهذا تعبّدَنا، وبهذا قهرَنا. فقال الـمؤمنون: بل كان نبـيا مؤمنا. فلـما بعث اللّه النبـيّ مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم جعل يذكر الأنبـياء حتـى ذكر داود وسلـيـمان، فقالت الـيهود: انظروا إلـى مـحمد يخـلط الـحقّ بـالبـاطل، يذكر سلـيـمان مع الأنبـياء، وإنـما كان ساحرا يركب الريح. فأنزل اللّه عذر سلـيـمان: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ الآية. ١٢٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق: وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـما بلغنـي لـما ذكر سلـيـمان بن داود فـي الـمرسلـين، قال بعض أحبـار الـيهود: ألا تعجبون من مـحمد يزعم أن ابن داود كان نبـيّا، واللّه ما كان إلا ساحرا فأنزل اللّه فـي ذلك من قولهم: وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا أي بإتبـاعهم السحر وعملهم به وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبَـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ. قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا وتأويـل قوله: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا ما ذكرنا فتبـين أن فـي الكلام متروكا ترك ذكره اكتفـاءً بـما ذكر منه، وأن معنى الكلام: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ من السحر علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ فتضيفه إلـى سلـيـمان، وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ فـيعمل بـالسحر وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ. وقد كان قتادة يتأوّل قوله: وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا علـى ما قلنا. ١٢٥٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَان وَلَكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا يقول: ما كان عن مشورته، ولا عن رضا منه ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى اختلاف الـمختلفـين فـي معنى (تتلو)، وتوجيه من وجه ذلك إلـى أن (تتلوا) بـمعنى تلت، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهوقوله: وَاتّبَعُوا وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلـى خلاف ذلك. وبـيّنا فـيه وفـي نظيره الصواب من القول، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأما معنى قوله: ما تَتْلُوا فإنه بـمعنى الذي تتلو وهو السحر. ١٢٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ أي السحر. قال أبو جعفر: ولعلّ قائلاً أن يقول: أَوَ ما كان السحر إلا أيام سلـيـمان؟ قـيـل له: بلـى قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر اللّه عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سلـيـمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال: فكيف أخبر عن الـيهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان؟ قـيـل: لأنهم أضافوا ذلك إلـى سلـيـمان علـى ما قد قدمنا البـيان عنه، فأراد اللّه تعالـى ذكره تبرئة سلـيـمان مـما نَـحَلُوه وأضافوا إلـيه مـما كانوا وجدوه إما فـي خزائنه وإما تـحت كرسيه، علـى ما جاءت به الاَثار التـي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الـخبر عْما كانت الـيهود اتبعته فـيـما تلته الشياطين أيام سلـيـمان دون غيره لذلك السبب، وإن كان الشياطين قد كانت تالـية للسحر والكفر قبل ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ. اختلف أهل العلـم فـي تأويـل (ما) التـي في قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ فقال بعضهم: معناه الـجحد وهي بـمعنى (لـم). ذكر من قال ذلك:. ١٢٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ فإنه يقول: لـم ينزل اللّه السحر. ١٢٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنـي حكام عن أبـي جعفر، عن الربـيع بن أنس: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل اللّه علـيهما السحر. فتأويـل الآية علـى هذا الـمعنى الذي ذكرناه عن ابن عبـاس والربـيع من توجيههما معنى قوله: وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ إلـى: ولـم ينزل علـى الـملكين، واتبعوا الذي تتلوا الشياطين علـى ملك سلـيـمان من السحر، وما كفر سلـيـمان ولا أنزل اللّه السحر علـى الـملكين ولكنّ الشّياطينَ كفرُوا يعلـمونَ الناسَ السحرَ ببـابل هاروت وماروت، فـيكون حينئذ قوله: ببـابل وهاروت وماروت من الـمؤخر الذي معناه التقديـم. فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديـم ذلك؟ قـيـل: وجه تقديـمه أن يقال: وابتعوا ما تتلو الشياطين علـى ملك سلـيـمان وما أنزل علـى الـملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلـمون الناس السحر ببـابل هاروت وماروت. فـيكون معنـيّا بـالـملكين: جبريـل وميكائيـل لأن سحرة الـيهود فـيـما ذكر كانت تزعم أن اللّه أنزل السحر علـى لسان جبريـل وميكائيـل إلـى سلـيـمان بن داود. فأكذبها اللّه بذلك وأخبر نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أن جبريـل وميكائيـل لـم ينزلا بسحر قط، وبرأ سلـيـمان مـما نـحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلـم الناس ببـابل، وأن الذين يعلـمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الاَخر ماروت فـيكون هاروت وماروت علـى هذا التأويـل ترجمة علـى الناس وردا علـيهم. وقال آخرون: بل تأويـل (ما) التـي في قوله: وَما أُنْزلَ علـى الـمَلَكَيْنِ (الذي). ذكر من قال ذلك: ١٢٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد اللّه : وَما أُنْزِلَ عَلـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ كانا ملكين من الـملائكة فأهبطا لـيحكما بـين الناس. وذلك أن الـملائمكة سخروا من أحكام بنـي آدم، قال: فحاكمت إلـيهما امرأة فحافـا لها، ثم ذهبـا يصعدان، فحيـل بـينهما وبـين ذلك وخُيّرا بـين عذاب الدنـيا وعذاب الاَخرة، فـاختارا عذاب الدنـيا. قال معمر: قال قتادة: فكانا يعلـمان الناس السحر، فأخذ علـيهما أن لا يعلـما أحدا حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر. ١٢٦١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا يقول: خاصموه بـما أنزل علـى الـملكين وإن كلام الـملائكة فـيـما بـينهم إذا علـمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا. ١٢٦٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحرَ وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ فـالسحر سحران: سحر تعلـمه الشياطين، وسحر يعلـمه هاروت وماروت. ١٢٦٣ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ قال: التفريق بـين الـمرء وزوجه. ١٢٦٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ فقرأ حتـى بلغ: فَلا تَكْفُرْ قال: الشياطين والـملكان يعلـمون الناس السحر. قال أبو جعفر: فمعنى الآية علـى تأويـل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت الـيهود الذي تلت الشياطين فـي ملك سلـيـمان الذي أنزل علـى الـملكين ببـابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة اللّه ، سنذكر ما روي من الأخبـار فـي شأنهما إن شاء اللّه تعالـى. وقالوا: إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل اللّه السحر، أم هل يجوز لـملائكته أن تعلـمه الناس؟ قلنا له: إن اللّه عزّ وجلّ قد أنزل الـخير والشرّ كله. وبـيّن جميع ذلك لعبـاده، فأوحاه إلـى رسله وأمرهم بتعلـيـم خـلقه وتعريفهم ما يحلّ لهم مـما يحرم علـيهم وذلك كالزنا والسرقة وسائر الـمعاصي التـي عَرّفُهموها ونهاهم عن ركوبها، فـالسحر أحد تلك الـمعاصي التـي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها. قالوا: لـيس فـي العلـم بـالسحر إثم، كما لا إثم فـي العلـم بصنعة الـخمر ونـحت الأصنام والطنابـير والـملاعب، وإنـما الإثم فـي عمله وتسويته. قالوا: وكذلك لا إثم فـي العلـم بـالسحر، وإنـما الإثم فـي العمل به وأن يضرّ به من لا يحلّ ضرّه به. قالوا: فلـيس فـي إنزال اللّه إياه علـى الـملكين ولا فـي تعلـيـم الـملكين من علـماه من الناس إثم إذا كان تعلـيـمهما من علّـماه ذلك بإذن اللّه لهما بتعلـيـمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر وإنـما الإثم علـى من يتعلـمه منهما ويعمل به، إذْ كان اللّه تعالـى ذكره قد نهاه عن تعلـمه والعمل به. قالوا: ولو كان اللّه أبـاح لبنـي آدم أن يتعلـموا ذلك، لـم يكن من تعلـمه حَرِجا، كما لـم يكونا حَرِجَيْن لعلـمهما به، إذْ كان علـمهما بذلك عن تنزيـل اللّه إلـيهما. وقال آخرون: معنى (ما) معنى (الذي)، وهي عطف علـى (ما) الأولـى، غير أن الأولـى فـي معنى السحر والاَخرة فـي معنى التفريق بـين الـمرء وزوجه. فتأويـل الآية علـى هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين فـي ملك سلـيـمان، والتفريق الذي بـين الـمرء وزوجه الذي أنزل علـى الـملكين ببـابل هاروت وماروت. ذكر من قال ذلك: ١٢٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ وهما يعلّـمان ما يفرقون به بـين الـمرء وزوجه، وذلك قول اللّه جل ثناؤه: وَما كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا وكان يقول: أما السحر فإنـما يعلـمه الشياطين، وأما الذي يعلـم الـملكان فـالتفريق بـين الـمرء وزوجه، كما قال اللّه تعالـى. وقال آخرون: جائز أن تكون (ما) بـمعنى (الذي)، وجائز أن تكون (ما) بـمعنى (لـم). ذكر من قال ذلك. ١٢٦٦ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي اللـيث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن مـحمد، وسأله رجل عن قول اللّه : يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ فقال الرجل: يعلّـمان الناس ما أنزل علـيهما، أم يعلـمان الناس ما لـم ينزل علـيهما؟ قال القاسم: ما أُبـالـي أيتهما كانت. حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا بشر بن عياض، عن بعض أصحابه، أن القاسم بن مـحمد سئل عن قول اللّه تعالـى ذكره: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ فقـيـل له: أنزل أو لـم ينزل؟ فقال: لا أبـالـي أي ذلك كان، إلاّ أنـي آمنت به. والصواب من القول فـي ذلك عندي قول من وجّه (ما) التـي في قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ إلـى معنى (الذي) دون معنى (ما) التـي هي بـمعنى الـجحد. وإنـما اخترت ذلك من أجل أن (ما) إن وجهت إلـى معنى الـجحد، فتنفـي عن الـملكين أن يكونا منزلاً إلـيهما. ولـم يَخْـلُ الاسمان اللذان بعدهما أعنـي هاروت وماروت من أن يكونا بدلاً منهما وترجمة عنهما، أو بدلاً من الناس في قوله: يعلّـمون النّاسَ السّحْرَ وترجمة عنهما. فإن جُعلا بدلاً من الـملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله: وَما يُعَلّـمانِ مِنْ أَحَدٍ حتـى يَقُولا إنّـما نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ لأنهما إذا لـم يكونا عالـمين بـما يفرّق به بـين الـمرء وزوجه، فما الذي يَتَعَلّـم منهما مَنْ يفرّق بـين الـمرء وزوجه؟ وبعد، فإن (ما) التـي في قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ إن كانت فـي معنى الـجحد عطفـا علـى قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ فإن اللّه جل ثناؤه نفـى بقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَـيْـمَانُ عن سلـيـمان أن يكون السحر من عمله، أو من علـمه أو تعلـيـمه. فإن كان الذي نفـى عن الـملكين من ذلك نظير الذي نفـى عن سلـيـمان منه، وهاروت وماروت هما الـملكان، فمن الـمتعلـم منه إذا ما يفرّق به بـين الـمرء وزوجه؟ وعمن الـخبر الذي أخبر عنه بقوله: وَما يُعَلّـمَانِ مِنْ أحَدٍ حتـى يَقُولاَ إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بَـيّنٌ. وإن كان قوله (هاروت وماروت) ترجمة من الناس الذين في قوله: وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ فقد وجب أن تكون الشياطين هي التـي تعلـم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنـما تعلـمت السحر من هاروت وماروت عن تعلـيـم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخـلو هاروت وماروت عند قائل هذه الـمقالة من أحد أمرين: إما أن يكونا مَلَكين، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بـاللّه والـمعصية له بنسبته إياهما إلـى أنهما يتعلـمان من الشياطين السحر ويعلـمانه الناس، وإصرارهما علـى ذلك ومقامهما علـيه أعظم مـما ذكر عنهما أنهما أتـياه من الـمعصية التـي استـحقا علـيها العقاب، وفـي خبر اللّه عزّ وجلّ عنهما أنهما لا يعلـمان أحدا ما يتعلـم منهما حتـى يقولا: إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ما يغنـي عن الإكثار فـي الدلالة علـى خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلـين من بنـي آدم فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلـم به والعمل من بنـي آدم لأنه إذا كان علـم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلـم، فـالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبـيـل إلـى الوصول إلـى الـمعنى الذي كان لا يوصل إلـيه إلا بهما وفـي وجود السحر فـي كل زمان ووقت أبـين الدلالة علـى فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بنـي آدم، لـم يعدما من الأرض منذ خـلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر فـي الناس. فـيدعي ما لا يخفـى بُطُولُهُ. فإذا فسدت هذه الوجوه التـي دللنا علـى فسادها، فبـين أن معنى: ما التـي في قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بـمعنى (الذي)، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الـملكين ولذلك فتـحت أواخر أسمائهما، لأنهما فـي موضع خفض علـى الردّ علـى الـملكين، ولكنهما لـما كانا لا يجرّان فتـحت أواخر أسمائهما. فإن التبس علـى ذي غبـاء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لـملائكة اللّه أن تعلـم الناس التفريق بـين الـمرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلـى اللّه تبـارك وتعالـى إنزال ذلك علـى الـملائكة؟ قـيـل له: إن اللّه جل ثناؤه عرّف عبـاده جَميعَ ما أمرهم به وجميعَ ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلـم منهم بـما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر علـى غير ذلك، لـما كان للأمر والنهي معنى مفهوم فـالسحر مـما قد نهى عبـاده من بنـي آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علـمه الـملكين اللذين سماهما فـي تنزيـله وجعلهما فتنة لعبـاده من بنـي آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لـمن يتعلـم ذلك منهما: إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ لـيختبر بهما عبـاده الذين نهاهم عن التفريق بـين الـمرء وزوجه وعن السحر، فـيـمـحّص الـمؤمن بتركه التعلـم منهما، ويُخزي الكافر بتعلـمه السحر والكفر منهما، ويكون الـملكان فـي تعلـيـمهما من علّـما ذلك للّه مطيعين، إذ كانا عن إذن اللّه لهما بتعلـيـم ذلك من علـماه يعلـمان. وقد عُبد من دون اللّه جماعةٌ من أولـياء اللّه ، فلـم يكن ذلك لهم ضائرا إذْ لـم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والـمعبود عنه ناهٍ، فكذلك الـملكان غير ضائرهما سحر من سحر مـمن تعلـم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعِظَتهما له بقولهما: إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ إذ كانا قد أدّيا ما أُمر به بقـيـلهما ذلك. كما: ١٢٦٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الـحسن في قوله: وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ إلـى قوله: فَلاَ تَكْفُرْ أُخِذَ علـيهما ذلك. ذكر بعض الأخبـار التـي فـي بـيان الـملكين، ومن قال إن هاروت وماروت هما الـملكان اللذان ذكر اللّه جل ثناؤه في قوله: ببـابل: ١٢٦٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة، قال: حدثنا أبو شعبة العدوي فـي جنازة يونس بن جبـير أبـي غلاب، عن ابن عبـاس قال: إن اللّه أفرج السماء لـملائكته ينظرون إلـى أعمال بنـي آدم، فلـما أبصروهم يعملون الـخطايا، قالوا: يا ربّ هؤلاء بنو آدم الذي خـلقته بـيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلـمته أسماء كل شيء، يعملون بـالـخطايا قال: أما إنكم لو كنتـم مكانهم لعملتـم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا، قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلـى الأرض قال: فـاختاروا هارون وماروت، فـاهبطا إلـى الأرض، وأحلّ لهما ما فـيها من شيء غير أن لا يشركا بـاللّه شيئا ولا يسرقا، ولا يزنـيا، ولا يشربـا الـخمر، ولا يقتلا النفس التـي حرّم اللّه إلا بـالـحقّ قال: فما استـمرّا حتـى عرض لهما امرأة قد قُسم لها نصف الـحسن يقال لها (بـيذخت)، فلـما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بـاللّه وتشربـا الـخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنـم. فقالا: ما كنا لنشرك بـاللّه شيئا. فقال أحدهما للاَخر: ارجع إلـيها. فقالت: لا إلا أن تشربـا الـخمر فشربـا حتـى ثملا، ودخـل علـيهما سائل فقتلاه. فلـما وقعا فـيه من الشرّ، أفرج اللّه السماء لـملائكته، فقالوا: سبحانك كنت أعلـم قال: فأوحى اللّه إلـى سلـيـمان بن داود أن يخيّرهما بـين عذاب الدنـيا وعذاب الاَخرة، فـاختارا عذاب الدنـيا، فكُبّلا من أكعبهما إلـى أعناقهما بـمثل أعناق البُخْت وجُعلا ببـابل. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حجاج، عن علـيّ بن زيد، عن أبـي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عبـاس أنهما قالا: لـما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الـملائكة علـيهم والأرض والسماء والـجبـال: ربنا ألا تهلكهم؟ فأوحى اللّه إلـى الـملائكة: إنـي لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتـم لفعلتـم أيضا قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا. فأوحى اللّه إلـيهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فـاختاروا هاروت وماروت، فـاهبطا إلـى الأرض وأُنزلت الزّهَرَة إلـيهما فـي صورة امرأة من أهل فـارس، وكان أهل فـارس يسمونها (بـيذخت) قال: فوقعا بـالـخطيئة، فكانت الـملائكة يستغفرون للذين آمنوا. رَبنَا وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْـما فَـاغْفِرْ لِلّذينَ تَابُوا. فلـما وقعا بـالـخطيئة استغفروا لـمن فـي الأرض: أَلاَ إنّ اللّه هُوَ الغَفُورُ الرّحيـمُ فخُيرا بـين عذاب الدنـيا وعذاب الاَخرة فـاختارا عذاب الدنـيا. ١٢٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن خالد الـحذاء، عن عمرو بن سعيد، قال سمعت علـيّا يقول: كانت الزّهَرَة امرأة جميـلة من أهل فـارس، وإنها خاصمت إلـى الـملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلـماها الكلام الذي إذا تكلـم به يعرج به إلـى السماء. فعلـماها فتكلـمت فعرجت إلـى السماء فمُسِخت كوكبـا. ١٢٧٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى، قالا: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن الثوري، عن مـحمد بن عقبة، عن سالـم، عن ابن عمر، عن كعب، قال: ذكرت الـملائكة أعمال بنـي آدم وما يأتون من الذنوب، فقـيـل لهم: اختاروا منكم اثنـين وقال الـحسن بن يحيى فـي حديثه: اختاروا ملكين فـاختاروا هاروت وماروت، فقـيـل لهما: إنـي أرسل إلـى بنـي آدم رُسُلاً، ولـيس بـينـي وبـينكم رسول، انزلا لا تشركا بـي شيئا، ولا تزنـيا، ولا تشربـا الـخمر قال كعب: فواللّه ما أَمْسَيا من يومهما الذي أُهبطا فـيه إلـى الأرض، حتـى استكملا جميع ما نهيا عنه وقال الـحسن بن يحيى فـي حديثه: فما استكملا يومهما الذي أُنزلا فـيه حتـى عملا ما حرم اللّه علـيهما. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا معلـى بن أسد، قال: حدثنا عبد العزيز بن الـمختار، عن موسى بن عقبة، قال: حدثنـي سالـم أنه سمع عبد اللّه يحدّث عن كعب الأحبـار، أنه حدث أن الـملائكة أنكروا أعمال بنـي آدم وما يأتون فـي الأرض من الـمعاصي، فقال اللّه لهم: إنكم لو كنتـم مكانهم أتـيتـم ما يأتون من الذنوب فـاختاروا منكم ملكين فـاختاروا هاروت وماروت، فقال اللّه لهما: إنـي أرسل رسلـي إلـى الناس، ولـيس بـينـي وبـينكما رسول، انزلا إلـى الأرض، ولا تشركا بـي شيئا، ولا تزنـيا فقال كعب: والذي نفس كعب بـيده ما استكملا يومهما الذي نزلا فـيه حتـى أتـيا ما حرّم اللّه علـيهما. ١٢٧١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا علـى أهل الأرض فـي أحكامهم، فقـيـل لهما: إنـي أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات فبها يعصوننـي. قال هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لـحَكَمْنا بـالعدل. فقال لهما: انزل فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فـاحكما بـين الناس فنزلا ببـابل دُنْبـاوند، فكانا يحكمان، حتـى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا. فلـم يزالا كذلك حتـى أتتهما امرأة تـخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها واسمها بـالعربـية (الزّهَرَة)، وبـالنبطية (بـيذخت)، واسمها بـالفـارسية (أناهيذ)، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبنـي. فقال الاَخر: قد أردت أن أذكر لك فـاستـحيـيت منك. فقال الاَخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب اللّه ؟ قال الاَخر: إنا نرجو رحمة اللّه . فلـما جاءت تـخاصم زوجها ذكرا إلـيها نفسها، فقالت: لا حتـى تقضيا لـي علـى زوجي، فقضيا لها علـى زوجها. ثم واعدتهما خربة من الـخرب يأتـيانها فـيها، فأتـياها لذلك، فلـما أراد الذي يواقعها، قالت: ما أنا بـالذي أفعل حتـى تـخبرانـي بأيّ كلام تصعدان إلـى السماء؟ وبأيّ كلام تنزلان منها؟ فأخبراها فتكلـمت فصعدت. فأنساها اللّه ما تنزل به فبقـيت مكانها، وجعلها اللّه كوكبـا فكان عبد اللّه بن عمر كلـما رآها لعنها وقال: هذه التـي فتنت هاروت وماروت فلـما كان اللـيـل أرادا أن يصعدا فلـم يستطيعا فعرفـا الهلك، فخُيرا بـين عذاب الدنـيا والاَخرة، فـاختارا عذاب الدنـيا من عذاب الاَخرة، فعلّقا ببـال فجعلا يكلـمان الناس كلامَهما وهو السحر. ١٢٧٢ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: لـما وقع الناس من بعد آدم فـيـما وقعوا فـيه من الـمعاصي والكفر بـاللّه ، قالت الـملائكة فـي السماء: أي ربّ هذا العالـم إنـما خـلقتهم لعبـادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الـحرام وأكلِ الـمال الـحرام والسرقة والزنا وشرب الـخمر فجعلوا يدعون علـيهم ولا يعذرونهم. فقـيـل لهم: إنهم فـي غيب فلـم يعذروهم، فقـيـل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري، وأنهاهما عن معصيتـي فـاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلـى الأرض، وجعل بهما شهوات بنـي آدم، وأُمرا أن يعبدا اللّه ولا يشركا به شيئا، ونُهيا عن قتل النفس الـحرام، وأكْل الـمال الـحرام، والسرقة والزنا وشرب الـخمر. فلبثا علـى ذلك فـي الأرض زمانا يحكمان بـين الناس بـالـحقّ، وذلك فـي زمان إدريس، وفـي ذلك الزمان امرأة حسنها فـي سائر الناس كحسن الزهرة فـي سائر الكواكب. وإنها أتت علـيهما فخضعا لها بـالقول، وأراداها علـى نفسها، وإنها أبت إلا أن يكونا علـى أمرها ودينها، وإنهما سألاها عن دينها التـي هي علـيه، فأخرجت لهما صنـما وقالت: هذا أعبد. فقالا: لا حاجة لنا فـي عبـادة هذا. فذهبـا فصبرا ما شاء اللّه ، ثم أتـيا علـيها فخضعا لها بـالقول وأراداها علـى نفسها. فقالت: لا إلا أن تكونا علـى ما أنا علـيه. فقالا: لا حاجة لنا فـي عبـادة هذا. فلـما رأت أنهما أبـيا أن يعبدا الصنـم، قالت لهما: اختارا إحدى الـخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنـم، أو تقتلا النفس، أو تشربـا الـخمر. فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهْوَنُ الثلاثة شرب الـخمر. فسقتهما الـخمر، حتـى إذا أخذت الـخمر فـيهما وقعا بها، فمرّ بهما إنسان وهما فـي ذلك، فخشيا أن يفشي علـيهما فقتلاه. فلـما أن ذهب عنهما السكر عرفـا ما وقعا فـيه من الـخطيئة وأرادا أن يصعدا إلـى السماء فلـم يستطيعا، فَحِيـلَ بـينهما وبـين ذلك، وكشف الغطاء بـينهما وبـين أهل السماء. فنظرت الـملائكة إلـى ما وقعا فـيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلـموا أن من كان فـي غيب فهو أقلّ غشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لـمن فـي الأرض. وإنهما لـما وقعا فـيـما وقعا فـيه من الـخطيئة، قـيـل لهما: اختارا عذاب الدنـيا أو عذاب الاَخرة فقالا: أما عذاب الدنـيا فإنه ينقطع وأما عذاب الاَخرة فلا انقطاع له. فـاختارا عذاب الدنـيا، فجُعلا ببـابل، فهما يعذّبـان. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالـح، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلـما كان من آخر اللـيـل قال: يا نافع انظر طلعت الـحمراء قالها مرّتـين أو ثلاثا. ثم قلت: قد طلعت قال: لا مرحبـا ولا أهلاً قلت: سبحان اللّه نـجم مسخر سامع مطيع؟ قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: قال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الـمَلاَئِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبّ كَيْفَ صَبْرُكَ عَلَـى بَنِـي آدَمَ فِـي الـخَطايا والذّنُوبِ؟ قال: إنـي ابْتَلَـيْتُهُمْ وَعافَـيْتُكُمْ. قالُوا: لَوْ كُنّا مَكَانَهُمْ مَا عَصَيْنَاكَ قال: فـاخْتارُوا مَلَكَيْنِ مِنْكُمْ قالَ: فَلَـمْ يألُوا أنْ يَخْتارُوا، فـاخْتارُوا هارُوتَ وَمارُوتَ). ١٢٧٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الـملائكة عجبت من ظلـم بنـي آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبـينات، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان فـي الأرض بـين بنـي آدم فـاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: عجبتـما من بنـي آدم ومن ظلـمهم ومعصيتهم، وإنـما تأتـيهم الرسل والكتب من وراءَ وراءَ، وأنتـما لـيس بـينـي وبـينكما رسول، فـافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمر ونهاهما. ثم نزلا علـى ذلك لـيس أحد للّه أطوع منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النهار بـين بنـي آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الـملائكة، وينزلان حين يصبحان فـيحكمان فـيعدلان. حتـى أُنزلت علـيهما الزهرة فـي أحسن صورة امرأة تـخاصم، فقضيا علـيها. فلـما قامت وجد كل واحد منهما فـي نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدتُ؟ قال: نعم، فبعثا إلـيها أن ائتـينا نَقْضِ لك. فلـما رجعت قالا لها وقضيا لها: ائتـينا فأتتهما، فكشفـا لها عن عورتهما. وإنـما كانت شهوتهما فـي أنفسهما ولـم يكونا كبنـي آدم فـي شهوة النساء ولذّتها. فلـما بلغا ذلك واستـحلاّه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلـما أمسيا عرجا فرُدّا ولـم يؤذن لهما ولـم تـحملهما أجنـحتهما فـاستغاثا برجل من بنـي آدم، فأتـياه فقالا: ادع لنا ربك فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير فـي السماء. فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما. فدعا لهما فـاستـجيب له، فخُيّرا بـين عذاب الدنـيا وعذاب الاَخرة. فنظر أحدهما إلـى صاحبه فقالا: نعلـم أن أنواع عذاب اللّه فـي الاَخرة كذا وكذا فـي الـخـلد ومع الدنـيا سبع مرات مثلها. فـامرا أن ينزلا ببـابل، فثَمّ عذابهما. وزُعم أنهما معلقان فـي الـحديد مطويان يصفّقان بأجنـحتهما. قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وَما أُنْزِلَ علـى الـمَلِكَيْنِ) يعنـي به رجلـين من بنـي آدم. وقد دللنا علـى خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال فأما من جهة النقل فإجماع الـحجة علـى خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقرّاء الأمصار، وكفـى بذلك شاهدا علـى خطئها. وأما قوله بِبـابِلَ فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويـل فـيها، فقال بعضهم: إنها بـابل دنبـاوند. حدثنـي بذلك موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي. وقال بعضهم: بل ذلك بـابل العراق. ذكر من قال ذلك: ١٢٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن أبـي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة فـي قصة ذكرتها عن امرأة قدمت الـمدينة، فذكرت أنها صارت فـي العراق ببـابل، فأتت بها هاروت وماروت فتعلـمت منهما السحر. واختلف فـي معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتـى يخيـل إلـى الـمسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد، فـيخيـل إلـيه أنه ماء، ويرى الشيء من بعيد فـيثبته بخلاف ما هو علـى حقـيقته. وكراكب السفـينة السائرة سيرا حثـيثا يخيـل إلـيه أن ما عاين من الأشجار والـجبـال سائر معه. قالوا: فكذلك الـمسحور ذلك صفته، يحسب بعد الذي وصل إلـيه من سحر الساحر أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به علـى حقـيقته. كالذي: ١٢٧٥ـ حدثنـي أحمد بن الولـيد، وسفـيان بن وكيع قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـما سُحِرَ كان يُخَيّـلُ إلـيه أنه يفعل الشيء ولـم يفعله. ١٢٧٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: اثنا ابن نـمير، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهودي من يهود بنـي زُرَيْق يقال له لبـيد بن الأعصم، حتـى كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخيـل إلـيه أنه يفعل الشيء وما يفعله. ١٢٧٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: كان عروة بن الزبـير وسعيد بن الـمسيب يحدثان: أن يهود بنـي زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجعلوها فـي بئر حزم حتـى كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينكر بصره ودله اللّه علـى ما صنعوا. فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى بئر حزم التـي فـيها العقد فـانتزعها، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (سَحَرَتْنِـي يَهُودُ بَنِـي زُرَيْقٍ). وأنكر قائل هذه الـمقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره علـى قلب شيء عن حقـيقته، واستسخار شيء من خـلق اللّه إلا نظير الذي يقدر علـيه من ذلك سائر بنـي آدم، أو إنشاء شيء من الأجسام سوى الـمخاريق والـخدع الـمتـخيـلة لأبصار الناظرين بخلاف حقائقها التـي وصفنا. و قالوا: لو كان فـي وُسْع السحرة إنشاء الأجسام وقلب لـحقائق الأعيان عما هي به من الهيئات، لـم يكن بـين الـحقّ والبـاطل فَصْل، ولـجاز أن تكون جميع الـمـحسوسات مـما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفـي وصف اللّه جل وعزّ سحرة فرعون بقوله: فإذَا حِبَـالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّـلُ إلَـيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَى. وفـي خبر عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيـل إلـيه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، أوضح الدلالة علـى بطول دعوى الـمدعين: أن الساحر ينشىء أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذّر استسخاره علـى غيره من بنـي آدم. كالـموات والـجماد والـحيوان، وصحة ما قلنا. وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحوّل الإنسان حمارا، وأن يسحر الإنسان والـحمار وينشىء أعيانا وأجساما. واعتلّوا فـي ذلك بـما: ١٢٧٨ـ حدثنا به الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن أبـي الزناد، قال: حدثنـي هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنها قالت: قدمت علـيّ امرأةٌ من أهل دومة الـجندل، جاءت تبتغي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك، تسأله عن شيء دخـلت فـيه من أمر السحر ولـم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختـي، فرأيتها تبكي حين لـم تـجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيشفـيها، كانت تبكي حتـى إنـي لأرحمها، وتقول: إنـي لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لـي زوج فغاب عنـي، فدخـلت علـيّ عجوز فشكوت ذلك إلـيها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتـيك، فلـما كان اللـيـل جاءتنـي بكلبـين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الاَخر، فلـم يكن كشيء حتـى وقـفنا ببـابل، فإذا برجلـين معلقـين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلـم السحر؟ فقالا: إما نـحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبـيت وقلت: لا، فقالا: اذهبـي إلـى ذلك التّنور فبُولـي فـيه فذهبت ففزعت فلـم أفعل، فرجعت إلـيهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيت شيئا؟ قلت: لـم أر شيئا، فقالا لـي: لـم تفعلـي، ارجعي إلـى بلادك ولا تكفري فأبـيت، فقالا: اذهبـي إلـى ذلك التنور فبولـي فـيه فذهبت، فـاقشعررت وخفت. ثم رجعت إلـيهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لـم أر شيئا، فقالا: كذبت لـم تفعلـي، ارجعي إلـى بلادك ولا تكفري، فإنك علـى رأس أمرك فأبـيت، فقالا: اذهبـي إلـى ذلك التنور فبولـي فـيه فذهبت إلـيه فبلت فـيه، فرأيت فـارسا متقنعا بحديد خرج منـي حتـى ذهب فـي السماء وغاب عنـي حتـى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: فـارسا متقنعا خرج منـي فذهب فـي السماء حتـى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيـمانك خرج منك اذهبـي فقلت للـمرأة: واللّه ما أعلـم شيئا وما قالا لـي شيئا، فقالت: بلـى، لن تريدي شيئا إلا كان، خذي هذا القمـح فـابذري فبذرت، فقلت: أطلعي فأطلعت، وقلت: أحقلـي فأحقلت، ثم قلت: أفركي فأفركت، ثم قلت: أيبسي فأيبست، ثم قلت: أطحنـي فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت. فلـما رأيت أنـي لا أريد شيئا إلا كان سقط فـي يدي وندمت واللّه يا أمّ الـمؤمنـين، واللّه ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. قال أهل هذه الـمقالة بـما وصفنا واعتلوا بـما ذكرنا، و قالوا: لولا أن الساحر يقدر علـى فعل ما ادّعى أنه يقدر علـى فعله ما قدر أن يفرّق بـين الـمرء وزوجه، قالوا: وقد أخبر اللّه تعالـى ذكره عنهم أنهم يتعلـمون من الـملكين ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، وذلك لو كان علـى غير الـحقـيقة وكان علـى وجه التـخيـيـل والـحسبـان، لـم يكن تفريقا علـى صحة، وقد أخبر اللّه تعالـى ذكره عنهم أنهم يفرّقون علـى صحة. وقال آخرون: بل السحر أخذ بـالعين. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وما يُعَلّـمانِ مِنْ أحَدٍ حتـى يَقُولا إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ. وتأويـل ذلك: وما يعلـم الـملكان أحدا من الناس الذي أنزل علـيهما من التفريق بـين الـمرء وزوجه حتـى يقولا له: إنـما نـحن بلاء وفتنة لبنـي آدم فلا تكفر بربك. كما: ١٢٧٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: إذا أتاهما يعنـي هاروت وماروت إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنـما نـحن فتنة. فإن أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبُلْ علـيه. فإذا بـال علـيه خرج منه نور يسطع حتـى يدخـل السماء، وذلك الإيـمان وقـيـل شيء أسود كهيئة الدخان حتـى يدخـل فـي مسامعه وكل شيء منه، فلذلك غضب اللّه ، فإذا أخبرهما بذلك علـماه السحر. فذلك قول اللّه : وَما يُعَلّـمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتـى يَقُولا إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ الآية. ١٢٨٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والـحسن: حتـى يَقُولا إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ قال: أخذ علـيهما أن لا يعلّـما أحدا حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر. ١٢٨١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة: كانا يعلـمان الناس السحر، فأخذ علـيهما أن لا يعلـما أحدا حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر. ١٢٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، قال: قال غير قتادة: أخذ علـيهما أن لا يعلـما أحدا حتـى يتقدما إلـيه فـيقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الـحسن، قال: أخذ علـيهما أن يقولا ذلك. ١٢٨٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخذ الـميثاق علـيهما أن لا يعلـما أحدا حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة فلا تكفر، لا يجترىء علـى السحر إلا كافروأما الفتنة فـي هذا الـموضع، فإن معناها الاختبـار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر. وَقَدْ فُتِنَ النّاسُ فـي دِينِهِمْوخَـلّـى ابنُ عَفّـانَ شَرّا طَوِيلاَ ومنه قوله: فتنت الذهبَ فـي النار: إذا امتـحنتها لتعرف جودتها من رداءتها، أفتنه فتنة وفُتونا. كما: ١٢٨٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنّـمَا نَـحْنُ فِتْنَةٌ أي بلاء. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ. قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا خبر مبتدأ عن الـمتعلـمين من الـملكين ما أنزل علـيهما، ولـيس بجواب لقوله: وَمَا يُعَلّـمَانِ مِنْ أَحَدٍ بل هو خبر مستأنف ولذلك رُفع، فقـيـل: فـيتعلـمون. فمعنى الكلام إذا: وما يعلـمان من أحد حتـى يقولا: إنـما نـحن فتنة. فـيأبون قبول ذلك منهما فـيتعلـمون منهما ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه. وقد قـيـل: إن قوله: فَـيَتَعَلّـمُونَ خبر عن الـيهود معطوف علـى قوله: وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّـمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ بِبـابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ وجعلوا ذلك من الـمؤخر الذي معناه التقديـم. والذي قلنا أشبه بتأويـل الآية لأن إلـحاق ذلك بـالذي يـلـيه من الكلام ما كان للتأويـل وجه صحيح أَوْلـى من إلـحاقه بـما قد حيـل بـينه وبـينه من معترض الكلام. والهاء والـميـم والألف من قوله: مِنْهُمَا من ذكر الـملكين. ومعنى ذلك: فـيتعلـم الناس من الـملكين الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه. و(ما) التـي مع (يفرّقون) بـمعنى (الذي). وقـيـل معنى ذلك: السحر الذي يفرّقون به، وقـيـل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم فـي ذلك فـيـما مضى قبلوأما الـمرء فإنه بـمعنى رجل من أسماء بنـي آدم، والأنثى منه الـمرأة يوحد ويثنى، ولا تـجمع ثلاثته علـى صورته، يقال منه: هذا امرؤ صالـح، وهذان امرآن صالـحان، ولا يقال: هؤلاء امرءو صدق، ولكن يقال: هؤلاء رجال صدق، وقوم صدق. وكذلك الـمرأة توحد وتثنى ولا تـجمع علـى صورتها، يقال: هذه امرأة وهاتان امرأتان، ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن هؤلاء نسوة. وأما الزوج، فإن أهل الـحجاز يقولون لامرأة الرجل: هي زوجه، بـمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول اللّه تعالـى ذكره: أمْسِكْ عَلَـيْكَ زَوْجَكَ وتـميـم وكثـير من قـيس وأهل نـجد يقولون: هي زوجته، كما قال الشاعر: وَإنّ الّذِي يَـمْشِي يُحَرّشُ زَوْجَتِـيكماشٍ إلـى أُسْدِ الشّرَى يَسْتَبِـيـلُها فإن قال قائل: وكيف يفرّق الساحر بـين الـمرء وزوجه؟ قـيـل: قد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى السحر تـخيـيـل الشيء إلـى الـمرء بخلاف ما هو به فـي عينه وحقـيقته بـما فـيه الكفـاية لـمن وفق لفهمه. فإن كان ذلك صحيحا بـالذي استشهدنا علـيه، فتفريقه بـين الـمرء وزوجه تـخيـيـله بسحره إلـى كل واحد منهما شخصَ الاَخر علـى خلاف ما هو به فـي حقـيقته من حُسْن وجمال حتـى يقبحه عنده فـينصرف بوجهه ويعرض عنه حتـى يحدث الزوج لامرأته فراقا، فـيكون الساحر مفرقا بـينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بـينهما. وقد دللنا فـي غير موضع من كتابنا هذا علـى أن العرب تضيف الشيء إلـى مسببه من أجل تسببه وإن لـم يكن بـاشر فعل ما حدث عن السبب، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع فكذلك تفريق الساحر بسحره بـين الـمرء وزوجه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قاله عدد من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٢٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَـيْنَ الـمَرْءِ وَزَوْجِهِ وتفريقهما أن يُؤَخّذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغّض كلّ واحد منهما إلـى صاحبه. وأما الذين أبوا أن يكون الـملكان يعلـمان الناس التفريق بـين الـمرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويـل قوله: فَـيَتَعَلّـمُونَ مِنْهُمَا إلـى (فـيتعلـمون) مكان ما علـماهم ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، كقول القائل: لـيت لنا كذا من كذا، أي مكان كذا. كما قال الشاعر: جَمَعْتَ مِنَ الـخَيْرَاتِ وَطْبـا وعُلْبَةًوَصرّا لأخلافِ الـمُزّمَـمة البُزْلِ وَمِنْ كُلّ أخْلاقِ الكِرَامِ نَـمِيـمَةً وَسَعْيا علـى الـجارِ الـمُـجاوِرِ بـالنّـجْلِ يريد بقوله: (جمعت من الـخيرات)، مكان خيرات الدنـيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنـيئة. ومنه قول الاَخر: صَلَدَتْ صَفَـاتُكَ أنْ تَلِـينَ حُيُودُهاوَوَرِثْتَ مِنْ سَلَفِ الكِرَامِ عُقُوقَا يعنـي ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بـاذْنِ اللّه . يعنـي بقوله جل ثناؤه: وما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّه وما الـمتعلـمون من الـملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، بضارّين بـالذي تعلـموه منهما من الـمعنى الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه من أحد من الناس، إلاّ من قد قضى اللّه علـيه أن ذلك يضرّه فأما من دفع اللّه عنه ضرّه وحفظه من مكروه السحر والنفث والرّقَـى، فإن ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه. وللإذن فـي كلام العرب أوجه: منها الأمر علـى غير وجه الإلزام، وغير جائز أن يكون منه قوله: وَما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإذْنِ اللّه لأن اللّه جل ثناؤه قد حرّم التفريق بـين الـمرء وحلـيـلته بغير سحر فكيف به علـى وجه السحر علـى لسان الأمة. ومنها التـخـلـية بـين الـمأذون له والـمخـلّ بـينه وبـينه. ومنها العلـم بـالشيء، يقال منه: قد أذنت بهذا الأمر، إذا علـمت به، آذنَ به إذْنا ومنه قول الـحطيئة: ألا يا هِنْدُ إنْ جَدّدْتِ وَصْلاًوَإلاّ فأْذَنِـينِـي بـانْصِرَامِ يعنـي فأعلـمينـي. ومنه قوله جل ثناؤه: فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وَما هُمْ بِضَارّينَ بـالذي تعلـموا من الـملكين من أحد إلا بعلـم اللّه . يعنـي بـالذي سبق له فـي علـم اللّه أنه يضرّه. كما: ١٢٨٦ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان في قوله: ومَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّه قال: بقضاء اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيَتَعَلّـمُونَ ما يَضُرّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: وَيَتَعَلّـمُونَ أي الناس الذين يتعلـمون من الـملكين، ما أنزل علـيهما من الـمعنى الذي يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه، يتعلـمون منهما السحر الذي يضرّهم فـي دينهم ولا ينفعهم فـي معادهم. فأما فـي العاجل فـي الدنـيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لِـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لِـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ الفريق الذين لـما جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لـما معهم، نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلـمون، واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمَانَ فقال جل ثناؤه: لقد علـم النابذون من يهود بنـي إسرائيـل كتابـي وراء ظهورهم تـجاهلاً منهم، التاركون العمل بـما فـيه، من اتّبـاعك يا مـحمد واتّبـاع ما جئت به، بعد إنزالـي إلـيك كتابـي مصدقا لـما معهم، وبعد إرسالك إلـيهم بـالإقرار بـما معهم وما فـي أيديهم، الـمؤثرون علـيه اتبـاع السحر الذي تلته الشياطين علـى عهد سلـيـمان، والذي أنزل علـى الـملكين ببـابل هاروت وماروت لـمن اشترى السحر بكتابـي الذي أنزلته علـى رسولـي فآثره علـيه ماله فـي الاَخرة من خلاق. كما: ١٢٨٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ يقول: قد علـم ذلك أهل الكتاب فـي عهد اللّه إلـيهم أن الساحر لا خَلاقَ له عند اللّه يوم القـيامة. ١٢٨٨ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَن اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يعنـي الـيهود، يقول: لقد علـمت الـيهود أن من تعلـمه أو اختاره ما له فـي الاَخرة من خلاق. ١٢٨٩ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ لـمن اشترى ما يفرّق به بـين الـمرء وزوجه. ١٢٩٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ قال: قد علـمت يهود أن فـي كتاب اللّه فـي التوراة أن من اشترى السحر وترك دين اللّه ما له فـي الاَخرة من خَلاق، فـالنار مثواه ومأواه. وأما قوله: لَـمَنِ اشْتَرَاهُ فإن (من) فـي موضع رفع، ولـيس قوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا بعامل فـيها لأن قوله: عَلِـمُوا بـمعنى الـيـمين فلذلك كانت فـي موضع رفع، لأن الكلام بـمعنى: واللّه لـمن اشترى السحر ما له فـي الاَخرة من خلاق. ولكون قوله: قَدْ عَلِـمُوا بـمعنى الـيـمين حققت بلام الـيـمين، فقـيـل: لَـمَنِ اشُتَرَاهُ كما يقال: أُقسم لَـمَنْ قام خير مـمن قعد، وكما يقال: قد علـمت لعمرو خير من أبـيكوأما (من) فهو حرف جزاء. وإنـما قـيـل (اشتراه) ولـم يقل (يشتروه)، لدخول لام القسم علـى (من)، ومن شأن العرب إذا أحدثت علـى حرف الـجزاء لام القسم أن لا ينطقوا فـي الفعل معه إلا ب(فعل) دون (يفعل) إلا قلـيلاً كراهية أن يحدثوا علـى الـجزاء حادثا وهو مـجزوم، كما قال اللّه جل ثناؤه: لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يُخْرُجُونَ مَعَهُمْ وقد يجوز إظهار فعله بعده علـى (يفعل) مـجزوما، كما قال الشاعر: لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَـيْكُمْ بُـيُوتِكُمْلَـيَعْلَـمُ ربـي أنّ بَـيْتِـيَ وَاسِعُ واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: ما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ فقال بعضهم: الـخلاق فـي هذا الـموضع: النصيب. ذكر من قال ذلك: ١٢٩١ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ يقول: من نصيب. ١٢٩٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: مَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ من نصيب. ١٢٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي إسحاق، قال: حدثنا وكيع، قال سفـيان: سمعنا فـي: وَمَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ أنه ما له فـي الاَخرة من نصيب. وقال بعضهم: الـخَلاق ههنا: الـحجة. ذكر من قال ذلك: ١٢٩٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَمَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ قال: لـيس له فـي الاَخرة حجة. وقال آخرون: الـخلاق: الدين. ذكر من قال ذلك: ١٢٩٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الـحسن: ما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ قال: لـيس له دين. وقال آخرون: الـخلاق ههنا: القِوَام. ذكر من قال ذلك: ١٢٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عبـاس : مَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ قال: قِوَام. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى الـخلاق فـي هذا الـموضع: النصيب وذلك أن ذلك معناه فـي كلام العرب. ومنه قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لَـيُؤَيّدَنّ اللّه هَذَا الدّينَ بأقْوَامٍ لا خَلاَقَ لَهُمْ) يعنـي لا نصيب لهم ولا حظّ فـي الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبـي الصلت: يَدْعُونَ بِـالوَيْـلِ فِـيها لا خَلاَقَ لَهُمْإِلاّ سَرَابِـيـلَ مِنْ قِطْرٍ وأغْلالِ يعنـي بذلك: لا نصيب لهم ولا حظّ إلا السرابـيـل والأغلال. فكذل قوله: مَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ما له فـي الدار الاَخرة حظّ من الـجنة من أجل أنه لـم يكن له إيـمان ولا دين ولا عمل صالـح يجازي به فـي الـجنة ويثاب علـيه، فـيكون له حظّ ونصيب من الـجنة. وإنـما قال جل ثناؤه: ما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ فوصفه بأنه لا نصيب له فـي الاَخرة، وهو يعنـي به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دلّ ذمه جل ثناؤه أفعالهم التـي نفـى من أجلها أن يكون لهم فـي الاَخرة نصيب علـى مراده من الـخير، وأنه إنـما يعنـي بذلك أنه لا نصيب لهم فـيها من الـخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فـيها نصيبـا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ. قال أبو جعفر رحمه اللّه : قد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى شروا: بـاعوا فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما بـاع به نفسه من تعلـم السحر لو كان يعلـم سوء عاقبته. كما: ١٢٩٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ يقول: بئس ما بـاعوا به أنفسهم. فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ وقد قال قَبْلُ: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ فكيف يكونون عالـمين بأن من تعلـم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بـالسحر أنفسهم؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بـالـجهل بـما هم موصوفون بـالعلـم به، ولكن ذلك من الـمؤخر الذي معناه التقديـم، وإنـما معنى الكلام: وما هم ضارّون به من أحد إلا بإذن اللّه ، ويتعلـمون ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلـمون، ولقد علـموا لـمن اشتراه ما له فـي الاَخرة من خلاق. فقوله: لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ ذمّ من اللّه تعالـى ذكره فعل الـمتعلـمين من الـملكين التفريق بـين الـمرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بـالسحر عِوَضا عن دينهم الذي به نـجاة أنفسهم من الهلكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بـيعهم، إذ كان قد يتعلـم ذلك منهما من لا يعرف اللّه ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه. ثم عاد إلـى الفريق الذين أخبر اللّه عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلـمون: وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُو الشّياطِينُ علـى مُلْكِ سُلَـيْـمانَ، وما أُنْزِلَ علـى الـمَلَكَيْنِ. فأخبر عنهم أنهم قد علـموا أن من اشترى السحر ما له فـي الاَخرة من خلاق، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي اللّه علـى علـم منهم بها، ويكفرون بـاللّه ورسله، ويؤثرون اتبـاع الشياطين، والعمل بـما أحدثته من السحر علـى العمل بكتابه ووحيه وتنزيـله، عنادا منهم وبغيا علـى رسله، وتعديّا منهم لـحدوده، علـى معرفة منهم بـما لـمن فعل ذلك عند اللّه من العقاب والعذاب، فذلك تأويـل قوله. وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ يعنـي به الشياطين، وأن قوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ يعنـي به الناس. وذلك قول لـجميع أهل التأويـل مخالف وذلك أنهم مـجمعون علـى أن قوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمَنِ اشْتَرَاهُ معنـيّ به الـيهود دون الشياطين. ثم هو مع ذلك خلاف ما دلّ علـيه التنزيـل، لأن الاَيات قبل قوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمَنِ اشْتَرَاهُ وبعد قوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ جاءت من اللّه بذمّ الـيهود، وتوبـيخهم علـى ضلالهم، وذمّا لهم علـى نبذهم وحي اللّه وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علـمهم بخطأ فعلهم. فقوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لَـمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أحد تلك الأخبـار عنهم. وقال بعضهم: إن الذين وصف اللّه جل ثناؤه بقوله: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ فنفـى عنهم العلـم هم الذين وصفهم اللّه بقوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وإنـما نفـى عنهم جل ثناؤه العلـم بقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ بعد وصفه إياهم بأنهم قد علـموا بقوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا من أجل أنهم لـم يعملوا بـما علـموا، وإنـما العالـم العامل بعلـمه، وأما إذا خالف عمله علـمه فهو فـي معانـي الـجهال قال: وقد يقال للفـاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالـما: لو علـمت لأقصرت كما قال كعب بن زهير الـمزنـي، وهو يصف ذئبـا وغرابـا تبعاه لـينالا من طعامه وزاده: إذَا حَضَرَانِـي قُلْتُ لَوْ تَعْلَـمَا بِهِألـم تَعْلَـمَا أنـي مِنَ الزّادِ مُرْمِلُ فأخبر أنه قال لهما: لو تعلـمانه، فنفـى عنهما العلـم. ثم استـخبرهما فقال: ألـم تعلـما. قالوا: فكذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا لـمنِ اشْتَرَاهُ و:لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ وهذا تأويـل وإن كان له مخرج ووجهٌ فإنه خلاف الظاهر الـمفهوم بنفس الـخطاب. أعنـي بقوله: وَلَقَدْ عَلِـمُوا وقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ وإنـما هو استـخراج. وتأويـل القرآن علـى الـمفهوم الظاهر الـخطاب دون الـخفـيّ البـاطن منه، حتـى تأتـي دلالة من الوجه الذي يجب التسلـيـم له بـمعنى خلاف دلـيـله الظاهر الـمتعارف فـي أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن، أَوْلَـى. ١٠٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُواْ واتّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللّه خَيْرٌ لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقُوا لو أن الذين يتعلـمون من الـملكين ما يفرّقون به بـين الـمرء وزوجه آمنوا، فصدّقوا اللّه ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، واتقوا ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتـجنبوا معاصيه لكان جزاء اللّه إياهم وثوابه لهم علـى إيـمانهم به وتقواهم إياه خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به لو كانوا يعلـمون أن ثواب اللّه إياهم علـى ذلك خير لهم من السحر ومـما اكتسبوا به. وإنـما نفـى بقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَـمُونَ العلـم عنهم أن يكونوا عالـمين بـمبلغ ثواب اللّه وقدر جزائه علـى طاعته. والـمثوبة فـي كلام العرب مصدرٌ من قول القائل: أثبتك إثابةً وثوابـا ومَثُوبة، فأصل ذلك من ثاب إلـيك الشيء بـمعنى رجع، ثم يقال: أثبته إلـيك: أي رجعته إلـيك ورددته. فكان معنى إثابة الرجل الرجل علـى الهدية وغيرها: إرجاعه إلـيها منها بدلاً، وردّه علـيه منها عوضا. ثم جعل كلّ معوّض غيره من عمله أو هديته أويد له سلفت منه إلـيه مثـيبـا له. ومنه ثواب اللّه عزّ وجل عبـاده علـى أعمالهم، بـمعنى إعطائه إياهم العوض والـجزاء علـيه، حتـى يرجع إلـيهم بدل من عملهم الذي عملوا له. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن قوله: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا لَـمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه خَيْرٌ مـما اكتفـي بدلالة الكلام علـى معناه عن ذكر جوابه، وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لاثـيبوا ولكنه استغنى بدلالة الـخبر عن الـمثوبة عن قوله: لأثـيبوا. وكان بعض نـحويـي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا لَـمَثُوبَةٌ وأن (لو) إنـما أجيبت بـالـمثوبة، وإن كانت أخبر عنها بـالـماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى (لئن) فـي أنهما جزاءان، فإنهما جوابـان للإيـمان، فأدخـل جواب كلّ واحدة منهما علـى صاحبتها، فأجيبت (لو) بجواب (لئن)، و(لئن) بجواب (لو) لذلك وإن اختلفت أجوبتهما فكانت (لو) من حكمها وحظها أن تـجاب بـالـماضي من الفعل، وكانت (لئن) من حكمها وحظها أن تـجاب بـالـمستقبل من الفعل لـما وصفنا من تقاربهما، فكان يتأوّل معنى قوله: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوا: ولئن آمنوا واتقوا لـمثوبة من عند اللّه خير. وبـما قلنا فـي تأويـل الـمثوبة قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٢٩٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لَـمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه يقول: ثواب من عند اللّه . ١٢٩٩ـ حدثنـي يونس، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقَوْا لَـمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه أما الـمثوبة، فهو الثواب. ١٣٠٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَلَوْ أَنّهُمْ آمَنُوا وَاتّقُوا لَـمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّه خَيْرٌ يقول: لثواب من عند اللّه . ١٠٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا فقال بعضهم: تأويـله لا تقولوا خلافـا. ذكر من قال ذلك: ١٣٠١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: لاَ تَقُولُوا رَاعِنا قال: لا تقولوا خلافـا. ١٣٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لاَ تَقُولُوا رَاعِنا لا تقولوا خلافـا. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن رجل عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـجاهد، مثله. وقال آخرون: تأويـله: أرعنا سمعك: أي اسمع منا ونسمع منك. ذكر من قال ذلك: ١٣٠٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: رَاعِنَا أي أَرْعِنَا سمعك. ١٣٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه جلّ وعزّ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. ١٣٠٥ـ وحدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: رَاعِنا قال: كان الرجل من الـمشركين يقول: أرْعنـي سمعك. ثم اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله نهى اللّه الـمؤمنـين أن يقولوا راعنا، فقال بعضهم: هي كلـمة كانت الـيهود تقولها علـى وجه الاستهزاء والـمسبّة، فنهى اللّه تعالـى ذكره الـمؤمنـين أن يقولوا ذلك للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ١٣٠٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا قولٌ كانت تقوله الـيهود استهزاءً، فزجر اللّه الـمؤمنـين أن يقولوا كقولهم. ١٣٠٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية: لا تَقُولُوا رَاعِنا قال: كان أناس من الـيهود يقولون: أرعنا سمعك، حتـى قالها أناس من الـمسلـمين. فكره اللّه لهم ما قالت الـيهود، فقال: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا كما قالت الـيهود والنصارى. ١٣٠٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لا تَقُولوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا قال: كانوا يقولون راعنا سمعك، فكان الـيهود يأتون فـيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال اللّه : لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا. ١٣٠٩ـ وحدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: لاَ تَقُولُوا رَاعِنا قال: كانوا يقولون للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: راعنا سمعك وإنـما راعنا كقولك عَاطِنَا. ١٣١٠ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا قال: راعنا القول الذي قاله القوم قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَـيّا بألسِنَتِهِمْ وَطَعْنَا فـي الدّينِ قال: قال هذا الراعن، والراعن: الـخطّاء قال: فقال للـمؤمنـين: لا تقولوا خطاء كما قال القوم وقولوا انظرنا واسمعوا، قال: كانوا ينظرون إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ويكلـمونه ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم. وقال آخرون: بل هي كلـمة كانت الأنصار فـي الـجاهلـية تقولها، فنهاهم اللّه فـي الإسلام أن يقولوها لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ١٣١١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنـي هشيـم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء في قوله: لاَ تَقُولُوا رَاعِنا قال: كانت لغة فـي الأنصار فـي الـجاهلـية، فنزلت هذه الآية: لا تَقُولُوا رَاعِنا وَلكن قُولُوا انْظُرْنَا إلـى آخر الآية. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، عن عبد الـملك، عن عطاء قال: لاَ تَقُولُوا رَاعِنا قال: كانت لغة فـي الأنصار. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد الـملك، عن عطاء، مثله. ١٣١٢ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: لاَ تَقُولُوا رَاعِنا قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدّث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أَرْعنـي سمعك فنهوا عن ذلك. ١٣١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، راعنا قول الساخر، فنهاهم أن يسخروا من قول مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من الـيهود بعينه يقال له رفـاعة بن زيد، كان يكلـم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم به علـى وجه السبّ له، وكان الـمسلـمون أخذوا ذلك عنه، فنهى اللّه الـمؤمنـين عن قـيـله للنبـي صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ١٣١٤ـ حدثنـي موسى، قال حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا كان رجل من الـيهود من قبـيـلة من الـيهود يقال لهم بنو قـينقاع كان يُدْعَى رفـاعة بن زيد بن السائب. قال أبو جعفر: هذا خطأ إنـما هو ابن التابوت لـيس ابن السائب كان يأتـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإذا لقـيه فكلـمه قال: أرعنـي سمعك واسمع غير مسمع. فكان الـمسلـمون يحسبون أن الأنبـياء كانت تفخّم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، كقولك اسمع غير صاغر، وهي التـي فـي النساء: مِنَ الّذِينَ هَادُوا يحَرّفُونَ الكَلـمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَـيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِـي الدّينِ يقول: إنـما يريد بقوله: طَعْنا فِـي الدّينِ. ثم تقدم إلـى الـمؤمنـين فقال: لا تقولوا راعنا. والصواب من القول فـي نهي اللّه جل ثناؤه الـمؤمنـين أن يقولوا لنبـيه: راعنا، أن يقال إنها كلـمة كرهها اللّه لهم أن يقولوها لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (لاَ تَقُولُوا للعِنَبِ الكَرْمَ ولَكِنْ قُولُوا الـحَبلَة)، و(لا تَقُولُوا عبْدِي وَلَكِنْ قُولُوا فَتَايَ) وما أشبه ذلك من الكلـمتـين اللتـين تكونان مستعملتـين بـمعنى واحد فـي كلام العرب، فتأتـي الكراهة أو النهي بـاستعمال إحداهما واختـيار الأخرى علـيها فـي الـمخاطبـات. فإن قال لنا قائل: فإنا قد علـمنا معنى نهي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي العنب أن يقال له كرم، وفـي العبد أن يقال له عبد، فما الـمعنى الذي في قوله: راعِنا حينئذٍ الذي من أجله كان النهي من اللّه جل ثناؤه للـمؤمنـين عن أن يقولوه، حتـى أمرهم أن يؤثروا قوله: انْظُرْنا؟ قـيـل: الذي فـيه من ذلك، نظير الذي فـي قول القائل الكرم للعنب، والعبد للـمـملوك، وذلك أن قول القائل عبد، لـجميع عبـاد اللّه ، فكره النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يضاف بعض عبـاد اللّه ، بـمعنى العبودية إلـى غير اللّه ، وأمر أن يضاف ذلك إلـى غيره بغير الـمعنى الذي يضاف إلـى اللّه عزّ وجل، فـيقال: فتاي. وكذلك وجه نهيه فـي العنب أن يقال كرما خوفـا من توهم وصفه بـالكرم، وإن كانت مسكّنة، فإن العرب قد تسكن بعض الـحركات إذا تتابعت علـى نوع واحد، فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى اللّه عزّ وجل الـمؤمنـين أن يقولوا (راعنا)، لـما كان قول القائل (راعنا) مـحتـملاً أن يكون بـمعنى احفظنا ونـحفظك وارقبنا ونرقبك، من قول العرب بعضهم لبعض: رعاك اللّه بـمعنى حفظك اللّه وكلأك. ومـحتـملاً أن يكون بـمعنى أرعنا سمعك، من قولهم: أرعيت سمعي إرعاءً، أو راعيته سمعي رعاء أو مراعاة، بـمعنى: فرّغته لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميـمون بن قـيس: يَرْعَى إلـى قَوْلِ ساداتِ الرّجالِ إذَاأبْدَوْا لَهُ الـحَزْمَ أوْ مَا شَاءهُ ابْتَدعَا يعنـي بقوله يرعى: يصغي بسمعه إلـيه مُفْرِغَهُ لذلك. وكأن اللّه جل ثناؤه قد أمر الـمؤمنـين بتوقـير نبـيه صلى اللّه عليه وسلم وتعظيـمه، حتـى نهاهم جلّ ذكره فـيـما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بـالقوْل كجهر بعضهم لبعض وخوّفهم علـى ذلك حبوط أعمالهم، فتقدّم إلـيهم بـالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فـيه جفـاء، وأمرهم أن يتـخيروا لـخطابه من الألفـاظ أحسنها، ومن الـمعانـي أرقها، فكان من ذلك قولهم: راعِنا لِـمَا فِـيهِ من احتـمال معنى ارعنا نرعاك، إذْ كانت الـمفـاعلة لا تكون إلا من اثنـين، كما يقول القائل: عاطنا وحادثنا وجالسنا، بـمعنى افعل بنا ونفعل بك. ومعنى أرعنا سمعك حتـى نفهمك وتفهم عنا. فنهى اللّه تعالـى ذكره أصحاب مـحمد أن يقولوا ذلك كذلك وأن يفردوا مسألته بـانتظارهم وإمهالهم لـيعقلوا عنه بتبجيـل منهم له وتعظيـم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك علـى وجه الـجفـاء والتـجهم منهم له، ولا بـالفظاظة والغلظة، تشبها منهم بـالـيهود فـي خطابهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقولهم له: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنا. يدلّ علـى صحة ما قلنا فـي ذلك قوله: مَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ وَلاَ الـمُشْرِكِينَ أنْ يُنْزّلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبّكُمْ فدلّ بذلك أن الذي عاتبهم علـيه مـما يسرّ الـيهود والـمشركين. فأما التأويـل الذي حكي عن مـجاهد في قوله: رَاعِنا أنه بـمعنى خلافـا، فمـما لا يعقل فـي كلام العرب لأن (راعيت) فـي كلام العرب إنـما هو علـى أحد وجهين: أحدهما بـمعنى فـاعلت من (الرّعْية)، وهي الرّقْبة والكلاءة. والاَخر بـمعنى إفراغ السمع، بـمعنى أرعيته سمعيوأما (راعيت) بـمعنى (خالفت)، فلا وجه له مفهوم فـي كلام العرب، إلا أن يكون قرأ ذلك بـالتنوين ثم وجهه إلـى معنى الرعونة والـجهل والـخطأ، علـى النـحو الذي قال فـي ذلك عبد الرحمن بن زيد، فـيكون لذلك وإن كان مخالفـا قراءة القراء معنى مفهوم حينئذٍ. وأما القول الاَخر الذي حكي عن عطية ومن حَكَى ذلك عنه، أن قوله: رَاعِنا كانت كلـمة للـيهود بـمعنى السبّ والسخرية، فـاستعملها الـمؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم فإن ذلك غير جائز فـي صفة الـمؤمنـين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ثم يستعملونه بـينهم وفـي خطاب نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم، ولكنه جائز أن يكون ذلك مـما روي عن قتادة أنها كانت كلـمة صحيحة مفهومة من كلام العرب وافقت كلـمة من كلام الـيهود بغير اللسان العربـي هي عند الـيهود سبّ، وهي عند العرب: أرْعنِـي سمعك وفرّغه لتفهم عنـي. فعلـم اللّه جل ثناؤه معنى الـيهود فـي قـيـلهم ذلك للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها فـي كلام العرب، فنهى اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين عن قـيـلها للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لئلا يجترىء من كان معناه فـي ذلك غير معنى الـمؤمنـين فـيه أن يخاطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم به. وهذا تأويـل لـم يأت الـخبر بأنه كذلك من الوجه الذي تقوم به الـحجة. وإذْ كان ذلك كذلك فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما وصفنا، إذْ كان ذلك هو الظاهر الـمفهوم بـالآية دون غيره. وقد حكي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: (لا تَقُولُوا رَاعِنا) بـالتنوين، بـمعنى: لا تقولوا قولاً راعنا، من الرعونة وهي الـحمق والـجهل. وهذه قراءة الـمسلـمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة الـمتقدمين والـمتأخرين وخلافها ما جاءت به الـحجة من الـمسلـمين. ومن نوّن (راعنا) نوّنه بقوله: لا تَقُولُوا لأنه حينئذٍ عامل فـيه. ومن لـم ينوّنه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر مـحكيّ لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: راعِنا بـمعنى مسألته إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم علـى ما قد بـينت فـيـما قد مضى فقـيـل لهم: لا تقولوا فـي مسألتكم إياه راعنا. فتكون الدلالة علـى معنى الأمر فـي (راعنا) حينئذٍ سقوط الـياء التـي كانت تكون فـي (يراعيه). ويدلّ علـيها أعنـي علـى الـياء الساقطة كسرة العين من (راعنا). وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) بـمعنى حكاية أمر صالـحة لـجماعة بـمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا وُجّه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بـينهم فـي خطاب بعضهم بعضا كان خطابهم للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أو لغيره، ولا نعلـم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصحّ منه الأخبـار. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَقُولُوا انْظُرْنَا وقولوا يا أيها الـمؤمنون لنبـيكم صلى اللّه عليه وسلم: انتظرنا وارقبنا نفهم ونتبـين ما تقول لنا وتعلـمنا. كما: ١٣١٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَقُولُوا انْظُرْنَا فهّمْنا بـيّنْ لنا يا مـحمد. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَقُولُوا انْظُرْنَا فَهّمنا بـيّن لنا يا مـحمد. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. يقال منه: نظرت الرجل أنظره نظرة بـمعنى انتظرته ورقبته. ومنه قول الـحطيئة: وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أعْشاءَ صَادِرَةٍللـخمْسِ طالَ بِها حَوْزي وتَنْسَاسي ومنه قول اللّه عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ الـمُنَافِقُونَ وَالـمُنَافِقَاتُ للّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يعنـي به انتظرونا. وقد قرىء (أنْظِرنا) بقطع الألف فـي الـموضعين جميعا، فمن قرأ ذلك كذلك أراد أَخّرنا، كما قال اللّه جل ثناؤه: قَالَ رَبّ فأنْظِرْنِـي إلـى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أخّرنـي. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك فـي هذا الـموضع لأن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنـما أُمروا بـالدنوّ من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والاستـماع منه وإلطاف الـخطاب له وخفض الـجناح، لا بـالتأخر عنه ولا بـمسألته تأخيرهم عنه. فـالصواب إن كان ذلك كذلك من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله: انْظُرْنا ولـم يقطعها بـمعنى انتظرنا. وقد قـيـل: إن معنى (أَنْظِرنا) بقطع الألف بـمعنى (أمهلنا)، حكي عن بعض العرب سماعا: أنظرنـي أكلـمك وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته فـي معناه، فأخبره أنه أراد أمهلنـي. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم ف(انْظُرْ) و(أنْظِرْنا) بقطع الألف ووصلها متقاربـا الـمعنى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التـي أستـجيز غيرها قراءة من قرأ: وَقُولُوا انْظُرْنا بوصل الألف بـمعنى انتظرنا، لإجماع الـحجة علـى تصويبها ورفضهم غيرها من القراءات. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَاسمَعُوا وللْكافِرِينَ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: واسمَعُوا واسمعوا ما يقال لكم ويتلـى علـيكم من كتاب ربكم وعوه وافهموه. كما: ١٣١٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: واسمَعُوا اسمعوا ما يقال لكم. فمعنى الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبـيكم راعنا سمعك وفرّغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول، ولكن قولوا انتظرنا وترقبنا حتـى نفهم عنك ما تعلـمنا وتبـينه لنا، واسمعوا منه ما يقول لكم فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لـمن جحد منهم ومن غيرهم آياته وخالف أمره ونهيه وكذب رسوله العذاب الـموجع فـي الاَخرة، فقال: وللكافرين بـي وبرسولـي عذاب ألـيـم، يعنـي بقوله الألـيـم: الـموجع. وقد ذكرنا الدلالة علـى ذلك فـيـما مضى قبل وما فـيه من الاَثار. ١٠٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} يعنـي بقوله: ما يَوَدّ ما يحبّ، أي لـيس يحبّ كثـير من أهل الكتاب، يقال منه: ودّ فلان كذا يَوَدّ وُدّا ووَدّا ومودّةًوأما (الـمشركين) فإنهم فـي موضع خفض بـالعطف علـى أهل الكتاب. ومعنى الكلام: ما يحبّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا الـمشركين أن ينزل علـيكم من خير من ربكموأما أنْ في قوله: أنْ يُنَزّلَ فنصب بقوله: يَودّ. وقد دللنا علـى وجه دخول (مِن) في قوله: مِنْ خَيْرٍ وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون فـي أوله جحد فـيـما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. فتأويـل الكلام: ما يحبّ الكافرون من أهل الكتاب ولا الـمشركين بـاللّه من عبدة الأوثان أن ينزل علـيكم من الـخير الذي كان عند اللّه فنزلهم علـيكم. فتـمنى الـمشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل اللّه علـيهم الفرقان وما أوحاه إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنـما أحبت الـيهود وأتبـاعهم من الـمشركين ذلك حسدا وبغيا منهم علـى الـمؤمنـين. وفـي هذه الآية دلالة بـيّنة علـى أن اللّه تبـارك وتعالـى نهى الـمؤمنـين عن الركون إلـى أعدائهم من أهل الكتاب والـمشركين، والاستـماع من قولهم وقبول شيء مـما يأتونهم به، علـى وجه النصيحة لهم منهم بإطلاعه جل ثناؤه إياهم علـى ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والـمشركون من الضغن والـحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَاللّه يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الفَضْلِ العَظِيـمِ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَاللّه يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ واللّه يختصّ من يشاء بنبوّته ورسالته فـيرسله إلـى من يشاء من خـلقه، فـيتفضل بـالإيـمان علـى من أحبّ فـيهديه له. واختصاصه إياهم بها إفرادهم بها دون غيرهم من خـلقه. وإنـما جعل اللّه رسالته إلـى من أرسل إلـيه من خـلقه وهدايته من هدى من عبـاده رحمة منه له لـيصيره بها إلـى رضاه ومـحبته، وفوزه بها بـالـجنة واستـحقاقه بها ثناءه وكل ذلك رحمة من اللّه له. وأما قوله: وَاللّه ذو الفَضْلِ العَظِيـمِ فإنه خبر من اللّه جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عبـاده فـي دينهم ودنـياهم فإنه من عنده ابتداءً وتفضلاً منه علـيهم من غير استـحقاق منهم ذلك علـيه. وفي قوله: وَاللّه يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه ذُو الفَضْلِ العَظِيـمِ تعريض من اللّه تعالـى ذكره بأهل الكتاب أن الذي آتـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به من الهداية تفضلاً منه، وأن نعمه لا تدرك بـالأمانـي ولكنها مواهب منه يختصّ بها من يشاء من خـلقه. ١٠٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ إلـى غيره، فنبدله ونغيره. وذلك أن يحوّل الـحلال حراما والـحرام حلالاً، والـمبـاح مـحظورا والـمـحظور مبـاحا ولا يكون ذلك إلا فـي الأمر والنهي والـحظر والإطلاق والـمنع والإبـاحة، فأما الأخبـار فلا يكون فـيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من (نَسْخَ الكتاب) وهو نَقْلُه من نُسخة إلـى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الـحكم إلـى غيره إنـما هو تـحويـله ونقل عبـارته عنه إلـى غيره. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغُير وبُدّل فرضها ونقل فرض العبـاد عن اللازم كان لهم بها أوفر حَظها فتُرك، أو مُـحي أثرها، فُعفّـي ونُسي، إذ هي حينئذٍ فـي كلتا حالتـيها منسوخة. والـحكم الـحادث الـمبدل به الـحكم الأوّل والـمنقول إلـيه فرض العبـاد هو الناسخ، يقال منه: نسخ اللّه آية كذا وكذا ينسخه نسخا، والنسخة الاسم. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك كان الـحسن البصري يقول. ١٣١٧ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: حدثنا خالد بن الـحارث، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن أنه قال في قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا قال: إن نبـيّكم صلى اللّه عليه وسلم أقرىء قرآنا ثم نسيه فلا يكن شيئا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتـم تقرءونه. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: ما نَنْسَخْ فقال بعضهم بـما: ١٣١٨ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن عمار، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ما نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ أما نسخُها فقَبْضُها. وقال آخرون بـما: ١٣١٩ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ بقول: ما نبدّل من آية. وقال آخرون بـما: ١٣٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن أصحاب عبد اللّه بن مسعود أنهم قالوا: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نثبت خطها ونبدل حكمها. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ما نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ نثبت خطها، ونبدل حكمها، حُدثت به عن أصحاب ابن مسعود. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنـي بكر بن شوذب، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نثبت خطها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أوْ نُنْسِها. اختلفت القراءة في قوله ذلك، فقرأها قرّاء أهل الـمدينة والكوفة: أوْ نُنْسِها ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويـل، أحدهما: أن يكون تأويـله: ما ننسخ يا مـحمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها فـي مصحف عبد اللّه : (ما نُنْسِكَ من آية أو ننسخها نـجيء بـمثلها)، فذلك تأويـل النسيان. وبهذا التأويـل قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٣٢١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها كان ينسخ الآية بـالآية بعدها، ويقرأ نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك ثم تُنسى وتُرفع. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها قال: كان اللّه تعالـى ذكره ينسي نبـيه صلى اللّه عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء. ١٣٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان عبـيد بن عمير يقول: نُنْسِها نرفعها من عندكم. ١٣٢٣ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا خالد بن الـحارث، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن أنه قال في قوله: أوْ نُنْسِها قال: إن نبـيكم صلى اللّه عليه وسلم أقرىء قرآنا، ثم نسيه. وكذلك كان سعد بن أبـي وقاص يتأوّل الآية إلا أنه كان يقروها: (أو تَنْسَها) بـمعنى الـخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كأنه عنـي أو تَنْسَها أنت يا مـحمد. ذكر الأخبـار بذلك: ١٣٢٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يعلـى بن عطاء، عن القاسم، قال: سمعت سعد بن أبـي وقاص يقول: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ تَنْسَها) قلت له: فإن سعيد بن الـمسيب يقرؤها: (أَو تُنْسَها) قال: فقال سعد: إن القرآن لـم ينزل علـى الـمسيب ولا علـى آل الـمسيب، قال اللّه : سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشيـم، قال: حدثنا يعلـى بن عطاء، قال: حدثنا القاسم بن ربـيعة بن قانف الثقـفـي، قال: سمعت ابن أبـي وقاص يذكر نـحوه. حدثنا مـحمد بن الـمثنى وآدم العسقلانـي قالا جميعا، عن شعبة، عن يعلـى بن عطاء، قال: سمعت القاسم بن ربـيعة الثقـفـي يقول: قلت لسعد بن أبـي وقاص: إنـي سمعت ابن الـمسيب يقرأ: (ما نَنَسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ تُنْسَها) فقال سعد: إن اللّه لـم ينزل القرآن علـى الـمسيب ولا علـى ابنه، إنـما هي: (ما ننسخ من آية أو تَنْسَها) يا مـحمد. ثم قرأ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى وَاذْكُرْ رَبّكَ إذَا نَسِيتَ. ١٣٢٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها يقول: نُنسها: نرفعها وكان اللّه تبـارك وتعالـى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها. والوجه الاَخر منهما أن يكون بـمعنى الترك، من قول اللّه جل ثناؤه: نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ يعنـي به تركوا اللّه فتركهم. فـيكون تأويـل الآية حينئذٍ علـى هذا التأويـل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدّل فرضها نأت بخير من التـي نسخناها أو مثلها. وعلـى هذا التأويـل تأوّل جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٣٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس في قوله: أوْ نُنْسِها يقول: أو نتركها لا نبدّلها. ١٣٢٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: أوْ نُنْسِها نتركها لا ننسخها. ١٣٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها قال: الناسخ والـمنسوخ. قال: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول فـي ذلك ما: ١٣٢٩ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: نُنْسِها نـمـحها. وقرأ ذلك آخرون: (أو ننسأها) بفتـح النون وهمزة بعد السين بـمعنى نؤخرها، من قولك: نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونساءً إذا أخرته، وهو من قولهم: بعته بنسَاءٍ، يعنـي بتأخير. ومن ذلك قول طَرَفَة بن العبد: لعَمْرُكَ إِنّ الـمَوْتَ ما أنْسأ الفَتـىلكالطّوَلِ الـمُرْخَى وثِنْـياهُ بـالـيَدِ يعنـي بقوله أنسأ: أخّر. ومـمن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قرّاء الكوفـيـين والبصريـين، وتأوّله كذلك جماعة من أهل التأويـل ذكر من قال ذلك: ١٣٣٠ـ حدثنا أبو كريب، ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء في قوله: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نَنْسأها) قال نؤخرها. ١٣٣١ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، قال: سمعت ابن أبـي نـجيح، يقول في قول اللّه : (أوْ نَنْسأها) قال: نُرْجئها. ١٣٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: (أوْ نَنْسأها) نرجئها ونؤخرها. ١٣٣٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا فضيـل، عن عطية: (أوْ نَنْسأها) قال: نؤخرها فلا ننسخها. ١٣٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير عن عبـيد الأزدي، عن عبـيد بن عمير (أوْ نَنْسأها) إرجاؤها وتأخيرها. هكذا حدثنا القاسم عن عبد اللّه بن كثـير، عن عبـيد الأزدي. وإنـما هو عن علـيّ الأزدي. حدثنـي أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثـير، عن علـيّ الأزدي، عن عبـيد بن عمير أنه قرأها: (نَنْسأها). قال: فتأويـل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدّل من آية أنزلناها إلـيك يا مـحمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرّها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها نأت بخير منها أو مثلها. وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو تُنْسَها) وتأويـل هذه القراءة نظير تأويـل قراءة من قرأ أوْ نُنْسِها إلا أن معنى (أو تُنْسَها) أنت يا مـحمد. وقد قرأ بعضهم: (ما نُنْسِخْ مِنْ آيَةٍ) بضم النون وكسر السين، بـمعنى: ما نُنسخك يا مـحمد نـحن من آية، من أنسختك فأنا أُنسخك. وذلك خطأ من القراءة عندنا لـخروجه عما جاءت به الـحجة من القراءة بـالنقل الـمستفـيض. وكذلك قراءة من قرأ (تُنسَها) أو (تَنْسَها) لشذوذها وخروجها عن القراءة التـي جاءت بها الـحجة من قرّاء الأمة. وأولـى القراءات في قوله: أوْ نُنْسِها بـالصواب من قرأ: أو نُنْسِها، بـمعنى نتركها لأن اللّه جل ثناؤه أخبر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أنه مهما بدّل حكما أو غيره أو لـم يبدّله ولـم يغيره، فهو آتـيه بخير منه أو بـمثله. فـالذي هو أولـى بـالآية إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدّم الـخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدّل حكم آية أن يعقب ذلك بـالـخبر عما هو صانع، إذا هو لـم يبدّل ذلك ولـم يغير. فـالـخبر الذي يجب أن يكون عقـيب قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك الـمعروف الـجاري فـي كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرىء كذلك بـالـمعنى الذي وصفت، فهو يشتـمل علـى معنى الإنساء الذي هو بـمعنى الترك، ومعنى النّساء الذي هو بـمعنى التأخير، إذْ كان كل متروك فمؤخر علـى حال مّا هو متروك. وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: (أوْ تُنْسَها) إذا عنـي به النسيان، و قالوا: غير جائز أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مـما لـم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لـم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائز علـى جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول اللّه جل ثناؤه: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بِـالّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ ما ينبىء عن أن اللّه تعالـى ذكره لـم يُنْسِ نبـيه شيئا مـما آتاه من العلـم. قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد علـى بطوله وفساده الأخبـار الـمتظاهرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بنـحو الذي قلنا. ١٣٣٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك: إن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفـيهم كتابـا: (بلغوا عنا قومنا أنا لقـينا ربنا فرضي عنا وأرضانا). ثم إن ذلك رفع. فـالذي ذكرنا عن أبـي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون: (لو أن لابن آدم واديـين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يـملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللّه علـى من تاب) ثم رُفع وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستـحيـل فـي فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إلـيه. فإذا كان ذلك غير مستـحيـل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز. وأما قوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبنّ بـالّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ فإنه جل ثناؤه لـم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنـما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلـم يذهب به والـحمد للّه بل إنـما ذهب بـما لا حاجة بهم إلـيه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بـالعبـاد إلـيه، وقد قال اللّه تعالـى ذكره: سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إِلاّ ما شاءَ اللّه فأخبر أنه ينسي نبـيه منه ما شاء، فـالذي ذهب منه الذي استثناه اللّه . فأما نـحن فإنـما اخترنا ما اخترنا من التأويـل طلب اتساق الكلام علـى نظام فـي الـمعنى، لا إنكار أن يكون اللّه تعالـى ذكره قد كان أنسى نبـيه بعض ما نسخ من وحيه إلـيه وتنزيـله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها، فقال بعضهم بـما: ١٣٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها يقول: خير لكم فـي الـمنفعة وأرفق بكم. وقال آخرون بـما: ١٣٣٧ـ حدثنـي به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها يقول: آية فـيها تـخفـيف، فـيها رحمة، فـيها أمر، فـيها نهي. وقال آخرون: نأت بخير من التـي نسخناها، أو بخير من التـي تركناها فلـم ننسخها. ذكر من قال ذلك: ١٣٣٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا يقول: نأت بخير من التـي نسخناها أو مثلها أو مثل التـي تركناها. فـالهاء والألف اللتان في قوله: مِنْهَا عائدتان علـى هذه الـمقالة علـى الآية في قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ والهاء والألف اللتان في قوله: أوْ مِثلِها عائدتان علـى الهاء والألف اللتـين في قوله: أوْ نُنْسِها. وقال آخرون بـما: ١٣٣٩ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان عبـيد بن عمير يقول: نُنْسِها نرفعها من عندكم، نأت بـمثلها أو خير منها. ١٣٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: أوْ نُنْسِها نرفعها نأت بخير منها أو بـمثلها. ١٣٤١ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن أصحاب ابن مسعود، مثله. والصواب من القول فـي معنى ذلك عندنا: ما نبدّل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديـله فنقرّه بحاله، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التـي نسخنا فغيرنا حكمها، إما فـي العاجل لـخفته علـيكم، من أجل أنه وضع فرض كان علـيكم فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان علـى الـمؤمنـين من فرض قـيام اللـيـل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم فـي عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم وإما فـي الاَجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه علـى الأبدان، كالذي كان علـيهم من صيام أيام معدودات فـي السنة، فنُسخ وفرض علـيهم مكانه صوم شهر كامل فـي كلّ حَوْل، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل علـى الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فـالثواب علـيه أجزل والأجر علـيه أكثر، لفضل مشقته علـى مكلفـيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان علـى الأبدان أشقّ فهو خير من الأوّل فـي الاَجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لـم يكن مثله لصوم الأيام الـمعدودات. فذلك معنى قوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها لأنه إما بخير منها فـي العاجل لـخفته علـى من كلفه، أو فـي الاَجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها فـي الـمشقة علـى البدن واستواء الأجر والثواب علـيه، نظير نسخ اللّه تعالـى ذكره فرض الصلاة شطر بـيت الـمقدس إلـى فرضها شطر الـمسجد الـحرام. فـالتوجه شطر بـيت الـمقدس، وإن خالف التوجه شطر الـمسجد، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لأن الذي علـى الـمتوجه شطر البـيت الـمقدّس من مؤنة توجهه شطره، نظير الذي علـى بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء. فذلك هو معنى الـمثل الذي قال جل ثناؤه: أوْ مِثْلِها. وإنـما عنى جل ثناؤه بقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِها ما ننسخ من حكم آية أو نُنْسِه. غير أن الـمخاطبـين بـالآية لـما كان مفهوما عندهم معناها اكتفـي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فـيـما مضى من كتابنا هذا، كقوله: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بـمعنى حُبّ العجل ونـحو ذلك. فتأويـل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله، نأت بخير لكم أيها الـمؤمنون حكما منها، أو مثل حكمها فـي الـخفة والثقل والأجر والثواب. فإن قال قائل: فإنا قد علـمنا أن العجل لا يُشْرَبُ فـي القلوب وأنه لا يـلتبس علـى من سمع قوله: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ أن معناه: وأشربوا فـي قلوبهم حُبّ العجل، فما الذي يدلّ علـى أن قوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أوْ نُنْسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْها لذلك نظير؟ قـيـل: الذي دلّ علـى أن ذلك كذلك قوله: نأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أوْ مِثْلِها وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء لأن جميعه كلام اللّه ، ولا يجوز فـي صفـات اللّه تعالـى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ألـم تعلـم يا مـحمد أنـي قادر علـى تعويضك مـما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التـي كنت افترضتها علـيك ما أشاء مـما هو خير لك ولعبـادي الـمؤمنـين معك وأنفع لك ولهم، إما عاجلاً فـي الدنـيا وإما آجلاً فـي الاَخرة. أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله فـي النفع لهم عاجلاً فـي الدنـيا وآجلاً فـي الاَخرة وشبـيهه فـي الـخفة علـيك وعلـيهم. فـاعلـم يا مـحمد أنـي علـى ذلك وعلـى كل شيء قدير. ومعنى قوله: قَدِير فـي هذا الـموضع: قويّ، يقال منه: (قد قَدَرْت علـى كذا وكذا). إذا قويت علـيه (أقدْرُ علـيه وأَقْدُرُ علـيه قُدْرة وقِدْرانا ومَقْدِرةً). وبنو مُرّة من غطفـان تقول: (قَدِرْت علـيه) بكسر الدال. فأما من التقدير من قول القائل: (قَدَرْتُ الشيء) فإنه يقال منه: (قَدَرْتُه أَقْدِرُه قَدْرا وقَدَرا). ١٠٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّه لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّه مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أوَ لـم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير وأنه له ملك السموات والأرض حتـى قـيـل له ذلك؟ قـيـل: بلـى، فقد كان بعضهم يقول: إنـما ذلك من اللّه جل ثناؤه خبر عن أن مـحمدا قد علـم ذلك ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير كما تفعل مثله العرب فـي خطاب بعضها بعضا، فـيقول أحدهما لصاحبه: ألـم أكرمك؟ ألـم أتفضل علـيك؟ بـمعنى إخبـاره أنه قد أكرمه وتفضل علـيه، يريد ألـيس قد أكرمتك؟ ألـيس قد تفضلت علـيك؟ بـمعنى قد علـمتَ ذلك. قال: وهذا لا وجه له عندنا وذلك أن قوله جل ثناؤه ألَـمْ تَعْلَـمْ إنـما معناه: أما علـمت. وهو حرف جحد أدخـل علـيه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنـما تدخـل فـي الكلام إما بـمعنى الاستثبـات، وإما بـمعنى النفـي. فأما بـمعنى الإثبـات فذلك غير معروف فـي كلام العرب، ولاسيـما إذا دخـلت علـى حروف الـجحد ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الـخطاب للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإنـما هو معنّـي به أصحابه الذين قال اللّه جل ثناؤه: لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسمَعُوا. والذي يدّل علـى أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِـيّ وَلاَ نَصِيرٍ فعاد بـالـخطاب فـي آخر الآية إلـى جميعهم، وقد ابتدأ أوّلها بخطاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بقوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ لأن الـمراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه، وذلك من كلام العرب مستفـيض بـينهم فصيح. أن يخرج الـمتكلـم كلامه علـى وجه الـخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلـى وجه الـخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره، أو جماعة والـمخاطب به أحدهم وعلـى هذا الـخطابُ للـجماعة والـمقصود به أحدهم، من ذلك قول اللّه جل ثناؤه: يا أيّهَا النّبِـيّ اتّقِ اللّه وَلاَ تُطِعِ الكافِرِينَ وَالـمُنَافِقِـينَ ثم قال: وَاتّبِعْ ما يُوحَى إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ إِنّ اللّه كانَ بِـمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرا فرجع إلـى خطاب الـجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكُميت بن زيد فـي مدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إلـى السّرَاجِ الـمُنـيرِ أحْمَدَ لايَعْدِلُنِـي رَغْبَةٌ وَلا رَهَبُ عَنْهُ إلـى غيرِهِ وَلَوْ رَفَعَالنّاس إلـيّ العُيُونَ وَارْتَقَبُوا فوقـيـلَ أفْرَطْتَ بَلْ قَصَدْتُ وَلَوْعَنّفَنِـي القائِلُونَ أوْ ثَلَبُوا لـجّ بتَفْضِيـلِكَ اللّسانُ وَلَوْأُكْثِرَ فِـيكَ الضّجاجُ واللّـجَبُ أنتَ الـمُصَفّـي الـمـحْضُ الـمهذّبُ فـي النّسْبةِ إنْ نَصّ قوْمَكَ النّسَبُ فأخرج كلامه علـى وجه الـخطاب للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو قاصد بذلك أهل بـيته، فكنـي عن وصفهم ومدحهم بذكر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وعن بنـي أمية بـالقائلـين الـمعنفـين لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنـيف مادح النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وتفضيـله، ولا بإكثار الضجاج واللـجب فـي إطناب القـيـل بفضله. وكما قال جميـل بن معمر: ألا إنّ جِيرَانِـي العَشِيّةَ رَائِحُدَعَتْهُمْ دَوَاعٍ مِنْ هَوًى وَمَنَادِحُ فقال: (ألا إن جيرانـي العشية) فـابتدأ الـخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال: (رائح) لأن قصده فـي ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه الـخبر عن واحد منهم دون جماعتهم. وكما قال جميـل أيضا فـي كلـمته الأخرى: خَـلِـيـلَـيّ فِـيـما عِشْتُـما هَلْ رأيْتُـماقَتِـيلاً بَكَى مِنْ حُبّ قاتِلِهِ قَبْلِـي وهو يريد قاتلته لأنه إنـما يصف امرأة فكنـي بـاسم الرجل عنها وهو يعنـيها. فكذلك قوله: أَلَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وإن كان ظاهر الكلام علـى وجه الـخطاب للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإنه مقصود به قصد أصحابه وذلك بـيّنٌ بدلالة قوله: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِـيّ وَلاَ نَصِيرٍ أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ الاَيات الثلاث بعدها علـى أن ذلك كذلك. أما قوله: لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ ولـم يقل ملك السموات، فإنه عنى بذلك مُلْك السلطان والـمـملكة دون الـمِلْك، والعرب إذا أرادت الـخبر عن الـمـملكة التـي هي مـملكة سلطان قالت: مَلَك اللّه الـخـلق مُلْكا، وإذا أرادت الـخبر عن الـملك قالت: مَلَك فلان هذا الشيء فهو يـملكه مِلْكا وَمَلِكَةً ومَلْكا. فتأويـل الآية إذا: ألـم تعلـم يا مـحمد أن لـي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فـيهما وفـيـما فـيهما ما أشاء وآمر فـيهما وفـيـما فـيهما بـما أشاء، وأنهي عما أشاء، وأنسخ وأبدّل وأغير من أحكامي التـي أحكم بها فـي عبـادي ما أشاء إذا أشاء، وأقرّ منها ما أشاء؟ هذا الـخبر وإن كان من اللّه عزّ وجلّ خطابـا لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى وجه الـخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب للـيهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوّة عيسى، وأنكروا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، لـمـجيئهما بـما جاءا صلى اللّه عليه وسلم به من عند اللّه بتغيـير ما غير اللّه من حكم التوراة. فأخبرهم اللّه أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الـخـلق أهل مـملكته وطاعته، علـيهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وإن له أمرهم بـما شاء ونهيهم عما شاء، ونسخ ما شاء وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلـى طاعتـي فـيـما أنسخ وفـيـما أترك، فلا أنسخ من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنّكم خلاف مخالف لكم فـي أمري ونهيـي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قـيّـم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا الـمنفرد بولايتكم والدفـاع عنكم، والـمتوحد بنصرتكم بعزّي وسلطانـي وقوّتـي علـى من ناوأكم وحادّكم ونصب حرب العداوة بـينه وبـينكم، حتـى أُعلـي حجتكم، وأجعلها علـيهم لكم. والولـيّ معناه (فعيـل)، من قول القائل: ولـيت أمر فلان: إذا صرت قَـيّـما به فأنا إلـيه فهو ولـيه وقَـيّـمه ومن ذلك قـيـل: فلان ولـي عهد الـمسلـمين، يعنـي به: القائم بـما عهد إلـيه من أمر الـمسلـمينوأما النصير فإنه فعيـل من قولك: نصرتك أنصرك فأنا ناصرك ونصيرك وهو الـمؤيد والـمقوّي. وأما معنى قوله: مِنْ دُونِ اللّه فإنه سوى اللّه وبعد اللّه . ومنه قول أمية بن أبـي الصلت: يا نَفْسُ مالَكِ دُونَ اللّه مِنْ وَاقِـيوَما عَلـى حَدَثانِ الدّهْرِ مِنْ بـاقِـي يريد: ما لك سوى اللّه وبعد اللّه من يقـيك الـمكاره. فمعنى الكلام إذا: ولـيس لكم أيها الـمؤمنون بعد اللّه من قـيـم بأمركم ولا نصير فـيؤيدكم ويقوّيكم فـيعينكم علـى أعدائكم. ١٠٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ ... } اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية. فقال بعضهم بـما: ١٣٤٢ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنـي يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قالا: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة عن ابن عبـاس : قال رافع بن حريـملة ووهب بن زيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علـينا من السماء نقرؤه وفجّرْ لنا أنهارا نتبعك ونصدّقك فأنزل اللّه فـي ذلك من قولهم: أمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ الآية. وقال آخرون بـما: ١٣٤٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وكان موسى يُسأل فقـيـل له: أرِنا اللّه جَهْرَةً. ١٣٤٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ أن يريهم اللّه جهرة، فسألت العرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتـيهم بـاللّه فـيروه جهرة. وقال آخرون بـما: ١٣٤٥ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله اللّه : أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ أن يريهم اللّه جهرة. فسألت قريش مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل اللّه له الصفـا ذهبـا، قال: (نَعَمْ، وَهُوَ لَكُمْ كمائِدَةِ بَنِـي إسْرَائِيـلَ إنْ كَفَرْتُـمْ). فأبوا ورجعوا. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قال: سألت قريش مـحمدا أن يجعل لهم الصفـا ذهبـا، فقال: (نَعَمْ، وَهُوَ لَكُمْ كالـمَائِدَةِ لِبَنِـي إسْرَائِيـلَ إنْ كَفَرَتُـمْ. فأبوا ورجعوا، فأنزل اللّه أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ أن يريهم اللّه جهرة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله، وقال آخرون بـما: ١٣٤٦ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال:قال رجل: يا رسول اللّه لو كانت كفـاراتنا كفـارات بنـي إسرائيـل فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ لا نَبْغِيها ما أعْطاكُمُ اللّه خَيْرٌ مِـمّا أعْطَى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فقال النبـيّ: كانت بَنُو إسْرَائِيـلَ إذَا فَعَلَ أحَدُهُمُ الـخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً علـى بـابِهِ وَكَفّـارَتَها، فإنْ كَفّرَها كانَتْ لَهُ خِزْيا فِـي الدّنْـيا، وإنْ لَـمْ يُكَفّرْهَا كانَتْ لَهُ خِزْيا فِـي الاَخِرَةِ. وَقَدْ أعْطاكُمُ اللّه خَيْرا مِـمّا أعْطَى بَنِـي إسْرائِيـلَ، قالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِـمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيـما قال: وقال: (الصّلَوَاتُ الـخَمْسُ وَالـجُمَعَةُ إلـى الـجُمُعَةِ كَفّـارَاتٌ لِـمَا بَـيْنَهُنّ) وقال: (مَنْ هَمّ بِحَسَنَةً فَلَـمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فإنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ أمْثَالِهَا، وَلاَ يَهْلِكُ عَلَـى اللّه إلا هالِكٌ). فأنزل اللّه : أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسألُوا رَسُولَكُمْ كما سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ. واختلف أهل العربـية فـي معنى أمْ التـي في قوله: أمْ تُرِيدُونَ. فقال بعض البصريـين: هي بـمعنى الاستفهام، وتأويـل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟ وقال آخرون منهم: هي بـمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام، كأنك تـميـل بها إلـى أوله كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء، ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي. قال: ولـيس قوله: أَمْ تُرِيدُونَ علـى الشك ولكنه قاله لـيقبح له صنـيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببـيت الأخطل: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بِوَاسِطٍغَلَسَ الظّلامِ مِنَ الرّبـابِ خيَالاَ وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: إن شئت جعلت قوله: أمْ تُرِيدُونَ استفهاما علـى كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه: الـم تَنْزِيـلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ مِنْ رَبّ العالَـمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ فجاءت (أم) ولـيس قبلها استفهام. فكان ذلك عنده دلـيلاً علـى أنه استفهام مبتدأ علـى كلام سبقه. وقال قائل هذه الـمقالة: (أم) فـي الـمعنى تكون ردّا علـى الاستفهام علـى جهتـين، إحداهما: أن تعرّف معنى (أي)، والأخرى أن يستفهم بها، ويكون علـى جهة النسق، والذي ينوي به الابتداء إلا أنه ابتداء متصل بكلام، فلو ابتدأت كلاما لـيس قبله كلام ثم استفهمت لـم يكن إلا بـالألف أو ب(هَلْ) قال: وإن شئت قلت في قوله: أمْ تُرِيدُونَ قبله استفهام، فردّ علـيه وهو في قوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه عَلـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. والصواب من القول فـي ذلك عندي علـى ما جاءت به الاَثار التـي ذكرناها عن أهل التأويـل أنه استفهام مبتدأ بـمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنـما جاز أن يستفهم القوم ب(أَمْ) وإن كانت (أم) أحد شروطها أن تكون نسقا فـي الاستفهام لتقدّم ما تقدّمها من الكلام لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام، ولـم يسمع من العرب استفهام بها ولـم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: الـم تَنْزِيـلُ الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ مِنْ رَبّ العالَـمِين أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وقد تكون (أم) بـمعنى (بل) إذا سبقها استفهام لا يصلـح فـيه (أي)، فـيقولون: هل لك قِبَلَنا حق، أم أنت رجل معروف بـالظلـم؟ وقال الشاعر: فَوَاللّه ما أدْرِي أسَلْـمَى تَغَوّلَتْأمِ القَوْم أمْ كُلّ إلـيّ حَبِـيبُ يعنـي: بل كل إلـيّ حبـيب. وقد كان بعضهم يقول منكرا قول من زعم أن (أم) في قوله: أمْ تُرِيدُونَ استفهام مستقبل منقطع من الكلام يـميـل بها إلـى أوله أن الأول خبر والثانـي استفهام، والاستفهام لا يكون فـي الـخبر، والـخبر لا يكون فـي الاستفهام ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضيّ الـخبر، فـاستفهم. فإذا كان معنى (أم) ما وصفنا، فتأويـل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا إن منعتـموه فـي مسألتكم ما لا يجوز فـي حكمة اللّه إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا، إن كان مـما يجوز فـي حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتـم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمـم التـي سألت أنبـياءها ما لـم يكن لها مسألتها إياهم، فلـما أعطيت كفرت، فعوجلت بـالعقوبـات لكفرها بعد إعطاء اللّه إياها سؤلها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بـالإيـمَانِ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَنْ يَتَبَدّلِ ومن يستبدل الكفر ويعنـي بـالكفر: الـجحود بـاللّه وبآياته بـالإيـمان، يعنـي بـالتصديق بـاللّه وبآياته والإقرار به. وقد قـيـل عنى بـالكفر فـي هذا الـموضع الشدة وبـالإيـمان الرخاء. ولا أعرف الشدة فـي معانـي الكفر، ولا الرخاء فـي معنى الإيـمان، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويـله الكفر بـمعنى الشدّة فـي هذا الـموضع وبتأويـله الإيـمان فـي معنى الرخاء ما أعدّ اللّه للكفـار فـي الاَخرة من الشدائد، وما أعدّ اللّه لأهل الإيـمان فـيها من النعيـم، فـيكون ذلك وجها وإن كان بعيدا من الـمفهوم بظاهر الـخطاب. ذكر من قال ذلك: ١٣٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن أبـي العالـية: وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بِـالإيـمَانِ يقول: يتبدّل الشدّة بـالرخاء. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية بـمثله. وفي قوله: وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بـالإيـمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ دلـيـل واضح علـى ما قلنا من أن هذه الاَيات من قوله: يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا خطاب من اللّه جل ثناؤه الـمؤمنـين به من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعتاب منه لهم علـى أمر سلف منهم مـما سرّ به الـيهود وكرهه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم، فكرهه اللّه لهم. فعاتبهم علـى ذلك، وأعلـمهم أن الـيهود أهل غشّ لهم وحسد وبغي، وأنهم يتـمنون لهم الـمكاره ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتدّ منهم عن دينه فـاستبدل بإيـمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبـيـل. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ. أما قوله: فَقَدْ ضَلّ فإنه يعنـي به ذهب وحاد. وأصل الضلال عن الشيء: الذهاب عند والـحَيْد. ثم يستعمل فـي الشيء الهالك والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الـخامل الذي لا ذكر له ولا نبـاهة: ضلّ بن ضلّ، وقلّ بن قلّ كقول الأخطل فـي الشيء الهالك: كُنْتَ القَذَى فِـي مَوْجِ أكْدَرَ مُزْبِدٍقَذَفَ أَلاتِـيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالاَ يعنـي: هلك فذهب. والذي عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ فقد ذهب عن سواء السبـيـل وحاد عنه. وأما تأويـل قوله: سَوَاءَ السّبِـيـلِ فإنه يعنـي بـالسواء: القصد والـمنهج، وأصل السواء: الوسط ذكر عن عيسى بن عمر النـحوي أنه قال: (ما زلت أكتب حتـى انقطع سَوَائي)، يعنـي وسطي وقال حسان بن ثابت: يا وَيْحَ أنْصَار النّبِـيّ وَنَسْلِهِبَعدَ الـمُغَيّبِ فِـي سَوَاءِ الـمُلْـحَدِ يعنـي بـالسواء الوسط. والعرب تقول: هو فـي سواء السبـيـل، يعنـي فـي مستوى السبـيـل. وسواءُ الأرض مستواها عندهم، وأما السبـيـل فإنها الطريق الـمسبول، صُرف من مسبول إلـى سبـيـل. فتأويـل الكلام إذا: ومن يستبدل بـالإيـمان بـاللّه وبرسوله الكفر فـيرتدّ عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح الـمسبول. وهذا القول ظاهره الـخبر عن زوال الـمستبدل بـالإيـمان والكفر عن الطريق، والـمعنى به الـخبر عنه أنه ترك دين اللّه الذي ارتضاه لعبـاده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلـى رضاه، وسبـيلاً يركبونها إلـى مـحبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب مـحجته السائر فـيه ولزم وسطه الـمـجتاز فـيه، نـجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إلـيه عبـاده مثلاً لإدراكهم بلزومه واتبـاعه إدراكهم طلبـاتهم فـي آخرتهم، كالذي يدرك اللازم مـحجة السبـيـل بلزومه إياها طلبته من النـجاة منها، والوصول إلـى الـموضع الذي أمّه وقصده. وجعل مثل الـحائد عن دينه والـحائد عن اتبـاع ما دعاه إلـيه من عبـادته فـي حياته ما رجا أن يدركه بعمله فـي آخرته وينال به فـي معاده وذهابه عمّا أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه، مثل الـحائد عن منهج الطريق وقصد السبـيـل، الذي لا يزداد وُغولاً فـي الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بُعْدا، وعن الـمكان الذي أَمّهُ وأراده نَأْيا. وهذه السبـيـل التـي أخبر اللّه عنها أن من يتبدّل الكفر بـالإيـمان فقد ضلّ سواءها، هي الصراط الـمستقـيـم الذي أمرنا بـمسألته الهداية له بقوله: اهْدِنا الصّرَاطَ الـمُسْتَقِـيـمَ صِرَاطَ الّذِينَ أنعَمْتَ عَلَـيْهِمْ. ١٠٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَدّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّاراً ...} قال أبو جعفر: وقد صرّح هذا القول من قول اللّه جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الاَيات من قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تقولوا رَاعِنا وإن صرف فـي نفسه الكلام إلـى خطاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، إنـما هو خطاب منه للـمؤمنـين وأصحابه، وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح الـيهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم فـي شيء من أمور دينهم، ودلـيـل علـى أنهم كانوا استعملوا، أو من استعمل منهم فـي خطابه ومسألته رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـجفـاء، وما لـم يكن له استعماله معه، تأسيا بـالـيهود فـي ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبـيكم صلى اللّه عليه وسلم كما تقول له الـيهود: (راعنا) تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا: (انظرنا واسمعوا)، فإن أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفر بـي وجحود لـحقّـي الواجب لـي علـيكم فـي تعظيـمه وتوقـيره، ولـمن كفر بـي عذاب ألـيـم فإن الـيهود والـمشركين ما يودّون أن ينزل علـيكم من خير من ربكم، ولكن كثـيرا منهم ودّوا أنهم يردّونكم من بعد إيـمانكم كفـارا حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبـيكم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، من بعدما تبـين لهم الـحقّ فـي أمر مـحمد وأنه نبـيّ إلـيهم وإلـى خـلقـي كافة. وقد قـيـل إن اللّه جل ثناؤه عنى بقوله: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ كعب بن الأشرف. ١٣٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ هو كعب بن الأشرف. ١٣٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان العمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ قال كعب بن الأشرف وقال بعضهم بـما: ١٣٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس قال: كان حُيـي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدا، إذ خصهم اللّه برسوله صلى اللّه عليه وسلم، وكانا جاهدين فـي ردّ الناس عن الإسلام بـما استطاعا، فأنزل اللّه فـيهما: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ الآية. ولـيس لقول القائل عَنَى بقوله: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ كعب بن الأشرف معنى مفهوم لأن كعب بن الأشرف واحد، وقد أخبر اللّه جل ثناؤه أن كثـيرا منهم يودّون لو يردّون الـمؤمنـين كفـارا بعد إيـمانهم. والواحد لا يقال له كثـير بـمعنى الكثرة فـي العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التـي وصف اللّه بها من وصفه بها فـي هذه الآية الكثرة فـي العزّ ورفعة الـمنزلة فـي قومه وعشيرته، كما يقال: فلان فـي الناس كثـير، يراد به كثرة الـمنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لأن اللّه جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الـجماعة، فقال: لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيـمانِكُمْ كُفّـارا حَسَدا فذلك دلـيـل علـى أنه عنى الكثرة فـي العدد. أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الـخبر عن الـجماعة، والـمقصود بـالـخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفـا فـي بـيت جميـل فـيكون ذلك أيضا خطأ، وذلك أن الكلام إذا كان بذلك الـمعنى فلا بد من دلالة فـيه تدلّ علـى أن ذلك معناه، ولا دلالة تدلّ في قوله: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ أن الـمراد به واحد دون جماعة كثـيرة، فـيجوز صرف تأويـل الآية إلـى ذلك وإحالة دلـيـل ظاهره إلـى غير الغالب فـي الاستعمال. القول فـي تأويـل قوله تعالى: حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ. ويعنـي جل ثناؤه بقوله: حَسَدا مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ أن كثـيرا من أهل الكتاب يودّون للـمؤمنـين ما أخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم من الردّة عن إيـمانهم إلـى الكفر حسدا منهم وبغيا علـيهم. والـحسد إذا منصوب علـى غير النعت للكفـار، ولكن علـى وجه الـمصدر الذي يأتـي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ الـمصدر، كقول القائل لغيره: تـمنـيت لك ما تـمنـيت من السوء حسدا منـي لك. فـيكون الـحسن مصدرا من معنى قوله: تـمنـيت من السوء لأن في قوله تـمنـيت لك ذلك، معنى حسدتك علـى ذلك. فعلـى هذا نصب الـحسد، لأن في قوله: وَدّ كَثِـير مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيـمَانكُمْ كُفّـارا يعنـي: حسدكم أهل الكتاب علـى ما أعطاكم اللّه من التوفـيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيـمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إلـيكم رجلاً منكم رءوفـا بكم رحيـما، ولـم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: حَسَدا مصدرا من ذلك الـمعنى. وأما قوله: مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ فإنه يعنـي بذلك: من قِبَلِ أنفسهم، كما يقول القائل: لـي عندك كذا وكذا، بـمعنى: لـي قِبَلك. وكما: ١٣٥١ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر (عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس) قوله: مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ (قال: من قبل أنفسهم). وإنـما أخبر اللّه جل ثناؤه عنهم الـمؤمنـين أنهم ودوا ذلك للـمؤمنـين من عند أنفسهم إعلاما منه لهم بأنهم لـم يؤمروا بذلك فـي كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك علـى علـم منهم بنهي اللّه إياهم عنه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لهُمُ الـحَقّ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ أي من بعد ما تبـين لهؤلاء الكثـير من أهل الكتاب الذين يودّون أنهم يردونكم كفـارا من بعد إيـمانكم الـحقّ فـي أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من عند ربه والـملة التـي دعا إلـيها فأضاء لهم أن ذلك الـحقّ الذي لا يـمترون فـيه. كما: ١٣٥٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ من بعد ما تبـين لهم أن مـحمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والإسلامَ دينُ اللّه . ١٣٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ يقول: تبـين لهم أن مـحمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. ١٣٥٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله وزاد فـيه: فكفروا به حسدا وبغيا، إذْ كان من غيرهم. ١٣٥٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ قال: الـحقّ: هو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فتبـين لهم أنه هو الرسول. حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ قال: قد تبـين لهم أنه رسول اللّه . قال أبو جعفر: فدلّ بقوله ذلك أن كُفْرَ الذين قصّ قصتهم فـي هذه الآية بـاللّه وبرسوله عنادٌ، وعلـى علـم منهم ومعرفة، بأنهم علـى اللّه مفترون. كما: ١٣٥٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمُ الـحَقّ يقول اللّه تعالـى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الـحقّ لـم يجهلوا منه شيئا، ولكن الـحسد حملهم علـى الـجحد. فعيرهم اللّه ولامهم ووبخهم أشدّ الـملامة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتـى يَأتِـيَ اللّه بِأمْرِهِ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: فـاعْفُوا فتـجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ فـي رأي أشاروا به علـيكم فـي دينكم، إرادةَ صَدّكم عنه، ومـحاولة ارتدادكم بعد إيـمانكم، وعما سلف منهم من قـيـلهم لنبـيكم صلى اللّه عليه وسلم: اسْمَعْ غَيْر مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَـيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِـي الدّينِ واصفحوا عما كان منهم من جهل فـي ذلك حتـى يأتـي اللّه بأمره، فـيحدث لكم من أمره فـيكم ما يشاء، ويقضي فـيهم ما يريد. فقضى فـيهم تعالـى ذكره، وأتـى بأمره، فقال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين به: قاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بـاللّه وَلا بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الـحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكتاب حتـى يُعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. فنسخ اللّه جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم علـى الـمؤمنـين حتـى تصير كلـمتهم وكلـمة الـمؤمنـين واحدة، أو يؤدّوا الـجزية عن يد صَغَارا. كما: ١٣٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: فـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتـى يَأْتِـيَ اللّه بأمْرِهِ إنّ اللّه علـى كلّ شَيْءٍ قَدِير ونسخ ذلك قوله: فَـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ. ١٣٥٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتـى يأتِـي للّه بأمْرِهِ فأتـى اللّه بأمره فقال: قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِـاللّه وَالْـيَوْمِ الاَخِرِ حتـى بلغ: وهُمْ صَاغِرُونَ أي صَغَارا ونقمة لهم فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: فَـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتـى يَأْتِـيَ اللّه بأمْرِهِ. ١٣٥٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: فـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتـى يَأْتِـيَ اللّه بأمْرِهِ قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتـى يحدث اللّه أمرا. فأحدث اللّه بعد فقال: قَاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّه وَلا بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ إلـى: وهُمْ صَاغِرُونَ. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة في قوله: فـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتـى يَأْتِـيَ اللّه بِأمْرِهِ قال: نسختها: (اقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ). ١٣٦٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَـاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتـى يَأتِـيَ اللّه بأمْرِهِ قال: هذا منسوخ، نَسَخَه: قاتِلُوا الذين لا يُؤمِنُونَ بـاللّه وَلا بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ إلـى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنّ اللّه علـى كُلّ شيْءٍ قَدِير. قال أبو جعفر: قد دللنا فـيـما مضى علـى معنى القدير وأنه القويّ. فمعنى الآية ههنا: أن اللّه علـى كل ما يشاء بـالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قديرٌ، إن شاء الانتقام منهم بعنادهم ربهم وإن شاء هداهم لـما هداكم اللّه له من الإيـمان، لا يتعذّر علـيه شيء أراده ولا يتعذّر علـيه أمر شاء قضاءه لأن له الـخـلق والأمر. ١١٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ ...} قال أبو جعفر: قد دللنا فـيـما مضى علـى معنى إقامة الصلاة، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلـى تأويـل الصلاة وما أصلها، وعلـى معنى إيتاء الزكاة، وأنه إعطاؤها بطيب نفس علـى ما فُرضت ووَجبت، وعلـى معنى الزكاة واختلاف الـمختلفـين فـيها، والشواهد الدالة علـى صحة القول الذي اخترنا فـي ذلك بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وأما قوله: وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَـجِدُوهُ عِنْدَ اللّه فإنه يعنـي جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالـح فـي أيام حياتكم فتقدموه قبل وفـاتكم ذخرا لأنفسكم فـي معادكم، تـجدوا ثوابه عند ربكم يوم القـيامة، فـيجازيكم به. والـخير: هو العمل الذي يرضاه اللّه . وإنـما قال: تَـجِدُوهُ والـمعنى: تـجدوا ثوابه. كما: ١٣٦١ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: تـجِدُوهُ يعنـي: تـجدوا ثوابه عند اللّه . قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدلـيـل ظاهر علـى معنى الـمراد منه، كما قال عمر بن لـجأ: وَسَبّحَتِ الـمَدِينَةُ لا تَلُـمْهارأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهَارا وإنـما أراد: وسبح أهل الـمدينة. وإنـما أمرهم جل ثناؤه فـي هذا الـموضع بـما أمرهم به من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديـم الـخيرات لأنفسم، لـيطهّروا بذلك من الـخطأ الذي سلف منهم فـي استنصاحهم الـيهود، وركون من كان ركن منهم إلـيهم، وجفـاء من كان جفـا منهم فـي خطابه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: راعِنا إذ كانت إقامة الصلوات كفـارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الاَثام، وفـي تقديـم الـخيرات إدراك الفوز برضوان اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنّ اللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ بَصِير. وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الاَيات من الـمؤمنـين أنهم مهما فعلوا من خير وشرّ سِرّا وعلانـية، فهو به بصير لا يخفـى علـيه منه شيء، فـيجزيهم بـالإحسان جزاءه وبـالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الـخبر، فإن فـيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلـم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم لـيجدّوا فـي طاعته، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتـى يُثـيبهم علـيه، كما قال: وما تُقَدّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَـجِدُوهُ عِنْدَ اللّه ولـيحذروا معصيته، إذ كان مطلعا علـى راكبها بعد تقدمه إلـيه فـيها بـالوعيد علـيها. وما أوعد علـيه ربنا جل ثناؤه فمنهيّ عنه، وما وعد علـيه فمأمور به. وأما قوله: بَصِيرٌ فإنه مُبْصِر صرف إلـى بصير، كما صرف مُبْدِع إلـى بديع، ومُؤْلـم إلـى ألـيـم. ١١١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُوداً...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَقالُوا وقالت الـيهود والنصارى: لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ. فإن قال قائل: وكيف جمع الـيهود والنصارى فـي هذا الـخبر مع اختلاف مقالة الفريقـين، والـيهود تدفع النصارى عن أن يكون لها فـي ثواب اللّه نصيب، والنصارى تدفع الـيهود عن مثل ذلك؟ قـيـل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إلـيه، وإنـما عنى به: وقالت الـيهود: لن يدخـل الـجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخـل الـجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لـما كان مفهوما عند الـمخاطبـين به معناه جمع الفريقان فـي الـخبر عنهما، فقـيـل: قالُوا لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى الآية، أي قالت الـيهود: لن يدخـل الـجنة إلا من كان يهوديّا، وقالت النصارى: لن يدخـل الـجنة إلا من كان نصرانـيّاوأما قوله: مَنْ كانَ هُودا فإن فـي الهُودِ قولـين: أحدهما أن يكون جمع هائد، كما جاء عُوط جمع عائط، وعُوذ جمع عائذ، وحُول جمع حائل، فـيكون جمعا للـمذكر والـمؤنث بلفظ واحد والهائد: التائب الراجع إلـى الـحقّ. والاَخر أن يكون مصدرا عن الـجميع، كما يقال: (رجل صَوْمٌ وقوم صَوْمٌ)، و(رجل فِطْر وقوم فِطْر ونسوة فِطْر). وقد قـيـل: إن قوله: إلا مَنْ كانَ هُودا إنـما هوقوله: إلا من كان يهودا ولكنه حذف الـياء الزائدة، ورجع إلـى الفعل من الـيهودية. وقـيـل: إنه فـي قراءة أبـيّ: (إلا من كان يهوديّا أو نصرانـيّا). وقد بـينا فـيـما مضى معنى النصارى ولـم سُميت بذلك وجمعت كذلك بـما أغنى عن إعادته. وأما قوله: تِلْكَ أمانِـيّهُمْ فإنه خبر من اللّه تعالـى ذكره عن قول الذين قالوا: لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى أنه أمانـيّ منهم يتـمنونها علـى اللّه بغير حقّ ولا حجة ولا برهان ولا يقـين علـم بصحة ما يدعون، ولكن بـادّعاء الأبـاطيـل وأمانـي النفوس الكاذبة. كما: ١٣٦٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: تِلْكَ أمانِـيّهُمْ أمانـيّ يتـمنونها علـى اللّه كاذبة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: تِلْكَ أمانِـيّهُمْ قال: أمانـيّ تـمنوا علـى اللّه بغير الـحقّ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ. وهذا أمر من اللّه جل ثناؤه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم بدعاء الذين قالُوا لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى إلـى أمر عدل بـين جميع الفرق مسلـمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الـحجة علـى دعواهم التـي ادعوا من أن الـجنة لا يدخـلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد قل للزاعمين أن الـجنة لا يدخـلها إلا من كان هودا أو نصارى دون غيرهم من سائر البشر: هاتوا برهانكم علـى ما تزعمون من ذلك فنسلـم لكم دعواكم إن كنتـم فـي دعواكم من أن الـجنة لا يدخـلها إلا من كان هودا أو نصارى مـحقـين. والبرهان: هو البـيان والـحجة والبـينة. كما: ١٣٦٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: هاتُوا بُرْهَانَكُمْ هاتوا بَـيّنتكم. ١٣٦٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: هاتُوا بُرْهَانَكُمْ هاتُوا حجتكم. ١٣٦٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: قُلْ هاتوا بُرْهَانَكُمْ قال: حجتكم. ١٣٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم. وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلـين: لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى إلـى إحضار حجة علـى دعواهم ما ادّعوا من ذلك، فإنه بـمعنى تكذيب من اللّه لهم فـي دعواهم وقـيـلهم لأنهم لـم يكونوا قادرين علـى إحضار برهان علـى دعواهم تلك أبدا. وقد أبـان قوله: بَلَـى مَنْ أسْلَـمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُـحْسِنٌ علـى أن الذي ذكرنا من الكلام بـمعنى التكذيب للـيهود والنصارى فـي دعواهم ما ذكر اللّه عنهم. وأما تأويـل قوله: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فإنه: أحضروا وأتوا به. ١١٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {بَلَىَ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ ...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: بَلَـى مَنْ أسْلَـمَ أنه لـيس كما قال الزاعمون لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلا مَنْ كانَ هُودا أوْ نَصَارَى ولكن من أسلـم وجهه للّه وهو مـحسن، فهو الذي يدخـلها وينعم فـيها. كما: ١٣٦٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: أخبرهم أن من يدخـل الـجنة هو من أسلـم وجهه للّه الآية. وقد بـينا معنى بَلـى فـيـما مضى قبل. وأما قوله: مَنْ أسْلَـمَ وَجْهَهُ للّه فإنه يعنـي بإسلام الوجه التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل الإسلام: الاستسلام لأنه من استسلـمت لأمره، وهو الـخضوع لأمره. وإنـما سُمي الـمسلـم مسلـما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما: ١٣٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: بَلَـى مَنْ أسْلَـمَ وَجْهَهُ للّه يقول: أخـلص للّه. وكما قال زيد بن عمرو بن نُفَـيـل: وأسْلَـمْتُ وَجْهِي لِـمَنْ أسْلَـمَتْلَهُ الـمُزْنُ تَـحْمِلُ عَذْبـا زُلالاَ يعنـي بذلك: استسلـمت لطاعة من استسلـم لطاعته الـمزن وانقادت له. وخصّ اللّه جل ثناؤه بـالـخبر عمن أخبر عنه بقوله: بَلَـى مَنْ أسْلَـمَ وَجْهَهُ للّه بإسلام وجهه له دون سائر جوراحه لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها علـيه حرمة وحقّا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده علـيه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب فـي منطقها الـخبر عن الشيء فتضيفه إلـى وجهه وهي تعنـي بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى: أؤوّلُ الـحُكْمَ علـى وَجْهِهِلَـيْسَ قَضَائِي بـالهَوَى الـجائِرِ يعنـي بقوله: (علـى وجهه): علـى ما هو به من صحته وصوابه. وكما قال ذو الرّمة: فَطَاوَعْتُ هَمّي وَأَنْـجَلَـى وَجْهُ بَـازلٍمِنَ الأمْرِ لَـمْ يَتْرُكْ خِلاجا بُزُولُها يريد: (وانـجلـى البـازل من الأمر فتبـين)، وما أشبه ذلك، إذ كان حسنُ كل شيء وقبحُه فـي وجهه، وكان فـي وصفها من الشيء وجهه بـما تصفه به إبـانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: بَلَـى مَنْ أسْلَـمَ وَجْهَهُ للّه إنـما يعنـي: بلـى من أسلـم للّه بدنه، فخضع له بـالطاعة جسده وهو مـحسن فـي إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فـاكتفـى بذكر الوجه من ذكر جسده لدلالة الكلام علـى الـمعنى الذي أريد به بذكر الوجه. وأما قوله: وَهُوَ مُـحْسِنَ فإنه يعنـي به فـي حال إحسانه. وتأويـل الكلام: بلـى من أخـلص طاعته للّه وعبـادته له مـحسنا فـي فعله ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: فَلَهُ أَجْرهُ عِنْدَ رَبّهِ فللـمسلـمِ وجْهَهُ للّه مـحسنا جزاؤه وثوابه علـى إسلامه وطاعته ربه عند اللّه فـي معاده. ويعنـي بقوله: وَلا خَوْف عَلَـيْهِمْ علـى الـمسلـمين وجوههم للّه وهم مـحسنون، الـمخـلصين له الدين فـي الاَخرة من عقابه وعذاب جحيـمه، وما قدموا علـيه من أعمالهم. ويعنـي بقوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم فـي الدنـيا، ولا أن يـمنعوا ما قدموا علـيه من نعيـم ما أعدّ اللّه لأهل طاعته. وإنـما قال جل ثناؤه: وَلا خَوْف عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقد قال قبلُ: فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبّهِ لأن (من) التـي في قوله: بَلَـى مَنْ أسْلَـمَ وَجْهَهُ للّه فـي لفظ واحد ومعنى جميع، فـالتوحيد في قوله: فله أجره للّفظ، والـجمع في قوله: وَلاَ خَوْف عَلَـيْهِمْ للـمعنى. ١١٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَىَ عَلَىَ شَيْءٍ ...} قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل الكتابـين تنازعوا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك: ١٣٦٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما قدم أهل نـجران من النصارى علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أتتهم أحبـار يهود، فتنازعوا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رافع بن حريـملة: ما أنتـم علـى شيء وكفر بعيسى ابن مريـم وبـالإنـجيـل. فقال رجل من أهل نـجران من النصارى: ما أنتـم علـى شيء وجحد نبوّة موسى وكفر بـالتوراة. فأنزل اللّه عزّ وجل فـي ذلك من قولهما: وَقالَتِ الـيَهودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وَقالَتِ النّصارى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ إلـى قوله: فـيـما كانوا فـيه يختلفون ١٣٧٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وقالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصارَى علـى شيْءٍ وَقالَتِ النّصارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا علـى عهد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. وأما تأويـل الآية، فإن قالت الـيهود: لـيست النصارى فـي دينها علـى صواب، وقالت النصارى: لـيست الـيهود فـي دينها علـى صواب. وإنـما أخبر اللّه عنهم بقـيـلهم ذلك للـمؤمنـين إعلاما منه لهم بتضيـيع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند اللّه ، وجحودهم مع ذلك ما أنزل اللّه فـيه من فروضه لأن الإنـجيـل الذي تدين بصحته وحقـيقته النصارى يحقق ما فـي التوراة من نبوّة موسى علـيه السلام وما فرض اللّه علـى بنـي إسرائيـل فـيها من الفرائض، وأن التوراة التـي تدين بصحتها وحقـيقتها الـيهود تـحقق نبوّة عيسى علـيه السلام وما جاء به من عند اللّه من الأحكام والفرائض. ثم قال كل فريق منهم للفريق الاَخر ما أخبر اللّه عنهم في قوله: وَقَالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصارَى علـى شَيْءٍ وقالت النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ مع تلاوة كل واحد من الفريقـين كتابه الذي يشهد علـى كذبه فـي قـيـله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك علـى علـم منهم أنهم فـيـما قالوه مبطلون، وأتوا ما أتوا من كفرهم بـما كفروا به علـى معرفة منهم بأنهم فـيه ملـحدون. فإن قال لنا قائل: أَوَ كانت الـيهود والنصارى بعد أن بعث اللّه رسوله علـى شيء، فـيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الاَخر مبطلاً فـي قـيـله ما قال من ذلك؟ قـيـل: قد روينا الـخبر الذي ذكرناه عن ابن عبـاس قَبْلُ، مِنْ أن إنكار كل فريق منهم إنـما كان إنكارا لنبوّة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، الذي ينتـحل التصديق به، وبـما جاء به الفريق الاَخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الاَخر فـي الـحال التـي بعث اللّه فـيها نبـينا صلى اللّه عليه وسلم علـى شيء من دينه، بسبب جحوده نبوّة نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الاَخر علـى شيء بعد بعثة نبـينا صلى اللّه عليه وسلم، وكلا الفريقـين كان جاحدا نبوّة نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي الـحال التـي أنزل اللّه فـيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت الـيهود: لـيست النصارى علـى شيء من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: لـيست الـيهود علـى شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الـخبر الذي رويناه عن ابن عبـاس آنفـا. فكذّب اللّه الفريقـين فـي قـيـلهما ما قالا. كما: ١٣٧١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَقَالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ قال: بلـى قد كانت أوائل النصارى علـى شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرّقوا وقالت النصارى: لـيست الـيهود علـى شيء. ولكن القوم ابتدعوا وتفرّقوا. ١٣٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: وقالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وقَالَتِ النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ عَلَـى شَيْءٍ قال: قال مـجاهد: قد كانت أوائل الـيهود والنصارى علـى شيء. وأما قوله: وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ فإنه يعنـي به كتاب اللّه التوراة والإنـجيـل، وهما شاهدان علـى فريقـي الـيهود والنصارى بـالكفر، وخلافهم أمر اللّه الذي أمرهم به فـيه. كما: ١٣٧٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قالا جميعا: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس في قوله: وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُون مِثْلَ قَوْلِهِمُ، أي كل يتلو فـي كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر الـيهود بعيسى وعندهم التوراة فـيها ما أخذ اللّه علـيهم من الـميثاق علـى لسان موسى بـالتصديق بعيسى علـيه السلام، وفـي الإنـجيـل مـما جاء به عيسى تصديق موسى، وما جاء به من التوراة من عند اللّه وكل يكفر بـما فـي يد صاحبه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى اللّه بقوله: كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ، فقال بعضهم بـما: ١٣٧٤ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال: وقالت النصارى مثل قول الـيهود قبلهم. ١٣٧٥ـ حدثنا بشر بن سعيد، عن قتادة: قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال: قالت النصارى مثل قول الـيهود قبلهم. وقال آخرون بـما: ١٣٧٦ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلـمون؟ قال: أمـم كانت قبل الـيهود والنصارى، وقبل التوراة والإنـجيـل. وقال بعضهم: عَنَى بذلك مشركي العرب، لأنهم لـم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلـى الـجهل، ونفـى عنهم من أجل ذلك العلـم. ذكر من قال ذلك: ١٣٧٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كَذَلِكَ قال الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فهم العرب، قالوا: لـيس مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى شيء. والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه أخبر تبـارك وتعالـى عن قوم وصفهم بـالـجهل، ونفـى عنهم العلـم بـما كانت الـيهود والنصارى به عالـمين أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال الـيهود والنصارى بعضها لبعض مـما أخبر اللّه عنهم أنهم قالوه في قوله: وَقالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وَقالَتِ النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ. وجائز أن يكونوا هم الـمشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل الـيهود والنصارى. ولا أمة أولـى أن يقال هي التـي عنـيت بذلك من أخرى، إذ لـم يكن فـي الآية دلالة علـى أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ولا من جهة النقل الـمستفـيض. وإنـما قصد اللّه جل ثناؤه بقوله: كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ إعلام الـمؤمنـين أن الـيهود والنصارى قد أتوا من قـيـل البـاطل، وافتراء الكذب علـى اللّه ، وجحود نبوّة الأنبـياء والرسل، وهم أهل كتاب يعلـمون أنهم فـيـما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون، وعلـى اللّه مفترون مثل الذي قاله أهل الـجهل بـاللّه وكتبه ورسله الذين لـم يبعث اللّه لهم رسولاً ولا أوحى إلـيهم كتابـا. وهذه الآية تنبىء عن أن من أتـى شيئا من معاصي اللّه علـى علـم منه بنهي اللّه عنها، فمصيبته فـي دينه أعظم من مصيبة من أتـى ذلك جاهلاً به لأن اللّه تعالـى ذكره عظم توبـيخ الـيهود والنصارى بـما وبّخهم به فـي قـيـلهم ما أخبر عنهم بقوله: وَقَالَتِ الـيَهُودُ لَـيْسَتِ النّصَارَى علـى شَيْءٍ وَقَالَتِ النّصَارَى لَـيْسَتِ الـيَهُودُ علـى شَيْءٍ من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك علـى علـم منهم أنهم مبطلون. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فـاللّه يَحْكُمُ بَـيْنَهُمْ يَوْمَ القِـيَامَةِ فِـيـما كانُوا فِـيهِ يَخْتَلِفُونَ. يعنـي بذلك جل ثناءه: فـاللّه يقضي فـيفصل بـين هؤلاء الـمختلفـين القائل بعضهم لبعض: لستـم علـى شيء من دينكم يوم قـيام الـخـلق لربهم من قبورهم، فـيتبـين الـمـحقّ منهم من الـمبطل بإثابة الـمـحقّ ما وعد أهل طاعته علـى أعماله الصالـحة ومـجازاته الـمبطل منهم بـما أوعد أهل الكفر به علـى كفرهم به فـيـما كانوا فـيه يختلفون من أديانهم ومللّهم فـي دار الدنـياوأما القـيامة فهي مصدر من قول القائل: قمت قـياما وقـيامةً، كما يقال: عدت فلانا عيادةً، وصنت هذا الأمر صيانةً. وإنـما عنى بـالقـيامة: قـيام الـخـلق من قبورهم لربهم، فمعنى يوم القـيامة: يوم قـيام الـخلائق من قبورهم لـمـحشرهم. ١١٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ مّنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...} قد دللنا فـيـما مضى قَبْلُ علـى أن تأويـل الظلـم: وضع الشيء فـي غير موضعه. وتأويـل قوله: وَمَنْ أَظْلَـمَ: وأيّ امرىء أشدّ تعدّيا وجراءة علـى اللّه وخلافـا لأمره مِن امرىء منع مساجد اللّه أن يعبد اللّه فـيها؟ والـمساجد جمع مسجد: وهو كل موضع عبد اللّه فـيه. وقد بـينا معنى السجود فـيـما مضى، فمعنى الـمسجد: الـموضع الذي يسجد للّه فـيه، كما يقال للـموضع الذي يجلس فـيه: الـمـجلس، وللـموضع الذي ينزل فـيه: منزل، ثم يجمع منازل ومـجالس نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب مساجد فـي واحد الـمساجد، وذلك كالـخطأ من قائله. وأما قوله: أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ فإن فـيه وجهين من التأويـل، أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلـم مـمن منع مساجد اللّه من أن يذكر فـيها اسمه، فتكون (أن) حينئذ نصبـا من قول بعض أهل العربـية بفقد الـخافض وتعلق الفعل بها. والوجه الاَخر أن يكون معناه: ومن أظلـم مـمن منع أن يذكر اسم اللّه فـي مساجده، فتكون (أن) حينئذ فـي موضع نصب تكريرا علـى موضع الـمساجد وردّا علـيه. وأما قوله: وَسَعَى فـي خَرَابِها فإن معناه: ومن أظلـم مـمن منع مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه، ومـمن سعى فـي خراب مساجد اللّه . ف(سعى) إذا عطف علـى (منع). فإن قال قائل: ومن الذي عنـي بقوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَر فـيها اسمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها وأيّ الـمساجد هي؟ قـيـل: إن أهل التأويـل فـي ذلك مختلفون، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه هم النصارى والـمسجد بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك: ١٣٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمْنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ أنهم النصارى. ١٣٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها النصارى كانوا يطرحون فـي بـيت الـمقدس الأذى، ويـمنعون الناس أن يصلوا فـيه. حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وقال آخرون: هو بختنصر وجنده ومن أعانهم من النصارى والـمسجد: مسجد بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك: ١٣٨٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: ومَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ الآية، أولئك أعداء اللّه النصارى، حملهم بغض الـيهود علـى أن أعانوا بختنصر البـابلـي الـمـجوسي علـى تـخريب بـيت الـمقدس. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها قال: هو بختنصر وأصحابه خرّب بـيت الـمقدس، وأعانه علـى ذلك النصارى. ١٣٨١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها قال: الروم، كانوا ظاهروا بختنصر علـى خراب بـيت الـمقدس، حتـى خرّبه وأمر به أن تطرح فـيه الـجِيَف وإنـما أعانه الروم علـى خرابه من أجل أن بنـي إسرائيـل قتلوا يحيى بن زكريا. وقال آخرون: بلـى عنى اللّه عزّ وجل بهذه الآية مشركي قريش، إذ منعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك: ١٣٨٢ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِها قال: هؤلاء الـمشركون، حين حالوا بـين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الـحديبـية وبـين أن يدخـل مكة حتـى نـحر هدية بذي طُوًى وهادنهم، وقال لهم: (ما كَانَ أَحَدٌ يُرَدّ عن هذا البَـيْتِ). وقد كان الرجل يـلقـى قاتل أبـيه أو أخيه فـيه فما يصدّه، و قالوا: لا يدخـل علـينا من قتل آبـاءنا يوم بدر وفـينا بـاقٍوفي قوله: وَسَعَى فـي خَرَابِها قالوا: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتـيها للـحجّ والعمرة. وأولـى التأويلات التـي ذكرتها بتأويـل الآية قول من قال: عنى اللّه عز وجل بقوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ النصارى وذلك أنهم هم الذين سعوا فـي خراب بـيت الـمقدس، وأعانوا بختنصر علـى ذلك، ومنعوا مؤمنـي بنـي إسرائيـل من الصلاة فـيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلـى بلاده. والدلـيـل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك: قـيام الـحجة بأن لا قوم فـي معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التـي ذكرناها، وأن لا مسجد عنى اللّه عزّ وجل بقوله: وَسَعَى فِـي خَرَابِها إلا أحد الـمسجدين، إما مسجد بـيت الـمقدس، وإما الـمسجد الـحرام. وإذْ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن مشركي قريش لـم يسعوا قط فـي تـخريب الـمسجد الـحرام، وإن كانوا قد منعوا فـي بعض الأوقات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فـيه صحّ وثبت أن الذين وصفهم اللّه عزّ وجل بـالسعي فـي خراب مساجده غير الذين وصفهم اللّه بعمارتها، إذْ كان مشركو قريش بنوا الـمسجد الـحرام فـي الـجاهلـية، وبعمارته كان افتـخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فـيه كان منهم علـى غير الوجه الذي يرضاه اللّه منهم. وأخرى، أن الآية التـي قبل قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ مضت بـالـخبر عن الـيهود والنصارى وذَمّ أفعالهم، والتـي بعدها نبهت بذمّ النصارى والـخبر عن افترائهم علـى ربهم، ولـم يَجْرِ لقريش ولا لـمشركي العرب ذكر، ولا للـمسجد الـحرام قبلها، فـيوجه الـخبر بقول اللّه عز وجل: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسْمُهُ إلـيهم وإلـى الـمسجد الـحرام. وإذْ كان ذلك كذلك، فـالذي هو أَوْلـى بـالآية أن يوجه تأويـلها إلـيه، هو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لـخبرهما نظيرا وشكلاً، إلاّ أن تقوم حجة يجب التسلـيـم لها بخلاف ذلك وإن اتفقت قصصها فـاشتبهت. فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا فـي ذلك لـيس كذلك، إذْ كان الـمسلـمون لـم يـلزمهم قط فرض الصلاة فـي الـمسجد الـمقدس، فمنعوا من الصلاة فـيه، فـيـلـجئون توجيه قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ إلـى أنه معنـيّ به مسجد بـيت الـمقدس فقد أخطأ فـيـما ظنّ من ذلك. وذلك أن اللّه جل ذكره إنـما ذكر ظلـم من منع من كان فرضه الصلاة فـي بـيت الـمقدس من مؤمنـي بنـي إسرائيـل، وإياهم قصد بـالـخبر عنهم بـالظلـم والسعي فـي خراب الـمسجد، وإن كان قد دلّ بعموم قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أنْ يُذْكَرَ فِـيها اسمُهُ أن كل مانع مصلـيا فـي مسجد للّه فرضا كانت صلاته فـيه أو تطوّعا، وكل ساع فـي إخرابه فهو من الـمعتدين الظالـمين. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أُولَئِكَ ما كان لَهُمْ أنْ يَدْخُـلُوها إلا خائِفِـينَ. وهذا خبر من اللّه عزّ وجل عمن منع مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه، أنه قد حرّم علـيهم دخول الـمساجد التـي سعوا فـي تـخريبها ومنعوا عبـاد اللّه الـمؤمنـين من ذكر اللّه عز وجل فـيها ما داموا علـى مناصبة الـحرب إلا علـى خوف ووجل من العقوبة علـى دخولهموها. كالذي: ١٣٨٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ما كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوها إلا خائِفِـينَ وهم الـيوم كذلك، لا يوجد نصرانـي فـي بـيت الـمقدس إلا نُهك ضربـا وأبلغ إلـيه فـي العقوبة. حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال اللّه عزّ وجل: ما كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوهَا إِلاّ خَائِفِـينَ وهم النصارى، فلا يدخـلون الـمسجد إلا مسارقة، إن قُدر علـيهم عوقبوا. ١٣٨٤ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أُولَئِكَ ما كَانَ لَهُمْ أنْ يَدْخُـلُوهَا إلا خَائِفِـينَ فلـيس فـي الأرض روميّ يدخـلها الـيوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد أُخيف بأداء الـجزية فهو يؤدّيها. ١٣٨٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أُولَئِكَ ما كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوهَا إِلاّ خَائِفِـينَ قال: نادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يَحُجّ بَعْدَ العامِ مُشْرِك، ولا يَطُوفُ بـالبَـيْتِ عُرْيان) قال: فجعل الـمشركون يقولون: اللّه م إنا منعنا أن ننزل. وإنـما قـيـل: أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُـلُوهَا إلا خَائِفِـينَ فأخرج علـى وجه الـخبر عن الـجميع وهو خبر عمن منع مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه لأن (مَنْ) فـي معنى الـجميع، وإن كان لفظه واحدا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْي ولهُمْ فـي الاَخِرَةِ عَذَاب عَظِيـم. فأما قوله عز وجل: لهم فإنه يعنـي الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه. وأما قوله: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْيٌ فإنه يعنـي بـالـخزي: العار والشرّ. والذلة إما القتل والسبـاء، وإما الذلة والصغار بأداء الـجزية. كما: ١٣٨٦ـ حدثنا الـحسن، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْيٌ قال: يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون. ١٣٨٧ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: لَهُمْ فِـي الدّنْـيَا خِزْيٌ أما خزيهم فـي الدنـيا: فإنهم إذا قام الـمهديّ وفتـحت القسطنطينـية قتلهم، فذلك الـخزي وأما العذاب العظيـم: فإنه عذاب جهنـم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يُقْضَى علـيهم فـيها فـيـموتوا. وتأويـل الآية: لهم فـي الدنـيا الذلة والهوان والقتل والسبـي، علـى منعهم مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه، وسعيهم فـي خرابها. ولهم علـى معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم فـي الأرض فسادا عذابُ جهنـم، وهو العذاب العظيـم. ١١٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّه إِنّ اللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وللّه الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ للّه ملكهما وتدبـيرهما، كما يقال: لفلان هذه الدار، يعنـي بها أنها له ملكا، فذلك قوله: وللّه الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ يعنـي أنهما له ملكا وخـلقا. والـمشرق: هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال لـموضع طلوعها منه مَطْلِع بكسر اللام، وكما بـينا فـي معنى الـمساجد آنفـا. فإن قال قائل: أوَ ما كان للّه إلا مشرق واحد ومغرب واحد حتـى قـيـل: وللّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ؟ قـيـل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إلـيه، وإنـما معنى ذلك: وللّه الـمشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والـمغرب الذي تغرب فـيه كل يوم. فتأويـله إذا كان ذلك معناه: وللّه ما بـين قُطْرَي الـمشرق، وما بـين قُطري الـمغرب، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلـى الـحَوْلِ الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم. فإن قال: أَوَ لـيس وإن كان تأويـل ذلك ما ذكرت فللّه كل ما دونه؟ الـخـلقُ خـلقُه قـيـل: بلـى. فإن قال: فكيف خصّ الـمشارق والـمغارب بـالـخبر عنها أنها له فـي هذا الـموضع دون سائر الأشياء غيرها؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله خَصّ اللّه ذكر ذلك بـما خصه به فـي هذا الـموضع، ونـحن مبـينو الذي هو أولـى بتأويـل الآية بعد ذكرنا أقوالهم فـي ذلك. فقال بعضهم: خصّ اللّه جل ثناؤه ذلك بـالـخبر من أجل أن الـيهود كانت توجه فـي صلاتها وجوهَها قِبَلَ بـيت الـمقدس، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعل ذلك مدة، ثم حُوّلوا إلـى الكعبة، فـاستنكرت الـيهود ذلك من فعل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التـي كانُوا عَلَـيْهَا فقال اللّه تبـارك وتعالـى لهم: الـمشارق والـمغارب كلها لـي أُصرّفُ وجوه عبـادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلّوا فثم وجه اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٣٨٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما هاجر إلـى الـمدينة، وكان أكثر أهلها الـيهود، أمره اللّه عزّ وجلّ أن يستقبل بـيت الـمقدس، ففرحت الـيهود، فـاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعة عشر شهرا، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم علـيه السلام فكان يدعو وينظر إلـى السماء، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ إلـى قوله: فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فـارتاب من ذلك الـيهود، و قالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التـي كانُوا عَلَـيْهَا فأنزل اللّه عزّ وجل: قُلِ للّه الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ وقال: (أيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه ). ١٣٨٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي نـحوه. وقال آخرون: بل أنزل اللّه هذه الآية قبل أن يفرض علـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم وعلـى الـمؤمنـين به التوجه شطر الـمسجد الـحرام. وإنـما أنزلها علـيه معلـما نبـيه علـيه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي الـمشرق والـمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه فـي ذلك الوجه وتلك الناحية لأن له الـمشارق والـمغارب، وأنه لا يخـلو منه مكان، كما قال جل وعزّ: ولا أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أكْثَرَ إلا هُوَ مَعَهُمْ أيْنَـمَا كانُوا قالوا: ثم نسخ ذلك بـالفرض الذي فرض علـيهم فـي التوجه شطر الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك: ١٣٩٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: وللّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ فَأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال اللّه : ومِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ. ١٣٩١ـ حدثت عن الـحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلـى الـمسجد الـحرام. ١٣٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا همام، قال: حدثنا يحيى، قال: سمعت قتادة في قول اللّه : فأيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه قال: كانوا يصلون نـحو بـيت الـمقدس ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلـى نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نـحو الكعبة البـيت الـحرام، فنسخها اللّه فـي آية أخرى: فَلْنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةَ تَرْضَاها إلـى: وَحَيْثُمَا كُنْتُـمُ فَولّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة. ١٣٩٣ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته يعنـي زيدا يقول: قال عز وجل لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: فَأينَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه إِنّ اللّه وَاسِع عَلِـيـم قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَولاَءِ قَوْمُ يَهُود يَسْتَقْبِلُونَ بَـيْتا مِنْ بُـيُوتِ اللّه لَوْ أنّا اسْتَقْبَلْنَاهُ) فـاستقبله النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ستة عشر شهرا. فبلغه أن يهود تقول: واللّه ما دري مـحمد وأصحابه أين قبلتهم حتـى هديناهم فكره ذلك النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، ورفع وجهه إلـى السماء، فقال اللّه عز وجل: قَدْ نَرى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ الآية. وقال آخرون: نزلت هذه الآية علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إذنا من اللّه عز وجل له أن يصلـي التطوّع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، فـي مسيره فـي سفره، وفـي حال الـمسايفة، وفـي شدّة الـخوف، والتقاء الزحوف فـي الفرائض. وأعلـمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك، بقوله: وللّه الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٣٩٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا عبد الـملك، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عمر أنه كان يصلـي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: أيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه . ١٣٩٥ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عمر أنه قال: (إنـما نزلت هذه الآية: (أيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه ) أن تصلـي حيثما توجهتْ بك راحلتك فـي السفر تطوعا، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلـي علـى راحلته تطوّعا يومىء برأسه نـحو الـمدينة). وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي قوم عميت علـيهم القبلة فلـم يعرفوا شَطْرَها، فصلوا علـى أنـحاء مختلفة، فقال اللّه عزّ وجلّ لهم: لـي الـمشارق والـمغارب، فأنّى ولـيتـم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قِبْلَتُكم معلـمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. ذكر من قال ذلك: ١٣٩٦ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو الربـيع السمان، عن عاصم بن عبـيد اللّه ، عن عبد اللّه بن عامر بن ربـيعة، عن أبـيه، قال: (كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي لـيـلة سوداء مظلـمة، فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فـيعمل مسجدا يصلـي فـيه. فلـما أصبحنا، إذا نـحن قد صلـينا علـى غير القبلة، فقلنا: يا رسول اللّه لقد صلـينا لـيـلتنا هذه لغير القبلة فأنزل اللّه عز وجل: وللّه الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُولّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه إِنّ اللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ). ١٣٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي الـحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: قلت للنـخعي: إنـي كنت استـيقظت أو قال أُوقِظْتُ، شكّ الطبري فكان فـي السماء سحاب، فصلـيت لغير القبلة قال: مضت صلاتك، يقول اللّه عز وجل: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه . حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن أشعث السمان، عن عاصم بن عبـيد اللّه ، عن عبد اللّه بن عامر بن ربـيعة، عن أبـيه، قال: كنا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي لـيـلة مظلـمة فـي سفر، فلـم ندر أين القبلة فصلـينا، فصلـى كل واحد منا علـى حياله. ثم أصبحنا فذكرنا للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزّ وجل: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه . وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي سبب النـجاشي لأن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنازعوا فـي أمره من أجل أنه مات قبل أن يصلـي إلـى القبلة، فقال اللّه عز وجل: الـمشارق والـمغارب كلها لـي، فمن وجّه وَجْهَه نـحو شيء منها يريدنـي به ويبتغي به طاعتـي، وجدنـي هنالك. يعنـي بذلك أن النـجاشي وإن لـم يكن صلـى إلـى القبلة، فإنه قد كان يوجه إلـى بعض وجوه الـمشارق والـمغارب وجهه، يبتغي بذلك رضا اللّه عزّ وجل فـي صلاته. ذكر من قال ذلك: ١٣٩٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هشام بن معاذ، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (إِنّ أخاكُمْ النّـجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَـيْهِ) قالوا: نصلـي علـى رجل لـيس بـمسلـم قال: فنزلت: وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بِـاللّه وَمَا أُنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ خاشعِينَ للّه قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلـي إلـى القبلة، فأنزل اللّه عزّ وجل: وللّه الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه . قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك: أن اللّه تعالـى ذكره إنـما خصّ الـخبر عن الـمشرق والـمغرب فـي هذه الآية بأنهما له ملكا وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك إعلاما منه عبـاده الـمؤمنـين أن له ملكهما وملك ما بـينهما من الـخـلق، وأن علـى جميعهم إذْ كان له ملكهم طاعته فـيـما أمرهم ونهاهم، وفـيـما فرض علـيهم من الفرائض، والتوجه نـحو الوجه الذي وجهوا إلـيه، إذْ كان من حكم الـمـمالـيك طاعة مالكهم. فأخرج الـخبر عن الـمشرق والـمغرب، والـمراد به من بـينهما من الـخـلق، علـى النـحو الذي قد بـينت من الاكتفـاء بـالـخبر عن سبب الشيء من ذكره والـخبر عنه، كما قـيـل: وأُشْرِبُوا فِـي قُلُوبِهِمُ العِجْل وما أشبه ذلك. ومعنى الآية إذا: وللّه ملك الـخـلق الذي بـين الـمشرق والـمغرب يتعبدهم بـما شاء، ويحكم فـيهم ما يريد علـيهم طاعته فولّوا وجوهكم أيها الـمؤمنون نـحو وجهي، فإنكم أينـما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي. فأما القول فـي هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فـالصواب فـيه من القول أن يقال: إنها جاءت مـجيء العموم، والـمراد الـخاص وذلك أن قوله: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه مـحتـمل: أينـما تولوا فـي حال سيركم فـي أسفـاركم، فـي صلاتكم التطوّع، وفـي حال مسايفتكم عدوّكم، فـي تطوّعكم ومكتوبتكم، فَثمّ وجه اللّه كما قال ابن عمر والنـخعي ومن قال ذلك مـمن ذكرنا عنه آنفـا. ومـحتـمل: فأينـما تُولّوا من أرض اللّه فتكونوا بها فَثَمّ قِبْلَةُ اللّه التـي توجهون وجوهكم إلـيها لأن الكعبة مـمكن لكم التوجه إلـيها منها. كما قال أبو كريب: ١٣٩٩ـ قال ثنا وكيع، عن أبـي سنان، عن الضحاك ، والنضر بن عربـي، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه قال: قبلة اللّه ، فأينـما كنت من شرق أو غرب فـاستقبلها. ١٤٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي إبراهيـم، عن ابن أبـي بكر، عن مـجاهد، قال: حيثما كنتـم فلكم قبلة تستقبلونها، قال: الكعبة. ومـحتـمل: فأينـما تولوا وجوهكم فـي دعائكم فهنالك وجهي أستـجيب لكم دعاءكم. كما: ١٤٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: لـمّا نزلت: ادْعُونـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ قالوا: إلـى أين؟ فنزلت: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه . فإذ كان قوله عز وجل: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه مـحتـملاً ما ذكرنا من الأوجه، لـم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسلـيـم لها لأن الناس لا يكون إلا بـمنسوخ، ولـم تقم حجة يجب التسلـيـم لها بأن قوله: فأيْنَـمَا تُولّوا فَثَمّ وجْهُ اللّه معنـيّ به: فأينـما توجهوا وجوهكم فـي صلاتكم فثم قبلتكم. ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه نـحو بـيت الـمقدس أمرا من اللّه عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نـحو الكعبة، فـيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نـحو بـيت الـمقدس إذْ كان من أهل العلـم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت فـي ذلك الـمعنى. ولا خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثابتٌ بأنها نزلت فـيه، وكان الاختلاف فـي أمرها موجودا علـى ما وصفت. ولا هي إذْ لـم تكن ناسخة لـما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت مـحتـملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم، ومعناها: فـي حال دون حال إن كان عنـي بها التوجه فـي الصلاة، وفـي كل حال إن كان عنـي بها الدعاء، وغير ذلك من الـمعانـي التـي ذكرنا. وقد دللنا فـي كتابنا: (كتاب البـيان عن أصول الأحكام)، علـى أن لا ناسخ من أي القرآن وأخبـار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلاّ ما نفـي حكما ثابتا، وألزم العبـاد فرضه غير مـحتـمل بظاهره وبـاطنة غير ذلك. فأما إذا ما احتـمل غير ذلك من أن يكون بـمعنى الاستثناء أو الـخصوص والعموم، أو الـمـجمل، أو الـمفسر، فمن الناسخ والـمنسوخ بـمعزل، بـما أغنى عن تكريره فـي هذا الـموضع. ولا منسوخ إلا الـمنفـي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه، ولـم يصحّ واحد من هذين الـمعنـيـين لقوله: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثمّ وَجْهُ اللّه بحجة يجب التسلـيـم لها، فـيقال فـيه: هو ناسخ أو منسوخ. وأما قوله: فأينـما فإن معناه: حيثما. وأما قوله: تُوَلّوا فإن الذي هو أولـى بتأويـله أن يكون تولون نـحوه وإلـيه، كما يقول القائل: ولّـيت وجهي (نـحوه) وولـيته إلـيه، بـمعنى: قابلته وواجهته. وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية لإجماع الـحجة علـى أن ذلك تأويـله وشذوذ من تأوله بـمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فـالذي تتوجهون إلـيه وجه اللّه ، بـمعنى قبلة اللّه . وأما قوله: فَثَمّ فإنه بـمعنى: هنالك. واختلف فـي تأويـل قوله: فَثَمّ (وجه اللّه ) فقال بعضهم: تأويـل ذلك: فثم قبلة اللّه ، يعنـي بذلك: وجهه الذي وجههم إلـيه. ذكر من قال ذلك: ١٤٠٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربـي، عن مـجاهد: فَثَمّ وَجْهُ اللّه قال: قبلة اللّه . حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي إبراهيـم، عن مـجاهد، قال: حيثما كنتـم فلكم قبلة تستقبلونها. وقال آخرون: معنى قول اللّه عز وجل فثم وجه اللّه فثم اللّه تبـارك وتعالـى. وقال آخرون: معنى قوله: فَثَمّ وَجْهُ اللّه فثم تدركون بـالتوجه إلـيه رضا اللّه الذي له الوجه الكريـم. وقال آخرون: عنى بـالوجه: ذا الوجه، وقال قائلوا هذه الـمقالة: وجهُ اللّه صفةٌ له. فإن قال قائل: وما هذه الآية من التـي قبلها؟ قـيـل: هي لها مواصلة، وإنـما معنى ذلك: ومن أظلـم من النصارى الذين منعوا عبـاد اللّه مساجده أن يذكر فـيها اسمه، وَسَعْوا فـي خرابها، وللّه الـمشرق والـمغرب، فأينـما تُوجهوا وجوهَكم فـاذكروه، فإن وجهه هنالك يَسَعُكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلـم ما تعملون، ولا يـمنعكم تـخريب من خرّب مسجد بـيت الـمقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر اللّه فـيه أن تذكروا اللّه حيث كنتـم من أرض اللّه تبتغون به وجهه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إِنّ اللّه وَاسِعٌ عَلِـيـم. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَاسِعٌ يسع خَـلْقَه كلهم بـالكفـاية والأفضال والـجود والتدبـير. وأما قوله: عَلِـيـم فإنه يعنـي أنه علـيـم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علـمه، بل هو بجميعها علـيـم. ١١٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّه وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ } يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَقَالُوا اتّـخَذَ اللّه وَلَدا الذين منعوا مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه، وقالوا معطوف علـى قوله: وَسَعَى فـي خَرَابِها. وتأويـل الآية: ومن أظلـم مـمن منع مساجد اللّه أن يذكر فـيها اسمه وسعى فـي خرابها، وقالوا اتـخذ اللّه ولدا وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن اللّه ؟ فقال اللّه جل ثناؤه مكذّبـا قِـيـلَهم ما قالوا من ذلك ومنتفـيا مـما نـحلوه وأضافوا إلـيه بكذبهم وفريتهم. سبحانه يعنـي بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوّا وارتفـاعا عن ذلك. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى قول القائل: (سبحان اللّه ) بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما فـي السموات والأرض مِلْكا وخـلقا، ومعنى ذلك: وكيف يكون الـمسيح للّه ولدا، وهو لا يخـلو إما أن يكون فـي بعض هذه الأماكن إما فـي السموات، وإما فـي الأرض، وللّه ملك ما فـيهما؟ ولو كان الـمسيح ابنا كما زعمتـم لـم يكن كسائر ما فـي السموات والأرض من خـلقه وعبـيده فـي ظهور آيات الصنعة فـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون. ذكر من قال ذلك: ١٤٠٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ: مطيعون. ١٤٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون، قال: طاعة الكافر فـي سجود ظله. ١٤٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمثله، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره. ١٤٠٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ يقول: كل له مطيعون يوم القـيامة. ١٤٠٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنـي يحيى بن سعيد، عمن ذكره، عن عكرمة: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ قال: الطاعة. ١٤٠٨ـ حدثت عن الـمنـجاب بن الـحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : قانِتون: مطيعون. وقال آخرون: معنى ذلك كلّ له مُقرّون بـالعبودية. ذكر من قال ذلك: ١٤٠٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ كل مقّر له بـالعبودية. وقال آخرون بـما: ١٤١٠ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ قال: كل له قائم يوم القـيامة. والقنوت فـي كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والاَخر القـيام، والثالث الكفّ عن الكلام والإمساك عنه. وأولـى معانـي القنوت في قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ الطاعة والإقرار للّه عز وجل بـالعبودية بشهادة أجسامهم بـما فـيها من آثار الصنعة، والدلالة علـى وحدانـية اللّه عز وجل، وأن اللّه تعالـى ذكره بـارئها وخالقها. وذلك أن اللّه جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن للّه ولدا بقوله: بل له ما فـي السموات والأرض ملكا وخـلقا. ثم أخبر عن جميع ما فـي السموات والأرض أنها مقرّة بدلالتها علـى ربها وخالقها، وأن اللّه تعالـى بـارئها وصانعها. وإنْ جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بـالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التـي فـيها بذلك، وأن الـمسيح أحدهم، فأنى يكون للّه ولدا وهذه صفته؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله: كُلّ لَهُ قَانِتُونَ خاصة لأهل الطاعة ولـيست بعامة. وغير جائز ادّعاء خصوص فـي آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسلـيـم لها لـما قد بـينا فـي كتابنا: (كتاب البـيان عن أصول الأحكام). وهذا خبر من اللّه جلّ وعزّ عن أن الـمسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن اللّه مُكَذّبهم هو والسموات والأرض وما فـيها، إما بـاللسان، وإما بـالدلالة وذلك أن اللّه جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بـالعبودية عقـيب قوله: وَقَالُوا اتّـخَذَ اللّه وَلَدا فدلّ ذلك علـى صحة ما قلنا. ١١٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يعنـي جل ثناؤه بقوله: بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ مبدعها. وإنـما هو (مُفْعل) صرّف إلـى (فَعِيـل)، كما صرّف الـمؤلـم إلـى ألـيـم، والـمسمع إلـى سميع. ومعنى الـمبدع: الـمنشىء والـمـحدث ما لـم يسبقه إلـى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي الـمبتدع فـي الدين مبتدعا، لإحداثه فـيه ما لـم يسبقه إلـيه غيره. وكذلك كل مـحدث فعلاً أو قولاً لـم يتقدّمه فـيه متقدّم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بنـي ثعلبة فـي مدح هوذة بن علـيّ الـحنفـي: يَرْعَى إلـى قَوْلِ سادَاتِ الرّجالِ إذَاأبْدَوْا لَهُ الـحَزْمَ أوْ ما شَاءَهُ ابْتَدَعا أي يحدث ما شاء. ومنه قول رؤبة بن العجّاج: فأيّها الغاشِي القِذَافَ الأتْـيَعاإنْ كُنْتَ للّه التّقِـيّ أَلاطْوَعا فَلَـيْسَ وَجْهُ الـحَقّ أنْ تَبَدّعا يعنـي: أن تـحدث فـي الدين ما لـم يكن فـيه. فمعنى الكلام: سبحان اللّه أنى يكون له ولد وهو مالك ما فـي السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها علـيه بـالوحدانـية، وتقرّ له بـالطاعة وهو بـارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها علـيه وهذا إعلام من اللّه جل ثناؤه عبـاده، أن مـما يشهد له بذلك الـمسيح الذي أضافوا إلـى اللّه جل ثناؤه بنوّته، وإخبـار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلـى غير مثال، هو الذي ابتدع الـمسيح من غير والد بقدرته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٤١١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يقول: ابتدع خـلقها، ولـم يشركه فـي خـلقها أحد. ١٤١٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يقول: ابتدعها فخـلقها، ولـم يخـلق مثلها شيئا فتتـمثل به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا وإذا أحكم أمرا وحَتَـمه. وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكامُ والفراغ منه ومن ذلك قـيـل للـحاكم بـين الناس: القاضي بـينهم، لفصله القضاء بـين الـخصوم، وقَطْعه الـحكم بـينهم وفراغه منه. ومنه قـيـل للـميت: قد قَضَى، يراد به قد فرغ من الدنـيا، وفصل منها. ومنه قـيـل: ما ينقضي عجبـي من فلان، يراد: ما ينقطع. ومنه قـيـل: تَقَضّى النهارُ: إذا انصرم. ومنه قول اللّه عز وجل: وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيَاهُ أي فصل الـحكم فـيه بـين عبـاده بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله: وَقَضَيْنَا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ أي أعلـمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إلـيهم منه. ومنه قول أبـي ذؤيب: وَعَلَـيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُمادَاوُدُ أوْ صَنَعَ السّوَابِغِ تُبّعُ ويُروى: (وتَعاوَرَا مَسْرُودَتـينِ قَضَاهُما). ويعنـي بقوله: قضاهما: أحكمهما. ومنه قول الاَخر فـي مدح عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه: قَضَيْتُ أُمُورا ثُمّ غَادَرْتَ بَعْدَهابِوَائِقَ فـي أكْمَامِها لَـمْ تَفَتُقِ ويروى: (بوائج). وأما قوله: فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ فإنه يعنـي بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتـمه، فإنـما يقول لذلك الأمر (كُنْ)، فـيكون ذلك الأمر علـى ما أمره اللّه أن يكون وأراده. فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ؟ وفـي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه كُنْ؟ أفـي حال عدمه، وتلك حال لا يجوز فـيها أمره، إذ كان مـحالاً أن يأمر إلا الـمأمور، فإذا لـم يكن الـمأموم استـحال الأمر وكما مـحال الأمر من غير آمر، فكذلك مـحال الأمر من آمر إلا لـمأمور. أم يقول له ذلك فـي حال وجوده، وتلك حال لا يجوز أمره فـيها بـالـحدوث، لأنه حادث موجود، ولا يقال للـموجود: كن موجودا إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟ قـيـل: قد تنازع الـمتأوّلون فـي معنى ذلك ونـحن مخبرون بـما قالوا فـيه، والعلل التـي اعتلّ بها كل فريق منهم لقوله فـي ذلك: قال بعضهم: ذلك خبر من اللّه جل ثناؤه عن أمره الـمـحتوم علـى وجه القضاء لـمن قضى علـيه قضاء من خـلقه الـموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فـيه قضاؤه، ومضى فـيه أمره، نظير أَمْرِهِ من أَمَرَ من بنـي إسرائيـل بأن يكونوا قردة خاسئين، وهم موجودون فـي حال أمره إياهم بذلك، وحتـم قضائه علـيهم بـما قضى فـيهم، وكالذي خسف به وبداره الأرض، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فـيـمن كان موجودا من خـلقه فـي حال أمره الـمـحتوم علـيه. فوجه قائلوا هذا القول قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ إلـى الـخصوص دون العموم. وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها، فلـيس لأحد أن يحيـلها إلـى بـاطن بغير حجة يجب التسلـيـم لها، وقال: إن اللّه عالـم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلـما كان ذلك كذلك كانت الأشياء التـي لـم تكن وهي كائنة لعلـمه بها قبل كونها، نظائر التـي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: (كونـي)، ويأمرها بـالـخروج من حال العدم إلـى حال الوجود، لتصوّر جميعها له، ولعلـمه بها فـي حال العدم. وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم، فتأويـلها الـخصوص لأن الأمر غير جائز إلا لـمأمور علـى ما وصفت قبل. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فـالآية تأويـلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت، أو إماتة حيّ، ونـحو ذلك، فإنـما يقول لـحيّ كُنْ ميتا، أو لـميت كُنْ حيا، وما أشبه ذلك من الأمر. وقال آخرون: بل ذلك من اللّه عزّ وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكوّنه أنه إذا قضاه وخـلقه وأنشأه كان ووُجِدَ. ولا قول هنالك عند قائلـي هذه الـمقالة إلا وجود الـمخـلوق، وحدوث الـمقضي و قالوا: إنـما قول اللّه عز وجل: وَإِذَا قَضَى أَمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ نظير قول القائل: قال فلان برأسه، وقال بـيده إذا حرّك رأسه أو أومأ بـيده ولـم يقل شيئا. وكما قال أبو النـجم: وقَالَتِ الأنْسَاعُ للبَطْنِ الـحَقِقِدْما فآضَتْ كالفَنِـيقِ الـمُـحْنِقِ ولا قول هنالك، وإنـما عنى أن الظهر قد لـحق بـالبطن. وكما قال عمرو بن حُمـمة الدوسي: فأصْبَحْتُ مِثْلَ النّسْرِ طارَتْ فِرَاخُهُإذَا رَامَ تَطْيارا يُقال لَهُ قَعِ ولا قول هناك، وإنـما معناه: إذا رام طيرانا ووقع، وكما قال الاَخر: امْتَلأ الـحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِـيسَيْلاً رُوَيْدا قَدْ مَلأتُ بَطْنِـي وأولـى الأقوال بـالصواب في قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ أن يقال: هو عامّ فـي كل ما قضاه اللّه وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائز إحالة الظاهر إلـى البـاطن من التأويـل بغير برهان لـما قد بـينا فـي كتابنا: (كتاب البـيان عن أصول الأحكام). وإذْ كان ذلك كذلك، فأمر اللّه جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: كُنْ فـي حال إرادته إياه مكوّنا، لا يتقدّم وجودَ الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه، ولا أمره بـالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بـالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بـالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السمّاءُ والأرْض بأمْرِهِ ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُـمْ تَـخْرُجُونَ بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدّم دعاء اللّه ، ولا يتأخر عنه. ويسأل من زعم أن قوله: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ خاصّ فـي التأويـل اعتلالاً بأن أمر غير الـموجود غير جائز، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم، أم بعده؟ أم هي فـي خاصّ من الـخـلق؟ فلن يقول فـي ذلك قولاً إلا أُلزم فـي الاَخر مثله. ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: فَـانّـمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ نظير قول القائل: قال فلان برأسه أو بـيده، إذا حرّكه وأومأ، ونظير قول الشاعر: تَقُولُ إذَا دَرأتُ لَهَا وَضِينِـيأهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِينِـي وما أشبه ذلك؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب اللّه ، وما دلت علـى صحته الأدلة اتبعوا. فـيقال لقائلـي ذلك: إن اللّه تعالـى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له: (كُنْ)، أفتنكرون أن يكون قائلاً ذلك؟ فإن أنكروه كذّبوا بـالقرآن، وخرجوا من الـملة، وإن قالوا: بل نقرّ به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل: قال الـحائط فمال ولا قول هنالك، وإنـما ذلك خبر عن ميـل الـحائط. قـيـل لهم: أفتـجيزون للـمخبر عن الـحائط بـالـميـل أن يقول: إنـما قول الـحائط إذا أراد أن يـميـل أن يقول هكذا فـيـميـل؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف فـي لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز، قـيـل لهم: إن اللّه تعالـى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كُنْ فـيكون، فأعلـم عبـاده قوله الذي يكون به الشيء وَوَصَفَه ووَكّده. وذلك عندكم غير جائز فـي العبـارة عما لا كلام له ولا بـيان فـي مثل قول القائل: قال الـحائط فمال. فكيف لـم يعلـموا بذلك فَرْقَ ما بـين معنى قول اللّه : وَإِذَا قَضَى أمْرا فـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونَ وقول القائل: قال الـحائط فمال؟ وللبـيان عن فساد هذه الـمقالة موضع غير هذا نأتـي فـيه علـى القول بـما فـيه الكفـاية إن شاء اللّه . وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: وَإِذَا قَضَى أمْرا فَـانّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بـالوجود حال وجود الـمأمور بـالوجود، فتبـين بذلك أن الذي هو أولـى بقوله: فَـيَكُونُ رفع علـى العطف علـى قوله: يقول لأن القول والكون حالهما واحد. وهو نظير قول القائل: تاب فلان فـاهتدى، واهتدى فلان فتاب لأنه لا يكون تائبـا إلا وهو مهتد، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يـمكن أن يكون اللّه آمرا شيئا بـالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بـالوجود ولذلك استـجاز من استـجاز نَصْبَ (فَـيَكُونَ) مَنْ قَرأ: إِنّـمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أرَدْنَاهُ أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونَ بـالـمعنى الذي وصفنا علـى معنى: أن نقول فـيكون. وأما رَفْعُ من رَفَعَ ذلك، فإنه رأى أن الـخبر قد تـمّ عند قوله: إِذَا أَرَدْنَاهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ إذ كان معلوما أن اللّه إذا حتـم قضاءه علـى شيء كان الـمـحتوم علـيه موجودا، ثم ابتدأ بقوله: فـيكون، كما قال جل ثناؤه: لِنُبَـيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِـي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ، وكما قال ابن أحمر: يُعالِـجُ عاقِرا أعْيَتْ عَلَـيْهِلِـيُـلْقِحَها فَـيَنْتِـجُها حُوَارَا يريد: فإذا هو ينتـجها حُوَارا. فمعنى الآية إذا: وقالوا اتـخذ اللّه ولدا، سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فـيهما، كل ذلك مقرّ له بـالعبودية بدلالته علـى وحدانـيته. وأنّى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع الـمسيح من غير والد بقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذّر علـيه به شيء أراده بل إنـما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: (كُنْ)، فـيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه الـمسيح وإنشاءه إذْ أراد خـلقه من غير والد. ١١٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّه ...} اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه بقوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى. ذكر من قال ذلك: ١٤١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه جل وعز: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلا يُكَلّـمُنا اللّه أوْ تَأتِـينا آيَةٌ قال: النصارى تقولُه. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله وزاد فـيه وَقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ: النّصَارَى. وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك الـيهود الذين كانوا فـي زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ١٤١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال رافع بن حريـملة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن كنت رسولاً من عند اللّه كما تقول، فقل للّه عز وجلّ فلـيكلـمنا حتـى نسمع كلامه فأنزل اللّه عز وجل فـي ذلك من قوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه أوْ تَأتِـينَا آيَةٌ الآية كلها. وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب. ذكر من قال ذلك: ١٤١٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه أوْ تَأتِـينا آيَةٌ وهم كفـار العرب. ١٤١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه قال: هم كفـار العرب. ١٤١٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه أما الذين لا يعلـمون: فهم العرب. وأولـى هذه الأقوال بـالصحة والصواب قول القائل: إن اللّه تعالـى عنى بقوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ النصارى دون غيرهم لأن ذلك فـي سياق خبر اللّه عنهم، وعن افترائهم علـيه وادّعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فـيـما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم علـى اللّه الكذب بقوله: اتّـخَذَ اللّه وَلَدا تـمنوا علـى اللّه الأبـاطيـل، فقالوا جهلاً منهم بـاللّه وبـمنزلتهم عنده وهم بـاللّه مشركون: لولا يكلـمنا اللّه كما يكلـم رسوله وأنبـياءه، أو تأتـينا آية كما أتتهم ولا ينبغي اللّه أن يكلـم إلا أولـياءه، ولا يؤتـي آيةً معجزةً علـى دعوى مدّعٍ إلا لـمن كان مـحقّا فـي دعواه وداعيا إلـى اللّه وتوحيده. فأما من كان كاذبـا فـي دعواه وداعيا إلـى الفرية علـيه وادّعاء البنـين والبنات له، فغير جائز أن يكلـمه اللّه جل ثناؤه، أو يؤتـيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته علـيه وقال الزاعم: إن اللّه عنى بقوله: وَقَال الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ العرب، فإنه قائل قولاً لا خبر بصحته ولا برهان علـى حقـيقته فـي ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلـى ذلك كان واضحا خطؤه، لأنه ادّعى ما لا برهان علـى صحته، وادّعاءُ مثل ذلك لن يتعذّر علـى أحد.
وأما معنى قوله: لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه فإنه بـمعنى: هلاّ يكلـمنا اللّه كما قال الأشهب بن رميـلة: تَعُدّونَ عَقْرَ النّـيبِ أفْضَلَ مَـجْدِكُمْبَنِـي ضَوْطَرَي لَوْلاَ الكَميّ الـمُقَنّعا بـمعنى: فهلاّ تعدّون الكمي الـمقنع؟ كما: ١٤١٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لَوْلا يُكَلّـمُنَا اللّه قال: فهلاّ يكلـمنا اللّه . قال أبو جعفر: فأما الآية فقد ثبت فـيـما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنـما أخبر اللّه عنهم أنهم قالوا: هلاّ تأتـينا آية علـى ما نريده ونسأل، كما أتت الأنبـياء والرسل فقال عز وجلّ: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه بقوله: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فقال بعضهم فـي ذلك بـما: ١٤١٩ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ هم الـيهود. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الـيهود. وقال آخرون: هم الـيهود والنصارى، لأن الذين لا يعلـمون هم العرب. ذكر من قال ذلك: ١٤٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: قالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنـي الـيهود والنصارى وغيرهم. ١٤٢١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: قالوا يعنـي العرب، كما قالت الـيهود والنصارى من قبلهم. ١٤٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعنـي الـيهود والنصارى. قال أبو جعفر: قد دللنا علـى أن الذين عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: وقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه هم النصارى، والذين قالت مثل قولهم هم الـيهود، وسألت موسى صلى اللّه عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة، وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد بـينا فـيـما مضى من كتابنا هذا، وسألوا من الاَيات ما لـيس لهم مسألته تـحكّما منهم علـى ربهم، وكذلك تـمنت النصارى علـى ربها تـحكما منها علـيه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الاَيات. فأخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول فـي ذلك مثل الذي قالته الـيهود وتـمنت علـى ربها مثل أمانـيها، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنـما يشابه قول الـيهود من أجل تشابه قلوبهم فـي الضلالة والكفر بـاللّه . فهم وإن اختلفت مذاهبهم فـي كذبهم علـى اللّه وافترائهم علـيه، فقلوبهم متشابهة فـي الكفر بربهم والفِرْيَة علـيه، وتـحكمهم علـى أنبـياء اللّه ورسله علـيهم السلام. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال مـجاهد. ١٤٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قلوب النصارى والـيهود. وقال غيره: معنى ذلك تشابهت قلوب كفـار العرب والـيهود والنصارى وغيرهم. ذكر من قال ذلك: ١٤٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: تَشَابَهت قلوبُهم يعنـي العرب والـيهود والنصارى وغيرهم. ١٤٢٥ـ حدثنـي الـمثنى، حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ يعنـي العرب والـيهود والنصارى وغيرهم. وغير جائز في قوله: تَشَابَهَتْ التثقـيـل، لأن التاء التـي فـي أوّلها زائدة أدخـلت في قوله: (تفـاعل)، وإن ثقلت صارت تاءين ولا يجوز إدخال تاءين زائدتـين علامة لـمعنى واحد، وإنـما يجوز ذلك فـي الاستقبـال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخـل علـما للاستقبـال، والأخرى منها التـي فـي (تفـاعل)، ثم تدغم إحداهما فـي الأخرى فتثقل فـيقال: تشابه بعد الـيوم قلوبنا. فمعنى الآية: وقالت النصارى الـجهال بـاللّه وبعظمته: هلاّ يكلـمنا اللّه ربنا كما كلـم أنبـياءه ورسله، أو تـجيئنا علامة من اللّه نعرف بها صدق ما نـحن علـيه علـى ما نسأل ونريد؟ قال اللّه جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الـجهال من النصارى وتـمنوا علـى ربهم. قال مَنْ قبلهم من الـيهود، فسألوا ربهم أن يريهم اللّه نفسه جهرة، ويؤتـيهم آية، واحتكموا علـيه وعلـى رسله، وتـمنوا الأمانـي. فـاشتهبت قلوب الـيهود والنصارى فـي تـمرّدهم علـى اللّه وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم علـى أنبـيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التـي قالوها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قَدْ بَـيّنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: قَدْ بَـيّنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قد بـينا العلامات التـي من أجلها غضب اللّه علـى الـيهود وجعل منهم القردة والـخنازير، وأعدّ لهم العذاب الـمهين فـي معادهم، والتـي من أجلها أخزى اللّه النصارى فـي الدنـيا، وأعدّ لهم الـخزي والعذاب الألـيـم فـي الاَخرة، والتـي من أجلها جعل سكان الـجنان الذين أسلـموا وجوههم للّه وهم مـحسنون فـي هذه السورة وغيرها. فـاعْلِـموا الأسبـاب التـي من أجلها استـحقّ كل فريق منهم من اللّه ما فعل به من ذلك، وخصّ اللّه بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت فـي الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء علـى يقـين وصحة. فأخبر اللّه جل ثناؤه أنه بـيّن لـمن كانت هذه الصفة صفته ما بـيّن من ذلك لـيزول شكه، ويعلـم حقـيقة الأمر إذْ كان ذلك خبرا من اللّه جل ثناؤه، وخبر اللّه الـخبر الذي لا يعذر سامعه بـالشكّ فـيه. وقد يحتـمل غيره من الأخبـار ما يحتـمل من الأسبـاب العارضة فـيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفـيّ عن خبر اللّه عز وجل. ١١٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } ومعنى قوله جل ثناؤه: إنّا أرْسَلْناكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا إنا أرسلناك يا مـحمد بـالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان وهو الـحقّ مبشرا من اتبعك فأطاعك وقَبِلَ منك ما دعوته إلـيه من الـحقّ، بـالنصر فـي الدنـيا، والظفر بـالثواب فـي الاَخرة، والنعيـم الـمقـيـم فـيها ومنذرا من عصاك فخالفك وردّ علـيك ما دعوته إلـيه من الـحقّ بـالـخزي فـي الدنـيا، والذلّ فـيها، والعذاب الـمهين فـي الاَخرة. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَاب الـجَحِيـمِ وقال أبو جعفر: قرأت عامة القراء: وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الـجَحِيـمِ بضم التاء من (تُسأل) ورفع اللام منها علـى الـخبر، بـمعنى: يا مـحمد إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا، فبلغت ما أرسلت به، وإنـما علـيك البلاغ والإنذار، ولست مسئولاً عمن كفر بـما أتـيته به من الـحقّ وكان من أهل الـجحيـم. وقرأ ذلك بعض أهل الـمدينة: (وَلا تَسْألْ) جزما بـمعنى النهي مفتوح التاء من (تَسأل)، وجَزْم اللام منها. ومعنى ذلك علـى قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا لتسأل عن أصحاب الـجحيـم، فلا تسألْ عن حالهم. وتأوّل الذين قرءوا هذه القراءة ما: ١٤٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لَـيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ) فنزلت وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الـجَحِيـمِ. ١٤٢٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبـيدة عن مـحمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَـيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَـيْتَ شِعْرِي ما فَعَلَ أبَوَايَ لَـيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوايَ)) ثلاثا، فنزلت: إنّا أرْسَلْنَاكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الـجَحِيـمِ فما ذكرهما حتـى توفـاه اللّه . ١٤٢٨ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي داود بن أبـي عاصم، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال ذات يوم: (لَـيْتَ شِعْرِي أيْنَ أبَوَايَ؟) فنزلت: إنّا أرْسَلْنَاكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلا تُسألُ عَنْ أصْحابِ الـجَحِيـمِ. والصواب عندي من القراءة فـي ذلك قراءة من قرأ بـالرفع علـى الـخبر لأن اللّه جل ثناؤه قصّ قصص أقوام من الـيهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكُفْرَهم بـاللّه ، وجراءَتهم علـى أنبـيائه، ثم قال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: إنا أرسلناك يا مـحمد بشيرا من آمن بك واتبعك مـمن قصصت علـيك أنبـاءه ومن لـم أقصص علـيك أنبـاءه، ونذيرا من كفر بك وخالفك، فبلّغ رسالتـي، فلـيس علـيك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتـي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولـم يجر لـمسألة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ربه عن أصحاب الـجحيـم ذكر، فـيكون لقوله: وَلا تُسألُ عَنْ أصْحَابِ الـجَحِيـمِ وجهٌ يوجّه إلـيه. وإنـما الكلام موجه معناه إلـى ما دلّ علـيه ظاهره الـمفهوم، حتـى تأتـي دلالة بـيّنة تقوم بها الـحجة علـى أن الـمراد به غير ما دلّ علـيه ظاهره فـيكون حينئذ مسلـما للـحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الـحجة علـى أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم نُهي عن أن يسأل فـي هذه الآية عن أصحاب الـجحيـم، ولا دلالة تدلّ علـى أن ذلك كذلك فـي ظاهر التنزيـل. والواجب أن يكون تأويـل ذلك الـخبر علـى ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من الـيهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن الـمسألة عنهم. فإن ظنّ ظانّ أن الـخبر الذي رُوي عن مـحمد بن كعب صحيح، فإن فـي استـحالة الشكّ من الرسول علـيه السلام فـي أن أهل الشرك من أهل الـجحيـم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله مـحمد بن كعب إن كان الـخبر عنه صحيحا، مع أن ابتداء اللّه الـخبر بعد قوله: إنّا أرْسَلْنَاكَ بـالـحَقّ بَشِيرا وَنَذِيرا بـالواو بقوله: ولا تسأل عن أصحاب الـجحيـم، وتركه وصل ذلك بأوله بـالفـاء، وأن يكون: (إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا)، ولا تسأل عن أصحاب الـجحيـم، أوضح الدلائل علـى أن الـخبر بقوله: (ولا تسأل)، أولـى من النهي، والرفع به أولـى من الـجزم. وقد ذكر أنها فـي قراءة أبـيّ: (وَما تُسْألُ) وفـي قراءة ابن مسعود: (وَلَنْ تُسْألَ) وكلتا هاتـين القراءتـين تشهد بـالرفع والـخبر فـيه دون النهي. وقد كان بعض نـحويـي البصرة يوجه قوله: وَلا تُسْألُ عَنْ أصْحَابِ الـجَحِيـمِ إلـى الـحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الـجحيـم. وذلك إذا ضم التاء، وقرأه علـى معنى الـخبر، وكان يجيز علـى ذلك قراءته: (ولا تَسْألُ)، بفتـح التاء وضم اللام علـى وجه الـخبر بـمعنى: إنا أرسلناك بـالـحقّ بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الـجحيـم. وقد بـينا الصواب عندنا فـي ذلك. وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري فـي ذلك يرفعهما ما رُوي عن ابن مسعود وأبـيّ من القراءة لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من ما، ولن يدلّ علـى انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: وَلا تُسْألُ وإذا كان ابتداءً لـم يكن حالاًوأما أصحاب الـجحيـم، فـالـجحيـم هي النار بعينها إذا شبّت وقودها، ومنه قول أمية بن أبـي الصلت: إذا شُبّتْ جَهَنّـمُ ثُمّ دَارَتْوأعْرَضَ عَنْ قَوَابِسِها الـجَحِيـمُ ١٢٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ ق...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الـيَهُودُ وَلا النّصَارَى حتـى تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ: ولـيست الـيهودُ يا مـحمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل علـى طلب رضا اللّه فـي دعائهم إلـى ما بعثك اللّه به من الـحقّ فإن الذي تدعوهم إلـيه من ذلك لهو السبـيـل إلـى الاجتـماع فـيه معك علـى الألفة والدين القـيـم. ولا سبـيـل لك إلـى إرضائهم بـاتبـاع ملتهم لأن الـيهودية ضد النصرانـية، والنصرانـية ضد الـيهودية، ولا تـجتـمع النصرانـية والـيهودية فـي شخص واحد فـي حال واحدة، والـيهود والنصارى لا تـجتـمع علـى الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانـيا، وذلك مـما لا يكون منك أبدا، لأنك شخص واحد، ولن يجتـمع فـيك دينان متضادّان فـي حال واحدة. وإذا لـم يكن إلـى اجتـماعهما فـيك فـي وقت واحد سبـيـل، لـم يكن لك إلـى إرضاء الفريقـين سبـيـل. وإذا لـم يكن لك إلـى ذلك سبـيـل، فـالزم هدى اللّه الذي لـجمع الـخـلق إلـى الألفة علـيه سبـيـل، وأما الـملة فإنها الدين وجمعها الـملل. ثم قال جل ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء النصارى والـيهود الذين قالوا: (لَنْ يَدْخُـلَ الـجَنّةَ إلاّ مَنْ كَانَ هُودا أو نَصَارَى): إنّ هُدَى اللّه هُوَ الهُدَى يعنـي أن بـيان اللّه هو البـيان الـمقنع والقضاء الفـاصل بـيننا، فهلـمّوا إلـى كتاب اللّه وبـيانه الذي بـيّن فـيه لعبـاده ما اختلفوا فـيه، وهو التوراة التـي تقرّون جميعا بأنها من عند اللّه ، يتضح لكم فـيها الـمـحقّ منا من الـمبطل، وأيّنا أهل الـجنة، وأينا أهل النار، وأينا علـى الصواب، وأينا علـى الـخطأ وإنـما أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعوهم إلـى هدى اللّه وبـيانه، لأن فـيه تكذيب الـيهود والنصارى فـيـما قالوا من أن الـجنة لن يدخـلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبـيان أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وأن الـمكذّب به من أهل النار دون الـمصدّق به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَئِنْ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الّذِي جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ ما لَكَ مِنَ اللّه مِنْ وَلِـيّ وَلا نَصِيرٍ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَلَئِنْ اتّبَعْتَ يا مـحمد هوى هؤلاء الـيهود والنصارى، فـيـما يرضيهم عنك من تهوّد وتنصّر، فصرت من ذلك إلـى إرضائهم، ووافقت فـيه مـحبتهم من بعد الذي جاءك من العلـم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت علـيك من نبئهم فـي هذه السورة، ما لك من اللّه من ولـيّ. يعنـي بذلك: لـيس لك يا مـحمد من ولـيّ يـلـي أمرك، وقَـيّـم يقوم به، ولا نصير ينصرك من اللّه ، فـيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويـمنعك من ذلك إن أحلّ بك ذلك ربك. وقد بـينا معنى الولـيّ والنصير فـيـما مضى قبل. وقد قـيـل إن اللّه تعالـى ذكره أنزل هذه الآية علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم لأن الـيهود والنصارى دعته إلـى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نـحن علـيه دون ما علـيه غيرنا من سائر الـملل. فوعظه اللّه أن يفعل ذلك، وعلّـمه الـحجة الفـاصلة بـينهم فـيـما ادّعى كل فريق منهم. ١٢١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ >} اختلف أهل التأويـل فـي الذين عناهم اللّه جل ثناؤه بقوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ فقال بعضهم: هم الـمؤمنون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به من أصحابه: ذكر من قال ذلك: ١٤٢٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ هؤلاء أصحاب نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، آمنوا بكتاب اللّه وصدّقوا به. وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك علـماء بنـي إسرائيـل الذين آمنوا بـاللّه وصدّقوا رُسُلَه، فأقرّوا بحكم التوراة، فعملوا بـما أمر اللّه فـيها من اتّبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، والإيـمان به، والتصديق بـما جاء به من عند اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٤٣٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ فـاولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ قال: من كفر بـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من يهود فأولئك هم الـخاسرون. وهذا القول أولـى بـالصواب من القول الذي قاله قتادة لأن الاَيات قبلها مضت بأخبـار أهل الكتابـين، وتبديـل من بدل منهم كتاب اللّه ، وتأوّلهم إياه علـى غير تأويـله، وادّعائهم علـى اللّه الأبـاطيـل. ولـم يَجْرِ لأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي الآية التـي قبلها ذكر، فـيكون قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتابَ موجها إلـى الـخبر عنهم، ولا لهم بعدها ذكر فـي الآية التـي تتلوها، فـيكون موجها ذلك إلـى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسلـيـم له. فإذا كان ذلك كذلك، فـالذي هو أولـى بـمعنى الآية أن يكون موجها إلـى أنه خبر عمن قَصّ اللّه جل ثناؤه فـي الآية قبلها والآية بعدها، وهم أهل الكتابـين: التوراة والإنـجيـل. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الآية: الذين آتـيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا مـحمد، وهو التوراة، فقرءوه واتبعوا ما فـيه، فصدّقوك وآمنوا بك، وبـما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حقّ تلاوته. وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي (الكتاب) لأنه معرفة، وقد كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله عزّ وجل: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حقّ اتبـاعه. ذكر من قال ذلك: ١٤٣١ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنـي ابن أبـي عديّ، وعبد الأعلـى، وحدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ جميعا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ يتبعونه حَقّ اتبـاعه. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرمة بـمثله. وحدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود بن أبـي هند، عن عكرمة بـمثله. ١٤٣٢ـ حدثنـي الـحسن بن عمرو العنقزي، قال: حدثنـي أبـي، عن أسبـاط، عن السدي، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس في قول اللّه عز وجل: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يحلون حلاله ويحرّمون حرامه ولا يحرفون. حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: قال أبو مالك: إن ابن عبـاس قال فـي: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ فذكر مثله إلا أنه قال: ولا يحرّفونه عن مواضعه. ١٤٣٣ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا الـمؤمل، قال: حدثنا سفـيان قال: حدثنا يزيد، عن مرّة، عن عبد اللّه في قول اللّه عز وجل: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه. ١٤٣٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، قال: قال عبد اللّه بن مسعود: والذي نفسي بـيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله اللّه ، ولا يحرّف الكلـم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا علـى غير تأويـله. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ومنصور بن الـمعتـمر، عن ابن مسعود في قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه، ولا يحرّفه عن مواضعه. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا الزبـيري، قال: حدثنا عبـاد بن العوّام عمن ذكره، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : يَتْلُونَهُ حَق تِلاوَتِهِ يتبعونه حقّ اتبـاعه. ١٤٣٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبـاد بن العوّام، عن الـحجاح، عن عطاء، بـمثله. ١٤٣٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن أبـي رزين في قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه. حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، وحدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن إبراهيـم، عن سفـيان قالوا جميعا: عن منصور، عن أبـي رزين، مثله. ١٤٣٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مـجاهد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: عَمَلاً به. ١٤٣٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن قـيس بن سعد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه ألـم تر إلـى قوله: وَالقَمَرِ إذَا تَلاها يعنـي الشمس إذا تبعها القمر. ١٤٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء وقـيس بن سعد، عن مـجاهد في قوله: يَتْلُونَهُ حَق تِلاَوَتِهِ قال: يعملون به حق عمله. ١٤٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن عبد الـملك، عن قـيس بن سعد، عن مـجاهد، قال: يتبعونه حق اتبـاعه. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ يعملون به حقّ عمله. حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن مـجاهد في قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه. حدثنـي عمرو، قال: حدثنا أبو قتـيبة، قال: حدثنا الـحسن بن أبـي جعفر، عن أبـي أيوب، عن أبـي الـخـلـيـل، عن مـجاهد: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه. حدثنا عمرو، قال: حدثنا يحيى القطان، عن عبد الـملك، عن عطاء قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه، يعملون به حقّ عمله. ١٤٤١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنـي أبـي، عن الـمبـارك، عن الـحسن: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: يعملون بـمـحكمه ويؤمنون بـمُتشابهه، ويكلون ما أشكل علـيهم إلـى عالـمه. ١٤٤٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ قال: أحلوا حلاله، وحرّموا حرامه، وعملوا بـما فـيه ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله، ويحرّم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله اللّه عز وجل، ولا يحرّفه عن مواضعه. حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا الـحكم بن عطية، سمعت قتادة يقول: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه، قال: اتبـاعه يحلون حلاله، ويحرّمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل. ١٤٤٣ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم عن داود، عن عكرمة في قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ قال: يتبعونه حقّ اتبـاعه، أما سمعت قول اللّه عز وجل: وَالقَمَرِ إذَا تَلاهَا؟ قال: إذا تبعها. وقال آخرون يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ: يقرءونه حقّ قراءته. والصواب من القول فـي تأويـل ذلك أنه بـمعنى: يتبعونه حقّ اتبـاعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أَثَره، إذا اتبع أثره لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك تأويـله. وإذا كان ذلك تأويـله، فمعنى الكلام: الذين آتـيناهم الكتاب يا مـحمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبـما جئتهم به من الـحقّ من عندي، يتبعون كتابـي آتـيناهم الكتاب يا مـحمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبـما جئتهم به من الـحقّ من عندي، يتبعون كتابـي الذي أنزلته علـى رسولـي موسى صلوات اللّه علـيه، فـيؤمنون به، ويقرّون بـما فـيه من نعتك وصفتك، وأنك رسولـي فُرض علـيهم طاعتـي فـي الإيـمان بك والتصديق بـما جئتهم به من عندي، ويعملون بـما أحللتُ لهم، ويجتنبون ما حرّمت علـيهم فـيه، ولا يحرّفونه عن مواضعه ولا يبدّلونه ولا يغيرونه كما أنزلته علـيهم بتأويـل ولا غيره. أما قوله: حَقّ تِلاَوَتِهِ فمبـالغة فـي صفة اتبـاعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال: إن فلانا لعالـم حَقّ عالـم، وكما يقال: إن فلانا لفـاضلٌ كلّ فـاضل. وقد اختلف أهل العربـية فـي إضافة (حقّ) إلـى الـمعرفة، فقال بعض نـحويـي الكوفة: غير جائزة إضافته إلـى معرفة لأنه بـمعنى (أي)، وبـمعنى قولك: (أفضل رجل فلان)، و(أفعل) لا يضاف إلـى واحد معرفة لأنه مبعض، ولا يكون الواحد الـمبعض معرفة. فأحالوا أن يقال: (مررت بـالرجل حقّ الرجل، ومررت بـالرجل جدّ الرجل)، كما أحالوا (مررت بـالرجل أي الرجل)، وأجازوا ذلك فـي (كل الرجل) و(عين الرجل) و(نفس الرجل)، و قالوا: إنـما أجزنا ذلك لأن هذه الـحروف كانت فـي الأصل توكيدا، فلـما صِرْن مُدوحا تُركن مدوحا علـى أصولهن فـي الـمعرفة. وزعموا أن قوله: يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاوَتِهِ إنـما جازت إضافته إلـى التلاوة، وهي مضافة إلـى معرفة لأن العرب تعتدّ بـالهاء إذا عادت إلـى نكرة بـالنكرة، فـيقولون: (مررت برجل واحد أُمّه، ونسيج وحده، وسيد قومه). قالوا: فكذلك قوله: حَقّ تلاوَته إنـما جازت إضافة (حقّ) إلـى التلاوة وهي مضافة إلـى (الهاء)، لاعتداد العرب ب(الهاء) التـي فـي نظائرها فـي عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك حق التلاوة لوجب أن يكون جائزا: (مررت بـالرجل حقّ الرجل)، فعلـى هذا القول تأويـل الكلام: الذين آتـيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوة. وقال بعض نـحويـي البصرة: جائزةٌ إضافةُ حقّ إلـى النكرات مع النكرات، ومع الـمعارف إلـى الـمعارف وإنـما ذلك نظير قول القائل: مررت بـالرجل غلام الرجل، وبرجل غلام رجل. فتأويـل الآية علـى قول هؤلاء: الذين آتـيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته. وأولـى ذلك بـالصواب عندنا القول الأول لأن معنى قوله: حَقّ تِلاَوَتِهِ أي تلاوة، بـمعنى مدح التلاوة التـي تلوها وتفضيـلها. (وأيّ) غير جائزة إضافتها إلـى واحد معرفة عند جميعهم، وكذلك (حقّ) غير جائزة إضافتها إلـى واحد معرفة، وإنـما أضيف فـي حقّ تلاوته إلـى ما فـيه الهاء لـما وصفت من العلة التـي تقدم بـيانها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. قال أبو جعفر: يعنـي جل ثناءه بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته. وأما قوله: يُؤْمِنُونَ بِهِ فإنه يعنـي يصدّقون به. والهاء التـي في قوله (به) عائدة علـى الهاء التـي فـي (تلاوته)، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله اللّه : الّذِينَ آتَـيْنَاهُم الكِتابَ فأخبر اللّه جل ثناؤه أن الـمؤمن بـالتوراة هو الـمتبع ما فـيها من حلالها وحرامها، والعامل بـما فـيها من فرائض اللّه التـي فرضها فـيها علـى أهلها، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته دون من كان مـحرّفـا لها مبدلاً تأويـلها مغيرا سننها تاركا ما فرض اللّه فـيها علـيه. وإنـما وصف جل ثناؤه من وصف بـما وصف به من متبعي التوراة، وأثنى علـيهم بـما أثنى به علـيهم لأن فـي اتبـاعها اتبـاع مـحمد نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتصديقه، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك وتـخبرهم عن اللّه تعالـى ذكره بنبوّته وفرض طاعته علـى جميع خـلق اللّه من بنـي آدم، وإن فـي التكذيب بـمـحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم الـمؤمنون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وهم العاملون بـما فـيها. كما: ١٤٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قال: من آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بنـي إسرائيـل، وبـالتوراة، وأن الكافر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم هو الكافر بها الـخاسر، كما قال جل ثناؤه: ومَنْ يَكْفُرْ بِهِ فـاولَئِكَ هُمُ الـخاسِرُونَ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَـاولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ومن يكفر بـالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه من آتاه من الـمؤمنـين حقّ تلاوته. ويعنـي بقوله جل ثناؤه: يَكْفُرْ يجحد ما فـيه من فرائض اللّه ونبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وتصديقه، ويبدّله، فـيحرّف تأويـله أولئك هم الذين خسروا علـمهم وعملهم فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة اللّه واستبدلوا بها سخط اللّه وغضبه. وقال ابن زيد في قوله بـما: ١٤٤٥ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فـاولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ قال: من كفر بـالنبـي صلى اللّه عليه وسلم من يهود، فَـاولَئِكَ هُمُ الـخَاسِرُونَ. ١٢٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِيَ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } وهذه الآية عظة من اللّه تعالـى ذكره للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إلـيهم فـي صنعه بأوائلهم استعطافـا منه لهم علـى دينه، وتصديق رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا بنـي إسرائيـل اذكروا أياديّ لديكم، وصنائعي عندكم، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوّكم فرعون وقومه، وإنزالـي علـيكم الـمنّ والسلوى فـي تِـيهكم، وتـمكينـي لكم فـي البلاد، بعد أن كنتـم مذللـين مقهورين، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيـلـي إياكم علـى عالـم من كنت بـين ظهرانـيه، أيام أنتـم فـي طاعتـي بـاتبـاع رسولـي إلـيكم، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي، ودعوا التـمادي فـي الضلال والغيّ. وقد ذكرنا فـيـما مضى النعم التـي أنعم اللّه بها علـى بنـي إسرائيـل، والـمعانـي التـي ذكرّهم جل ثناءه من آلائه عندهم، والعالـم الذي فضلوا علـيه فـيـما مضى قَبْلُ، بـالروايات والشواهد، فكرهنا تطويـل الكتاب بإعادته، إذ كان الـمعنى فـي ذلك فـي هذا الـموضع وهنالك واحدا. ١٢٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَاتّقُواْ يَوْماً لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } وهذه الآية ترهيب من اللّه جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بـما وعظهم به فـي الآية قبلها. يقول اللّه لهم: واتقوا يا معشر بنـي إسرائيـل الـمبدّلـين كتابـي وتنزيـلـي، الـمـحرّفـين تأويـله عن وجهه، الـمكذّبـين برسولـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، عذابَ يوم لا تقضي فـيه نفس عن نفس شيئا، ولا تغنـي عنها غناءً، أن تهلكوا علـى ما أنتـم علـيه من كفركم بـي، وتكذيبكم رسولـي، فتـموتوا علـيه فإنه يوم لا يقبل من نفس فـيـما لزمها فدية، ولا يشفع فـيـما وجب علـيها من حقّ لها شافع، ولا هم ينصرهم ناصر من اللّه إذا انتقم منها بـمعصيتها إياه. وقد مضى البـيان عن كل معانـي هذه الآية فـي نظيرتها قبل، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. ١٢٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ ... } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَإِذِ ابْتَلَـى وإذا اختبر، يقال منه: ابتلـيت فلانا ابتلـيه ابتلاءً. ومنه قول اللّه عز وجل وابْتَلُوا الـيَتامَى يعنـي به: اختبروهم. وكان اختبـار اللّه تعالـى ذكره إبراهيـم اختبـارا بفرائض فرضها علـيه، وأمْرٍ أمَرَه به، وذلك هو الكلـمات التـي أوحاهنّ إلـيه وكلفه العمل بهنّ امتـحانا منه له واختبـارا. ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة الكلـمات التـي ابتلـى اللّه بها إبراهيـمَ نبـيّه وخـلـيـلَهُ صلوات اللّه علـيه، فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما. ذكر من قال ذلك: ١٤٤٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكلِـماتٍ قال: قال ابن عبـاس : لـم يُبْتَلَ أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيـم، ابتلاه اللّه بكلـمات فأتـمهنّ قال: فكتب اللّه له البراءة، فقال: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى قال: عشر منها فـي الأحزاب، وعشر منها فـي براءة، وعشر منها فـي الـمؤمنـين وسأل سائل وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما. ١٤٤٧ـ حدثنا إسحاق بن شاهين، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: ما ابْتُلـي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيـم ابتلـي بـالإسلام فأتـمه، فكتب اللّه له البراءة، فقال: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى فذكر عشرا فـي براءة، فقال: التّائِبُونَ العَابِدُونَ الـحَامِدُونَ إلـى آخرِ الاَيات، وعشرا فـي الأحزاب: إنّ الـمُسْلـمينَ وَالـمُسلـمات، وعشرا فـي سورة الـمؤمنـين، إلـى قوله: وَالّذِينَ هُمْ علـى صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ، وعشرا فـي سأل سائل: وَالّذِينَ هُمْ علـى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ. ١٤٤٨ـ حدثنا عبـيد اللّه بن أحمد بن شبرمة، قال: حدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبـي هند، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: الإسلام ثلاثون سهما، وما ابتُلـي بهذا الدين أحدٌ فأقامه إلا إبراهيـم، قال اللّه وَإبْرَهِيـمَ الّذِي وَفّـى فكتب اللّه له براءة من النار. وقال آخرون: هي خصال عشرٌ من سنن الإسلام. ذكر من قال ذلك: ١٤٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه اللّه بـالطهارة: خمس فـي الرأس، وخمس فـي الـجسد. فـي الرأس: قصّ الشارب، والـمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفـي الـجسد: تقلـيـم الأظفـار، وحلق العانة، والـختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بـالـماء. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الـحكم بن أبـان، عن القاسم بن أبـي بزة، عن ابن عبـاس بـمثله، ولـم يذكر أثر البول. ١٤٥٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال قال: حدثنا قتادة في قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه بـالـختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقصّ الشارب، وتقلـيـم الأظافر، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة. ١٤٥١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن مطر، عن أبـي الـخـلد قال: ابتُلـي إبراهيـم بعشرة أشياء هنّ فـي الإنسان: سنة الاستنشاق، وقصّ الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقَلْـم الأظفـار، وغسل البراجم، والـختان، وحلق العانة، وغسل الدّبُرُ والفَرْج. وقال بعضهم: بل الكلـمات التـي ابتلـي بهن عشر خلال بعضهنّ فـي تطهير الـجسد، وبعضهنّ فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك: ١٤٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبـيرة، عن حن٥ عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنّ قال: ستة فـي الإنسان، وأربعة فـي الـمشاعر فـالتـي فـي الإنسان: حلق العانة، والـختان، ونتف الإبط، وتقلـيـم الأظفـار، وقصّ الشارب، والغسل يوم الـجمعة. وأربعة فـي الـمشاعر: الطواف، والسعي بـين الصفـا والـمروة، ورمي الـجمار، والإفـاضة. وقال آخرون: بل ذلك: إنـي جاعلك للناس إماما فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك: ١٤٥٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد، عتن أبـي صالـح في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنّ فمنهن: إنّـي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماما وآيات النسك. حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح مولـى أم هانىء في قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال منهن: إنـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن آيات النسك: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ. ١٤٥٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ قال اللّه لإبراهيـم: إنـي مبتلـيك بأمر، فما هو؟ قال: تـجعلنـي للناس إماما قال: نعم قال: ومن ذريتـي؟ قال: لا ينال عهدي الظالـمين قال: تـجعل البـيت مثابة للناس قال: نعم. وأمْنا قال: نعم. وتـجعلنا مسلـمين لك، ومن ذرّيتنا أمة مسلـمة لك قال: نعم. وترينا مناسكنا وتتوب علـينا قال: نعم قال: وتـجعل هذا البلد آمنا قال: نعم قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم قال: نعم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح أخبره به عن عكرمة فعرضته علـى مـجاهد فلـم ينكره. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بنـحوه. قال ابن جريج: فـاجتـمع علـى هذا القول مـجاهد وعكرمة جميعا. ١٤٥٥ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنـي أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فأتَـمّهُنّ قال: ابتلـي بـالاَيات التـي بعدها: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قال وَمِنْ ذُرّيّتِـي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ. ١٤٥٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَإذْ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُن فـالكلـمات: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقوله: وَإذ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثابَةً للنّاسِ وقوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهِيـمَ مُصَلّـى وقوله: وَعَهِدْنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ الآية، وقوله: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمَ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ الآية قال: فذلك كلـمة من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم. ١٤٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ فمنهنّ: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ ومنهن الاَيات فـي شأن النسك، والـمقام الذي جعل لإبراهيـم، والرزق الذي رزق ساكنوا البـيت ومـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي ذرّيتهما علـيهما السلام. وقال آخرون: بل ذلك مناسك الـحجّ خاصة. ذكر من قال ذلك: ١٤٥٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة، قال: حدثنا عمرو بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: مناسك الـحج. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابن عبـاس يقول في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: الـمناسك. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال ابن عبـاس : ابتلاه بـالـمناسك. حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: بلغنا عن ابن عبـاس أنه قال: إن الكلـمات التـي ابتلـي بها إبراهيـم: الـمناسك. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ ربّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: مناسك الـحجّ. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: منهن مناسك الـحجّ. وقال آخرون: هي أمور منهن الـختان. ذكر من قال ذلك: ١٤٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة عن يونس بن أبـي إسحاق، عن الشعبـي: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ قال: منهن الـختان. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق، قال: سمعت الشعبـي يقول: فذكر مثله. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق، قال: سمعت الشعبـي، وسأله أبو إسحاق عن قول اللّه : وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: منهن الـختان يا أبـا إسحاق. وقال آخرون: بل ذلك الـخلال الستّ: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والـختان، التـي ابتلـي بهنّ فصبر علـيهنّ. ذكر من قال ذلك: ١٤٦٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: قلت للـحسن: وإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُنّ قال: ابتلاه بـالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بـالقمر فرضي عنه، وابتلاه بـالشمس فرضي عنه، وابتلاه بـالنار فرضي عنه، وابتلاه بـالهجرة، وابتلاه بـالـختان. ١٤٦١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الـحسن يقول: أي واللّه ابتلاه بأمر فصبر علـيه، ابتلاه بـالكوكب، والشمس، والقمر، فأحسن فـي ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنـيفـا وما كان من الـمشركين، ثم ابتلاه بـالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتـى لـحق بـالشام مهاجرا إلـى اللّه ، ثم ابتلاه بـالنار قبل الهجرة فصبر علـى ذلك، فـابتلاه اللّه بذبح ابنه وبـالـختان فصبر علـى ذلك. ١٤٦٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عمن سمع الـحسن يقول في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه اللّه بذبح ولده، وبـالنار، وبـالكوكب، والشمس، والقمر. ١٤٦٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة، قال: حدثنا أبو هلال، عن الـحسن: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه بـالكوكب، وبـالشمس، والقمر، فوجده صابرا. وقال آخرون بـما: ١٤٦٤ـ حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الكلـمات التـي ابتلـى بهنّ إبراهيـم ربه: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لكَ وَمِنْ ذُرّيَتِنا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَـيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحِيـمُ رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ. والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه عز وجل أخبر عبـاده أنه اختبر إبراهيـم خـلـيـله بكلـمات أوحاهن إلـيه، وأمره أن يعمل بهنّ وأتـمهنّ، كما أخبر اللّه جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلـمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله فـي تأويـل الكلـمات، وجائز أن تكون بعضه لأن إبراهيـم صلوات اللّه علـيه قد كان امتُـحن فـيـما بلغنا بكل ذلك، فعمل به وقام فـيه بطاعة اللّه وأَمْره الواجب علـيه فـيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن يقول: عنى اللّه بـالكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم شيئا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسلـيـم لها من خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أو إجماع من الـحجة ولـم يصحّ فـيه شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الـجماعة التـي يجب التسلـيـم لـما نقلته. غير أنه روي عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي نظير معنى ذلك خبران لو ثبتا، أو أحدهما، كان القول به فـي تأويـل ذلك هو الصواب. أحدهما ما: ١٤٦٥ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا راشد بن سعد، قال: حدثنـي ريان بن فـائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبـيه، قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ألاَ أُخْبِرُكُمْ لِـمَ سَمّى اللّه إبْرَاهِيـمَ خَـلِـيـلَهُ الّذِي وَفّـى؟ لأنّهُ كانَ يَقُولُ كُلّـما أصبَحَ وَكُلّـما أمْسَى: فَسُبْحانَ اللّه حِينَ تُـمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حتـى يختـم الآية). والاَخر منهما ما: ١٤٦٦ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا الـحسن بن عطية قال: حدثنا إسرائيـل، عن جعفر بن الزبـير، عن القاسم، عن أبـي أمامة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى قال: (أتَدْرُونَ مَا وفّـى)؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلـم، قال: (وَفّـى عَملَ يَوْمِهِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِـي النّهَارِ). فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبـيه صحيحا سنده. كان بـيّنا أن الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم فقام بهن هو قوله كُلّـما أصْبَحَ وأمْسَى: فَسُبْحَانَ اللّه حِينَ تُـمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الـحَمْدُ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ. أو كان خبر أبـي أمامة عدولاً نقلته، كان معلوما أن الكلـمات التـي أُوحين إلـى إبراهيـم فـابتلـي بـالعمل بهنّ أن يصلـي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران فـي أسانـيدهما نظر. والصواب من القول فـي معنى الكلـمات التـي أخبر اللّه أنه ابتلـي بهنّ إبراهيـم ما بـينا آنفـا. ولو قال قائل فـي ذلك: إن الذي قاله مـجاهد وأبو صالـح والربـيع بن أنس أولـى بـالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبـا، لأن قوله: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقوله: وَعَهْدِنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـي للطّائِفِـينَ وسائر الاَيات التـي هي نظير ذلك كالبـيان عن الكلـمات التـي ذكر اللّه أنه ابتلـي بهنّ إبراهيـم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَأتَـمّهُنّ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَأتَـمّهُنّ فأتـمّ إبراهيـم الكلـمات، وإتـمامه إياهنّ إكماله إياهنّ بـالقـيام للّه بـما أوجب علـيه فـيهنّ وهو الوفـاء الذي قال اللّه جل ثناؤه: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى يعنـي وفّـى بـما عهد إلـيه بـالكلـمات، فأمره به من فرائضه ومـحنة فـيها. كما: ١٤٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : فأتَـمّهُنّ أي فأدّاهنّ. ١٤٦٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فأتَـمّهُنّ أي عمل بهنّ، فأتـمهنّ. ١٤٦٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فأتَـمّهُنّ أي عمل بهنّ فأتـمهنّ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالَ إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما. يعنـي جل ثناؤه بقوله: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما فقال اللّه : يا إبراهيـم إنـي مُصَيّرك للناس إماما يؤتـمّ به ويقتدي به. كما: ١٤٧٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما لـيؤتـمّ به، ويقتدي به يقال منه: أمـمت القوم فأنا أؤمهم أمّا وإمامةً إذا كنت إمامهم. وإنـما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيـم: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما إنـي مصيرك تؤمّ مَنْ بَعْدَكَ من أهل الإيـمان بـي وبرسلـي، فتقدمهم أنت، ويتبعون هديك، ويستنّون بسنتك التـي تعمل بها بأمري إياك ووحيـي إلـيك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِـي. يعنـي جل ثناؤه بذلك، قال إبراهِيـمُ لـما رفع اللّه منزلته وكرّمه، فأعلـمه ما هو صانع به من تصيـيره إماما فـي الـخيرات لـمن فـي عصره ولـمن جاء بعده من ذرّيته وسائر الناس غيرهم يهتدي بهديه ويقتدي بأفعاله وأخلاقه: يا ربّ ومن ذرّيتـي فـاجعل أئمة يقتدي بهم كالذي جعلتنـي إماما يؤتـمّ به ويتقدى بـي مسألة من إبراهيـم ربه سأله إياها. كما: ١٤٧١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال إبراهيـم: وَمِنْ ذُرّيّتِـي يقول: فـاجعل من ذرّيتـي من يؤتـمّ به ويقتدي به. وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيـم: وَمِنْ ذُرّيّتِـي مسألة منه ربّه لعقبه أن يكونوا علـى عهده ودينه، كما قال: وَاجْنُبْنِـي وَبَنِـيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ فأخبر اللّه جل ثناؤه أن فـي عقبه الظالـم الـمخالف له فـي دينه بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ. والظاهر من التنزيـل يدلّ علـى غير الذي قاله صاحب هذه الـمقالة لأن قول إبراهيـم صلوات اللّه علـيه: وَمِنْ ذُرّيّتِـي فـي إثر قول اللّه جل ثناؤه: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما فمعلوم أن الذي سأله إبراهيـم لذرّيته لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه لكان مبـينا ولكن الـمسألة لـما كانت مـما جرى ذكره، اكتفـى بـالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته، فقال: وَمِنْ ذُرّيّتِـي بـمعنى: ومن ذرّيتـي فـاجعل مثل الذي جعلتنـي به من الإمامة للناس. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ. هذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن أن الظالـم لا يكون إماما يقتدي به أهل الـخير، وهو من اللّه جل ثناؤه جواب لـما توهم فـي مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة مثله، فأخبر أنه فـاعل ذلك إلا بـمن كان من أهل الظلـم منهم، فإنه غير مصيّره كذلك، ولا جاعله فـي مـحل أولـيائه عنده بـالتكرمة بـالإمامة لأن الإمامة إنـما هي لأولـيائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به. واختلف أهل التأويـل فـي العهد الذي حرّم اللّه جل ثناؤه الظالـمين أن ينالوه، فقال بعضهم: ذلك العهد هو النبوّة. ذكر من قال ذلك: ١٤٧٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ يقول: عهدي، نبوّتـي. فمعنى قائل هذا القول فـي تأويـل الآية: لا ينال النبّوة أهل الظلـم والشرك. وقال آخرون: معنى العهد عهد الإمامة، فتأويـل الآية علـى قولهم: لا أجعل من كان من ذرّيتك بأسرهم ظالـما إماما لعبـادي يقتدي به. ذكر من قال ذلك: ١٤٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـما. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قال اللّه : لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـما. ١٤٧٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عكرمة بـمثله. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد في قوله قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـم يقتدي به. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، مثله. حدثنا مسروق بن أبـان الـحطاب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد في قوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا أجعل إماما ظالـما يقتدي به. حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا مسلـم بن خالد الزنـجي، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا أجعل إماما ظالـما يقتدي به. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إماما ظالـمٌ. قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِـي فأبى أن يجعل من ذرّيته ظالـما إماما قلت لعطاء: ما عَهْدُه؟ قال: أَمْرُه. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد علـيك لظالـم أن تطيعه فـي ظلـمه. ذكر من قال ذلك: ١٤٧٥ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظالِـمِينَ يعنـي لا عهد لظالـم علـيك فـي ظلـمه أن تطيعه فـيه. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه ، عن إسرائيـل، عن مسلـم الأعور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لـيس للظالـمين عهد، وإن عاهدته فـانقضه. حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن سفـيان، عن هارون بن عنترة، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لـيس لظالـم عهد. وقال آخرون: معنى العهد فـي هذا الـموضع: الأمان. فتأويـل الكلام علـى معنى قولهم، قال اللّه : لا ينال أمانـي أعدائي، وأهل الظلـم لعبـادي أي لا أؤمنهم من عذابـي فـي الاَخرة. ذكر من قال ذلك: ١٤٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ ذلكم عند اللّه يوم القـيامة لا ينال عهده ظالـم، فأما فـي الدنـيا فقد نالوا عهد اللّه ، فوارثوا به الـمسلـمين وعادوهم وناكحوهم به، فلـما كان يوم القـيامة قصر اللّه عهده وكرامته علـى أولـيائه. ١٤٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ قال: لا ينال عهدَ اللّه فـي الاَخرة الظالـمون، فأما فـي الدنـيا فقد ناله الظالـم وأكل به وعاش. ١٤٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيـل، عن منصور، عن إبراهيـم: قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا ينال عهد اللّه فـي الاَخرة الظالـمون، فأما فـي الدنـيا فقد ناله الظالـم فأمن به وأكل وأبصر وعاش. وقال آخرون: بل العهد الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع: دِينُ اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٤٧٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال اللّه لإبراهيـم: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ فقال: فَعَهْدُ اللّه الذي عهد إلـى عبـاده: دينه. يقول: لا ينال دينه الظالـمين، ألا ترى أنه قال: وَبَـارَكْنا عَلَـيْهِ وَعلـى إسْحَاقَ وَمنْ ذُرّيتهما مُـحْسنٌ وَظَالِـمٌ لِنَفْسِهِ مُبِـينٌ يقول: لـيس كل ذرّيتك يا إبراهيـم علـى الـحقّ. ١٤٨٠ـ حدثنـي يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا ينال عهدي عدوّ لـي يعصينـي، ولا أنـحلها إلا وَلـيّا يطيعنـي. وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهِرَ خبرٍ عن أنه لا ينال من ولد إبراهيـم صلوات اللّه علـيه عهد اللّه الذي هو النبوّة والإمامة لأهل الـخير، بـمعنى الاقتداء به فـي الدنـيا، والعهد الذي بـالوفـاء به ينـجو فـي الاَخرة، من وفـي للّه به فـي الدنـيا، من كان منهم ظالـما متعدّيا جائرا عن قصد سبـيـل الـحقّ. فهو إعلام من اللّه تعالـى ذكره لإبراهيـم أن من ولده من يشرك به، ويجوز عن قصد السبـيـل، ويظلـم نفسه وعبـاده. كالذي: ١٤٨١ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشر، عن خصيف، عن مـجاهد في قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: إنه سيكون فـي ذرّيتك ظالـمون. وأما نصب الظالـمين، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالـمين. وذُكر أنه فـي قراءة ابن مسعود: (لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمُونَ) بـمعنى أن الظالـمين هم الذين لا ينالون عهد اللّه . وإنـما جاز الرفع فـي الظالـمين والنصب، وكذلك فـي العهد لأن كل ما نال الـمرء فقد ناله الـمرء، كما يقال: نالنـي خيرُ فلان ونلت خَيْرَهُ، فـيوجه الفعل مرّة إلـى الـخير ومرّة إلـى نفسه. وقد بـينا معنى الظلـم فـيـما مضى فكرهنا إعادته. ١٢٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ ...} أما قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً فإنه عطف ب(إذْ) علـى قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍوقوله: وَإذِا ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ معطوف علـى قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـي واذكروا إذا ابتلـى إبراهيـمَ ربّه، وإذ جعلنا البـيت مثابة. والبـيت الذي جعله اللّه مثابة للناس هو البـيت الـحرام. وأما الـمثابة فإن أهل العربـية مختلفون فـي معناها، والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نـحويـي البصرة: ألـحقت الهاء فـي الـمثابة لـما كثر من يثوب إلـيه، كما يقال سيارة لـمن يكثر ذلك ونَسّابة. وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل الـمَثَابُ والـمثابة بـمعنى واحد، نظيرة الـمقام والـمقامة والـمقام، ذُكّر علـى قوله لأنه يريد به الـموضع الذي يقام فـيه، وأنثت الـمقامة لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون الـمثابة كالسّيارة والنّسابة، و قالوا: إنـما أدخـلت الهاء فـي السيارة والنسابة تشبـيها لها بـالداعية والـمثابة مفعلة من ثاب القوم إلـى الـموضع: إذا رجعوا إلـيهم فهم يثوبون إلـيه مَثَابـا وَمَثَابةً وَثَوَابـا. فمعنى قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وإذ جعلنا البـيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إلـيه، فلا يقضون منه وطرا. ومن الـمثاب قول ورقة بن نوفل فـي صفة الـحرم: مَثابٌ ءَلافْنَاء القَبَـائِلِ كُلّهاتَـخُبّ إلَـيْهِ الـيَعْمَلاتُ الصّلاَئِحُ ومنه قـيـل: ثاب إلـيه عقله، إذا رجع إلـيه بعد عزوبه عنه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٤٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله اللّه : وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وَطَرا. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإذْ جَعَلْنا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه، لا يقضون منه وَطَرا. ١٤٨٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: أما الـمثابةُ فهو الذي يثوبون إلـيه كل سنة لاَ يَدَعُهُ الإنسان إذا أتاه مرّة أن يعود إلـيه. ١٤٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وطرا، يأتونه ثم يرجعون إلـى أهلـيهم ثم يعودون إلـيه. ١٤٨٥ـ وحدثنـي عبد الكريـم بن أبـي عمير، قال: حدثنـي الولـيد بن مسلـم، قال: قال أبو عمرو، حدثنـي عبدة بن أبـي لبـابة في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يَنْصرِف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. ١٤٨٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك عن عطاء في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد الـملك، عن عطاء، مثله. ١٤٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمار الأسدي، قال: حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وَطَرا. ١٤٨٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي الهذيـل، قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يحجّون ويثوبون. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي الهذيـل، عن سعيد بن جبـير في قوله: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن بكير، قال: حدثنا مسعر، عن غالب، عن سعيد بن جبـير: مَثابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه. ١٤٨٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وأمْنا قال: مـجمعا. ١٤٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه. ١٤٩١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه. ١٤٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه من البلدان كلها ويأتونه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأمْنا. والأمن: مصدر من قول القائل أمِنَ يَأْمَنُ أَمْنا. وإنـما سماه اللّه أمنا لأنه كان فـي الـجاهلـية مَعَاذا لـمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقـي به قاتل أبـيه أو أخيه لـم يهجه ولـم يعرض له حتـى يخرج منه، وكان كما قال اللّه جل ثناؤه: أَوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَـخَطّف النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ. ١٤٩٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأمْنا قال: من أَمّ إلـيه فهو آمن كان الرجل يـلقـى قاتل أبـيه أو أخيه فلا يعرض له. ١٤٩٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما أمْنا فمن دخـله كان آمنا. ١٤٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله اللّه : وأمْنا قال: تـحريـمه لا يخاف فـيه من دخـله. ذكر من قال ذلك: ١٤٩٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَأمْنا يقول: أمنا من العدوّ أن يحمل فـيه السلاح، وقد كان فـي الـجاهلـية يتـخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْنَ. ١٤٩٧ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: أخبرنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وأمْنا قال: أمنا للناس. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد في قوله: وَأمْنا قال: تـحريـمه لا يخاف فـيه من دخـله. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى بكسر الـخاء علـى وجه الأمر بـاتـخاذه مصلّـى وهي قراءة عامة الـمصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل الـمدينة. وذهب إلـيه الذين قرءوه كذلك من الـخبر الذي: ١٤٩٨ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول اللّه ، لو اتـخذت الـمقام مصلّـى؟ فأنزل اللّه : وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مثله. حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا حميد، عن أنس، قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول اللّه ، فذكر مثله. قالوا: فإنـما أنزل اللّه تعالـى ذكره هذه الآية أمرا منه نبـيّهُ صلى اللّه عليه وسلم بـاتـخاذ مقام إبراهيـم مصلّـى فغير جائز قراءتها وهي أمرٌ علـى وجه الـخبر. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى معطوف علـى قوله: يَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـي وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فكان الأمر بهذه الآية وبـاتـخاذ الـمصلـى من مقام إبراهيـم علـى قول هذا القائل للـيهود من بنـي إسرائيـل الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. كما: ١٤٩٩ـ حدثنا الربـيع بن أنس بـما حُدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فأمرهم أن يتـخذوا من مقام إبراهيـم مصلّـى، فهم يصلون خـلف الـمقام. فتأويـل قائل هذا القول: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ قالَ إنّـي جَاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقال: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. والـخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الـخطاب، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل، يدلّ علـى خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من اللّه تعالـى ذكره بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به وجميع الـخـلق الـمكلفـين. وقرأه بعض قرّاء أهل الـمدينة والشام: (واتّـخَذُوا) بفتـح الـخاء علـى وجه الـخبر. ثم اختلف فـي الذي عطف علـيه بقوله: (وَاتّـخَذُوا) إذا قرىء كذلك علـى وجه الـخبر، فقال بعض نـحويـي البصرة: تأويـله إذا قرىء كذلك: وإذ جعلنا البـيت مثابة للناس وأمنا وإذِ اتـخذوا من مقام إبْرَاهِيـمَ مصلّـى. وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل ذلك معطوف علـى قوله: جَعَلْنَا فكان معنى الكلام علـى قوله: وإذ جعلنا البـيت مثابة للناس واتّـخَذُوه مصلـى. والصواب من القول والقراءة فـي ذلك عندنا: وَاتّـخِذُوا بكسر الـخاء، علـى تأويـل الأمر بـاتـخاذ مقام إبراهيـم مصلـى للـخبر الثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي ذكرناه آنفـا، وأن عمرو بن علـيّ: ١٥٠٠ـ حدثنا قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، قال: حدثنـي أبـي، عن جابر بن عبد اللّه : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَاتّـخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى وفـي مقام إبراهيـم. فقال بعضهم: مقام إبراهيـم: هو الـحجّ كله. ذكر من قال ذلك: ١٥٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبـاس في قوله: مَقامِ إبْرَاهِيـمَ قال: الـحجّ كله مقام إبراهيـم. ١٥٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: الـحجّ كله. ١٥٠٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان. عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الـحجّ كله مقام إبراهيـم. وقال آخرون: مقام إبراهيـم عرفة والـمزدلفة والـجمار. ذكر من قال ذلك: ١٥٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء بن أبـي رياح: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: لأنـي قد جعلْتُه إماما فمقامه عرفة والـمزدلفة والـجمار. ١٥٠٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مقامه جمع وعرفة ومِنًى لا أعلـمه إلا وقد ذكر مكة. ١٥٠٦ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، عن ابن عبـاس في قوله: وَاتـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مقامه عرفة. ١٥٠٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي قال: نزلت علـيه وهو واقـف بعرفة مقام إبراهيـم: الـيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية. حدثنا عمرو قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي، مثله. وقال آخرون: مقام إبراهيـم: الـحرم. ذكر من قال ذلك: ١٥٠٨ـ حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: الـحرم كله مقام إبراهيـم. وقال آخرون: مقام إبراهيـم: الـحجر الذي قام علـيه إبراهيـم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن رفع الـحجارة. ذكر من قال ذلك: ١٥٠٩ـ حدثنا سنان القزاز، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عبد الـمـجيد الـحنفـي، قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع، قال: سمعت كثـير بن كثـير يحدّث عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: جعل إبراهيـم يبنـيه، وإسماعيـل يناوله الـحجارة، ويقولان: رَبنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فلـما ارتفع البنـيان وضعف الشيخ عن رفع الـحجارة قام علـى حجر، فهو مقام إبراهيـم. وقال آخرون: بل مقام إبراهيـم، هو مقامه الذي هو فـي الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك: ١٥١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلـى إنـما أمروا أن يصلوا عنده ولـم يؤمروا بـمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا مـما تكلفته الأمـم قبلها، ولقد ذكرَ لنا بعض من رأى عقبه وأصابعه، فما زالت هذه الأمـم يـمسحونه حتـى اخْـلَوْلق وانـمـحى. ١٥١١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فهم يصلون خـلف الـمقام. ١٥١٢ـ حدثنـي يونس، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى وهو الصلاة عند مقامه فـي الـحجّ. والـمقام: هو الـحجر الذي كانت زوجة إسماعيـل وضعته تـحت قدم إبراهيـم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيـم رجله علـيه وهو راكب، فغسلت شقه ثم دفعته من تـحته وقد غابت رجله فـي الـحجر، فوضعته تـحت الشقّ الاَخر فغسلته، فغابت رجله أيضا فـيه، فجعلها اللّه من شعائره، فقال: وَاتّـخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيـم: هو الـمقام الـمعروف بهذا الاسم، الذي هو فـي الـمسجد الـحرام لـما روينا آنفـا عن عمر بن الـخطاب، ولـما: ١٥١٣ـ حدثنا يوسف بن سلـيـمان، قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، عن أبـيه، عن جابر قال: استلـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلـى مقام إبراهيـم فقرأ: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فجعل الـمقام بـينه وبـين البـيت فصلـى ركعتـين. فهذان الـخبران ينبئان أن اللّه تعالـى ذكره إنـما عنى بـمقام إبراهيـم الذي أمرنا اللّه بـاتـخاذه مصلـى هو الذي وصفنا. ولو لـم يكن علـى صحة ما اخترنا فـي تأويـل ذلك خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لكان الواجب فـيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام مـحمول معناه علـى ظاهره الـمعروف دون بـاطنه الـمـجهول، حتـى يأتـي ما يدلّ علـى خلاف ذلك مـما يجب التسلـيـم له. ولا شكّ أن الـمعروف فـي الناس بـمقام إبراهيـم هو الـمصلـى الذي قال اللّه تعالـى ذكره: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فإن أهل التأويـل مختلفون فـي معناه، فقال بعضهم: هو الـمُدّعَى. ذكر من قال ذلك: ١٥١٤ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مصلـى إبراهيـم مُدّعًى. وقال آخرون: معنى ذلك: اتـخذوا مصلـى تصلون عنده. ذكر من قال ذلك: ١٥١٥ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أمروا أن يصلوا عنده. ١٥١٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: هو الصلاة عنده. فكأن الذين قالوا تأويـل الـمصلـى ههنا الـمدعَى، وجهوا الـمصلـى إلـى أنه مفعّل من قول القائل: صلـيت بـمعنى دعوت. وقائلوا هذه الـمقالة هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيـم هو الـحجّ كله. فكان معناه فـي تأويـل هذه الآية: واتـخذوا عرفة والـمزدلفة والـمشعر والـجمار وسائر أماكن الـحجّ التـي كان إبراهيـم يقوم بها مداعي تدعوننـي عندها، وتأتـمون بإبراهيـم خـلـيـلـي علـيه السلام فـيها، فإنـي قد جعلته لـمن بعده من أولـيائي وأهل طاعتـي إماما يقتدون به وبآثاره، فـاقتدوا به. وأما تأويـل القائلـين القول الاَخر، فإنه: اتـخذوا أيها الناس من مقام إبراهيـم مصلـى تصلون عنده، عبـادة منكم، وتكرمة منـي لإبراهيـم. وهذا القول هو أولـى بـالصواب لـما ذكرنا من الـخبر عن عمر بن الـخطاب وجابر بن عبد اللّه ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـي. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَعَهِدْنَا وأمرنا. كما: ١٥١٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. ١٥١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنـي ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ قال: أمرناه. فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيـم وإسماعيـل بتطهير بـيتـي للطائفـين. والتطهير الذي أمرهما اللّه به فـي البـيت، هو تطهيره من الأصنام وعبـادة الأوثان فـيه ومن الشرك بـاللّه . فإن قال قائل: وما معنى قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ لِلطائِفِـينَ وهل كان أيام إبراهيـم قبل بنائه البـيت بـيت يطهر من الشرك وعبـادة الأوثان فـي الـحرم، فـيجوز أن يكونا أُمِرا بتطهيره؟ قـيـل: لذلك وجهان من التأويـل، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويـل، أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلـى إبراهيـم وإسماعيـل أن ابنـيا بـيتـي مُطهّرا من الشرك والريب، كما قال تعالـى ذكره: أفَمنْ أسّسَ بُنْـيَانَهُ علـى تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسّسَ بُنْـيَانَهُ علـى شَفَـا جُرُفٍ هارٍ، فكذلك قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ أي ابنـيا بـيتـي علـى طهر من الشرك بـي والريب. كما: ١٥١٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ يقول: ابنـيا بـيتـي. فهذا أحد وجهيه، والوجه الاَخر منهما أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البـيت قبل بنـيانه والبـيت بعد بنـيانه مـما كان أهل الشرك بـاللّه يجعلونه فـيه علـى عهد نوح ومن قبله من الأوثان، لـيكون ذلك سنة لـمن بعدهما، إذ كان اللّه تعالـى ذكره قد جعل إبراهيـم إماما يقتدي به مَنْ بعده. كما: ١٥٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أنْ طَهّرَا قال: من الأصنام التـي يعبدون التـي كان الـمشركون يعظمونها. ١٥٢١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، عن عبـيد بن عمير: أنْ طَهّرَا بَـيتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: من الأوثان والريب. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبـيد بن عمير، مثله. ١٥٢٢ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: من الشرك. ١٥٢٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو إسرائيـل، عن أبـي حصين، عن مـجاهد: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائَفِـينَ قال: من الأوثان. ١٥٢٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: من الشرك وعبـادة الأوثان. ١٥٢٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة بـمثله، وزاد فـيه: وقول الزور. القول فـي تأويـل قوله تعالى: للطّائِفِـينَ. اختلف أهل التأويـل فـي معنى الطائفـين فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: هم الغربـاء الذين يأتون البـيت الـحرام من غربة. ذكر من قال ذلك: ١٥٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبـير في قوله: للطّائِفِـينَ قال: من أتاه من غربة. وقال آخرون: بل الطائفون هم الذين يطوفون به غربـاء كانوا أو من أهله. ذكر من قال ذلك: ١٥٢٧ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي بكر الهذلـي، عن عطاء: للطّائِفِـينَ قال: إذا كان طائفـا بـالبـيت، فهو من الطائفـين. وأولـى التأويـلـين بـالآية ما قاله عطاء لأن الطائف هو الذي يطوف بـالشيء دون غيره، والطارىء من غربة لا يستـحقّ اسم طائف بـالبـيت إن لـم يطف به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: والعاكِفِـينَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالعاكِفِـينَ والـمقـيـمين به، والعاكف علـى الشيء: هو الـمقـيـم علـيه، كما قال نابغة بنـي ذبـيان: عُكُوفـا لَدَى أبْـياتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْرمى اللّه فِـي تِلْكَ الأكُفّ الكوَانِعِ وإنـما قـيـل للـمعتكف معتكف من أجل مقامه فـي الـموضع الذي حبس فـيه نفسه للّه تعالـى. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه بقوله: وَالعاكِفِـينَ فقال بعضهم: عنى به الـجالس فـي البـيت الـحرام بغير طواف ولا صلاة. ذكر من قال ذلك: ١٥٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي بكر الهذلـي، عن عطاء، قال: إذا كان طائفـا بـالبـيت فهو من الطائفـين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفـين. وقال بعضهم: العاكفون هم الـمعتكفون الـمـجاورون. ذكر من قال ذلك: ١٥٢٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن جابر، عن مـجاهد وعكرمة: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطائِفِـينَ وَالعاكِفِـينَ قال: الـمـجاورون. وقال بعضهم: العاكفون هم أهل البلد الـحرام. ذكر من قال ذلك: ١٥٣٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبـير في قوله: وَالعاكِفِـينَ قال: أهل البلد. ١٥٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَالعاكِفِـينَ قال: العاكفون: أهله. وقال آخرون: العاكفون: هم الـمصلون. ذكر من قال ذلك: ١٥٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس في قوله: طَهّرَا بَـيْتِـي للطّائِفِـينَ وَالعاكِفِـينَ قال: العاكفون: الـمصلون. وأولـى هذه التأويلات بـالصواب ما قاله عطاء، وهو أن العاكف فـي هذا الـموضع: الـمقـيـم فـي البـيت مـجاورا فـيه بغير طواف ولا صلاة، لأن صفة العكوف ما وصفنا من الإقامة بـالـمكان. والـمقـيـم بـالـمكان قد يكون مقـيـما به وهو جالس ومصلَ وطائف وقائم، وعلـى غير ذلك من الأحوال فلـما كان تعالـى ذكره قد ذكر في قوله: أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ والعاكِفِـينَ والركّعِ السّجُودِ الـمصلـين والطائفـين، علـم بذلك أن الـحال التـي عنى اللّه تعالـى ذكره من العاكف غير حال الـمصلـي والطائف، وأن التـي عنى من أحواله هو العكوف بـالبـيت علـى سبـيـل الـحوار فـيه، وإن لـم يكن مصلـيا فـيه ولا راكعا ولا ساجدا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَالرّكّعِ السّجودِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالرّكّعِ جماعة القوم الراكعين فـيه له، واحدهم راكع. وكذلك السجود هم جماعة القوم الساجدين فـيه له واحدهم ساجد، كما يقال رجل قاعد ورجال قعود ورجل جالس ورجال جلوس فكذلك رجل ساجد ورجال سجود. وقـيـل: بل عنى بـالركّع السجود: الـمصلـين. ذكر من قال ذلك: ١٥٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي بكر الهذلـي، عن عطاء: وَالرّكّعِ السّجُودِ قال: إذا كان يصلـي فهو من الركّع السجود. ١٥٣٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَالرّكّعِ السجّودِ أهل الصلاة. وقد بـينا فـيـما مضى بـيان معنى الركوع والسجود، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. ١٢٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنا: واذكروا إذ قال إبراهيـم: ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا، يعنـي بقوله: آمنا: آمنا من الـجبـابرة وغيرهم أن يسلطوا علـيه، ومن عقوبة اللّه أن تناله، كما تنال سائر البلدان، من خسف، وانتقال، وغرق، وغير ذلك من سخط اللّه ومثلاته التـي تصيب سائر البلاد غيره. كما: ١٥٣٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن الـحرم حُرّم بحياله إلـى العرش، وذكر لنا أن البـيت هبط مع آدم حين هبط، قال اللّه له: أهبط معك بـيتـي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم ومن كان بعده من الـمؤمنـين، حتـى إذا كان زمان الطوفـان حين أغرق اللّه قوم نوح رفعه وطهّره ولـم تصبه عقوبة أهل الأرض، فتتبع منه إبراهيـم أثرا فبناه علـى أساس قديـم كان قبله. فإن قال لنا قائل: أَوَ ما كان الـحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيـم ربه له الأمان؟ قـيـل له: لقد اختُلِف فـي ذلك، فقال بعضهم: لـم يزل الـحرم آمنا من عقوبة اللّه وعقوبة جبـابرة خـلقه، منذ خـلقت السموات والأرض. واعتلوا فـي ذلك بـما: ١٥٣٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي سعيد بن أبـي سعيد الـمقبري، قال: سمعت أبـا شريح الـخزاعي يقول: لـما افتتـحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هُذيـل، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطيبـا فقال: (يا أَيّها النّاسُ إِنّ اللّه حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّه إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ لا يَحِلّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَما، أوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرا. ألا وَإِنّهَا لاَ تَـحِلّ ءَلاحَدٍ بَعْدِي وَلَـمْ تَـحِلّ لِـي إِلاّ هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبـا علـيّ أَهْلُها. ألا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ علـى حالِهَا بـالأمْسِ. ألا لِـيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغَائِبَ، فمن قال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قتل بها، فقولوا: إنّ اللّه قَدْ أَحَلّهَا لرسولِهِ ولـم يُحِلّها لكَ). ١٥٣٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير جميعا، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـمكة حين افتتـحها: (هَذِهِ حَرَمٌ حَرّمَهَا اللّه يَوْمَ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَخَـلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الأخْشَبَـيْنِ، لَـمْ تَـحِلّ ءَلاحَدٍ قَبْلِـي، وَلاَ تَـحِلّ ءَلاحَدٍ بَعْدِي، أُحِلّتْ لِـي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ). قالوا: فمكة منذ خـلقت حَرَمٌ آمن من عقوبة اللّه وعقوبة الـجبـابرة. قالوا: وقد أخبرَت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانـية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التـي ذكرناها. قالوا: ولـم يسأل إبراهيـم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الـجبـابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الـجُدوب والقحُوط، وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ. قالوا: وإنـما سأل ربه ذلك، لأنه أسكن فـيه ذرّيته، وهو غير ذي زَرْعٍ ولا ضَرْع، فـاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا، فسأله أن يؤمنهم مـما حذر علـيهم منه. قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيـم سأل ربه تـحريـم الـحرم، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبـابرة خـلقه، وهو القائل حين حله، ونزله بأهله وولده: رَبّنا إنـي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَـيْتِكَ الـمُـحَرّمِ؟ قالوا: فلو كان إبراهيـم هو الذي حرّم الـحرم أو سأل ربه تـحريـمه لـما قال: (عند بـيتك الـمـحرّم)، عند نزوله به، ولكنه حرّم قبله، وحرّم بعده. وقال آخرون: كان الـحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيـم كسائر البلاد غيره، وإنـما صار حراما بتـحريـم إبراهيـم إياه، كما كانت مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلالاً قبل تـحريـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياها. قالوا: والدلـيـل علـى ما قلنا من ذلك ما: ١٥٣٨ـ حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي الزبـير، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ إبْرَاهِيـمَ حَرّمَ بَـيْتَ اللّه وأَمّنَهُ، وإنـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ ما بَـيْنَ لابَتَـيْها لا يُصَادُ صَيْدُها وَلا تُقْطَعُ عِضَاهُها). ١٥٣٩ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا عبد الرحيـم الرازي، سمعت أشعث، عن نافع، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ إِبْرَاهِيـمَ كَانَ عَبْدَ اللّه وَخَـلِـيـلَهُ، وإنـي عَبْدُ اللّه وَرَسُولُهُ، وَإِنّ إِبْرَاهِيـمَ حَرّمَ مَكّةَ وإنـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ مَا بَـيْنَ لاَبَتَـيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَها، وَلاَ يُحْمَلُ فِـيها سِلاحٌ لِقِتالٍ، وَلا يُقْطَعُ مِنْها شَجَرٌ إلا لعَلَفِ بَعِيرٍ). ١٥٤٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا قتـيبة بن سعيد، قال: حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبـي بكر بن مـحمد، عن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ إِبْرَاهِيـمَ حَرّمَ مَكّةَ، وإنـي أُحَرّمُ الـمَدِينَةَ مَا بَـيْتَ لاَبَتَـيْها)وأما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستـيعابها الكتاب. قالوا: وقد أخبر اللّه تعالـى ذكره فـي كتابه أن إبراهيـم قال: رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا ولـم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض، فلـيس لأحد أن يدّعي أن الذي سأله من ذلك الأمان له من بعض الأشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسلـيـم لها. قالوا: وأما خبر أبـي شريح وابن عبـاس فخبران لا تثبت بهما حجة لـما فـي أسانـيدهما من الأسبـاب التـي لا يجب التسلـيـم فـيها من أجلها. والصواب من القول فـي ذلك عندنا: أن اللّه تعالـى ذكره جعل مكة حرما حين خـلقها وأنشأها، كما أخبر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه حرّمها يوم خـلق السموات والأرض بغير تـحريـم منه لها علـى لسان أحد من أنبـيائه ورسله، ولكن بـمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الاَفـات والعقوبـات، وعن ساكنـيها ما أحلّ بغيرها وغير ساكنـيها من النقمات فلـم يزل ذلك أمرها حتـى بوأها اللّه إبراهيـم خـلـيـله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيـل، فسأل حينئذٍ إبراهيـم ربه إيجاد فرض تـحريـمها علـى عبـاده علـى لسانه، لـيكون ذلك سنة لـمن بعده من خـلقه، يستنّون بها فـيها، إذ كان تعالـى ذكره قد اتـخذه خـلـيلاً، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدي به، فأجابه ربه إلـى ما سأله، وألزم عبـاده حينئذٍ فرض تـحريـمه علـى لسانه، فصارت مكة بعد أن كانت مـمنوعة بـمنع اللّه إياها بغير إيجاب اللّه فرض الامتناع منها علـى عبـاده، ومـحرّمة بدفع اللّه عنها بغير تـحريـمه إياها علـى لسان أحد من رسله فرض تـحريـمها علـى خـلقه علـى لسان خـلـيـله إبراهيـم علـيه السلام، وواجب علـى عبـاده الامتناع من استـحلالها، واستـحلال صيدها وعضاهها، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيـم رسالة اللّه إلـيك بذلك إلـيه فلذلك أضيف تـحريـمها إلـى إبراهيـم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ اللّه حَرّمَ مَكّةَ) لأن فرض تـحريـمها الذي ألزم اللّه عبـاده علـى وجه العبـادة له به، دون التـحريـم الذي لـم يزل متعبدا لها به علـى وجه الكِلاءة والـحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيـم ربه إيجاب فرض ذلك علـى لسانه، لزم العبـاد فرضه دون غيره. فقد تبـين إذا بـما قلنا صحة معنى الـخبرين، أعنـي خبر أبـي شريح وابن عبـاس عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إِنّ اللّه حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَـلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ). وخبر جابر وأبـي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (اللّه مّ إِنّ إبْرَاهِيـمَ حَرّمَ مَكّةَ) وأن لـيس أحدهما دافعا صحة معنى الاَخر كما ظنه بعض الـجهال. وغير جائز فـي أخبـار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها، وقد جاء الـخبران اللذان رُويا فـي ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مـجيئا ظاهرا مستفـيضا يقطع عذر من بلغه. وقول إبراهيـم علـيه السلام: رَبّنا إنـي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَـيْتِكَ الـمُـحَرّمِ فإنه إن يكن قال قبل إيجاب اللّه فرض تـحريـمه علـى لسانه علـى خـلقه، فإنـما عنى بذلك تـحريـم اللّه إياه الذي حرّمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تـحريـمه إياه علـى خـلقه علـى وجه التعبد لهم بذلك. وإن يكن قال ذلك بعد تـحريـم اللّه إياه علـى لسانه علـى خـلقه علـى وجه التعبد، فلا مسألة لأحد علـينا فـي ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ. وهذه مسألة من إبراهيـم ربه أن يرزق مؤمنـي أهل مكة من الثمرات دون كافريهم. وخصّ بـمسألة ذلك للـمؤمنـين دون الكافرين لـما أعلـمه اللّه عند مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالـم الذي لا يدرك ولايته. فلـما أعلـم أن من ذرّيته الظالـم والكافر، خصّ بـمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة الـمؤمن منهم دون الكافر، وقال اللّه له: إنـي قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمنـي أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قلـيلاًوأما (مَنْ) في قوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بـاللّه فوَالـيَوْمِ الاَخِرِ فإنه نصب علـى الترجمة، والبـيان عن الأهل، كما قال تعالـى: يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتَالِ فِـيهِ بـمعنى: يسألونك عن قتال فـي الشهر الـحرام، وكما قال تعالـى ذكره: وللّه علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً بـمعنى: وللّه حجّ البـيت علـى من استطاع إلـيه سبـيلاً. وإنـما سأل إبراهيـم ربه ما سأل من ذلك لأنه حلّ بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرا، وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إلـيهم، فذكر أن إبراهيـم لـما سأل ذلك ربه نقل اللّه الطائف من فلسطين. ١٥٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا هشام، قال: قرأت علـى مـحمد بن مسلـم أن إبراهيـم لـما دعا للـحرم وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ نقل اللّه الطائف من فلسطين. القول فـي تأويـل قوله تعالى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً. اختلف أهل التأويـل فـي قائل هذا القول وفـي وجه قراءته، فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالـى ذكره، وتأويـله علـى قولهم: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً برزقـي من الثمرات فـي الدنـيا إلـى أن يأتـيه أجله. وقرأ قائل هذه الـمقالة ذلك: فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً بتشديد التاء ورفع العين. ذكر من قال ذلك: ١٥٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: حدثنـي أبو العالـية، عن أُبـيّ بن كعب في قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً ثُمّ اضْطَرّهُ إِلَـى عَذَابِ النّارِ قال: هو قول الربّ تعالـى ذكره. ١٥٤٣ـ حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق لـما قال إبراهيـم: رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ وعدل الدعوة عمن أبى اللّه أن يجعل له الولاية، انقطاعا إلـى اللّه ومـحبة وفراقا لـمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالـم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال اللّه : وَمَنْ كَفَرَ فإنـي أرزق البرّ والفـاجر فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً. وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيـم خـلـيـل الرحمَن علـى وجه الـمسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بـالبلد الـحرام، مثل الذي يرزق به الـمؤمن ويـمتعه بذلك قلـيلاً، ثم اضْطَرّهُ إلـى عذاب النار بتـخفـيف (التاء) وجزم (العين) وفتـح (الراء) من اضْطَرّه، وفصل (ثم اضطره) بغير قطع ألفها، علـى وجه الدعاء من إبراهيـم ربه لهم والـمسألة. ذكر من قال ذلك: ١٥٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال أبو العالـية: كان ابن عبـاس يقول: ذلك قول إبراهيـم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قلـيلاً. ١٥٤٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن لـيث، عن مـجاهد: وَمَنْ كَفَرَ فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا ثم اضطره إلـى عذاب النار. والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا والتأويـل، ما قاله أُبـيّ بن كعب وقراءته، لقـيام الـحجة بـالنقل الـمستفـيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بـمن كان جائزا علـيه فـي نقله الـخطأ والسهُو، علـى من كان ذلك غير جائز علـيه فـي نقله. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويـل الآية: قال اللّه : يا إبراهيـم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمنـي أهل هذا البلد من الثمرات وكفـارهم متاعا لهم إلـى بلوغ آجالهم، ثم اضطرّ كفـارهم بعد ذلك إلـى النار. وأما قوله: فَـامَتّعُهُ قَلِـيلاً يعنـي: فأجعل ما أرزقه من ذلك فـي حياته متاعا يتـمتع به إلـى وقت مـماته. وإنـما قلنا إن ذلك كذلك لأن اللّه تعالـى ذكره إنـما قال ذلك لإبراهيـم جوابـا لـمسألته ما سأل من رزق الثمرات لـمؤمنـي أهل مكة، فكان معلوما بذلك أن الـجواب إنـما هو فـيـما سأله إبراهيـم لا فـي غيره. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال مـجاهد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه. وقال بعضهم: تأويـله: فأمتعه بـالبقاء فـي الدنـيا وقال غيره: فأمتعه قلـيلاً فـي كفره ما أقام بـمكة، حتـى أبعث مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـيقتله إن أقام علـى كفره أو يجلـيه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتـمله الكلام فإن دلـيـل ظاهر الكلام علـى خلافه لـما وصفنا. القول فـي تأويـل قوله تعالى: ثُمّ أضْطَرّهُ إلـى عَذَابِ النّارِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ثُمّ أضْطَرّهُ إلـى عَذَابِ النّارِ ثم أدفعه إلـى عذاب النار وأسوقه إلـيها، كما قال تعالـى ذكره: يَوْمَ يُدَعّونَ إلـى نارِ جَهَنّـمَ دَعّا ومعنى الاضطرار: الإكراه، يقال: اضطررت فلانا إلـى هذا الأمر: إذا ألـجأته إلـيه وحملته علـيه. فذلك معنى قوله: ثُمّ اضْطَرّهُ إلـى عَذَابِ النّارِ أدفعه إلـيها، وأسوقه سحبـا وجرّا علـى وجهه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَبِئْسَ الـمَصِير. قد دللنا علـى أن (بِئْس) أصله (بَئِس) من البؤس، سُكّن ثانـيه ونقلت حركة ثانـية إلـى أوله، كما قـيـل للكَبِد كِبْدٌ، وما أشبه ذلك. ومعنى الكلام: وساء الـمصير عذاب النار، بعد الذي كانوا فـيه من متاع الدنـيا الذي متعتهم فـيهاوأما الـمصير فإنه مفعل من قول القائل: صرت مصيرا صالـحا، وهو الـموضع الذي يصير إلـيه الكافر بـاللّه من عذاب النار. ١٢٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ واذكروا إذ يرفع إبراهيـم القواعد من البـيت. والقواعد جمع قاعدة، يقال للواحدة من قواعد البـيت قاعدة، وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد، فتلغى هاء التأنـيث لأنها فـاعل من قول القائل: قعدت عن الـحيض، ولا حظّ فـيه للذكورة، كما يقال: امرأة طاهر وطامث، لأنه لا حظّ فـي ذلك للذكور. ولو عنى به القعود الذي هو خلاف القـيام لقـيـل قاعدة، ولـم يجز حينئذٍ إسقاط هاء التأنـيث. وقواعد البـيت: إساسه. ثم اختلف أهل التأويـل فـي القواعد التـي رفعها إبراهيـم وإسماعيـل من البـيت، أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟ فقال قوم: هي قواعد بـيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر اللّه إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفـى أثره بعده حتـى بوأه اللّه إبراهيـم علـيه السلام، فبناه. ذكر من قال ذلك: ١٥٤٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: قال آدم: يا ربّ إنـي لا أسمع أصوات الـملائكة قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلـى الأرض وابن لـي بـيتا، ثم احْفُفْ به كما رأيت الـملائكة تـحفّ ببـيتـي الذي فـي السماء. فـيزعم الناس أنه بناه من خمسة أَجْبُل: من حراء، وطور زَيْتا، وطور سِينا، وجبل لبنان، والـجودي، وكان رَبَضُه من حراء فكان هذا بناء آدم حتـى بناه إبراهيـم بعد. ١٥٤٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ قال: القواعد التـي كانت قواعد البـيت قبل ذلك. وقال آخرون: بل هي قواعد بـيت كان اللّه أهبطه لاَدم من السماء إلـى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه فـي السماء، ثم رفعه إلـى السماء أيام الطوفـان، فرفع إبراهيـم قواعد ذلك البـيت. ذكر من قال ذلك: ١٥٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبـي قلابة، عن عبد اللّه بن عمرو قال: لـما أهبط اللّه آدم من الـجنة قال: إنـي مهبط معك أو منزل معك بـيتا يطاف حوله، كما يطاف حول عرشي، ويصلّـى عنده، كما يصلّـى عند عرشي. فلـما كان زمن الطوفـان رفع، فكانت الأنبـياء يحجّونه ولا يعلـمون مكانه، حتـى بوأه اللّه إبراهيـم وأعلـمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من حراء، وثبـير، ولبنان، وجبل الطور، وجبل الـخمر. حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسماعيـل بن علـية، قال: حدثنا أيوب، عن أبـي قلابة، قال: لـما أهبط آدم، ثم ذكر نـحوه. ١٥٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: لـما أهبط اللّه آدم من الـجنة كان رجلاه فـي الأرض ورأسه فـي السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إلـيهم، فهابته الـملائكة حتـى شكت إلـى اللّه فـي دعائها وفـي صلاتها، فخفضه إلـى الأرض فلـما فَقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتـى شكا ذلك إلـى اللّه فـي دعائه وفـي صلاته، فوُجّه إلـى مكة، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفـازةً، حتـى انتهى إلـى مكة. وأنزل اللّه ياقوتة من ياقوت الـجنة، فكانت علـى موضع البـيت الاَن، فلـم يزل يطوف به حتـى أنزل اللّه الطوفـان، فرفعت تلك الـياقوتة، حتـى بعث اللّه إبراهيـم فبناه، فذلك قول اللّه : وَإِذْ بَوّأْنا لابْرَاهِيـمَ مَكَانَ البَـيْتِ. ١٥٥٠ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع اللّه البـيت مع آدم حين أهبط اللّه آدم إلـى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه فـي السماء ورجلاه فـي الأرض، فكانت الـملائكة تهابه، فنقص إلـى ستـين ذراعا. فحزن آدم إذ فقد أصوات الـملائكة وتسبـيحهم فشكا ذلك إلـى اللّه تعالـى فقال اللّه : يا آدم إنـي قد أهبت إلـيك بـيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلّـي عنده كما يصلّـى عند عرشي. فـانطلق إلـيه آدم فخرج، ومُدّ له فـي خطوه، فكان بـين كل خطوتـين مفـازة، فلـم تزل تلك الـمفـاوز بعد ذلك، فأتـى آدم البـيت وطاف به ومن بعده من الأنبـياء. ١٥٥١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبـان: أن البـيت أُهبط ياقوتة واحدة أو درّة واحدة، حتـى إذا أغرق اللّه قوم نوح رفعه وبقـي أساسه، فبوأه اللّه لإبراهيـم، فبناه بعد ذلك. وقال آخرون: بل كان موضع البـيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن اللّه لـما أراد خـلق الأرض علا الـماءَ زَبْدَةٌ حمراءُ أو بـيضاءُ، وذلك فـي موضع البـيت الـحرام. ثم دحا الأرض من تـحتها، فلـم يزل ذلك كذلك حتـى بوأه اللّه إبراهيـم، فبناه علـى أساسه. و قالوا: علـى أركان أربعة فـي الأرض السابعة. ذكر من قال ذلك: ١٥٥٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال جرير بن حازم، حدثنـي حميد بن قـيس، عن مـجاهد، قال: كان موضع البـيت علـى الـماء قبل أن يخـلق اللّه السموات والأرض، مثل الزّبْدَةِ البـيضاء، ومن تـحته دُحيت الأرض. ١٥٥٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث اللّه رياحا فصفّقَت الـماء، فأبرزت فـي موضع البـيت عن حَشَفَةٍ كأنها القبة، فهذا البـيت منها فلذلك هي أمّ القرى. قال ابن جريج: قال عطاء: ثم وَتَدَها بـالـجبـال كي لا تُكْفأ بـمَيْدٍ، فكان أول جبل (أبو قبـيس). ١٥٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: وضع البـيت علـى أركان الـماء علـى أربعة أركان قبل أن تـخـلق الدنـيا بألفـي عام، ثم دُحيت الأرض من تـحت البـيت. ١٥٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: وجدوا بـمكة حجرا مكتوبـا علـيه: (إنـي أنا اللّه ذو بَكّة بنـيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك حَفّـا). ١٥٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثنـي عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وغيره من أهل العلـم: أن اللّه لـما بَوّأَ إبراهيـم مكان البـيت، خرج إلـيه من الشام، وخرج معه بإسماعيـل وأمه هَاجَر، وإسماعيـلُ طفلٌ صغير يرضع، وحُملوا فـيـما حدثنـي علـى البُراق ومعه جبريـل يدله علـى موضع البـيت ومعالـم الـحرم. فخرج وخرج معه جبريـل، فقال: كان لا يـمرّ بقرية إلا قال: أبهذه أُمرت يا جبريـل؟ فـيقول جبريـل: امْضِهْ حتـى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عِضَاهُ سلَـم وسَمُر يربّها أناس يقال لهم العمالـيق خارج مكة وما حولها، والبـيت يومئذٍ ربوة حمراء مَدِرَة، فقال إبراهيـم لـجبريـل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ فـال: نعم فعمد بهما إلـى موضع الـحجر فأنزلهما فـيه، وأمر هاجر أم إسماعيـل أن تتـخذ فـيه عريشا، فقال: رَبّ إِنّـي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِـي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَـيْتِكَ الـمُـحَرّمِ إلـى قوله: لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ. قال ابن حميد: قال سلـمة: قال ابن إسحاق: ويزعمون واللّه أعلـم أن ملكا من الـملائكة أتـى هاجر أمّ إسماعيـل، حين أنزلهما إبراهيـم مكة قبل أن يرفع إبراهيـم وإسماعيـل القواعد من البـيت، فأشار لهما إلـى البـيت، وهو ربوة حمراء مَدِرَة، فقال لهما: هذا أول بـيت وضع فـي الأرض، وهو بـيت اللّه العتـيق، واعلـمي أن إبراهيـم وإسماعيـل هما يرفعانه. فـاللّه أعلـم. ١٥٥٧ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، قال: أخبرنـي حميد، عن مـجاهد، قال: خـلق اللّه موضع هذا البـيت قبل أن يخـلق شيئا من الأرض بألفـي سنة، وأركانه فـي الأرض السابعة. ١٥٥٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، قال: أخبرنـي بشر بن عاصم، عن ابن الـمسيب، قال: حدثنا كعب أن البـيت كان غُثَاءَةً علـى الـماء قبل أن يخـلق اللّه الأرض بأربعين سنة، ومنه دُحيت الأرض قال: وحدثنا عن علـيّ بن أبـي طالب أن إبراهيـم أقبل من أرمينـية معه السكينة، تدله علـى تبوّىء البـيت كما تتبوأ العنكبوت بـيتها قال: فرفعت عن أحجار تطيقه أو لا تطيقه ثلاثون رجلاً قال: قلت يا أبـا مـحمد، فإن اللّه يقول: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ قال: كان ذاك بعد. والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره أخبر عن إبراهيـم خـلـيـله أنه وابنه إسماعيـل رفعا القواعد من البـيت الـحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بـيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البـيت الـحرام الذي بـمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التـي ذكرها عطاء مـما أنشأه اللّه من زَبَد الـماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درّة أُهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتـى رفع قواعده إبراهيـم وإسماعيـل. ولا علـم عندنا بأيّ ذلك كان من أي لأن حقـيقة ذلك لا تُدرك إلا بخبر عن اللّه وعن رسوله صلى اللّه عليه وسلم بـالنقل الـمستفـيض، ولا خبر بذلك تقوم به الـحجة فـيجب التسلـيـم لها، ولا هو إذ لـم يكن به خبر علـى ما وصفنا مـما يدل علـيه بـالاستدلال والـمقايـيس فـيـمثل بغيره، ويستنبط علـمه من جهة الاجتهاد، فلا قول فـي ذلك هو أولـى بـالصواب ما قلنا. واللّه تعالـى أعلـم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وَإسْمَاعِيـلُ يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا وذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة ابن مسعود، وهو قول جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٥٥٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: يبنـيان وهما يدعوان الكلـمات التـي ابتلـى بها إبراهيـمَ ربّه، قال: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السّميعُ العَلِـيـمُ رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ. ١٥٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: أخبرنـي ابن كثـير، قال: حدثنا سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وإسْمَاعِيـلُ قال: هما يرفعان القواعد من البـيت، ويقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ قال: وإسماعيـل يحمل الـحجارة علـى رقبته والشيخ يبنـي. فتأويـل الآية علـى هذا القول: وإذ يرفع إبراهيـم القواعد من البـيت وإسماعيـل قائلَـيْنِ: ربنا تقبل منا. وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيـل. فتأويـل الآية علـى هذا القول: وإذ يرفع إبراهيـم القواعد من البـيت، وإذ يقول إسماعيـل: ربنا تقبل منا. فـيصير حيئنذٍ إسماعيـل مرفوعا بـالـجملة التـي بعده، و(يقول) حينئذٍ خبر له دون إبراهيـم. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذي رفع القواعد بعد إجماعهم علـى أن إبراهيـم كان مـمن رفعها، فقال بعضهم: رفعها إبراهيـم وإسماعيـل جميعا. ذكر من قال ذلك: ١٥٦١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَعَهِدْنَا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: فـانطلق إبراهيـم حتـى أتـى مكة، فقام هو وإسماعيـل وأخذا الـمعاول لا يدريان أين البـيت، فبعث اللّه ريحا يقال لها ريح الـخَجُوج، لها جناحان ورأس فـي صورة حية. فكنست لهما ما حول الكعبة، وعن أساس البـيت الأول، واتبعاها بـالـمعاول يحفران حتـى وضعا الأساس فذلك حين يقول: وَإِذْ بَوّأنا لابْرَاهِيـمَ مَكانَ البَـيْتِ. فلـما بنـيا القواعد فبلغا مكان الركن قال إبراهيـم لإسماعيـل: يا بنـي اطلب لـي حجرا حسنا أضعه ههنا قال: يا أبت إنـي كسلان تعب قال: علـيّ بذلك فـانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر، فلـم يرضه، فقال: ائتنـي بحجر أحسن من هذا فـانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريـل بـالـحجر الأسود من الهند، وكان أبـيض ياقوتة بـيضاء مثل الثّغامة، وكان آدم هبط به من الـجنة فـاسودّ من خطايا الناس، فجاءه إسماعيـل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاء بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك. فبنـياه. ١٥٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبد اللّه بن عتبة، عن عبـيد بن عمير اللـيثـي، قال: بلغنـي أن إبراهيـم وإسماعيـل هما رفعا قواعد البـيت. وقال آخرون: بل رفع قواعد البـيت إبراهيـم، وكان إسماعيـل يناوله الـحجارة. ذكر من قال ذلك: ١٥٦٣ـ حدثنا أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، وكثـير بن كثـير بن الـمطلب بن أبـي وداعة، يزيد أحدهما علـى الاَخر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: جاء إبراهيـم وإسماعيـل يبري نَبْلاً قريبـا من زمزم. فلـما رآه قام إلـيه، فصنعا كما يصنع الوالد بـالولد، والولد بـالوالد، ثم قال: يا إسماعيـل إن اللّه أمرنـي بأمر، قال: فـاصنع ما أمرك ربك قال: وتعيننـي؟ قال: وأعينك قال: فإن اللّه أمرنـي أن أبنـي ههنا بـيتا وأشار إلـى الكعبة، والكعبة مرتفعة علـى ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البـيت قال: فجعل إسماعيـل يأتـي بـالـحجارة، وإبراهيـم يبنـي، حتـى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الـحجر فوضعه له، فقام علـيه وهو يبنـي، وإسماعيـل يناوله الـحجارة وهما يقولان: رَبّنا تَقَبلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السمِيعُ العَلِـيـمُ حتـى دَوّرَ حول البـيت. ١٥٦٤ـ حدثنا ابن بشار القزاز، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عبد الـمـجيد أبو علـيّ الـحنفـي، قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع قال: سمعت كثـير بن كثـير يحدّث عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: جاء يعنـي إبراهيـم فوجد إسماعيـل يصلـح نَبْلاً من وراء زمزم، قال إبراهيـم: يا إسماعيـل إن اللّه ربك قد أمرنـي أن أبنـي له بـيتا فقال له إسماعيـل: فأطِعْ ربك فـيـما أمرك فقال له إبراهيـم: قد أمرك أن تعيننـي علـيه قال: إذا أفعل قال: فقام معه، فجعل إبراهيـم يبنـيه وإسماعيـل يناوله الـحجارة، ويقولان: رَبنا تَقَبّلْ مِنا إنكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فلـما ارتفع البنـيان وضعف الشيخ عن رفع الـحجارة، قام علـى حجر فهو مقام إبراهيـم فجعل يناوله ويقولان: رَبنا تَقَبلْ مِنّا إنكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ. وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البـيت إبراهيـم وحده وإسماعيـل يومئذ طفل صغير. ذكر من قال ذلك: ١٥٦٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى، قالا: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن حارثة بن مصرف، عن علـيّ، قال: لـما أمر إبراهيـم ببناء البـيت، خرج معه إسماعيـل وهاجر قال: فلـما قدم مكة رأى علـى رأسه فـي موضع البـيت مثل الغمامة فـيه مثل الرأس، فكلّـمه فقال: يا إبراهيـم ابْنِ علـى ظلـي أو علـى قَدْري ولا تزد ولا تنقص فلـما بنى (خرج) وخـلف إسماعيـل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيـم إلـى من تَكِلُنا؟ قال: إلـى اللّه . قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا قال: فعطش إسماعيـل عطشا شديدا قال: فصعدت هاجر الصفـا فنظرت فلـم تر شيئا، ثم أتت الـمروة فنظرت فلـم تر شيئا، ثم رجعت إلـى الصفـا فنظرت فلـم تر شيئا، حتـى فعلت ذلك سبع مرّات فقالت: يا إسماعيـل مُتْ حيث لا أراك فأتته وهو يَفْحَص برجله من العطش. فناداها جبريـل، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر أمّ ولد إبراهيـم قال: إلـى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلـى اللّه قال: وكلكما إلـى كافٍ قال: ففَحَص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم، فجعلت تـحبس الـماء. فقال: دَعِيهِ فإنها رَوَاءٌ. ١٥٦٦ـ حدثنا عبـاد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة أن رجلاً قام إلـى علـيّ فقال: ألا تـخبرنـي عن البـيت؟ أهو أول بـيت وضع فـي الأرض؟ فقال: لا، ولكن هو أول بـيت وضع فـي البركة مقامُ إبراهيـم، ومن دخـله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بنـي إن اللّه أوحى إلـى إبراهيـم أن ابْنِ لـي بـيتا فـي الأرض، قال: فضاق إبراهيـم بذلك ذرعا، فأرسل اللّه السكينة وهي ريح خَجُوجٌ، ولها رأَسان، فأتبع أحدهما صاحبه حتـى انتهت إلـى مكة، فتطوّتْ علـى موضع البـيت كتَطَوّي الـحَجَفَة، وأمر إبراهيـم أن يبنـي حيث تستقرّ السكينة. فبنى إبراهيـم وبقـي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيـم: لا، ابغي حجرا كما آمرك قال: فـانطلق الغلام يـلتـمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركّب الـحجر الأسود فـي مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الـحجر؟ قال: أتانـي به من لـم يتّكل علـى بنائك جاء به جبريـل من السماء. فأتـماه. حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن سماك، سمعت خالد بن عرعرة يحدّث عن علـيّ بنـحوه. حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة وحماد بن سلـمة وأبو الأحوص كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علـيّ بنـحوه. فمن قال: رفع القواعد إبراهيـم وإسماعيـل، أو قال رفعها إبراهيـم وكان إسماعيـل يناوله الـحجارة. فـالصواب في قوله أن يكون الـمضمر من القول لإبراهيـم وإسماعيـل، ويكون الكلام حينئذٍ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وَإسْمَاعِيـلُ يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا. وقد كان يحتـمل علـى هذا التأويـل أن يكون الـمضمر من القول لإسماعيـل خاصة دون إبراهيـم، ولإبراهيـم خاصة دون إسماعيـل لولا ما علـيه عامة أهل التأويـل من أن الـمضمر من القول لإبراهيـم وإسماعيـل جميعا. وأما علـى التأويـل الذي روي عن علـيّ أن إبراهيـم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيـل، فلا يجوز أن يكون الـمضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيـل خاصة. والصواب من القول عندنا فـي ذلك أن الـمضمر من القول لإبراهيـم وإسماعيـل، وأن قواعد البـيت رفعها إبراهيـم وإسماعيـل جميعا وذلك أن إبراهيـم وإسماعيـل إن كانا هما بنـياهما ورفعاها فهو ما قلنا، وإن كان إبراهيـم تفرّد ببنائها، وكان إسماعيـل يناوله، فهما أيضا رفعاها لأن رفعها كان بهما من أحدهما البناء من الاَخر نَقْلُ الـحجارة إلـيها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تـمتنع العرب من نسبة البناء إلـى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنـما قلنا ما قلنا من ذلك لإجماع جميع أهل التأويـل علـى أن إسماعيـل معنـيّ بـالـخبر الذي أخبر اللّه عنه وعن أبـيه أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما: رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فمعلوم أن إسماعيـل لـم يكن لـيقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضرّ من النفع، ولزمته فرائض اللّه وأحكامه. وإذا كان فـي حال بناء أبـيه، ما أمره اللّه ببنائه ورفعه قواعد بـيت اللّه كذلك، فمعلوم أنه لـم يكن تاركا معونة أبـيه، إما علـى البناء، وإما علـى نقل الـحجارة. وأيّ ذلك كان منه فقد دخـل فـي معنى من رفع قواعد البـيت، وثبت أن القول الـمضمر خبر عنه وعن والده إبراهيـم علـيهما السلام. فتأويـل الكلام: وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ وَإِسْمَاعِيـلُ يقولان: ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبـادتنا لك فـي انتهائنا إلـى أمرك الذي أمرتنا به فـي بناء بـيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العلـيـم. وفـي إخبـار اللّه تعالـى ذكره أنهما رفعا القواعد من البـيت وهما يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ دلـيـل واضح علـى أن بناءهما ذلك لـم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلاً ينزلانه، بل هو دلـيـل علـى أنهما بنـياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد اللّه تقرّبـا منهما إلـى اللّه بذلك ولذلك قالا: رَبّنا تَقَبّلْ منّا. ولو كانا بنـياه مسكنا لأنفسهما لـم يكن لقولهما: تقبل منا وجه مفهوم، لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلـين أن يتقبل منهما ما لا قربة فـيه إلـيه، ولـيس موضعهما مسألة اللّه قبول، ما لا قربة إلـيه فـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ. وتأويـل قوله: إِنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك فـي بناء بـيتك الذي أمرتنا ببنائه، العلـيـم بـما فـي ضمائر نفوسنا من الإذعان لك فـي الطاعة والـمصير إلـى ما فـيه لك الرضا والـمـحبة، وما نُبدي ونُـخفـي من أعمالنا. كما: ١٥٦٧ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي أبو كثـير، قال: حدثنا سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء. ١٢٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ ...} وهذا أيضا خبر من اللّه تعالـى ذكره عن إبراهيـم وإسماعيـل أنهما كانا يرفعان القواعد من البـيت وهما يقولان: رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ يعنـيان بذلك: واجعلنا مستسلـمين لأمرك خاضعين لطاعتك، لا نُشْرِك معك فـي الطاعة أحدا سواك، ولا فـي العبـادة غيرك. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى الإسلام الـخضوع للّه بـالطاعة. وأما قوله: وَمِنْ ذَرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ فإنهما خَصّا بذلك بعض الذرية لأن اللّه تعالـى ذكره قد كان أعلـم إبراهيـم خـلـيـله صلى اللّه عليه وسلم قبل مسألته هذه أن من ذرّيته من لا ينال عهده لظلـمه وفجوره، فخصا بـالدعوة بعض ذرّيتهما. وقد قـيـل إنهما عنـيا بذلك العرب. ذكر من قال ذلك: ١٥٦٨ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَمِنْ ذُرّيَتِنَا أمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ يعنـيان العرب. وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب علـى خلافه لأن ظاهره يدل علـى أنهما دعوا اللّه أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والـمستـجيبـين لأمره، وقد كان فـي ولد إبراهيـم العرب وغير العرب، والـمستـجيب لأمر اللّه والـخاضع له بـالطاعة من الفريقـين فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيـم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التـحكم الذي لا يعجز عنه أحدوأما الأمة فـي هذا الـموضع، فإنه يعنـي بها الـجماعة من الناس، من قول اللّه : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أمّةٌ يهْدُونَ بـالـحقّ. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأرِنا مَناسِكَنا. اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وأرنا مَناسِكَنا بـمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتـى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الـحجاز والكوفة، وكان بعض من يوجّه تأويـل ذلك إلـى هذا التأويـل يسكن الراء من (أرْنا)، غير أنه يُشِمّها كسرة. واختلف قائل هذه الـمقالة وقراء هذه القراءة فـي تأويـل قوله: مَناسِكَنا فقال بعضهم: هي مناسك الـحجّ ومعالـمه. ذكر من قال ذلك: ١٥٦٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وأرِنا مَناسِكَنا فأراهما اللّه مناسكهما الطواف بـالبـيت، والسعي بـين الصفـا والـمروة، والإفـاضة من عرفـات، والإفـاضة من جمع، ورمي الـجمار، حتـى أكمل اللّه الدين أو دينه. ١٥٧٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: وأرِنا مَناسِكَنا قال: أرنا نُسكنا وحَجّنا. ١٥٧١ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما فرغ إبراهيـم وإسماعيـل من بنـيان البـيت أمره اللّه أن ينادي فقال: وأَذّنْ فِـي النّاسِ بـالـحَجّ فنادى بـين أخشبـي مكة: يا أيها الناس إن اللّه يأمركم أن تـحجوا بـيته قال: فوقرت فـي قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبـيك لبـيك فأجابوه بـالتلبـية: لبـيك اللّه مّ لبـيك وأتاه من أتاه. فأمره اللّه أن يخرج إلـى عرفـات ونَعَتَها فخرج فلـما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان، فرماه بسبع حَصَيَاتٍ يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع علـى الـجمرة الثانـية أيضا، فصدّه فرماه وكبر، فطار فوقع علـى الـجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلـما رأى أنه لا يُطيقه، ولـم يدر إبراهيـم أين يذهب، انطلق حتـى أتـى ذا الـمـجاز، فلـما نظر إلـيه فلـم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا الـمـجاز. ثم انطلق حتـى وقع بعرفـات، فلـما نظر إلـيها عرف النعت، قال: قد عرفتُ فسميت عرفـات. فوقـف إبراهيـم بعرفـات. حتـى إذا أمسى ازدلف إلـى جمع، فسميت الـمزدلفة. فوقـف بجمع. ثم أقبل حتـى أتـى الشيطان حيث لقـيه أوّل مرّة فرماه بسبع حصيات سبع مرّات، ثم أقام بـمنى حتـى فرغ من الـحجّ وأمرِه. وذلك قوله: وأرنَا مَناسِكَنا. وقال آخرون مـمن قرأ هذه القراءة: الـمناسك الـمذابح. فكان تأويـل هذه الآية علـى قول من قال ذلك: وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك. ذكر من قال ذلك: ١٥٧٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء: وأرِنا مَناسِكَنا قال: ذَبْحَنا. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: مذابحنا. ١٥٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ١٥٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: سمعت عبـيد بن عمير يقول: وأرِنا مَنَاسِكَنَا قال: أرنا مذابحنا. وقال آخرون: (وأرْنا مَناسِكَنا) بتسكين الراء. وزعموا أن معنى ذلك: وعلّـمنا ودُلّنا علـيها، لا أن معناها أرناها بـالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يَعْفر أخي الأسود بن يعفر: أرينِـي جَوَادا ماتَ هُزْلاً لأَنّنِـيأرَى ما تَرَينَ أوْ بَخِيلاً مُخـلّدا يعنـي بقوله أرينـي: دلـينـي علـيه وعرّفـينـي مكانه، ولـم يَعْنِ به رؤية العين. وهذه قراءة رُويت عن بعض الـمتقدّمين. ذكر من قال ذلك: ١٥٧٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: أرِنا مَناسِكَنا أخرجها لنا، علـمناها. ١٥٧٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن الـمسيب: قال علـيّ بن أبـي طالب: لـما فرغ إبراهيـم من بناء البـيت، قال: فعلت أي ربّ فأرنا مناسكنا، أبرزها لنا، علـمناها فبعث اللّه جبريـل فحجّ به. والقول واحد، فمن كسر الراء جعل علامة الـجزم سقوط الـياء التـي فـي قول القائل أرنـيه، وأقرّ الراء مكسورة كما كانت قبل الـجزم. ومن سكن الراء من (أرْنا) توهم أن إعراب الـحرف فـي الراء فسكنها فـي الـجزم كما فعلوا ذلك فـي لـم يكن ولـم يَكُ. وسواء كان ذلك من رؤية العين، أو من رؤية القلب. ولا معنى لفَرْقِ من فَرَق بـين رؤية العين فـي ذلك ورؤية القلب. وأما الـمناسك فإنها جمع (مَنْسِك)، وهو الـموضع الذي ينسك للّه فـيه، ويتقرّب إلـيه فـيه بـما يرضيه من عمل صالـح إما بذبح ذبـيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالـحة ولذلك قـيـل لـمشاعر الـحجّ مناسكه، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويتردّدون إلـيها. وأصل الـمَنْسِك فـي كلام العرب: الـموضع الـمعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال: لفلان منسك، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لـخير أو شرّ ولذلك سميت الـمناسك مناسك، لأنها تُعتاد ويتردّد إلـيها بـالـحجّ والعمرة، وبـالأعمال التـي يتقرّب بها إلـى اللّه . وقد قـيـل: إن معنى النسك: عبـادة اللّه ، وأن الناسك إنـما سمي ناسكا بعبـادة ربه، فتأوّل قائل هذه الـمقالة قوله: وأرِنا مَناسِكَنا وعَلّـمْنا عبـادتك كيف نعبدك، وأين نعبدك، وما يرضيك عنا فنفعله. وهذا القول وإن كان مذهبـا يحتـمله الكلام، فإن الغالب علـى معنى الـمناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الـحجّ التـي ذكرنا معناها. وخرج هذا الكلام من قول إبراهيـم وإسماعيـل علـى وجه الـمسألة منهما ربهما لأنفسهما، وإنـما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذرّيتهما الـمسلـمين، فلـما ضما ذريتهما الـمسلـمين إلـى أنفسهما صارا كالـمخبرين عن أنفسهم بذلك. وإنـما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للـمسلـمين من ذريتهما قَبْلُ فـي أوّل الآية، وتأخره بعد فـي الآية الأخرى. فأما الذي فـي أول الآية فقولهما: رَبّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ. ثم جمعا أنفسهما والأمة الـمسلـمة من ذريتهما فـي مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا: وأرِنا مَناسِكَنا. وأما التـي فـي الآية التـي بعدها: رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ فجعلا الـمسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها فـي قراءة ابن مسعود: (وأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ)، يعنـي بذلك: وأر ذريتنا الـمسلـمة مناسكهم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَتُبْ عَلَـيْنَا إِنّكَ أنْتَ التّوابُ الرّحِيـمُ. أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلـى مـحبوب، فتوبة العبد إلـى ربه: أوبته مـما يكرهه اللّه منه بـالندم علـيه والإقلاع عنه، والعزم علـى ترك العود فـيه. وتوبة الربّ علـى عبده: عوده علـيه بـالعفو له عن جُرْمه والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرةً له منه، وتفضلاً علـيه. فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فـاحتاجا إلـى مسألة ربهما التوبة؟ قـيـل: إنه لـيس أحد من خـلق اللّه إلا وله من العمل فـيـما بـينه وبـين ربه ما يجب علـيه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنـما خَصّا به الـحال التـي كانا علـيها من رفع قواعد البـيت، لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستـجيب اللّه فـيها دعاءهما، ولـيجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما، وتتـخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تَنَصّل من الذنوب إلـى اللّه . وجائز أن يكونا عنـيا بقولهما: وتب علـينا وتب علـى الظلـمة من أولادنا وذريتنا، الذين أعلـمتنا أمرهم من ظلـمهم وشركهم، حتـى ينـيبوا إلـى طاعتك. فـيكون ظاهر الكلام علـى الدعاء لأنفسهما، والـمعنـيّ به ذريتهما، كما يقال: أكرمنـي فلان فـي ولدي وأهلـي، وبرّنـي فلان: إذا برّ ولده. وأما قوله: إِنّكَ أنْتَ التواب الرّحِيـمُ فإنه يعنـي به: إنك أنت العائد علـى عبـادك بـالفضل والـمتفضل علـيهم بـالعفو والغفران، الرحيـم بهم، الـمستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، الـمنـجي من تريد نـجاته منهم برأفتك من سخطك. ١٢٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } وهذه دعوة إبراهيـم وإسماعيـل لنبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التـي كان نبـينا صلى اللّه عليه وسلم يقول: (أنا دعوة أبـي إبراهيـم وبشرى عيسى). ١٥٧٧ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا: يا رسول اللّه أخبرنا عن نفسك قال (نعم، أنا دَعْوَةُ أبـي إبْرَاهِيـمَ، وبُشْرَى عِيسَى صلى اللّه عليه وسلم). ١٥٧٨ـ حدثنـي عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا أبو الـيـمان، قال: حدثنا أبو كريب، عن أبـي مريـم، عن سعيد بن سويد، عن العربـاض بن سارية السلـمي، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إنّـي عِنْدَ اللّه فِـي أُمّ الكِتابِ خَاتِـمُ النّبِـيّـينَ وَإِنّ آدَمَ لَـمُنْـجَدِلٌ فِـي طِينَتِه، وَسَوْفَ أُنَبّئُكُمْ بِتَءَاوِيـلِ ذَلِكَ: أنا دَعْوَة أبـي إبْرَاهِيـمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى قَوْمَه وَرُءْويا أُمي). حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي معاوية، وحدثنـي عبـيد بن آدم بن أبـي إياس العسقلانـي، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنا اللـيث بن سعد، عن معاوية بن صالـح، قالا جميعا، عن سعيد بن سويد، عن عبد اللّه بن هلال السلـمي، عن عربـاض بن سارية السلـمي، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلـى بن هلال السلـمي، عن عربـاض بن سارية أنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فذكر نـحوه. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٥٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ففعل اللّه ذلك، فبعث فـيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلـمات إلـى النور، ويهديهم إلـى صراط العزيز الـحميد. ١٥٨٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: رَبنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ هو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٥٨١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع: رَبّنَا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمُ هو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فقـيـل له: قد استـجيب ذلك، وهو فـي آخر الزمان. ويعنـي تعالـى ذكره بقوله: يَتْلُوا عَلَـيْهِمْ آيَاتِكَ يقرأ علـيهم كتابك الذي توحيه إلـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيُعَلّـمهُم الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ. ويعنـي بـالكتاب القرآن. وقد بـينت فـيـما مضى لـم سمي القرآن كتابـا وما تأويـله. وهو قول جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٥٨٢ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ويعلـمهم الكتاب: القرآن. ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحكمة التـي ذكرها اللّه فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: هي السنة. ذكر من قال ذلك: ١٥٨٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، والـحكمة: أي السنة. وقال بعضهم: الـحكمة هي الـمعرفة بـالدين والفقه فـيه. ذكر من قال ذلك: ١٥٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لـمالك: ما الـحكمة؟ قال: الـمعرفة بـالدين، والفقه فـي الدين، والاتبـاع له. ١٥٨٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَالـحكْمَةَ قال: الـحكمة: الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى اللّه عليه وسلم يعلـمهم إياها قال: والـحكمة: العقل فـي الدين وقرأ: وَمَنْ يُؤْتَ الـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِـيَ خَيْرا كَثِـيرا وقال لعيسى: وَيُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَإِلانْـجِيـلَ قال: وقرأ ابن زيد: وَاتْلُ عَلَـيْهِمْ نَبأ الّذِي آتَـيْنَاهُ آياتِنا فـانْسَلَـخَ مِنْهَا قال: لـم ينتفع بـالاَيات حيث لـم تكن معها حكمة قال: والـحكمة شيء يجعله اللّه فـي القلب ينوّر له به. والصواب من القول عندنا فـي الـحكمة، أنها العلـم بأحكام اللّه التـي لا يدرك علـمها إلا ببـيان الرسول صلى اللّه عليه وسلم والـمعرفة بها، وما دلّ علـيه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من (الـحُكْمِ) الذي بـمعنى الفصل بـين الـحقّ والبـاطل بـمنزلة (الـجِلسة والقِعدة) من (الـجلوس والقعود)، يقال منه: إن فلانا لـحكيـم بـيّنُ الـحكمة، يعنـي به أنه لبـيّن الإصابة فـي القول والفعل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويـل الآية: ربنا وابعث فـيهم رسولاً منهم يتلو علـيهم آياتك، ويعلـمهم كتابك الذي تنزله علـيهم، وفصل قضائك، وأحكامك التـي تعلـمه إياها. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَيُزَكّيهِمْ. قد دللنا فـيـما مضى قَبْلُ علـى أن معنى التزكية: التطهير، وأن معنى الزكاة: النـماء والزيادة. فمعنى قوله: ويُزكيهِمْ فـي هذا الـموضع: ويطهرهم من الشرك بـاللّه وعبـادة الأوثان وينـميهم ويكثرهم بطاعة اللّه . كما: ١٥٨٦ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : يَتْلُوا عَلَـيْهِمْ آياتِكَ وَيُزَكّيهِمْ قال: يعنـي بـالزكاة، طاعة اللّه والإخلاص. ١٥٨٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قوله: وَيُزَكّيهِمْ قال: يطهرهم من الشرك ويخـلصهم منه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إِنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إنك يا ربّ أنت العزيز القويّ الذي لا يعجزه شيء أراده، فـافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك. والـحكيـم: الذي لا يدخـل تدبـيره خَـلَلٌ ولا زَلَلٌ، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك. ١٣٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيـمَ وأيّ الناس يزهد فـي ملة إبراهيـم ويتركها رغبة عنها إلـى غيرها. وإنـما عنى اللّه بذلك الـيهود والنصارى لاختـيارهم ما اختاروا من الـيهودية والنصرانـية علـى الإسلام لأن ملة إبراهيـم هي الـحنـيفـية الـمسلـمة، كما قال تعالـى ذكره: مَا كَانَ إِبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِـيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِـيفـا مُسْلِـما فقال تعالـى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيـم الـحنـيفـية الـمسلـمة إلا من سَفِهَ نَفْسَه. كما: ١٥٨٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَمَنْ يَرْغب عَن مِلّةِ إِبْرَاهِيـمَ إلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَه رغب عن ملته الـيهود والنصارى، واتـخذوا الـيهودية والنصرانـية بدعة لـيست من اللّه ، وتركوا ملة إبراهيـم يعنـي الإسلام حنـيفـا، كذلك بعث اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بـملة إبراهيـم. ١٥٨٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ إِبْرَاهِيـمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ قال: رغبت الـيهود والنصارى عن ملة إبراهيـم وابتدعوا الـيهودية والنصرانـية ولـيست من اللّه ، وتركوا ملة إبراهيـم الإسلام. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ إلا من سَفِهتْ نفسُه، وقد بـينا فـيـما مضى أن معنى السفه: الـجهل. فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيـم الـحنـيفـية إلا سفـيهٌ جاهلٌ بـموضع حظّ نفسه فـيـما ينفعها ويضرّها فـي معادها. كما: ١٥٩٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ قال: إلا من أخطأ حظه. وإنـما نصب (النفس) علـى معنى الـمفسر ذلك أن السفه فـي الأصل للنفس، فلـما نقل إلـى (مَنْ) نصبت (النفس) بـمعنى التفسير، كما يقال: هو أوسعكم دارا، فتدخـل (الدار) فـي الكلام علـى أن السعة فـيه لا فـي الرجل. فكذلك النفس أدخـلت، لأن السفه للنفس لا ل(مَنْ) ولذلك لـم يجز أن يقال سفه أخوك، وإنـما جاز أن يفسر بـالنفس وهي مضافة إلـى معرفة لأنها فـي تأويـل نكرة. وقال بعض نـحويـي البصرة: إن قوله: سَفِهَ نَفْسَهُ جرت مـجرى (سَفِهَ) إذا كان الفعل غير متعدّ. وإنـما عدّاه إلـى (نفسه) و(رأيه) وأشبـاه ذلك مـما هو فـي الـمعنى نـحو سفه، إذا هو لـم يتعدّ. فأما (غبن) و(خسر) فقد يتعدّى إلـى غيره، يقال: غبن خمسين، وخسر خمسين. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَقَدِ اصطَفَـيْنَاهُ فِـي الدنْـيَا. يعنـي تعال ذكره بقوله: وَلَقَدِ اصْطَفَـيْنَاهُ فِـي الدّنْـيَا ولقد اصطفـينا إبراهيـم، والهاء التـي في قوله: اصْطَفْـيَنَاهُ من ذكر إبراهيـم. والاصطفـاء: الافتعال من الصفوة، وكذلك اصطفـينا افتعلنا منه، صيرت تاؤها طاءً لقرب مخرجها من مخرج الصاد. ويعنـي بقوله: اصْطَفَـيْنَاهُ اخترناه واجتبـيناه للـخُـلّة، ونُصَيّره فـي الدنـيا لـمن بعده إماما. وهذا خبر من اللّه تعالـى ذكره عن أن من خالف إبراهيـم فـيـما سنّ لـمن بعده فهو للّه مخالف، وإعلام منه خـلقه أن من خالف ما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فهو لإبراهيـم مخالف وذلك أن اللّه تعالـى ذكره أخبر أنه اصطفـاه لـخُـلّته، وجعله للناس إماما، وأخبر أن دينه كان الـحنـيفـية الـمسلـمة. ففـي ذلك أوضح البـيان من اللّه تعالـى ذكره عن أنّ من خالفه فهو للّه عدوّ لـمخالفته الإمام الذي نصبه اللّه لعبـاده. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإِنّهُ فِـي الاَخِرَةِ لَـمِنَ الصالِـحِينَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَإِنّهُ فِـي الاَخِرَةِ لَـمِنَ الصّالِـحِينَ وإن إبراهيـم فـي الدار الاَخرة لـمن الصالـحين. والصالـح من بنـي آدم هو الـمؤدّي حقوق اللّه علـيه. فأخبر تعالـى ذكره عن إبراهيـم خـلـيـله أنه فـي الدنـيا له صفـيّ، وفـي الاَخرة ولـيّ، وإنه وارد موارد أولـيائه الـموفّـين بعهده. ١٣١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أسْلِـمْ إذ قال له ربه: أخـلص لـي العبـادة، واخضع لـي بـالطاعة، وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الإسلام فـي كلام العرب، فأغنى عن إعادته. وأما معنى قوله: قَالَ أسْلَـمْت لِرَبّ العَالَـمِينَ فإنه يعنـي تعالـى ذكره: قال إبراهيـم مـجيبـا لربه: خضعت بـالطاعة، وأخـلصت بـالعبـادة لـمالك جميع الـخلائق ومدبرها دون غيره. فإن قال قائل: قد علـمت أن (إذْ) وقت فما الذي وُقّت به، وما الذي صلة؟ قـيـل: هو صلة لقوله: وَلَقَدِ اصْطَفَـيْنَاهُ فِـي الدّنْـيَا. وتأويـل الكلام: ولقد اصطفـيناه فـي الدنـيا حين قال له ربه أسلـم، قال: أسلـمت لربّ العالـمين. فأظهر اسم (اللّه ) في قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أسْلِـمْ علـى وجه الـخبر عن غائب، وقد جرى ذكره قبل علـى وجه الـخبر عن نفسه، كما قال خُفـاف بن ندبة: أقُول لَهُ وَالرّمْـحُ يأطُرُ مَتْنُهُتأمّلْ خُفـافـا إنّنِـي أنا ذَالِكَا فإن قال لنا قائل: وهل دعا اللّه إبراهيـم إلـى الإسلام؟ قـيـل له: نعم، قد دعاه إلـيه. فإن قال: وفـي أي حال دعاه إلـيه؟ قـيـل: حين قال: يا قَوْمِ إِنِـي بَرِيءٌ مِـمّا تُشْرِكُونَ إنّـي وَجّهْتُ وجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَوَاتِ وَأَلارْضِ حَنِـيفـا وَمَا أَنَا مِنَ الـمُشْرِكِينَ وذلك هو الوقت الذي قال له ربه أسلـم من بعد ما امتـحنه بـالكواكب والقمر والشمس. ١٣٢القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَوَصّىَ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيّ ... } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَوَصّى بِهَا ووصى بهذه الكلـمة أعنـي بـالكلـمة قوله: أسْلَـمْتُ لِرَبّ العالَـمِينَ وهي الإسلام الذي أمر به نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وهو إخلاص العبـادة والتوحيد للّه، وخضوع القلب والـجوارح له. ويعنـي بقوله: وَوَصّى بها إبْرَاهِيـمَ بَنِـيه عهد إلـيهم بذلك وأمرهم بهوأما قوله: وَيَعْقُوبُ فإنه يعنـي: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنـيه. كما: ١٥٩١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَوَصَى بِها إبْرَاهِيـمَ بَنِـيه وَيَعْقُوبُ يقول: ووصى بها يعقوبُ بنـيه بعد إبراهيـم. ١٥٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَوَصّى بِها إِبْرَاهِيـمَ بَنِـيـيِه وصاهم بـالإسلام، ووصى يعقوبُ بـمثل ذلك. وقال بعضهم: قوله: وَوَصى بِها إِبْرَاهِيـمَ بَنِـيهِ خبر مُنْقَضٍ، وقوله: وَيَعْقُوبُ خبر مبتدأ، فإنه قال: ووصى بها إبراهيـم بنـيه بأن يقولوا: أسلـمنا لرب العالـمين، ووصى يعقوب بنـيه أن: يا بنـيّ إِنّ اللّه اصْطَفَـى لَكُم الدّينَ فَلاَ تَـمُوتُن إِلا وأَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ. ولا معنى لقول من قال ذلك لأن الذي أوصى به يعقوبُ بنـيه نظير الذي أوصى به إبراهيـم بنـيه من الـحثّ علـى طاعة اللّه والـخضوع له والإسلام. فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت من أن معناه: ووصى بها إبراهيـم بنـيه ويعقوبُ أن يا بنـيّ، فما بـال (أنْ) مـحذوفة من الكلام؟ قـيـل: لأن الوصية قول فحملت علـى معناها، وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ القول لـم تـحسن معه (أن)، وإنـما كان يقال: وقال إبراهيـم لبنـيه ويعقوب: (يا بنـيّ)، فلـما كانت الوصية قولاً حملت علـى معناها دون قولها، فحذفت (أن) التـي تـحسن معها، كما قال تعالـى ذكره: يُوصِيكُمْ اللّه فِـي أوْلاَدِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ أُلانْثَـيَـيْنِ وكما قال الشاعر: إِنّـي سابْدِي لَكَ فِـيـمَا أُبْدِيلِـي شَجَنانِ شَجَنٌ بِنَـجْدِ وَشَجَنٌ لِـي ببلادِ السّنْدِ فحذفت (أن) إذ كان الإبداء بـاللسان فـي الـمعنى قولاً، فحمله علـى معناه دون لفظه. وقد قال بعض أهل العربـية: إنـما حذفت (أن) من قوله: وَوَصّى بِهَا إِبْرَاهِيـمُ بَنِـيهِ وَيَعْقُوبُ بـاكتفـاء النداء، يعنـي بـالنداء قوله: (يا بنـيّ)، وزعم أن علته فـي ذلك أن من شأن العرب الاكتفـاء بـالأدوات عن (أن) كقولهم: ناديت هل قمت؟ وناديت أين زيد؟ قال: وربـما أدخـلوها مع الأدوات فقالوا: ناديت أن هل قمت؟ وقد قرأ عهد إلـيهم عهدا بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية. القول فـي تأويـل قوله تعالى: يا بَنِـيّ إِنّ اللّه اصْطَفَـى لَكُم الدّينَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إِنّ اللّه اصْطَفَـى لَكُم الدّينَ إن اللّه اختار لكم هذا الدين الذي عهد إلـيكم فـيه واجتبـاه لكم. وإنـما أدخـل الألف واللام فـي (الدين)، لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنـيهما بذلك كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به وعهدهما إلـيهم فـيه، ثم قالا لهم بعد أن عَرّفَـاهُموه: إن اللّه اصطفـى لكم هذا الدين الذي قد عهد إلـيكم فـيه، فـاتقوا اللّه أن تـموتوا إلا وأنتـم علـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَلاَ تَـمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ. إن قال لنا قائل: أَوَ إلـى بنـي آدم الـموت والـحياة فـينهى أحدهم أن يـموت إلا علـى حالة دون حالة؟ قـيـل له: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي ظننت، وإنـما معناه: فَلاَ تَـمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ أي فلا تفـارقوا هذا الدين وهو الإسلام أيام حياتكم وذلك أن أحدا لا يدري متـى تأتـيه منـيته، فلذلك قالا لهم: فَلاَ تَـمُوتُنّ إِلاّ وأنْتُـمْ مُسلِـمُونَ لأنكم لا تدرون متـى تأتـيكم مناياكم من لـيـل أو نهار، فلا تفـارقوا الإسلام فتأتـيكم مناياكم وأنتـم علـى غير الدين الذي اصطفـاه لكم ربكم فتـموتوا وربكم ساخط علـيكم فتهلكوا.) ١٣٣القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أمْ كُنْتُـمْ شهَدَاءَ أكنتـم، ولكنه استفهم ب(أمْ) إذ كان استفهاما مستأنفـا علـى كلام قد سبقه، كما قـيـل: الـم تَنْزِيـل الكِتابِ لا رَيْبَ فِـيهِ مِنْ رَبّ العَالَـمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ، وكذلك تفعل العرب فـي كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فـيه ب(أمْ)، والشهداء جمع شهيد كما الشركاء جمع شريك، والـخصماء جمع خصيـم. وتأويـل الكلام: أكنتـم يا معشر الـيهود والنصارى الـمكذّبـين بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، الـجاحدين نبوّته، حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الـموت، أي أنكم لـم تـحضروا ذلك. فلا تدّعوا علـى أنبـيائي ورسلـي الأبـاطيـل، وتنـحلوهم الـيهودية والنصرانـية، فإنـي ابتعثت خـلـيـلـي إبراهيـم وولده إسحاق وإسماعيـل وذرّيتهم بـالـحنـيفـية الـمسلـمة، وبذلك وصوا بنـيهم وبه عهدوا إلـى أولادهم من بعدهم، فلو حضرتـموهم فسمعتـم منهم علـمتـم أنهم علـى غير ما تنـحلوهم من الأديان والـملل من بعدهم. وهذه آيات نزلت تكذيبـا من اللّه تعالـى للـيهود والنصارى فـي دعواهم فـي إبراهيـم وولده يعقوب أنهم كانوا علـى ملتهم، فقال لهم فـي هذه الآية: أمْ كُنْتُـمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبُ الـمَوْتُ فتعلـموا ما قال لولده وقال له ولده. ثم أعلـمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٥٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: أمْ كُنْتُـمْ شُهَدَاءَ يعنـي أهل الكتاب. القول فـي تأويـل قوله تعالى: إذْ قَالَ لِبَنِـيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَـائِكَ إبْرَاهِيـمَ وَإِسْماعِيـلَ وإِسْحَاقَ إلَها وَاحِدا وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ قالَ لِبَنِـيهِ إذ قال يعقوب لبنـيه. و(إذ) هذه مكرّرة إبدالاً من (إذْ) الأولـى بـمعنى: أم كنتـم شهداء يعقوب إذ قال يعقوب لبنـيه حين حضور موته. ويعنـي بقوله: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي شيء تعبدون من بعدي، أي من بعد وفـاتـي. قَالُوا نَعبدُ إلهَكَ يعنـي به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبـائك إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق إلها واحدا، أي نـخـلص له العبـادة ونوحد له الربوبـية فلا نشرك به شيئا ولا نتـخذ دونه ربـا. ويعنـي بقوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ ونـحن له خاضعون بـالعبودية والطاعة. ويحتـمل قوله: وَنَـحْن لَه مُسْلِـمُونَ أن تكون بـمعنى الـحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلـمين له بطاعتنا وعبـادتنا إياه. ويحتـمل أن يكون خبرا مستأنفـا، فـيكون بـمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونـحن له الاَن وفـي كل حال مسلـمون. وأحسن هذين الوجهين فـي تأويـل ذلك أن يكون بـمعنى الـحال، وأن يكون بـمعنى: نعبد إلَهك وإله آبـائك إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق مسلـمين لعبـادته. وقـيـل: إنـما قدم ذكر إسماعيـل علـى إسحاق لأن إسماعيـل كان أسنّ من إسحاق. ذكر من قال ذلك: ١٥٩٤ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قَالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وَإِلَهَ آبَـائِكَ إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ وَإِسحَاقَ قال: يقال بدأ بإسماعيـل لأنه أكبر. وقرأ بعض الـمتقدمين: (وَإِله أبِـيكَ إِبْرَاهِيـمَ) ظنّا منه أن إسماعيـل إذ كان عمّا لـيعقوب، فلا يجوز أن يكون فـيـمن تُرْجم به عن الاَبـاء وداخلاً فـي عدادهم. وذلك من قارئه كذلك قلة علـم منه بـمـجاري كلام العرب. والعرب لا تـمتنع من أن تـجعل الأعمام بـمعنى الاَبـاء، والأخوال بـمعنى الأمهات، فلذلك دخـل إسماعيـل فـيـمن ترجم به عن الاَبـاء. وإبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ترجمة عن الاَبـاء فـي موضع جرّ، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرّون. والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: وإِلهَ آبَـائِكَ لإجماع القرّاء علـى تصويب ذلك وشذوذ من خالفه من القراء مـمن قرأ خلاف ذلك، ونصب قوله إلها علـى الـحال من قوله إلهك. ١٣٤القول فـي تأويـل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَـلَتْ إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب وولدهم. يقول للـيهود والنصارى: يا معشر الـيهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والـمسلـمين من أولادهم بغير ما هم أهله ولا تنـحلوهم كفر الـيهودية والنصرانـية فتضيفوها إلـيهم، فإنهم أمة ويعنـي بـالأمة فـي هذا الـموضع الـجماعة، والقرن من الناس قد خـلت: مضت لسبـيـلها. وإنـما قـيـل للذي قد مات فذهب: قد خلا، لتـخـلّـيه من الدنـيا، وانفراده بـما كان من الأنس بأهله وقرنائه فـي دنـياه، وأصله من قولهم: خلا الرجل، إذا صار بـالـمكان الذي لا أنـيس له فـيه وانفرد من الناس، فـاستعمل ذلك فـي الذي يـموت علـى ذلك الوجه. ثم قال تعالـى ذكره للـيهود والنصارى: إنّ لـمن نـحلتـموه بضلالكم وكفركم الذي أنتـم علـيه من أنبـيائي ورسلـي ما كسبت. والهاء والألف في قوله: لَهَا عائدة إن شئت علـى (تلك)، وإن شئت علـى (الأمة). ويعنـي بقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ أي ما عملت من خير، ولكم يا معشر الـيهود والنصارى مثل ذلك ما عملتـم. ولا تؤاخذون أنتـم أيها الناحلون ما نـحلتـموهم من الـملل، فتُسألوا عما كان إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون فـيكسبون من خير وشرّ لأن لكل نفس ما كسبت، وعلـيها ما اكتسبت. فدعوا انتـحالهم وانتـحال مللّهم، فإن الدعاوى غير مغنـيتكم عند اللّه ، وإنـما يغنـي عنكم عنده ما سلف لكم من صالـح أعمالكم إن كنتـم عملتـموها وقدمتـموها. ١٣٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُواْ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَقالُوا كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا وقالت الـيهود لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من الـمؤمنـين: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا. تعنـي بقولها تهتدوا: أي تصيبوا طريق الـحقّ. كما: ١٥٩٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال عبد اللّه بن صُوريا الأعور لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نـحن علـيه، فـاتبعنا يا مـحمد تَهْتَدِ وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل اللّه عزّ وجل فـيهم: وَقَالُوا كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفـا وَما كانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ. احتـجّ اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلـمها مـحمدا نبـيه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا مـحمد قل للقائلـين لك من الـيهود والنصارى ولأصحابك: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، بل تعالوا نتبع ملة إبراهيـم التـي تـجمع جميعنا علـى الشهادة لها بأنها دين اللّه الذي ارتضاه واجتبـاه وأمر به، فإن دينه كان الـحنـيفـية الـمسلـمة، وندع سائر الـملل التـي نـختلف فـيها فـينكرها بعضنا ويقرّ بها بعضنا، فإن ذلك علـى اختلافه لا سبـيـل لنا علـى الاجتـماع علـيه كما لنا السبـيـل إلا الاجتـماع علـى ملة إبراهيـم. وفـي نصب قوله: بَلْ مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ أوجه ثلاثة: أحدها أن يوجه معنى قوله: وَقَالُوا كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى إلـى معنى: وقالوا اتبعوا الـيهودية والنصرانـية، لأنهم إذ قالوا: كونوا هودا أو نصارى إلـى الـيهودية والنصرانـية دعوهم، ثم يعطف علـى ذلك الـمعنى بـالـملة، فـيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا مـحمد لا نتبع الـيهودية والنصرانـية، ولا نتـخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيـم حنـيفـا، ثم يحذف (نتبع) الثانـية، ويعطف بـالـملة علـى إعراب الـيهوية والنصرانـية. والاَخر أن يكون نصبه بفعل مضمر بـمعنى نتبع. والثالث أن يكون أُرِيدَ: بل نكون أصحاب ملة إبراهيـم، أو أهل ملة إبراهيـم ثم حدف (الأهل) و(الأصحاب)، وأقـيـمت (الـملة) مقامهم، إذ كانت مؤدّية عن معنى الكلام، كما قال الشاعر: حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِـي عَنَاقاومَا هِيَ وَيْبَ غَيْركَ بـالعَنَاقِ يعنـي صوت عناق، فتكون الـملة حينئذ منصوبة عطفـا فـي الإعراب علـى الـيهود والنصارى. وقد يجوز أن يكون منصوبـا علـى وجه الإغراء، بـاتبـاع ملة إبراهيـم. وقرأ بعض القرّاء ذلك رفعا، فتأويـله علـى قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيـم. القول فـي تأويـل قوله تعالى: بَلْ مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفـا وَما كانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ. والـملة: الدينوأما الـحنـيف: فإنه الـمستقـيـم من كل شيء. وقد قـيـل: إن الرجل الذي تُقْبل إحدى قدميه علـى الأخرى إنـما قـيـل له أحنف نظرا له إلـى السلامة، كما قـيـل للـمهلكة من البلاد: الـمفـازة، بـمعنى الفوز بـالنـجاة منها والسلامة وكما قـيـل للّديغ: السلـيـم، تفـاؤلاً له بـالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك. فمعنى الكلام إذا: قل يا مـحمد بل نتبع ملة إبراهيـم مستقـيـما. فـيكون الـحنـيف حينئذ حالاً من إبراهيـم. وأما أهل التأويـل فإنهم اختلفوا فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: الـحنـيف: الـحاجّ. وقـيـل: إنـما سمي دين إبراهيـم الإسلام الـحنـيفـية، لأنه أوّل إمام لزم العبـادَ الذين كانوا فـي عصره والذين جاءوا بعده إلـى يوم القـيامة اتّبـاعُه فـي مناسك الـحجّ، والائتـمام به فـيه. قالوا: فكلّ من حجّ البـيت فنسك مناسك إبراهيـم علـى ملته، فهو حنـيف مسلـم علـى دين إبراهيـم. ذكر من قال ذلك: ١٥٩٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا القاسم بن الفضل، عن كثـير أبـي سهل، قال: سألت الـحسن عن الـحنـيفـية، قال: حجّ البـيت. ١٥٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن عبـادة الأسدي، قال: حدثنا عبد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا فضيـل، عن عطية في قوله: حَنِـيفـا قال: الـحنـيف: الـحاجّ. حدثنـي الـحسين بن علـيّ الصدائي، قال: حدثنا أبـي، عن الفضيـل، عن عطية مثله. ١٥٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سالـم، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد، قال: الـحنـيف: الـحاجّ. ١٥٩٩ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن التـيـمي، عن كثـير بن زياد، قال: سألت الـحسن عن الـحنـيفـية، قال: هو حجّ هذا البـيت قال ابن التـيـمي: وأخبرنـي جويبر، عن الضحاك بن مزاحم مثله. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن مـجاهد: حُنَفَـاءَ قال: حجاجا. ١٦٠٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله: حَنِـيفـا قال: حاجّا. ١٦٠١ـ حدثت عن وكيع، عن فضيـل بن غزوان عن عبد اللّه بن القاسم، قال: كان الناس من مُضَر يحجون البـيت فـي الـجاهلـية يسمون حنفـاء، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: حُنَفَـاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. وقال آخرون: الـحنـيف: الـمتبع، كما وصفنا قَبْلُ من قول الذين قالوا: إن معناه الاستقامة. ذكر من قال ذلك: ١٦٠٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: حُنَفَـاءَ قال: متبعين. وقال آخرون: إنـما سمي دين إبراهيـم الـحنـيفـية، لأنه أوّل إمام سنّ للعبـاد الـختان، فـاتبعه من بعده علـيه. قالوا: فكل من اختتن علـى سبـيـل اختتان إبراهيـم، فهو علـى ما كان علـيه إبراهيـم من الإسلام، فهو حنـيف علـى ملة إبراهيـم. وقال آخرون: بل ملة إبراهيـم حنـيفـا، بل ملة إبراهيـم مخـلصا، فـالـحنـيف علـى قولهم: الـمخـلص دِينَهُ للّه وحده. ذكر من قال ذلك: ١٦٠٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَاتّبعْ مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفـا يقول: مخـلصا. وقال آخرون: بل الـحنـيفـية الإسلام، فكل من ائتـمّ بإبراهيـم فـي ملته فـاستقام علـيها فهو حنـيف. قال أبو جعفر: الـحنـيف عندي هو الاستقامة علـى دين إبراهيـم واتبـاعه علـى ملته. وذلك أن الـحنـيفـية لو كانت حجّ البـيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه فـي الـجاهلـية من أهل الشرك كانوا حنفـاء، وقد نفـى اللّه أن يكون ذلك تـحنفـا بقوله: وَلَكِنْ كَانَ حَنِـيفـا مُسْلِـما وَما كَانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ فكذلك القول فـي الـختان لأن الـحنـيفـية لو كانت هي الـختان لوجب أن يكون الـيهود حنفـاء، وقد أخرجهم اللّه من ذلك بقوله: ما كَانَ إبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلا نَصْرَانِـيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِـيفـا مُسْلِـما. فقد صحّ إذا أن الـحنـيفـية لـيست الـختان وحده، ولا حجّ البـيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا من الاستقامة علـى ملة إبراهيـم واتبـاعه علـيها والائتـمام به فـيها. فإن قال قائل: فكيف أضيف (الـحنـيفـية) إلـى إبراهيـم وأتبـاعه علـى ملته خاصة دون سائر الأنبـياء قبله وأتبـاعهم؟ قـيـل: إن كل من كان قبل إبراهيـم من الأنبـياء كان حنـيفـا متبعا طاعة اللّه ، ولكن اللّه تعالـى ذكره لـم يجعل أحدا منهم إماما لـمن بعده من عبـاده إلـى قـيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيـم، فجعله إماما فـيـما بـينه من مناسك الـحجّ والـختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبدا به أبدا إلـى قـيام الساعة، وجعل ما سنّ من ذلك عَلَـما مـميزا بـين مؤمنـي عبـاده وكفـارهم والـمطيع منهم له والعاصي، فسمي الـحنـيف من الناس حنـيفـا بـاتبـاعه ملته واستقامته علـى هديه ومنهاجه، وسمي الضالّ عن ملته بسائر أسماء الـملل، فقـيـل: يهودي ونصرانـي ومـجوسي، وغير ذلك من صنوف الـملل. وأما قوله: وَما كانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ يقول: إنه لـم يكن مـمن يدين بعبـادة الأوثان والأصنام، ولا كان من الـيهود، ولا من النصارى، بل كان حنـيفـا مسلـما. ١٣٦القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُولُوَاْ آمَنّا بِاللّه وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قولوا أيها الـمؤمنون لهؤلاء الـيهود والنصارى الذين قالوا لكم: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا: آمنّا، أي صدّقنا بـاللّه . وقد دللنا فـيـما مضى أن معنى الإيـمان التصديق بـما أغنى عن إعادته. وما أنزل إلـينا يقول أيضا: صدّقنا بـالكتاب الذي أنزل اللّه إلـى نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. فأضاف الـخطاب بـالتنزيـل إلـيهم إذْ كانوا مُتّبعيه ومأمورين منهيـين به، فكان وإن كان تنزيلاً إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمعنى التنزيـل إلـيهم للذي لهم فـيه من الـمعانـي التـي وصفت. ويعنـي بقوله: وَما أنْزِلَ إلـى إبْرَاهِيـمَ صدّقنا أيضا وآمنّا بـما أنزل إلـى إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط، وهم الأنبـياء من ولد يعقوب. وقوله: وَما أوتـيَ مُوسَى وعِيسَى يعنـي: وآمنّا أيضا بـالتوارة التـي آتاها اللّه موسى، وبـالإنـجيـل الذي آتاه اللّه عيسى، والكتب التـي آتـى النبـيـين كلهم، وأقررنا وصدّقنا أن ذلك كله حقّ وهدى ونور من عند اللّه . وأن جميع من ذكر اللّه من أنبـيائه كانوا علـى حقّ وهدى يصدّق بعضهم بعضا علـى منهاج واحد فـي الدعاء إلـى توحيد اللّه والعمل بطاعته، لا نُفَرّق بَـيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ يقول: لا نؤمن ببعض الأنبـياء ونكفر ببعض، ونتبرأ من بعض، ونتولّـى بعضا، كما تبرأت الـيهود من عيسى ومـحمد علـيهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبـياء، وكما تبرأت النصارى من مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأقرّت بغيره من الأنبـياء بل نشهد لـجميعهم أنهم كانوا رسل اللّه وأنبـياءه، بعثوا بـالـحقّ والهدى. وأما قوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ فإنه يعنـي تعالـى ذكره: ونـحن له خاضعون بـالطاعة، مذعنون له بـالعبودية. فذُكر أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك للـيهود، فكفروا بعيسى وبـمن يؤمن به. كما: ١٦٠٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: أتـى رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم نفرٌ من الـيهود فـيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبـي رافع وعازر وخالد وزيد وأزار بن أبـي أزار وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: (أؤمنُ بـاللّه وَما أُنْزِلَ إلَـيْنَا، وَما أنْزلَ إلـى إبْرَاهِيـمَ وإسمَاعِيـلَ وَإسحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسبْـاطِ، وَما أوتَـى مُوسَى وَعِيسَى، وَما أوتَـى النّبِـيّونَ مِنْ رَبّهِمْ، لا نُفَرّق بَـيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ). فلـما ذكر عيسى جحدوا نبوّته و قالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بـمن آمن به. فأنزل اللّه فـيهم: قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا بِـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْنَا وَما أنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وأنّ أكثرَكُمْ فـاسِقُونَ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نـحوه، إلا أنه قال: ونافع بن أبـي نافع، مكان رافع بن أبـي رافع. وقال قتادة: أنزلت هذه الآية أمرا من اللّه تعالـى ذكره للـمؤمنـين بتصديق رسله كلهم. ١٦٠٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قُولُوا آمَنّا بِـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْنَا وَما أُنْزِلَ إلـى إبْرَاهِيـمَ إلـى قوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ أمر اللّه الـمؤمنـين أن يؤمنوا ويصدّقوا بأنبـيائه ورسله كلهم، ولا يفرّقوا بـين أحد منهم. وأما الأسبـاط الذين ذكرهم فهم اثنا عشر رجلاً من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيـم، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسُموا أسبـاطا. كما: ١٦٠٦ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأسبـاط: يوسف وإخوته بنو يعقوب، ولد اثنـي عشر رجلاً، فولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا أسبـاطا. ١٦٠٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما الأسبـاط فهم بنو يعقوب: يوسف، وبنـيامين، وروبـيـل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاث. ١٦٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الأسبـاط: يوسف وإخوته بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، فولد لكل رجل منهم أمة من الناس، فسموا الأسبـاط. ١٦٠٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: نكح يعقوب بن إسحاق وهو إسرائيـل ابنة خاله لـيا ابنة لـيان بن توبـيـل بن إلـياس، فولدت له روبـيـل بن يعقوب، وكان أكبر ولده، وشمعون بن يعقوب، ولاوي بن يعقوب، ويهوذا بن يعقوب، وريالون بن يعقوب، ويشجر بن يعقوب ودينة بنت يعقوب. ثم توفـيت لـيا بنت لـيان، فخـلف يعقوب علـى أختها راحيـل بنت لـيان بن توبـيـل بن إلـياس، فولدت له يوسف بن يعقوب وبنـيامين، وهو بـالعربـية أسد، وولد له من سريّتـين له اسم إحداهما زلفة، واسم الأخرى بلهية أربعة نفر: دان بن يعقوب، ونفثالـي بن يعقوب، وجاد بن يعقوب، وإشرب بن يعقوب. فكان بنو يعقوب اثنـي عشر رجلاً، نشر اللّه منه اثنـي عشر سبطا لا يحصى عددهم ولا يعلـم أنسابهم إلا اللّه ، يقول اللّه تعالـى: وَقَطّعْنَاهُمُ اثْنَتَـيْ عَشَرَةَ أسْبـاطا أُمَـما. ١٣٧القول فـي تأويـل قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْلِ مَا آمَنْتُـمْ بِهِ فإن صدق الـيهود والنصارى بـاللّه وما أنزل إلـيكم وما أنزل إلـى إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط، وما أوتـي موسى وعيسى، وما أوتـي النبـيون من ربهم، وأقرّوا بذلك مثل ما صدقتـم أنتـم به أيها الـمؤمنون وأقررتـم، فقد وُفّقوا ورَشِدُوا ولزموا طريق الـحقّ واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتـم منهم بدخولهم فـي ملتكم بإقرارهم بذلك. فدلّ تعالـى ذكره بهذه الآية علـى أنه لـم يقبل من أحد عملاً إلا بـالإيـمان بهذه الـمعانـي التـي عدها قبلها. كما: ١٦١٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْلِ مَا آمَنْتُـمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدُوا ونـحو هذا، قال: أخبر اللّه سبحانه أن الإيـمان هو العروة الوثقـى، وأنه لا يقبل عملاً إلا به، ولا تَـحْرُمُ الـجنة إلا علـى من تركه. وقد روي عن ابن عبـاس فـي ذلك قراءة جاءت مصاحف الـمسلـمين بخلافها، وأجمعت قرّاء القرآن علـى تركها. وذلك ما: ١٦١١ـ حدثنا به مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي حمزة، قال: قال ابن عبـاس : لا تقولوا: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْلِ ما آمَنْتُـمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا فإنه لـيس للّه مثل، ولكن قولوا: (فإن آمنوا بـالذين آمنتـم به فقد اهتدوا)، أو قال: (فإن آمنوا بـما آمنتـم به). فكأن ابن عبـاس فـي هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه يوجه تأويـل قراءة من قرأ: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْلِ ما آمَنْتُـمْ بِهِ: فإن آمنوا بـمثل اللّه ، وبـمثل ما أنزل علـى إبراهيـم وإسماعيـل وذلك إذا صرف إلـى هذا الوجه شرك لا شكّ بـاللّه العظيـم، لأنه لا مثل للّه تعالـى ذكره، فنؤمن أو نكفر به. ولكن تأويـل ذلك علـى غير الـمعنى الذي وجه إلـيه تأويـله، وإنـما معناه ما وصفنا، وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بـما صدقتـم به من جميع ما عددنا علـيكم من كتب اللّه وأنبـيائه، فقد اهتدوا. فـالتشبـيه إنـما وقع بـين التصديقـين والإقرارين اللذين هما إيـمان هؤلاء وإيـمان هؤلاء، كقول القائل: مرّ عمرو بأخيك مثل ما مررت به، يعنـي بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مروري به، والتـمثـيـل إنـما دخـل تـمثـيلاً بـين الـمروريـين، لا بـين عمرو وبـين الـمتكلـم فكذلك قوله: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْلِ ما آمَنْتُـمْ بِهِ إنـما وقع التـمثـيـل بـين الإيـمانـين لا بـين الـمُؤْمنَ به. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَإنْ تَوَلّوْا فإنّـمَا هُمْ فِـي شِقاقٍ. يعنـي تعالـى ذكر بقوله: وَإنْ تَوَلّوْا وإن تولـى هؤلاء الذين قالوا لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه كونوا هودا أو نصارى، فأعرضوا، فلـم يؤمنوا بـمثل إيـمانكم أيها الـمؤمنون بـاللّه ، وبـما جاءت به الأنبـياء، وابتعثت به الرسل، وفرقوا بـين رسل اللّه ، وبـين اللّه ورسله، فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض، فـاعلـموا أيها الـمؤمنون أنهم إنـما هم فـي عصيان وفراق وحرب للّه ولرسوله ولكم. كما: ١٦١٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن قتادة: فَإنّـمَا هُمْ فِـي شِقَاقٍ أي فـي فراق. ١٦١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فإنـمَا هُمْ فِـي شِقَاقٍ يعنـي فراق. ١٦١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَإنْ تَوَلّوْا فَإنّـمَا هُمْ فِـي شِقَاقٍ قال: الشقاق: الفراق والـمـحاربة، إذا شاقّ فقد حارب، وإذا حارب فقد شاق، وهما واحد فـي كلام العرب. وقرأ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرّسُولَ. وأصل الشقاق عندنا واللّه أعلـم مأخوذ من قول القائل: (شقّ علـيه هذا الأمر) إذا كَرَ به وآذاه، ثم قـيـل: (شاق فلان فلانا) بـمعنى: نال كل واحد منهما من صاحبه ما كَرَ به وآذاه وأثقلته مساءته، ومنه قول اللّه تعالـى ذكره: وَإنْ خِفْتُـمْ شِقَاقَ بَـيْنِهِمَا بـمعنى فراق بـينهما. القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَسَيَكْفِـيكَهُم اللّه وَهُوَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَسَيَكْفِـيكَهُمُ اللّه فسيكفـيك اللّه يا مـحمد هؤلاء الذين قالوا لك لأصحابك: (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) من الـيهود والنصارى، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بـمثل إيـمان أصحابك بـاللّه ، وبـما أنزل إلـيك، وما أنزل إلـى إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق وسائر الأنبـياء غيرهم، وفرقوا بـين اللّه ورسله، إما بقتل السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبـات، فإن اللّه هو السميع لـما يقولون لك بألسنتهم ويبدون لك بأفواههم من الـجهل والدعاء إلـى الكفر والـملل الضالة، العلـيـم بـما يبطنون لك ولأصحابك الـمؤمنـين فـي أنفسهم من الـحسد والبغضاء. ففعل اللّه بهم ذلك عاجلاً وأنـجز وعده، فكفـي نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بتسلـيطه إياه علـيهم حتـى قتل بعضهم وأجلـى بعضا وأذلّ بعضا وأخزاه بـالـجزية والصّغار. ١٣٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } يعنـي تعالـى ذكره بـالصبغة: صبغة الإسلام، وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تُنَصّر أطفـالهم جعلتهم فـي ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس بـمنزلة غسل الـجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم فـي النصرانـية، فقال اللّه تعالـى ذكره إذ قالوا لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الـمؤمنـين به: كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا: قل لهم يا مـحمد: أيها الـيهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيـم صبغة اللّه التـي هي أحسن الصبغ، فإنها هي الـحنـيفـية الـمسلـمة، ودعوا الشرك بـاللّه والضلال عن مـحجة هداه. ونصب (الصبغة) من قرأها نصبـا علـى الردّ علـى (الـملة)، وكذلك رفع (الصبغة) من رفع الـملة علـى ردّها علـيها. وقد يجوز رفعها علـى غير هذا الوجه، وذلك علـى الابتداء، بـمعنى: هي صبغة اللّه . وقد يجوز نصبها علـى غيرِ وجه الردّ علـى (الـملة)، ولكن علـى قوله: قُولُوا آمَنّا بِـاللّه إلـى قوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ صبغةَ اللّه ، بـمعنى: آمنّا هذا الإيـمان، فـيكون الإيـمان حينئذ هو صبغة اللّه . وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل الصبغة قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٦١٥ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: صَبْغَةَ اللّه وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً إن الـيهود تصبغ أبناءها يهود، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة اللّه الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر، وهو دين اللّه بعث به نوحا والأنبـياء بعده. ١٦١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال عطاء: صِبْغَةَ اللّه صبغت الـيهود أبناءهم خالفوا الفطرة. واختلفوا أهل التأويـل فـي تأويـل قوله صِبْغَةَ اللّه فقال بعضهم: دين اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٦١٧ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: صِبْغَةَ اللّه قال: دين اللّه . ١٦١٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: صِبْغَةَ اللّه قال: دين اللّه . وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً: ومن أحسن من اللّه دينا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ١٦١٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٦٢٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فصيـل بن مرزوق، عن عطية قوله: صبْغَةَ اللّه قال: دين اللّه . ١٦٢١ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً يقول: دين اللّه ، ومن أحسن من اللّه دينا. ١٦٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس : صِبْغَةَ اللّه قال: دين اللّه . ١٦٢٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه : صِبْغَةَ اللّه قال: دين اللّه . حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: سألت ابن زيد عن قول اللّه : صبْغَةَ اللّه فذكر مثله. وقال آخرون: صِبْغَةَ اللّه فطرة اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٦٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه : صِبْغَةَ اللّه قال: فطرة اللّه التـي فطر الناس علـيها. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربـيعة، عن مـجاهد: وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً قال: الصبغة: الفطرة. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: صِبْغَةَ اللّه الإسلام، فطرة اللّه التـي فطر الناس علـيها. قال ابن جريج: قال لـي عبد اللّه بن كثـير صِبْغَةَ اللّه قال: دين اللّه وَمَنْ أحسن من اللّه دينا قال: هي فطر اللّه . ومن قال هذا القول، فوجه الصبغة إلـى الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة اللّه وملته التـي خـلق علـيها خـلقه، وذلك الدين القـيـم. من قول اللّه تعالـى ذكره: فَـاطِرِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ بـمعنى خالق السموات والأرض. القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَنَـحنُ لَهُ عابِدُونَ. وقوله تعالى ذكره: وَنَـحْنُ لَهُ عابِدُونَ أمر من اللّه تعالـى ذكره نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله للـيهود والنصارى الذين قالوا له ولـمن تبعه من أصحابه: كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَى فقال لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل بل نتبع ملة إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفـا، صِبْغَةَ اللّه ، وَنَـحْنُ لَهُ عابِدُونَ. يعنـي ملة الـخاضعين للّه الـمستكينـين له فـي اتبـاعنا ملة إبراهيـم ودينونتنا له بذلك، غير مستكبرين فـي اتبـاع أمره والإقرار برسالته رسلَه، كما استكبرت الـيهود والنصارى، فكفروا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم استكبـارا وبغيا وحسدا. ١٣٩القول فـي تأويـل قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَآجّونَنَا فِي اللّه وَهُوَ رَبّنَا وَرَبّكُمْ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: قُلْ أتُـحَاجّونَنا فِـي اللّه قل يا مـحمد لـمعاشر الـيهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، وزعموا أن دينهم خير من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم لأنه كان قبل كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولـى بـاللّه منك: أتـحاجوننا فـي اللّه ، وهو ربنا وربكم، بـيده الـخيرات، وإلـيه الثواب والعقاب، والـجزاء علـى الأعمال الـحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بـاللّه أولـى منّا من أجل أن نبـيكم قبل نبـينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربكم وربنا واحد، وأن لكل فريق منا ما عمل واكتسب من صالـح الأعمال وسيئها، ويجازي فـيثاب أو يعاقب لا علـى الأنساب وقدم الدين والكتاب. ويعنـي بقوله: قل أتـحاجّوننا قل أتـخاصموننا وتـجادلوننا. كما: ١٦٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ أتُـحَاجّونَنَا فِـي اللّه قل أتـخاصموننا. ١٦٢٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قُلْ أتـحاجّونَنا أتـخاصموننا. ١٦٢٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : أتـحاجّونَنا أتـجادلوننا. فأما قوله: وَنَـحْنُ لَهُ مُخْـلِصُونَ فإنه يعنـي: ونـحن للّه مخـلصو العبـادة والطاعة لا نشرك به شيئا، ولا نعبد غيره أحدا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثان، وأصحاب العجل معه العجل. وهذا من اللّه تعالـى ذكره توبـيخ للـيهود واحتـجاج لأهل الإيـمان، بقوله تعالى ذكره للـمؤمنـين من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قولوا أيها الـمؤمنون للـيهود والنصارى الذين قالوا لكم: (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا). أتُـحاجّونَنا فـي اللّه يعنـي بقوله: فِـي اللّه فـي دين اللّه الذي أمرنا أن ندينه به، وربنا وربكم واحد عدل لا يجوز، وإنـما يجازي العبـاد علـى ما اكتسبوا. وتزعمون أنكم أولـى بـاللّه منا لقدم دينكم وكتابكم ونبـيكم، ونـحن مخـلصون له العبـادة لـم نشرك به شيئا، وقد أشركتـم فـي عبـادتكم إياه، فعبد بعضكم العجل وبعضكم الـمسيح. فأَنّى تكونوا خيرا منا، وأولـى بـاللّه منّا. ١٤٠القول فـي تأويـل قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ...} قال أبو جعفر: فـي قراءة ذلك وجهان أحدهما: أمْ تَقُولُونَ بـالتاء، فمن قرأ كذلك فتأويـله: قل يا مـحمد للقائلـين لك من الـيهود والنصارى (كونوا هودا أو نَصارى تهتدوا): أتـجادلوننا فِـي اللّه أمْ تَقُولُونَ إن إبْرَاهِيـم؟ فـيكون ذلك معطوفـا علـى قوله: أتُـحاجّونَنَا فـي اللّه . والوجه الاَخر منهما (أمْ يَقُولُونَ) بـالـياء. ومن قرأ ذلك كذلك وجه قوله: (أمْ يَقُولُونَ) إلـى أنه استفهام مستأنف، كقوله: أمْ يَقُولُونَ افتَرَاه وكما يقال: إنها لإبل أم شاء. وإنـما جعله استفهاما مستأنفـا لـمـجيء خبر مستأنف، كما يقال: أتقوم أم يقوم أخوك؟ فـيصير قوله: (أم يقوم أخوك) خبرا مستأنفـا لـجملة لـيست من الأول واستفهاما مبتدأ. ولو كان نسقا علـى الاستفهام الأوّل لكان خبرا عن الأوّل، فقـيـل: أتقوم أم تقعد. وقد زعم بعض أهل العربـية أن ذلك إذا قرىء كذلك بـالـياء، فإن كان الذي بعد أم جملة تامة فهو عطف علـى الاستفهام الأول لأن معنى الكلام: قـيـل أي هذين الأمرين كائن، هذا أم هذا؟. والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: أمْ تَقُولُونَ بـالتاء دون الـياء عطفـا علـى قوله: قُلْ أتُـحاجّونَنَا بـمعنى: أي هذين الأمرين تفعلون؟ أتـجادلوننا فـي دين اللّه ، فتزعمون أنكم أولـى منا، وأهدى منا سبـيلاً، وأمرنا وأمركم ما وصفنا علـى ما قد بـيناه أيضا، أم تزعمون أن إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب ومن سمى اللّه كانوا هودا أو نصارى علـى ملتكم، فـيصحّ للناس بَهْتكم وكذبكم لأن الـيهودية والنصرانـية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم اللّه من أنبـيائه، وغير جائزة قراءة ذلك بـالـياء لشذوذها عن قراءة القراء. وهذه الآية أيضا احتـجاج من اللّه تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى الـيهود والنصارى الذين ذكر اللّه قصصهم. يقول اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـيهود والنصارى: أتـحاجوننا فـي اللّه ، وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا، وأنكم علـى هدى ونـحن علـى ضلالة ببرهان من اللّه تعالـى ذكره فتدعوننا إلـى دينكم؟ فهاتوا برهانكم علـى ذلك فنتبعكم علـيه أم تقولون إن إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط كانوا هودا أو نصارى علـى دينكم؟ فهاتوا علـى دعواكم ما ادّعيتـم من ذلك برهانا فنصدّقكم فإن اللّه قد جعلهم أئمة يقتدى بهم. ثم قال تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم يا مـحمد إن ادّعوا أن إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط كانوا هودا أو نصارى: أأنتـم أعلـم بهم وبـما كانوا علـيه من الأديان أم اللّه ؟ القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَـمَ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه }. يعنـي: فإن زَعَمَتْ يا مـحمد الـيهودُ والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك كونوا هودا أو نصارى، أن إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط كانوا هودا أو نصارى، فمن أظلـم منهم؟ يقول: وأيّ امرىء أظلـم منهم وقد كتـموا شهادة عندهم من اللّه بأن إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط كانوا مسلـمين، فكتـموا ذلك ونـحلوهم الـيهودية والنصرانـية. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك: ١٦٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَمَنْ أظْلَـمَ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه قال: فـي قول يهود لإبراهيـم وإسماعيـل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى. فـيقول اللّه : لا تكتـموا منـي شهادة إن كانت عندكم فـيهم. وقد علـم أنهم كاذبون. حدثنـي الـمثنى قال: أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَمَنْ أَظْلَـمَ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه فـي قول الـيهود لإبراهيـم وإسماعيـل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى. فقال اللّه لهم: لا تكتـموا منـي الشهادة فـيهم إن كانت عندكم فـيهم. وقد علـم اللّه أنهم كانوا كاذبـين. ١٦٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي إسحاق، عن أبـي الأشهب، عن الـحسن أنه تلا هذه الآية: أمْ تَقُولُونَ إنْ إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ إلـى قوله: قُلْ أأنْتُـمْ أعْلَـم أمِ اللّه وَمَنْ أظْلَـمَ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه قال الـحسن: واللّه لقد كان عند القوم من اللّه شهادة أن أنبـياء بُرَآء من الـيهودية والنصرانـية، كما أن عند القوم من اللّه شهادة أن أموالكم ودماءكم بـينكم حرام، فبـم استـحلوها؟. ١٦٣٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَمَنْ أظْلَـمَ مِـمنْ كَتَـمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه أهل الكتاب، كتـموا الإسلام وهم يعلـمون أنه دين اللّه ، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل: أنهم لـم يكونوا يهود ولا نصارى، وكانت الـيهودية والنصرانـية بعد هؤلاء بزمان. وأنه عنى تعالـى ذكره بذلك أن الـيهود والنصارى إن ادّعوا أن إبراهيـم ومن سُمي معه فـي هذه الآية كانوا هودا أو نصارى، تبـيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم كذبهم وادّعاءهم علـى أنبـياء اللّه البـاطلَ لأن الـيهودية والنصرانـية حدثت بعدهم، وإن هم نفوا عنهم الـيهودية والنصرانـية، قـيـل لهم: فهلـموا إلـى ما كانوا علـيه من الدين، فإنّا وأنتـم مقرّون جميعا بأنهم كانوا علـى حقّ، ونـحن مختلفون فـيـما خالف الدين الذي كانوا علـيه. وقال آخرون: بل عنى تعالـى ذكره بقوله: وَمَنْ أظْلَـمَ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه الـيهود فـي كتـمانهم أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته، وهم يعلـمون ذلك ويجدونه فـي كتبهم. ذكر من قال ذلك: ١٦٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أمْ تَقُولُونَ إنّ إبْرَاهِيـمَ وإسمَاعِيـلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبـاطَ كانُوا هُودا أوْ نَصَارَى أولئك أهل الكتاب كتـموا الإسلام وهم يعلـمون أنه دين اللّه ، واتـخذوا الـيهودية والنصرانـية، وكتـموا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وهم يعلـمون أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. ١٦٣٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: وَمَنْ أَظْلَـمُ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عنْدَهُ مِنَ اللّه قال: الشهادة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مكتوب عندهم، وهو الذي كتـموا. ١٦٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، نـحو حديث بشر بن معاذ عن يزيد. ١٦٣٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه قال:لّهم يهودُ يسألون عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وعن صفته فـي كتاب اللّه عندهم، فـيكتـمون الصفة. وإنـما اخترنا القول الذي قلناه فـي تأويـل ذلك لأن قوله تعالى ذكره: وَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنْ كَتَـمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّه فـي أثر قصة من سمى اللّه من أنبـيائه، وأمام قصته لهم. فأولـى بـالذي هو بـين ذلك أن يكون من قصصهم دون غيره. فإن قال قائل: وأية شهادة عند الـيهود والنصارى من اللّه فـي أمر إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط؟ قـيـل: الشهادة التـي عندهم من اللّه فـي أمرهم، ما أنزل اللّه إلـيهم فـي التوراة والإنـجيـل، وأمرهم فـيها بـالاستنان بسنّتهم واتبـاع ملتهم، وأنهم كانوا حنفـاء مسلـمين. وهي الشهادة التـي عندهم من اللّه التـي كتـموها حين دعاهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الإسلام، فقالوا له: لن يدخـل الـجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا له ولأصحابه: كُونوا هودا أو نصارى تهتدوا. فأنزل اللّه فـيهم هذه الاَيات فـي تكذيبهم وكتـمانهم الـحقّ، وافترائهم علـى أنبـياء اللّه البـاطل والزور. القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمَا اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وقل لهؤلاء الـيهود والنصار الذين يحاجونك يا مـحمد: وَما اللّه بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ من كتـمانكم الـحقّ فـيـما ألزمكم فـي كتابه بـيانه للناس، من أمر إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط فـي أمر الإسلام، وأنهم كانوا مسلـمين، وأن الـحنـيفـية الـمسلـمة دينُ اللّه الذي علـى جميع الـخـلق الدينونة به دون الـيهودية والنصرانـية وغيرهما من الـملل. ولا هو ساهٍ عن عقابكم علـى فعلكم ذلك، بل هو مُـحْصٍ علـيكم حتـى يجازيكم به من الـجزاء ما أنتـم له أهل فـي عاجل الدنـيا وآجل الاَخرة. فجازاهم عاجلاً فـي الدنـيا بقتل بعضهم وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مـجازيهم فـي الاَخرة العذابَ الـمهين. ١٤١القول فـي تأويـل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: تلْكَ أُمّةٌ إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط. كما: ١٦٣٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى: تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَـلَتْ يعنـي إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط. ١٦٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله. وقد بـينا فـيـما مضى أن الأمة: الـجماعة. فمعنى الآية إذا: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين يجادلونك فـي اللّه من الـيهود والنصارى إن كتـموا ما عندهم من الشهادة فـي أمر إبراهيـم ومن سمينا معه، وأنهم كانوا مسلـمين، وزعموا أنهم كانوا هودا أو نصارى فكذبوا أن إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط أمة قد خـلت أي مضت لسبـيـلها، فصارت إلـى ربها، وخـلت بأعمالها وآمالها، لها عند اللّه ما كسبت من خير فـي أيام حياتها، وعلـيها ما اكتسبت من شرّ لا ينفعها غير صالـح أعمالها، ولا يضرّها إلا سيئها. فـاعلـموا أيها الـيهود والنصارى ذلك، فإنكم إن كان هؤلاء هم الذين بهم تفتـخرون وتزعمون أن بهم ترجون النـجاة من عذاب ربكم مع سيئاتكم، وعظيـم خطيئاتكم، لا ينفعهم عند اللّه غير ما قدّموا من صالـح الأعمال، ولا يضرّهم غير سيئها فأنتـم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند اللّه غير ما قدمتـم من صالـح الأعمال، ولا يضرّكم غير سيئها. فـاحذروا علـى أنفسكم وبـادروا خروجها بـالتوبة والإنابة إلـى اللّه مـما أنتـم علـيه من الكفر والضلالة والفرية علـى اللّه وعلـى أنبـيائه ورسله، ودعوا الاتّكال علـى فضائل الاَبـاء والأجداد، فإنـما لكم ما كسبتـم، وعلـيكم ما اكتسبتـم، ولا تُسألون عما كان إبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب والأسبـاط يعملون من الأعمال، لأن كل نفس قدمت علـى اللّه يوم القـيامة، فإنـما تُسأل عما كسبت وأسلفت. دون ما أسلف غيرها. ١٤٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي ...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: سَيَقُولُ السّفَهاءُ سيقول الـجهال من الناس، وهم الـيهود وأهل النفـاق. وإنـما سماهم اللّه عزّ وجلّ سفهاء لأنهم سَفِهوا الـحقّ، فتـجاهلت أحبـارُ الـيهود، وتعاظمت جهالُهم وأهلُ الغبـاء منهم عن اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، إذ كان من العرب ولـم يكن من بنـي إسرائيـل، وتـحير الـمنافقون فتبلّدوا. وبـما قلنا فـي السفهاء أنهم هم الـيهود وأهل النفـاق، قال أهل التأويـل. ذكر من قال هم الـيهود: ١٦٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم قال: الـيهود تقوله حين تركَ بـيتَ الـمقدس. ١٦٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٦٣٩ـ حدثت عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبـي إسحاق، عن البراء: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال: الـيهود. ١٦٤٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن البراء: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ قال: الـيهود. ١٦٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن البراء فـي قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ قال: أهل الكتاب. ١٦٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قال: الـيهود. وقال آخرون: السفهاء: الـمنافقون. ذكر من قال ذلك: ١٦٤٣ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قال: نزلت: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ فـي الـمنافقـين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا. يعنـي بقوله جل ثناؤه: ما وَلاّهُمْ أيّ شيء صرفهم عن قبلهم؟ وهو من قول القائل: ولانـي فلان دُبُرَه: إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله: ما وَلاّهُمْ أيّ شيء حوّل وجوههم. وأما قوله: عَنْ قِبْلَتِهِمُ فإن قِبْلَةَ كل شيء: ما قابل وجهه، وإنـما هي (فِعْلة) بـمنزلة الـجِلْسة والقِعْدة من قول القائل: قابلت فلانا: إذا صرت قبـالته أقابله، فهو لـي قِبْلة، وأنا له قبلة، إذا قابل كل واحد منهما بوجهه وجه صاحبه. قال: فتأويـل الكلام إذن إذْ كان (ذلك) معناه: سيقول السفهاء من النّاس لكم أيها الـمؤمنون بـاللّه ورسوله، إذا حوّلتـم وجوهكم عن قبلة الـيهود التـي كانت لكم قبلة قبل أمري إياكم بتـحويـل وجوهكم عنها شطر الـمسجد الـحرام: أيّ شيء حوّل وجوه هؤلاء، فصرفها عن الـموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم فـي صلاتهم؟ فأعلـم اللّه جل ثناؤه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم ما الـيهود والـمنافقون قائلون من القول عند تـحويـل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلـى الـمسجد الـحرام، وعلّـمه ما ينبغي أن يكون من ردّه علـيهم من الـجواب، فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا مـحمد، فقل لهم: للّه الـمَشْرقُ والـمَغْربُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِراطٍ مُسْتَقِـيـمٍ. وكان سبب ذلك أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم صلّـى نـحو بـيت الـمقدس مدة سنذكر مبلغها فـيـما بعد إن شاء اللّه تعالـى، ثم أراد اللّه تعالـى صَرْفَ قبلة نبـيه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمسجد الـحرام، فأخبره عما الـيهود قائلوه من القول عند صرفه وجهه ووجه أصحابه شطره، وما الذي ينبغي أن يكون من ردّه علـيهم من الـجواب. ذكر الـمدة التـي صلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه نـحو بـيت الـمقدس وما كان سبب صلاته نـحوه وما الذي دعا الـيهود والـمنافقـين إلـى قـيـل ما قالوا عند تـحويـل اللّه قبلة الـمؤمنـين عن بـيت الـمقدس إلـى الكعبة اختلف أهل العلـم فـي الـمدّة التـي صلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس بعد الهجرة. فقال بعدهم بـما: ١٦٤٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، قال: أخبرنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة شكّ مـحمد عن ابن عبـاس قال: لـما صُرفت القبلة عن الشام إلـى الكعبة، وصرفت فـي رجب علـى رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة، أتـى رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم رفـاعةُ بن قـيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ونافع بن أبـي نافع هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورافع بن أبـي رافع والـحجاج بن عمرو حلـيف كعب بن الأشرف والربـيع بن الربـيع بن أبـي الـحقـيق وكنانة بن الربـيع بن أبـي الـحقـيق، فقالوا: يا مـحمد ما ولاّك عن قبلتك التـي كنت علـيها وأنت تزعم أنك علـى ملة إبراهيـم ودينه؟ ارجع إلـى قبلتك التـي كنت علـيها نتبعك ونصدقك وإنـما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل اللّه فـيهم: سَيَقُولُ السّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا إلـى قوله: إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعِ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ. ١٦٤٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال البراء: صلّـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهرا، وكان يشتهي أن يُصرف إلـى الكعبة قال: فبـينا نـحن نصلّـي ذات يوم، فمرّ بنا مارّ فقال: ألا هل علـمتـم أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قد صُرف إلـى الكعبة؟ قال: وقد صلـينا ركعتـين إلـى هَهنا، وصلـينا ركعتـين إلـى هَهنا. قال أبو كريب: فقـيـل له: فـيه أبو إسحاق؟ فسكت. ١٦٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبـي بكر بن عياش، عن أبـي إسحاق، عن البراء، قال: صلـينا بعد قدوم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة سبعة عشر شهرا إلـى بـيت الـمقدس. ١٦٤٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، قال: حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال: صلـيت مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا شكّ سفـيان ثم صُرفنا إلـى الكعبة. ١٦٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا النفـيـلـي، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان أوّل ما قدم الـمدينة نزل علـى أجداده أو أخواله من الأنصار، وأنه صلـى قِبل بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البـيت، وأنه صلـى صلاة العصر ومعه قوم. فخرج رجل مـمن صلـى معه، فمرّ علـى أهل الـمسجد وهم ركوع، فقال: أشهد لقد صلـيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قِبل مكة. فداروا كما هم قبل البـيت، وكان يعجبه أن يحوّل قبل البـيت. وكان الـيهود أعجبهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلـي قِبَل بـيت الـمقدس وأهل الكتاب، فلـمّا وَلّـى وجهه قبل البـيت أنكروا ذلك. ١٦٤٩ـ حدثنـي عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب قال: صلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس بعد أن قدم الـمدينة ستة عشر شهرا، ثم وُجّه نـحو الكعبة قبل بدر بشهرين. وقال آخرون بـما: ١٦٥٠ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عثمان بن سعد الكاتب، قال: حدثنا أنس بن مالك، قال: صلـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبـينـما هو قائم يصلـي الظهر بـالـمدينة وقد صلـى ركعتـين نـحو بـيت الـمقدس، انصرف بوجهه إلـى الكعبة، فقال السفهاء: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا. وقال آخرون بـما: ١٦٥١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا الـمسعودي، عن عمرو بن مرّة، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن معاذ بن جبل: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدم الـمدينة، فصلـى نـحو بـيت الـمقدس ثلاثة عشر شهرا. ١٦٥٢ـ حدثنا أحمد بن الـمقدام العجلـي، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أبـي، قال: حدثنا قتادة، عن سعيد بن الـمسيب أن الأنصار صلت القبلة الأولـى قبل قدوم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بثلاث حجج، وأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم صلـى القبلة الأولـى بعد قدومه الـمدينة ستة عشر شهرا، أو كما قال. وكلا الـحديثـين يحدّث قتادة عن سعيد. ذكر السبب الذي كان من أجله يصلـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحو بـيت الـمقدس، قبل أن يفرض علـيه التوجه شطر الكعبة اختلف أهل العلـم فـي ذلك فقال بعضهم: كان ذلك بـاختـيار من النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ذكر من قال ذلك: ١٦٥٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح أبو تـميـلة، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن عكرمة، وعن يزيد النـحوي، عن عكرمة، والـحسن البصري قالا: أوّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يستقبل صخرة بـيت الـمقدس، وهي قبلة الـيهود، فـاستقبلها النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم سبعة عشر شهرا، لـيؤمنوا به ويتبعوه، ويدعوا بذلك الأميـين من العرب، فقال اللّه عزّ وجلّ: وللّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه إنّ اللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ. ١٦٥٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كانُوا عَلَـيْهَا يعنون بـيت الـمقدس. قال الربـيع، قال أبو العالـية: إن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم خُيّر أن يوجه وجهه حيث شاء، فـاختار بـيت الـمقدس لكي يتألف أهل الكتاب، فكانت قبلته ستة عشر شهرا، وهو فـي ذلك يقلب وجهه فـي السماء ثم وجهه اللّه إلـى البـيت الـحرام. وقال آخرون: بل كان فعل ذلك من النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بفرض اللّه عزّ ذكره علـيهم. ذكر من قال ذلك: ١٦٥٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قال: لـما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمدينة، وكان أكثر أهلها الـيهود، أمره اللّه أن يستقبل بـيت الـمقدس، ففرحت الـيهود. فـاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعة عشر شهرا، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم علـيه السلام، وكان يدعو وينظر إلـى السماء، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ الآية، فـارتاب من ذلك الـيهود، و قالوا: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا فأنزل اللّه عز وجل: قُلْ للّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ. ١٦٥٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: صلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أوّل ما صلـى إلـى الكعبة، ثم صرف إلـى بـيت الـمقدس، فصلت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس قبل قدومه ثلاث حجج، وصلّـى بعد قدومه ستة عشر شهرا، ثم ولاّه اللّه جل ثناؤه إلـى الكعبة. ذكر السبب الذي من أجله قال من قال ما ولاّهم عن قبلتهم التـي كانوا علـيها؟ اختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فرُوي عن ابن عبـاس فـيه قولان: أحدهما ما: ١٦٥٧ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: قال ذلك قوم من الـيهود للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا له: ارجع إلـى قبلتك التـي كنت علـيها نتبعك ونصدّقك يريدون فتنته عن دينه. والقول الاَخر: ما ذكرت من حديث علـيّ بن أبـي طلـحة عنه الذي مضى قبل. ١٦٥٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا قال: صلّت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حَوْلَـيْن قبل قدوم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة، وصلـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجرا نـحو بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا، ثم وجهه اللّه بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام. فقال فـي ذلك قائلون من الناس: مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا لقد اشتاق الرجل إلـى مولده. فقال اللّه عز وجل: قُلْ للّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ. وقـيـل: قائل هذه الـمقالة الـمنافقون، وإنـما قالوا ذلك استهزاءً بـالإسلام. ذكر من قال ذلك: ١٦٥٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما وجه النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام، اختلف الناس فـيها، فكانوا أصنافـا، فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ فأنزل اللّه فـي الـمنافقـين: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ الآية كلها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ للّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ. يعنـي بذلك عزّ وجلّ: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بـيت الـمقدس التـي كنتـم علـى التوجه إلـيها، إلـى التوجه إلـى شطر الـمسجد الـحرام: للّه ملك الـمشرق والـمغرب يعنـي بذلك مُلك ما بـين قطري مشرق الشمس، وقطري مغربها، وما بـينهما من العالـم، يهدي من يشاء من خـلقه فـيسدّده، ويوفقه إلـى الطريق القويـم، وهو الصراط الـمستقـيـم. ويعنـي بذلك إلـى قبلة إبراهيـم الذي جعله للناس إماما. ويخذل من يشاء منهم فـيضله عن سبـيـل الـحقّ. وإنـما عنى جل ثناؤه بقوله: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ قل يا مـحمد إن اللّه هدانا بـالتوجه شطر الـمسجد الـحرام لقبلة إبراهيـم، وأضلكم أيها الـيهود والـمنافقون وجماعة الشرك بـاللّه ، فخذلكم عما هدانا له من ذلك. ١٤٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا كما هديناكم أيها الـمؤمنون بـمـحمد علـيه الصلاة والسلام، وبـما جاءكم به من عند اللّه ، فخصصناكم بـالتوفـيق لقبلة إبراهيـم وملّته، وفضلناكم بذلك علـى من سواكم من أهل الـملل كذلك خصصناكم ففضلناكم علـى غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطا. وقد بـينا أن الأمة هي القرن من الناس والصنف منهم وغيرهموأما الوسط فإنه فـي كلام العرب: الـخيار، يقال منه: فلان وسط الـحسب فـي قومه: أي متوسط الـحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع فـي حسبه، وهو وسط فـي قومه وواسط، كما يقال شاة يابسة اللبن، ويَبَسة اللبن، وكما قال جل ثناؤه: فـاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا فـي البَحْرِ يَبسا وقال زهير بن أبـي سلـمى فـي الوسط: هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأنامُ يحُكمِهِمْإذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللّـيالـي بِـمُعْظَمِ قال: وأنا أرى أن الوسط فـي هذا الـموضع هو الوسط الذي بـمعنى الـجزء الذي هو بـين الطرفـين، مثل (وسط الدار)، مـحرّك الوسط مثقّله، غير جائز فـي سينه التـخفـيف. وأرى أن اللّه تعالـى ذكره إنـما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم فـي الدين، فلا هم أهل غلوّ فـيه غلوّ النصارى الذين غلوا بـالترهب وقـيـلهم فـي عيسى ما قالوا فـيه، ولا هم أهل تقصير فـيه تقصير الـيهود الذين بدلوا كتاب اللّه وقتلوا أنبـياءهم وكذبوا علـى ربهم وكفروا به ولكنهم أهل توسط واعتدال فـيه، فوصفهم اللّه بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلـى اللّه أوسطها. وأما التأويـل فإنه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الـخيار لأن الـخيار من الناس عدولهم. ذكر من قال: الوسط العدل. ١٦٦٠ـ حدثنا سالـم بن جنادة ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي قوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: (عُدُولاً). ١٦٦١ـ حدثنا مـجاهد بن موسى ومـحمد بن بشار، قالا: حدثنا جعفر بن عون، عن الأعمش، عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، مثله. ١٦٦٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان عن الأعمش عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد الـخدري: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: (عُدُولاً. ١٦٦٣ـ حدثنـي علـيّ بن عيسى، قال: حدثنا سعيد بن سلـيـمان، عن حفص بن غياث، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي قوله: جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً). ١٦٦٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً. ١٦٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: عُدُولاً. ١٦٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ١٦٦٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عُدولاً. ١٦٦٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عُدولاً. ١٦٦٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: أُمّةً وَسَطا قال: عدولاً. ١٦٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا يقول: جعلكم أمة عدولاً. ١٦٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن راشد بن سعد، قال: أخبرنا ابن أنعم الـمعافري، عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: (الوَسَطُ: العَدْلُ). ١٦٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد وعبد اللّه بن كثـير: أُمّةً وَسَطا قالوا: عدولاً، قال مـجاهد: عدولاً. ١٦٧٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا قال: هم وسط بـين النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وبـين الأمـم. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاس ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا. والشهداء جمع شهيد. فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطا عدولاً (لتكونوا) شهداء لأنبـيائي ورسلـي علـى أمـمها بـالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتـي إلـى أمـمها، ويكون رسولـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم شهيدا علـيكم بإيـمانكم به، وبـما جاءكم به من عندي. كما: ١٦٧٤ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يُدْعَىَ بِنُوحٍ عَلَـيْهِ السّلاَمُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ، فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ ما أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَـ يَقُولُ: نَعَمْ، فَـيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلّغَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَـيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَـمُ ذَاكَ؟ فَـيَقُولُ مُـحَمّدٌ وأُمّتُهُ فهوقوله: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ ويَكُونُ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا). ١٦٧٥ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه، إلا أنه زاد فـيه: (فَـيُدْعَوْنَ وَيَشْهَدُونَ أنّهُ قَدْ بَلّغَ). ١٦٧٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي سعيد: وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ بأن الرسل قد بلغوا، ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا: بـما عملتـم أو فعلتـم. ١٦٧٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن أبـي مالك الأشجعي، عن الـمغيرة بن عيـينة بن النهاس، أن مكاتبـا لهم حدثهم عن جابر بن عبد اللّه ، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّـي وأُمّتِـي لَعَلَـىَ كَوْمٍ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ مُشْرِفِـينَ عَلَـىَ الْـخَلاَئِقِ مَا أحَدٌ مِنَ الأُمَـم إلاّ وَدّ أنّهُ مِنْهَا أيّتُها الأُمّةُ، وَمَا مِنْ نَبِـيَ كَذّبَهُ قَوْمُهُ إلاّ نَـحْنُ شُهَدَاؤُهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ أنّهُ قَدْ بَلّغَ رِسَالاتِ رَبّه وَنَصَحَ لَهُمْ) قال: (ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا). ١٦٧٨ـ حدثنـي عصام بن روّاد بن الـجراح العسقلانـي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبـي كثـير، عن عبد اللّه بن الفضل، عن أبـي هريرة، قال: خرجت مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي جنازة، فلـمّا صلّـى علـى الـميت قال الناس: نعم الرجل فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (وَجَبَتْ). ثم خرجت معه فـي جنازة أخرى، فلـما صلوا علـى الـميت قال الناس: بئس الرجل فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (وَجَبَتْ). فقام إلـيه أبـيّ بن كعب فقال: يا رسول اللّه ما قولك وجبت؟ قال: (قول اللّه عزّ وجلّ: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ). ١٦٧٩ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: حدثنـي أبو عمرو عن يحيى، قال: حدثنـي عبد اللّه بن أبـي الفضل الـمدينـي، قال: حدثنـي أبو هريرة، قال: أُتـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بجنازة، فقال الناس: نعم الرجل، ثم ذكر نـحو حديث عصام عن أبـيه. ١٦٨٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن حبـاب، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنـي إياس بن سلـمة بن الأكوع، عن أبـيه، قال: كنا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فمرّ علـيه بجنازة فأثنى علـيها بثناء حسن، فقال: (وَجَبَتْ)، ومرّ علـيه بجنازة أخرى، فأثنى علـيها دون ذلك، فقال: (وَجَبَتْ)، قالوا: يا رسول اللّه ما وجبت؟ قال: (الـمَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللّه فـي السّماءِ وأنْتُـمْ شُهَداءُ اللّه فـي الأرْضِ فَمَا شَهِدْتُـمْ عَلَـيْهِ وَجَبَ). ثم قرأ: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَىَ اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والـمُؤْمِنُونَ... الآية. ١٦٨١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لِتَكُونُوا شُهَدَاء علـى النّاس تكونوا شهداء لـمـحمد علـيه الصلاة والسلام علـى الأمـم الـيهود والنصارى والـمـجوس. ١٦٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٦٨٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، قال: يأتـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم القـيامة بإذنه لـيس معه أحد فتشهد له أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أنه قد بلغهم. ١٦٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن أبـي نـجيح، عن أبـيه أنه سمع عبـيد بن عمير، مثله. ١٦٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثنـي ابن أبـي نـجيح، عن أبـيه قال: يأتـي النبـي صلى اللّه عليه وسلم يوم القـيامة، فذكر مثله، ولـم يذكر عبـيد بن عمير مثله. ١٦٨٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ أي أن رسلهم قد بلغت قومها عن ربها، وَيَكُونُ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا علـى أنه قد بلغ رسالات ربه إلـى أمته. ١٦٨٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلـم: أن قوم نوح يقولون يوم القـيامة: لـم يبلغنا نوح. فـيدعى نوح علـيه السلام فـيسأل: هل بلغتهم؟ فـ يقول: نعم، فـيقال: من شهودك؟ فـ يقول: أحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته. فتدعون فتسألون، فتقولون: نعم قد بلغهم. فتقول قوم نوح علـيه السلام: كيف تشهدون علـينا ولـم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم، وأنزل علـيه أنه قد بلغكم، فصدقناه قال: فـيصدق نوح علـيه السلام ويكذّبونهم قال: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا. ١٦٨٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ لتكون هذه الأمة شهداء علـى الناس أن الرسل قد بلغتهم، ويكون الرسول علـى هذه الأمة شهيدا، أن قد بلغ ما أرسل به. ١٦٨٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلـم: أن الأمـم يقولون يوم القـيامة: واللّه لقد كادت هذه الأمة أن تكون أنبـياء كلهم لـما يرون اللّه أعطاهم. ١٦٩٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابن الـمبـارك عن راشد بن سعد، قال: أخبرنـي ابن أنعم الـمعافري، عن حبـان بن أبـي جبلة بسنده إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إذَا جَمَعَ اللّه عِبَـادَهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ، كَانَ أوّلَ مَنْ يُدْعَىَ إسْرَافِـيـلُ، فَـيَقُولُ لَهُ رَبّهُ: مَا فَعَلْتَ فِـي عَهْدِي، هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي؟ فَـ يَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُ جِبْرِيـلَ عَلَـيْهِمَا السّلاَمُ، فَـيُدْعَىَ جِبْرِيـلُ فَـيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلّغْتَ إسْرَافِـيـلَ عَهْدِي؟ فَـ يَقُولُ: نَعَمْ رَبّ قَدْ بَلّغَنِـي. فَـيُخَـلّـى عَنْ إسْرَافِـيـلَ، ويُقَالُ لِـجِبْرِيـلَ: هَلْ بَلّغْتَ عَهْدِي؟ فَـ يَقُولُ: نَعَمْ قَدْ بَلّغْتُ الرّسُلَ. فَتُدْعَىَ الرّسُلُ فَـيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلّغَكُمْ جِبْرِيـلُ عَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ نَعَمْ رَبّنا. فَـيُخَـلّـى عَنْ جِبْرِيـلُ، ثُمّ يُقَالُ للرّسُلِ: ما فَعَلْتُـمْ بِعَهْدِي؟ فَـيَقُولُونَ: بَلّغْنا أُمَـمَنا. فَتُدْعَىَ الأُمَـمُ فَـيُقَالُ: هَلْ بَلّغَكُمْ الرّسُلُ عَهْدِي؟ فَمِنْهُمْ الـمُكَذّبُ وَمِنْهُمْ الـمُصَدّقُ، فَتَقُولُ الرّسُلُ: إنّ لَنَا عَلَـيْهِمْ شُهُودا يَشْهَدُونَ أنْ قَدْ بَلغْنا مَعَ شَهَادَتِكَ. فَـ يَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: أُمّةُ مُـحَمّدٍ. فَتُدْعَىَ أُمّةُ مُـحَمّدٍ صلى اللّه عليه وسلم، فَـ يَقُولُ: أتَشْهَدُونَ أنّ رُسُلِـي هَؤُلاَءِ قَدْ بَلّغُوا عَهْدِي إلـى مَنْ أُرْسِلُوا إلَـيْهِ؟ فَـيَقُولُونَ: نَعَمْ رَبّنا شَهِدْنَا أنْ قَدْ بَلّغُوا. فَتَقُولُ تِلْكَ الأُمَـم: كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَـيْنَا مَنْ لَـمْ يُدْرِكْنا؟ فَـيَقُولُ لَهُمُ الرّبّ تَبَـارَكَ وتَعَالَـىَ: كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَـىَ مَنْ لَـمْ تُدْرِكُوا؟ فَـيَقُولُونَ: رَبّنَا بَعَثْتَ إلَـيْنَا رَسُولاً، وأنْزَلْتَ إلَـيْنَا عَهْدَكَ وكِتابَكَ، وقَصَصْتَ عَلَـيْنَا أنّهُمْ قَدْ بَلّغُوا، فَشَهِدْنا بِـمَا عَهِدْتَ إلَـيْنَا. فَـيَقُولُ الرّبّ: صَدَقُوا. فَذَلِكَ قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا). والوسط: العدل. (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا). قال ابن أنعم: فبلغنـي أنه يشهد يومئذ أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إلا من كان فـي قلبه حِنَةٌ علـى أخيه. ١٦٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يعنـي بذلك الذين استقاموا علـى الهدى، فهم الذين يكونون شهداء علـى الناس يوم القـيامة، لتكذيبهم رسل اللّه ، وكفرهم بآيات اللّه . ١٦٩٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يقول: لتكونوا شهداء علـى الأمـم الذين خـلوا من قبلكم بـما جاءتهم رسلهم، وبـما كذّبوهم، فقالوا يوم القـيامة وعجبوا: إن أمة لـم يكونوا فـي زماننا، فآمنوا بـما جاءت به رسلنا، وكذّبنا نـحن بـما جاءوا به. فعجبوا كلّ العجب. قوله: ويَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا يعنـي بإيـمانهم به، وبـما أنزل علـيه. ١٦٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ يعنـي أنهم شهدوا علـى القرون بـما سمى اللّه عزّ وجلّ لهم. ١٦٩٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـى النّاسِ؟ قال: أمة مـحمد شهدوا علـى من ترك الـحقّ حين جاءه الإيـمان والهدى مـمن كان قبلنا. قالها عبد اللّه بن كثـير قال: وقال عطاء: شهداء علـى من ترك الـحقّ مـمن تركه من الناس أجمعين، جاء ذلك أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابهم: وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا علـى أنهم قد آمنوا بـالـحقّ حين جاءهم وصدّقوا به. ١٦٩٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَـىَ النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَـيْكُمْ شَهِيدا قال: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاهد علـى أمته، وهم شهداء علـى الأمـم، وهم أحد الأشهاد الذي قال اللّه عز وجلّ: وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ الأربعة الـملائكة الذين يحصون أعمالنا لنا وعلـينا. وقرأ قوله: وَجَاءَتْ كُلّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ وقال: هذا يوم القـيامة قال: والنبـيون شهداء علـى أمـمهم قال: وأمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم شهداء علـى الأمـم، (قال: والأطوار: الأجساد والـجلود). القول فـي تأويـل قوله تعالـى وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا ولـم نـجعل صَرْفَك عن القبلة التـي كنت علـى التوجه إلـيها يا مـحمد فصرفناك عنها إلا لنعلـم من يتبعك مـمن لا يتبعك مـمن ينقلب علـى عقبـيه. والقبلة التـي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـيها التـي عناها اللّه بقوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا هي القبلة التـي كنت تتوجه إلـيها قبل أن يصرفك إلـى الكعبة. كما: ١٦٩٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَمَا جَعَلْنا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا يعنـي بـيت الـمقدس. ١٦٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا؟ قال: القبلة: بـيت الـمقدس. وإنـما ترك ذكر الصرف عنها اكتفـاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام علـى معناه كسائر ما قد ذكرنا فـيـما مضى من نظائره. وإنـما قلنا ذلك معناه لأن مـحنة اللّه أصحاب رسوله فـي القبلة إنـما كانت فـيـما تظاهرت به الأخبـار عند التـحويـل من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة، حتـى ارتدّ فـيـما ذكر رجال مـمن كان قد أسلـم واتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأظهر كثـير من الـمنافقـين من أجل ذلك نفـاقهم، و قالوا: ما بـال مـحمد يحوّلنا مرّة إلـى هَهنا، ومرّة إلـى هَهنا؟ وقال الـمسلـمون فـيـما مضى من إخوانهم الـمسلـمين، وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت وقال الـمشركون: تـحير مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي دينه. فكان ذلك فتنة للناس وتـمـحيصا للـمؤمنـين، فلذلك قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـى عَقِبَـيْهِ أي: وما جعلنا صرفك عن القبلة التـي كنت علـيها، وتـحويـلك إلـى غيرها، كما قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِـي أرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ بـمعنى: وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التـي أريناك. وذلك أنه لو لـم يكن أخبر القوم بـما كان أرى لـم يكن فـيه علـى أحد فتنة، وكذلك القبلة الأولـى التـي كانت نـحو بـيت الـمقدس لو لـم يكن صرف عنها إلـى الكعبة لـم يكن فـيها علـى أحد فتنة ولا مـحنة. ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك بـمعنى ما قلنا: ١٦٩٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال: كانت القبلة فـيها بلاء وتـمـحيص صلت الأنصار نـحو بـيت الـمقدس حولـين قبل قدوم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وصلـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد قدومه الـمدينة مهاجرا نـحو بـيت الـمقدس سبعة عشر شهرا، ثم وجهه اللّه بعد ذلك إلـى الكعبة البـيت الـحرام، فقال فـي ذلك قائلون من الناس: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا؟ لقد اشتاق الرجل إلـى مولده قال اللّه عزّ وجلّ: قُلْ للّه الـمَشْرِقُ والـمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ فقال أناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل اللّه عز وجل: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمانَكُمْ وقد يبتلـي اللّه العبـاد بـما شاء من أمره الأمر بعد الأمر، لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. وكل ذلك مقبول إذا كان فـي إيـمان بـاللّه ، وإخلاص له، وتسلـيـم لقضائه. ١٦٩٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يصلـي قبل بـيت الـمقدس، فنسختها الكعبة. فلـما وُجّه قبل الـمسجد الـحرام، اختلف الناس فـيها، فكانوا أصنافـا فقال الـمنافقون: ما بـالهم كانوا علـى قبلة زمانا ثم تركوها وتوجهوا إلـى غيرها؟ وقال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس، هل تقبل اللّه منا ومنهم أو لا؟ وقالت الـيهود: إن مـحمدا اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده، ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر وقال الـمشركون من أهل مكة: تـحير علـى مـحمد دينه، فتوجه بقبلته إلـيكم، وعلـم أنكم كنتـم أهدى منه، ويوشك أن يدخـل فـي دينكم. فأنزل اللّه جل ثناؤه فـي الـمنافقـين: سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِـي كَانُوا عَلَـيْهَا إلـى قوله: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّه وأنزل فـي الاَخرين الاَيات بعدها. ١٧٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ؟ فقال عطاء: يبتلـيهم لـيعلـم من يسلـم لأمره. قال ابن جريج: بلغنـي أن ناسا مـمن أسلـم رجعوا فقالوا: مرّة هَهنا ومرّة هَهنا. فإن قال لنا قائل: أوَما كان اللّه عالـما بـمن يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه إلا بعد اتبـاع الـمتبع، وانقلاب الـمنقلب علـى عقبـيه، حتـى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تـحويـل القبلة إلا لنعلـم الـمتبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الـمنقلب علـى عقبـيه؟ قـيـل: إن اللّه جل ثناؤه هو العالـم بـالأشياء كلها قبل كونها، ولـيس قوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ يخبر أنه لـم يعلـم ذلك إلا بعد وجوده. فإن قال: فما معنى ذلك؟ قـيـل له: أما معناه عندنا فإنه: وما جعلنا القبلة التـي كنت علـيها إلا لـيعلـم رسولـي وحزبـي وأولـيائي من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. فقال جل ثناؤه: إلاّ لِنَعْلَـمَ ومعناه: لـيعلـم رسولـي وأولـيائي، إذ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأولـياؤه من حزبه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتبـاع الرئيس إلـى الرئيس، وما فعل بهم إلـيه نـحو قولهم: فتـح عمر بن الـخطاب سواد العراق، وجبى خراجها، وإنـما فعل ذلك أصحابه عن سبب كان منه فـي ذلك. وكالذي رُوي فـي نظيره عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (يَقُولُ اللّه جَلّ ثَنَاؤُهُ: مَرِضْتُ فَلَـمْ يَعُدْنِـي عَبْدِي، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَـمْ يُقْرِضْنِـي، وَشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي). ١٧٠١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد عن مـحمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمَن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قالَ اللّه : اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَـمْ يُقْرِضنِـي، وشَتَـمَنِـي وَلَـمْ يَنْبَغِ لَهُ أنْ يَشْتِـمَنِـي، يَقُولُ: وَادَهْرَاهُ وأنا الدّهْرُ أنا الدّهْرُ). ١٧٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمَن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. فأضاف تعالـى ذكره الاستقراض والعيادة إلـى نفسه، وقد كان ذلك بغيره إذ كان ذلك عن سببه. وقد حُكي عن العرب سماعا: أجوع فـي غير بطنـي، وأعرى فـي غير ظهري، بـمعنى جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم، فكذلك قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ بـمعنى يعلـم أولـيائي وحزبـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٧٠٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس : وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلا لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ قال ابن عبـاس : لنـميز أهل الـيقـين من أهل الشرك والريبة. وقال بعضهم: إنـما قـيـل ذلك من أجل أن العرب تضع العلـم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلـم، كما قال جل ذكره: ألَـمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بأصحابِ الفِـيـلِ. فزعم أن معنى: ألَـمْ تَرَ: ألـم تعلـم، وزعم أن معنى قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ بـمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أن قول القائل: رأيت وعلـمت وشهدت حروف تتعاقب فـيوضع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية: كأنّك لـمْ تَشْهَدْ لَقِـيطا وَحاجِبـاوعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعا يالَ دارِمِ بـمعنى: كأنك لـم تعلـم لقـيطا لأن بـين هلك لقـيط وحاجب وزمان جرير ما لا يخفـى بعده من الـمدّة. وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا فـي الـجاهلـية، وجرير كان بعد برهة مضت من مـجيء الإسلام. وهذا تأويـل بعيد، من أجل أن الرؤية وإن استعملت فـي موضع العلـم من أجل أنه مستـحيـل أن يرى أحد شيئا، فلا توجب رؤيته إياه علـما بأنه قد رآه إذا كان صحيح الفطرة، فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية أن يضاف إلـيه إثبـاته إياه علـما، وصحّ أن يدلّ بذكر الرؤية علـى معنى العلـم من أجل ذلك. فلـيس ذلك وإن كان فـي الرؤية لـما وصفنا بجائز فـي العلـم، فـيدلّ بذكر الـخبر عن العلـم علـى الرؤية لأن الـمرء قد يعلـم أشياء كثـيرة لـم يرها ولا يراها، ويستـحيـل أن يرى شيئا إلا علـمه، كما قد قدمنا البـيان، مع أنه غير موجود فـي شيء من كلام العرب أن يقال: علـمت كذا بـمعنى رأيته، وإنـما يجوز توجيه معانـي ما فـي كتاب اللّه الذي أنزله علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الكلام إلـى ما كان موجودا مثله فـي كلام العرب دون ما لـم يكن موجودا فـي كلامها، فموجود فـي كلامها (رأيت) بـمعنى (علـمت)، وغير موجود فـي كلامها (علـمت) بـمعنى (رأيت)، فـيجوز توجيه إلاّ لِنَعلـمَ إلـى معنى: إلا لنرى. وقال آخرون: إنـما قـيـل: إلاّ لِنَعْلَـمَ من أجل أن الـمنافقـين والـيهود وأهل الكفر بـاللّه أنكروا أن يكون اللّه تعالـى ذكره يعلـم الشيء قبل كونه، وقالوا إذ قـيـل لهم: إن قوما من أهل القبلة سيرتدّون علـى أعقابهم، إذا حوّلت قبلة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إلـى الكعبة: ذلك غير كائن، أو قالوا: ذلك بـاطل. فلـما فعل اللّه ذلك، وحوّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر، قال اللّه جل ثناؤه: ما فعلت إلا لنعلـم ما عندكم أيها الـمشركون الـمنكرون علـمي بـما هو كائن من الأشياء قبل كونه، أنـي عالـم بـما هو كائن مـما لـم يكن بعد. فكأن معنى قائل هذا القول فـي تأويـل قوله: إلا لِنَعْلَـمَ إلا لنبـين لكم أنا نعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه. وهذا وإن كان وجها له مخرج، فبعيد من الـمفهوم. وقال آخرون: إنـما قـيـل: إلاّ لِنَعْلَـمَ وهو بذلك عالـم قبل كونه وفـي كل حال، علـى وجه الترفّق بعبـاده، واستـمالتهم إلـى طاعته، كما قال جل ثناؤه: قُل اللّه وإنّا أو إيّاكُمْ لَعَلَـىَ هُدًى أوْ فِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ وقد علـم أنه علـى هدى وأنهم علـى ضلال مبـين، ولكنه رفق بهم فـي الـخطاب، فلـم يقل: أنا علـى هدى، وأنتـم علـى ضلال. فكذلك قوله: إلاّ لِنَعْلَـمَ معناه عندهم: إلا لتعلـموا أنتـم إذ كنتـم جهالاً به قبل أن يكون فأضاف العلـم إلـى نفسه رفقا بخطابهم. وقد بـينا القول الذي هو أولـى فـي ذلك بـالـحقّ. وأما قوله: مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ فإنه يعنـي: الذي يتبع مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـيـما يأمره اللّه به، فـيوجه نـحو الوجه الذي يتوجه نـحوه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وأما قوله: مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ فإنه يعنـي: من الذي يرتدّ عن دينه، فـينافق، أو يكفر، أو يخالف مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك مـمن يظهر اتبـاعه. كما: ١٧٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتِـي كُنْتَ عَلَـيْهَا إلاّ لِنَعْلَـمَ مَنْ يَتّبعُ الرّسُولَ مِـمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَـىَ عَقِبَـيْهِ قال: من إذا دخـلته شبهة رجع عن اللّه ، وانقلب كافرا علـى عقبـيه. وأصل الـمرتدّ علـى عقبـيه: هو الـمنقلب علـى عقبـيه الراجع مستدبرا فـي الطريق الذي قد كان قطعه منصرفـا عنه، فقـيـل ذلك لكل راجع عن أمر كان فـيه من دين أو خير، ومن ذلك قوله: فـارْتَدّا علـى آثارِهِما قَصصا بـمعنى رجعا فـي الطريق الذي كانا سلكاه. وإنـما قـيـل للـمرتدّ مرتدّ، لرجوعه عن دينه وملّته التـي كان علـيها. وإنـما قـيـل رجع علـى عقبـيه لرجوعه دبرا علـى عقبه إلـى الوجه الذي كان فـيه بدء سيره قبل رجعه عنه، فـيجعل ذلك مثلاً لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره إذا انصرف عما كان فـيه إلـى الذي كان له تاركا فأخذه، فقـيـل ارتدّ فلان علـى عقبه، وانقلب علـى عقبـيه. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه . اختلف أهل التأويـل فـي التـي وصفها اللّه جلّ وعزّ بأنها كانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى اللّه . فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه بـالكبـيرة: التولـية من بـيت الـمقدس شطر الـمسجد الـحرام والتـحويـل، وإنـما أنّث الكبـيرة لتأنـيث التولـية. ذكر من قال ذلك: ١٧٠٥ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : قال اللّه : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه يعنـي تـحويـلها. ١٧٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه قال: ما أمروا به من التـحوّل إلـى الكعبة من بـيت الـمقدس. ١٧٠٧ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٧٠٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه قال: كبـيرة حين حوّلت القبلة إلـى الـمسجد الـحرام، فكانت كبـيرة إلا علـى الذين هدى اللّه . وقال آخرون: بل الكبـيرة هي القبلة بعينها التـي كان صلى اللّه عليه وسلم يتوجه إلـيها من بـيت الـمقدس قبل التـحويـل. ذكر من قال ذلك. ١٧٠٩ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً أي قبلة بـيت الـمقدس، إلاّ علـى الّذِينَ هَدَىَ اللّه . وقال بعضهم: بل الكبـيرة: هي الصلاة التـي كانوا يصلّونها إلـى القبلة الأولـى. ذكر من قال ذلك. ١٧١٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه قال: صلاتكم حتـى يهديكم اللّه عزّ وجل القبلة. ١٧١١ـ وقد حدثنـي به يونس مرّة أخرى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً قال: صلاتك هَهنا يعنـي إلـى بـيت الـمقدس ستة عشر شهرا وانـحرافك هَهنا. وقال بعض نـحويـي البصرة: أنثت الكبـيرة لتأنـيث القبلة، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: وَإنْ كانَتْ لَكَبِـيرَةً وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل أنثت الكبـيرة لتأنـيث التولـية والتـحويـلة. فتأويـل الكلام علـى ما تأوله قائلو هذه الـمقالة: وما جعلنا تـحويـلتنا إياك عن القبلة التـي كنت علـيها وتولـيتناك عنها إلا لنعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه، وإن كانت تـحويـلتنا إياك عنها وتولـيتناك لكبـيرة إلا علـى الذين هدى اللّه . وهذا التأويـل أولـى التأويلات عندي بـالصواب، لأن القوم إنـما كبر علـيهم تـحويـل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وجهه عن القبلة الأولـى إلـى الأخرى لا عين القبلة ولا الصلاة لأن القبلة الأولـى والصلاة قد كانت وهي غير كبـيرة علـيهم إلا أن يوجه موجّه تأنـيث الكبـيرة إلـى القبلة، و يقول: اجتزىء بذكر القبلة من ذكر التولـية والتـحويـلة لدلالة الكلام علـى معنى ذلك، كما قد وصفنا لك فـي نظائره، فـيكون ذلك وجها صحيحا ومذهبـا مفهوما. ومعنى قوله: كَبِـيرَةً عظيـمة. كما: ١٧١٢ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَىَ اللّه قال: كبـيرة فـي صدور الناس فـيـما يدخـل الشيطان به ابن آدم، قال: ما لهم صلوا إلـى هَهنا ستة عشر شهرا ثم انـحرفوا فكبرُ ذلك فـي صدور من لا يعرف ولا يعقل والـمنافقـين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا فثبت اللّه جل ثناؤه ذلك فـي قلوبهم. وقرأ قول اللّه : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه قال صلاتكم حتـى يهديكم إلـى القبلة. قال أبو جعفر: وأما قوله: إلاّ عَلَـىَ الّذِينَ هَدَىَ اللّه فإنه يعنـي به: وإن كان تقلـيبَتُناك عن القبلة التـي كنت علـيها لعظيـمة إلا علـى من وفّقه اللّه جل ثناؤه فهداه لتصديقك، والإيـمان بك وبذلك، واتبـاعك فـيه وفـيـما أنزل اللّه تعالـى ذكره علـيك. كما: ١٧١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَإنْ كَانَتْ لَكَبِـيرَةً إلاّ عَلَـى الّذِينَ هَدَى اللّه يقول: إلا علـى الـخاشعين، يعنـي الـمصدّقـين بـما أنزل اللّه تبـارك وتعالـى. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُم قـيـل: عنى بـالإيـمان فـي هذا الـموضع الصلاة. ذكر الأخبـار التـي رُويت بذلك وذكر قول من قاله: ١٧١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وعبـيد اللّه ، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى جميعا، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما وجّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الكعبة قالوا: كيف بـمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس؟ فأنزل اللّه جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ. ١٧١٥ـ حدثنـي إسماعيـل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن البراء في قول اللّه عز وجل: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس. ١٧١٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن البراء نـحوه. ١٧١٧ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن مـحمد بن نفـيـل عن الـحرّانـي، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: مات علـى القبلة قبل أن تـحوّل إلـى البـيت رجال وقُتلوا، فلـم ندر ما نقول فـيهم، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ. ١٧١٨ـ حدثنا بشر بن معاذ العقديّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال أناس من الناس لـما صرفت القبلة نـحو البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا؟ فأنزل اللّه جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ. ١٧١٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنـي عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما توجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل الـمسجد الـحرام، قال الـمسلـمون: لـيت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بـيت الـمقدس، هل تقبل اللّه منا ومنهم أم لا؟ فأنزل اللّه جل ثناؤه فـيهم: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم قبل بـيت الـمقدس، يقول: إن تلك طاعة وهذه طاعة. ١٧٢٠ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قال: قال ناس لـما صرفت القبلة إلـى البـيت الـحرام: كيف بأعمالنا التـي كنا نعمل فـي قبلتنا الأولـى؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضيعَ إيـمَانَكُمْ الآية. ١٧٢١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي داود بن أبـي عاصم، قال: لـما صرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الكعبة، قال الـمسلـمون: هلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلـى بـيت الـمقدس، فنزلت: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ. ١٧٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ يقول: صلاتكم التـي صلـيتـموها من قبل أن تكون القبلة، فكان الـمؤمنون قد أشفقوا علـى من صلـى منهم أن لا تقبل صلاتهم. ١٧٢٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ صلاتكم. ١٧٢٤ـ حدثنا مـحمد بن إسماعيـل الفزاري، قال: أخبرنا الـمؤمل، قال: حدثنا سفـيان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب فـي هذه الآية: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ قال: صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس. قد دللنا فـيـما مضى علـى أن الإيـمان التصديق، وأن التصديق قد يكون بـالقول وحده وبـالفعل وحده وبهما جميعا فمعنى قوله: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ علـى ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة: وما كان اللّه لـيضيع تصديق رسوله علـيه الصلاة والسلام بصلاتكم التـي صلـيتـموها نـحو بـيت الـمقدس عن أمره لأن ذلك كان منكم تصديقا لرسولـي، واتبـاعا لأمري، وطاعة منكم لـي قال: وإضاعته إياه جل ثناؤه لو أضاعه ترك إثابة أصحابه وعاملـيه علـيه، فـيذهب ضياعا ويصير بـاطلاً، كهيئة إضاعة الرجل ماله، وذلك إهلاكه إياه فـيـما لا يعتاض منه عوضا فـي عاجل ولا آجل. فأخبر اللّه جل ثناؤه أنه لـم يكن يبطل عمل عامل عمل له عملاً وهو له طاعة فلا يثـيبه علـيه، وإن نسخ ذلك الفرض بعد عمل العامل إياه علـى ما كلفه من عمله. فإن قال قائل: وكيف قال اللّه جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللّه لِـيُضِيعَ إيـمَانَكُمْ فأضاف الإيـمان إلـى الأحياء الـمخاطبـين، والقوم الـمخاطبون بذلك إنـما كانوا أشفقوا علـى إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نـحو بـيت الـمقدس، وفـي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟ قـيـل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضا قد كانوا مشفقـين من حبوط ثواب صلاتهم التـي صلوها إلـى بـيت الـمقدس قبل التـحويـل إلـى الكعبة، وظنوا أن عملهم ذلك قد بطل وذهب ضياعا، فأنزل اللّه جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجه الـخطاب بها إلـى الأحياء، ودخـل فـيهم الـموتـى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتـمع فـي الـخبر الـمخاطب والغائب أن يغلبوا الـمخاطب، فـيدخـل الغائب فـي الـخطاب، فـيقولوا لرجل خاطبوه علـى وجه الـخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: فعلنا بكما وصنعنا بكما، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران، ولا يستـجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فـيردّوا الـمخاطب إلـى عداد الغَيَبِ. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إن اللّه بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ. ويعنـي بقوله جل ثناؤه: إنّ اللّه بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ أن اللّه بجميع عبـاده ذو رأفة. والرأفة أعْلـى معانـي الرحمة، وهي عامة لـجميع الـخـلق فـي الدنـيا ولبعضهم فـي الاَخرةوأما الرحيـم، فإنه ذو الرحمة للـمؤمنـين فـي الدنـيا والاَخرة علـى ما قد بـينا فـيـما مضى قبل. وإنـما أراد جل ثناؤه بذلك أن اللّه عزّ وجلّ أرحم بعبـاده من أن يضيع لهم طاعة أطاعوه بها فلا يثـيبهم علـيها، وأرأف بهم من أن يؤاخذهم بترك ما لـم يفرضه علـيهم. أي ولا تأسوا علـى موتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلـى بـيت الـمقدس، فإنـي لهم علـى طاعتهم إياي بصلاتهم التـي صلوها كذلك مثـيب، لأنـي أرحم بهم من أن أضيع لهم عملاً عملوه لـي. ولا تـحزنوا علـيهم، فإنـي غير مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلـى الكعبة، لأنـي لـم أكن فرضت ذلك علـيهم، وأنا أرأف بخـلقـي من أن أعاقبهم علـى تركهم ما لـم آمرهم بعمله. وفـي الرءوف لغات: إحداها (رَؤُف) علـى مثال (فَعُل) كما قال الولـيد بن عقبة: وَشَرّ الطّالِبِـينَ وَلاَ تَكُنْهُبِقاتِلِ عَمّهِ الرّؤُفُ الرّحِيـما وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة. والأخرى (رءوف) علـى مثال (فَعُول)، وهي قراءة عامة قرّاء الـمدينة. و (رَئِف)، وهي لغة غطفـان، علـى مثال (فَعِل) مثل (حَذِر). و (رَأْف) علـى مثال (فَعْل) بجزم العين، وهي لغة لبنـي أسد، والقراءة علـى أحد الوجهين الأوّلـين. ١٤٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا مـحمد نـحن تقلب وجهك فـي السماء. ويعنـي بـالتقلب: التـحوّل والتصرّف. ويعنـي بقوله: فـي السّماء نـحو السماء وقِبَلها. وإنـما قـيـل له ذلك صلى اللّه عليه وسلم فـيـما بلغنا، لأنه كان قبل تـحويـل قبلته من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة يرفع بصره إلـى السماء ينتظر من اللّه جل ثناؤه أمره بـالتـحويـل نـحو الكعبة. كما: ١٧٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ قال: كان صلى اللّه عليه وسلم يقلب وجهه فـي السماء يحبّ أن يصرفه اللّه عزّ وجلّ إلـى الكعبة حتـى صرفه اللّه إلـيها. ١٧٢٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ فكان نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلـي نـحو بـيت الـمقدس، يَهْوَى ويشتهي القبلة نـحو البـيت الـحرام، فوجهه اللّه جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها. ١٧٢٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنـي إسحاق، قال: حدثنـي ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ يقول: نظرك فـي السماء. وكان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يقلب وجهه فـي الصلاة وهو يصلـي نـحو بـيت الـمقدس، وكان يَهْوَى قبلة البـيت الـحرام، فولاه اللّه قبلة كان يهواها. ١٧٢٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: كان الناس يصلون قِبَل بـيت الـمقدس، فلـما قدم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة علـى رأس ثمانـية عشر شهرا من مهاجره، كان إذا صلـى رفع رأسه إلـى السماء ينظر ما يؤمر، وكان يصلـي قبل بـيت الـمقدس. فنسختها الكعبة، فكان النبـي صلى اللّه عليه وسلم يحبّ أن يصلـي قِبَل الكعبة، فأنزل اللّه جل ثناؤه: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّماءِ الآية. ثم اختلف فـي السبب الذي من أجله كان صلى اللّه عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة. قال بعضهم: كره قبلة بـيت الـمقدس، من أجل أن الـيهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فـي ديننا. ذكر من قال ذلك: ١٧٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: قالت الـيهود: يخالفنا مـحمد، ويتبع قبلتنا فكان يدعو اللّه جل ثناؤه، ويستفرض للقبلة، فنزلت: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا فـي صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال. ١٧٣٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته، يعنـي ابن زيد يقول: قال اللّه تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَؤُلاَءِ قَوْمُ يَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَـيْتا مِنْ بُـيُوتِ اللّه ) لبـيت الـمقدس (لو أنا اسْتَقْبَلْنَاهُ)، فـاستقبله النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: واللّه ما درى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أين قبلتهم حتـى هديناهم. فكره ذلك النبـي صلى اللّه عليه وسلم، ورفع وجهه إلـى السماء، فقال اللّه جل ثناؤه: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ الآية. وقال آخرون: بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبـيه إبراهيـم علـيه السلام. ذكر من قال ذلك: ١٧٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما هاجر إلـى الـمدينة وكان أكثر أهلها الـيهود أمره اللّه عزّ وجل أن يستقبل بـيت الـمقدس، ففرحت الـيهود، فـاستقبلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة عشر شهرا. فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم، فكان يدعو وينظر إلـى السماء، فأنزل اللّه عزّ وجل: قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِـي السّمَاءِ... الآية. فأما قوله: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فإنه يعنـي: فلنصرفنك عن بـيت الـمقدس إلـى قبلة ترضاها، تهواها وتـحبها. وأما قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ يعنـي اصرف وجهك وحوّلهوقوله: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ يعنـي بـالشطر: النـحو والقصد والتلقاء، كما قال الهذلـي: إنّ العَسِير بِهَا دَاءٌ مُخامِرُهافَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَـيْن مَـحْسُورُ يعنـي بقوله شطرها: نـحوها. وكما قال ابن أحمر: تَعْدُو بِنا شَطْرَ جَمْعٍ وهْيَ عاقِدَةٌقَدْ كارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَـادِها الـحَقَبـا وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٧٣٢ـ حدثنـي سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـيّ، عن سفـيان، عن داود بن أبـي هند، عن ابن أبـي العالـية: شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَام يعنـي تلقاءه. ١٧٣٣ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ نـحوه. ١٧٣٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ نـحوه. ١٧٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٧٣٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أي تلقاء الـمسجد الـحرام. ١٧٣٧ـ حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: نـحو الـمسجد الـحرام. ١٧٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ أي تلقاءه. ١٧٣٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس أنه قال: شطره: نـحوه. ١٧٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن البراء: فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال: قِبَله. ١٧٤١ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: شَطْرَهُ ناحيته جانبه، قال: وجوانبه: شطوره. ثم اختلفوا فـي الـمكان الذي أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يولـي وجهه إلـيه من الـمسجد الـحرام. فقال بعضهم: القبلة التـي حوّل إلـيها النبـي صلى اللّه عليه وسلم وعناها اللّه تعالـى ذكره بقوله: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة. ذكر من قال ذلك: ١٧٤٢ـ حدثنـي عبد اللّه بن أبـي زياد، قال: حدثنا عثمان، قال: أنا شعبة، عن يعلـى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، عن عبد اللّه بن عمرو: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة. ١٧٤٣ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا هشيـم، عن يعلـى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، قال: رأيت عبد اللّه بن عمرو جالسا فـي الـمسجد الـحرام بإزاء الـميزاب، وتلا هذه الآية: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا قال: هذه القبلة هي هذه القبلة. ١٧٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم بإسناده عن عبد اللّه بن عمرو نـحوه، إلا أنه قال: استقبل الـميزاب فقال: هذا القبلة التـي قال اللّه لنبـيه: فَلَنُوَلّـيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا. وقال آخرون: بل ذلك البـيت كله قبلة، وقبلة البـيت البـاب. ذكر من قال ذلك: ١٧٤٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : البـيت كله قبلة، وهذه قبلة البـيت، يعنـي التـي فـيها البـاب. والصواب من القول فـي ذلك عندي ما قال اللّه جل ثناؤه: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ فـالـمولّـي وجهه شطر الـمسجد الـحرام هو الـمصيب القبلة. وإنـما علـى من توجه إلـيه النـية بقلبه أنه إلـيه متوجه، كما أن علـى من ائتـمّ بإمام فإنـما علـيه الائتـمام به وإن لـم يكن مـحاذيا بدنه بدنه، وإن كان فـي طرف الصف والإمام فـي طرف آخر عن يـمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خـلفه مؤتـما به مصلـيا إلـى الوجه الذي يصلـي إلـيه الإمام. فكذلك حكم القبلة، وإن لـم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إلـيها ببدنه غير أنه متوجه إلـيها، فإن كان عن يـمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بـينه وبـينها، أو قرب من عن يـمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منـحرف عنها ببدنه ووجهه. كما: ١٧٤٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: أخبرنا إسرائيـل عن أبـي إسحاق عن عميرة بن زياد الكندي، عن علـيّ: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: شطره قِبَله. قال أبو جعفر: وقبلة البـيت: بـابه. كما: ١٧٤٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، والفضل بن الصبـاح، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين خرج من البـيت أقبل بوجهه إلـى البـاب فقال: (هَذِهِ القِبْلَةُ، هَذِهِ القِبْلَةُ). ١٧٤٨ـ حدثنا ابن حميد وسفـيان بن وكيع قالا: حدثنا جرير، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء، قال: حدثنـي أسامة بن زيد، قال: خرج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من البـيت، فصلـى ركعتـين مستقبلاً بوجهه الكعبة، فقال: (هذه القِبْلَةُ) مرّتـين. ١٧٤٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان، عن عبد الـملك، عن عطاء، عن أسامة بن زيد، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحوه. ١٧٥٠ـ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبـيّ، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: سمعت ابن عبـاس يقول: إنـما أمرتـم بـالطواف، ولـم تؤمروا بدخوله قال: لـم يكن ينهى عن دخوله، ولكنـي سمعته يقول: أخبرنـي أسامة بن زيد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما دخـل البـيت دعا فـي نواحيه كلها، ولـم يصلّ حتـى خرج، فلـما خرج ركع فـي قبل القبلة ركعتـين وقال: (هذه القِبْلَةُ). قال أبو جعفر: فأخبر صلى اللّه عليه وسلم أن البـيت هو القبلة، وأن قبلة البـيت بـابه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَحَيْثُمَا كُنْتُـمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. يعنـي جل ثناؤه بذلك: فأينـما كنتـم من الأرض أيها الـمؤمنون فحوّلوا وجوهكم فـي صلاتكم نـحو الـمسجد الـحرام وتلقاءه. والهاء التـي فـي (شطره) عائدة إلـى الـمسجد الـحرام. فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية علـى الـمؤمنـين فرض التوجه نـحو الـمسجد الـحرام فـي صلاتهم حيث كانوا من أرض اللّه تبـارك وتعالـى. وأدخـلت الفـاء فـي قوله: فَوَلّوا جوابـا للـجزاء، وذلك أن قوله: حَيْثُمَا كُنْتُـمْ جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وإن الذين أوتوا الكتاب أحبـار الـيهود وعلـماء النصارى. وقد قـيـل إنـما عنى بذلك الـيهود خاصة. ذكر من قال ذلك: ١٧٥١ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ أنزل ذلك فـي الـيهودوقوله: لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعنـي هؤلاء الأحبـار والعلـماء من أهل الكتاب، يعلـمون أن التوجه نـحو الـمسجد الـحقّ الذي فرضه اللّه عزّ وجلّ علـى إبراهيـم وذرّيته وسائر عبـاده بعده. ويعنـي بقوله: مِنْ رَبّهِمْ أنه الفرض الواجب علـى عبـاد اللّه تعالـى ذكره، وهو الـحقّ من عند ربهم فرضه علـيهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ. يعنـي بذلك تبـارك وتعالـى: ولـيس اللّه بغافل عما تعملون أيها الـمؤمنون فـي اتبـاعكم أمره وانتهائكم إلـى طاعته فـيـما ألزمكم من فرائضه وإيـمانكم به فـي صلاتكم نـحو بـيت الـمقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر الـمسجد الـحرام، ولا هو ساهٍ عنه، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتـى يجازيكم به أحسن جزاء، ويثـيبكم علـيه أفضل ثواب. ١٤٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ...} يعنـي بذلك تبـارك اسمه: ولئن جئت يا مـحمد الـيهود والنصارى بكل برهان وحجة وهي الآية بأن الـحقّ هو ما جئتهم به من فرض التـحوّل من قبلة بـيت الـمقدس فـي الصلاة إلـى قبلة الـمسجد الـحرام، ما صدّقوا به ولا اتبعوا مع قـيام الـحجة علـيهم بذلك قبلتك التـي حوّلتك إلـيها وهي التوجه شطر الـمسجد الـحرام. وأجيبت (لئن) بـالـماضي من الفعل وحكمها الـجواب بـالـمستقبل تشبـيها لها ب(لو)، فأجيبت بـما تـجاب به لو لتقارب معنـيـيهما وقد مضى البـيان عن نظير ذلك فـيـما مضى. وأجيبت (لو) بجواب الأيـمان، ولا تفعل العرب ذلك إلا فـي الـجزاء خاصة لأن الـجزاء مشابه الـيـمين فـي أن كل واحد منهما لا يتـمّ أوّله إلا بآخره، ولا يتـمّ وحده، ولا يصحّ إلا بـما يؤكد به بعده، فلـما بدأ بـالـيـمين فأدخـلت علـى الـجزاء صارت اللام الأولـى بـمنزلة يـمين، والثانـية بـمنزلة جواب لها، كما قـيـل: لعمرك لتقومنّ، إذ كثرت اللام من (لعمرك) حتـى صارت كحرف من حروفه، فأجيب بـما يجاب به الأيـمان، إذ كانت اللام تنوب فـي الأيـمان عن الأيـمان دون سائر الـحروف غير التـي هي أحقّ به الأيـمان، فتدلّ علـى الأيـمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيـمان لنا علـى الأيـمان فشبهت اللام التـي فـي جواب الأيـمان بـالأيـمان لـما وصفنا، فأجيبت بأجوبتها. فكان معنى الكلام إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: لو أتـيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك. وأما قوله: وَمَا أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يقول: وما لك من سبـيـل يا مـحمد إلـى اتبـاع قبلتهم، وذلك أن الـيهود تستقبل بـيت الـمقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل الـمشرق، فأنى يكون لك السبـيـل إلـى اتبـاع قبلتهم مع اختلاف وجوهها. يقول: فـالزم قبلتك التـي أمرت بـالتوجه إلـيها، ودع عنك ما تقوله الـيهود والنصارى، وتدعوك إلـيه من قبلتهم واستقبـالها. وأما قوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنه يعنـي بقوله: وما الـيهود بتابعة قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعة قبلة الـيهود فمتوجهة نـحوها. كما: ١٧٥٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يقول: ما الـيهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة الـيهود قال: وإنـما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـما حوّل إلـى الكعبة، قالت الـيهود: إن مـحمدا اشتاق إلـى بلد أبـيه ومولده، ولو ثبت علـى قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر فأنزل اللّه عز وجلّ فـيهم: وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَـيَعْلَـمُونَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّهِمْ إلـى قوله: لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ. ١٧٥٣ـ حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ مثل ذلك. وإنـما يعنـي جل ثناؤه بذلك أن الـيهود والنصارى لا تـجتـمع علـى قبلة واحدة مع إقامة كل حزب منهم علـى ملتهم، فقال تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد لا تُشعر نفسك رضا هؤلاء الـيهود والنصارى، فإنه أمر لا سبـيـل إلـيه، لأنهم مع اختلاف مللّهم لا سبـيـل لك إلـى إرضاء كل حزب منهم، من أجل أنك إن اتبعت قبلة الـيهود أسخطت النصارى، وإن اتبعت قبلة النصارى أسخطت الـيهود، فدع ما لا سبـيـل إلـيه، وادعهم إلـى ما لهم السبـيـل إلـيه من الاجتـماع علـى ملتك الـحنـيفـية الـمسلـمة، وقبلتك قبلة إبراهيـم والأنبـياء من بعده. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ إنّكَ إذا لَـمِنَ الظّالِـمِينَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ: ولئن التـمست يا مـحمد رضا هؤلاء الـيهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودا أوْ نَصَارَىَ تَهْتَدُوا فـاتبعت قبلتهم يعنـي فرجعت إلـى قبلتهم. ويعنـي بقوله: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ من بعد ما وصل إلـيك من العلـم بإعلامي إياك أنهم مقـيـمون علـى بـاطل وعلـى عناد منهم للـحقّ، ومعرفة منهم أن القبلة التـي وجهتك إلـيها هي القبلة التـي فرضت علـى أبـيك إبراهيـم علـيه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نـحوها إنّكَ إذا لَـمِنَ الظّالِـمِينَ يعنـي أنك إذا فعلت ذلك من عبـادي الظلـمة أنفسهم، الـمخالفـين أمري، والتاركين طاعتـي، وأحدُهم وفـي عدادهم. ١٤٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ... يعنـي جل ثناؤه بقوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ أحبـار الـيهود وعلـماء النصارى. يقول: يعرف هؤلاء الأحبـار من الـيهود والعلـماء من النصارى أن البـيت الـحرام قبلتهم وقبلة إبراهيـم وقبلة الأنبـياء قبلك، كما يعرفون أبناءهم. كما: ١٧٥٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ يقول: يعرفون أن البـيت الـحرام هو القبلة. ١٧٥٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قول اللّه عز وجل: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ يعنـي القبلة. ١٧٥٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ عرفوا أن قبلة البـيت الـحرام هي قبلتهم التـي أمروا بها، كما عرفوا أبناءهم. ١٧٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ يعنـي بذلك الكعبة البـيت الـحرام. ١٧٥٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ يعرفون الكعبة من قبلة الأنبـياء، كما يعرفون أبناءهم. ١٧٥٩ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ قال: الـيهود يعرفون أنها هي القبلة مكة. ١٧٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج فـي قوله: الّذِينَ آتَـيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ قال: القبلة والبـيت. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ فَريقا مِنْهُمْ لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ يقول جل ثناؤه: وإن طائفة من الذين أوتوا الكتاب وهم الـيهود والنصارى. وكان مـجاهد يقول: هم أهل الكتاب. ١٧٦١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو يعنـي البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بذلك. ١٧٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، مثله. ١٧٦٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، مثله. قال أبو جعفر: وقوله: لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وذلك الـحقّ هو القبلة التـي وجه اللّه عز وجلّ إلـيها نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، يقول: فولّ وجهك شطر الـمسجد الـحرام التـي كانت الأنبـياء من قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يتوجهون إلـيها. فكتـمتها الـيهود والنصارى، فتوجه بعضهم شرقا وبعضهم نـحو بـيت الـمقدس، ورفضوا ما أمرهم اللّه به، وكتـموا مع ذلك أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. فأطلع اللّه عز وجلّ مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وأمته علـى خيانتهم اللّه تبـارك وتعالـى، وخيانتهم عبـاده، وكتـمانهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك علـى علـم منهم بأن الـحقّ غيره، وأن الواجب علـيهم من اللّه جل ثناؤه خلافه فقال: لـيكتـمون الـحقّ وهم يعلـمون أن لـيس لهم كتـمانه، فـيتعمدون معصية اللّه تبـارك وتعالـى. كما: ١٧٦٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: وَإنّ فَريقا مِنْهُمْ لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ فكتـموا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم. ١٧٦٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ قال: يكتـمون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. ١٧٦٦ـ حدثنا الـمثنى قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَإنّ فَرِيقا مِنْهُمْ لَـيَكْتُـمُونَ الـحَقّ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ يعنـي القبلة. ١٤٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } يقول اللّه جل ثناؤه: اعلـم يا مـحمد أن الـحقّ ما أعلـمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لك الـيهود والنصارى. وهذا من اللّه تعالـى ذكره خبر لنبـيه علـيه الصلاة والسلام عن أن القبلة التـي وجهه نـحوها هي القبلة الـحقّ التـي كان علـيها إبراهيـم خـلـيـل الرحمَن، ومن بعده من أنبـياء اللّه عزّ وجلّ. يقول تعالـى ذكره له: فـاعمل بـالـحقّ الذي أتاك من ربك يا مـحمد ولا تكوننّ من الـمـمترين، يعنـي بقوله: فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ أي فلا تكونن من الشاكين فـي أن القبلة التـي وجهتك نـحوها قبلة إبراهيـم خـلـيـلـي علـيه السلام وقبلة الأنبـياء غيره. كما: ١٧٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال اللّه تعالـى ذكره لنبـيه علـيه الصلاة والسلام: الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ يقول: لا تكن فـي شكّ أنها قبلتك وقبلة الأنبـياء من قبلك. ١٧٦٨ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ قال: من الشاكين قال: لا تشكنّ فـي ذلك. والـمـمتري: مفتعل من الـمرية، والـمرية هي الشكّ، ومنه قول الأعشى: تَدُرّ عَلَـىَ أسْؤُقِ الـمُـمْتَرِيينَ رَكْضا إذَا ما السّرَابُ ارْجَحَنّ فإن قال لنا قائل: أوَكان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم شاكا فـي أن الـحقّ من ربه، أو فـي أن القبلة التـي وجهه اللّه إلـيها حقّ من اللّه تعالـى ذكره حتـى نهي عن الشكّ فـي ذلك فَقِـيـل لَهُ: فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ؟ قـيـل: ذلك من الكلام الذي تـخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للـمخاطب به والـمراد به غيره، كما قال جل ثناؤه: يَا أَيّهَا النّبـيّ اتّقِ اللّه وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْـمُنَافِقِـينَ ثم قال: وَاتّبِعْ ما يُوحَىَ إلَـيْكَ مِنْ رَبّكَ إن اللّه كَانَ بِـمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرا فخرج الكلام مخرج الأمر للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم والنهي له، والـمراد به أصحابه الـمؤمنون به. وقد بـينا نظير ذلك فـيـما مضى قبلُ بـما أغنى عن إعادته. ١٤٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا ... } يعنـي بقوله تعالـى ذكره: ولكلّ ولكل أهل ملة، فحذف أهل الـملة واكتفـى بدلالة الكلام علـيه. كما: ١٧٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ قال: لكل صاحب ملة. ١٧٧٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها فللـيهود وجهة هو مولـيها وللنصارى وجهة هو مولـيها، وهداكم اللّه عزّ وجل أنتـم أيتها الأمة للقبلة التـي هي قبلته. ١٧٧١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها؟ قال: لكل أهل دين الـيهود والنصارى. قال ابن جريج: قال مـجاهد: لكل صاحب ملة. ١٧٧٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مَوَلّـيها قال للـيهود قبلة، وللنصارى قبلة، ولكم قبلة. يريد الـمسلـمين. ١٧٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَلِكُلَ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها يعنـي بذلك أهل الأديان، يقول: لكلّ قبلة يرضونها، ووجهُ اللّه تبـارك وتعالـى اسمه حيث توجه الـمؤمنون وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قال: فأيْنَـمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه إنّ اللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ. ١٧٧٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلِكُلَ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها يقول: لكل قوم قبلة قد وُلّوها. فتأويـل أهل هذه الـمقالة فـي هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلة هو مستقبلها ومولّ وجهه إلـيها. وقال آخرون بـما: ١٧٧٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها قال: هي صلاتهم إلـى بـيت الـمقدس وصلاتهم إلـى الكعبة. وتأويـل قائل هذه الـمقالة: ولكل ناحية وجهك إلـيها ربك يا مـحمد قبلة اللّه عز وجل مولـيها عبـادهوأما الوجهة فإنها مصدر مثل القِعْدة والـمِشْية من التوجه، وتأويـلها: متوجّه يتوجه إلـيها بوجهه فـي صلاته. كما: ١٧٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وجهةٌ قبلة. ١٧٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ١٧٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ قال: وجه. ١٧٧٩ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وجهة: قبلة. ١٧٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، قال: قلت لـمنصور: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها قال: نـحن نقرؤها: ولكلّ جعلنا قبلة يرضونها. وأما قوله: هُوَ مُوَلّـيها فإنه يعنـي: هو مولّ وجهه إلـيها مستقبلها. كما: ١٧٨١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: هُوَ مُوَلّـيها قال: هو مستقبلها. ١٧٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ومعنى التولـية هَهنا الإقبـال، كما يقول القائل لغيره: انصرف إلـيّ، بـمعنى أقبل إلـيّ والانصراف الـمستعمل إنـما هو الانصراف عن الشيء، ثم يقال: انصرف إلـى الشيء بـمعنى أقبل إلـيه منصرفـا عن غيره. وكذلك يقال: ولـيت عنه: إذا أدبرت عنه، ثم يقال: ولـيت إلـيه بـمعنى أقبلت إلـيه مولـيا عن غيره. والفعل، أعنـي التولـية فـي قوله: هُوَ مُوَلّـيها لل(كلّ) و (هو) التـي مع (مولـيها) هو (الكل) وُحّدت للفظ (الكل). فمعنى الكلام إذا: ولكل أهل ملة وجهة، الكلّ منهم مولّوها وجوههم. وقد رُوي عن ابن عبـاس وغيره أنهم قرأوا: (هو مُوَلاّها) بـمعنى أنه موّجه نـحوها، ويكون الكلام حينئذ غير مسمى فـاعله، ولو سمي فـاعله لكان الكلام: ولكل ذي ملة وجهة اللّه مولـيه إياها، بـمعنى موجهه إلـيها. وقد ذكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك: وَلِكُلّ وِجْهَةٍ بترك التنوين والإضافة. وذلك لـحن، ولا تـجوز القراءة به، لأن ذلك إذا قرىء كذلك كان الـخبر غير تامّ، وكان كلاما لا معنى له، وذلك غير جائز أن يكون من اللّه جل ثناؤه. والصواب عندنا من القراءة فـي ذلك: وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّـيها بـمعنى: ولكلّ وجهة وقبلة، ذلك الكلّ مولّ وجهه نـحوها، لإجماع الـحجة من القراء علـى قراءة ذلك كذلك وتصويبها إياها، وشذوذ من خالف ذلك إلـى غيره. وما جاء به النقل مستفـيضا فحجة، وما انفرد به من كان جائزا علـيه السهو والـخطأ فغير جائز الاعتراض به علـى الـحجة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَـاسْتَبِقُوا الـخَيْرَاتِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَـاسْتَبِقُوا فبـادروا وسارعوا، من (الاستبـاق)، وهو الـمبـادرة والإسراع. كما: ١٧٨٣ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: فَـاسْتَبِقُوا الـخَيْرَاتِ يعنـي فسارعوا فـي الـخيرات. وإنـما يعنـي بقوله: فَـاسْتَبِقُوا الـخَيْرَاتِ أي قد بـينت لكم أيها الـمؤمنون الـحق وهديتكم للقبلة التـي ضلت عنها الـيهود والنصارى وسائر أهل الـملل غيركم، فبـادروا بـالأعمال الصالـحة شكرا لربكم، وتزوّدوا فـي دنـياكم لأخراكم، فإنـي قد بـينت لكم سبـيـل النـجاة فلا عذر لكم فـي التفريط، وحافظوا علـى قبلتكم، ولا تضيعوها كما ضيعها الأمـم قبلكم فتضلوا كما ضلت كالذي: ١٧٨٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَـاسْتَبِقُوا الـخَيْراتِ يقول: لا تغلبن علـى قبلتكم. ١٧٨٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَـاسْتَبِقُوا الـخَيْرَاتِ قال: الأعمال الصالـحة. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أيْنَـما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعا إنّ اللّه عَلَـىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ومعنى قوله: أيْنَـمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعا فـي أيّ مكان وبقعة تهلكون فـيه يأت بكم اللّه جميعا يوم القـيامة، إنّ اللّه عَلَـىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. كما: ١٧٨٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: أيْنَـمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعا يقول: أينـما تكونوا يأت بكم اللّه جميعا يوم القـيامة. ١٧٨٧ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أيْنَـمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعا يعنـي يوم القـيامة. وإنـما حضّ اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين بهذه الآية علـى طاعته والتزوّد فـي الدنـيا للاَخرة، فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا أيها الـمؤمنون إلـى العمل بطاعة ربكم، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيـم خـلـيـله وشرائع دينه، فإن اللّه تعالـى ذكره يأتـي بكم وبـمن خالف قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعا يوم القـيامة من حيث كنتـم من بقاع الأرض، حتـى يوفـى الـمـحسن منكم جزاءه بإحسانه، والـمسيء عقابه بإساءته، أو يتفضل فـيصفح. وأما قوله: إنّ اللّه عَلَـىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإنه تعالـى ذكره يعنـي أن اللّه تعالـى علـى جمعكم بعد مـماتكم من قبوركم من حيث كنتـم وعلـى غير ذلك مـما يشاء قدير، فبـادروا خروج أنفسكم بـالصالـحات من الأعمال قبل مـماتكم لـيوم بعثكم وحشركم. ١٤٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ... } يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ومن أيّ موضع خرجت إلـى أيّ موضع وجهت فولّ يا مـحمد وجهك، يقول: حوّل وجهك. وقد دللنا علـى أن التولـية فـي هذا الـموضع شطر الـمسجد الـحرام، إنـما هي الإقبـال بـالوجه نـحوه وقد بـينا معنى الشطر فـيـما مضى. وأما قوله: وَإنّهُ لَلْـحَقّ مِنْ رَبّكَ فإنه يعنـي تعالـى ذكره: وإن التوجه شطره للـحقّ الذي لا شك فـيه من عند ربك، فحافظوا علـيه، وأطيعوا اللّه فـي توجهكم قبله. وأما قوله: وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ فإنه يقول: فإن اللّه تعالـى ذكره لـيس بساه عن أعمالكم ولا بغافل عنها، ولكنه مـحصيها لكم حتـى يجازيكم بها يوم القـيامة. ١٥٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ف... } يعنـي بقوله تعالـى ذكره: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الـمَسْجِدِ الـحَرَام: من أيّ مكان وبقعة شخصت فخرجت يا مـحمد، فولّ وجهك تلقاء الـمسجد الـحرام وهو شطره. ويعنـي بقوله: وَحَيْثُ مَا كُنْتُـمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ وأينـما كنتـم أيها الـمؤمنون من أرض اللّه فولوا وجوهكم فـي صلاتكم تـجاهه وقبله وقصده. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَـخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِـي. فقال جماعة من أهل التأويـل: عنى اللّه تعالـى بـالناس فـي قوله: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: ١٧٨٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ يعنـي بذلك أهل الكتاب، قالوا حين صرف نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الكعبة البـيت الـحرام: اشتاق الرجل إلـى بـيت أبـيه ودين قومه. ١٧٨٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ يعنـي بذلك أهل الكتاب، قالوا حين صرف نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الكعبة اشتاق الرجل إلـى بـيت أبـيه ودين قومه. فإن قال قائل: فأية حجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه نـحو بـيت الـمقدس علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه؟ قـيـل: قد ذكرنا فـيـما مضى ما رُوي فـي ذلك، قـيـل إنهم كانوا يقولون: ما درى مـحمد وأصحابه أين قبلتهم حتـى هديناهم نـحن، وقولهم: يخالفنا مـحمد فـي ديننا ويتبع قبلتنا فهي الـحجة التـي كانوا يحتـجون بها علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه علـى وجه الـخصومة منهم لهم، والتـمويه منهم بها علـى الـجهال وأهل العناد من الـمشركين. وقد بـينا فـيـما مضى أن معنى حجاج القوم إياه الذي ذكره اللّه تعالـى ذكره فـي كتابه إنـما هي الـخصومات والـجدال، فقطع اللّه جل ثناؤه ذلك من حجتهم وحسمه بتـحويـل قبلة نبـيه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به من قبلة الـيهود إلـى قبلة خـلـيـله إبراهيـم علـيه السلام، وذلك هو معنى قول اللّه جل ثناؤه: لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ يعنـي بـالناس: الذين كانوا يحتـجون علـيهم بـما وصفت. وأما قوله: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ فإنهم مشركو العرب من قريش فـيـما تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٧٩٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قوم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٧٩١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي، قال: هم الـمشركون، من أهل مكة. ١٧٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ يعنـي مشركي قريش. ١٧٩٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قال: هم مشركو العرب. ١٧٩٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ والذين ظلـموا مشركو قريش. ١٧٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال عطاء: هم مشركو قريش. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول مثل قول عطاء. فإن قال قائل: وأية حجة كانت لـمشركي قريش علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـي توجههم فـي صلاتهم إلـى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للـمشركين علـى الـمؤمنـين حجة فـيـما أمرهم اللّه تعالـى ذكره به أو نهاهم عنه؟ قـيـل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت وذهبت إلـيه، وإنـما الـحجة فـي هذا الـموضع الـخصومة والـجدال. ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس علـيكم خصومة ودعوى بـاطلة، غير مشركي قريش، فإن لهم علـيكم دعوى بـاطلة وخصومة بغير حقّ بقـيـلهم لكم: رجع مـحمد إلـى قبلتنا، وسيرجع إلـى ديننا. فذلك من قولهم وأمانـيهم البـاطلة هي الـحجة التـي كانت لقريش علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ومن أجل ذلك استثنى اللّه تعالـى ذكره الذين ظلـموا من قريش من سائر الناس غيرهم، إذ نفـى أن يكون لأحد منهم فـي قبلتهم التـي وجههم إلـيها حجة. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٧٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قوم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم قال مـجاهد: يقول: حجتهم، قولهم: قد رَاجَعْتَ قبلَتنا. ١٧٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله إلا أنه قال قولهم: قد رجعت إلـى قبلتنا. ١٧٩٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة وابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ قالا: هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلـى الكعبة: قد رجع إلـى قبلتكم فـيوشك أن يرجع إلـى دينكم. قال اللّه عز وجل: فَلاَ تَـخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِـي. ١٧٩٩ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد عن سعيد عن قتادة قوله: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ والذين ظلـموا مشركو قريش، يقول: إنهم سيحتـجون علـيكم بذلك، فكانت حجتهم علـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـانصرافه إلـى البـيت الـحرام أنهم قالوا سيرجع إلـى ديننا كما رجع إلـى قبلتنا، فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـي ذلك كله. ١٨٠٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ١٨٠١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـيـما يذكر عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا: لـما صُرف نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحو الكعبة بعد صلاته إلـى بـيت الـمقدس قال الـمشركون من أهل مكة: تـحير علـى مـحمد دينه، فتوجه بقبلته إلـيكم، وعلـم أنكم كنتـم أهدى منه سبـيلاً، ويوشك أن يدخـل فـي دينكم. فأنزل اللّه جل ثناؤه فـيهم: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَـخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِـي. ١٨٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنـي الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ؟ قال: قالت قريش لـما رجع إلـى الكعبة وأمر بها: ما كان يستغنـي عنا قد استقبل قبلتنا. فهي حجتهم، وهم الذين ظلـموا. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول مثل قول عطاء، فقال مـجاهد: حجتهم: قولهم رجعت إلـى قبلتنا. فقد أبـان تأويـل من ذكرنا تأويـله من أهل التأويـل قوله: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ عن صحة ما قلنا فـي تأويـله وأنه استثناء علـى معنى الاستثناء الـمعروف الذي يثبت فـيهم لـما بعد حرف الاستثناء ما كان منفـيا عما قبلهم، كما أنّ قول القائل: (ما سار من الناس أحد إلا أخوك) إثبـات للأخ من السير ما هو منفـيّ عن كل أحد من الناس، فكذلك قوله: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَـيْكُمْ حُجّةٌ إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ نفـى عن أن يكون لأحد خصومة وجدل قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ودعوى بـاطلة علـيه وعلـى أصحابه بسبب توجههم فـي صلاتهم قبل الكعبة، إلا الذين ظلـموا أنفسهم من قريش، فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى بـاطلة بأن يقولوا: إنـما توجهتـم إلـينا وإلـى قبلتنا لأنا كنا أهدى منكم سبـيلاً، وأنكم كنتـم بتوجهكم نـحو بـيت الـمقدس علـى ضلال وبـاطل. وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الـحجة من أهل التأويـل، فبـيّنٌ خطأ قول من زعم أن معنى قوله: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ: ولا الذين ظلـموا منهم، وأن (إلا) بـمعنى الواو لأن ذلك لو كان معناه لكان النفـي الأول عن جميع الناس أن يكون لهم حجة علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـي تـحوّلهم نـحو الكعبة بوجوههم مبـينا عن الـمعنى الـمراد، ولـم يكن فـي ذكر قوله بعد ذلك: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ إلا التلبـيس الذي يتعالـى عن أن يضاف إلـيه، أو يوصف به. هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجهت (إلا) إلـى معنى الواو، ومعنى العطف من كلام العرب، وذلك أنه غير موجودة إلا فـي شيء من كلامها بـمعنى الواو إلا مع استثناء سابق قد تقدمها، كقول القائل: سار القوم إلا عمرا إلا أخاك، بـمعنى: إلا عمرا وأخاك، فتكون (إلا) حينئذ مؤدّية عما تؤدّي عنه الواو لتعلق (إلا) الثانـية ب(إلاّ) الأولـى، ويجمع فـيها أيضا بـين (إلا) والواو، فـيقال: سار القوم إلا عمرا وإلا أخاك، فتـحذف إحداهما فتنوب الأخرى عنها، فـيقال: سار القوم إلا عمرا وأخاك، أو إلا عمرا إلا أخاك، لـما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك فغير جائز لـمدّع من الناس أن يدعي أن (إلا) فـي هذا الـموضع بـمعنى الواو التـي تأتـي بـمعنى العطف. وواضح فساد قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلـموا منهم فإنهم لا حجة لهم فلا تـخشوهم، كقول القائل فـي كلامه: الناس كلهم لك حامدون إلا الظالـم الـمعتدي علـيك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الـحمد لـموضع العداوة. وكذلك الظالـم لا حجة له، وقد سمي ظالـما لإجماع جميع أهل التأويـل علـى تـخطئة ما ادّعى من التأويـل فـي ذلك. وكفـى شاهدا علـى خطأ مقالته إجماعهم علـى تـخطئتها. وظاهر بطلان قول من زعم أن الذين ظلـموا هَهنا ناس من العرب كانوا يهودا ونصارى، فكانوا يحتـجون علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأما سائر العرب فلـم تكن لهم حجة، وكانت حجة من يحتـجّ منكسرة لأنك تقول لـمن تريد أن تكسر علـيه حجته: إن لك علـيّ حجة، ولكنها منكسرة، وإنك لتـحتـجّ بلا حجة، وحجتك ضعيفة. ووجّه معنى: إلاّ الّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ إلـى معنى: إلا الذين ظلـموا منهم من أهل الكتاب، فإن لهم علـيكم حجة واهية أو حجة ضعيفة. ووَهْيُ قول من قال: (إلا) فـي هذا الـموضع بـمعنى (لكن)، وضَعْفُ قول من زعم أنه ابتداء بـمعنى: إلا الذين ظلـموا منهم فلا تـخشوهم لأن تأويـل أهل التأويـل جاء فـي ذلك بأن ذلك من اللّه عز وجل خبر عن الذين ظلـموا منهم أنهم يحتـجون علـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بـما قد ذكرنا، ولـم يقصد فـي ذلك إلـى الـخبر عن صفة حجتهم بـالضعف ولا بـالقوّة وإن كانت ضعيفة لأنها بـاطلة وإنـما قصد فـيه الإثبـات للذين ظلـموا ما قد نفـى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة. ١٨٠٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: قال الربـيع: إن يهوديا خاصم أبـا العالـية فقال: إن موسى علـيه السلام كان يصلـي إلـى صخرة بـيت الـمقدس، فقال أبو العالـية: كان يصلـي عند الصخرة إلـى البـيت الـحرام قال: قال: فبـينـي وبـينك مسجد صالـح، فإنه نـحته من الـجبل. قال أبو العالـية: قد صلـيت فـيه وقبلته إلـى البـيت الـحرام. قال الربـيع: وأخبرنـي أبو العالـية أنه مرّ علـى مسجد ذي القرنـين وقبلته إلـى الكعبة. وأما قوله: فَلاَ تَـخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِـي يعنـي فلا تـخشوا هؤلاء الذين وصفت لكم أمرهم من الظّلَـمة فـي حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون من أن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم قد رجع إلـى قبلتنا وسيرجع إلـى ديننا، أو أن يقدروا لكم علـى ضرّ فـي دينكم أو صدّكم عما هداكم اللّه تعالـى ذكره له من الـحق ولكن اخشونـي، فخافوا عقابـي فـي خلافكم أمري إن خالفتـموه. وذلك من اللّه جل ثناؤه تقدّمٌ إلـى عبـاده الـمؤمنـين بـالـحضّ علـى لزوم قبلتهم والصلاة إلـيها، وبـالنهي عن التوجه إلـى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشونـي أيها الـمؤمنون فـي ترك طاعتـي فـيـما أمرتكم به من الصلاة شطر الـمسجد الـحرام. وقد حكي عن السدي فـي ذلك ما: ١٨٠٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: فَلاَ تَـخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِـي يقول: لا تـخشوا أن أردكم فـي دينهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلاِتِـمّ نِعْمَتِـي عَلَـيْكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَلاِتِـمّ نِعْمَتِـي عَلَـيْكُمْ: ومن حيث خرجت من البلاد والأرض إلـى أيّ بقعة شخصت فولّ وجهك شطر الـمسجد الـحرام، وحيث كنت يا مـحمد والـمؤمنون، فولوا وجوهكم فـي صلاتكم شطره، واتـخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس سوى مشركي قريش حجة، ولأتـمّ بذلك من هدايتـي لكم إلـى قبلة خـلـيـلـي إبراهيـم علـيه السلام الذي جعلته إماما للناس نعمتـي فأكمل لكم به فضلـي علـيكم، وأتـمـم به شرائع ملتكم الـحنـيفـية الـمسلـمة التـي وصيت بها نوحا وإبراهيـم وموسى وعيسى وسائر الأنبـياء غيرهم. وذلك هو نعمته التـي أخبر جل ثناؤه أنه متـمّها علـى رسوله صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به من أصحابه. وقوله: وَلَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ يعنـي: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. ولَعَلّكُمْ عطف علـى قوله: وَلاِتِـمّ نِعْمَتِـي عَلَـيْكُمْ وَلأتـمّ نعمتـي علـيكم عطف علـى قوله لئلا يكون. ١٥١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ ...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ رَسُولاً ولأتـمّ نعمتـي علـيكم ببـيان شرائع ملتكم الـحنـيفـية، وأهديكم لدين خـلـيـلـي إبراهيـم علـيه السلام، وأجعل لكم دعوته التـي دعانـي بها ومسألته التـي سألنـيها فقال: رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَـيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحيـمُ كما جعلت لكم دعوته التـي دعانـي بها ومسألته التـي سألنـيها، فقال: رَبّنَا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَـيْهِمْ آيَاتِكَ ويُعَلّـمُهُمُ الكِتَابَ والـحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الـحَكِيـم فـابتعثت منكم رسولـي الذي سألنـي إبراهيـم خـلـيـلـي وابنه إسماعيـل أن أبعثه من ذرّيتهما. ف(كما) إذ كان ذلك معنى الكلام صلة لقول اللّه عز وجل: وَلأُتِـمّ نِعْمَتِـي عَلَـيْكُمْ ولا يكون قوله: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ متعلقا بقوله: فَـاذْكُرُونِـي أذْكُرْكُمْ. وقد قال قوم: إن معنى ذلك: فـاذكرونـي كما أرسلنا فـيكم رسولاً منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من الـمقدّم الذي معناه التأخير، فأغرقوا النزع، وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام علـى غير معناه الـمعروف وسوى وجهه الـمفهوم. وذلك أن الـجاري من الكلام علـى ألسن العرب الـمفهوم فـي خطابهم بـينهم إذا قال بعضهم لبعض: (كما أحسنت إلـيك يا فلان فأحسن) أن لا يشترطوا للاَخر، لأن الكاف فـي (كما) شرط معناه: افعل كما فعلت، ففـي مـجيء جواب: اذْكُرُونِـي بعده وهوقوله: أذْكُرْكُمْ أوضح دلـيـل علـى أن قوله: كَمَا أرْسَلْنَا من صلة الفعل الذي قبله، وأن قوله: اذْكُرُونِـي أذْكُرْكُمْ خبر مبتدأ منقطع عن الأول، وأنه من سبب قوله: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ بـمعزل. وقد زعم بعض النـحويـين أن قوله: فَـاذْكُرُونِـي إذا جعل قوله: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ جوابـا له مع قوله: أذْكُرْكُمْ نظير الـجزاء الذي يجاب بجوابـين، كقول القائل: إذا أتاك فلان فأته ترضه، فـيصير قوله (فأته) و (ترضه) جوابـين لقوله: إذا أتاك، وكقوله: إن تأتنـي أحسن إلـيك أكرمك. وهذا القول وإن كان مذهبـا من الـمذاهب، فلـيس بـالأسهل الأفصح فـي كلام العرب. والذي هو أولـى بكتاب اللّه عزّ وجل أن يوجه إلـيه من اللغات الأفصح الأعرف من كلام العرب دون الأنكر الأجهل من منطقها هذا مع بعد وجهه من الـمفهوم فـي التأويـل. ذكر من قال: إن قوله: كَمَا أرْسَلْنَا جواب قوله: فـاذْكُرُونِـي. ١٨٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، قال: سمعت ابن أبـي نـجيح يقول في قول اللّه عز وجل: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ كما فعلت فـاذكرونـي. ١٨٠٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. قوله: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ فإنه يعنـي بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العرب طاعتـي، وتوجهوا إلـى القبلة التـي أمرتكم بـالتوجه إلـيها، لتنقطع حجة الـيهود عنكم، فلا تكون لهم علـيكم حجة، ولأتـمّ نعمتـي علـيكم وتهتدوا، كما ابتدأتكم بنعمتـي فأرسلت فـيكم رسولاً إلـيكم منكم، وذلك الرسول الذي أرسله إلـيهم منهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. كما: ١٨٠٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: كَمَا أرْسَلْنَا فِـيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يعنـي مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم. وأما قوله: يَتْلُو عَلَـيْكُمْ آيَاتِنَا فإنه يعنـي آيات القرآن، وبقوله: وَيُزَكّيكُمْ ويطهركم من دنس الذنوب، وَيُعَلّـمُكُمُ الْكِتَابَ وهو الفرقان، يعنـي أنه يعلـمهم أحكامه، ويعنـي بـالـحكمة: السنن والفقه فـي الدين. وقد بـينا جميع ذلك فـيـما مضى قبل بشواهده. وأما قوله: وَيُعَلّـمُكُمْ مَا لَـمْ تَكُونُوا تَعْلَـمُونَ فإنه يعنـي: ويعلـمكم من أخبـار الأنبـياء، وقصص الأمـم الـخالـية، والـخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التـي لـم تكن العرب تعلـمها، فعلـموها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنـما يدركونه برسوله صلى اللّه عليه وسلم. ١٥٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فـاذكرونـي أيها الـمؤمنون بطاعتكم إياي فـيـما آمركم به وفـيـما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتـي إياكم ومغفرتـي لكم. كما: ١٨٠٨ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبـير: اذْكُرُونِـي أذْكُرْكُمْ قال: اذكرونـي بطاعتـي، أذكركم بـمغفرتـي. وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بـالثناء والـمدح. ذكر من قال ذلك: ١٨٠٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: فـاذْكُرُونِـي أذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لـي وَلاَ تَكْفُرُون إن اللّه ذاكرُ من ذكره، وزائدُ من شكره، ومعذّبُ من كفره. ١٨١٠ـ حدثنـي موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: اذْكُرُونِـي أذْكُرْكُمْ قال: لـيس من عبد يذكر اللّه إلا ذكره اللّه ، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمة، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاشْكُرُوا لِـي وَلاَ تَكْفُرُونِ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: اشكروا لـي أيها الـمؤمنون فـيـما أنعمت علـيكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته لأنبـيائي وأصفـيائي وَلاَ تَكْفُرُونِ يقول: ولا تـجحدوا إحسانـي إلـيكم، فأسلبكم نعمتـي التـي أنعمت علـيكم، ولكن اشكروا لـي علـيها، وأزيدكم، فأتـمـم نعمتـي علـيكم، وأهديكم لـما هديت له من رضيت عنه من عبـادي، فإنـي وعدت خـلقـي أن من شكر لـي زدته، ومن كفرنـي حرمته وسلبته ما أعطيته. والعرب تقول: نصحت لك وشكرت لك، ولا تكاد تقول نصحتك، وربـما قالت شكرتك ونصحتك، من ذلك قول الشاعر: هُمُ جَمَعُوا بُؤسى ونُعْمَى عَلَـيْكُمُفَهَلاّ شَكَرْتَ القَوْمَ إنْ لَـمْ تُقَاتِلِ وقال النابغة فـي (نصحتك): نَصَحْتُ بَنِـي عَوْفٍ فَلَـمْ يَتَقَبّلُوارَسُولِـي ولَـمْ تَنْـجَحْ لَدَيْهِمْ وَسَائِلِـي وقد دللنا علـى أن معنى الشكر: الثناء علـى الرجل بأفعاله الـمـحمودة، وأن معنى الكفر تغطية الشيء، فـيـما مضى قبل فأغنى ذلك عن إعادته هَهنا. ١٥٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَآأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ إِنّ اللّه مَعَ الصّابِرِينَ } وهذه الآية حضّ من اللّه تعالـى ذكره علـى طاعته واحتـمال مكروهها علـى الأبدان والأموال، فقال: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بـالصبر والصلاة علـى القـيام بطاعتـي وأداء فرائضي فـي ناسخ أحكامي والانصراف عما أنسخه منها إلـى الذي أحدثه لكم من فرائضي وأنقلكم إلـيه من أحكامي، والتسلـيـم لأمري فـيـما آمركم به فـي حين إلزامكم حكمه، والتـحوّل عنه بعد تـحويـلـي إياكم عنه، وإن لـحقكم فـي ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفـار بقذفهم لكم البـاطل، أو مشقة علـى أبدانكم فـي قـيامكم به أو نقص فـي أموالكم، وعلـى جهاد أعدائكم وحربهم فـي سبـيـلـي، بـالصبر منكم لـي علـى مكروه ذلك ومشقته علـيكم، واحتـمال عنائه وثقله، ثم بـالفزع منكم فـيـما ينوبكم من مفظعات الأمور إلـى الصلاة لـي، فإنكم بـالصبر علـى الـمكاره تدركون مرضاتـي، وبـالصلاة لـي تستنـجحون طلبـاتكم قبلـي وتدركون حاجاتكم عندي، فإنـي مع الصابرين علـى القـيام بأداء فرائضي وترك معاصيّ، أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم حتـى يظفروا بـما طلبوا وأمّلوا قِبَلـي وقد بـينت معنى الصبر والصلاة فـيـما مضى قبل فكرهنا إعادته. كما: ١٨١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ والصّلاةِ يقول: استعينوا بـالصبر والصلاة علـى مرضاة اللّه ، واعلـموا أنهما من طاعة اللّه . ١٨١٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ والصّلاةِ اعلـموا أنهما عون علـى طاعة اللّه . وأما قوله: إنّ اللّه مَعَ الصّابِرِينَ فإن تأويـله: فإن اللّه ناصره وظهيره وراض بفعله، كقول القائل: افعل يا فلان كذا وأنا معك، يعنـي إنـي ناصرك علـى فعلك ذلك ومعينك علـيه. ١٥٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ } يعنـي تعالـى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بـالصبر علـى طاعتـي فـي جهاد عدوّكم وترك معاصيّ وأداء سائر فرائضي علـيكم، ولا تقولوا لـمن يقتل فـي سبـيـل اللّه هو ميت، فإن الـميت من خـلقـي من سلبته حياته وأعدمته حواسه، فلا يـلتذّ لذّة ولا يدرك نعيـما فإن من قتل منكم ومن سائر خـلقـي فـي سبـيـلـي أحياء عندي فـي حياة ونعيـم وعيش هنـيّ ورزق سنـيّ، فرحين بـما آتـيتهم من فضلـي وحبوتهم به من كرامتـي. كما: ١٨١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ من ثمر الـجنّة ويجدون ريحها ولـيسوا فـيها. ١٨١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٨١٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ كنّا نُـحَدّث أن أرواح الشهداء تعارف فـي طير بـيض يأكلن من ثمار الـجنة، وأن مساكنهم سدرة الـمنتهى، وأن للـمـجاهد فـي سبـيـل اللّه ثلاث خصال من الـخير: من قتل فـي سبـيـل اللّه منهم صار حيا مرزوقا، ومن غُلب آتاه اللّه أجرا عظيـما، ومن مات رزقه اللّه رزقا حسنا. ١٨١٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ قال: أرواح الشهداء فـي صور طير بـيض. ١٨١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ فـي صور طير خضر يطيرون فـي الـجنّة حيث شاءوا منها يأكلون من حيث شاءوا. ١٨١٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا عثمان بن غياث، قال: سمعت عكرمة يقول فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ قال: أرواح الشهداء فـي طير خضر فـي الـجنّة. فإن قال لنا قائل: وما فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ من خصوصية الـخبر عن الـمقتول فـي سبـيـل اللّه الذي لـم يعم به غيره؟ وقد علـمت تظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه وصف حال الـمؤمنـين والكافرين بعد وفـاتهم، فأخبر عن الـمؤمنـين أنهم يفتـح لهم من قبورهم أبواب إلـى الـجنة يشمون منها روحها، ويستعجلون اللّه قـيام الساعة، لـيصيروا إلـى مساكنهم منها ويجمع بـينهم وبـين أهالـيهم وأولادهم فـيها، وعن الكافرين أنهم يفتـح لهم من قبورهم أبواب إلـى النار ينظرون إلـيها ويصيبهم من نتنها ومكروهها، ويسلط علـيهم فـيها إلـى قـيام الساعة من يقمعهم فـيها، ويسألون اللّه فـيها تأخير قـيام الساعة حذارا من الـمصير إلـى ما أعدّ اللّه لهم فـيها مع أشبـاه ذلك من الأخبـار. وإذا كانت الأخبـار بذلك متظاهرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فما الذي خصّ به القتـيـل فـي سبـيـل اللّه مـما لـم يعم به سائر البشر غيره من الـحياة وسائر الكفـار والـمؤمنـين غيره أحياء فـي البرزخ، أما الكفـار فمعذّبون فـيه بـالـمعيشة الضّنْك، وأما الـمؤمنون فمنعمون بـالروح والريحان ونسيـم الـجنان؟ قـيـل: إن الذي خصّ اللّه به الشهداء فـي ذلك وأفـاد الـمؤمنـين بخبره عنهم تعالـى ذكره إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الـجنة ومطاعمها فـي برزخهم قبل بعثهم، ومنعمون بـالذي ينعم به داخـلوها بعد البعث من سائر البشر من لذيذ مطاعمها الذي لـم يطعمها اللّه أحدا غيرهم فـي برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيـلة التـي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم، والفـائدة التـي أفـاد الـمؤمنـين بـالـخبر عنهم، فقال تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: وَلاَ تَـحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتا بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِـمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ. وبـمثل الذي قلنا جاء الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ١٨١٩ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان، وعبدة بن سلـيـمان، عن مـحمد بن إسحاق، عن الـحارث بن فضيـل، عن مـحمود بن لبـيد، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الشّهَدَاءُ عَلَـى بـارِقٍ نَهْرٍ بِبـابِ الـجَنّةِ فِـي قُبّةٍ خَضْرَاءَ) وقال عبدةُ: (فِـي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَـيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الـجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّا). ١٨٢٠ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا جابر بن نوح، عن الإفريقـي، عن ابن بشار السلـمي أو أبـي بشار، شك أبو جعفر قال: أرواح الشهداء فـي قبـاب بـيض من قبـاب الـجنة فـي كل قبة زوجتان، رزقهم فـي كل يوم طلعت فـيه الشمس ثور وحوت، فأما الثور ففـيه طعم كل ثمرة فـي الـجنة، وأما الـحوت ففـيه طعم كل شراب فـي الـجنة. فإن قال قائل: فإن الـخبر عما ذكرت أن اللّه تعالـى ذكره أفـاد الـمؤمنـين بخبره عن الشهداء من النعمة التـي خصهم بها فـي البرزخ غير موجود فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ وإنـما فـيه الـخبر عن حالهم أموات هم أم أحياء. قـيـل: إن الـمقصود بذكر الـخبر عن حياتهم إنـما هو الـخبر عما هم فـيه من النعمة، ولكنه تعالـى ذكره لـما كان قد أنبأ عبـاده عما قد خصّ به الشهداء فـي قوله: وَلاَ تَـحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتا بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون وعلـموا حالهم بخبره ذلك، ثم كان الـمراد من اللّه تعالـى ذكره فـي قوله: وَلاَ تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ بَلْ أحْيَاءٌ نَهْيُ خَـلْقِه عن أن يقولوا للشهداء إنهم موتـى، ترك إعادة ذكر ما قد بـين لهم من خبرهم. وأما قوله: وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ فإنه يعنـي به: ولكنكم لا ترونهم فتعلـموا أنهم أحياء، وإنـما تعلـمون ذلك بخبري إياكم به. وإنـما رفع قوله: (أموات) بإضمار مكنـيّ عن أسماء من يقتل فـي سبـيـل اللّه . ومعنى ذلك: ولا تقولوا لـمن يقتل فـي سبـيـل اللّه هم أموات. ولا يجوز النصب فـي الأموات، لأن القول لا يعمل فـيهم. وكذلك قوله: (بل أحياء)، رفع بـمعنى أنهم أحياء. ١٥٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ } وهذا إخبـار من اللّه تعالـى ذكره أتبـاع رسوله صلى اللّه عليه وسلم أنه مبتلـيهم ومـمتـحنهم بشدائد من الأمور لـيعلـم من يتبع الرسول مـمن ينقلب علـى عقبـيه، كما ابتلاهم فـامتـحنهم بتـحويـل القبلة من بـيت الـمقدس إلـى الكعبة، وكما امتـحن أصفـياءه قبلهم، ووعدهم ذلك فـي آية أخرى فقال لهم: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ وَلَـمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ البأساءُ والضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّـى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَـى نَصْرُ اللّه ألا إنّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان ابن عبـاس وغيره يقول. ١٨٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ والـجُوعِ ونـحو هذا، قال: أخبر اللّه الـمؤمنـين أن الدنـيا دار بلاء، وأنه مبتلـيهم فـيها، وأمرهم بـالصبر وبشرهم، فقال: وَبَشّرِ الصّابِرِينَ ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبـيائه وصفوته لتطيب أنفسهم، فقال: مَسّتْهُم البَأْسَاءُ والضّرّاءُ وزُلْزِلُوا. ومعنى قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ: ولنـختبرنكم. وقد أتـينا علـى البـيان عن أن معنى الابتلاء الاختبـار فـيـما مضى قبل. وقوله: بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ يعنـي من الـخوف من العدوّ وبـالـجوع، وهو القحط. يقول: لنـختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوّكم وبسَنَة تصيبكم ينالكم فـيها مـجاعة وشدة وتعذر الـمطالب علـيكم فتنقص لذلك أموالكم، وحروب تكون بـينكم وبـين أعدائكم من الكفـار، فـينقص لها عددكم، وموت ذراريكم وأولادكم، وجدوب تـحدث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتـحان منـي لكم واختبـار منـي لكم، فـيتبـين صادقوكم فـي إيـمانهم من كاذبـيكم فـيه، ويعرف أهل البصائر فـي دينهم منكم من أهل النفـاق فـيه والشكّ والارتـياب. كل ذلك خطاب منه لأتبـاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه. كما: ١٨٢٢ـ حدثنـي هارون بن إدريس الكوفـي الأصمّ، قال: حدثنا عبد الرحمَن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن عبد الـملك عن عطاء فـي قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ والـجُوعِ قال: هم أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وإنـما قال تعالـى ذكره: بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ ولـم يقل (بأشياء) لاختلاف أنواع ما أعلـم عبـاده أنه مـمتـحنهم به. فلـما كان ذلك مختلفـا وكانت (مِن) تدلّ علـى أن كل نوع منها مضمر (فـي) شيء وأن معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الـخوف وبشيء من الـجوع وبشيء من نقص الأموال. اكتفـى بدلالة ذكر الشيء فـي أوله من إعادته مع كل نوع منها. ففعل تعالـى ذكره كل ذلك بهم وامتـحنهم بضروب الـمـحن. كما: ١٨٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الـخَوْفِ والـجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ والأنْفُسِ والثّمَرَاتِ قال: قد كان ذلك، وسيكون ما هو أشدّ من ذلك. قال اللّه عند ذلك: وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا للّه وَإنّا إلَـيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ الـمُهْتَدُونَ. ثم قال تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد بشر الصابرين علـى امتـحانـي بـما أمتـحنهم به، والـحافظين أنفسهم عن التقدم علـى نهيـي عما أنهاهم عنه، والاَخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي مع ابتلائي إياهم بـما ابتلـيتهم به القائلـين إذا أصابتهم مصيبة: إنا للّه وإنا إلـيه راجعون. فأمره اللّه تعالـى ذكره بأن يخصّ بـالبشارة علـى ما يـمتـحنهم به من الشدائد أهل الصبر الذين وصف اللّه صفتهم. وأصل التبشير: إخبـار الرجل الرجل الـخبر يسرّه أو يسوءه لـم يسبقه به إلـيه غيره. ١٥٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّه وَإِنّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } يعنـي تعالـى ذكره: وبشر يا مـحمد الصابرين، الذين يعلـمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنـي، فـيقرّون بعبوديتـي، ويوحدوننـي بـالربوبـية، ويصدّقون بـالـمعاد والرجوع إلـيّ فـيستسلـمون لقضائي، ويرجون ثوابـي ويخافون عقابـي، ويقولون عند امتـحانـي إياهم ببعض مـحنـي، وابتلائي إياهم بـما وعدتهم أن أبتلـيهم به من الـخوف والـجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من الـمصائب التـي أنا مـمتـحنهم بها. إنا مـمالـيك ربنا ومعبودنا أحياء ونـحن عبـيده وإنا إلـيه بعد مـماتنا صائرون تسلـيـما لقضائي ورضا بأحكامي. ١٥٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الصابرون الذين وصفهم ونعتهم علـيهم، يعنـي لهم صلوات يعنـي مغفرة. وصلوات اللّه علـى عبـاده: غفرانه لعبـاده، كالذي رُوي عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (اللّه مّ صَلّ علـى آل أبـي أوْفَـى) يعنـي اغفر لهم. وقد بـينا الصلاة وما أصلها فـي غير هذا الـموضع. وقوله: وَرَحْمَةٌ يعنـي ولهم مع الـمغفرة التـي بها صفح عن ذنوبهم وتغمدها رحمة من اللّه ورأفة. ثم أخبر تعالـى ذكره مع الذي ذكر أنه معطيهم علـى اصطبـارهم علـى مـحنه تسلـيـما منهم لقضائه من الـمغفرة والرحمة أنهم هم الـمهتدون الـمصيبون طريق الـحقّ والقائلون ما يرضى عنهم والفـاعلون ما استوجبوا به من اللّه الـجزيـل من الثواب. وقد بـينا معنى الاهتداء فـيـما مضى فإنه بـمعنى الرشد بـالصواب. وبـمعنى ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٨٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قوله: الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا للّه وإنّا إلَـيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الـمُهْتَدُونَ قال: أخبر اللّه أن الـمؤمن إذا سلـم الأمر إلـى اللّه ورجع واسترجع عند الـمصيبة، كتب له ثلاث خصال من الـخير: الصلاة من اللّه ، والرحمة، وتـحقـيق سبـيـل الهدى وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الـمُصِيبَةِ جَبَرَ اللّه مُصِيبَتَهُ، وأحْسَنَ عُقْبَـاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَـلَفـا صَالِـحا يَرْضَاهُ). ١٨٢٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ يقول: الصلوات والرحمة علـى الذين صبروا واسترجعوا. ١٨٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان العصفري، عن سعيد بن جبـير، قال: ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة: الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا للّه وإنّا إلَـيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ ولو أعطيها أحد لأُعطيها يعقوب علـيه السلام، ألـم تسمع إلـى قوله: يا أسَفَـى عَلَـى يُوسُفَ. ١٥٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه ف...} والصفـا: جمع صفـاة، وهي الصخرة الـملساء، ومنه قول الطرمّاح: أبَى لـي ذُو القُوى والطّول ألاّيُؤَبّسَ حافِرٌ أبْدا صَفـاتِـي وقد قالوا إن الصفـا واحد، وأنه يثنى صَفَوان، ويجمع أصفـاء وصُفِـيّا وصِفِـيّا واستشهدوا علـى ذلك بقول الراجز: كأنّ مَتْنَـيْهِ مِنَ النّفِـيّمَوَاقِعُ الطّيْرِ علـى الصُفِـيّ وقالوا: هو نظير عصا وعُصيّ ورحا ورُحيّ وأرحاءوأما الـمروة فإنها الـحصاة الصغيرة يجمع قلـيـلها مروات، وكثـيرها الـمرو مثل تـمرة وتـمرات وتـمر. قال الأعشى ميـمون بن قـيس: وَتَرَى بـالأرْضِ خُفّـا زائِلاًفإذَا ما صَادَفَ الـمَرْوَ رَضَحْ يعنـي بـالـمرو: الصخر الصغار. ومن ذلك قول أبـي ذؤيب الهذلـي: حتـى كأنـي للـحَوَادِثِ مَرْوَةٌبصفَـا الـمُشَرّق كلّ يَوْمٍ تُقْرَعُ ويقال (الـمشقّر). وإنـما عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ فـي هذا الـموضع: الـجبلـين الـمسميـين بهذين الاسمين اللذين فـي حرمه دون سائر الصفـا والـمرو ولذلك أدخـل فـيهما الألف واللام، لـيعلـم عبـاده أنه عنى بذلك الـجبلـين الـمعروفـين بهذين الاسمين دون سائر الأصفـاء والـمرو. وأما قوله: مِنْ شَعَائِرِ اللّه فإنه يعنـي من معالـم اللّه التـي جعلها تعالـى ذكره لعبـاده معلـما ومشعرا يعبدونه عندها، إما بـالدعاء وإما بـالذكر وإما بأداء ما فرض علـيهم من العمل عندها ومنه قول الكميت: نُقَتّلُهُمْ جِيلاً فجِيلاً تَرَاهُمُشَعَائِرَ قُرْبـانٍ بِهِمْ يُتَقَرّبُ وكان مـجاهد يقول فـي الشعائر بـما: ١٨٢٧ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه قال: من الـخبر الذي أخبركم عنه. ١٨٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. فكأنّ مـجاهدا كان يرى أن الشعائر إنـما هو جمع شعيرة من إشعار اللّه عبـاده أمر الصفـا والـمروة وما علـيهم فـي الطواف بهما، فمعناه إعلامهم ذلك وذلك تأويـل من الـمفهوم بعيد. وإنـما أعلـم اللّه تعالـى ذكره بقوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه عبـاده الـمؤمنـين أن السعي بـينهما من مشاعر الـحجّ التـي سنّها لهم، وأمر بها خـلـيـله إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم، إذ سأله أن يريه مناسك الـحج. وذلك وإن كان مخرجه مخرج الـخبر، فإنه مراد به الأمر لأن اللّه تعالـى ذكره قد أمر نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بـاتبـاع ملة إبراهيـم علـيه السلام، فقال له: ثم أوْحَيْنَا إلـيكَ أن اتّبِعْ مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفـا وجعل تعالـى ذكره إبراهيـم إماما لـمن بعده. فإذا كان صحيحا أن الطواف والسعي بـين الصفـا والـمروة من شعائر اللّه ومن مناسك الـحج، فمعلوم أن إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم قد عمل به وسنّه لـمن بعده، وقد أمر نبـينا صلى اللّه عليه وسلم أمته بـاتبـاعه، فعلـيهم العمل بذلك علـى ما بـينه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ. يعنـي تعالـى ذكره: فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ فمن أتاه عائدا إلـيه بعد بدء، وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلـى شيء فهو حاجّ إلـيه ومنه قول الشاعر: وأشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كَثِـيرَةًيَحُجّونَ بَـيْتَ الزّبْرَقانِ الـمُزَعْفَرَا يعنـي بقوله يحجون: يكثرون التردّد إلـيه لسؤدده ورياسته. وإنـما قـيـل للـحاج حاج لأنه يأتـي البـيت قبل التعريف، ثم يعود إلـيه لطواف يوم النـحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلـى منى، ثم يعود إلـيه لطواف الصدر، فلتكراره العود إلـيه مرّة بعد أخرى قـيـل له حاجّوأما الـمعتـمر فإنـما قـيـل له معتـمر لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنـما يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أوِ اعْتَـمَرَ أو اعتـمر البـيت، ويعنـي بـالاعتـمار الزيارة، فكل قاصد لشيء فهو له معتـمر ومنه قول العجاج: لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَـمَرْمَغْزًى بَعِيدا مِنْ بَعِيدٍ وضَبَرْ يعنـي بقوله (حين اعتـمر): حين قصده وأمه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما يقول: فلا خرج علـيه ولا مأثم فـي طوافه بهما. فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا إن قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه وإن كان ظاهره ظاهر الـخبر فإنه فـي معنى الأمر بـالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرا بـالطواف، ثم يقال: لا جناح علـى من حجّ البـيت أو اعتـمر فـي الطواف بهما؟ وإنـما يوضع الـجناح عمن أتـى ما علـيه بإتـيانه الـجناح والـحرج، والأمر بـالطواف بهما، والترخيص فـي الطواف بهما غير جائز اجتـماعهما فـي حال واحدة؟ قـيـل: إن ذلك بخلاف ما إلـيه ذهب، وإنـما معنى ذلك عند أقوام أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم لـما اعتـمر عمرة القضية تـخوّف أقوام كانوا يطوفون بهما فـي الـجاهلـية قبل الإسلام لصنـمين كانا علـيهما تعظيـما منهم لهما فقالوا: وكيف نطوف بهما، وقد علـمنا أن تعظيـم الأصنام وجميع ما كان يعبد من ذلك من دون اللّه شرك؟ ففـي طوافنا بهذين الـحجرين أحد ذلك، لأن الطواف بهما فـي الـجاهلـية إنـما كان للصنـمين اللذين كانا علـيهما، وقد جاء اللّه بـالإسلام الـيوم ولا سبـيـل إلـى تعظيـم شيء مع اللّه بـمعنى العبـادة له. فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـي ذلك من أمرهم: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه يعنـي أن الطواف بهما، فترك ذكر الطواف بهما اكتفـاء بذكرهما عنه. وإذ كان معلوما عند الـمخاطبـين به أن معناه: من معالـم اللّه التـي جعلها علـما لعبـاده يعبدونه عندهما بـالطواف بـينهما ويذكرونه علـيهما وعندهما بـما هو له أهل من الذكر، فمن حجّ البـيت أو اعتـمر فلا يتـخوّفن الطواف بهما، من أجل ما كان أهل الـجاهلـية يطوفون بهما، من أجل الصنـمين اللذين كانا علـيهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرا، وأنتـم تطوفون بهما إيـمانا وتصديقا لرسولـي وطاعة لأمري، فلا جناح علـيكم فـي الطواف بهما. والـجناح: الإثم. كما: ١٨٢٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما يقول: لـيس علـيه إثم ولكن له أجر. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين. ذكر الأخبـار التـي رويت بذلك: ١٨٣٠ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي: أن وثنا كان فـي الـجاهلـية علـى الصفـا يسمى إسافـا، ووثنا علـى الـمروة يسمى نائلة فكان أهل الـجاهلـية إذا طافوا بـالبـيت مسحوا الوثنـين فلـما جاء الإسلام وكسرت الأوثان، قال الـمسلـمون: إن الصفـا والـمروة إنـما كان يطاف بهما من أجل الوثنـين، ولـيس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل اللّه : إنهما من الشعائر فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما. ١٨٣١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر، قال: كان صنـم بـالصفـا يدعى إسافـا، ووثن بـالـمروة يدعى نائلة. ثم ذكر نـحو حديث ابن أبـي الشوارب، وزاد فـيه، قال: فذكّر الصفـا من أجل الوثن الذي كان علـيه، وأنّث الـمروة من أجل الوثن الذي كان علـيه مؤنثا. ١٨٣٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي، وذكر نـحو حديث ابن أبـي الشوارب، عن يزيد، وزاد فـيه، قال: فجعله اللّه تطوّع خير. ١٨٣٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنـي عاصم الأحول، قال: قلت لأنس بن مالك: أكنتـم تكرهون الطواف بـين الصفـا والـمروة حتـى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بـينهما لأنهما من شعائر الـجاهلـية حتـى نزلت هذه الآية: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . ١٨٣٤ـ حدثنـي علـيّ بن سهل الرملـي، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيـل، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، قال: سألت أنسا عن الصفـا والـمروة، فقال: كانتا من مشاعر الـجاهلـية، فلـما كان الإسلام أمسكوا عنهما، فنزلت: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . ١٨٣٥ـ حدثنـي عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنـي أبو الـحسين الـمعلـم، قال: حدثنا سنان أبو معاوية، عن جابر الـجعفـي، عن عمرو بن حبشي، قال: قلت لابن عمر: إن الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما قال: انطلق إلـى ابن عبـاس فـاسأله، فإنه أعلـم من بقـي بـما أنزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فأتـيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنام، فلـما حرّمن أمسكوا عن الطواف بـينهما حتـى أنزلت: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. ١٨٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه وذلك أن ناسا كانوا يتـحرّجون أن يطوفوا بـين الصفـا والـمروة، فأخبر اللّه أنهما من شعائره، والطواف بـينهما أحب إلـيه، فمضت السنّة بـالطواف بـينهما. ١٨٣٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما قال: زعم أبو مالك عن ابن عبـاس أنه كان فـي الـجاهلـية شياطين تعزف اللـيـل أجمع بـين الصفـا والـمروة، وكانت بـينهما آلهة، فلـما جاء الإسلام وظهر، قال الـمسلـمون: يا رسول اللّه لا نطوف بـين الصفـا والـمروة، فإنه شرك كنا نفعله فـي الـجاهلـية فأنزل اللّه : فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. ١٨٣٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه قال: قالت الأنصار: إن السعي بـين هذين الـحجرين من أمر الـجاهلـية. فأنزل اللّه تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . ١٨٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحوه. ١٨٤٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما قال: كان أهل الـجاهلـية قد وضعوا علـى كل واحد منهما صنـما يعظمونهما فلـما أسلـم الـمسلـمون كرهوا الطواف بـالصفـا والـمروة لـمكان الصنـمين، فقال اللّه تعالـى: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما وقرأ: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّه فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب وسنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطواف بهما. ١٨٤١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم، قال: قلت لأنس: الصفـا والـمروة أكنتـم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التـي نهيتـم عنها؟ قال: نعم حتـى نزلت: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . ١٨٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، قال: أخبرنا عاصم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: إن الصفـا والـمروة من مشاعر قريش فـي الـجاهلـية، فلـما كان الإسلام تركناهما. وقال آخرون: بل أنزل اللّه تعالـى ذكره هذه الآية فـي سبب قوم كانوا فـي الـجاهلـية لا يسعون بـينهما، فلـما جاء الإسلام تـخوفوا السعي بـينهما كما كانوا يتـخوّفونه فـي الـجاهلـية. ذكر من قال ذلك: ١٨٤٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه الآية، فكان حيّ من تهامة فـي الـجاهلـية لا يسعون بـينهما، فأخبرهم اللّه أن الصفـا والـمروة من شعائر اللّه ، وكان من سنة إبراهيـم وإسماعيـل الطواف بـينهما. ١٨٤٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بـين الصفـا والـمروة، فأنزل اللّه : إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . ١٨٤٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح قال: حدثنـي اللـيث، قال: حدثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، قال: حدثنـي عروة بن الزبـير، قال: سألت عائشة فقلت لها: أرأيت قول اللّه : إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما؟ وقلت لعائشة: واللّه ما علـى أحد جناح أن لا يطوف بـالصفـا والـمروة فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختـي، إن هذه الآية لو كانت كما أوّلتها كانت لا جناح علـيه أن لا يطوّف بهما، ولكنها إنـما أنزلت فـي الأنصار كانوا قبل أن يسلـموا يهلّون لـمناة الطاغية التـي كانوا يعبدون بـالـمشلّل، وكان من أهلّ لها يتـحرّج أن يطوف بـين الصفـا والـمروة، فلـما سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول اللّه إنا كنا نتـحرّج أن نطوف بـين الصفـا والـمروة أنزل اللّه تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. قالت عائشة: ثم قد سنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطواف بـينهما، فلـيس لأحد أن يترك الطواف بـينهما. ١٨٤٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان رجال من الأنصار مـمن يهلّ لـمناة فـي الـجاهلـية ومناة صنـم بـين مكة والـمدينة، قالوا: يا نبـيّ اللّه إنا كنا لا نطوف بـين الصفـا والـمروة تعظيـما لـمناة، فهل علـينا من حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبـالـي أن لا أطوف بـين الصفـا والـمروة، قال اللّه : فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ قالت: يا ابن أختـي ألا ترى أنه يقول: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه ؟ قال الزهري: فذكرت ذلك لأبـي بكر بن عبد الرحمَن بن الـحارث بن هشام، فقال: هذا العلـم قال أبو بكر: ولقد سمعت رجالاً من أهل العلـم يقولون: لـما أنزل اللّه الطواف بـالبـيت ولـم ينزل الطواف بـين الصفـا والـمروة، قـيـل للنبـي صلى اللّه عليه وسلم: إنا كنا نطوف فـي الـجاهلـية بـين الصفـا والـمروة، وإن اللّه قد ذكر الطواف بـالبـيت، ولـم يذكر الطواف بـين الصفـا والـمروة، فهل علـينا من حرج أن لا نطوف بهما؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه الآية كلها. قال أبو بكر: فأسمع أن هذه الآية نزلت فـي الفريقـين كلـيهما فـيـمن طاف وفـيـمن لـم يطف. ١٨٤٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بـين الصفـا والـمروة، فأنزل اللّه : إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره قد جعل الطواف بـين الصفـا والـمروة من شعائر اللّه ، كما جعل الطواف بـالبـيت من شعائره. فأما قوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما فجائز أن يكون قـيـل لكلا الفريقـين اللذين تـخوّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنـمين اللذين ذكرهما الشعبـي، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما فـي الـجاهلـية علـى ما روي عن عائشة. وأيّ الأمرين كان من ذلك فلـيس فـي قول اللّه تعالـى ذكره: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما الآية، دلالة علـى أنه عنى به وضع الـحرج عمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر اللّه ذلك ثم جعل الطواف بهما رخصة لإجماع الـجميع، علـى أن اللّه تعالـى ذكره لـم يحظر ذلك فـي وقت، ثم رخص فـيه بقوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما. وإنـما الاختلاف فـي ذلك بـين أهل العلـم علـى أوجه فرأى بعضهم أن تارك الطواف بـينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه، كما لا يجزي تارك الطواف الذي هو طواف الإفـاضة إلا قضاؤه بعينه، و قالوا: هما طوافـان أمر اللّه بأحدهما بـالبـيت، والاَخر بـين الصفـا والـمروة. ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الـجمرات، والوقوف بـالـمشعر، وطواف الصّدَر، وما أشبه ذلك مـما يجزي تاركه من تركه فدية ولا يـلزمه العود لقضائه بعينه. ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوّع، إن فعله صاحبه كان مـحسنا، وإن تركه تارك لـم يـلزمه بتركه شيء. واللّه تعالـى أعلـم. ذكر من قال: إن السعي بـين الصفـا والـمروة واجب ولا يجزي منه فدية ومن تركه فعلـيه العودة. ١٨٤٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة قالت: لعمري ما حجّ من لـم يَسْعَ بـين الصفـا والـمروة، لأن اللّه قال: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه . ١٨٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك بن أنس: من نسي السعي بـين الصفـا والـمروة حتـى يستبعد من مكة فلـيرجع فلـيسع، وإن كان قد أصاب النساء فعلـيه العمرة والهدي. وكان الشافعي يقول: علـى من ترك السعي بـين الصفـا والـمروة حتـى رجع إلـى بلده العَوْد إلـى مكة حتـى يطوف بـينهما لا يجزيه غير ذلك. حدثنا بذلك عنه الربـيع. ذكر من قال: يجزى منه دم ولـيس علـيه عود لقضائه: قال الثوري بـما: ١٨٥٠ـ حدثنـي به علـيّ بن سهل، عن زيد بن أبـي الزرقاء عنه، وأبو حنـيفة، وأبو يوسف، ومـحمد: إن عاد تارك الطواف بـينهما لقضائه فحسن، وإن لـم يعد فعلـيه دم. ذكر من قال: الطواف بـينهما تطوّع ولا شيء علـى من تركه، ومن كان يقرأ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما. ١٨٥١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: لو أن حاجّا أفـاض بعدما رمى جمرة العقبة فطاف بـالبـيت ولـم يسع، فأصابها يعنـي امرأته لـم يكن علـيه شيء، لا حجّ ولا عمرة من أجل قول اللّه فـي مصحف ابن مسعود: (فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما) فعاودته بعد ذلك، فقلت: إنه قد ترك سنة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: ألا تسمعهُ يقول: فمن تطوع خيرا، فأبى أن يجعل علـيه شيئا؟ ١٨٥٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه الآية، (فلا جناح علـيه أن لا يطوف بهما). ١٨٥٣ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، قال سمعت أنسا يقول: الطواف بـينهما تطوّع. ١٨٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا عاصم الأحول، قال: قال أنس بن مالك: هما تطوّع. ١٨٥٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحوه. ١٨٥٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما قال: فلـم يُحرّجْ من لـم يطف بهما. ١٨٥٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أحمد، عن عيسى بن قـيس، عن عطاء، عن عبد اللّه بن الزبـير، قال: هما تطوّع. ١٨٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم، قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بـين الصفـا والـمروة تطوع؟ قال: تطوّع. والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب، وأن علـى من تركه العود لقضائه ناسيا كان أو عامدا لأنه لا يجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه حجّ بـالناس فكان مـما علـمهم من مناسك حجهم الطواف بهما. ذكر الرواية عنه بذلك: ١٨٥٩ـ حدثنـي يوسف بن سلـمان، قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، عن أبـيه، عن جابر قال: لـما دنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الصفـا فـي حجه، قال: (إنّ الصّفـا وَالـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه ابْدَءُوا بِـمَا بَدأ اللّه بِذِكْرِه) فبدأ بـالصفـا فرقـي علـيه. ١٨٦٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مـحمود بن ميـمون أبو الـحسن، عن أبـي بكر بن عياش، عن ابن عطاء عن أبـيه، عن ابن عبـاس : أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه )، فأتـى الصفـا فبدأ بها، فقام علـيها، ثم أتـى الـمروة فقام علـيها وطاف وسعى. فإذا كان صحيحا بإجماع الـجميع من الأمة أن الطواف بهما علـى تعلـيـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمته فـي مناسكهم وعمله فـي حجه وعمرته، وكان بـيانه صلى اللّه عليه وسلم لأمته جمل ما نصّ اللّه فـي كتابه وفَرَضه فـي تنزيـله، وأمر به مـما لـم يدرك علـمه إلا ببـيانه لازما العمل به أمته كما قد بـينا فـي كتابنا (كتاب البـيان عن أصول الأحكام) إذا اختلفت الأمة فـي وجوبه، ثم كان مختلفـا فـي الطواف بـينهما هل هو واجب أو غير واجب كان بـيّنا وجوب فرضه علـى من حجّ أو اعتـمر لـما وصفنا، وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بـين الصفـا والـمروة، لـما كان مختلفـا فـيـما علـى من تركه مع إجماع جميعهم، علـى أن ذلك مـما فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلـمه أمته فـي حجهم وعمرتهم إذ علـمهم مناسك حجهم، كما طاف بـالبـيت وعلـمه أمته فـي حجهم وعمرتهم، إذ علـمهم مناسك حجهم وعمرتهم، وأجمع الـجميع علـى أن الطواف بـالبـيت لا تـجزي منه فدية ولا بدل، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه كان نظيرا له الطواف بـالصفـا والـمروة، ولا تـجزي منه فدية ولا جزاء، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه، إذ كانا كلاهما طوافـين أحدهما بـالبـيت والاَخر بـالصفـا والـمروة. ومن فرّق بـين حكمهما عكس علـيه القول فـيه، ثم سئل البرهان علـى التفرقة بـينهما، فإن اعتلّ بقراءة من قرأ: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما قـيـل: ذلك خلاف ما فـي مصاحف الـمسلـمين، غير جائز لأحد أن يزيد فـي مصاحفهم ما لـيس فـيها. وسواء قرأ ذلك كذلك قارىء، أو قرأ قارىء: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ولْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْـيَطّوّفُوا بِـالْبَـيْتِ العَتِـيق فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفُوا بِهِ. فإن جاءت إحدى الزيادتـين اللتـين لـيستا فـي الـمصحف كانت الأخرى نظيرتها، وإلا كان مـجيز إحداهما إذا منع الأخرى متـحكما، والتـحكم لا يعجز عنه أحد. وقد رُوي إنكار هذه القراءة وأن يكون التنزيـل بها عن عائشة. ١٨٦١ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، قال: قلت لعائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السنّ: أرأيت قول اللّه عزّ وجل: إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أو اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوّفَ بِهِما فما نرى علـى أحد شيئا أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت (فلا جناح علـيه أن لا يطوف بهما)، إنـما أنزلت هذه الآية فـي الأنصار كانوا يهلون لـمناة وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتـحرّجون أن يطوفوا بـين الصفـا والـمروة فلـما جاء الإسلام سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فأنزل اللّه : إنّ الصّفـا والـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّه فَمَنْ حَجّ البَـيْتَ أوِ اعْتَـمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ يَطّوفَ بِهِما. وقد يحتـمل قراءة من قرأ: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ أنْ لاَ يَطّوّفَ بِهِما) أن تكون (لا) التـي مع (أن) صلة فـي الكلام، إذ كان قد تقدمها جحد فـي الكلام قبلها، وهوقوله: فَلاَ جُنَاحَ عَلَـيْهِ، فـيكون نظير قول اللّه تعالـى ذكره: قَالَ مَا مَنَعَكَ أنْ لاَ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ بـمعنى ما منعك أن تسجد، وكما قال الشاعر: ما كانَ يَرْضَى رَسُولُ اللّه فِعْلَهُماوالطّيّبـان أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ ولو كان رسم الـمصحف كذلك لـم يكن فـيه لـمـحتـجّ حجة مع احتـمال الكلام ما وصفنا لـما بـينا أن ذلك مـما علّـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمته فـي مناسكهم علـى ما ذكرنا، ولدلالة القـياس علـى صحته، فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف الـمسلـمين، ومـما لو قرأه الـيوم قارىء كان مستـحقا العقوبة لزيادته فـي كتاب اللّه عزّ وجل ما لـيس منه؟ القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّه شَاكِرٌ عَلِـيـمٌ. اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا علـى لفظ الـمضي بـالتاء وفتـح العين. وقرأته عامة قراء الكوفـيـين: (وَمَنْ يَطّوَعَ خَيْرا) بـالـياء وجزم العين وتشديد الطاء، بـمعنى: ومن يتطوّع. وذكر أنها فـي قراءة عبد اللّه : (ومن يتطوّع). فقرأ ذلك قرّاء أهل الكوفة علـى ما وصفنا اعتبـارا بـالذي ذكرنا من قراءة عبد اللّه سوى عاصم فإنه وافق الـمدنـيـين، فشددوا الطاء طلبـا لإدغام التاء فـي الطاء. وكلتا القراءتـين معروفة صحيحة متفق معنـياهما غير مختلفـين، لأن الـماضي من الفعل مع حروف الـجزاء بـمعنى الـمستقبل، فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك قارىء فمصيب. ومعنى ذلك: ومن تطوّع بـالـحجّ والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة علـيه، فإن اللّه شاكر له علـى تطوّعه له بـما تطوّع به من ذلك ابتغاء وجهه فمـجازيه به، علـيـم بـما قصد وأراد بتطوّعه بـما تطوّع به. وإنـما قلنا إن الصواب فـي معنى قوله: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا هو ما وصفنا دون قول من زعم أنه معنـيّ به: فمن تطوّع بـالسعي والطواف بـين الصفـا والـمروة لأن الساعي بـينهما لا يكون متطوّعا بـالسعي بـينهما إلا فـي حجّ تطوّع أو عمرة تطوّع لـما وصفنا قبل وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما أنه إنـما عنى بـالتطوّع بذلك التطوّع بـما يعمل ذلك فـيه من حجّ أو عمرة. وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوّع لا واجب، فإن الصواب أن يكون تأويـل ذلك علـى قولهم: فمن تطوّع بـالطواف بهما فإن اللّه شاكر لأن للـحاجّ والـمعتـمر علـى قولهم الطواف بهما إن شاء وترك الطواف، فـيكون معنى الكلام علـى تأويـلهم: فمن تطوّع بـالطواف بـالصفـا والـمروة، فإن اللّه شاكر تطوّعه ذلك، علـيـم بـما أراد ونوى الطائف بهما كذلك. كما: ١٨٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّه شَاكِرٌ عَلِـيـمٌ قال: من تطوّع خيرا فهو خير له، تطوّع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكانت من السنن. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوّع خيرا فـاعتـمر. ذكر من قال ذلك: ١٨٦٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فإنّ اللّه شَاكِرٌ عَلِـيـمٌ من تطوّع خيرا فـاعتـمر فإن اللّه شاكر علـيـم قال: فـالـحجّ فريضة، والعمرة تطوّع، لـيست العمرة واجبة علـى أحد من الناس. ١٥٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ ...} يقول: إن الذين يكتـمون ما أنزلنا من البـينات، علـماء الـيهود وأحبـارها وعلـماء النصارى، لكتـمانهم الناس أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وتركهم اتبـاعه، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل من البـينات التـي أنزلها اللّه ما بـين من أمر نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ومبعثه وصفته فـي الكتابـين اللذين أخبر اللّه تعالـى ذكره، أن أهلهما يجدون صفته فـيهما. ويعنـي تعالـى ذكره بـالهدى، ما أوضح لهم من أمره فـي الكتب التـي أنزلها علـى أنبـيائهم، فقال تعالـى ذكره: إن الذين يكتـمون الناس الذي أنزلنا فـي كتبهم من البـيان من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته وصحة الـملة التـي أرسلته بها وحقـيتها فلا يخبرونهم به ولا يعلـمون من تبـيـينـي ذلك للناس وإيضاحي لهم فـي الكتاب الذي أنزلته إلـى أنبـيائهم، أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلاّ الّذِينَ تَابُوا الآية. كما: ١٨٦٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير، أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: سأل معاذ بن جبل أخو بنـي سلـمة وسعد بن معاذ أخو بنـي عبد الأشهل وخارجة بن زيد أخو بنـي الـحارث بن الـخزرج، نفرا من أحبـار يهود قال أبو كريب: عما فـي التوراة، وقال ابن حميد عن بعض ما فـي التوراة فكتـموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم عنه، فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـيهم: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ. ١٨٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّناتِ والهُدَى قال: هم أهل الكتاب. ١٨٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٨٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ وَالْهُدَى قال: كتـموا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبـا عندهم، فكتـموه حسدا وبغيا. ١٨٦٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتابِ أولئك أهل الكتاب كتـموا الإسلام وهو دين اللّه ، وكتـموا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل. ١٨٦٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتابِ زعموا أن رجلاً من الـيهود كان له صديق من الأنصار يقال له ثعلبة بن غنـمة، قال له: هل تـجدون مـحمدا عندكم؟ قال: لا قال: مـحمد (البـينات). القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتَابِ. بعض الناس لأن العلـم بنبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته ومبعثه لـم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عنى تعالـى ذكره بقوله: للنّاسِ فـي الكتاب ويعنـي بذلك التوراة والإنـجيـل. وهذه الآية وإن كانت نزلت فـي خاصّ من الناس، فإنها معنـيّ بها كل كاتـم علـما فرض اللّه تعالـى بـيانه للناس. وذلك نظير الـخبر الذي رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْـمٍ يَعْلَـمُهُ فَكَتَـمَهُ، أُلْـجِمَ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ بِلِـجَامٍ مِنْ نَارِ). وكان أبو هريرة يقول ما: ١٨٧٠ـ حدثنا به نصر بن علـيّ الـجهضمي، قال: حدثنا حاتـم بن وردان، قال: حدثنا أيوب السختـيانـي، عن أبـي هريرة، قال: لولا آية من كتاب اللّه ما حدثتكم. وتلا: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَـيّنَاهُ لِلنّاسِ فِـي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه ويَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ. ١٨٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبو زرعة وعبد اللّه بن راشد عن يونس قال: قال ابن شهاب، قال ابن الـمسيب، قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما اللّه فـي كتابه ما حدثت شيئا: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَـيّنَاتِ إلـى آخر الآية. والآية الأخرى: وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَـيّنُنّهُ لِلنّاسِ إلـى آخر الآية. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه هؤلاء الذين يكتـمون ما أنزله اللّه من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته وأمر دينه أنه الـحق من بعدما بـينه اللّه لهم فـي كتبهم، يـلعنهم بكتـمانهم ذلك وتركهم تبـيـينه للناس. واللعنة الفَعْلة، من لعنه اللّه بـمعنى: أقصاه وأبعده وأسحقه. وأصل اللعن: الطرد، كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماءً ورد علـيه: ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَـيْتُ عَنْهُ مَقامَ الذّئْبِ كالرّجُلِ اللّعِين يعنـي مقام الذئب الطريد. واللعين من نعت الذئب، وإنـما أراد مقام الذئب الطريد واللعين كالرجل. فمعنى الآية إذا: أولئك يبعدهم اللّه منه ومن رحمته، ويسأل ربهم اللاعنون أن يـلعنهم لأن لعنة بنـي آدم وسائر خـلق اللّه ما لعنوا أن يقولوا: اللّه م العنه، إذ كان معنى اللعن هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد. وإنـما قلنا إن لعنة اللاعنـين هي ما وصفنا: من مسألتهم ربهم أن يـلعنهم، وقولهم: لعنه اللّه ، أو علـيه لعنة اللّه لأن: ١٨٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيـم حدثانـي قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم، قال: إذا أسنت السنة، قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بنـي آدم، لعن اللّه عصاة بنـي آدم ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه تعالـى ذكره بـاللاعنـين، فقال بعضهم: عنى بذلك دوابّ الأرض وهوامها. ذكر من قال ذلك: ١٨٧٣ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، قال: تلعنهم دوابّ الأرض وما شاء اللّه من الـخنافس والعقارب تقول: نـمنع القطر بذنوبهم. ١٨٧٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمَن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: دوابّ الأرض العقارب والـخنافس يقولون: منعنا القطر بخطايا بنـي آدم. ١٨٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مـجاهد: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: تلعنهم الهوامّ ودوابّ الأرض تقول: أُمسك القطر عنا بخطايا بنـي آدم. ١٨٧٦ـ حدثنا مشرف بن أبـان الـخطاب البغدادي، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن خصيف، عن عكرمة فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: يـلعنهم كل شيء حتـى الـخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بنـي آدم. ١٨٧٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: اللاعنون البهائم. ١٨٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم تلعن عصاة بنـي آدم حين أمسك اللّه عنهم بذنوب بنـي آدم الـمطر فتـخرج البهائم فتلعنهم. ١٨٧٩ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مسلـم بن خالد، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ البهائم: الإبل والبقر والغنـم، فتلعن عصاة بنـي آدم إذا أجدبت الأرض. فإن قال لنا قائل: وما وجه الذين وجهوا تأويـل قوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إلـى أن اللاعنـين هم الـخنافس والعقارب ونـحو ذلك من هوامّ الأرض، وقد علـمت أنها إذا جمعت ما كان من نوع البهائم وغير بنـي آدم، فإنـما تـجمعه بغير الـياء والنون وغير الواو والنون، وإنـما تـجمعه بـالتاء، وما خالف ما ذكرنا، فتقول اللاعنات ونـحو ذلك؟ قـيـل: الأمر وإن كان كذلك، فإن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم أو غيرها مـما حكم جمعه أن يكون بـالتاء وبغير صورة جمع ذكران بنـي آدم بـما هو من صفة الاَدميـين أن يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالـى ذكره: وَقَالُوا لِـجُلُودهِمْ لِـمَ شَهِدْتُـمْ عَلَـيْنَا فأخرج خطابهم علـى مثال خطاب بنـي آدم إذ كلـمتهم وكلـموها، وكما قال: يا أيّهَا النّـملُ ادْخُـلُوا مَسَاكِنَكُمْ وكما قال: والشّمْسَ وَالقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لـي سَاجِدِينَ. وقال آخرون: عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ الـملائكة والـمؤمنـين. ذكر من قال ذلك: ١٨٨٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: يقول اللاعنون من ملائكة اللّه ومن الـمؤمنـين. ١٨٨١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ الـملائكة. ١٨٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: اللاعنون من ملائكة اللّه والـمؤمنـين. وقال آخرون: يعنـي بـاللاعنـين: كل ما عدا بنـي آدم والـجن. ذكر من قال ذلك: ١٨٨٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَيَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: قال البراء بن عازب: إن الكافر إذا وضع فـي قبره أتته دابة كأن عينـيها قدران من نـحاس معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بـين كتفـيه فـيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقـى شيء إلا سمع صوته، إلا الثقلـين الـجن والإنس. ١٨٨٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: أُولَئِكَ يَـلْعَنُهُمُ اللّه ويَـلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ قال: الكافر إذا وضع فـي حفرته ضرب ضربة بـمطرق فـيصيح صيحة يسمع صوته كل شيء إلا الثقلـين الـجنّ والإنس فلا يسمع صيحته شيء إلا لعنه. وأولـى هذه الأقوال بـالصحة عندنا قول من قال: اللاعنون: الـملائكة والـمؤمنون لأن اللّه تعالـى ذكره قد وصف الكفـار بأن اللعنة التـي تـحلّ بهم إنـما هي من اللّه والـملائكة والناس أجمعين، فقال تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالـمَلاَئِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ. فكذلك اللعنة التـي أخبر اللّه تعالـى ذكره أنها حالة بـالفريق الاَخر الذين يكتـمون ما أنزل اللّه من البـينات والهدى من بعد ما بـيناه للناس، هي لعنة اللّه التـي أخبر أن لعنتهم حالة بـالذين كفروا وماتوا وهم كفـار، وهم اللاعنون، لأن الفريقـين جميعا أهل كفر. وأما قول من قال: إن اللاعنـين هم الـخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبـيب الأرض وهوامّها، فإنه قول لا تدرك حقـيقته إلا بخبر عن اللّه أن ذلك من فعلها تقوم به الـحجة، ولا خبر بذلك عن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فـيجوز أن يقال إن ذلك كذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فـالصواب من القول فـيـما قالوه أن يقال: إن الدلـيـل من ظاهر كتاب اللّه موجود بخلاف أهل التأويـل، وهو ما وصفنا. فإن كان جائزا أن تكون البهائم وسائر خـلق اللّه تلعن الذين يكتـمون ما أنزل اللّه فـي كتابه من صفة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته ونبوّته، بعد علـمهم به، وتلعن معهم جميع الظلـمة، فغير جائز قطع الشهادة فـي أن اللّه عنى بـاللاعنـين البهائم والهوامّ ودبـيب الأرض، إلا بخبر للعذر قاطع، ولا خبر بذلك وظاهر كتاب اللّه الذي ذكرناه دالّ علـى خلافه. ١٦٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ } يعنـي تعالـى ذكره بذلك أن اللّه واللاعنـين يـلعنون الكاتـمين الناس ما علـموا من أمر نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته ونعته فـي الكتاب الذي أنزله اللّه وبـينه للناس، إلا من أناب من كتـمانه ذلك منهم وراجع التوبة بـالإيـمان بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فـيـما جاء به من عند اللّه ، وبـيان ما أنزل اللّه فـي كتبه التـي أنزل إلـى أنبـيائه من الأمر بـاتبـاعه، وأصلـح حال نفسه بـالتقرّب إلـى اللّه من صالـح الأعمال بـما يرضيه عنه، وبـين الذي علـم من وحي اللّه الذي أنزله إلـى أنبـيائه وعهد إلـيهم فـي كتبه فلـم يكتـمه وأظهره فلـم يخفه. فأولئك، يعنـي هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب علـيهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلـى طاعتـي والإنابة إلـى مرضاتـي. ثم قال تعالـى ذكره: وأنَا التّوَابُ الرّحِيـمُ يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبـيدي الـمنصرفة عنـي إلـيّ، والرادّها بعد إدبـارها عن طاعتـي إلـى طلب مـحبتـي، والرحيـم بـالـمقبلـين بعد إقبـالهم إلـيّ أتغمدهم منـي بعفو وأصفح عن عظيـم ما كانوا اجترموا فـيـما بـينـي وبـينهم بفضل رحمتـي لهم. فإن قال قائل: وكيف يتاب علـى من تاب؟ وما وجه قوله: إلاّ الّذِينَ تَابُوا فأُولَئِكَ أتُوبُ عَلَـيْهِمْ وهل يكون تائب إلا وهو متوب علـيه أو متوب علـيه إلا وهو تائب؟ قـيـل: ذلك مـما لا يكون أحدهما إلا والاَخر معه، فسواء قـيـل: إلا الذين تـيب علـيهم فتابوا، أو قـيـل: إلا الذين تابوا فإنـي أتوب علـيهم وقد بـينا وجه ذلك فـيـما جاء من الكلام هذا الـمـجيء فـي نظيره فـيـما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٨٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: إلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَـحُوا وَبَـيّنُوا يقول: أصلـحوا فـيـما بـينهم وبـين اللّه ، وبـينوا الذي جاءهم من اللّه ، فلـم يكتـموه، ولـم يجحدوا به: أُولَئِكَ أتُوبُ عَلَـيْهِمْ وأنا التّوّابُ الرّحِيـم. ١٨٨٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: إلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَـحُوا وَبَـيّنُوا قال: بـينوا ما فـي كتاب اللّه للـمؤمنـين، وما سألوهم عنه من أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، وهذا كله فـي يهود. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: وَبَـيّنُوا إنـما هو: وبـينوا التوبة بإخلاص العمل. ودلـيـل ظاهر الكتاب والتنزيـل بخلافه، لأن القوم إنـما عوتبوا قبل هذه الآية علـى كتـمانهم ما أنزل اللّه تعالـى ذكره وبـينه فـي كتابه فـي أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ودينه. ثم استثنى منهم تعالـى ذكره الذين يبـينون أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ودينه فـيتوبون مـما كانوا علـيه من الـجحود والكتـمان، فأخرجهم من عذاب من يـلعنه اللّه ويـلعنه اللاعنون. ولـم يكن العتاب علـى تركهم تبـيـين التوبة بإخلاص العمل. والذين استثنى اللّه من الذين يكتـمون ما أنزل اللّه من البـينات والهدى من بعد ما بـينه للناس فـي الكتاب: عبد اللّه بن سلام وذووه من أهل الكتاب الذين أسلـموا فحسن إسلامهم واتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ١٦١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا إن الذين جحدوا نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وكذبوا به من الـيهود والنصارى، وسائر أهل الـملل والـمشركين من عبدة الأوثان، وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ يعنـي وماتوا وهم علـى جحودهم ذلك وتكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أولئك علـيهم لعنة اللّه والـملائكة، يعنـي: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفـار علـيهم لعنة اللّه يقول: أبعدهم اللّه وأسحقهم من رحمته، والـمَلاَئِكَة يعنـي ولعنهم الـملائكة والناس أجمعون. ولعنة الـملائكة والناس إياهم قولهم: علـيهم لعنة اللّه ، وقد بـينا معنى اللعنة فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته. فإن قال قائل: وكيف تكون علـى الذي يـموت كافرا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم من أصناف الأمـم، وأكثرهم مـمن لا يؤمن به ويصدقه؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى خلاف ما ذهبت إلـيه. وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: عنى اللّه بقوله: وَالنّاسِ أجْمَعِينَ أهل الإيـمان به وبرسوله خاصة دون سائر البشر. ذكر من قال ذلك: ١٨٨٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعنـي بـالناس أجمعين: الـمؤمنـين. ١٨٨٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَالنّاسِ أجْمَعِينَ يعنـي بـالناس أجمعين: الـمؤمنـين. وقال آخرون: بل ذلك يوم القـيامة يوقـف علـى رؤوس الأشهاد الكافر فـيـلعنه الناس كلهم. ذكر من قال ذلك: ١٨٨٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: أن الكافر يوقـف يوم القـيامة فـيـلعنه اللّه ، ثم تلعنه الـملائكة، ثم يـلعنه الناس أجمعون. وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنا من كان: لعن اللّه الظالـم، فـيـلـحق ذلك كل كافر لأنه من الظلـمة. ذكر من قال ذلك: ١٨٩٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالـمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أجْمَعِينَ فإنه لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فـيقول أحدهما: لعن اللّه الظالـم إلا وجبت تلك اللعنة علـى الكافر لأنه ظالـم، فكل أحد من الـخـلق يـلعنه. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب عندنا قول من قال: عنى اللّه بذلك جميع الناس بـمعنى لعنهم إياهم بقولهم: لعن اللّه الظالـم أو الظالـمين، فإن كل أحد من بنـي آدم لا يـمنع من قـيـل ذلك كائنا من كان، ومن أيّ أهل ملة كان، فـيدخـل بذلك فـي لعنته كل كافر كائنا من كان. وذلك بـمعنى ما قاله أبو العالـية، لأن اللّه تعالـى ذكره أخبر عمن شهدهم يوم القـيامة أنهم يـلعنونهم، فقال: فَمَنْ أظْلَـمُ مِـمّنِ افْتَرَىَ عَلَـىَ اللّه كَذِبـا أُولَئِكَ يُعْرضُونَ عَلَـىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاَء الّذِينَ كَذَبُوا عَلَـىَ رَبّهِمْ ألاَ لَعْنَةُ اللّه عَلَـىَ الظّالِـمِينَ. وأما ما قاله قتادة من أنه عنى به بعض الناس، فقول ظاهر التنزيـل بخلافه، ولا برهان علـى حقـيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظنّ أن الـمعنـيّ به الـمؤمنون من أجل أن الكفـار لا يـلعنون أنفسهم ولا أولـياءهم، فإن اللّه تعالـى ذكره قد أخبر أنهم يـلعنونهم فـي الاَخرة، ومعلوم منهم أنهم يـلعنون الظلـمة، وداخـل فـي الظلـمة كل كافر بظلـمه نفسه، وجحوده نعمة ربه، ومخالفته أمره. ١٦٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } إن قال لنا قائل: ما الذي نصب خَالِدِينَ فِـيهَا؟ قـيـل: نصب علـى الـحال من الهاء والـميـم اللتـين فـي علـيهم. وذلك أن معنى قوله: أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه : أولئك يـلعنهم اللّه والـملائكة والناس أجمعون خالدين فـيها. ولذلك قرأ ذلك: (أُولَئِكَ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه وَالـمَلاَئِكَةُ وَالنّاسِ أجْمَعُون) من قرأه كذلك توجيها منه إلـى الـمعنى الذي وصفت. وذلك وإن كان جائزا فـي العربـية، فغير جائزة القراءة به لأنه خلاف لـمصاحف الـمسلـمين وما جاء به الـمسلـمون من القراءة مستفـيضا فـيها، فغير جائز الاعتراض بـالشاذّ من القول علـى ما قد ثبتت حجته بـالنقل الـمستفـيضوأما الهاء والألف اللتان فـي قوله: فِـيهَا فإنهما عائدتان علـى اللعنة، والـمراد بـالكلام ما صار إلـيه الكافر بـاللعنة من اللّه ومن ملائكته ومن الناس والذي صار إلـيه بها نار جهنـم. وأجرى الكلام علـى اللعنة والـمراد بها ما صار إلـيه الكافر كما قد بـينا من نظائر ذلك فـيـما مضى قبل. كما: ١٨٩١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: خَالِدِينَ فِـيهَا يقول: خالدين فـي جهنـم فـي اللعنة. وأما قوله: لا يُخَفّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ فإنه خبر من اللّه تعالـى ذكره عن دوام العذاب أبدا من غير توقـيت ولا تـخفـيف، كما قال تعالـى ذكره: وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّـمَ لاَ يُقْضَىَ عَلَـيْهِمْ فَـيَـمُوتُوا وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وكما قال: كُلّـمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَها. وأما قوله: وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ فإنه يعنـي ولا هم ينظرون بـمعذرة يعتذرون. كما: ١٨٩٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ يقول: لا ينظرون فـيعتذرون، كقوله: هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَـيَعْتَذِرُون. ١٦٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمَـَنُ الرّحِيمُ } قد بـينا فـيـما مضى معنى الألوهية وأنها اعتبـاد الـخـلق. فمعنى قوله: وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمِ والذي يستـحقّ علـيكم أيها الناس الطاعة له، ويستوجب منكم العبـادة معبود واحد وربّ واحد، فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا معه سواه، فإن من تشركونه معه فـي عبـادتكم إياه هو خـلق من خـلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثل له ولا نظير. واختلف فـي معنى وحدانـيته تعالـى ذكره، فقال بعضهم: معنى وحدانـية اللّه معنى نفـي الأشبـاه والأمثال عنه كما يقال: فلان واحد الناس وهو واحد قومه، يعنـي بذلك أنه لـيس له فـي الناس مثل، ولا له فـي قومه شبـيه ولا نظير فكذلك معنى قول: اللّه واحد، يعنـي به اللّه لا مثل له ولا نظير. فزعموا أن الذي دلهم علـى صحة تأويـلهم ذلك أن قول القائل واحد يفهم لـمعان أربعة، أحدها: أن يكون واحدا من جنس كالإنسان الواحد من الإنس، والاَخر: أن يكون غير متفرّق كالـجزء الذي لا ينقسم، والثالث: أن يكون معنـيا به الـمثل والاتفـاق كقول القائل: هذان الشيئان واحد، يراد بذلك أنهما متشابهان حتـى صارا لاشتبـاههما فـي الـمعانـي كالشيء الواحد، والرابع: أن يكون مرادا به نفـي النظير عنه والشبـيه. قالوا: فلـما كانت الـمعانـي الثلاثة من معانـي الواحد منتفـية عنه صحّ الـمعنى الرابع الذي وصفناه. وقال آخرون: معنى وحدانـيته تعالـى ذكره معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنـما كان منفردا وحده، لأنه غير داخـل فـي شيء ولا داخـل فـيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل واحد من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه الـمقالة الـمعانـي الأربعة التـي قالها الاَخرون. وأما قوله: لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فإنه خبر منه تعالـى ذكره أنه لا ربّ للعالـمين غيره، ولا يستوجب علـى العبـاد العبـادة سواه، وأن كل ما سواه فهم خـلقه، والواجب علـى جميعهم طاعته، والانقـياد لأمره، وترك عبـادة ما سواه من الأنداد والاَلهة وهجر الأوثان والأصنام، لأن جميع ذلك خـلقه وعلـى جميعهم الدينونة له بـالوحدانـية والألوهة، ولا تنبغي الألوهة إلا له، إذ كان ما بهم من نعمة فـي الدنـيا فمنه دون ما يعبدونه من الأوثان، ويشركون معه من الأشراك، وما يصيرون إلـيه من نعمة فـي الاَخرة فمنه، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضرّ ولا ينفع فـي عاجل ولا فـي آجل، ولا فـي دنـيا، ولا فـي آخرة. وهذا تنبـيه من اللّه تعالـى ذكره أهل الشرك به علـى ضلالهم، ودعاء منه لهم إلـى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم. ثم عرّفهم تعالـى ذكره بـالآية التـي تتلوها موضع استدلال ذوي الألبـاب منهم علـى حقـيقة ما نبههم علـيه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم، فقال تعالـى ذكره: أيها الـمشركون إن جهلتـم أو شككتـم فـي حقـيقة ما أخبرتكم من الـخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حججي وفكروا فـيها، فإن من حججي: خـلق السمَوات والأرض، واختلاف اللـيـل والنهار، والفلك التـي تـجري فـي البحر بـما ينفع الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحيـيت به الأرض بعد موتها، وما بثثت فـيها من كل دابة، والسحاب الذي سخرته بـين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والاَلهة والأنداد وسائر ما تشركون به إذا اجتـمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض يقدر علـى أن يخـلق نظير شيء من خـلقـي الذي سميت لكم، فلكم بعبـادتكم ما تعبدون من دونـي حينئذ عذر، وإلا فلا عذر لكم فـي اتـخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولـما تعبدون غيري. فلـيتدبر أولو الألبـاب إيجاز اللّه احتـجاجه علـى جميع أهل الكفر به والـملـحدين فـي توحيده فـي هذه الآية وفـي التـي بعدها بأوجز كلام وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم علـى معرفة فضل حكمة اللّه وبـيانه. ١٦٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ...} اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله أنزل اللّه تعالـى ذكره هذه الآية علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. فقال بعضهم: أنزلها علـيه احتـجاجا له علـى أهل الشرك به من عبدة الأوثان، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره لـما أنزل علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمُ فتلا ذلك علـى أصحابه، وسمع به الـمشركون من عبدة الأوثان، قال الـمشركون: وما الـحجة والبرهان علـى أن ذلك كذلك، ونـحن ننكر ذلك، ونـحن نزعم أن لنا آلهة كثـيرة؟ فأنزل اللّه عند ذلك: إنّ فـي خَـلْق السّمَوات وَالأرْض احتـجاجا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى الذين قالوا ما ذكرنا عنهم. ذكر من قال ذلك: ١٨٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: نزل علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـالـمدينة: وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمُ فقال كفـار قريش بـمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ إلـى قوله: لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فبهذا يعلـمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (آيةً)، فأنزل اللّه هذه الآية يعلـمهم فـيها أن لهم فـي خـلق السمَوات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك آية بـينة علـى وحدانـية اللّه ، وأنه لا شريك له فـي ملكه لـمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح. ذكر من قال ذلك: ١٨٩٤ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن أبـيه، عن أبـي الضحى، قال: لـما نزلت: وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـمُ قال الـمشركون: إن كان هذا هكذا فلـيأتنا بآية فأنزل اللّه تعالـى ذكره: إن فـي خَـلْقِ السّمَواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ والنّهَارِ... الآية. ١٨٩٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: حدثنـي سعيد بن مسروق، عن أبـي الضحى، قال: لـما نزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيـم قال الـمشركون: إن كان هذا هكذا فلـيأتنا بآية فأنزل اللّه تعالـى ذكره إن فـي خَـلْق السّمَوَات والأَرْض وَاخْتِلاف اللّـيْـلِ وَالنّهار... الآية. ١٨٩٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: حدثنـي سعيد بن مسروق، عن أبـي الضحى، قال: لـما نزلت هذه الآية جعل الـمشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحد، فلتأتنا بآية إن كنت من الصادقـين فأنزل اللّه : إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ... الآية. ١٨٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن عطاء بن أبـي ربـاح: أن الـمشركين قالوا للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أرنا آية فنزلت هذه الآية: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ. ١٨٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد، قال: سألت قريش الـيهود، فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الاَيات فحدثوهم بـالعصا وبـيده البـيضاء للناظرين، وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الاَيات، فأخبروهم أنه كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيـي الـموتـى بإذن اللّه . فقالت قريش عند ذلك للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: ادع اللّه أن يجعل لنا الصفـا ذهبـا فنزداد يقـينا، ونتقوّى به علـى عدوّنا فسأل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ربه، فأوحى إلـيه: إنـي معطيهم، فأجعل لهم الصفـا ذهبـا، ولكن إن كذبوا عذّبتهم عذابـا لـم أعذبه أحدا من العالـمين. فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (ذَرْنِـي وَقَوْمِي فَأدْعُوَهُمْ يَوْما بِـيَوْم) فأنزل اللّه علـيه: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ الآية، إن فـي ذلك لاَية لهم، إن كانوا إنـما يريدون أن أجعل لهم الصفـا ذهبـا، فخـلق اللّه السمَوات والأرض واختلاف اللـيـل والنّهار أعظم من أن أجعل لهم الصفـا ذهبـا لـيزدادوا يقـينا. ١٨٩٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ فقال الـمشركون للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: غيّر لنا الصفـا ذهبـا إن كنت صادقا أنه منه فقال اللّه : إن فـي هذه الاَيات لاَيات لقوم يعقلون وقال: قد سأل الاَيات قوم قبلكم، ثم أصبحوا بها كافرين. والصواب من القول فـي ذلك، أن اللّه تعالـى ذكره نبه عبـاده علـى الدلالة علـى وحدانـيته وتفرّده بـالألوهية دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائز أن تكون نزلت فـيـما قاله عطاء، وجائز أن تكون فـيـما قاله سعيد بن جبـير وأبو الضحى، ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقـين يقطع العذر فـيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقـين بصحة قول علـى الاَخر. وأيّ القولـين كان صحيحا فـالـمراد من الآية ما قلت. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ إن فـي إنشاء السمَوات والأرض وابتداعهما. ومعنى خـلق اللّه الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها بعد أن لـم تكن موجودة. وقد دللنا فـيـما مضى علـى الـمعنى الذي من أجله قـيـل (الأرض) ولـم تـجمع كما جمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته. فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خـلق هو غيرها فـيقال: إن فـي خـلق السموات والأرض؟ قـيـل: قد اختلف فـي ذلك، فقال بعض الناس: لها خـلق هو غيرها، واعتلوا فـي ذلك بهذه الآية، وبـالتـي فـي سورة الكهف: مَا أشْهَدْتُهُمْ خَـلْقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَـلْقَ أنْفُسِهِمْ و قالوا: لـم يخـلق اللّه شيئا إلا واللّه له مريد. قالوا: فـالأشياء كانت بإرادة اللّه ، والإردة خـلقٌ لها. وقال آخرون: خـلق الشيء صفة له، لا هي هو ولا غيره. قالوا: لو كان غيره لوجب أن يكون مثله موصوفـا. قالوا: ولو جاز أن يكون خـلقه غيره وأن يكون موصوفـا لوجب أن تكون له صفة هي له خـلق، ولو وجب ذلك كذلك لـم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلوما بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخـلق السمَوات والأرض صفة لهما علـى ما وصفنا. واعتلوا أيضا بأن للشيء خـلقا لـيس هو به من كتاب اللّه بنـحو الذي اعتلّ به الأوّلون. وقال آخرون: خـلق السمَوات والأرض وخـلق كل مخـلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره. فمعنى قوله: إنّ فِـي خَـلْقِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ: إن فـي السموات والأرض. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَاخْتِلاَفِ اللّـيْـلِ وَالنّهَارِ وتعاقب اللـيـل والنهار علـيكم أيها الناس. وإنـما الاختلاف فـي هذا الـموضع الافتعال من خُـلوف كل واحد منهما الاَخر، كما قال تعالـى ذكره: وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّـيْـلَ وَالنّهَارَ خِـلْفَةً لِـمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا بـمعنى: أن كل واحد منهما يخـلف مكان صاحبه، إذا ذهب اللـيـل جاء النهار بعده، وإذا ذهب النهار جاء اللـيـل خـلفه ومن ذلك قـيـل: خـلف فلان فلانا فـي أهله بسوء، ومنه قول زهير: بها العِينُ والاَرَامُ يَـمْشِينَ خِـلْفَةًوأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَـجْثِم وأما اللـيـل فإنه جمع لـيـلة، نظير التـمر الذي هو جمع تـمرة، وقد يجمع لـيال فـيزيدون فـي جمعها ما لـم يكن فـي واحدتها. وزيادتهم الـياء فـي ذلك نظير زيادتهم إياها فـي ربـاعية وثمانـية وكراهيةوأما النهار فإن العرب لا تكاد تـجمعه لأنه بـمنزلة الضوء، وقد سمع فـي جمعه (النّهُر) قال الشاعر: لَوْلا الثّريدَان هَلَكْنا بـالضّمُرْثَريدُ لَـيْـلٍ وَثَريدٌ بـالنّهُرْ ولو قـيـل فـي جمع قلـيـله أنهرة كان قـياسا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالفُلْكِ الّتِـي تَـجْرِي فِـي البَحْرِ بِـمَا يَنْفَعُ النّاسَ. يعنـي تعالـى ذكره: إن فـي الفلك التـي تـجري فـي البحر. والفلك هو السفن، واحده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث، كما قال تعالـى ذكره فـي تذكيره فـي آية أخرى: وآيَةٌ لَهُمْ أنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِـي الفُلْكِ الـمَشْحُون فذكره، وقد قال فـي هذه الآية: وَالفُلْكِ الّتـي تَـجْرِي فِـي البَحْرِ وهي مُـجراة، لأنها إذا أجريت فهي الـجارية، فأضيف إلـيها من الصفة ما هو لها. وأما قوله: بِـمَا يَنْفَعُ النّاسَ فإن معناه: ينفع الناس فـي البحر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما أنْزَلَ اللّه مِنَ السماءِ مِنْ ماءٍ فأحيا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَما أنْزَلَ اللّه مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ وفـيـما أنزله اللّه من السماء من ماء، وهو الـمطر الذي ينزله اللّه من السماء. وقوله: فَأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعَدْ مَوْتِها وإحياؤها: عمارتها وإخراج نبـاتها، والهاء التـي فـي (به) عائدة علـى الـماء والهاء والألف فـي قوله: بَعْدَ مَوْتها علـى الأرض، وموت الأرض: خرابها ودثور عمارتها، وانقطاع نبـاتها الذي هو للعبـاد أقوات وللأنام أرزاق. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبَثّ فِـيها مِنْ كُلّ دابّة. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَبَثّ فِـيها مِنْ كُلّ دابّةٍ وإن فـيـما بثّ فـي الأرض من دابة. ومعنى قوله: وبَثّ فِـيها وفرّق فـيها، من قول القائل: بثّ الأمير سراياه: يعنـي فرّق. والهاء والألف فـي قوله: (فِـيها) عائدتان علـى الأرض. والدابة الفـاعلة من قول القائل دبت الدابة تدبّ دبـيبـا فهي دابة، والدابة اسم لكل ذي روح كان غير طائر بجناحيه لدبـيبه علـى الأرض. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَصرِيف الرّياحِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَتَصْرِيفُ الرّياحِ وفـي تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفـاعل وأضاف الفعل إلـى الـمفعول، كما قال: يعجبنـي إكرام أخيك، يريد إكرامك أخاك وتصريف اللّه إياها: أن يرسلها مرة لواقح، ومرة يجعلها عقـيـما، ويبعثها عذابـا تدمر كل شيء بأمر ربها. كما: ١٩٠٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَتَصْريف الرّياحِ والسحاب الـمُسَخّرِ قال: قادر واللّه ربنا علـى ذلك، إذا شاء جعلها عذابـا ريحا عقـيـما لا تلقح، إنـما هي عذاب علـى من أرسلت علـيه. وزعم بعض أهل العربـية أن معنى قوله: وَتَصْرِيفِ الرّياحِ أنها تأتـي مرّة جنوبـا وشمالاً وقَبُولاً ودَبُورا ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التـي وصف الرياح بها صفة تصرّفها لا صفة تصريفها، لأن تصريفها تصريف اللّه لها، وتصرّفها اختلاف هبوبها. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: وَتَصَرْيفِ الرّياحِ تصريف اللّه تعالـى ذكره هبوب الرياح بـاختلاف مهابّها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالسّحابِ الـمُسّخّرِ وَبَـيْنَ السّماءِ والأْرضِ لاَيات لِقَوْمٍ يْعَقِلُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله وَالسّحابِ الـمُسّخّرِ وفـي السحاب جمع سحابة، يدل علـى ذلك قوله تعالـى ذكره: وَيُنْشِىءُ السّحابَ الثّقالَ فوحد الـمسخر وذكّره، كما قال: هذه تـمرة وهذا تـمر كثـير فـي جمعه، وهذه نـخـلة وهذا نـخـل. وإنـما قـيـل للسحاب سحاب إن شاء اللّه لـجرّ بعضه بعضا وسحبه إياه، من قول القائل: مرّ فلان يجرّ ذيـله: يعنـي يسحبه. فأما معنى قوله: لاَياتٍ فإنه علامات ودلالات علـى أن خالق ذلك كله ومنشئه إله واحد، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لـمن عقل مواضع الـحجج وفهم عن اللّه أدلته علـى وحدانـيته. فأعلـم تعالـى ذكره عبـاده بأن الأدلة والـحجج إنـما وضعت معتبرا لذوي العقول والتـميـيز دون غيرهم من الـخـلق، إذ كانوا هم الـمخصوصين بـالأمر والنهي، والـمكلفـين بـالطاعة والعبـادة، ولهم الثواب وعلـيهم العقاب. فإن قال قائل: وكيف احتـجّ علـى أهل الكفر بقوله: إنّ فِـي خَـلْق السّمَوَات والأرْضِ وَاخْتِلاف اللّـيْـلِ وَالنّهاِر الآية فـي توحيد اللّه ، وقد علـمت أن أصنافـا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر فـي هذه الآية مخـلوقة؟ قـيـل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالـى ذكره فـي هذه الآية دلـيلاً علـى خالقه وصانعه، وأن له مدبرا لا يشبهه (شيء)، وبـارئا لا مثل له. وذلك وإن كان كذلك، فإن اللّه إنـما حاجّ بذلك قوما كانوا مقرّين بأن اللّه خالقهم، غير أنهم يشركون فـي عبـادته عبـادة الأصنام والأوثان فحاجّهم تعالـى ذكره فقال إذ أنكروا قوله: وَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ وزعموا أن له شركاء من الاَلهة: إن إلهكم الذي خـلق السموات، وأجرى فـيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبـين فـي سيرهما، وذلك هو معنى اختلاف اللـيـل والنهار فـي الشمس والقمر، وذلك هو معنى قوله: وَالفُلْكِ الّتِـي تَـجْرِي فـي البَحْر بـمَا يَنْفَعُ النّاسَ وأنزل إلـيكم الغيث من السماء، فأخصب به جَنَابكم بعد جدوبه، وأمرعه بعد دثوره، فنَعَشكم به بعد قنوطكم، وذلك هو معنى قوله: وَما أنْزَلَ اللّه مِنَ السّماءِ مِنْ ماءٍ فأحيْا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتها. وسخر لكم الأنعام فـيها لكم مطاعم ومآكل، ومنها جمال ومراكب، ومنها أثاث وملابس، وذلك هو معنى قوله: وَبَثّ فِـيها مِنْ كُلّ دابّةٍ. وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسير لكم السحاب الذي بوَدْقه حياتكم وحياة نَعَمكم ومواشيكم وذلك هو معنى قوله: وَتَصْرِيفِ الرّياحِ وَالسّحابِ الـمُسَخّر بَـيْنَ السّماءِ والأرْضِ. فأخبرهم أن إلههم هو اللّه الذي أنعم علـيهم بهذه النعم، وتفرّد لهم بها. ثم قال: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ فتشركوه فـي عبـادتكم إياي، وتـجعلوه لـي ندّا وعِدلاً؟ فإن لـم يكن من شركائكم من يفعل ذلكم من شيء، ففـي الذي عددت علـيكم من نعمتـي وتفرّدت لكم بأياديّ دلالات لكم إن كنتـم تعقلون مواقع الـحق والبـاطل والـجور والإنصاف، وذلك أنـي لكم بـالإحسان إلـيكم متفرّد دون غيري، وأنتـم تـجعلون لـي فـي عبـادتكم إياي أندادا. فهذا هو معنى الآية. والذين ذُكّروا بهذه الآية واحتـجّ علـيهم بها هم القوم الذين وصفت صفتهم دون الـمعطلة والدهرية، وإن كان فـي أصغر ما عدّ اللّه فـي هذه الآية من الـحجج البـالغة، الـمُقْنَعُ لـجميع الأنام، تركنا البـيان عنه كراهة إطالة الكتاب بذكره. ١٦٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى:ق {وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّه أَندَاداً ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن من الناس من يتـخذ من دون اللّه أندادا له، وقد بـينا فـيـما مضى أن الند العدل بـما يدل علـى ذلك من الشواهد فكرهنا إعادته، وأن الذين اتـخذوا هذه الأنداد من دون اللّه يحبون أندادهم كحب الـمؤمنـين اللّه ، ثم أخبرهم أن الـمؤمنـين أشد حبّـا للّه من متـخذي هذه الأنداد لأندادهم. واختلف أهل التأويـل فـي الأنداد التـي كان القوم اتـخذوها وما هي؟ فقال بعضهم: هي آلهتهم التـي كانوا يعبدونها من دون اللّه . ذكر من قال ذلك. ١٩٠١ـ حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أنْدَادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّه وَالّذِينَ آمَنُوا أشَدّ حُبّـا للّه من الكفـار لأوثانهم. ١٩٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله تعالـى ذكره: يُحِبوّنَهُمْ كَحُبّ اللّه مبـاهاة ومضاهاة للـحق بـالأنداد. وَالّذينَ آمنُوا أشدّ حبّـا للّه من الكفـار لأوثانهم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٩٠٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أنْدَادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّه قال: هي الاَلهة التـي تعبد من دون اللّه . يقول: يحبون أوثانهم كَحبّ اللّه وَالّذينَ آمنُوا أشدّ حبّـا للّه، أي من الكفـار لأوثانهم. ١٩٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أنْدَادا يُحِبّوَنُهمْ كَحُبّ اللّه قال: هؤلاء الـمشركون أندادهم آلهتهم التـي عبدوا مع اللّه يحبونهم كما يحبّ الذين آمنوا اللّه ، والّذينَ آمنُوا أشدّ حبّـا للّه من حبهم هم آلهتهم. وقال آخرون: بل الأنداد فـي هذا الـموضع إنـما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية اللّه تعالـى ذكره. ذكر من قال ذلك: ١٩٠٥ـ حدثنـي موسى، قال: (حدثنا عمرو، قال:) حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أنْدادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّه قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون اللّه إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا اللّه . فإن قال قائل: وكيف قـيـل كحبّ اللّه ، وهل يحبّ اللّه الأنداد؟ وهل كان متـخذو الأنداد يحبون اللّه فـيقال يحبونهم كحبّ اللّه ؟ قـيـل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إلـيه، وإنـما نظير ذلك قول القائل: بعت غلامي كبـيع غلامك، بـمعنى: بعته كما بـيع غلامك وكبـيعك غلامك، واستوفـيت حقـي منه استـيفـاء حقك، بـمعنى: استـيفـائك حقك. فتـحذف من الثانـي كناية اسم الـمخاطب اكتفـاء بكنايته فـي (الغلام) و(الـحق)، كما قال الشاعر: فَلَسْتُ مُسَلّـما ما دُمْتُ حَيّاعَلـى زَيْدٍ بِتَسْلِـيـمِ الأمِيرِ يعنـي بذلك: كما يُسَلّـم علـى الأمير. فمعنى الكلام إذا: ومن الناس من يتـخذ أيها الـمؤمنون من دون اللّه أندادا يحبونهم كحبّ اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا .... اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عامة أهل الـمدينة والشام: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا بـالتاء إذْ يَروْنَ العَذَابِ بـالـياء أن القُوةَ للّه جَمِيعا وأن اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بفتـح (أن) و(أن) كلتـيهما، بـمعنى: ولو ترى يا مـحمد الذين كفروا وظلـموا أنفسهم حين يرون عذاب اللّه ويعاينونه، أن القوة للّه جميعا، وأن اللّه شديد العذاب. ثم فـي نصب (أن) و(أن) فـي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تفتـح بـالـمـحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فـيه فـيكون تأويـل الكلام حينئذ: ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا إذْ يرون عذاب اللّه لأقرّوا. ومعنى ترى: تبصر أن القوّة للّه جميعا، وأن اللّه شديد العذاب. ويكون الـجواب حينئذ إذ فتـحت (أن) علـى هذا الوجه متروكا قد اكتفـي بدلالة الكلام علـيه، ويكون الـمعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتـح أن علـى قراءة من قرأ: وَلَوْ تَرَى بـالتاء. والوجه الاَخر فـي الفتـح، أن يكون معناه: ولو ترى يا مـحمد إذ يرى الذين ظلـموا عذاب اللّه ، لأن القوّة للّه جميعا، وأن اللّه شديد العذاب، لعلـمت مبلغ عذاب اللّه . ثم تـحذف اللام فتفتـح بذلك الـمعنى لدلالة الكلام علـيها. وقرأ ذلك آخرون من سلف القرّاء: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إن القُوةَ للّه جَمِيعا وَإنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بـمعنى: ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا حين يعاينوا عذاب اللّه لعلـمت الـحال التـي يصيرون إلـيها. ثم أخبر تعالـى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه بعد تـمام الـخبر الأول، فقال: إن القوة للّه جميعا فـي الدنـيا والاَخرة دون من سواه من الأنداد والاَلهة، وإن اللّه شديد العذاب لـمن أشرك به وأدّعى معه شركاء وجعل له ندّا. وقد يحتـمل وجها آخر فـي قراءة من كسر (إن) فـي (ترى) بـالتاء، وهو أن يكون معناه: ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا إذ يرون العذاب، يقولون: إن القوّة للّه جميعا، وإن اللّه شديد العذاب. ثم تـحذف القول وتكتفـي منه بـالـمقول. وقرأ ذلك آخرون: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا بـالـياء إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أنّ القوّة للّه جميعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بفتـح الألف من أنّ وأن، بـمعنى: ولو يرى الذين ظلـموا عذاب اللّه الذي أعدّ لهم فـي جهنـم لعلـموا حين يرونه فـيعاينونه أن القوّة للّه جميعا وأن اللّه شديد العذاب، إذ يرون العذاب. فتكون (أن) الأولـى منصوبة لتعلقها بجواب (لو) الـمـحذوف، ويكون الـجواب متروكا، وتكون الثانـية معطوفة علـى الأولـى وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفـيـين والبصريـين وأهل مكة. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن تأويـل قراءة من قرأ: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوّةَ للّه جَمِيعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بـالـياء فـي يرى وفتـح الألفـين فـي (أن) و(أن): ولو يعلـمون، لأنهم لـم يكونوا علـموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم علـم، فإذا قال: (ولو ترى)، فإنـما يخاطب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. ولو كسر (إن) علـى الابتداء إذا قال: (ولو يرى) جاز، لأن (لو يرى): لو يعلـم، وقد يكون (لو يعلـم) فـي معنى لا يحتاج معها إلـى شيء، تقول للرجل: أما واللّه لو يعلـم ولو تعلـم، كما قال الشاعر: إنْ يَكُنْ طِبّكِ الدّلالُ فَلَوْ فِـيسالِفِ الدّهْرِ وَالسّنِـينَ الـخَوَالـي هذا لـيس له جواب إلا فـي الـمعنى، وقال الشاعر: وبِخَطَ مِـمّا نَعِيشُ وَلا تَذْهَبْ بِكَ التّرّهاتُ فِـي الأهْوَالِ فأضمر (عش). قال: وقال بعضهم: (ولو ترى) وفتـح (أنّ) علـى (ترى) ولـيس بذلك، لأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يعلـم، ولكن أراد أن يعلـم ذلك الناس كما قال تعالـى ذكره: أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ لـيخبر الناس عن جهلهم، وكما قال: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّه لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ. قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون (أنّ) عاملاً فـيها قوله: ولو يرى، و قالوا: إن الذين ظلـموا قد علـموا حين يرون العذاب أن القوّة للّه جميعا، فلا وجه لـمن تأوّل ذلك: ولو يرى الذين ظلـموا أن القوة للّه. و قالوا: إنـما عمل فـي (أن) جواب (لو) الذي هو بـمعنى العلـم، لتقدم العلـم الأول. وقال بعض نـحويـي الكوفة: من نصب: أن القوة للّه وأن اللّه شديد العذاب مـمن قرأ: ولو يَرى بـالـياء فإنـما نصبها بإعمال الرؤية فـيها، وجعل الرؤية واقعة علـيهاوأما من نصبها مـمن قرأ: (ولو ترى) بـالتاء، فإنه نصبها علـى تأويـل: لأن القوّة للّه جميعا، ولأن اللّه شديد العذاب قال: ومن كسرهما مـمن قرأ بـالتاء فإنه يكسرهما علـى الـخبر. وقال آخرون منهم: فتـح (أنّ) فـي قراءة من قرأ: ولو يرى الذين ظلـموا بـالـياء بإعمال (يرى)، وجواب الكلام حينئذ متروك، كما ترك جواب: وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الـجِبـالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ لأن معنى الـجنة والنار مكرّر معروف. و قالوا: جائز كسر (إن) فـي قراءة من قرأ بـالـياء، وإيقاع الرؤية علـى (إذ) فـي الـمعنى، وأجازوا نصب (أن) علـى قراءة من قرأ ذلك بـالتاء لـمعنى نـية فعل آخر، وأن يكون تأويـل الكلام: ولو ترى الذين ظلـموا إذ يرون العذاب (يرون) أن القوة للّه جميعا. وزعموا أن كسر (إن) الوجه إذا قرئت: (ولو ترى) بـالتاء علـى الاستئناف، لأن قوله: (ولو ترى) قد وقع علـى (الذين ظلـموا). قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا بـالتاء من (ترى) إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوَةَ للّه جَميعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بـمعنى لرأيت أن القوة للّه جميعا وأن اللّه شديد العذاب، فـيكون قوله (لرأيت) الثانـية مـحذوفة مستغنى بدلالة قوله: (ولو ترى الذين ظلـموا) عن ذكره، وإن كان جوابـا ل (لو) ويكون الكلام وإن كان مخرجه مخرج الـخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معنـيا به غيره، لأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان لا شك عالـما بأن القوّة للّه جميعا وأن اللّه شديد العذاب، ويكون ذلك نظير قوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أن اللّه لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وقد بـيناه فـي موضعه. وإنـما اخترنا ذلك علـى قراءة الـياء لأن القوم إذا رأوا العذاب قد أيقنوا أن القوّة للّه جميعا، وأن اللّه شديد العذاب، فلا وجه أن يقال: لو يرون أن القوّة للّه جميعا حينئذ، لأنه إنـما يقال: (لو رأيت) لـمن لـم ير، فأما من قد رآه فلا معنى لأن يقال له: (لو رأيت). ومعنى قوله: إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إذ يعاينون العذاب. كما: ١٩٩٨حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوةَ للّه جَمِيعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ يقول: لو عاينوا العذاب. وإنـما عنى تعالـى ذكره بقوله: وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَـمُوا ولو ترى يا مـحمد الذين ظلـموا أنفسهم فـاتـخذوا من دونـي أندادا يحبونهم كحبكم إياي، حين يعاينون عذابـي يوم القـيامة الذي أعددت لهم، لعلـمتـم أن القوّة كلها لـي دون الأنداد والاَلهة، وأن الأنداد والاَلهة لا تغنـي عنهم هنالك شيئا، ولا تدفع عنهم عذابـا أحللت بهم، وأيقنتـم أنـي شديدٌ عذابـي لـمن كفر بـي وادّعى معي إلها غيري. ١٦٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا ورَأوُا العَذَاب إذ تبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا فقال بعضهم بـما: ١٩٠٦ـ حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا وهم الـجبـابرة والقادة والرؤوس فـي الشرك، مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وهم الأتبـاع الضعفـاء، ورَأَوُا العَذَابَ. حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال: تبرأت القادة من الأتبـاع يوم القـيامة. حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال ابن جريج: قلت لعطاء: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال: تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم. وقال آخرون بـما: ١٩٠٧ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا أما الذين اتبعوا فهم الشياطين تبرّءوا من الإنس. قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي فـي ذلك أن اللّه تعالـى ذكره أخبر أن الـمتّبعينَ علـى الشرك بـاللّه يتبرّءون من أتبـاعهم حين يعاينون عذاب اللّه ولـم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض، بل عمّ جميعهم، فدخـل فـي ذلك كل متبوع علـى الكفر بـاللّه والضلال أنه يتبرأ من أتبـاعه الذين كانوا يتبعونه علـى الضلال فـي الدنـيا إذا عاينوا عذاب اللّه فـي الاَخرة. وأما دلالة الآية فـيـمن عنى بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِين اتّبَعُوا فإنها إنـما تدلّ علـى أن الأنداد الذين اتـخذهم من دون اللّه مَن وصف تعالـى ذكره صفته بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أنْدَادا هم الذين يتبرّءون من أتبـاعهم. وإذا كانت الآية علـى ذلك دالة صحّ التأويـل الذي تأوّله السدي فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُون اللّه أنْدَادا أن الأنداد فـي هذا الـموضع إنـما أريد يطيع اللّه الـمؤمنون من الرجال الذين يطيعونهم فـيـما أمروهم به من أمر، ويعصون اللّه فـي طاعتهم إياهم، كما يطيع اللّه الـمؤمنون ويعصون غيره، وفسد تأويـل قول من قال: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا إنهم الشياطين تبرّءوا من أولـيائهم من الإنس لأن هذه الآية إنـما هي فـي سياق الـخبر عن متـخذي الأنداد. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن اللّه شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تقطعت بهم الأسبـاب. ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الأسبـاب. فقال بعضهم بـما: ١٩٠٨ـ حدثنـي به يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا فضيـل بن عياض، وثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبـيد الـمكتب، عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الوصال الذي كان بـينهم فـي الدنـيا. حدثنا إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، عن سفـيان، عن عبـيد الـمكتب، عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: تواصُلهم فـي الدنـيا. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، وثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا، قالا: حدثنا سفـيان، عن عبـيد الـمكتب، عن مـجاهد بـمثله. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الـمودّة. حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قال: تواصل كان بـينهم بـالـمودة فـي الدنـيا. ١٩٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، قال: أخبرنـي قـيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الـمودّة. ١٩١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ أسبـاب الندامة يوم القـيامة، وأسبـاب الـمواصلة التـي كانت بـينهم فـي الدنـيا يتواصلون بها ويتـحابون بها، فصارت علـيهم عداوة يوم القـيامة ثمّ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَـلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا ويتبرأ بعضكم من بعض، وقال اللّه تعالـى ذكره: الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ الـمُتّقِـين فصارت كل خـلة عداوة علـى أهلها، إلا خـلة الـمتقـين. ١٩١١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: هو الوصل الذي كان بـينهم فـي الدنـيا. ١٩١٢ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ يقول: الأسبـاب: الندامة. وقال بعضهم: بل معنى الأسبـاب: الـمنازل التـي كانت لهم من أهل الدنـيا. ذكر من قال ذلك: ١٩١٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ يقول: تقطعت بهم الـمنازل. ١٩١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن أبـي جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الأسبـاب: الـمنازل. وقال آخرون: الأسبـاب: الأرحام. ذكر من قال ذلك: ١٩١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، و قال ابن عبـاس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الأرحام. وقال آخرون: الأسبـاب: الأعمال التـي كانوا يعملونها فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك: ١٩١٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إمّا وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ فـالأعمال. ١٩١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: أسبـاب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبـاب أعمالهم وثـيقة فـيأخذون بها فـينـجون، والاَخرون أعطوا أسبـاب أعمالهم الـخبـيثة فتقطع بهم فـيذهبون فـي النار قال: والأسبـاب: الشيء يتعلق به قال: والسبب الـحبل، والأسبـاب جمع سبب، وهو كل ما تسبب به الرجل إلـى طلبته وحاجته، فـيقال للـحبل سبب لأنه يتسبب بـالتعلق به إلـى الـحاجة التـي لا يوصل إلـيها إلا بـالتعلق به، ويقال للطريق سبب للتسبب بركوبه إلـى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللـمصاهرة سبب لأنها سبب للـحرمة، وللوسيـلة سبب للوصول بها إلـى الـحاجة، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة فهو سبب لإدراكها. فإذا كان ذلك كذلك فـالصواب من القول فـي تأويـل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره أخبر أن الذين ظلـموا أنفسهم من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفـار يتبرأ عند معاينتهم عذاب اللّه الـمتبوع من التابع، وتتقطع بهم الأسبـاب. وقد أخبر تعالـى ذكره فـي كتابه أن بعضهم يـلعن بعضا، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأولـيائه: ما أنَا بِـمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُـمْ بِـمُصْرِخِيّ إنّـي كَفَرْتُ بِـمَا أشْرَكْتُـمُونِ مِنْ قَبْلُ وأخبر تعالـى ذكره أن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا الـمتقـين، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضا، فقال تعالـى ذكره: وَقِـفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرون وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه للّه ولـيا، فقال تعالـى ذكره فـي ذلك: ومَا كانَ اسْتِغْفـارُ إبْرَاهِيـمَ لأبِـيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ للّه تَتَبّرأ مِنْهُ وأخبر تعالـى ذكره أن أعمالهم تصير علـيهم حسرات. وكل هذه الـمعانـي أسبـاب يتسبب فـي الدنـيا بها إلـى مطالب، فقطع اللّه منافعها فـي الاَخرة عن الكافرين به لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها فلا خِلال بعضهم بعضا ينفعهم عند ورودهم علـى ربهم ولا عبـادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم، ولا دافعت عنهم أرحام فنصرتهم من انتقام اللّه منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم بل صارت علـيهم حسرات، فكل أسبـاب الكفـار منقطعة، فلا معنى أبلغ فـي تأويـل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ من صفة اللّه ، وذلك ما بـينا من جميع أسبـابهم دون بعضها علـى ما قلنا فـي ذلك. ومن ادّعى أن الـمعنى بذلك خاص من الأسبـاب سئل عن البـيان علـى دعواه من أصل لا منازع فـيه، وعورض بقول مخالفه فـيه، فلن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله. ١٦٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ الّذِينَ اتّبَعُواْ ...} يعنـي بقوله تعالـى ذكره: وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا وقال أتبـاع الرجال الذين كانوا اتـخذوهم أندادا من دون اللّه يطيعونهم فـي معصية اللّه ، ويعصون ربهم فـي طاعتهم، إذ يرون عذاب اللّه فـي الاَخرة: لَوْ أن لنَا كَرة يعنـي بـالكرّة: الرجعة إلـى الدنـيا، من قول القائل: كررت علـى القوم أكرّ كرّا، والكرّة: الـمرة الواحدة، وذلك إذا حمل علـيهم راجعا علـيهم بعد الانصراف عنهم كما قال الأخطل: وَلَقَدْ عَطَفْنَ علـى فَزَارَةَ عَطْفَةًكَرّ الـمَشيحِ وَجُلْنَ ثَمّ مَـجَالاَ ١٩١٨ـ وكما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: وقال الّذِينَ اتّبَعُوا لَوْ أن لنَا كَرّةً فَنَتَبرّأ مِنْهُمْ كمَا تَبّرءوْا مِنّا أي لنا رجعة إلـى الدنـيا. ١٩١٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَقالَ الّذِينَ اتّبَعُوا لَوْ أنّ لنَا كَرّةً قال: قالت الأتبـاع: لو أن لنا كرّة إلـى الدنـيا فنتبرأ منهم كما تبرّءوا منا. وقوله: فَنَتَبرّأَ مِنْهُمْ منصوب لأنه جواب للتـمنـي بـالفـاء، لأن القوم تـمنوا رجعة إلـى الدنـيا لـيتبرّءوا من الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية اللّه كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا فـي الدنـيا الـمتبوعون فـيها علـى الكفر بـاللّه إذْ عاينوا عظيـم النازل بهم من عذاب اللّه ، فقالوا: يا لـيت لنا كرّة إلـى الدنـيا فنتبرأ منهم، ويا لَـيَتَنا نُرَدّ ولا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا ونَكُونَ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِم. ومعنى قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أعْمالَهُمْ يقول: كما أراهم العذاب الذي ذكره فـي قوله: وَرَأوُا العَذَابَ الذي كانوا يكذبون به فـي الدنـيا، فكذلك يريهم أيضا أعمالهم الـخبـيثة التـي استـحقوا بها العقوبة من اللّه حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ يعنـي ندامات. والـحسرات جمع حسرة، وكذلك كل اسم كان واحده علـى (فَعْلة) مفتوح الأول ساكن الثانـي، فإن جمعه علـى (فَعَلات)، مثل شهوة وتـمرة تـجمع شهوات وتـمرات، مثقلة الثوانـي من حروفها. فأما إذا كان نعتا فإنك تدع ثانـيه ساكنا مثل ضخْمة تـجمعها ضخْمات، وعَبْلة تـجمعها عَبْلات، وربـما سكن الثانـي فـي الأسماء كما قال الشاعر: عَلّ صُرُوفَ الدّهْرِ أوْ دُولاتِهَايُدِلْنَنا اللّـمّةَ مِنْ لَـمّاتِهَا فَتَسْتَرِيحَ النّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِها فسكن الثانـي من (الزفْرات) وهي اسم وقـيـل إن الـحسرة أشدّ الندامة. فإن قال لنا قائل: فكيف يرون أعمالهم حسرات علـيهم، وإنـما يتندم الـمتندم علـى ترك الـخيرات وفوتها إياه؟ وقد علـمت أن الكفـار لـم يكن لهم من الأعمال ما يتندمون علـى تركهم الازدياد منه، فـيريهم اللّه قلـيـلَه، بل كانت أعمالهم كلها معاصي للّه، ولا حسرة علـيهم فـي ذلك، وإنـما الـحسرة فـيـما لـم يعملوا من طاعة اللّه ؟ قـيـل: إن أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك مختلفون، فنذكر فـي ذلك ما قالوا، ثم نـخبر بـالذي هو أولـى بتأويـله إن شاء اللّه . فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم اللّه أعمالهم التـي فرضها علـيهم فـي الدنـيا فضيعوها ولـم يعملوا بها حتـى استوجب ما كان اللّه أعدّ لهم لو كانوا عملوا بها فـي حياتهم من الـمساكن والنعم غيرُهم بطاعته ربّه فصار ما فـاتهم من الثواب الذي كان اللّه أعدّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه فـي الدنـيا إذْ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك أسى وندامة وحسرة علـيهم. ذكر من قال ذلك: ١٩٢٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كَذَلِكَ يُريهِمُ اللّه أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ زعم أنه يرفع لهم الـجنة فـينظرون إلـيها وإلـى بـيوتهم فـيها لو أنهم أطاعوا اللّه ، فـيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتـم اللّه ثم تقسم بـين الـمؤمنـين، فـيرثونهم، فذلك حين يندمون. ١٩٢١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان عن سلـمة بن كهيـل، قال: حدثنا أبو الزعراء، عن عبد اللّه فـي قصة ذكرها فقال: فلـيس نفس إلا وهي تنظر إلـى بـيت فـي الـجنة وبـيت فـي النار، وهو يوم الـحسرة قال: فـيرى أهل النار الذين فـي الـجنة، فـيقال لهم: لو عملتـم فتأخذهم الـحسرة قال: فـيرى أهل الـجنة البـيت الذي فـي النار، فـيقال: لولا أن منّ اللّه علـيكم فإن قال قائل: وكيف يكون مضافـا إلـيهم من العمل ما لـم يعملوه علـى هذا التأويـل؟ قـيـل: كما يعرض علـى الرجل العمل فـيقال له قبل أن يعمله: هذا عملك، يعنـي هذا الذي يجب علـيك أن تعمله، كما يقال للرجل يحضر غداؤه قبل أن يتغدى به: هذا غداؤك الـيوم، يعنـي به: هذا ما تتغدى به الـيوم، فكذلك قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ يعنـي: كذلك يريهم اللّه أعمالهم التـي كان لازما لهم العمل بها فـي الدنـيا حسرات علـيهم. وقال آخرون: كذلك يريهم اللّه أعمالهم السيئة حسرات علـيهم: لـم عملوها، وهلا عملوا بغيرها مـما يرضى اللّه تعالـى ذكر من قال ذلك: ١٩٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: كَذَلِكَ يُريهِمُ اللّه أعمْالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ فصارت أعمالهم الـخبـيثة حسرة علـيهم يوم القـيامة. ١٩٢٣ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ قال: أو لـيس أعمالهم الـخبـيثة التـي أدخـلهم اللّه بها النار حسرات علـيهم؟ قال: وجعل أعمال أهل الـجنة لهم، وقرأ قول اللّه : بـمَا أسْلَفْتُـمْ فِـي الأيّامِ الـخالِـيَة. قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: معنى قوله: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّه أعْمالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَـيْهِمْ كذلك يرى اللّه الكافرين أعمالهم الـخبـيثة حسرات علـيهم لـم عملوا بها، وهلا عملوا بغيرها فندموا علـى ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة إذْ رأوا جزاءها من اللّه وعقابها؟ لأن اللّه أخبر أنه يريهم أعمالهم ندما علـيهم. فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما دل علـيه الظاهر دون ما احتـمله البـاطن الذي لا دلالة علـى أنه الـمعنـيّ بها. والذي قال السدي فـي ذلك وإن كان مذهبـا تـحتـمله الآية، فإنه منزع بعيد، ولا أثر بأن ذلك كما ذكر تقوم به حجة فـيسلـم لها، ولا دلالة فـي ظاهر الآية أنه الـمراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك لـم يُحَلْ ظاهر التنزيـل إلـى بـاطن تأويـل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصفتهم من الكفـار وإن ندموا بعد معاينتهم ما عاينوا من عذاب اللّه ، فـاشتدّت ندامتهم علـى ما سلف منهم من أعمالهم الـخبـيثة، وتـمنوا إلـى الدنـيا كرّةً لـينـيبوا فـيها، ويتبرّءوا من مضلـيهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم فـي معصية اللّه فـيها بخارجين من النار التـي أصلاهموها اللّه بكفرهم به فـي الدنـيا، ولا ندمهم فـيها بـمنـجيهم من عذاب اللّه حينئذ، ولكنهم فـيها مخـلدون. وفـي هذه الآية الدلالة علـى تكذيب اللّه الزاعمين أن عذاب اللّه أهل النار من أهل الكفر منقض، وأنه إلـى نهاية، ثم هو بعد ذلك فـانٍ لأن اللّه تعالـى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم فـي هذه الآية، ثم ختـم الـخبر عنهم أنهم غير خارجين من النار بغير استثناء منه وقتا دون وقت، فذلك إلـى غير حدّ ولا نهاية. ١٦٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي الأرْضِ حَلاَلاً طَيّباً ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: يا أيها الناس كلوا مـما أحللت لكم من الأطعمة علـى لسان رسولـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فطيبته لكم مـما تـحرّمونه علـى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل، وما أشبه ذلك مـما لـم أحرّمه علـيكم، دون ما حرّمته علـيكم من الـمطاعم والـمآكل فنـجسته من ميتة ودم ولـحم خنزير وما أهلّ به لغيري، ودعوا خطوات الشيطان الذي يوبقكم فـيهلككم ويوردكم موارد العطب ويحرّم علـيكم أموالكم فلا تتبعوها ولا تعملوا بها، إنه يعنـي بقوله إنّهُ إن الشيطان، والهاء فـي قوله: إنّهُ عائدة علـى الشيطان لَكُمْ أيها الناس عَدُوّ مُبِـين يعنـي أنه قد أبـان لكم عداوته بإبـائه عن السجود لأبـيكم وغروره إياه حتـى أخرجه من الـجنة واستزله بـالـخطيئة، وأكل من الشجرة. يقول تعالـى ذكره: فلا تنتصحوه أيها الناس مع إبـانته لكم العداوة، ودعوا ما يأمركم به، والتزموا طاعتـي فـيـما أمرتكم به ونهيتكم عنه مـما أحللته لكم وحرّمته علـيكم، دون ما حرّمتـموه أنتـم علـى أنفسكم وحللتـموه طاعة منكم للشيطان واتبـاعا لأمره. ومعنى قوله حَلالاً طِلْقا، وهو مصدر من قول القائل: قد حلّ لك هذا الشيء، أي صار لك مطلقا، فهو يحلّ لك حلالاً وحِلاّ. من كلام العرب: هو لك حِلّ، أي طِلْقوأما قوله: طَيّبـا فإنه يعنـي به طاهرا غير نـجس ولا مـحرّموأما الـخطوات فإنه جمع خطوة، والـخطوة: بُعْدُ ما بـين قدمي الـماشي، والـخَطْوة بفتـح الـخاء: الفعلة الواحدة، من قول القائل: خطوت خَطْوة واحدة وقد تـجمع الـخُطوة خُطا، والـخَطْوة تـجمع خَطَوات وخِطَاء. والـمعنى فـي النهي عن اتبـاع خطواته، النهي عن طريقه وأثره فـيـما دعا إلـيه مـما هو خلاف طاعة اللّه تعالـى ذكره. واختلف أهل التأويـل فـي معنى الـخطوات، فقال بعضهم: خطوات الشيطان: عمله. ذكر من قال ذلك: ١٩٢٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: خُطُوَاتِ الشّيْطانِ يقول: عمله. وقال بعضهم: خطوات الشيطان: خطاياه. ذكر من قال ذلك: ١٩٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: خطيئته. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: خطاياه. ١٩٢٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: خطاياه. ١٩٢٧ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله: خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: خطايا الشيطان التـي يأمر بها. وقال آخرون: خطوات الشيطان: طاعته. ذكر من قال ذلك: ١٩٢٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا تَتّبعَوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ يقول: طاعته. وقال آخرون: خطوات الشيطان: النذور فـي الـمعاصي. ذكر من قال ذلك: ١٩٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن سلـيـمان، عن أبـي مـجلز فـي قوله: وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ قال: هي النذور فـي الـمعاصي. وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه فـي تأويـل قوله خطوات الشيطان قريب معنى بعضها من بعض لأن كل قائل منهم قولاً فـي ذلك فإنه أشار إلـى نهي اتبـاع الشيطان فـي آثاره وأعماله. غير أن حقـيقة تأويـل الكلـمة هو ما بـينت من أنها بعد ما بـين قدميه ثم تستعمل فـي جميع آثاره وطرقه علـى ما قد بـينت. ١٦٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوَءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّـمَا يَأمُرُكُمْ الشيطان بـالسّوء والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا علـى اللّه ما لا تَعْلَـمُونَ والسوء: الإثم مثل الضرّ من قول القائل: ساءك هذا الأمر يسوءك سُوءا وهو ما يسوء الفـاعلوأما الفحشاء فهي مصدر مثل السرّاء والضرّاء، وهي كل ما استفحش ذكره وقبح مسموعه. وقـيـل إن السوء الذي ذكره اللّه هو معاصي اللّه فإن كان ذلك كذلك، فإنـما سماها اللّه سوءا لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند اللّه . وقـيـل إن الفحشاء: الزنا فإن كان ذلك كذلك، فإنـما يسمى لقبح مسموعه، ومكروه ما يذكر به فـاعله. ذكر من قال ذلك: ١٩٣٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنّـمَا يَأمُرُكُمْ بـالسّوءِ وَالفَحْشاءِ أما السوء فـالـمعصية، وأما الفحشاء فـالزنا. وأما قوله: وأنْ تَقُولُوا علـى اللّه ما لا تَعْلَـمُونَ فهو ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب والوصائل والـحوامي، ويزعمون أن اللّه حرم ذلك، فقال تعالـى ذكره لهم: ما جَعَلَ اللّه مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيـلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْترُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وأخبرهم تعالـى ذكره فـي هذه الآية أن قـيـلهم إن اللّه حرم هذا من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحله لهم وطيبه، ولـم يحرّم أكله علـيهم، ولكنهم يقولون علـى اللّه ما لا يعلـمون حقـيقته طاعة منهم للشيطان، واتبـاعا منهم خطواته، واقتفـاءً منهم آثار أسلافهم الضلاّل وآبـائهم الـجهال، الذين كانوا بـاللّه وبـما أنزل علـى رسوله جهالاً، وعن الـحق ومنهاجه ضلالاً وإسرافـا منهم، كما أنزل اللّه فـي كتابه علـى رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فقال تعالـى ذكره: وَإذَا قـيـلَ لَهُمُ اتّبعُوا ما أنْزلَ اللّه قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْـيَنْا عَلَـيْهِ آبـاءَنا أوْ لَوْ كانَ آبـاؤهمْ لا يَعْقلُونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدُون. ١٧٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّه قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } وفـي هذه الآية وجهان من التأويـل: أحدهما أن تكون الهاء والـميـم من قوله: وَإذَا قـيـلَ لَهمْ عائدة علـى (مِن) فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخذ مِنْ دَونِ اللّه أنْدَادا فـيكون معنى الكلام: ومن الناس مَن يتـخذ من دون اللّه أندادا، وإذا قـيـل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتبع ما ألفـينا علـيه آبـاءنا. والاَخر أن تكون الهاء والـميـم اللتان فـي قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ من ذكر (الناس) الذين فـي قوله: يا أيّها النّاسُ كلُوا مِـمَا فـي الأرْضِ حَلالاً طَيّبـا فـيكون ذلك انصرافـا من الـخطاب إلـى الـخبر عن الغائب كما فـي قوله تعالـى ذكره: حّتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ. وأشبه عندي وأولـى بـالآية أن تكون الهاء والـميـم فـي قوله لهم من ذكر (الناس)، وأن يكون ذلك رجوعا من الـخطاب إلـى الـخبر عن الغائب، لأن ذلك عقـيب قوله: يا أيّها النّاسُ كُلُوا مِـمّا فِـي الأرْضِ فلأن يكون خبرا عنهم أولـى من أن يكون خبرا عن الذين أخبر أن منهم من يتـخذ من دون اللّه أندادا مع ما بـينهما من الاَيات وانقطاع قصصهم بقصة مستأنفة غيرها، وأنها نزلت فـي قوم من الـيهود قالوا ذلك إذْ دعوا إلـى الإسلام. كما: ١٩٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـيهود من أهل الكتاب إلـى الإسلام ورغبهم فـيه، وحذّرهم عقاب اللّه ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما ألفـينا علـيه آبـاءنا فإنهم كانوا أعلـم وخيرا منا فأنزل اللّه من قولهما: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمُ اتّبِعَوا ما أنْزَلَ اللّه قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْـيَنْا عَلَـيه آبـاءَنا أوْلَوْ كانَ آبـاؤُهُمْ لا يَعْقِلونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدون. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة عن ابن عبـاس ، مثله، إلا أنه قال: فقال له أبو رافع بن خارجة ومالك بن عوف. وأما تأويـل قوله: اتّبِعُوا ما أنْزَلَ اللّه فإنه: اعملوا بـما أنزل اللّه فـي كتابه علـى رسوله، فأحلوا حلاله وحرّموا حرامه، واجعلوه لكم إماما تأتـمّون به، وقائدا تتبعون أحكامهوقوله: ألفْـيَنْا عَلَـيْه آبـاءَنا يعنـي وجدنا، كما قال الشاعر: فألْفَـيْتُهُ غيرَ مُسْتَعْتِبٍوَلا ذَاكرِ اللّه إلاّ قَلِـيلا يعنـي وجدته. وكما: ١٩٣٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألْفَـيْنا عَلَـيْهِ آبـاءَنا أي ما وجدنا علـيه آبـاءنا. ١٩٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. فمعنى الآية: وإذا قـيـل لهؤلاء الكفـار كلوا مـما أحل اللّه لكم ودعوا خطوات الشيطان وطريقه واعملوا بـما أنزل اللّه علـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابه، استكبروا عن الإذعان للـحق، و قالوا: بل نأتـم بآبـائنا فنتبع ما وجدناهم علـيه من تـحلـيـل ما كانوا يحلون وتـحريـم ما كانوا يحرّمون قال اللّه تعالـى ذكره: أوَلَوْ كانَ آبـاؤهُمْ يعنـي آبـاء هؤلاء الكفـار الذين مضوا علـى كفرهم بـاللّه العظيـم لا يعقلون شيئا من دين اللّه وفرائضه وأمره ونهيه، فـيُتّبعون علـى ما سلكوا من الطريق ويؤتـم بهم فـي أفعالهم ولا يهتدون لرشد فـيهتدي بهم غيرهم، ويقتدي بهم من طلب الدين، وأراد الـحق والصواب؟ يقول تعالـى ذكره لهؤلاء الكفـار: فكيف أيها الناس تتبعون ما وجدتـم علـيه آبـاءكم فتتركون ما يأمركم به ربكم وآبـاؤكم لا يعقلون من أمر اللّه شيئا ولا هم مصيبون حقا ولا مدركون رشدا؟ وإنـما يتبع الـمتبع ذا الـمعرفة بـالشيء الـمستعمل له فـي نفسه، فأما الـجاهل فلا يتبعه فـيـما هو به جاهل إلا من لا عقل له ولا تـميـيز. ١٧١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ ...} اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر فـي قلة فهمه عن اللّه ما يتلـى علـيه فـي كتابه وسوء قبوله لـما يدعى إلـيه من توحيد اللّه ويوعظ به، مثل البهيـمة التـي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقل ما يقال لها. ذكر من قال ذلك: ١٩٣٤ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة فـي قوله: وَمَثَلُ الّذين كَفَروا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِق بِـمَا لا يَسْمَع إلاّ دُعاءً ونِدَاءً قال: مثل البعير أو مثل الـحمار تدعوه فـيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول. ١٩٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن زريع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتـي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ قال: هو كمثل الشاة ونـحو ذلك. ١٩٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَل الّذِي يَنْعِقُ بـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَندَاءً كمثل البعير والـحمار والشاة إن قلت لبعضها كل لا يعلـم ما تقول غير أنه يسمع صوتك، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لـم يعقل ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. ١٩٣٧ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عبـاس : مثل الدابة تنادي فتسمع ولا تعقل ما يقال لها، كذلك الكافر يسمع الصوت ولا يعقل. ١٩٣٨ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد: كَمَثَلِ الّذِي يُنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمعَ قال: مثل الكافر مثل البهيـمة تسمع الصوت ولا تعقل. ١٩٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: كمثَلِ الّذي ينعُق مثل ضربه اللّه للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل، كمثل البهيـمة تسمع النعيق ولا تعقل. ١٩٤٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاء يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عنـي به. ١٩٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: كمَثَلَ الّذي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاءً قال: هو مثل ضربه اللّه للكافر، يقول: مثل هذا الكافر مثل هذه البهيـمة التـي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها، فكذلك الكافر لا ينتفع بـما يقال له. ١٩٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: هو مثل الكافر يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له. ١٩٤٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: سألت عطاء، ثم قلت له: يقال لا تعقل، يعنـي البهيـمة، إلا أنها تسمع دعاء الداعي حين ينعق بها، فهم كذلك لا يعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك قال: وقال مـجاهد: (الذي ينعق) الراعي (بـما لا يسمع) من البهائم. ١٩٤٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: كمثل الذي ينعق الراعي بـما لا يسمع من البهائم. ١٩٤٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كَمَثلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِدَاءً لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعى فتأتـي أو ينادَى بها فتذهب، وأما الذي ينعق فهو الراعي الغنـم كما ينعق الراعي بـما لا يسمع ما يقال له، إلا أن يدعى أو ينادى، فكذلك مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام يقول اللّه : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ. ومعنى قائلـي هذا القول فـي تأويـلهم ما تأوْلوا علـى ما حكيت عنهم: ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل نعق الناعق بغنـمه ونعيقه بها. فأضيف الـمثل إلـى الذين كفروا، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام علـى ذلك، كما يقال: إذا لقـيت فلانا فعظمه تعظيـم السلطان، يراد به كما تعظم السلطان، وكما قال الشاعر: فَلَسْتُ مُسَلّـما ما دُمْتُ حَيّاعَلـى زَيْدٍ بِتَسْلِـيـمِ الأمِير يراد به: كما يسلـم علـى الأمير. وقد يحتـمل أن يكون الـمعنى علـى هذا التأويـل الذي تأوله هؤلاء: ومثل الذين كفروا فـي قلة فهمهم عن اللّه وعن رسوله كمثل الـمنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت، وذلك أنه لو قـيـل له: اعتلف أو رد الـماء لـم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله فكذلك الكافر، مثله فـي قلة فهمه لـما يؤمر به وينهى عنه بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فـيه، مثل هذا الـمنعوق به فـيـما أمر به ونهي عنه. فـيكون الـمعنى للـمنعوق به والكلام خارج علـى الناعق، كما قال نابغة بنـي ذبـيان: وَقَدْ خِفْتُ حتّـى ما تَزِيدُ مَخافَتِـيعلـى وَعِلٍ فـي ذِي الَـمطارَةِ عاقِلِ والـمعنى: حتـى ما تزيد مخافة الوعل علـى مخافتـي، وكما قال الاَخر: كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كمَاكانَ الزّناءُ فَريضَةَ الّرجْمِ والـمعنى: كما كان الرجم فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم لوضوح معنى الكلام عند سامعه. وكما قال الاَخر: إنّ سِرَاجا لَكَريـمٌ مَفْخَرُهْتَـحْلَـى به العَيْنُ إذا ما تَـجْهَرُهْ والـمعنى: يحلـى بـالعين فجعله تـحلـى به العين. ونظائر ذلك من كلام العرب أكثر من أن يحصى مـما توجهه العرب من خبر ما تـخبر عنه إلـى ما صاحبه لظهور معنى ذلك عند سامعه، فتقول: اعرض الـحوض علـى الناقة، وإنـما تعرض الناقة علـى الـحوض، وما أشبه ذلك من كلامها. وقال آخرون: معنى ذلك: ومثل الذين كفروا فـي دعائهم آلهتهم وأوثانهم التـي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الذي ينعق بـما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وذلك الصدى الذي يسمع صوته، ولا يفهم به عنه الناعق شيئا. فتأويـل الكلام علـى قول قائل ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم فـي دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بـما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء، أي لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه. ذكر من قال ذلك: ١٩٤٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِـمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً وَنِدَاءً قال: الرجل الذي يصيح فـي جوف الـجبـال فـيجيبه فـيها صوت يراجعه يقال له الصدى، فمثل آلهة هؤلاء لهم كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت لا ينفعه لا يسمع إلا دعاء ونداء قال: والعرب تسمي ذلك الصّدى. وقد تـحتـمل الآية علـى هذا التأويـل وجها آخر غير ذلك، وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا فـي دعائهم آلهتهم التـي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنـم له من حيث لا تسمع صوته غنـمه فلا تنتفع من نعقه بشيء غير أنه فـي عناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر فـي دعائه آلهته إنـما هو فـي عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء. وأولـى التأويـل عندي بـالآية التأويـل الأول الذي قاله ابن عبـاس ومن وافقه علـيه، وهو أن معنى الآية: ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنـمه ونعيقه، فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه علـى ما قد بـينا قبل. فأما وجه جواز حذف (وعظ) اكتفـاء بـالـمثل منه فقد أتـينا علـى البـيان عنه فـي قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وفـي غيره من نظائره من الاَيات بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. وإنـما اخترنا هذا التأويـل، لأن هذه الآية نزلت فـي الـيهود، وإياهم عنى اللّه تعالـى ذكره بها، ولـم تكن الـيهود أهل أوثان يعبدونها ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها. ولا وجه إذ كان ذلك كذلك لتأويـل من تأول ذلك أنه بـمعنى: مثل الذين كفروا فـي ندائهم الاَلهة ودعائهم إياها. فإن قال قائل: وما دلـيـلك علـى أن الـمقصود بهذه الآية الـيهود؟ قـيـل: دلـيـلنا علـى ذلك ما قبلها من الاَيات وما بعدها، فإنهم هم الـمعنـيون به، فكان ما بـينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولـى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتـى تأتـي الأدلة واضحة بـانصراف الـخبر عنهم إلـى غيرهم. هذا مع ما ذكرنا من الأخبـار عمن ذكرنا عنه أنها فـيهم نزلت، والرواية التـي روينا عن ابن عبـاس أن الآية التـي قبل هذه الآية نزلت فـيهم. وبـما قلنا من أن هذه الآية معنـيّ بها الـيهود كان عطاء يقول. ١٩٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء فـي هذه الآية: هم الـيهود الذين أنزل اللّه فـيهم: إنّ الّذينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرونَ بِه ثَمَنا قَلِـيلاً إلـى قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار. وأما قوله يَنْعِقُ فإنه يصوّت بـالغنـم النعيق والنعاق، ومنه قول الأخطل: فـانْعِقْ بِضأنِكَ يا جَرِيرُ فإنّـمَامَنّتْكَ نَفْسُكَ فِـي الـخَلاءِ ضَلالاَ يعنـي: صوّتْ به. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ هؤلاء الكفـار الذين مثلهم كمثل الذي ينعق بـما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صمّ عن الـحقّ فهم لا يسمعون، بكم يعنـي خرس عن قـيـل الـحق والصواب والإقرار بـما أمرهم اللّه أن يقرّوا به وتبـيـين ما أمرهم اللّه تعالـى ذكره أن يبـينوه من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم للناس، فلا ينطقون به ولا يقولونه ولا يبـينونه للناس، عميٌ عن الهدى وطريق الـحق فلا يبصرونه. كما: ١٩٤٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة قوله: صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول: صم عن الـحق فلا يسمعونه ولا ينتفعون به ولا يعقلونه، عمي عن الـحق والهدى فلا يبصرونه، بكم عن الـحق فلا ينطقون به. ١٩٤٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: صُمٌ بُكم عُمْيٌ يقول عن الـحق. ١٩٥٠ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأما الرفع فـي قوله: صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فإنه أتاه من قبل الابتداء والاستئناف، يدل علـى ذلك قوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُون كما يقال فـي الكلام: هو أصمّ لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلـم. ١٧٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّه إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا للّه بـالعبودية، وأذعنوا له بـالطاعة. كما: ١٩٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا يقول: صدّقوا. كُلُوا مِنْ طَيّبـات ما رَزَقْناكُمْ يعنـي: أطْعَموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم، فطاب لكم بتـحلـيـلـي إياه لكم مـما كنتـم تـحرّمون أنتـم ولـم أكن حرّمته علـيكم من الـمطاعم والـمشارب. وَاشْكُرُوا للّه يقول: وأثنوا علـى اللّه بـما هو أهله منكم علـى النعم التـي رزقكم وطيبها لكم، إنْ كُنْتُـمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ يقول: إن كنتـم منقادين لأمره سامعين مطيعين، فكلوا مـما أبـاح لكم أكله وحللّه وطيبه لكم، ودعوا فـي تـحريـمه خطوات الشيطان. وقد ذكرنا بعض ما كانوا فـي جاهلـيتهم يحرّمونه من الـمطاعم، وهو الذي ندبهم إلـى أكله ونهاهم عن اعتقاد تـحريـمه، إذ كان تـحريـمهم إياه فـي الـجاهلـية طاعة منهم للشيطان واتبـاعا لأهل الكفر منهم بـاللّه من الاَبـاء والأسلاف. ثم بـين لهم تعالـى ذكره ما حرّم علـيهم، وفصل لهم مفسرا. ١٧٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: لا تـحرّموا علـى أنفسكم ما لـم أحرّمه علـيكم أيها الـمؤمنون بـاللّه وبرسوله من البحائر والسوائب ونـحو ذلك، بل كلوا ذلك فإنـي لـم أحرّم علـيكم غير الـميتة والدم ولـحم الـخنزير وما أهلّ به لغيري. ومعنى قوله: إنـمَا حَرّمَ عَلَـيْكُمُ الَـميْتَةَ: ما حرم علـيكم إلا الـميتة: (وإنـما): حرف واحد، ولذلك نصبت الـميتة والدم، وغير جائز فـي الـميتة إذا جعلت (إنـما) حرفـا واحدا إلا النصب، ولو كانت (إنـما) حرفـين وكانت منفصلة من (إنّ) لكانت الـميتة مرفوعة وما بعدها، وكان تأويـل الكلام حينئذٍ: إن الذي حرّم اللّه علـيكم من الـمطاعم الـميتةُ والدم ولـحم الـخنزير لا غير ذلك. وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل. ولست للقراءة به مستـجيزا، وإن كان له فـي التأويـل والعربـية وجه مفهوم، لاتفـاق الـحجة من القراء علـى خلافه، فغير جائز لأحد الاعتراض علـيهم فـيـما نقلوه مـجمعين علـيه، ولو قرىء فـي (حرّم) بضم الـحاء من (حرم) لكان فـي الـميتة وجهان من الرفع: أحدهما من أن الفـاعل غير مسمى، و(إنـما) حرف واحد. والاَخر (إن) و(ما) فـي معنى حرفـين، و(حرم) من صلة (ما)، والـميتة خبر (الذي) مرفوع علـى الـخبر، ولست وإن كان لذلك أيضا وجه مستـجيزا للقراءة به لـما ذكرت. وأما الـميتة فإن القراء مختلفة فـي قراءتها، فقرأها بعضهم بـالتـخفـيف ومعناه فـيها التشديد، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون: هو هيْن لّـين الهيْن اللـيْن، كما قال الشاعر: لـيسَ مَنْ ماتَ فـاسْترَاحَ بـمَيْتٍإنّـمَا الـمَيْتُ مَيّتُ الأحْياء فجمع بـين اللغتـين فـي بـيت واحد فـي معنى واحد. وقرأها بعضهم بـالتشديد وحملوها علـى الأصل، و قالوا: إنـما هو (مَيْوت)، فـيعل من الـموت، ولكن الـياء الساكنة والواو الـمتـحركة لـما اجتـمعتا والـياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة، كما فعلوا ذلك فـي سيد وجيد. قالوا: ومن خففها فإنـما طلب الـخفة. والقراءة بها علـى أصلها الذي هو أصلها أولـى. والصواب من القول فـي ذلك عندي أن التـخفـيف والتشديد فـي ياء الـميتة لغتان معروفتان فـي القراءة وفـي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف فـي معنـيـيهما. وأما قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه فإنه يعنـي به: وما ذبح للاَلهة والأوثان يسمى علـيه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام. وإنـما قـيـل: وَما أُهِلّ بِهِ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لاَلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التـي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم، فجرى ذلك من أمرهم علـى ذلك حتـى قـيـل لكل ذابح يسمي أو لـم يسم جهر بـالتسمية أو لـم يجهر: (مهلٌ)، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره اللّه تعالـى فقال: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه ومن ذلك قـيـل للـملبـي فـي حجة أو عمرة مهلّ، لرفعه صوته بـالتلبـية ومنه استهلال الصبـيّ: إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه، واستهلال الـمطر: وهو صوت وقوعه علـى الأرض، كما قال عمرو بن قميئة: ظَلَـم البِطاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍفَصَفـا النّطافُ لهُ بُعَيْدَ الـمُقْلَعِ واختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: يعنـي بقوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه ما ذبح لغير اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٩٥٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال: ما ذبح لغير اللّه . ١٩٥٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال: ما ذبح لغير اللّه مـما لـم يسمّ علـيه. ١٩٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن نـجيح، عن مـجاهد: وَما أُهِلّ بِه لِغَيْرِ اللّه ما ذبح لغير اللّه . ١٩٥٥ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس فـي قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال: ما أهل به للطواغيت. ١٩٥٦ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال: ما أهل به للطواغيت. ١٩٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه يعنـي ما أهلّ للطواغيت كلها، يعنـي ما ذبح لغير اللّه من أهل الكفر غير الـيهود والنصارى. ١٩٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء فـي قول اللّه : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال: هو ما ذبح لغير اللّه . وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر علـيه غير اسم اللّه . ذكر من قال ذلك: ١٩٥٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه يقول: ما ذكر علـيه غير اسم اللّه . ١٩٦٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وسألته عن قول اللّه : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه قال: ما يذبح لاَلهتهم الأنصاب التـي يعبدونها، أو يسمون أسماءها علـيها قال: يقولون بـاسم فلان، كما تقول أنت بـاسم اللّه قال: فذلك قوله: وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه . ١٩٦١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلـم التـجيبـي، وقـيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا: أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لـحم، فإنـما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة: قلت: أرأيت قول اللّه : وَما أُهِلّ بِهِ لِغْيِر اللّه ؟ قال: إنـما ذلك الـمـجوس وأهل الأوثان والـمشركون. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَـيْهِ. يعنـي تعالـى ذكره: فَمَنِ اضْطُرّ فمن حلت به ضرورة مـجاعة إلـى ما حرّمت علـيكم من الـميتة والدم ولـحم الـخنزير وما أهل به لغير اللّه ، وهو بـالصفة التـي وصفنا، فلا إثم علـيه فـي أكله إن أكلهوقوله: فَمَنِ اضْطرّ افتعل من الضرورة، (وغير بـاغ) نصب علـى الـحال من (مَن)، فكأنه قـيـل: فمن اضطرّ لا بـاغيا ولا عاديا فأكله، فهو له حلال. وقد قـيـل: إن معنى قوله: فَمَنِ اضْطُرّ فمن أكره علـى أكله فأكله، فلا إثم علـيه. ذكر من قال ذلك: ١٩٦٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم الأفطس، عن مـجاهد قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: الرجل يأخذه العدوّ فـيدعونه إلـى معصية اللّه . وأما قوله: غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ فإن أهل التأويـل فـي تأويـله مختلفون، فقال بعضهم: يعنـي بقوله: غَيْرَ بـاغٍ غير خارج علـى الأئمة بسيفه بـاغيا علـيهم بغير جور، ولا عاديا علـيهم بحرب وعدوان فمفسد علـيهم السبـيـل. ذكر من قال ذلك: ١٩٦٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير قاطع سبـيـل، ولا مفـارق جماعة، ولا خارج فـي معصية اللّه ، فله الرخصة. ١٩٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عاد يقول: لا قاطعا للسبـيـل، ولا مفـارقا للأئمة، ولا خارجا فـي معصية اللّه ، فله الرخصة. ومن خرج بـاغيا أو عاديا فـي معصية اللّه ، فلا رخصة له وإن اضطرّ إلـيه. ١٩٦٥ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد: غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: هو الذي يقطع الطريق، فلـيس له رخصة إذا جاع أن يأكل الـميتة وإذا عطش أن يشرب الـخمر. ١٩٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شريك، عن سالـم: يعنـي الأفطس، عن سعيد فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال البـاغي العادي: الذي يقطع الطريق فلا رخصة له ولا كرامة. ١٩٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: إذا خرج فـي سبـيـل من سبل اللّه فـاضطرّ إلـى شرب الـخمر شرب، وإن اضطرّ إلـى الـميتة أكل، وإذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له. ١٩٦٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حفص بن غياث، عن الـحجاج، عن القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد، قال: غَيْرَ بـاغٍ علـى الأئمة وَلا عادٍ قال: قاطع السبـيـل. ١٩٦٩ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير قاطع السبـيـل، ولا مفـارق الأئمة، ولا خارج فـي معصية اللّه فله الرخصة. ١٩٧٠ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الـحكم، عن مـجاهد: فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير بـاغ علـى الأئمة، ولا عاد علـى ابن السبـيـل. وقال آخرون فـي تأويـل قوله غَيْرَ بـاغٍ وَلا عاد: غير بـاغ الـحرام فـي أكله، ولا معتد الذي أبـيح له منه. ذكر من قال ذلك. ١٩٧١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: غير بـاغ فـي أكله، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلـى حرام وهو يجد عنه مندوحة. ١٩٧٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادً قال: غير بـاغ فـيها ولا معتد فـيها بأكلها وهو غنـيّ عنها. ١٩٧٣ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الـحسن يقول ذلك. ١٩٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو نـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن مـجاهد وعكرمة قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ غير بـاغ يبتغيه، ولا عاد يتعدى علـى ما يـمسك نفسه. ١٩٧٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ يقول: من غير أن يبتغي حراما ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العادُون. ١٩٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ قال: أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الـحلال إلـى الـحرام، ويترك الـحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الـحرام هذا التعدي، ينكر أن يكونا مختلفـين، ويقول هذا وهذا واحد. وقال آخرون: تأويـل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بـاغٍ فـي أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه. ذكر من قال ذلك: ١٩٧٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ بـاغٍ وَلا عادٍ أما بـاغ فـينبغي فـيه شهوته، وأما العادي: فـيتعدى فـي أكله، يأكل حتـى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يـمسك به نفسه حتـى يبلغ به حاجته. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ بـاغٍ بأكله ما حرم علـيه من أكله وَلا عاد فـي أكله، وله عن ترك أكله بوجود غيره مـما أحله اللّه له مندوحة وغنى، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره لـم يرخص لأحد فـي قتل نفسه بحال، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الـخارج علـى الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتـيا ما حرّم اللّه علـيهما من خروج هذا علـى من خرج علـيه وسعي هذا بـالإفساد فـي الأرض، فغير مبـيح لهما فعلهما ما فعلا مـما حرّم اللّه علـيهما ما كان حرّم اللّه علـيهما قبل إتـيانهما ما أتـيا من ذلك من قتل أنفسهما، بل ذلك من فعلهما وإن لـم يؤدهما إلـى مـحارم اللّه علـيهما تـحريـما فغير مرخص لهما ما كان علـيهما قبل ذلك حراما، فإن كان ذلك كذلك، فـالواجب علـى قطاع الطريق والبغاة علـى الأئمة العادلة، الأوبةُ إلـى طاعة اللّه ، والرجوع إلـى ما ألزمهما اللّه الرجوع إلـيه، والتوبة من معاصي اللّه لا قتل أنفسهما بـالـمـجاعة، فـيزدادان إلـى إثمهما إثما، وإلـى خلافهما أمر اللّه خلافـا. وأما الذي وجه تأويـل ذلك إلـى أنه غير بـاغ فـي أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة الـمخوف منها الهلاك مـما قد دخـل فـيـما حرّمه اللّه علـيه، فهو بـمعنى ما قلنا فـي تأويـله، وإن كان للفظه مخالفـا. فأما توجيه تأويـل قوله: وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يـمسك به نفسه فإن ذلك بعض معانـي الاعتداء فـي أكله، ولـم يخصص اللّه من معانـي الاعتداء فـي أكله معنى فـيقال عنى به بعض معانـيه. فإذا كان ذلك كذلك، فـالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء فـي كل معانـيه الـمـحرّمة. وأما تأويـل قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ يقول: من أكل ذلك علـى الصفة التـي وصفنا فلا تبعة علـيه فـي أكله ذلك كذلك ولا حرج. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ. يعنـي بقوله تعالـى ذكره: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ إن اللّه غفور إن أطعتـم اللّه فـي إسلامكم فـاجتنبتـم أكل ما حرّم علـيكم وتركتـم اتبـاع الشيطان فـيـما كنتـم تـحرّمونه فـي جاهلـيتكم، طاعة منكم للشيطان واقتفـاء منكم خطواته، مـما لـم أحرّمه علـيكم لـما سلف منكم فـي كفركم وقبل إسلامكم فـي ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافح عنكم، وتارك عقوبتكم علـيه، رحيـم بكم إن أطعتـموه. ١٧٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّه مِنَ الْكِتَابِ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُون مَا أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ أحبـار الـيهود الذين كتـموا الناس أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة بِرُشا كانوا أعطوها علـى ذلك. كما: ١٩٧٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: إنّ الذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ الآية كلها: هم أهل الكتاب كتـموا ما أنزل اللّه علـيهم وبـين لهم من الـحق والهدى من بعث مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمره. ١٩٧٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ وَيَشْتَرونَ بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: هم أهل الكتاب كتـموا ما أنزل اللّه علـيهم من الـحق والإسلام وشأن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٩٨٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الِكتابِ فهؤلاء الـيهود كتـموا اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٩٨١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِن الكِتابِ والتـي فـي آل عمران: إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيـمَانِهِم ثَمَنا قَلِـيلاً نزلتا جميعا فـي يهود. وأما تأويـل قوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً فإنه يعنـي: يبتاعون به. والهاء التـي فـي (به) من ذكر الكتـمان، فمعناه: ابتاعوا بكتـمانهم ما كتـموا الناس من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر نبوّته ثمنا قلـيلاً. وذلك أن الذي كانوا يُعطون علـى تـحريفهم كتاب اللّه وتأويـلهموه علـى غير وجهه وكتـمانهم الـحق فـي ذلك، الـيسيرُ من عرض الدنـيا. كما: ١٩٨٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً قال: كتـموا اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وأخذوا علـيه طمعا قلـيلاً، فهو الثمن القلـيـل. وقد بـينت فـيـما مضى صفة اشترائهم ذلك بـما أغنى عن إعادته ههنا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ ما يأكُلُونَ فِـي بُطونِهِمْ إلاّ النارَ .... يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين يكتـمون ما أنزل اللّه من الكتاب فـي شأن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بـالـخسيس من الرشوة يعُطوْنها، فـيحرّفون لذلك آيات اللّه ويغيرون معانـيها. ما يأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِم بأكلهم ما أكلوا من الرشا علـى ذلك والـجعالة وماأخذوا علـيه من الأجر إلاّ النّارِ، يعنـي إلا ما يوردهم النار ويصلـيهموها، كما قال تعالـى ذكره: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الَـيتامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِم نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا معناه: ما يأكلون فـي بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فـاستغنى بذكر النار وفهم السامعين معنى الكلام عن ذكر ما يوردهم أو يدخـلهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ١٩٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: أُولَئِكَ ما يَأكُلُونَ فِـي بُطونِهِمْ إلاّ النّار يقول: ما أخذوا علـيه من الأجر. فإن قال قائل: فهل يكون الأكل فـي غير البطن فـيقال: ما يأكلون فـي بطونهم؟ قـيـل: قد تقول العرب جعت فـي غير بطنـي، وشبعت فـي غير بطنـي، فقـيـل فـي بطونهم لذلك كما يقال: فعل فلان هذا نفسه. وقد بـينا ذلك فـي غير هذا الـموضع فـيـما مضى. وأما قوله: وَلا يُكَلّـمُهُمُ اللّه يَوْمَ القِـيامَةِ يقول: ولا يكلـمهم بـما يحبون ويشتهون، فأما بـما يسوءهم ويكرهون فإنه سيكلـمهم لأنه قد أخبر تعالـى ذكره أنه يقول لهم إذا قالوا: رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فإنّا ظالِـمُون قال: اخْسَئُوا فِـيها وَلا تُكَلّـمُون الاَيتـين. وأما قوله: وَلا يُزَكّيهِمْ فإنه يعنـي: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم، وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـم يعنـي موجع. ١٧٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلالَةَ بـالهُدَى أولئك الذين أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب اللّه يوم القـيامة وتركوا ما يوجب لهم غفرانه ورضوانه. فـاستغنى بذكر العذاب والـمغفرة من ذكر السبب الذي يوجبهما، لفهم سامعي ذلك لـمعناه والـمراد منه. وقد بـينا نظائر ذلك فـيـما مضى، وكذلك بـينا وجه: اشْتَرَوُا الضّلالَةَ بـالهُدَى بـاختلاف الـمختلفـين والدلالة الشاهدة بـما اخترنا من القول فـيـما مضى قبل فكرهنا إعادته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى الّنار. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فما أجرأهم علـى العمل الذي يقرّبهم إلـى النار. ذكر من قال ذلك: ١٩٨٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار يقول: فما أجرأهم علـى العمل الذي يقرّبهم إلـى النار. ١٩٨٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار يقول: فما أجرأهم علـيها. ١٩٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن بشر، عن الـحسن فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: واللّه ما لهم علـيها من صبر، ولكن ما أجرأهم علـى النار. ١٩٨٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا مسعر. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو بكير، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن مـجاهد أو سعيد بن جبـير أو بعض أصحابه: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ ما أجرأهم. ١٩٨٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ يقول: ما أجرأهم وأصبرهم علـى النار. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار. ذكر من قال ذلك: ١٩٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: ما أعملهم بـالبـاطل. ١٩٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. واختلفوا فـي تأويـل ما التـي فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ فقال بعضهم: هي بـمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبرهم، أيّ شيء صبرهم؟ ذكر من قال ذلك: ١٩٩١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّار هذا علـى وجه الاستفهام، يقول: ما الذي أصبرهم علـى النار. ١٩٩٢ـ حدثنـي عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج الأعور، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال لـي عطاء: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: ما يصبرهم علـى النار حين تركوا الـحق واتبعوا البـاطل. ١٩٩٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: سئل أبو بكر بن عياش: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال: (فما أصبرُهم) رفعا، قال: يقال للرجل: (ما أصبرك)، ما الذي فعل بك هذا؟ ١٩٩٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: هذا استفهام، يقول: ما هذا الذي صبرهم علـى النار حتـى جرأهم فعملوا بهذا؟ وقال آخرون: هو تعجب، يعنـي: فما أشد جراءتهم علـى النار بعملهم أعمال أهل النار ذكر من قال ذلك: ١٩٩٥ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن ابن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ قال: ما أعملهم بأعمال أهل النار. وهو قول الـحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. فمن قال هو تعجب، وجه تأويـل الكلام إلـى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بـالهدى والعذب بـالـمغفرة فما أشدّ جراءتهم بفعلهم ما فعلوا من ذلك علـى ما يوجب لهم النار، كما قال تعالـى ذكره: قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ تعجبـا من كفره بـالذي خـلقه وسوّى خـلقه. فأما الذين وجهوا تأويـله إلـى الاستفهام فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بـالهدى والعذاب بـالـمغفرة فما أصْبَرَهم علـى النار والنار لا صبر علـيها لأحد حتـى استبدلوها بـمغفرة اللّه فـاعتاضوها منها بدلاً؟. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: ما أجرأهم علـى النار، بـمعنى: ما أجرأهم علـى عذاب النار، وأعملهم بأعمال أهلها وذلك أنه مسموع من العرب: ما أصبر فلانا علـى اللّه ، بـمعنى: ما أجرأ فلانا علـى اللّه وإنـما يعجب اللّه خـلقه بإظهار الـخبر عن القوم الذين يكتـمون ما أنزل اللّه تبـارك وتعالـى من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته، واشترائهم بكتـمان ذلك ثمنا قلـيلاً من السحت والرشا التـي أعطوها علـى وجه التعجب من تقدمهم علـى ذلك مع علـمهم بأن ذلك موجب لهم سخط اللّه وألـيـم عقابه. وإنـما معنى ذلك: (فما أجرأهم علـيّ عذاب النار) ولكن اجتزىء بذكر النار من ذكر عذابها كما يقال: ما أشبه سخاءك بحاتـم، بـمعنى: ما أشبه سخاءك بسخاء حاتـم، وما أشبه شجاعتك بعنترة. ١٧٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّه نَزّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أما قوله: ذَلِكَ بأنّ اللّه نَزّلَ الكِتابَ بـالـحَقّ فإنه اختلف فـي الـمعنـيّ ب(ذلك)، فقال بعضهم: معنِـيّ (ذلك) فعلهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم علـى عذاب النار فـي مخالفتهم أمر اللّه وكتـمانهم الناس ما أنزل اللّه فـي كتابه وأمرهم ببـيانه لهم من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر دينه، من أجل أن اللّه تبـارك تعالـى نزل الكتاب بـالـحق، وتنزيـله الكتاب بـالـحق هو خبره عنهم فـي قوله لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: إنّ الّذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَـيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَـمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَـمَ اللّه علـى قُلُوبِهِمْ وَعَلـى سَمْعِهِمْ وَعلـى أبْصَارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيـم فهم مع ما أخبر اللّه عنهم من أنهم لا يؤمنون لا يكون منهم غير اشتراء الضلالة بـالهدى والعذاب بـالـمغفرة. وقال آخرون: معناه ذلك معلوم لهم بأن اللّه نزل الكتاب بـالـحق لأنا قد أخبرنا فـي الكتاب أن ذلك لهم والكتاب حق. كأن قائلـي هذا القول كان تأويـل الآية عندهم ذلك العذاب الذي قال اللّه تعالـى ذكره: فما أصبرهم علـيه، معلوم أنه لهم، لأن اللّه قد أخبر فـي مواضع من تنزيـله أن النار للكافرين، وتنزيـله حق، فـالـخبر عن ذلك عندهم مضمر. وقال آخرون: معنى ذلك أن اللّه وصف أهل النار فقال: فَمَا أصْبَرَهُمْ علـى النّارِ ثم قال: هذا العذاب بكفرهم، و(هذا) ههنا عندهم هي التـي يجوز مكانها (ذلك) كأنه قال: فعلنا ذلك بأن اللّه نزّل الكتاب بـالـحق فكفروا به، قال: فـيكون (ذلك) إذا كان ذلك معناه نصبـا ويكون رفعا بـالبـاء. وأولـى الأقوال بتأويـل الآية عندي: أن اللّه تعالـى ذكره أشار بقوله ذلك إلـى جميع ما حواه قوله: إنّ الّذِينَ يَكْتُـمُونَ ما أنْزَلَ اللّه مِنَ الكِتابِ إلـى قوله: ذَلِكَ بأنّ اللّه نَزّلَ الكِتابَ بـالـحَقّ من خبره عن أفعال أحبـار الـيهود وذكره ما أعدّ لهم تعالـى ذكره من العقاب علـى ذلك، فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبـار من الـيهود بكتـمانهم الناس ما كتـموا من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونبوّته مع علـمهم به طلبـا منهم لعرض من الدنـيا خسيس، وبخلافهم أمري وطاعتـي، وذلك من تركي تطهيرهم وتزكيتهم وتكلـيـمهم، وإعدادي لهم العذاب الألـيـم بأنـي أنزلت كتابـي بـالـحق فكفروا به واختلفوا فـيه. فـيكون فـي (ذلك) حينئذٍ وجهان من الإعراب: رفع ونصب، والرفع بـالبـاء، والنصب بـمعنى: فعلت ذلك بأنـي أنزلت كتابـي بـالـحق فكفروا به واختلفوا فـيه وترك ذكر: (فكفروا به واختلفوا) اجتزاء بدلالة ما ذكر من الكلام علـيه. وأما قوله: وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِـي الكِتابِ لَفِـي شِقاقٍ بَعِيد يعنـي بذلك الـيهود والنصارى، اختلفوا فـي كتاب اللّه فكفرت الـيهود بـما قصّ اللّه فـيه من قصص عيسى ابن مريـم وأمه، وصدقت النصارى ببعض ذلك وكفروا ببعضه، وكفروا جميعا بـما أنزل اللّه فـيه من الأمر بتصديق مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. فقال لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فـيـما أنزلت إلـيك يا مـحمد لفـي منازعة ومفـارقة للـحق بعيدة من الرشد والصواب، كما قال اللّه تعالـى ذكره: فإنْ آمَنُوا بِـمِثْل ما آمَنْتُـمْ بِه فَقَد اهْتَدَوْا وَإنْ تَوَلّوْا فـانّـمَا هُمْ فِـي شِقاق. كما: ١٩٩٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فـي الكِتابِ لَفـي شِقاقِ بَعِيد يقول: هم الـيهود والنصارى. يقول: هم فـي عداوة بعيدة. وقد بـينت معنى الشقاق فـيـما مضى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: لـيس البرّ الصلاة وحدها، ولكن البرّ الـخصال التـي أبـينها لكم. ١٧٧القول في تأويل قوله تعالى: {لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ...} حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ وَالـمَغْرِبِ يعنـي الصلاة. يقول: لـيس البر أن تصلوا ولا تعملوا، فهذا منذ تـحوّل من مكة إلـى الـمدينة، ونزلت الفرائض، وحدّ الـحدود، فأمر اللّه بـالفرائض والعمل بها. ١٩٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لَـيْسَ البرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ والـمغرِبِ ولكنّ البرّ ما ثبت فـي القلوب من طاعة اللّه . ١٩٩٨ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ١٩٩٩ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عبـاس ، قال: هذه الآية نزلت بـالـمدينة: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرق وَالـمَغْرِبِ يعنـي الصلاة، يقول: لـيس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. قال ابن جريج وقال مـجاهد: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وجوهَكم قِبَل الـمشرِق والـمغرِبِ يعنـي السجود ولكنّ البرّ ما ثبت فـي القلب من طاعة اللّه . ٢٠٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو نـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك بن مزاحم أنه قال فـيها، قال يقول: لـيس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تـحوّل من مكة إلـى الـمدينة، فأنزل اللّه الفرائض وحدّ الـحدود بـالـمدينة، وأمر بـالفرائض أن يؤخذ بها. وقال آخرون: عنى اللّه بذلك الـيهود والنصارى، وذلك أن الـيهود تصلـي فتوجّه قبل الـمغرب، والنصارى تصلـي فتوجّه قبل الـمشرق، فأنزل اللّه فـيهم هذه الآية يخبرهم فـيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ولكنه ما بـيناه فـي هذه الآية. ذكر من قال ذلك: ٢٠٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة، قال: كانت الـيهود تصلـي قبل الـمغرب، والنصارى تصلـي قبل الـمشرق، فنزلت: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَل الـمَشْرِق وَالـمَغْرِبِ. ٢٠٠٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ وَالـمَغْرِبِ وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ ذكر لنا أن رجلاً سأل نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البرّ، فأنزل اللّه هذه الآية، وذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا الرجل فتلاها علـيه. وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا اللّه وأن مـحمدا عبده ورسوله ثم مات علـى ذلك يُرْجَى له ويطمع له فـي خير فأنزل اللّه : لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ وَالـمَغْرِبِ وكانت الـيهود توجهت قِبَل الـمغرب، والنصارى قِبَل الـمشرق وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِر الآية. ٢٠٠٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس قال: كانت الـيهود تصلـي قِبَل الـمغرب، والنصارى قِبَل الـمشرق، فنزلت: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ وَالـمَغْرِبِ. وأولـى هذين القولـين بتأويـل الآية القول الذي قاله قتادة والربـيع بن أنس أن يكون عنى بقوله: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ وَالـمَغْرِبِ الـيهود والنصارى، لأن الاَيات قبلها مضت بتوبـيخهم ولومهم والـخبر عنهم وعما أعدّ لهم من ألـيـم العذاب، وهذا فـي سياق ما قبلها، إذ كان الأمر كذلك، لـيس البرّ أيها الـيهود والنصارى أن يولـي بعضكم وجهه قِبَل الـمشرق وبعضكم قِبَل الـمغرب، وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ وَالـمَلائِكَةِ وَالكِتابِ الآية. فإن قال قائل: فكيف قـيـل: وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنِ بـاللّه وقد علـمت أن البرّ فعل، و(مَنْ) اسم، فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟ قـيـل: إن معنى ذلك غير ما توهمته، وإنـما معناه: ولكن البر كمن آمن بـاللّه والـيوم الاَخر، فوضع (مَنْ) موضع الفعل اكتفـاء بدلالته ودلالة صلته التـي هي له صفة من الفعل الـمـحذوف كما تفعله العرب فتضع الأسماء مواضع أفعالها التـي هي بها مشهورة، فتقول: (الـجود حاتـم، والشجاعة عنترة) و(إنـما الـجود حاتـم، والشجاعة عنترة)، ومعناها: الـجود جود حاتـم، فتستغنـي بذكر حاتـم إذ كان معروفـا بـالـجود من إعادة ذكر الـجود بعد الذي قد ذكرته فتضعه موضع جوده لدلالة الكلام علـى ما حذفته استغناء بـما ذكرته عما لـم تذكره، كما قـيـل: واسْألِ الْقَرْيَةَ الّتِـي كُنّا فِـيهَا والـمعنى: أهل القرية، وكما قال الشاعر، وهو ذو الـخِرَق الطهوي: حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِـي عَناقاوَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بـالعنَاقِ يريد بغام عناق أو صوت (عناق) كما يقال: حسبت صياحي أخاك، يعنـي به حسبت صياحي صياح أخيك. وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البـارّ من آمن بـاللّه ، فـيكون البرّ مصدرا وضع موضع الاسم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى والـيتَامَى وَالـمَساكِينَ وَابْنَ السّبِـيـلِ وَالسّائِلِـينَ وَفِـي الرّقابِ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ وأعطى ماله فـي حين مـحبته إياه وضنه به وشحه علـيه. كما: ٢٠٠٤ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا، عن زبـيد، عن مرة بن شراحيـل البكيـلـي، عن عبد اللّه بن مسعود: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ أي يؤتـيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر. ٢٠٠٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قالا جميعا، عن سفـيان، عن زبـيد الـيامي، عن مرة، عن عبد اللّه : وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ قال: وأنت صحيح تأمل العيش وتـخشى الفقر. ٢٠٠٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن زبـيد الـيامي، عن عبد اللّه أنه قال فـي هذه الآية: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ قال: وأنت حريص شحيح تأمل الغنى وتـخشى الفقر. ٢٠٠٧ـ حدثنا أحمد بن نعمة الـمصري، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا اللـيث، قال: حدثنا إبراهيـم بن أعين، عن شعبة بن الـحجاج، عن زبـيد الـيامي، عن مرة الهمدانـي، قال: قال عبد اللّه بن مسعود فـي قول اللّه : وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ ذوي القربى، قال: حريصا شحيحا يأمل الغنى ويخشى الفقر. ٢٠٠٨ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، عن الشعبـي سمعته يسأل: هل علـى الرجل حق فـي ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى والـيَتامَى وَالـمَساكِينَ وَابْنَ السّبِـيـلِ وَالسّائِلِـينَ وفِـي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتـى الزّكاة. ٢٠٠٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبـي، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا أبو حمزة قال: قلت للشعبـي: إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله؟ فقرأ هذه الآية: لَـيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الـمَشْرِقِ وَالـمَغْرِبِ إلـى وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ إلـى آخرها. ثم قال: حدثتنـي فـاطمة بنت قـيس أنها قالت: يا رسول اللّه إن لـي سبعين مثقالاً من ذهب، فقال: (اجْعَلِـيها فِـي قَرابَتِكِ). ٢٠١٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، قال: حدثنا أبو حمزة فـيـما أعلـم عن عامر، عن فـاطمة بنت قـيس أنها سمعته يقول: إن فـي الـمال لـحقّا سوى الزكاة. ٢٠١١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي حيان، قال: حدثنـي مزاحم بن زفر، قال: كنت جالسا عند عطاء، فأتاه أعرابـي فقال له: إن لـي أبلاً فهل علـيّ فـيها حقّ بعد الصدقة؟ قال: نعم قال: ماذا؟ قال: عارية الذلول، وطروق الفحل، والـحلب. ٢٠١٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، ذكره عن مرة الهمدانـي فـي: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ قال: قال عبد اللّه بن مسعود: تعطيه وأنت صحيح شحيح تطيـل الأمل وتـخاف الفقر. وذكر أيضا عن السدي أن هذا شيء واجب فـي الـمال حقّ علـى صاحب الـمال أن يفعله سوى الذي علـيه من الزكاة. ٢٠١٣ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا سويد بن عبد اللّه ، عن أبـي حمزة، عن عامر، عن فـاطمة بن قـيس، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (فِـي الـمَال حَقّ سوَى الزّكاة) وتلا هذه الآية: لَـيْسَ البِرّ إلـى آخر الآية. ٢٠١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن زبـيد الـيامي، عن مرة بن شراحيـل، عن عبد اللّه فـي قوله: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ قال: أن يعطى الرجل وهو صحيح شحيح به يأمل العيش ويخاف الفقر. فتأويـل الآية: وأعطى الـمال وهو له مـحبّ حريص علـى جمعه، شحيح به ذوي قرابته فوصل به أرحامهم. وإنـما قلت: عنى بقوله: ذَوِي القُرْبَى ذوي قرابة مؤدّي الـمال علـى حبه للـخبر الذي ورد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أمره فـاطمة بنت قـيس، وقوله صلى اللّه عليه وسلم حين سئل: أيّ الصدقة أفضل؟ قال: (جُهْدُ الـمُقلّ علـى ذِي القَرَابَةِ الكاشِح). وأما الـيتامى والـمساكين فقد بـينا معانـيهما فـيـما مضىوأما ابن السبـيـل فإنه الـمـجتاز بـالرجل. ثم اختلف أهل العلـم فـي صفته، فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٠١٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وابْنَ السّبِـيـلِ قال: هو الضيف قال: قد ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (مَنْ كانَ يُؤْمِنَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ فَلْـيقُلْ خَيْرا أوْ لِـيَسْكُتْ) قال: وكان يقول: (حَقّ الضّيافَةِ ثَلاثُ لَـيالٍ، فَكُلّ شَيْءٍ أضَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَدقَةٌ). وقال بعضهم: هو الـمسافر يـمرّ علـيك. ذكر من قال ذلك: ٢٠١٦ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن أبـي جعفر: وابْنَ السّبِـيـل قال: الـمـجتاز من أرض إلـى أرض. ٢٠١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وقتادة فـي قوله: وَابْنَ السّبِـيـلِ قال: الذي يـمرّ علـيك وهو مسافر. ٢٠١٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عمن ذكره، عن ابن جريج، عن مـجاهد وقتادة مثله. وإنـما قـيـل للـمسافر ابن السبـيـل لـملازمته الطريق، والطريق هو السبـيـل، فقـيـل لـملازمته إياه فـي سفره ابنه كما يقال لطير الـماء ابن الـماء لـملازمته إياه، وللرجل الذي أتت علـيه الدهور ابن الأيام واللـيالـي والأزمنة، ومنه قول ذي الرمة: وَرَدْتُ اعْتِسافـا والثّرَيّا كأنّهاعلـى قِمّةِ الرأسِ ابْنُ ماءٍ مُـحَلّقُ وأما قوله وَالسّائِلِـينَ فإنه يعنـي به: الـمستطعمين الطالبـين. كما: ٢٠١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن عكرمة فـي قوله: وَالسّائِلـينَ قال: الذي يسألك. وأما قوله: وَفِـي الرّقابِ فإنه يعنـي بذلك: وفـي فكّ الرقاب من العبودة، وهم الـمكاتَبُون الذين يسعون فـي فكّ رقابهم من العبودة بأداء كتابـاتهم التـي فـارقوا علـيها ساداتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأقامَ الصّلاةَ وآتـى الزّكاةَ والـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وأقامَ الصّلاةَ أدام العمل بها بحدودها، وبقوله: وآتـى الزّكاةَ أعطاها علـى ما فرضها اللّه علـيه. فإن قال قائل: وهل من حقّ يجب فـي مال إيتاؤه فرضا غير الزكاة؟ قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: فـيه حقوق تـجب سوى الزكاة واعتلوا لقولهم ذلك بهذه الآية، و قالوا: لـما قال اللّه تبـارك وتعالـى: وآتـى الـمَالَ علـى حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى ومن سمى اللّه معهم، ثم قال بعد: وأقامَ الصّلاةَ وآتـى الزّكاةَ علـمنا أن الـمال الذي وصف الـمؤمنـين به أنهم يؤتونه ذوي القربى، ومن سمى معهم غير الزكاة التـي ذكر أنهم يؤتونها لأن ذلك لو كان مالاً واحدا لـم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلـما كان غير جائز أن يقول تعالـى ذكره قولاً لا معنى له، علـمنا أن حكم الـمال الأول غير الزكاة، وأن الزكاة التـي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد فقد أبـان تأويـل أهل التأويـل صحة ما قلنا فـي ذلك. وقال آخرون: بل الـمال الأول هو الزكاة، ولكن اللّه وصف إيتاء الـمؤمنـين من آتوه ذلك فـي أول الآية، فعرّف عبـاده بوصفه ما وصف من أمرهم الـمواضع التـي يجب علـيهم أن يضعوا فـيها زكواتهم ثم دلهم بقوله بعد ذلك: وآتـى الزّكاة أن الـمال الذي آتاه القوم هو الزكاة الـمفروضة كانت علـيهم، إذ كان أهل سهمانهم الذين أخبر فـي أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم. وأما قوله: وَالـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا فإن يعنـي تعالـى ذكره: والذين لا ينقضون عهد اللّه بعد الـمعاهدة، ولكن يوفون به ويتـمونه علـى ما عاهدوا علـيه من عاهدوه علـيه. كما: ٢٠٢٠ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس فـي قوله: وَالـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا قال: فمن أعطى عهد اللّه ثم نقضه فـاللّه ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ثم غدر بها فـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم خصمه يوم القـيامة. وقد بـينت العهد فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته ههنا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالّصابِرِينَ فِـي البَأساءِ وَالضّرّاءِ. قد بـينا تأويـل الصبر فـيـما مضى قبل. فمعنى الكلام: والـمانعين أنفسهم فـي البأساء والضرّاء وحين البأس مـما يكرهه اللّه لهم الـحابسيها علـى ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويـل فـي معنى البأساء والضرّاء بـما: ٢٠٢١ـ حدثنـي به الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي، قال: حدثنـي أبـي، وحدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قالا جميعا: حدثنا أسبـاط، عن السدي، عن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساء فـالفقر، وأما الضرّاء فـالسقم. ٢٠٢٢ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قالا جميعا: حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة، عن عبد اللّه فـي قوله: وَالصّابِرِينَ فِـي البَأساءِ وَالضّرّاءِ قال: البأساء الـجوع، والضراء الـمرض. ٢٠٢٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة، عن عبد اللّه ، قال: البأساء: الـحاجة، والضرّاء: الـمرض. ٢٠٢٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نـحدّث أن البأساء: البؤس والفقر، وأن الضرّاء: السقم، وقد قال النبـيّ أيوب صلى اللّه عليه وسلم: أنّـي مَسّنِـيَ الضّرّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِين. ٢٠٢٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَالصّابِرِينَ فِـي البأساءِ وَالضّرّاءِ قال: البؤس: الفـاقة والفقر، والضرّاء فـي النفس من وجع أو مرض يصيبه فـي جسده. ٢٠٢٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: البأساءِ وَالضراءِ قال: البأساء: البؤس، والضرّاء: الزمانة فـي الـجسد. ٢٠٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا عبـيد، عن الضحاك ، قال: البأساء والضرّاء: الـمرض. ٢٠٢٨ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج: وَالصّابِرينَ فِـي البَأْساءِ وَالضّرّاءِ قال: البأساء: البؤس والفقر، والضرّاء: السقم والوجع. ٢٠٢٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبـيد بن الطفـيـل، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي هذه الآية: وَالصّابِرِينَ فِـي البأساءِ وَالضّرّاءِ أما البأساء: الفقر، والضرّاء: الـمرض. وأما أهل العربـية: فإنهم اختلفوا فـي ذلك، فقال بعضهم: البأساء والضرّاء مصدر جاء علـى فعلاء لـيس له أفعل لأنه اسم، كما قد جاء أفعل فـي الأسماء لـيس له فعلاء نـحو أحمد، وقد قالوا فـي الصفة أفعل ولـم يجىء له فعلاء، فقالوا: أنت من ذلك أوجل، ولـم يقولوا وجلاء. وقال بعضهم: هو اسم للفعل، فإن البأساء البؤس، والضرّاء الضر، وهو اسم يقع إن شئت لـمؤنث وإن شئت لـمذكر، كما قال زهير: فتُنْتِـجْ لَكُمْ غِلْـمانَ أشْأمَ كُلّهُمْكأحْمَر عادٍ ثُمّ تُرْضِعْ فتَفْطِمِ يعنـي فتنتـج لكم غلـمان شؤم. وقال بعضهم: لو كان ذلك اسما يجوز صرفه إلـى مذكر ومؤنث لـجاز إجراء أفعل فـي النكرة، ولكنه اسم قام مقام الـمصدر والدلـيـل علـى ذلك قولهم: (لئن طلبت نصرتهم لتـجدنهم غير أبْعَدَ) بغير إجراء وقال: إنـما كان اسما للـمصدر لأنه إذا ذكر علـم أنه يراد به الـمصدر وقال غيره: لو كان ذلك مصدرا فوقع بتأنـيث لـم يقع بتذكير، ولو وقع بتذكير لـم يقع بتأنـيث لأن من سُمي بأفعل لـم يصرف إلـى فعلـى، ومن سُمي بفعلـى لـم يصرف إلـى أفعل، لأن كل اسم يبقـى بهيئته لا يصرف إلـى غيره، ولكنهما لغتان، فإذا وقع بـالتذكير كان بأمر أشأم، وإذا وقع البأساء والضرّاء، وقع الـخـلة البأساء والـخـلة الضراء، وإن كان لـم يبن علـى الضراء الأضر ولا علـى الأشأم الشأماء، لأنه لـم يرد من تأنـيثه التذكير ولا من تذكيره التأنـيث، كما قالوا: امرأة حسناء، ولـم يقولوا: رجل أحسن، و قالوا: رجل أمرد، ولـم يقولوا: امرأة مرداء فإذا قـيـل الـخصلة الضراء والأمر الأشأم دل علـى الـمصدر، ولـم يحتـج إلـى أن يكون اسما، وإن كان قد كفـى من الـمصدر. وهذا قول مخالف تأويـل من ذكرنا تأويـله من أهل العلـم فـي تأويـل البأساء والضراء وإن كان صحيحا علـى مذهب العربـية وذلك أن أهل التأويـل تأوّلوا البأساء بـمعنى البؤس، والضرّاء بـمعنى الضرّ فـي الـجسد، وذلك من تأويـلهم مبنـي علـى أنهم وجهوا البأساء والضراء إلـى أسماء الأفعال دون صفـات الأسماء ونعوتها. فـالذي هو أولـى بـالبأساء والضراء علـى قول أهل التأويـل أن تكون البأساء والضراء أسماء أفعال، فتكون البأساء اسما للبؤس، والضراء اسما للضروأما الصابرين فنصبٌ، وهو من نعت (مَنْ) علـى وجه الـمدح، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بـالـمدح والذمّ بـالنصب أحيانا وبـالرفع أحيانا، كما قال الشاعر: إلـى الـمَلِك القَرْم وَابْن الهُمامولَـيْثَ الكَتِـيبَة فـي الـمُزْدَحَمْ وذَا الرأي حِينَ تُغَمّ الأمُورُبِذَات الصّلِـيـل وَذَات اللّـجُمْ فنصب لـيث الكتـيبة وذا الرأي علـى الـمدح، والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد. ومنه قول الاَخر: فَلَـيْتَ الّتِـي فِـيها النّـجومُ تَوَاضَعَتُ علـى كُلّ غَثَ مِنْهُمُ وَسمينِ غُيُوثُ الَوَرى فـي كُلّ مَـحْلٍ وأزْمَةٍ أُسُودُ الشّرَى يَحْمينَ كلّ عَرين وقد زعم بعضهم أن قوله: وَالصّابِرِينَ فِـي البَأساءِ نصب عطفـا علـى السائلـين، كأن معنى الكلام كان عنده: وآتـى الـمال علـى حبه ذوي القربى والـيتامى والـمساكين وابن السبـيـل والسائلـين والصابرين فـي البأساء والضراء. وظاهر كتاب اللّه يدل علـى خطأ هذا القول، وذلك أن الصابرين فـي البأساء والضراء هم أهل الزمانة فـي الأبدان وأهل الإقتار فـي الأموال، وقد مضى وصف القوم بإيتاء من كان ذلك صفته الـمال فـي قوله: وَالَـمساكينَ وَابْنَ السّبِـيـلِ وَالسّائِلِـينَ وأهل الفـاقة والفقر هم أهل البأساء والضراء، لأن من لـم يكن من أهل الضراء ذا بأساء لـم يكن مـمن له قبول الصدقة، وإنـما له قبولها إذا كان جامعا إلـى ضرائه بأساء، وإذا جمع إلـيها بأساء كان من أهل الـمسكنة الذين قد دخـلوا فـي جملة الـمساكين الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله: وَالصّابرِينَ فـي البأساء. وإذا كان كذلك ثم نصب الصابرين فـي البأساء بقوله: وآتـى الـمالَ علـى حُبّهِ كان الكلام تكريرا بغير فـائدة معنى، كأنه قـيـل: وآتـى الـمال علـى حبه ذوي القربى والـيتامى والـمساكين، واللّه يتعالـى عن أن يكون ذلك فـي خطابه عبـاده ولكن معنى ذلك: ولكنّ البرّ من آمن بـاللّه والـيوم الاَخر، والـموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين فـي البأساء والضراء. والـموفون رفع لأنه من صفة (مَنْ)، و(مَنْ) رفعٌ فهو معرب بإعرابه، والصابرين نصب وإن كان من صفته علـى وجه الـمدح الذي وصفنا قبل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَحِينَ البَأْسِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَحِينَ البأْسِ والصابرين فـي وقت البأس، وذلك وقت شدة القتال فـي الـحرب. كما: ٢٠٣٠ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العبقري، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، عن مرة، عن عبد اللّه فـي قول اللّه : وَحِينَ البأسِ قال: حين القتال. ٢٠٣١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، عن مرة، عن عبد اللّه ، مثله. ٢٠٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَحِين البَأْسِ القتال. ٢٠٣٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: وَحِينَ البأّسِ أي عند مواطن القتال. ٢٠٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَحِين البَأْسِ القتال. ٢٠٣٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَحِينَ البَأْسِ عند لقاء العدوّ. ٢٠٣٦ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا عبـيد، عن الضحاك : وَحِينَ البأْسِ القتال. ٢٠٣٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبـيد بن الطفـيـل أبو سيدان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: وَحِينَ البأْس قال: القتال. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ الـمُتّقُون. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا من آمن بـاللّه والـيوم الاَخر، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به فـي هذه الآية، يقول: فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا اللّه فـي إيـمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم، لا من ولّـى وجهه قِبَل الـمشرق والـمغرب وهو يخالف اللّه فـي أمره وينقض عهده وميثاقه ويكتـم الناس بـيان ما أمره اللّه ببـيانه ويكذّب رسله. وأما قوله: وأؤُلَئِكَ هُمُ الـمُتّقُون فإنه يعنـي: وأؤلئك الذين اتقوا عقاب اللّه فتـجنبوا عصيانه وحذروا وعده فلـم يتعدّوا حدوده وخافوه، فقاموا بأداء فرائضه. وبـمثل الذي قلنا فـي قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا كان الربـيع بن أنس يقول. ٢٠٣٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا قال: فتكلـموا بكلام الإيـمان، فكانت حقـيقته العمل صدقوا اللّه قال: وكان الـحسن يقول: هذا كلام الإيـمان وحقـيقته العمل، فإن لـم يكن مع القول عمل فلا شيء. ١٧٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى فرض علـيكم. فإن قال قائل: أفرض علـى ولـيّ القتـيـل القصاص من قاتل ولـيه؟ قـيـل: لا ولكنه مبـاح له ذلك، والعفو، وأخذ الدية. فإن قال قائل: وكيف قال: كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاصُ؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى خلاف ما ذهبت إلـيه، وإنـما معناه: يا أيها الذين آمنوا كتب علـيكم القصاص فـي القتلـى، الـحرّ بـالـحرّ، والعبد بـالعبد، والأنثى بـالأنثى. أي أن الـحرّ إذا قتل الـحرّ، فدم القاتل كفء لدم القتـيـل، والقصاص منه دون غيره من الناس، فلا تـجاوزوا بـالقتل إلـى غيره مـمن لـم يقتل، فإنه حرام علـيكم أن تقتلوا بقتـيـلكم غير قاتله. والفرض الذي فرض اللّه علـينا فـي القصاص هو ما وصفت من ترك الـمـجاوزة بـالقصاص قتل القاتل بقتـيـله إلـى غيره لا أنه وجب علـينا القصاص فرضا وجوب فرض الصلاة والصيام حتـى لا يكون لنا تركه، ولو كان ذلك فرضا لا يجوز لنا تركه لـم يكن لقوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ معنى مفهوم، لأنه لا عفو بعد القصاص فـيقال: فمن عفـي له من أخيه شيء. إن معنى القصاص فـي هذه الآية مقاصة ديات بعض القتلـى بديات بعض وذلك أن الآية عندهم نزلت فـي حزبـين تـحاربوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يصلـح بـينهم، بأن تسقط ديات نساء أحد الـحزبـين بديات نساء الاَخرين، وديات رجالهم بديات رجالهم، وديات عبـيدهم بديات عبـيدهم قصاصا، فذلك عندهم معنى القصاص فـي هذه الآية. فإن قال قائل: فإنه تعالـى ذكره قال: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ والعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنَثى بـالأُنَثى فما لنا أن نقتصّ للـحرّ إلا من الـحرّ، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟ قـيـل: بل لنا أن نقتصّ للـحرّ من العبد وللأنثى من الذكر، بقول اللّه تعالـى ذكره: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوما فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِـيّهِ سُلْطانا وبـالنقل الـمستفـيض عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (الـمسلـمونَ تتكافأُ دِماؤُهُمْ). فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويـل هذه الآية؟ قـيـل: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية فـي قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبد قوم آخرين لـم يرضوا من قتـيـلهم بدم قاتله من أجل أنه عبد حتـى يقتلوا به سيده، وإذا قتلت الـمرأة من غيرهم رجلاً لـم يرضوا من دم صاحبهم بـالـمرأة القاتلة، حتـى يقتلوا رجلاً من رهط الـمرأة وعشيرتها، فأنزل اللّه هذه الآية، فأعلـمهم أن الذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بـالرجل الرجل القاتل دون غيره، وبـالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبـالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدّوا القاتل إلـى غيره فـي القصاص. ذكر من قال ذلك: ٢٠٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الولـيد، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قالا: حدثنا حماد، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي فـي قوله: الـحُرّ بـالـحُرّ وَالَعبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى قال: نزلت فـي قبـيـلتـين من قبـائل العرب اقتتلتا قتال عمية، فقالوا: نقتل بعبدنا فلان ابن فلان، وبفلانة فلان ابن فلان، فأنزل اللّه : الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ وَالأنْثَى بـالأنْثَى. ٢٠٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى قال: كان أهل الـجاهلـية فـيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الـحي إذا كان فـيهم عدّة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرا تعززا لفضلهم علـى غيرهم فـي أنفسهم، وإذا قتلت لهم امرأة قتلتها امرأة قوم آخرين، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً. فأنزل اللّه هذه الآية يخبرهم أن العبد بـالعبد والأنثى بـالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل اللّه تعالـى ذكره فـي سورة الـمائدة بعد ذلك فقال: وكَتَبْنا عَلَـيْهِمْ فِـيهَا أنّ النّفْسَ بـالنّفْسِ وَالعَيْنَ بـالعَيْن وَالأنْفَ بـالأنْفِ وَالأُذُنَ بـالأذُنِ وَالسّنّ بـالسّنّ والـجُروحَ قِصَاصٌ. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاص فِـي القُتْلَـى قال: لـم يكن لـمن قبلنا دية إنـما هو القتل أو العفو إلـى أهله، فنزلت هذه الآية فـي قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الـحي الكثـير عبد، قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل اللّه : الـحُرّ بـالـحُر والعَبْدُ بـالعَبْد وَالأنْثَى بـالأنْثَى. ٢٠٤١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود، عن عامر فـي هذه الآية: كُتِبَ عَلَـيْكُم القِصَاص فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ وَالأُنْثَى بـالأُنْثَى قال: إنـما ذلك فـي قتال عمية إذا أصيب من هؤلاء عبد ومن هؤلاء عبد تكافآ، وفـي الـمرأتـين كذلك، وفـي الـحرين كذلك، هذا معناه إن شاء اللّه . ٢٠٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: دخـل فـي قول اللّه تعالـى ذكره: الـحُرّ بـالـحُرّ الرجل بـالـمرأة، والـمرأة بـالرجل وقال عطاء: لـيس بـينهما فضل. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي فريقـين كان بـينهم قتال علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتل من كلا الفريقـين جماعة من الرجال والنساء، فأمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يصلـح بـينهم بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقـين قصاصا بديات النساء من الفريق الاَخر، وديات الرجال بـالرجال، وديات العبـيد بـالعبـيد فذلك معنى قوله: كُتِب عَلَـيْكُم القِصَاص فِـي القَتْلَـى. ذكر من قال ذلك: ٢٠٤٣ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: كُتِبَ عَلْـيكُم القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ وَالأُنْثَى بـالأُنْثَى قال: اقتتل أهل ملّتـين من العرب أحدهما مسلـم والاَخر معاهد فـي بعض ما يكون بـين العرب من الأمر، فأصلـح بـينهم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبـيد والنساء علـى أن يؤدي الـحرّ دية الـحرّ، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصهم بعضهم من بعض. ٢٠٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا عبد اللّه بن الـمبـارك، عن سفـيان، عن السدي عن أبـي مالك قال: كان بـين حيـين من الأنصار قتال، كان لأحدهما علـى الاَخر الطّوْل، فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـيصلـح بـينهم، فنزلت هذه الآية: الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْد والأُنْثَى بـالأُنْثَى فجعل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الـحرّ بـالـحرّ والعبد بـالعبد، والأنثى بـالأنثى. ٢٠٤٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شعبة، عن أبـي بشر، قال: سمعت الشعبـي يقول فـي هذه الآية: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى قال: نزلت فـي قتال عمية قال شعبة: كأنه فـي صلـح قال: اصطلـحوا علـى هذا. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، قال: سمعت الشعبـي يقول فـي هذه الآية: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى قال: نزلت فـي قتال عمية، قال: كان علـى عهد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. وقال آخرون: بل ذلك أمر من اللّه تعالـى ذكره بـمقاصة دية الـحر ودية العبد ودية الذكر ودية الأنثى فـي قتل العمد إن اقتص للقتـيـل من القاتل، والتراجع بـالفضل والزيادة بـين ديتـي القتـيـل والـمقتص منه. ذكر من قال ذلك: ٢٠٤٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى قال: حُدثنا عن علـي بن أبـي طالب أنه كان يقول: أيـما حر قتل عبدا فهو قَوَدٌ به، فإن شاء موالـي العبد أن يقتلوا الـحر قتلوه، وقاصّوهم بثمن العبد من دية الـحر، وأدوا إلـى أولـياء الـحر بقـية ديته. وإن عبد قتل حرا فهو به قود، فإن شاء أولـياء الـحر قتلوا العبد، وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقـية دية الـحر، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستـحيوا العبد. وأيّ حرّ قتل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولـياء الـمرأة قتلوه وأدّوا نصف الدية إلـى أولـياء الـحرّ. وإن امرأة قتلت حرّا فهي به قود، فإن شاء أولـياء الـحرّ قتلوها، وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستـحيوها وإن شاءوا عفوا. ٢٠٤٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا هشام بن عبد الـملك، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن قتادة، عن الـحسن أن علـيا قال فـي رجل قتل امرأته، قال: إن شاءوا قتلوه وغرموا نصف الدية. ٢٠٤٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار قال: حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الـحسن، قالا: لا يقتل الرجل بـالـمرأة حتـى يعطوا نصف الدية. ٢٠٤٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، عن الشعبـي، قال فـي رجل قتل امرأته عمدا، فأتوا به علـيا، فقال: إن شئتـم فـاقتلوه، وردّوا فضل دية الرجل علـى دية الـمرأة. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية فـي حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرجل بـالـمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بـالرجل والـمرأة بـالـمرأة حتـى سوّى اللّه بـين حكم جميعهم بقوله: وكَتَبْنا عَلَـيْهِمْ فِـيها أنّ النّفْسَ بـالنّفْسِ فجعل جميعهم قود بعضهم ببعض. ذكر من قال ذلك: ٢٠٥٠ـ حدثنا الـمثنى قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: والأُنْثَى بـالأُنْثَى وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بـالـمرأة، ولكن يقتلون الرجل بـالرجل والـمرأة بـالـمرأة، فأنزل اللّه تعالـى: النّفْسَ بـالنّفْس فجعل الأحرار فـي القصاص، سواء فـيـما بـينهم فـي العمد رجالهم ونساؤهم فـي النفس وما دون النفس، وجعل العبـيد مستوين فـيـما بـينهم فـي العمد فـي النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤهم. فإذ كان مختلفـا الاختلاف الذي وصفت فـيـما نزلت فـيه هذه الآية، فـالواجب علـينا استعمالها فـيـما دلت علـيه من الـحكم بـالـخبر القاطع العذر. وقد تظاهرت الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالنقل العام أن نفس الرجل الـحرّ قود قصاصا بنفس الـمرأة الـحرّة، فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمة مختلفة فـي التراجع بفضل ما بـين دية الرجل والـمرأة علـى ما قد بـينا من قول علـيّ وغيره وكان واضحا فساد قول من قال بـالقصاص فـي ذلك والتراجع بفضل ما بـين الديتـين بإجماع جميع أهل الإسلام علـى أن حراما علـى الرجل أن يتلف من جسده عضوا بعوض يأخذه علـى إتلافه فدع جميعه، وعلـى أن حراما علـى غيره إتلاف شيء منه مثل الذي حرم من ذلك بعوض يعطيه علـيه، فـالواجب أن تكون نفس الرجل الـحرّ بنفس الـمرأة الـحرّة قودا. وإذا كان ذلك كذلك كان بـيّنا بذلك أنه لـم يرد بقوله تعالـى ذكره: الـحُرّ بـالـحُرّ وَالعَبْدُ بـالعَبْدِ والأُنْثَى بـالأُنْثَى أن لا يقاد العبد بـالـحرّ، وأن لا تقتل الأنثى بـالذكر، ولا الذكر بـالأنثى. وإذا كان ذلك كذلك كان بـينا أن الآية معنـيّ بها أحد الـمعنـيـين الاَخرين: إما قولنا من أن لا يتعدى بـالقصاص إلـى غير القاتل والـجانـي، فـيؤخذ بـالأنثى الذكر، وبـالعبد الـحرّوأما القول الاَخر وهو أن تكون الآية نزلت فـي قوم بأعيانهم خاصة أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصا بعضها من بعض، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله. وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم علـى أن الـمقاصة فـي الـحقوق غير واجبة، وأجمعوا علـى أن اللّه لـم يقض فـي ذلك قضاء ثم نسخه وإذا كان كذلك، وكان قوله تعالـى ذكره: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القصاص ينبىء عن أنه فرض كان معلوما أن القول خلاف ما قاله قائل هذه الـمقالة، لأن ما كان فرضا علـى أهل الـحقوق أن يفعلوه فلا خيار لهم فـيه، والـجميع مـجمعون علـى أن لأهل الـحقوق الـخيار فـي مقاصتهم حقوقهم بعضها من بعض، فإذا تبـين فساد هذا الوجه الذي ذكرنا، فـالصحيح من القول فـي ذلك هو ما قلنا. فإن قال قائل إذ ذكرت أن معنى قوله: كُتِب عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ بـمعنى: فرض علـيكم القِصاصُ: لا يعرف لقول القائل (كُتب) معنى إلا معنى خط ذلك فرسم خطا وكتابـا، فما برهانك علـى أن معنى قوله (كتب) فرض؟ قـيـل: إن ذلك فـي كلام العرب موجود، وفـي أشعارهم مستفـيض، ومنه قول الشاعر: كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتالُ عَلَـيْناوَعَلـى الـمُـحْصَناتِ جَرّ الذّيُولِ وقول نابغة بنـي جعدة: يا بِنْتَ عَمّي كِتابُ اللّه أخْرَجَنِـيعَنْكُمْ فَهَلْ أمْنَعَنّ اللّه ما فَعَلا وذلك أكثر فـي أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك وإن كان بـمعنى فرض، فإنه عندي مأخوذ من الكتاب الذي هو رسم وخط، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قد كتب جميع ما فرض علـى عبـاده وما هم عاملوه فـي اللوح الـمـحفوظ، فقال تعالـى ذكره فـي القرآن: بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَـجيدٌ فِـي لَوْحٍ مَـحْفُوظٍ وقال: إنّهُ لَقُرآنٌ كَريـمٌ فِـي كِتابٍ مَكْنُونٍ فقد تبـين بذلك أن كل ما فرضه علـينا ففـي اللوح الـمـحفوظ مكتوب. فمعنى قول إذْ كان ذلك كذلك: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ كتب علـيكم فـي اللوح الـمـحفوظ القصاص فـي القتلـى فرضا أن لا تقتلوا بـالـمقتول غير قاتله. وأما القِصاص فإنه من قول القائل: قاصصت فلانا حقـيّ قِبَله من حقه قِبَلـي، قصاصا ومُقاصّةً فَقْتُل القاتل بـالذي قتله قصاص، لأنه مفعول به مثل الذي فعل بـمن قتله، وإن كان أحد الفعلـين عدوانا والاَخر حقّا، فهما وإن اختلفـا من هذا الوجه، فهما متفقان فـي أن كل واحد قد فعل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به، وجعل فعل ولـيّ القتـيـل الأول إذا قتل قاتل ولـيه قصاصا، إذ كان بسبب قتله استـحقّ قتل من قتله، فكأنّ ولـيه الـمقتول هو الذي ولـى قتل قاتله فـاقتصّ منه. وأما القتلـى، فإنها جمع قتـيـل، كما الصرعى جمع صريع، والـجرحى جمع جريح. وإنـما يجمع الفعيـل علـى الفعلـى، إذا كان صفة للـموصوف به بـمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه علـى البراح من موضعه ومصرعه، نـحو القتلـى فـي معاركهم، والصرعى فـي مواضعهم، والـجرحى وما أشبه ذلك. فتأويـل الكلام إذن: فرض علـيكم أيها الـمؤمنون القصاص فـي القتلـى أن يقتصّ الـحرّ بـالـحرّ، والعبد بـالعبد، والأنثى بـالأنثى. ثم ترك ذكر أن يقتص اكتفـاء بدلالة قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ علـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَـيْه بإحسانٍ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: تأويـله: فمن ترك له من القتل ظلـما من الواجب كان لأخيه علـيه من القصاص، وهو الشيء الذي قال اللّه : فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ من العافـي للقاتل بـالواجب له قِبَله من الدية، وأداء من الـمعفوّ عنه ذلك إلـيه بإحسان. ذكر من قال ذلك: ٢٠٥١ـ حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابـي، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن عمرو، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فـالعفو أن يقبل الدية فـي العمد، واتبـاع بـالـمعروف أن يطلب هذا بـمعروف ويؤدي هذا بإحسان. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبـاس أنه قال فـي قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَـيْه بإحْسانِ فقال: هو العمد يرضى أهله بـالدية وَاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ أمر به الطالب وأدَاءٌ إلـيه بـاحْسانٍ من الـمطلوب. حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن سفـيان، قال: حدثنا أبـي، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر قالا جميعا: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مـحمد بن مسلـم، عن عمرو بن دينار، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: الذي يقبل الدية ذلك منه عفو، واتبـاع بـالـمعروف، ويؤدي إلـيه الذي عفـي له من أخيه بإحسان. حدثنـي مـحمد بن سعد قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوف وأدَاءٌ إلـيْه بإحْسانٍ وهي الدية أن يحسن الطالب الطلب وأدَاءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ وهو أن يحسن الـمطلوب الأداء. ٢٠٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوف وأدَاءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ والعفوّ الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية. حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ قال: الدية. ٢٠٥٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن يزيد، عن إبراهيـم، عن الـحسن:وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ قال: علـى هذا الطالب أن يطلب بـالـمعروف، وعلـى هذا الـمطلوب أن يؤدي بإحسان. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْروُفِ والعَفْوّ: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية. ٢٠٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الولـيد، قال: حدثنا حماد، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي فـي قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ قال: هو العمد يرضى أهله بـالدية. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن داود، عن الشعبـي، مثله. ٢٠٥٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ يقول: قتل عمدا فعفـى عنه، وقبلت منه الدية، يقول: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ فأمر الـمتبع أن يتبع بـالـمعروف، وأمر الـمؤدي أن يؤدي بإحسان، والعمد قود إلـيه قصاص، لا عَقْل فـيه إلا أن يرضوا بـالدية، فإن رضوا بـالدية فمائة خَـلِفَة، فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا فذاك لهم. ٢٠٥٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ قال: يتبع به الطالب بـالـمعروف، ويؤدي الـمطلوب بإحسان. ٢٠٥٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ يقول: فمن قتل عمدا فعفـي عنه وأخذت منه الدية، يقول: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ: أمر صاحب الدية التـي يأخذها أن يتبع بـالـمعروف، وأمر الـمؤدي أن يؤدي بإحسان. ٢٠٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ قال: ذلك إذا أخذ الدية فهو عفو. ٢٠٥٩ـ حدثنا الـحسن، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفـا عن القصاص، فذلك قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ. قال ابن جريج: وأخبرنـي الأعرج عن مـجاهد مثل ذلك، وزاد فـيه: فإذا قبل الدية فإن علـيه أن يتبع بـالـمعروف، وعلـى الذي عفـى عنه أن يؤدي بإحسان. حدثنا الـمثنى قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم قال: حدثنا أبو عقـيـل قال: قال الـحسن: أخذ الدية عفو حسن. ٢٠٦٠ـ حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وأدَاءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ قال: أنت أيها الـمعفوّ عنه. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ وهو الدية أن يحسن الطالب، وأداء إلـيه بإحسان: هو أن يحسن الـمطلوب الأداء. وقال آخرون معنى قوله: فَمَنْ عُفِـيَ فمن فضل له فضل وبقـيت له بقـية. و قالوا: معنى قوله: مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ من دية أخيه شيء، أو من أَرْش جراحته فـاتبـاع منه القاتل أو الـجارح الذي بقـي ذلك قبله بـمعروف وأداء من القاتل أو الـجارح إلـيه ما بقـي قبله له من ذلك بإحسان. وهذا قول من زعم أن الآية نزلت، أعنـي قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى فـي الذين تـحاربوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلـح بـينهم فـيقاص ديات بعضهم من بعض ويردّ بعضهم علـى بعض بفضل إن بقـي لهم قبل الاَخرين. وأحسب أن قائلـي هذا القول وجهوا تأويـل العفو فـي هذا الـموضع إلـى الكثرة من قول اللّه تعالـى ذكره: حَتـى عَفَوْا، فكان معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قِبَل أخيه القاتل. ذكر من قال ذلك: ٢٠٦١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ يقول: بقـي له من دية أخيه شيء أو من أرش جراحته، فلـيتبع بـمعروف ولـيؤدّ الاَخر إلـيه بإحسان. والواجب علـى تأويـل القول الذي روينا عن علـيّ والـحسن فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ أنه بـمعنى مقاصة دية النفس الذكر من دية النفس الأنثى، والعبد من الـحرّ، والتراجع بفضل ما بـين ديتـي أنفسهما أن يكون معنى قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فمن عفـي له من الواجب لأخيه علـيه من قصاص دية أحدهما بدية نفس الاَخر إلـى الرضى بدية نفس الـمقتول، فـاتبـاع من الولـيّ بـالـمعروف، وأداء من القاتل إلـيه ذلك بإحسان. وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي قوله: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فمن صفح له من الواجب كان لأخيه علـيه من القود عن شيء من الواجب علـى دية يأخذها منه، فـاتبـاع بـالـمعروف من العافـي عن الدم الراضي بـالدية من دم ولـيه، وأداء إلـيه من القاتل ذلك بإحسان لـما قد بـينا من العلل فـيـما مضى قبل من أن معنى قول اللّه تعالـى ذكره: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ إنـما هو القصاص من النفوس القاتلة أو الـجارحة والشاجة عمدا، كذلك العفو أيضا عن ذلك. وأما معنى قوله: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ فإنه يعنـي: فـاتبـاع علـى ما أوجبه اللّه له من الـحق قِبَل قاتل ولـيه من غير أن يزداد علـيه ما لـيس له علـيه فـي أسنان الفرائض أو غير ذلك، أو يكلفه ما لـم يوجبه اللّه له علـيه. كما: ٢٠٦٢ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: بلغنا عن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَن زَادَ أو ازدَادَ بَعِيرا) يعنـي فـي إبل الديات وفرائضها (فمِنْ أمْرِ الـجاهِلِـيةِ). وأما إحسان الاَخر فـي الأداء، فهو أداء ما لزمه بقتله لولـي القتـيـل علـى ما ألزمه اللّه وأوجبه علـيه من غير أن يبخسه حقا له قِبَله بسبب ذلك، أو يُحْوجه إلـى اقتضاء ومطالبة. فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأدَاءٌ إلَـيْه بإحْسانٍ ولـم يقل: فـاتبـاعا بـالـمعروف وأداء إلـيه بإحسان، كما قال: فإذَا لَقِـيُتـمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقاب؟ قـيـل: لو كان التنزيـل جاء بـالنصب، وكان: فـاتبـاعا بـالـمعروف وأداءً إلـيه بإحسان، كان جائزا فـي العربـية صحيحا علـى وجه الأمر، كما يقال: ضربـا ضربـا، وإذا لقـيت فلانا فتبجيلاً وتعظيـما غير أنه جاء رفعا، وهو أفصح فـي كلام العرب من نصبه، وكذلك ذلك فـي كل ما كان نظيرا له مـما يكون فرضا عاما فـيـمن قد فعل وفـيـمن لـم يفعل إذا فعل، لا ندبـا وحَثّا. ورفعه علـى معنى: فمن عفـي له من أخيه شيء فـالأمر فـيه اتبـاع بـالـمعروف، وأداء إلـيه بإحسان، أو: فـالقضاء والـحكم فـيه اتبـاع بـالـمعروف. وقد قال بعض أهل العربـية: رفع ذلك علـى معنى: فمن عفـي له من أخيه شيء فعلـيه اتبـاع بـالـمعروف. وهذا مذهبـي، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام، وكذلك كل ما كان من نظائر ذلك فـي القرآن فإنّ رفعه علـى الوجه الذي قلناه، وذلك مثل قوله: وَمَن قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمّدا فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَم وقوله: فإمساكٌ بـمَعْرُوفٍ أو تَسْريحٌ بإحْسانٍ. وأما قوله: فَضَرْبَ الرّقابِ فإن الصواب فـيه النصب، وهو وجه الكلام لأنه علـى وجه الـحثّ من اللّه تعالـى ذكره عبـاده علـى القتل عند لقاء العدوّ كما يقال: إذا لقـيتـم العدوّ فتكبـيرا وتهلـيلاً، علـى وجه الـحضّ علـى التكبـير لا علـى وجه الإيجاب والإلزام. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذَلِكَ تَـخْفـيفٌ مِن رَبّكُم وَرَحَمةٌ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله ذلك: هذا الذي حكمت به وسننته لكم من إبـاحتـي لكم أيتها الأمة العفو عن القصاص من قاتل قتـيـلكم علـى دية تأخذونها فتـملكونها ملككم سائر أموالكم التـي كنت منعتها مَن قبلكم من الأمـم السالفة، تَـخْفـيفٌ مِنْ رَبّكم يقول: تـخفـيف منـي لكم مـما كنت ثقلته علـى غيركم بتـحريـم ذلك علـيهم ورحمة منـي لكم. كما: ٢٠٦٣ـ حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابـي، قالا: حدثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: كان فـي بنـي إسرائيـل القصاصُ ولـم تكن فـيهم الدية، فقال اللّه فـي هذه الآية: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ إلـى قوله: فَمَنْ عُفِـىَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ فـالعفو أن يقبل الدية فـي العمد، ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِن رَبّكُمْ يقول: خفف عنكم ما كان علـى من كان قبلكم أن يطلب هذا بـمعروف ويؤدي هذا بإحسان. ٢٠٦٤ـ حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، عن مـحمد بن مسلـم، عن عمرو بن دينار، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: كان من قبلكم يقتلون القاتل بـالقتـيـل لا تقبل منهم الدية، فأنزل اللّه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاصُ فِـي القَتْلَـى الـحُرّ بـالـحُرّ إلـى آخر الآية ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول: خفف عنكم وكان علـى من قبلكم أن الدية لـم تكن تقبل، فـالذي يقبل الدية ذلك منه عفو. ٢٠٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عبـاس : ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِن رَبّكُم وَرَحَمةٌ مـما كان علـى بنـي إسرائيـل، يعنـي من تـحريـم الدية علـيهم. ٢٠٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس قال: كان علـى بنـي إسرائيـل قصاص فـي القتل لـيس بـينهم دية فـي نفس ولا جرح، وذلك قول اللّه : وكَتَبْنا عَلَـيْهِم فِـيها أنّ النّفْسَ بـالنّفْسِ وَالعَيْنَ بـالعَيْن الآية كلها. وخفف اللّه عن أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فقبل منهم الدية فـي النفس وفـي الـجراحة، وذلك قوله تعالـى: ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِن رَبّكُم بـينكم. ٢٠٦٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ذَلِكَ تَـخْفِـيف مِن رَبكُم وَرَحَمَةٌ وإنـما هي رحمة رحم اللّه بها هذه الأمة أطعمهم الدية، وأحلها لهم، ولـم تـحلّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنـما هو القصاص أو العفو، ولـيس بـينهما أرش. وكان أهل الإنـجيـل إنـما هو عفو أمروا به، فجعل اللّه لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا أحلها لهم، ولـم تكن لأمة قبلهم. ٢٠٦٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله سواء، غير أنه قال: لـيس بـينهما شيء. ٢٠٦٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِصَاص فِـي القَتْلَـى قال: لـم يكن لـمن قبلنا دية، إنـما هو القتل أو العفو إلـى أهله، فنزلت هذه الآية فـي قوم كانوا أكثر من غيرهم. ٢٠٧٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرنـي عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، قال: إن بنـي إسرائيـل كان كتب علـيهم القصاص، وخفف عن هذه الأمة. وتلا عمرو بن دينار: ذَلِكَ تَـخْفِـيفٌ مِنْ رَبّكُمْ وَرَحْمَة. وأما علـى قول من قال: القصاص فـي هذه الآية معناه: قصاص الديات بعضها من بعض علـى ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويـله: هذا الذي فعلت بكم أيها الـمؤمنون من قصاص ديات قتلـى بعضكم بديات بعض وترك إيجاب القود علـى البـاقـين منكم بقتـيـله الذي قتله وأخذه بديته، تـخفـيف منـي عنكم ثقل ما كان علـيكم من حكمي علـيكم بـالقود أو الدية ورحمة منـي لكم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فمن تـجاوز ما جعله اللّه له بعد أخذه الدية اعتداء وظلـما إلـى ما لـم يجعل له من قتل قاتل ولـيه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدّيه إلـى ما قد حرمته علـيه عذاب ألـيـم. وقد بـينت معنى الاعتداء فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٠٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فقتل، فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فمن اعتدى بعد أخذ الدية فله عذاب ألـيـم. ٢٠٧٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب ألـيـم قال: وذُكر لنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (لا أعُافِـي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أخْذِهِ الدّيَة). حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ قال: هو القتل بعد أخذ الدية، يقول: من قتل بعد أن يأخذ الدية فعلـيه القتل لا تقبل منه الدية. ٢٠٧٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فله عذاب ألـيـم. ٢٠٧٤ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنـي أبـي، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن، قال: كان الرجل إذا قتل قتـيلاً فـي الـجاهلـية فرّ إلـى قومه، فـيجيء قومه فـيصالـحون عنه بـالدية قال: فـيخرج الفـارّ وقد أمن علـى نفسه قال: فـيقتل ثم يرمى إلـيه بـالدية، فذلك الاعتداء. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو عقـيـل قال: سمعت الـحسن فـي هذه الآية: فَمَنْ عُفِـيَ لَهُ مِنْ أخِيه شَيْءٌ قال: القاتل إذا طلب فلـم يقدر علـيه، وأخذ من أولـيائه الدية، ثم أمن فأخذ فقتل، قال الـحسن: ما أكل عدوان. ٢٠٧٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا هارون بن سلـيـمان، قال: قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذا يقتل، أما سمعت اللّه يقول: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. ٢٠٧٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ بعد ما يأخذ الدية فـيقتل، فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. ٢٠٧٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية،فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. ٢٠٧٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ قال: أخذ العقل ثم قتل بعد أخذ العقل قاتل قتـيـله فله عذاب ألـيـم. واختلفوا فـي معنى العذاب الألـيـم الذي جعله اللّه لـمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل ولـيه، فقال بعضهم: ذلك العذاب هو القتل بـمن قتله بعد أخذ الدية منه وعفوه عن القصاص منه بدم ولـيه. ذكر من قال ذلك: ٢٠٧٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم الدورقـي، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ قال: يقتل، وهو العذاب الألـيـم، يقول: العذاب الـموجع. ٢٠٨٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنـي هشيـم، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبـير أنه قال ذلك. ٢٠٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا هارون بن سلـيـمان، عن عكرمة: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ قال: القتل. وقال بعضهم: ذلك العذاب عقوبة يعاقبه بها السلطان علـى قدر ما يرى من عقوبته. ذكر من قال ذلك: ٢٠٨٢ـ حدثنـي القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي إسماعيـل بن أمية، عن اللـيث غير أنه لـم ينسبه، وقال: ثقة: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أوجب بقسم أو غيره أن لا يُعفـى عن رجل عفـا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: فـي كتاب لعمر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (والاعتداء) الذي ذكر اللّه أن الرجل يأخذ العقل أو يقتصّ، أو يقضي السلطان فـيـما بـين الـجراح، ثم يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والـحكم فـيه إلـى السلطان بـالذي يرى فـيه من العقوبة قال: ولو عفـا عنه لـم يكن لأحد من طلبة الـحق أن يعفو، لأن هذا من الأمر الذي أنزل اللّه فـيه قوله: فإنْ تَنازَعْتُـمْ فِـي شَيْءٍ فَرُدّوهِ إلـى اللّه وَالرّسُولِ وَإلـى أُولـي الأمْرِ مِنْكُمْ. ٢٠٨٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الـحسن فـي رجل قتل فأخذت منه الدية، ثم إن ولـيه قتل به القاتل، قال الـحسن: تؤخذ منه الدية التـي أخذ ولا يقتل به. وأولـى التأويـلـين بقوله: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ تأويـل من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فقتل قاتل ولـيه، فله عذاب ألـيـم فـي عاجل الدنـيا وهو القتل لأن اللّه تعالـى جعل لكل ولـيّ قتـيـل قتل ظلـما سلطانا علـى قاتل ولـيه، فقال تعالـى ذكره: وَمنْ قُتِلَ مَظْلُوما فقدْ جَعَلْنا لوَلِـيّه سُلْطانا فَلا يُسْرفْ فِـي القَتْلِ. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الـجميع من أهل العلـم مـجمعين علـى أن من قتل قاتل ولـيه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتـيـله أنه بقتله إياه له ظالـم فـي قتله، كان بـينا أن لا يولّـي من قتله ظلـما كذلك السلطان علـيه فـي القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن ذلك عذابه، لأن من أقـيـم علـيه حده فـي الدنـيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولـم يكن به متبعا فـي الاَخرة، علـى ما قد ثبت به الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأما ما قاله ابن جريج من أن حكم من قتل قاتل ولـيه بعد عفوه عنه وأخذه دية ولـيه الـمقتول إلـى الإمام دون أولـياء الـمقتول، فقول خلاف لـما دلّ علـيه ظاهر كتاب اللّه وأجمع علـيه علـماء الأمة. وذلك أن اللّه جعل لولـيّ كل مقتول ظلـما السلطان دون غيره من غير أن يخصّ من ذلك قتـيلاً دون قتـيـل، فسواء كان ذلك قتـيـل ولـي من قتله أو غيره. ومن خصّ من ذلك شيئا سئل البرهان علـيه من أصل أو نظير وعكس علـيه القول فـيه، ثم لن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله. ثم فـي إجماع الـحجة علـى خلافه ما قاله فـي ذلك مكتفـى فـي الاستشهاد علـى فساده بغيره. ١٧٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولـي الألْبـاب ولكم يا أولـي العقول فـيـما فرضت علـيكم وأوجبت لبعضكم علـى بعض من القصاص فـي النفوس والـجراح والشجاج ما منع به بعضكم من قتل بعض وقَدَع بعضكم عن بعض فحيـيتـم بذلك فكان لكم فـي حكمي بـينكم بذلك حياة. واختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم فـي ذلك نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك: ٢٠٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولـي الألْبـاب قال: نكالٌ، تناهٍ. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ قال: نكالٌ، تناهٍ. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٢٠٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ جعل اللّه هذا القصاص حياة ونكالاً وعظة لأهل السفه والـجهل من الناس. وكم من رجل قد همّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن اللّه حجز بـالقصاص بعضهم عن بعض. وما أمر اللّه بأمر قط إلا وهو أمر صلاح فـي الدنـيا والاَخرة ولا نهى اللّه عن أمر قط إلا وهو أمر فساد فـي الدنـيا والدين، واللّه أعلـم بـالذي يصلـح خـلقه. ٢٠٨٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولـي الألْبـاب قال: قد جعل اللّه فـي القصاص حياة، إذا ذكره الظالـم الـمتعدّي كفّ عن القتل. ٢٠٨٧ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ الآية، يقول: جعل اللّه هذا القصاص حياة وعبرة لكم، كم من رجل قد همّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها، وإن اللّه قد حجز عبـاده بعضهم عن بعض بـالقصاص. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ قال: نكالٌ، تناهٍ. قال ابن جريج: حياة: منعة. ٢٠٨٨ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ قال: حياة: بقـية إذا خاف هذا أن يقتل بـي كفّ عنـي، لعله يكون عدوّا لـي يريد قتلـي، فـيتذكر أن يقتل فـي القصاص، فـيخشى أن يقتل بـي، فـيكف بـالقصاص الذي خاف أن يقتل لولا ذلك قتل هذا. ٢٠٨٩ـ حدثت عن يعلـى بن عبـيد، قال: حدثنا إسماعيـل، عن أبـي صالـح فـي قوله: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ قال: بقاء. وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم فـي القصاص من القاتل بقاء لغيره لأنه لا يقتل بـالـمقتول غير قاتله فـي حكم اللّه . وكانوا فـي الـجاهلـية يقتلون بـالأنثى الذكر، وبـالعبد الـحر. ذكر من قال ذلك: ٢٠٩٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: وَلَكُمْ فِـي القِصَاصِ حَياةٌ يقول: بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته. وأما تأويـل قوله: يا أُولـي الألْبـابِ فإنه: يا أولـي العقول. والألبـاب جمع اللبّ، واللبّ العقل. وخص اللّه تعالـى ذكره بـالـخطاب أهل العقول، لأنهم هم الذين يعقلون عن اللّه أمره ونهيه ويتدبرون آياته وحججه دون غيرهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَأُولِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ وتأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ أي تتقون القصاص فتنتهون عن القتل. كما: ٢٠٩١ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال: لعلك تتقـي أن تقتله فتقتل به. ١٨٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...} يعنـي بقوله تعالـى ذكره: كتب علـيكم: فرض علـيكم أيها الـمؤمنون الوصية إذا حضر أحدكم الـموت إنْ تَرَكَ خَيْرا والـخير: الـمال، للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ الذين لا يرثونه، بـالـمَعْرُوفِ وهو ما أذن اللّه فـيه وأجازه فـي الوصية مـما لـم يجاوز الثلث، ولـم يتعمد الـموصي ظلـم ورثته، حَقّا علـى الـمُتّقـين، يعنـي بذلك: فرض علـيكم هذا وأوجبه، وجعله حقّا واجبـا علـى من اتقـى اللّه فأطاعه أن يعمل به. فإن قال قائل: أَوَ فرض علـى الرجل ذي الـمال أن يوصي لوالديه وأقربـيه الذين لا يرثونه؟ قـيـل: نعم. فإن قال: فإن هو فرّط فـي ذلك فلـم يوص لهم أيكون مضيعا فرضا يحرج بتضيـيعه؟ قـيـل: نعم. فإن قال: وما الدلالة علـى ذلك؟ قـيـل: قول اللّه تعالـى ذكره: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِـين فأعلـم أنه قد كتبه علـينا وفرضه، كما قال: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ ولا خلاف بـين الـجميع أن تارك الصيام وهو علـيه قادر مضيع بتركه فرضا للّه علـيه، فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربـيه وله ما يوصي لهم فـيه، مضيعٌ فرض اللّه عز وجل. فإن قال: فإنك قد علـمت أن جماعة من أهل العلـم قالوا: الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ منسوخة بآية الـميراث؟ قـيـل له: وخالفهم جماعة غيرهم فقالوا: هي مـحكمة غير منسوخة: وإذا كان فـي نسخ ذلك تنازع بـين أهل العلـم لـم يكن لنا القضاء علـيه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسلـيـم لها، إذ كان غير مستـحيـل اجتـماع حكم هذه الآية وحكم آية الـمواريث فـي حال واحدة علـى صحة بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى وكان الناسخ والـمنسوخ هما الـمعنـيان اللذان لا يجوز اجتـماع حكمهما علـى صحة فـي حالة واحدة لنفـي أحدهما صاحبه. وبـما قلنا فـي ذلك قال جماعة من الـمتقدمين والـمتأخرين. ذكر من قال ذلك: ٢٠٩٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولـم يوصِ لذوي قرابته فقد ختـم عمله بـمعصية. ٢٠٩٣ـ حدثنـي سالـم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلـم، عن مسروق: أنه حضر رجلاً فوصى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إن اللّه قد قسم بـينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي اللّه يضله، أوص لذي قرابتك مـمن لا يرثك، ثم دع الـمال علـى ما قسمه اللّه علـيه. ٢٠٩٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد، عن الضحاك ، قال: لا تـجوز وصية لوارث ولا يوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصى لغير ذي قرابة فقد عمل بـمعصية، إلا أن لا يكون قرابة فـيوصي لفقراء الـمسلـمين. ٢٠٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: العجبُ لأبـي العالـية أعتقته امرأة من بنـي رياح وأوصى بـماله لبنـي هاشم. ٢٠٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن رجل، عن الشعبـي، قال: لـم يكن له حال ولا كرامة. ٢٠٩٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، عن مـحمد، قال: قال عبد اللّه بن معمر فـي الوصية: من سَمّى جعلناها حيث سَمّى، ومن قال حيث أمر اللّه جعلناها فـي قرابته. ٢٠٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: حدثنا عمران بن جرير، قال: قلت لأبـي مـجلز: الوصية علـى كل مسلـم واجبة؟ قال: علـى من ترك خيرا. ٢٠٩٩ـ حدثنا سوّار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا عبد الـملك بن الصبـاح، قال: حدثنا عمران بن حرير قال: قلت للاحق بن حميد: الوصية حق علـى كل مسلـم؟ قال: هي حق علـى من ترك خيرا. واختلف أهل العلـم فـي حكم هذه الآية، فقال بعضهم: لـم ينسخ اللّه شيئا من حكمها، وإنـما هي آية ظاهرها ظاهر عموم فـي كل والد ووالدة والقريب، والـمراد بها فـي الـحكم البعض منهم دون الـجميع، وهو من لا يرث منهم الـميت دون من يرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم معهم. ذكر قول من لـم يذكر قوله منهم فـي ذلك: ٢١٠٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة، عن جابر بن زيد فـي رجل أوصى لغير ذي قرابة، وله قرابة مـحتاجون، قال: يردّ ثلثا الثلث علـيهم، وثلث الثلث لـمن أوصى له به. ٢١٠١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ، قال: حدثنا أبـي، عن قتادة، عن الـحسن وجابر بن زيد وعبد الـملك بن يعلـى أنهم قالوا فـي الرجل يوصي لغير ذي قرابته وله قرابة مـمن لا يرثه قال: كانوا يجعلون ثلثـي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لـمن أوصى له به. ٢١٠٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حميد، عن الـحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثلث الثلث، وثلثا الثلث لقرابته. ٢١٠٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه قال: من أوصى لقوم وسماهم وترك ذوي قرابته مـحتاجين انتزعت منهم وردّت إلـى ذوي قرابته. وقال آخرون: بل هي آية قد كان الـحكم بها واجبـا وعمل به برهة، ثم نسخ اللّه منها بآية الـمواريث الوصية لوالدي الـموصي وأقربـائه الذين يرثونه، وأقرّ فرض الوصية لـمن كان منهم لا يرثه. ذكر من قال ذلك: ٢١٠٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِـينَ فجعلت الوصية للوالدين والأقربـين، ثم نسخ ذلك بعد ذلك فجعل لهما نصيب مفروض، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجعل للوالدين نصيب معلوم، ولا تـجوز وصية لوارث. ٢١٠٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: نسخ الوالدان منها، وترك الأقربون مـمن لا يرث. ٢١٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: نسخ من يرث ولـم ينسخ الأقربـين الذين لا يرثون. ٢١٠٧ـ حدثنا يحيى بن نصر، قال: حدثنا يحيى بن حسان، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: كانت الوصية قبل الـميراث للوالدين والأقربـين، فلـما نزل الـميراث نسخ الـميراث من يرث وبقـي من لا يرث، فمن أوصى لذي قرابته لـم تـجز وصيته. ٢١٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن إسماعيـل الـمكي، عن الـحسن فـي قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: نسخ الوالدين وأثبت الأقربـين الذين يحرمون فلا يرثون. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مبـارك بن فضالة، عن الـحسن فـي هذه الآية: الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: للوالدين منسوخة، والوصية للقرابة وإن كانوا أغنـياء. ٢١٠٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ فكان لا يرث مع الوالدين غيرهم إلا وصية إن كانت للأقربـين، فأنزل اللّه بعد هذا: ولأبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدسُ مـمّا تَرَكَ إنْ كانَ لَه وَلَدٌ فإنْ لَـمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَه أبَوَاه فَلأُمّهِ الثّلُثُ فبـين اللّه سبحانه ميراث الوالدين، وأقرّ وصية الأقربـين فـي ثلث مال الـميت. ٢١١٠ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ فنسخ الوصية للوالدين وأثبت الوصية للأقربـين الذين لا يرثون. ٢١١١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِـين بـالـمعروف قال: كان هذا من قبل أن تنزل سورة النساء، فلـما نزلت آية الـميراث نسخ شأن الوالدين، فألـحقهما بأهل الـميراث وصارت الوصيةُ لأهل القرابة الذين لا يرثون. ٢١١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا عطاء بن أبـي ميـمونة، قال: سألت مسلـم بن يسار، والعلاء بن زياد، عن قول اللّه تبـارك وتعالـى: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قالا: فـي القرابة. ٢١١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن إياس بن معاوية، قال: فـي القرابة. وقال آخرون: بلـى نسخ اللّه ذلك كله، وفرض الفرائض والـمواريث، فلا وصية تـجب لأحد علـى أحد قريب ولا بعيد. ذكر من قال ذلك: ٢١١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ الآية، قال: فنسخ اللّه ذلك كله وفرض الفرائض. ٢١١٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عبـاس : أنه قام فخطب الناس ههنا، فقرأ علـيهم سورة البقرة لـيبـين لهم منها، فأتـى علـى هذه الآية: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: نسخت هذه. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ نسخت الفرائض التـي للوالدين والأقربـين الوصية. ٢١١٦ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن جهضم، عن عبد اللّه بن بدر، قال: سمعت ابن عمر يقول فـي قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: نسختها آية الـميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضما عنه فلـم يحفظه. ٢١١٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري، قالا: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ فكانت الوصية كذلك حتـى نسختها آية الـميراث. ٢١١٨ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت أبـي، قال: زعم قتادة، عن شريح فـي هذه الآية: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: كان الرجل يوصي بـماله كله حتـى نزلت آية الـميراث. ٢١١٩ـ حدثنا أحمد بن الـمقدام، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت أبـي، قال: زعم قتادة أنه نسخت آيتا الـمواريث فـي سورة النساء الآية فـي سورة البقرة فـي شأن الوصية. ٢١٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبـينَ قال: كان الـميراث للولد والوصية للوالدين والأقربـين، وهي منسوخة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان الـميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربـين، وهي منسوخة نسختها آية فـي سورة النساء: يُوصيكُمُ اللّه فِـي أوْلادِكُم. ٢١٢١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِـين أما الوالدان والأقربون فـيومَ نزلت هذه الآية كان الناس لـيس لهم ميراث معلوم، إنـما يوصي الرجل لوالده ولأهله فـيقسم بـينهم حتـى نسختها النساء فقال: يُوصِيكُمُ اللّه فِـي أوْلاَدِكُمْ. ٢١٢٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، عن نافع أن ابن عمر لـم يوص وقال: أما مالـي فـاللّه أعلـم ما كنت أصنع فـيه فـي الـحياة، وأما رِبـاعي فما أحبّ أن يشرك ولدي فـيها أحد. ٢١٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي، قال: حدثنا مـحمد بن يوسف، قال: حدثنا سفـيان، عن نسير بن ذعلوق قال: قال عروة: يعنـي ابن ثابت لربـيع بن خُيْثَم: أوص لـي بـمصحفك قال: فنظر إلـى أبـيه فقال: وأُولُو الأرْحامِ بَعْضهُمْ أوْلـى بِبَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّه . ٢١٢٤ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا يزيد، عن سفـيان، عن الـحسن بن عبد اللّه ، عن إبراهيـم، قال: ذكرنا له أن زيدا وطلـحة كانا يشددان فـي الوصية، فقال: ما كان علـيهما أن يفعلا، مات النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ولـم يوص، وأوصى أبو بكر، أيّ ذلك فعلتَ فحسن. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الـحسن بن عبد اللّه ، عن إبراهيـم، قال: ذكر عنده طلـحة وزيد، فذكر مثله. وأما الـخير الذي إذا تركه تارك وجب علـيه الوصية فـيه لوالديه وأقربـيه الذين لا يرثون فهو الـمال. كما: ٢١٢٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، عن معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا يعنـي مالاً. ٢١٢٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : إنْ تَرَكَ خَيْرا مالاً. ٢١٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إنْ تَرَكَ خَيْرا كان يقول: الـخير فـي القرآن كله الـمال لـحبّ الـخيرِ لَشديدٌ الـخير الـمال وأحبَبْتُ حُبّ الـخيرِ عَنْ ذِكْرِ رَبـي الـمال فَكاتِبُوهُم إن عَلِـمْتُـم فِـيهِمْ خَيْرا الـمال وإنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ الـمال. ٢١٢٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ أي مالاً. ٢١٢٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ أما خيرا فـالـمال. ٢١٣٠ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إنْ تَرَكَ خَيْرا قال إن ترك مالاً. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا قال: الـخير: الـمال. ٢١٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنـي ابن الـمبـارك، عن الـحسن بن يحيى، عن الضحاك فـي قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ قال: الـمال، ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: إنّـي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ يعنـي الغنى. ٢١٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مـحمد بن عمرو الـيافعي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبـي ربـاح قال: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا قال عطاء: الـخير فـيـما يرى الـمال. ثم اختلفوا فـي مبلغ الـمال الذي إذا تركه الرجل كان مـمن لزمه حكم هذه الآية، فقال بعضهم: ذلك ألف درهم. ذكر من قال ذلك: ٢١٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة فـي هذه الآية: إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ قال: الـخير: ألف فما فوقه. ٢١٣٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن عروة: أن علـيّ بن أبـي طالب دخـل علـى ابن عم له يعوده، فقال: إنـي أريد أن أوصي، فقال علـيّ: لا توص فإنك لـم تترك خيرا فتوصي قال: وكان ترك من السبعمائة إلـى تسعمائة. حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثنـي عثمان بن الـحكم الـحزامي وابن أبـي الزناد عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن علـيّ بن أبـي طالب: أنه دخـل علـى رجل مريض، فذكر له الوصية، فقال: لا توص إنـما قال اللّه : إنْ تَرَكَ خَيْرا وأنت لـم تترك خيرا. قال ابن أبـي الزناد فـيه: فدع مالك لبنـيك. ٢١٣٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور بن صفـية، عن عبد اللّه بن عيـينة أو عتبة، الشك منـي: أن رجلاً أراد أن يوصي وله ولد كثـير، وترك أربعمائة دينار، فقالت عائشة: ما أرى فـيه فضلاً. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبـيه قال: دخـل علـيّ علـى مولـى لهم فـي الـموت وله سبعمائة درهم أو ستـمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا، إنـما قال اللّه إنْ تَرَكَ خَيْرا ولـيس لك كثـير مال. وقال بعضهم: ذلك ما بـين الـخمسمائة درهم إلـى الألف. ذكر من قال ذلك: ٢١٣٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبـان بن إبراهيـم النـخعي فـي قوله: إنْ تَرَكَ خَيْرا قال: ألف درهم إلـى خمسمائة. وقال بعضهم: الوصية واجبة من قلـيـل الـمال وكثـيره. ذكر من قال ذلك: ٢١٣٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، قال: جعل اللّه الوصية حقا مـما قل منه أو كثر. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ ما قال الزهري لأن قلـيـل الـمال وكثـيره يقع علـيه خير، ولـم يحدّ اللّه ذلك بحدّ ولا خصّ منه شيئا فـيجوز أن يحال ظاهر إلـى بـاطن، فكل من حضرته منـيته وعنده مال قلّ ذلك أو كثر فواجب علـيه أن يوصى منه لـمن لا يرثه من آبـائه وأمهاته وأقربـائه الذين لا يرثونه بـمعروف، كما قال اللّه جل ذكره وآمره به. ١٨١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَن بَدّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنّمَا إِثْمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فمن غيّر ما أوصى به الـموصي من وصيته بـالـمعروف لوالديه أو أقربـيه الذين لا يرثونه بعد ما سمع الوصية فإنـما إثم التبديـل علـى من بدّل وصيته. فإن قال لنا قائل: وعلام عادت الهاء التـي فـي قوله فمن بدّله؟ قـيـل: علـى مـحذوف من الكلام يدلّ علـيه الظاهر، وذلك هو أمر الـميت وإيصاؤه إلـى من أوصى إلـيه بـما أوصى به لـمن أوصى له. ومعنى الكلام: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِـين بـالـمَعْروفِ حَقّا علـى الـمُتّقِـين فأوصوا لهم فمن بدل ما أوصيتـم به لهم بعد ما سمعكم توصون لهم، فإنـما إثم ما فعل من ذلك علـيه دونكم. وإنـما قلنا إن الهاء فـي قوله: فَمَنْ بَدّلَهُ عائدة علـى مـحذوف من الكلام يدل علـيه الظاهر لأن قوله: كُتِبَ عَلَـيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ من قوله اللّه ، وإن تبديـل الـمبدل إنـما يكون لوصية الـموصي، فأما أمر اللّه بـالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدله، فـيجوز أن تكون الهاء فـي قوله: فَمَنْ بَدّلَهُ عائده علـى الوصيةوأما الهاء فـي قوله: بَعْدَ مَا سمِعَهُ فعائدة علـى الهاء الأولـى فـي قوله: فَمَنْ بَدّلَهُ وأما الهاء التـي فـي قوله: فَإنـمَا إثْمُهُ فإنها مكنـي التبديـل كأنه قال: فإنـما إثم ما بدّل من ذلك علـى الذين يبدلونه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢١٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ قال: الوصية. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢١٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قوله: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّـمَا إثْمُهُ علـى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ وقد وقع أجر الـموصي علـى اللّه وبريء من إثمه، وأن كان أوصى فـي ضرار لـم تـجز وصيته، كما قال اللّه : غيرَ مُضَارّ. ٢١٤٠ـ حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها فإثم ما بدل علـيه. ٢١٤١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّـمَا إثْمُهُ علـى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ فمن بدل الوصية التـي أوصى بها وكانت بـمعروف، فإنـما إثمها علـى من بدلها أنه قد ظلـم. ٢١٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن قتادة أن عطاء بن أبـي ربـاح قال فـي قوله: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّـمَا إثْمُهُ علـى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ قال: يُـمْضَي كما قال. ٢١٤٣ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ قال: من بدل وصية بعد ما سمعها. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن فـي هذه الآية: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّـمَا إثْمُهُ علـى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ قال: هذا فـي الوصية من بدلها من بعد ما سمعها، فإنـما إثمه علـى من بدله. ٢١٤٤ـ حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى، قالا: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة، عن عطاء وسالـم بن عبد اللّه وسلـيـمان بن يسار أنهم قالوا: تُـمْضَى الوصية لـمن أَوْصَى له به إلـى ههنا انتهى حديث ابن الـمثنى، وزاد ابن بشار فـي حديثه قال قتادة: وقال عبد اللّه بن معمر: أعجب إلـيّ لو أوصى لذوي قرابته، وما يعجبنـي أن ننزعه مـمن أوصى له به. قال قتادة: وأعجبه إلـيّ لـمن أوصى له به، قال اللّه عز وجل: فَمَنْ بَدّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّـمَا إثْمُهُ علـى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن اللّه سميع لوصيتكم التـي أمرتكم أن توصوا بها لاَبـائكم وأمهاتكم وأقربـائكم حين توصون بها، أتعدلون فـيها علـى ما أذنت لكم من فعل ذلك بـالـمعروف، أم تـحيفون فتـميـلون عن الـحق وتـجورون عن القصد علـيـم بـما تـخفـيه صدوركم من الـميـل إلـى الـحقّ والعدل، أم الـجور والـحيف. ١٨٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَنْ خَافَ مِن مّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فقال بعضهم: تأويـلها: فمن حضر مريضا وهو يوصي عند إشرافه علـى الـموت، فخاف أن يخطىء فـي وصيته فـيفعل ما لـيس له أو أن يعمد جورا فـيها فـيأمر بـما لـيس له الأمر به، فلا حرج علـى من حضره فسمع ذلك منه أن يصلـح بـينه وبـين ورثته بأن يأمره بـالعدل فـي وصيته، وأن ينهاهم عن منعه مـما أذن اللّه له فـيه وأبـاحه له. ذكر من قال ذلك: ٢١٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: فَمَن خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أو إثما فأصلَـحَ بَـيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: هذا حين يحضر الرجل وهو يـموت، فإذا أسرف أمروه بـالعدل، وإذا قصر قالوا افعل كذا، أعط فلانا كذا. ٢١٤٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: فَمَنَ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفـا أو إثْما قال: هذا حين يحضر الرجل وهو فـي الـموت، فإذا أشرف علـى الـموت أمروه بـالعدل، وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانا كذا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من أوصياء ميت أو والـي أمر الـمسلـمين من موص جَنفـا فـي وصيته التـي أوصي بها الـميت، فأصلـح بـين ورثته وبـين الـموصى لهم بـما أوصى لهم به، فردّ الوصية إلـى العدل والـحق فلا حَر ج ولا إثم. ذكر من قال ذلك: ٢١٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، حدثنا أبو صالـح كاتب اللـيث، ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قوله فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفـا يعنـي إثما، يقول: إذا أخطأ الـميت فـي وصيته، أو حاف فـيها، فلـيس علـى الأولـياء حرج أن يردّوا خطأه إلـى الصواب. ٢١٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوّ إثْما قال: هو الرجل يوصي فـيحيف فـي وصيته فـيردها الولـيّ إلـى الـحق والعدل. ٢١٤٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثمْا وكان قتادة يقول: من أوصى بجور أو حيف فـي وصيته فردّها ولـيّ الـمتوفـى أو إمام من أئمة الـمسلـمين إلـى كتاب اللّه وإلـى العدل، فذاك له. ٢١٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما فمن أوصى بوصية بجور فردّه الوصيّ إلـى الـحقّ بعد موته فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال عبد الرحمن فـي حديثه: فأصلَـحَ بَـيْنَهُمْ يقول: ردّه الوصيّ إلـى الـحق بعد موته فلا إثم علـيه. ٢١٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا قبـيصة، عن سفـيان، عن أبـيه، عن إبراهيـم: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنفـا أوْ إثما فأصلَـحَ بَـيْنَهُمْ قال: ردّه إلـى الـحق. ٢١٥٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيـم، قال: سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث، قال: ارددها، ثم قرأ: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما. ٢١٥٣ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما فَأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: ردّه الوصيّ إلـى الـحقّ بعد موته فلا إثم علـى الوصي. وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما فـي عطيته عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض، فلا إثم علـى من أصلـح بـينهم، يعنـي بـين الورثة. ذكر من قال ذلك: ٢١٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما قال الرجل: يحيف أو يأثم عند موته فـيعطي ورثته بعضهم دون بعض، يقول اللّه : فلا إثم علـى الـمصلـح بـينهم. فقلت لعطاء: أله أن يعطي وارثه عند الـموت، إنـما هي وصية، ولا وصية لوارث؟ قال: ذلك فـيـما يقسم بـينهم. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفـا أو إثما فـي وصيته لـمن لا يرثه بـما يرجع نفعه علـى من يرثه فأصلـح بـين ورثته فلا إثم علـيه. ذكر من قال ذلك: ٢١٥٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي ابن طاوس، عن أبـيه أنه كان يقول: جَنَفُه وإثمه: أن يُوصِيَ الرجل لبنـي ابنه لـيكون الـمال لأبـيهم، وتوصي الـمرأة لزوج ابنتها لـيكون الـمال لابنتها، وذو الوارث الكثـير والـمال قلـيـل فـيوصي بثلث ماله كله فـيصلـح بـينهم الـموصَى إلـيه أو الأمير. قلت: أفـي حياته، أم بعد موته؟ قال: ما سمعنا أحدا يقول إلا بعد موته، وإنه لـيوعظ عند ذلك. ٢١٥٦ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن ابن طاوس، عن أبـيه فـي قوله: فَمَنُ خافَ مِنْ مُوصٍ جنَفَـا أوْ إثْما فأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ قال: هو الرجل يوصي لولد ابنته. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لاَبـائه وأقربـائه جنفـا علـى بعضهم لبعض فأصلـح بـين الاَبـاء والأقربـاء فلا إثم علـيه. ذكر من قال ذلك: ٢١٥٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أو إثْما فأصْلـحَ بَـيْنَهُم فَلا إثمَ عَلَـيْهِ أما جنفـا: فخطأ فـي وصيته وأما إثما: فعمدا يعمد فـي وصيته الظلـم، فإن هذا أعظم لأجره أن لا ينفذها، ولكن يصلـح بـينهم علـى ما يرى أنه الـحق ينقص بعضا ويزيد بعضا قال: ونزلت هذه الآية فـي الوالدين والأقربـين. ٢١٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما فأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ فَلا إثمَ عَلَـيْهِ قال: الـجنف: أن يحيف لبعضهم علـى بعض فـي الوصية، والإثم أن يكون قد أثم فـي أبويه بعضهم علـى بعض، فأصلـح بـينهم الـموصَى إلـيه بـين الوالدين والأقربـين الابن والبنون هم الأقربون، فلا إثم علـيه، فهذا الـموصَى الذي أوصى إلـيه بذلك وجعل إلـيه فرأى هذا قد أجنف لهذا علـى هذا فأصلـح بـينهم فلا إثم علـيه، فـيعجز الـموصَى أن يوصي كما أمره اللّه تعالـى وعجز الـموصَى إلـيه أن يصلـح فـانتزع اللّه تعالـى ذكره ذلك منهم ففرض الفرائض. وأولـى الأقوال فـي تأويـل الآية، أن يكون تأويـلها: فمن خاف من موص جنفـا أو إثما وهو أن يـميـل إلـى غير الـحقّ خطأ منه أو يتعمد إثما فـي وصيته بأن يوصي لوالديه وأقربـيه الذين لا يرثونه بأكثر مـما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن اللّه له به مـما جاوز الثلث، أو بـالثلث كله، وفـي الـمال قلة، وفـي الورثة كثرة، فلا بأس علـى من حضره أي يصلـح بـين الذين يوصَى لهم وبـين ورثة الـميت وبـين الـميت، بأن يأمر الـميت فـي ذلك بـالـمعروف، ويعرّفه ما أبـاح اللّه له فـي ذلك، وأذن له فـيه من الوصية فـي ماله، وينهاه أن يجاوز فـي وصيته الـمعروف الذي قال اللّه تعالـى ذكره فـي كتابه: كُتِبَ عَلَـيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ بـالـمَعْرُوفِ وذلك هو الإصلاح الذي قال اللّه تعالـى ذكره: فأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وكذلك لـمن كان فـي الـمال فضل وكثرة، وفـي الورثة قلة، فأراد أن يقصر فـي وصيته لوالديه وأقربـيه عن ثلثه، فأصلـح من حضره بـينه وبـين ورثته وبـين والديه وأقربـيه الذين يريد أن يوصي لهم بأن يأمر الـمريض أن يزيد فـي وصيته لهم، ويبلغ بها ما رخص اللّه فـيه من الثلث، فذلك أيضا هو من الإصلاح بـينهم بـالـمعروف. وإنـما اخترنا هذا القول لأن اللّه تعالـى ذكره قال: فَمَنْ خافَ مِن مُوصٍ جَنَفـا أوْ إثْما يعنـي بذلك: فمن خاف من موص أن يجنف أو يأثم. فخوف الـجنف والإثم من الـموصي إنـما هو كائن قبل وقوع الـجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه فلا وجه للـخوف منه بأن يجنف أو يأثم، بل تلك حال من قد جنف أو أثم، ولو كان ذلك معناه قـيـل: فمن تبـين من موص جنفـا أو إثما، أو أيقن أو علـم، ولـم يقل فمن خاف منه جنفـا. فإن أشكل ما قلنا من ذلك علـى بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذٍ والإصلاح إنـما يكون بـين الـمختلفـين فـي الشيء؟ قـيـل: إن ذلك وإن كان من معانـي الإصلاح، فمن الإصلاحِ الإصلاحُ بـين الفريقـين فـيـما كان مخوفـا حدوث الاختلاف بـينهم فـيه بـما يؤمن معه حدوث الاختلاف لأن الإصلاح إنـما هو الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البـين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البـين قبل وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه. فإن قال قائل: فكيف قـيـل: فأصلـح بـينهم، ولـم يجر للورثة ولا للـمختلفـين أو الـمخوف اختلافهم ذكر؟ قـيـل: بل قد جرى ذكر اللّه الذين أمر تعالـى ذكره بـالوصية لهم، وهم والدا الـموصي وأقربوه والذين أمروا بـالوصية فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ بـالـمَعْرُوفِ ثم قال تعالـى ذكره: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍلـمن أمرته بـالوصية له جنَفَـا أوْ إثْما فأصْلَـحَ بَـيْنَهُمْ وبـين من أمرته بـالوصية له، فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ والإصلاح بـينه وبـينهم هو إصلاح بـينهم وبـين ورثة الـموصي. وقد قرىء قوله: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ بـالتـخفـيف فـي الصاد والتسكين فـي الواو وبتـحريك الواو وتشديد الصاد، فمن قرأ ذلك بتـخفـيف الصاد وتسكين الواو فإنـما قرأه بلغة من قال: أوصيت فلانا بكذا. ومن قرأ بتـحريك الواو وتشديد الصاد قرأه بلغة من يقول: وصيّت فلانا بكذا، وهما لغتان للعرب مشهورتان وصيتك وأوصيتكوأما الـجنف فهو الـجور والعدول عن الـحق فـي كلام العرب، ومنه قول الشاعر: هُمُ الـمَوْلـى وَإنْ جَنَفُوا عَلَـيْناوَإنّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ يقال منه: جنف الرجل علـى صاحبه يجنف: إذا مال علـيه وجار جَنَفـا. فمعنى الكلام: من خاف من موص جنفـا له بـموضع الوصية، وميلاً عن الصواب فـيها، وجورا عن القصد أو إثما، بتعمده ذلك علـى علـم منه بخطأ ما يأتـي من ذلك فأصلـح بـينهم، فلا إثم علـيه. ذكر من قال ذلك: ٢١٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا يعنـي بـالـجنف: الـخطأ. ٢١٦٠ـ حدثنـي أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الـملك، عن عطاء: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا قال: ميلاً. ٢١٦١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء، مثله. ٢١٦٢ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا خالد بن الـحرث ويزيد بن هارون، قالا: حدثنا عبد الـملك، عن عطاء مثله. ٢١٦٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: الـجنف: الـخطأ، والإثم: العمد. ٢١٦٤ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا الزبـيري، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن عطاء مثله. ٢١٦٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا أوْ إثْما أما جنفـا: فخطأ فـي وصيته وأما إثما: فعمد يعمد فـي وصيته الظلـم. ٢١٦٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا قال: جنفـا إثما. ٢١٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبـي جعفر عن أبـي جعفر، عن الربـيع: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا أوْ إثْما قال: الـجنف: الـخطأ، والإثم: العمد. ٢١٦٨ـ حدثنا عمرو بن علـي، قال: حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع بن أنس، مثله. ٢١٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا قبـيصة، عن سفـيان، عن أبـيه، عن إبراهيـم: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا أوْ إثْما قال: الـجنف: الـخطأ، والإثم: العمد. ٢١٧٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فضيـل بن مرزوق، عن عطية: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا قال: خطأ، أو إثما متعمدا. ٢١٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن ابن طاوس، عن أبـيه: فَمَنْ خَافَ مِنْ موصٍ جَنَفـا قال: ميلاً. ٢١٧٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: جَنَفـا حيفـا، والإثم: ميـله لبعض علـى بعض، وكله يصير إلـى واحد كما يكون عفوّا غَفُورا وغفورا رحيـما. ٢١٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : الـجنف: الـخطأ، والإثم: العمد. ٢١٧٤ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: حدثنا الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك ، قال: الـجنف: الـخطأ، والإثم العمد. وأما قوله: إنّ اللّه غٍفُورٌ رَحيـمٌ فإنه يعنـي: واللّه غفور رحيـم للـموصي فـيـما كان حدّث به نفسه من الـجنف والإثم، إذا ترك أن يأثم ويجنف فـي وصيته، فتـجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الـجور، إذ لـم يُـمْضِ ذلك فـيغفل أن يؤاخذه به، رحيـم بـالـمصلـح بـين الـموصي وبـين من أراد أن يحيف علـيه لغيره أو يأثم فـيه له. ١٨٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى:. {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ...} يعنـي اللّه تعالـى ذكره بقوله: يا أيّها الّذين آمَنُوا يا أيها الذين آمنوا بـاللّه ورسوله، وصدّقوا بهما وأقرّوا. ويعنـي بقوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ فرض علـيكم الصيام، والصيام مصدر من قول القائل: صمت عن كذا وكذا، يعنـي كففت عنه، أصوم عنه صوما وصياما، ومعنى الصيام: الكفّ عما أمر اللّه بـالكف عنه ومن ذلك قـيـل: صامت الـخيـل إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان: خَيْـلٌ صِيامٌ وخَيْـلٌ غَيْرُ صَائمةٍتَـحْتَ العَجاجِ وأخْرَى تَعْلُكُ اللّـجُما ومنه قول اللّه تعالـى ذكره إنّـي نَذَرتُ للرّحمَنِ صَوْما يعنـي صمتا عن الكلام. وقوله كَمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعنـي: فرض علـيكم مثل الذي فرض علـى الذين من قبلكم. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى اللّه بقوله: كَمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وفـي الـمعنى الذي وقع فـيه التشبـيه بـين فرض صومنا وصوم الذين من قبلنا، فقال بعضهم: الذين أخبرنا اللّه عن الصوم الذي فرضه علـينا أنه كمثل الذي كان علـيهم هم النصارى، و قالوا: التشبـيه الذي شبه من أجله أحدهما بصاحبه هو اتفـاقهما فـي الوقت والـمقدار الذي هو لازم لنا الـيوم فرضه. ذكر من قال ذلك: ٢١٧٥ـ حدثت عن يحيى بن زياد، عن مـحمد بن أبـان، عن أبـي أمية الطنافسي، عن الشعبـي أنه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت الـيوم الذي يشكّ فـيه فـيقال من شعبـان ويقال من رمضان، وذلك أن النصارى فرض علـيهم شهر رمضان كما فرض علـينا فحوّلوه إلـى الفصل، وذلك أنهم كانوا ربـما صاموه فـي القـيظ يعدّون ثلاثـين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بـالثقة من أنفسهم فصاموا قبل الثلاثـين يوما وبعدها يوما، ثم لـم يزل الاَخر يستنّ سنة القرن الذي قبله حتـى صارت إلـى خمسين، فذلك قوله:كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصيّامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وقال آخرون: بل التشبـيه إنـما هو من أجل أن صومهم كان من العشاء الاَخرة إلـى العشاء الاَخرة، وذلك كان فرض اللّه جل ثناؤه علـى الـمؤمنـين فـي أوّل ما افترض علـيهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلـي القول الأول أن الذين عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ النصارى. ذكر من قال ذلك: ٢١٧٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ أما الذين من قبلنا فـالنصارى، كتب علـيهم رمضان، وكتب علـيهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان. فـاشتدّ علـى النصارى صيام رمضان، وجعل يقلب علـيهم فـي الشتاء والصيف فلـما رأوا ذلك اجتـمعوا فجعلوا صياما فـي الفصل بـين الشتاء والصيف، و قالوا: نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا. فجعلوا صيامهم خمسين، فلـم يزل الـمسلـمون علـى ذلك يصنعون كما تصنع النصارى، حتـى كان من أمر أبـي قـيس بن صرمة وعمر بن الـخطاب ما كان، فأحل اللّه لهم الأكل والشرب والـجماع إلـى طلوع الفجر. ٢١٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال: كتب علـيهم الصوم من العتـمة إلـى العتـمة. وقال آخرون: الذين عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: ٢١٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أهل الكتاب. وقال بعضهم: بل ذلك كان علـى الناس كلهم. ذكر من قال ذلك: ٢١٧٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال: كتب شهر رمضان علـى الناس، كما كتب علـى الذين من قبلهم قال: وقد كتب اللّه علـى الناس قبل أن ينزل رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر. ٢١٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كَما كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ رمضان كتبه اللّه علـى من كان قبلهم. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا فرض علـيكم الصيام كما فرض علـى الذين من قبلكم من أهل الكتاب، أياما معدودات، وهي شهر رمضان كله لأن من بعد إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم كان مأمورا بـاتبـاع إبراهيـم، وذلك أن اللّه جل ثناؤه كان جعله للناس إماما، وقد أخبرنا اللّه عزّ وجل أن دينه كان الـحنـيفـية الـمسلـمة، فأمر نبـينا صلى اللّه عليه وسلم بـمثل الذي أمر به من قبله من الأنبـياء. وأما التشبـيه فإنـما وقع علـى الوقت، وذلك أن من كان قبلنا إنـما كان فرض علـيهم شهر رمضان مثل الذي فرض علـينا سواء. وأما تأويـل قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُون فإنه يعنـي به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فـيه، يقول: فرضت علـيكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكفّ عنه مفطرين لتتقوا ما يفطركم فـي وقت صومكم. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك: ٢١٨١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ يقول: فتتقون من الطعام والشرب والنساء مثل ما اتقوا، يعنـي مثل الذي اتقـى النصارى قبلكم. ١٨٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً ... } يعنـي تعالـى ذكره: كتب علـيكم أيها الذين آمنوا الصيام أياما معدودات. ونصب (أياما) بـمضمر من الفعل، كأنه قـيـل: كتب علـيكم الصيام كما كتب علـى الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات، كما يقال: أعجبنـي الضرب زيدا وقوله: كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الصيام، كأنه قـيـل: كتب علـيكم الذي هو مثل الذي كتب علـى الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـما عنى اللّه جل وعز بقوله: أيّاما مَعْدُودَاتٍ فقال بعضهم: الأيام الـمعدودات: صوم ثلاثة أيام من كل شهر قال: وكان ذلك الذي فرض علـى الناس من الصيام قبل أن يفرض علـيهم شهر رمضان. ذكر من قال ذلك: ٢١٨٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: كان علـيهم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولـم يسمّ الشهر أياما معدودات، قال: وكان هذا صيام الناس قبل ثم فرض اللّه عز وجل علـى الناس شهر رمضان. ٢١٨٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ وكان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك بـالذي أنزل من صيام رمضان، فهذا الصوم الأول من العتـمة. ٢١٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن معاذ بن جبل: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدم الـمدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل اللّه جل وعز فرض شهر رمضان، فأنزل اللّه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكم الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ حتـى بلغ: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. ٢١٨٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرناعبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قد كتب اللّه تعالـى ذكره علـى الناس قبل أن ينزل رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر. وقال آخرون: بل الأيام الثلاثة التـي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصومها قبل أن يفرض رمضان كان تطوّعا صومهن، وإنـما عنى اللّه جل وعز بقوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... أيّاما مَعْدُوداتٍ أيام شهر رمضان، لا الأيام التـي كان يصومهن قبل وجوب فرض صوم شهر رمضان. ذكر من قال ذلك: ٢١٨٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال: حدثنا أصحابنا: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما قدم علـيهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوّعا لا فريضة قال: ثم نزل صيام رمضان قال أبو موسى: قوله قال عمرو بن مرة، حدثنا أصحابنا، يريد ابن أبـي لـيـلـى، كان ابن أبـي لـيـلـى القائل حدثنا أصحابنا. ٢١٨٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبـي لـيـلـى، فذكر نـحوه. وقد ذكرنا قوله من قال: عنى بقوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شهر رمضان. وأولـى ذلك بـالصواب عندي قول من قال: عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: أيّاما مَعْدُودَاتٍ أيام شهر رمضان، وذلك أنه لـم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوما فرض علـى أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن اللّه تعالـى قد بـين فـي سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علـينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبـانته، عن الأيام التـي أخبر أنه كتب علـينا صومها بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِـيهِ القُرآنُ فمن ادعى أن صوما كان قد لزم الـمسلـمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذين هم مـجمعون علـى وجوب فرض صومه ثم نسخ ذلك سئل البرهان علـى ذلك من خبر تقوم به حجة، إذ كان لا يعلـم ذلك إلا بخبر يقطع العذر. وإذ كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا للذي بـينا، فتأويـل الآية: كتب علـيكم أيها الـمؤمنون الصيام كما كتب علـى الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات، هي شهر رمضان. وجائز أيضا أن يكون معناه: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيَامُ: كتب علـيكم شهر رمضان. وأما الـمعدودات: فهي التـي تعد مبـالغها وساعات أوقاتها، ويعنـي بقوله معدودات: مـحصيات. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ، وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين. يعنـي بقوله جل ثناؤه: من كان منكم مريضا مـمن كلف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان علـى سفر فعدة من أيام أخر. يقول: فعلـيه صوم عدّة الأيام التـي أفطرها فـي مرضه أو فـي سفره من أيام أخر، يعنـي من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره. والرفع فـي قوله: فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر نظير الرفع فـي قوله: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وقد مضى بـيان ذلك هنالك بـما أغنى عن إعادته. وأما قوله:وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين فإن قراءة كافة الـمسلـمين: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ وعلـى ذلك خطوط مصاحفهم، وهي القراءة التـي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافها لنقل جميعهم تصويب ذلك قرنا عن قرن. وكان ابن عبـاس يقرؤها فـيـما رُوِي عنه: (وعلـى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ). ثم اختلف قرّاء ذلك: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فـي معناه، فقال بعضهم: كان ذلك فـي أوّل ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من الـمقـيـمين صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينا حتـى نسخ ذلك. ذكر من قال ذلك: ٢١٨٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن معاذ بن جبل قال: (إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدم الـمدينة، فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إن اللّه جل وعز فرض شهر رمضان، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ حتـى بلغ: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا. ثم إن اللّه عز وجل أوجب الصيام علـى الصحيح الـمقـيـم وثبت الإطعام للكبـير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل اللّه عز وجل: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ... إلـى آخر الآية). ٢١٨٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: حدثنا أصحابنا (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما قدم علـيهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا غير فريضة، قال: ثم نزل صيام رمضان، قال: وكانوا قوما لـم يتعوّدوا الصيام، قال: وكان يشتدّ علـيهم الصوم، قال: فكان من لـم يصم أطعم مسكينا، ثم نزلت هذه الآية:فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ فكانت الرخصة للـمريض والـمسافر، وأمرنا بـالصيام). قال مـحمد بن الـمثنى: قوله قال عمرو، حدثنا أصحابنا: يريد ابن أبـي لـيـلـى، كأن ابن أبـي لـيـلـى القائل حدثنا أصحابنا. ٢١٩٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبـي لـيـلـى فذكر نـحوه. ٢١٩١ـ حدثنا ابن حميد،قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، عن علقمة فـي قوله: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينا، فنسخها شَهْرُ رَمَضَانَ إلـى قوله: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢١٩٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم بنـحوه، وزاد فـيه قال: فنسختها هذه الآية، وصارت الآية الأولـى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم يتصدّق مكان كل يوم علـى مسكين نصف صاع. ٢١٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح أبو تـميـلة، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري قوله: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين فكان من شاء منهم أن يصوم صام، ومن شاء منهم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى وتـمّ له صومه. ثم قال: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ ثم استثنى من ذلك فقال: وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر. ٢١٩٤ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سألت الأعمش عن قوله: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين فحدثنا عن إبراهيـم عن علقمة، قال: نسختها: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢١٩٥ـ حدثنا عمر بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نسخت هذه الآية يعنـي: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين التـي بعدها: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ. ٢١٩٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة فـي قوله: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين قال: نسختها: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢١٩٧ـ حدثنا الولـيد بن شجاع أبو همام، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبـي قال: نزلت هذه الآية: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين كان الرجل يفطر فـيتصدّق عن كل يوم علـى مسكين طعاما، ثم نزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ فلـم تنزل الرخصة إلا للـمريض والـمسافر. ٢١٩٨ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبـي، قال: نزلت هذه الآية للناس عامة: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين وكان الرجل يفطر ويتصدّق بطعامه علـى مسكين، ثم نزلت هذه الآية: وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ قال: فلـم تنزل الرخصة إلا للـمريض والـمسافر. ٢١٩٩ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبـي لـيـلـى، قال: دخـلت علـى عطاء وهو يأكل فـي شهر رمضان فقال: إنـي شيخ كبـير إن الصوم نزل، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا، حتـى نزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر فوجب الصوم علـى كل أحد إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبـير مثلـي يفتدي. ٢٢٠٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي اللـيث، قال: أخبرنـي يونس عن ابن شهاب، قال: قال اللّه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال ابن شهاب: كتب اللّه الصيام علـينا، فكان من شاء افتدى مـمن يطيق الصيام من صحيح أو مريض أو مسافر، ولـم يكن علـيه غير ذلك. فلـما أوجب اللّه علـى من شهد الشهر الصيام، فمن كان صحيحا يطيقه وضع عنه الفدية، وكان من كان علـى سفر أو كان مريضا فعدة من أيام أخر قال: وبقـيت الفدية التـي كانت تقبل قبل ذلك للكبـير الذي لا يطيق الصيام، والذي يعرض له العطش أو العلة التـي لا يستطيع معها الصيام. ٢٢٠١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: جعل اللّه فـي الصوم الأول فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقـيـم أن يطعم مسكينا ويفطر كان ذلك رخصة له، فأنزل اللّه فـي الصوم الاَخر: فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ ولـم يذكر اللّه فـي الصوم الاَخر فدية طعام مسكين، فنسخت الفدية، وثبت فـي الصوم الاَخر: يُريدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وهو الإفطار فـي السفر، وجعله عدة من أيام أخر. ٢٢٠٢ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: أخبرنـي عمي عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحرث، قال بكر بن عبد اللّه ، عن يزيد مولـى سلـمة بن الأكوع، عن سلـمة بن الأكوع أنه قال: كنا فـي عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين، حتـى أنزلت: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢٢٠٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن عاصم الأحول، عن الشعبـي فـي قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين قال: كانت الناس كلهم، فلـما نزلت: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ أمروا بـالصوم والقضاء، فقال: وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر. ٢٢٠٤ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيـم فـي قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين قال: نسختها الآية التـي بعدها: وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُـمْ تَعْلَـمُون. ٢٢٠٥ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن مـحمد بن سلـيـمان، عن ابن سيرين، عن عبـيدة: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: نسختها الآية التـي تلـيها: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢٢٠٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: حدثنا الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ الآية، فرض الصوم من العتـمة إلـى مثلها من القابلة، فإذا صلـى الرجل العتـمة حرم علـيه الطعام والـجماع إلـى مثلها من القابلة، ثم نزل الصوم الاَخر بإحلال الطعام والـجماع بـاللـيـل كله، وهوقوله: وكُلُوا وَاشرَبُوا حّتـى يتبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ إلـى قوله: ثُمّ أتـمّوا الصّيامَ إلـى اللّـيْـلِ وأحلّ الـجماع أيضا فقال: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِساِئكُمْ وكان فـي الصوم الأول الفدية، فمن شاء من مسافر أو مقـيـم أن يطعم مسكينا ويفطر فعل ذلك، ولـم يذكر اللّه تعالـى ذكره فـي الصوم الاَخر الفدية، وقال: فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ فنسخ هذا الصوم الاَخر الفدية. وقال آخرون: بل كان قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين حكما خاصا للشيخ الكبـير والعجوز اللذين يطيقان الصوم كان مرخصا لهما أن يفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم فـيكون ذلك الـحكم الذي كان لهما قبل النسخ ثابتا لهما حينئذ بحاله. ذكر من قال ذلك: ٢٢٠٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عروة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: كان الشيخ الكبـير والعجوز الكبـيرة وهما يطيقان الصوم رخص لهما أن يفطرا إن شاءا ويطعما لكل يوم مسكينا، ثم نسخ ذلك بعد ذلك: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر وثبت للشيخ الكبـير والعجوز الكبـيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللـحبلـى والـمرضع إذا خافتا. ٢٢٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: الشيخ الكبـير والعجوز الكبـيرة، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد. ٢٢٠٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة، عن عكرمة، قال: كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويطعما بقوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: فكانت لهم الرخصة، ثم نسخت بهذه الآية: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم، وبقـيت الـحامل والـمرضع أن يفطرا ويطعما. ٢٢١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: سمعت قتادة يقول فـي قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: كان فـيها رخصة للشيخ الكبـير والعجوز الكبـيرة وهما يطيقان الصوم أن يطعما مكان كل يوم مسكينا ويفطرا، ثم نسخ ذلك بـالآية التـي بعدها فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ إلـى قوله: فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلـم يرون ويرجون الرخصة تثبت للشيخ الكبـير والعجوز الكبـيرة إذا لـم يطيقا الصوم أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينا، وللـحبلـى إذا خشيت علـى ما فـي بطنها، وللـمرضع إذا ما خشيت علـى ولدها. ٢٢١١ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله:وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان، فأحلّ اللّه لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك، وعلـيهما الفدية لكل يوم يفطرانه طعام مسكين، فأنزل اللّه بعد ذلك: شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِـيهِ القُرآنُ إلـى قوله: فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر. وقال آخرون مـمن قرأ ذلك: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ لـم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبت من لدن نزلت هذه الآية إلـى قـيام الساعة. و قالوا: إنـما تأويـل ذلك: علـى الذين يطيقونه وفـي حال شبـابهم وحداثتهم، وفـي حال صحتهم وقوتهم إذا مرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم فدية طعام مسكين لا أن القوم كان رخص لهم فـي الإفطار وهم علـى الصوم قادرون إذا افتدوا. ذكر من قال ذلك: ٢٢١٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين قال: أما الذين يطيقونه فـالرجل كان يطيقه وقد صام قبل ذلك ثم يعرض له الوجع أو العطش أو الـمرض الطويـل، أو الـمرأة الـمرضع لا تستطيع أن تصوم فإن أولئك علـيهم مكان كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينا فهو خير له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خير له. ٢٢١٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة عن عروة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: إذا خافت الـحامل علـى نفسها والـمرضع علـى ولدها فـي رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينا ولا يقضيان صوما. ٢٢١٤ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، أنه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعا، فقال: أنت بـمنزلة الذي لا يطيقه، علـيك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينا ولا قضاء علـيك. ٢٢١٥ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد، عن نافع، عن علـيّ بن ثابت، عن ابن عمر مثل قول ابن عبـاس فـي الـحامل والـمرضع. ٢٢١٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن ابن عبـاس قال لأم ولد له حبلـى أو مرضع: أنت بـمنزلة الذين لا يطيقونه، علـيك الفداء ولا صوم علـيك. هذا إذا خافت علـى نفسها. ٢٢١٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين هو الشيخ الكبـير كان يطيق صوم شهر رمضان وهو شاب فكبر، وهو لا يستطيع صومه فلـيتصدّق علـى مسكين واحد لكل يوم أفطره حين يفطر وحين يتسحر. ٢٢١٨ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس نـحوه، غير أنه لـم يقل حين يفطر وحين يتسحر. ٢٢١٩ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن الـمسيب أنه قال: فـي قول اللّه تعالـى ذكره: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: هو الكبـير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه، وهي الـحامل التـي لـيس علـيها الصيام. فعلـى كل واحد منهما طعام مسكين، مدّ من حنطة لكل يوم حتـى يـمضي رمضان. وقرأ ذلك آخرون: (وَعلـى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين) و قالوا: إنه الشيخ الكبـير والـمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفـان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم أفطراه مسكينا. و قالوا: الآية ثابتة الـحكم منذ أنزلت لـم تنسخ، وأنكروا قول من قال إنها منسوخة. ذكر من قال ذلك: ٢٢٢٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: (يُطَوّقُونَه). ٢٢٢١ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عصام، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ: (وَعلـى الّذِينَ يُطَوّقونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين) قال: فكان يقول: هي للناس الـيوم قائمة. ٢٢٢٢ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: (وعلـى الّذِينَ يُطَوّقونه فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين) قال: وكان يقول هي للناس الـيوم قائمة. ٢٢٢٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا قبـيصة، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: (وعلـى الّذِينَ يُطَوّقونه) و يقول: هو الشيخ الكبـير يفطر ويطعم عنه. ٢٢٢٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة أنه قال فـي هذه الآية: (وعلـى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ) وكذلك كان يقرؤها: أنها لـيست منسوخة كلف الشيخ الكبـير أن يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا. ٢٢٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير أنه قرأ: (وعلـى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ). ٢٢٢٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن عكرمة، قال: الذين يطيقونه يصومونه ولكن الذين يطوّقونه يعجزون عنه. ٢٢٢٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: حدثنـي مـحمد بن عبـاد بن جعفر، عن أبـي عمرو مولـى عائشة أن عائشة كانت تقرأ: (يُطَوّقُونَه). ٢٢٢٨ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء أنه كان يقرؤها: (يُطَوّقُونَه) قال ابن جريج: وكان مـجاهد يقرؤها كذلك. ٢٢٢٩ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا خالد، عن عكرمة: (وَعلـى الّذِينَ يُطيقُونَهُ) قال: قال ابن عبـاس : هو الشيخ الكبـير. ٢٢٣٠ـ حدثنا إسماعيـل بن موسى السدي، قال: أخبرنا شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : (وَعلـى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ) قال: يتـجشمونه، يتكلفونه. ٢٢٣١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن مسلـم الـملائي، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: (وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين) قال: الشيخ الكبـير الذي لا يطيق فـيفطر ويطعم كل يوم مسكينا. ٢٢٣٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وعطاء عن ابن عبـاس فـي قول اللّه : وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: يكلفونه، فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين واحد، قال: فهذه آية منسوخة لا يرخص فـيها إلا للكبـير الذي لا يطيق الصيام، أو مريض يعلـم أنه لا يشفـى. ٢٢٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عبـاس ، قال: الّذِينَ يُطيقُونَهُ يتكفلونه فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين واحد، ولـم يرخص هذا إلا للشيخ الذي لا يطيق الصوم، أو الـمريض الذي يعلـم أنه لا يشفـى هذا عن مـجاهد. ٢٢٣٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس أنه كان يقول: لـيست بـمنسوخة. ٢٢٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قوله: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين يقول: من لـم يطق الصوم إلا علـى جهد فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا، والـحامل والـمرضع والشيخ الكبـير والذي به سقم دائم. ٢٢٣٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبـيدة، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: هو الشيخ الكبـير والـمرء الذي كان يصوم فـي شبـابه، فلـما كبر عجز عن الصوم قبل أن يـموت، فهو يطعم كل يوم مسكينا. قال هناد: قال عبـيدة: قـيـل لـمنصور الذي يطعم كل يوم نصف صاع؟ قال: نعم. ٢٢٣٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود، قال: سألت مـجاهدا عن امرأة لـي وافق تاسعها شهر رمضان، ووافق حرّا شديدا، فأمرنـي أن تفطر وتطعم قال: وقال مـجاهد: وتلك الرخصة أيضا فـي الـمسافر والـمريض، فإن اللّه يقول:وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين. ٢٢٣٨ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: الـحامل والـمرضع والشيخ الكبـير الذي لا يستطيع الصوم يفطرون فـي رمضان، ويطعمون عن كل يوم مسكينا. ثم قرأ: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين. ٢٢٣٩ـ حدثنا علـيّ بن سعد الكندي، قال: حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبـي إسحاق، عن الـحرث، عن علـيّ فـي قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: الشيخ الكبـير الذي لا يستطيع الصوم يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا. ٢٢٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عبـاس قال: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين قال: هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه، الشيخ والشيخة. ٢٢٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن الـحجاج، عن أبـي إسحاق، عن الـحرث، عن علـيّ قال: هو الشيخ والشيخة. ٢٢٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن عكرمة أنه كان يقرؤها: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فأفطروا. ٢٢٤٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن عاصم عمن حدثه، عن ابن عبـاس ، قال: هي مثبتة للكبـير والـمرضع والـحامل وعلـى الذين يطيقون الصيام. ٢٢٤٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَه؟ قال: بلغنا أن الكبـير إذا لـم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بـمسكين، قلت: الكبـير الذي لا يستطيع الصوم، أو الذي لا يستطيعه إلا بـالـجهد؟ قال: بل الكبـير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء، فأما من استطاع بجهد فلـيصمه ولا عذر له فـي تركه. ٢٢٤٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن أبـي يزيد: وعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ الآية، كأنه يعنـي الشيخ الكبـير. قال ابن جريج: وأخبرنـي ابن طاوس عن أبـيه أنه كان يقول: نزلت فـي الكبـير الذي لا يستطيع صيام رمضان فـيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له: كم طعامه؟ قال: لا أدري، غير أنه قال: طعام يوم. ٢٢٤٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الـحسن بن يحيى، عن الضحاك فـي قوله: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين قال: الشيخ الكبـير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم كل يوم مسكينا. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين منسوخ بقول اللّه تعالـى ذكره: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ لأن الهاء التـي فـي قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ من ذكر الصيام. ومعناه: وعلـى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الـجميع من أهل الإسلام مـجمعين علـى أن من كان مطيقا من الرجال الأصحاء الـمقـيـمين غير الـمسافرين صوم شهر رمضان فغير جائز له الإفطار فـيه والافتداء منه بطعام مسكين، كان معلوما أن الآية منسوخة. هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبـار التـي ذكرناها آنفـا عن معاذ بن جبل وابن عمر وسلـمة بن الأكوع، من أنهم كانوا بعد نزول هذه الآية علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي صوم شهر رمضان بـالـخيار بـين صومه وسقوط الفدية عنهم، وبـين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم، وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتـى نزلت: فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ فألزموا فرض صومه، وبطل الـخيار والفدية. فإن قال قائل: وكيف تدعي إجماعا من أهل الإسلام علـى أن من أطاق صومه وهو بـالصفة التـي وصفت فغير جائز له إلا صومه، وقد علـمت قول من قال: الـحامل والـمرضع إذا خافتا علـى أولادهما لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الـخبر الذي رُوي فـي ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي: ٢٢٤٧ـ حدثنا به هناد بن السري، قال: حدثنا قبـيصة، عن سفـيان، عن أيوب، عن أبـي قلابة، عن أنس، قال: أتـيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يتغدى فقال: (تَعالَ أُحدّثْكَ، إن اللّه وَضَعَ عَنِ الـمُسافِرِ وَالـحامِلِ وَالـمُرْضِعِ الصّوْمَ وَشَطْرَ الصّلاة). قـيـل: إنا لـم نّدع إجماعا فـي الـحامل والـمرضع، وإنـما ادعينا فـي الرجال الذين وصفنا صفتهم. فأما الـحامل والـمرضع فإنـما علـمنا أنهنّ غير معنـيات بقوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ وخلا الرجال أن يكونوا معنـيـين به لأنهنّ لو كنّ معنـيات بذلك دون غيرهن من الرجال لقـيـل: وعلـى اللواتـي يطقنه فدية طعام مسكين لأن ذلك كلام العرب إذا أفرد الكلام بـالـخبر عنهن دون الرجال فلـما قـيـل: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان معلوما أن الـمعنـيّ به الرجال دون النساء، أو الرجال والنساء. فلـما صحّ بإجماع الـجميع علـى أن من أطاق من الرجال الـمقـيـمين الأصحاء صوم شهر رمضان فغير مرخص له فـي الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنـيـين بـالآية، وعلـم أن النساء لـم يردن بها لـما وصفنا من أن الـخبر عن النساء إذا انفرد الكلام بـالـخبر عنهن وعلـى اللواتـي يطقنه، والتنزيـل بغير ذلك. وأما الـخبر الذي رُوي عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فإنه إن كان صحيحا، فإنـما معناه أنه وضع عن الـحامل والـمرضع الصوم ما دامتا عاجزتـين عنه حتـى تطيقا فتقضيا، كما وضع عن الـمسافر فـي سفره حتـى يقـيـم فـيقضيه، لا أنهما أمرتا بـالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان فـي قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه وَضَعَ عَنِ الـمُسافِرِ وَالـمُرْضِعِ وَالـحامِلِ الصّوْمَ) دلالة علـى أنه صلى اللّه عليه وسلم إنـما عنى أن اللّه تعالـى ذكره وضع عنهم بقوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين لوجب أن لا يكون علـى الـمسافر إذا أفطر فـي سفره قضاء، وأن لا يـلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية لأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قد جمع بـين حكمه وبـين حكم الـحامل والـمرضع، وذلك قول إن قاله قائل خلاف لظاهر كتاب اللّه ولـما أجمع علـيه جميع أهل الإسلام. وقد زعم بعض أهل العربـية من أهل البصرة أن معنى قوله: وَعلـى الّذِينَ يُطِيقُونَه وعلـى الذين يطيقون الطعام، وذلك لتأويـل أهل العلـم مخالف. وأما قراءة من قرأ ذلك: (وَعلـى الّذِينَ يُطَوّقُونَه) فقراءة لـمصاحف أهل الإسلام خلاف، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بـالرأي علـى ما نقله الـمسلـمون وراثة عن نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم نقلاً ظاهرا قاطعا للعذر، لأن ما جاءت به الـحجة من الدين هو الـحق الذي لا شك فـيه أنه من عند اللّه ، ولا يعترض علـى ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند اللّه بـالاَراء والظنون والأقوال الشاذة. وأما معنى (الفدية) فإنه الـجزاء من قولك: فديت هذا بهذا: أي جزيته به، وأعطيته بدلاً منه. ومعنى الكلام: وعلـى الذين يطيقون الصيام جزاء طعام مسكين لكل يوم أفطره من أيام صيامه الذي كتب علـيه. وأما قوله: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين فإن القرّاء مختلفة فـي قراءته، فبعض يقرأ بإضافة الفدية إلـى الطعام، وخفض الطعام وذلك قراءة معظم قرّاء أهل الـمدينة بـمعنى: وعلـى الذين يطيقونه أن يفدوه طعام مسكين فلـما جعل مكان أن يفديه الفدية أضيف إلـى الطعام، كما يقال: لزمنـي غرامة درهم لك بـمعنى لزمنـي أن أغرم لك درهما، وآخرون يقرءونه بتنوين الفدية ورفع الطعام بـمعنى الإبـانة فـي الطعام عن معنى الفدية الواجبة علـى من أفطر فـي صومه الواجب، كما يقال لزمنـي غرامةُ درهمٍ لك، فتبـين بـالدرهم عن معنى الغرامة ما هي وما حدّها، وذلك قراءة عُظْم قرّاء أهل العراق. وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: (فِديةُ طعَام) بإضافة الفدية إلـى الطعامِ، لأن الفدية اسم للفعل، وهي غير الطعام الـمفدى به الصوم. وذلك أن الفدية مصدر من قول القائل: فديت صوم هذا الـيوم بطعام مسكين، أفديه فدية، كما يقال: جلست جلسة، ومشيت مشية، والفدية فعل والطعام غيرها. فإذا كان ذلك كذلك، فبَـيّنٌ أن أصحّ القراءتـين إضافة الفدية إلـى الطعام، وواضح خطأ قول من قال: إن ترك إضافة الفدية إلـى الطعام أصحّ فـي الـمعنى من أجل أن الطعام عنده هو الفدية. فـيقال لقائل ذلك: قد علـمنا أن الفدية مقتضية مفديّا ومفديّا به وفدية، فإن كان الطعام هو الفدية والصوم هو الـمفدى به، فأين اسم فعل الـمفتدى الذي هو فدية؟ إن هذا القول خطأ بـين غير مشكلوأما الطعام فإنه مضاف إلـى الـمسكين والقراء فـي قراءة ذلك مختلفون، فقرأه بعضهم بتوحيد الـمسكين بـمعنى: وعلـى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره. كما: ٢٢٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن يزيد الرفـاعي، قال: حدثنا حسين الـجعفـي، عن أبـي عمرو: أنه قرأ (فديةٌ) رفع منون (طعامُ) رفع بغير تنوين (مسكين) وقال: عن كل يوم مسكين. وعلـى ذلك عُظْم قرّاء أهل العراق. وقرأه آخرون بجمع الـمساكين: (فِدْيَةٌ طَعامُ مَساكِين) بـمعنى: وعلـى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر إذا أفطر الشهر كله. كما: ٢٢٤٩ـ حدثنا أبو هشام مـحمد بن يزيد الرفـاعي، عن يعقوب، عن بشار، عن عمرو، عن الـحسن: طعام مساكين عن الشهر كله. وأعجب القراءتـين إلـيّ فـي ذلك قراءة من قرأ طعام مسكين علـى الواحد بـمعنى: وعلـى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين لأن فـي إبـانة حكم الـمفطر يوما واحدا وصولاً إلـى معرفة حكم الـمفطر جميع الشهر، ولـيس فـي إبـانة حكم الـمفطر جميع الشهر وصول إلـى إبـانة حكم الـمفطر يوما واحدا وأياما هي أقل من أيام جميع الشهر، وأن كل واحد يترجم عن الـجميع وأن الـجميع لا يترجم به عن الواحد، فلذلك اخترنا قراءة ذلك بـالتوحيد. واختلف أهل العلـم فـي مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون فـي ذلك إذا أفطروا، فقال بعضهم: كان الواجب من طعام الـمسكين لإفطار الـيوم الواحد نصف صاع من قمـح. وقال بعضهم: كان الواجب من طعام الـمسكين لإفطار الـيوم مدّا من قمـح ومن سائر أقواتهم. وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمـح أو صاعا من تـمر أو زبـيب. وقال بعضهم: ما كان الـمفطر يتقوّته يومه الذي أفطره. وقال بعضهم: كان ذلك سحورا وعشاء يكون للـمسكين إفطارا. وقد ذكرنا بعض هذه الـمقالات فـيـما مضى قبل فكرهنا إعادة ذكرها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمِنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم بـما: ٢٢٥٠ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وعطاء، عن ابن عبـاس : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فزاد طعام مسكين آخر فهو خير له، وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ. ٢٢٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عبـاس مثله. ٢٢٥٢ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد فـي قوله: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا قال: من أطعم الـمسكين صاعا. ٢٢٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ قال: إطعام مساكين عن كل يوم فهو خير له. ٢٢٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن حنظلة، عن طاوس: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا قال: طعام مسكين. ٢٢٥٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن حنظلة، عن طاوس نـحوه. ٢٢٥٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن طاوس: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا قال: طعام مسكين. ٢٢٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد، عن لـيث، عن طاوس، مثله. ٢٢٥٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عمر بن هارون، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء أنه قرأ: فَمَنْ تَطَوّعَ بـالتاء خفـيفة (الطاء) خَيْرا، قال: زاد علـى مسكين. ٢٢٥٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فإن أطعم مسكينـين فهو خير له. ٢٢٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي ابن طاوس عن أبـيه: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ قال: من أطعم مسكينا آخر. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوّع خيرا فصام مع الفدية. ذكر من قال ذلك: ٢٢٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي اللـيث، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ يريد أن من صام مع الفدية فهو خير له. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوّع خيرا فزاد الـمسكين علـى قدر طعامه. ذكر من قال ذلك: ٢٢٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فزاد طعاما فهو خير له. والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن اللّه تعالـى ذكره عمـم بقوله: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فلـم يخصص بعض معانـي الـخير دون بعض، فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوّع الـخير وزيادة مسكين علـى جزاء الفدية من تطوّع الـخير. وجائز أن يكون تعالـى ذكره عنى بقوله: فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا أي هذه الـمعانـي تطوّع به الـمفتدي من صومه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لأن كل ذلك من تطوّع الـخير ونوافل الفضل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وأنْ تَصُومُوا ما كتب علـيكم من شهر رمضان فهو خير لكم من أن تفطروه وتفتدوا. كما: ٢٢٦٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ومَن تكلّف الصيام فصامه فهو خير له. ٢٢٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي اللـيث، قال: حدثنـي يونس، عن ابن شهاب: وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي أن الصيام خير لكم من الفدية. ٢٢٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وأما قوله: إنْ كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ فإنه يعنـي: إن كنتـم تعلـمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية أو الصوم علـى ما أمركم اللّه به. ١٨٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...} قال أبو جعفر: الشهر فـيـما قـيـل أصله من الشهرة، يقال منه: قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فـاعترض به من أراد ضربه، يشهره شهرا وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله، وأشهرنا نـحن إذا دخـلنا فـي الشهروأما رمضان فإن بعض أهل الـمعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الـحرّ الذي كان يكون فـيه حتـى تَرْمَضُ فـيه الفصال كما يقال للشهر الذي يحجّ فـيه ذو الـحجة، والذي يرتبع فـيه ربـيع الأول وربـيع الاَخروأما مـجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان و يقول: لعله اسم من أسماء اللّه . ٢٢٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـجاهد أنه كره أن يقال رمضان، و يقول: لعله اسم من أسماء اللّه ، لكن نقول كما قال اللّه : شَهْرُ رَمَضَان. وقد بـينت فـيـما مضى أن (شهر) مرفوع علـى قوله: أياما معدودات، هن شهر رمضان، وجائز أن يكون رفعه بـمعنى ذلك شهر رمضان، وبـمعنى كتب علـيكم شهر رمضان. وقد قرأه بعض القرّاء: (شَهْرَ رَمَضَانَ) نصبـا، بـمعنى: كتب علـيكم الصيام أن تصوموا شهر رمضان. وقرأه بعضهم نصبـا بـمعنى أن تصوموا شهر رمضان خير لكم إن كنتـم تعلـمون. وقد يجوز أيضا نصبه علـى وجه الأمر بصومه كأنه قـيـل: شهر رمضان فصوموه، وجائز نصبه علـى الوقت كأنه قـيـل: كتب علـيكم الصيام فـي شهر رمضان. وأما قوله: الّذي أُنْزلَ فـيهِ القُرآنُ فإنه ذكر أنه نزل فـي لـيـلة القدر من اللوح الـمـحفوظ إلـى سماء الدنـيا فـي لـيـلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى ما أراد اللّه إنزاله إلـيه. كما: ٢٢٦٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حسان بن أبـي الأشرس، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: أنزل القرآن جملة من الذكر فـي لـيـلة أربع وعشرين من رمضان، فجعل فـي بـيت العزّة. قال أبو كريب: حدثنا أبو بكر، وقال ذلك السدي. ٢٣حدثنـي عيسى بن عثمان، قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حسان، عن سعيد بن جبـير، قال: نزل القرآن جملة واحدة فـي لـيـلة القدر فـي شهر رمضان، فجعل فـي سماء الدنـيا. ٢٢٦٨ـ حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا عبد اللّه بن رجاء، قال: حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن ابن أبـي الـملـيح عن واثلة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، قال: (نزلتْ صُحُف إبراهِيـمَ أوّلَ لَـيْـلَةٍ من شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَت التّوْرَاةُ لِستّ مَضَيْنَ من رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الإنـجيـلُ لثَلاثَ عَشْرَةَ خَـلَتْ، وأُنْزِلَ القُرآنُ لأَرْبَعٍ وعِشْرين مِنْ رَمَضَان). ٢٢٦٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِـيهِ القُرْآنُ، أما أنزل فـيه القرآن، فإن ابن عبـاس قال: شهر رمضان، واللـيـلة الـمبـاركة: لـيـلة القدر، فإن لـيـلة القدر هي اللـيـلة الـمبـاركة، وهي من رمضان، نزل القرآن جملة واحدة من الزّبر إلـى البـيت الـمعمور، وهو مواقع النـجوم، فـي السماء الدنـيا حيث وقع القرآن، ثم نزل علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك فـي الأمر والنهي وفـي الـحروب رَسَلاً رَسَلاً. ٢٢٧٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: أنزل اللّه القرآن إلـى السماء الدنـيا فـي لـيـلة القدر، فكان اللّه إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، فهوقوله: أنّا أنْزَلْنَاهُ فِـي لَـيْـلَةِ القَدْرِ. ٢٢٧١ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، فذكر نـحوه، وزاد فـيه: فكان بـين أوله وآخره عشرون سنة. ٢٢٧٢ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: أنزل القرآن كله جملة واحدة فـي لـيـلة القدر فـي رمضان إلـى السماء الدنـيا، فكان اللّه إذا أراد أن يحدث فـي الأرض شيئا أنزله منه حتـى جمعه. ٢٢٧٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن حكيـم بن جبـير، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: أنزل القرآن فـي لـيـلة القدر من السماء العلـيا إلـى السماء جملة واحدة، ثم فرّق فـي السنـين بعدُ قال: وتلا ابن عبـاس هذه الآية: فَلا أقْسِمُ بِـمَواقِع النّـجُوم قال: نزل مفرّقا. ٢٢٧٤ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، عن الشعبـي، قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلـى السماء الدنـيا. ٢٢٧٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قرأه ابن جريج فـي قوله: شَهْرُ رَمَضَان الّذِي أُنْزِلَ فِـيهِ القُرآنُ قال: قال ابن عبـاس : أنزل القرآن جملة واحدة علـى جبريـل فـي لـيـلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج: كان ينزل من القرآن فـي لـيـلة القدر كل شيء ينزل من القرآن فـي تلك السنة، فنزل ذلك من السماء السابعة علـى جبريـل فـي السماء الدنـيا، فلا يُنزل جبريـل من ذلك علـى مـحمد إلا ما أمره به ربه ومثل ذلك: إنّا أنْزَلْناهُ فِـي لَـيْـلَةِ القَدْرِ وإنّا أنْزَلْنَاهُ فِـي لَـيْـلَةً مبَـاركَةٍ. ٢٢٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، عن إسرائيـل، عن السدي، عن مـحمد بن أبـي الـمـجالد، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال له رجل: إنه قد وقع فـي قلبـي الشك من قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الّذي أُنْزِلَ فِـيهِ القُرآنُ وقوله: إنّا أنْزَلْنَاهُ فِـي لَـيْـلَةٍ مُبَـاركَةٍ وقوله: إنّا أنْزَلْنَاه فِـي لَـيْـلَةٍ القَدْرِ وقد أنزل اللّه فـي شوّال وذي القعدة وغيره قال: إنـما أنزل فـي رمضان فـي لـيـلة القدر ولـيـلة مبـاركة جملة واحدة، ثم أنزل علـى مواقع النـجوم رَسَلاً فـي الشهور والأيام. وأما قوله هُدىً للنّاسِ فإنه يعنـي رشادا للناس إلـى سبـيـل الـحقّ وقصد الـمنهج. وأما قوله: وَبَـيّناتٍ فإنه يعنـي: وواضحات من الهدى، يعنـي من البـيان الدالّ علـى حدود اللّه وفرائضه وحلاله وحرامه. وقوله: والفُرْقَان يعنـي: والفصل بـين الـحق والبـاطل. كما: ٢٢٧٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما وَبَـيّناتٍ مِنَ الهُدَى والفُرْقان فبـينات من الـحلال والـحرام. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. اختلف أهل التأويـل فـي معنى شهود الشهر. فقال بعضهم: هو مقام الـمقـيـم فـي داره، قالوا: فمن دخـل علـيه شهر رمضان وهو مقـيـم فـي داره فعلـيه صوم الشهر كله، غاب بعد فسافر أو أقام فلـم يبرح.ذكر من قال ذلك: ٢٢٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن حميد ومـحمد بن عيسى الدامغانـي، قالا، حدثنا ابن الـمبـارك، عن الـحسن بن يحيى، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس فـي قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ قال: هو إهلاله بـالدار. يريد إذ هلّ وهو مقـيـم. ٢٢٧٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عمن حدثه، عن ابن عبـاس أنه قال فـي قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ فإذا شهده وهو مقـيـم فعلـيه الصوم أقام أو سافر، وإن شهده وهو فـي سفر، فإن شاء صام وإن شاء فطر. ٢٢٨٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن مـحمد، عن عبـيدة فـي الرجل يدركه رمضان ثم يسافر، قال: إذا شهدت أوله فضم آخره، ألا تراه يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢٢٨١ـ حدثنـي يعقوب قال: حدثنا ابن علـية، عن هشام الفردوسي، عن مـحمد بن سيرين، قال: سألت عبـيدة، عن رجل أدرك رمضان وهو مقـيـم، قال: من صام أول الشهر فلـيصم آخره، ألا تراه يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢٢٨٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما من شهد منكم الشهر فلـيصمه، فمن دخـل علـيه رمضان وهو مقـيـم فـي أهله فلـيصمه، وإن خرج فـيه فلـيصمه فإنه دخـل علـيه وهو فـي أهله. ٢٢٨٣ـ حدثنـي الـمثنى،، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا قتادة، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة السلـمانـي، عن علـيّ فـيـما يحسب حماد، قال: من أدرك رمضان وهو مقـيـم ولـم يخرج فقد لزمه الصوم، لأن اللّه يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ. ٢٢٨٤ـ حدثنا هناد بن السرّي قال: حدثنا عبد الرحمن، عن إسماعيـل بن مسلـم، عن مـحمد بن سيرين، قال: سألت عبـيدة السلـمانـي عن قول اللّه : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ قال: من كان مقـيـما فلـيصمه، ومن أدركه ثم سافر فـيه فلـيصمه. ٢٢٨٥ـ حدثنا هناد قال: حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبـيدة، قال: من أشهد أول رمضان فلـيصم آخره. ٢٢٨٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة أن علـيا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقـيـم ثم سافر فعلـيه الصوم. ٢٢٨٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبد الرحيـم، عن عبـيدة الضبـي، عن إبراهيـم قال: كان يقول: إذا أدركك رمضان فلا تسافر فـيه، فإن صمت فـيه يوما أو اثنـين ثم سافرت فلا تفطر، صمه. ٢٢٨٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبـي البختري، قال: كنا عند عبـيدة، فقرأ هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ قال: من صام شيئا منه فـي الـمصر فلـيصم بقـيته إذا خرج قال: وكان ابن عبـاس يقول: إن شاء صام، وإن شاء أفطر. ٢٢٨٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قالا جميعا، حدثنا أيوب، عن أبـي يزيد، عن أم درّة قالت: أتـيت عائشة فـي رمضان، قالت: من أين جئت؟ قلت: من عند أخي حنـين، قالت: ما شأنه؟ قالت: ودّعته يريد يرتـحل، قالت: فأقرئيه السلام ومريه فلـيقم، فلو أدركنـي رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له. ٢٢٩٠ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، عن أفلـح، عن عبد الرحمن، قال: جاء إبراهيـم بن طلـحة إلـى عائشة يسلـم علـيها، قالت: وأين تريد؟ قال: أردت العمرة، قالت: فجلست حتـى إذا دخـل علـيك الشهر خرجت فـيه قال: قد خرج ثقلـي، قالت: اجلس حتـى إذا أفطرت فـاخرج يعنـي شهر رمضان. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن شهد منكم الشهر فلـيصمه ما شهد منه. ذكر من قال ذلك: ٢٢٩١ـ حدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق: أن أبـا ميسرة خرج فـي رمضان حتـى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب. ٢٢٩٢ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: خرج أبو ميسرة فـي رمضان مسافرا، فمرّ بـالفرات وهو صائم، فأخذ منه كفّـا فشربه وأفطر. ٢٢٩٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن مرثد: أن أبـا ميسرة سافر فـي رمضان فأفطر عند بـاب الـجسر هكذا قال هناد عن مرثد، وإنـما هو أبو مرثد. ٢٢٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل عن أبـي إسحاق، عن مرثد: أنه خرج مع أبـي ميسرة فـي رمضان، فلـما انتهى إلـى الـجسر أفطر. ٢٢٩٥ـ حدثنا هناد وأبو هشام قالا: حدثنا وكيع، عن الـمسعودي، عن الـحسن بن سعد، عن أبـيه، قال: كنت مع علـيّ فـي ضيعة له علـى ثلاث من الـمدينة، فخرجنا نريد الـمدينة فـي شهر رمضان وعلـيّ راكب وأنا ماش، قال: فصام قال هناد: وأفطرت قال أبو هشام: وأمرنـي فأفطرت. ٢٢٩٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عتبة، عن الـحسن بن سعد، عن أبـيه قال: كنت مع علـي بن أبـي طالب، وهو جاء من أرض له فصام، وأمرنـي فأفطرت فدخـل الـمدينة لـيلاً وكان راكبـا وأنا ماش. ٢٢٩٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قالا جميعا: حدثنا سفـيان، عن عيسى بن أبـي عزّة، عن الشعبـي أنه سافر فـي شهر رمضان، فأفطر عند بـاب الـجسر. ٢٢٩٨ـ حدثنـي ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: قال لـي سفـيان: أحبّ إلـيّ أن تتـمه. ٢٢٩٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سألت الـحكم وحمادا وأردت أن أسافر فـي رمضان فقالا لـي: اخرج وقال حماد: قال إبراهيـم: أما إذا كان العشر فأحبّ إلـيّ أن يقـيـم. ٢٣٠٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الولـيد، قال: حدثنا حماد، عن قتادة، عن الـحسن وسعيد بن الـمسيب قالا: من أدركه الصوم وهو مقـيـم رمضان ثم سافر، قالا: إن شاء أفطر. وقال آخرون: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ يعنـي فمن شهده عاقلاً بـالغا مكلفـا فلـيصمه. ومـمن قال ذلك أبو حنـيفة وأصحابه، كانوا يقولون: من دخـل علـيه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بـالغ فعلـيه صومه، فإن جنّ بعد دخوله علـيه وهو بـالصفة التـي وصفنا ثم أفـاق بعد انقضائه لزمه قضاء ما كان فـيه من أيام الشهر مغلوبـا علـى عقله، لأنه كان مـمن شهده وهو مـمن علـيه فرض قالوا: وكذلك لو دخـل علـيه شهر رمضان وهو مـجنون إلا أنه مـمن لو كان صحيح العقل كان علـيه صومه، فلن ينقضي الشهر حتـى صحّ وبرأ أو أفـاق قبل انقضاء الشهر بـيوم أو أكثر من ذلك، فإن علـيه قضاء صوم الشهر كله سوى الـيوم الذي صامه بعد إفـاقته، لأنه مـمن قد شهد الشهر قالوا: ولو دخـل علـيه شهر رمضان وهو مـجنون فلـم يفق حتـى انقضى الشهر كله ثم أفـاق لـم يـلزمه قضاء شيء منه، لأنه لـم يكن مـمن شهده مكلفـا صومه وهذا تأويـل لا معنى له، لأن الـجنون إن كان يسقط عمن كان به فرض الصوم من أجل فقد صاحبه عقله جميع الشهر فقد يجب أن يكون ذلك سبـيـل كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الـجميع علـى أن من فقد عقله جميع شهر الصوم بإغماء أو برسام ثم أفـاق بعد انقضاء الشهر أن علـيه قضاء الشهر كله، ولـم يخالف ذلك أحد يجوز الاعتراض به علـى الأمة وإذا كان إجماعا فـالواجب أن يكون سبـيـل كل من كان زائل العقل جميع شهر الصوم سبـيـل الـمغمى علـيه. وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن تأويـل الآية غير الذي تأوّلها قائلو هذه الـمقالة من أنه شهود الشهر أو بعضه مكلفـا صومه. وإذا بطل ذلك فتأويـل الـمتأوّل الذي زعم أن معناه: فمن شهد أوله مقـيـما حاضرا فعلـيه صوم جميعه أبطلُ وأفسدُ لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه خرج عام الفتـح من الـمدينة فـي شهر رمضان بعد ما صام بعضه وأفطر وأمر أصحابه بـالإفطار. ٢٣٠١ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: (سافر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي رمضان من الـمدينة إلـى مكة، حتـى إذا أتـى عسفـان نزل به، فدعا بإناء فوضعه علـى يده لـيراه الناس، ثم شربه). ٢٣٠٢ـ حدثنا ابن حميد وسفـيان بن وكيع قالا: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، عن طاوس، عن ابن عبـاس ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. ٢٣٠٣ـ حدثنا هناد، حدثنا عبـيدة، عن منصور، عن مـجاهد، عن طاوس، عن ابن عبـاس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. ٢٣٠٤ـ حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال حدثنـي الزهري، عن عبـيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن عبـاس قال: مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسفره عام الفتـح لعشر مضين من رمضان، فصام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصام الناس معه، حتـى إذا أتـى الكديد ما بـين عسفـان وأمَـج وأفطر. ٢٣٠٥ـ حدثنا هناد وأبو كريب، قالا: حدثنا عبدة، عن مـحمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبـيد اللّه بن عبد اللّه ، عن ابن عبـاس قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعشر أو لعشرين مضت من رمضان عام الفتـح، فصام حتـى إذا كان بـالكديد أفطر. ٢٣٠٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سالـم بن نوح، قال: حدثنا عمر بن عامر، عن قتادة، عن أبـي نضرة، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: خرجنا مع النبـي صلى اللّه عليه وسلم لثمان عشرة مضت من رمضان، فمنا الصائم، ومنا الـمفطر، فلـم يعب الـمفطر علـى الصائم، ولا الصائم علـى الـمفطر. فإذا كانا فـاسدين هذان التأويلان بـما علـيه دللنا من فسادهما، فتبـين أن الصحيح من التأويـل هو الثالث، وهو قول من قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ جميع ما شهد منه مقـيـما، ومن كان مريضا أو علـى سفر فعدّة من أيام أخر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر يعنـي اللّه تعالـى ذكره بذلك: ومن كان مريضا أو علـى سفر فـي الشهر فأفطر فعلـيه صيام عدّة الأيام التـي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان. ثم اختلف أهل العلـم فـي الـمرض الذي أبـاح اللّه معه الإفطار وأوجب معه عدّة من أيام أخر فقال بعضهم: هو الـمرض الذي لا يطيق صاحبه معه القـيام لصلاته. ذكر من قال ذلك: ٢٣٠٧ـ حدثنا معاذ بن شعبة البصري، قال: حدثنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيـم وإسماعيـل بن مسلـم، عن الـحسن أنه قال: إذا لـم يستطع الـمريض أن يصلـي قائما أفطر. ٢٣٠٨ـ حدثنـي يعقوب قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة أو عبـيدة، عن إبراهيـم فـي الـمريض إذا لـم يستطع الصلاة قائما: فلـيفطر يعنـي فـي رمضان. ٢٣٠٩ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن إسماعيـل، قال: سألت الـحسن: متـى يفطر الصائم؟ قال: إذا جهده الصوم، قال: إذا لـم يستطع أن يصلـي الفرائض كما أُمر. وقال بعضهم: وهو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بـالصوم الزيادة فـي علته زيادة غير مـحتـملة وذلك هو قول مـحمد بن إدريس الشافعي، حدثنا بذلك عنه الربـيع. وقال آخرون: وهو (كل) مرض يسمى مرضا. ذكر من قال ذلك: ٢٣١٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا الـحسن بن خالد الربعي، قال: حدثنا طريف بن تـمام العطاردي، أنه دخـل علـى مـحمد بن سيرين فـي رمضان وهو يأكل فلـم يسأله، فلـما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه. والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أن الـمرض الذي أذن اللّه تعالـى ذكره بـالإفطار معه فـي شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدا غير مـحتـمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدّة من أيام أخر وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر، فإن لـم يكن مأذونا له فـي الإفطار فقد كلف عسرا ومنع يسرا، وذلك غير الذي أخبر اللّه أنه أراده بخـلقه بقوله: يُريدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ. وأما من كان الصوم غير جاهده، فهو بـمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم، فعلـيه أداء فرضه. وأما قوله: فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر فإن معناها: أيام معدودة سوى هذه الأيام وأما الأخر فإنها جمع أخرى بجمعهم الكبرى علـى الكبر والقربى علـى القرب. فإن قال قائل: أو لـيست الأخر من صفة الأيام؟ قـيـل: بلـى فإن قال: أولـيس واحد الأيام يوم وهو مذكر؟ قـيـل: بلـى. فإن قال: فكيف يكون واحد الأخر أخرى وهي صفة للـيوم ولـم يكن آخر؟ قـيـل: إن واحد الأيام وإن كان إذا نعت بواحد الأخر فهو آخر، فإن الأيام فـي الـجمع تصير إلـى التأنـيث فتصير نعوتها وصفـاتها كهيئة صفـات الـمؤنث، كما يقال: مضت الأيام جمع، ولا يقال: أجمعون، ولا أيام آخرون. فإن قال لنا قائل: فإن اللّه تعالـى قال: فَمَنْ كانَ مِنْكُمِ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر ومعنى ذلك عندك: فعلـيه عدة من أيام أخر كما قد وصفت فـيـما مضى. فإن كان ذلك تأويـله، فما قولك فـيـمن كان مريضا أو علـى سفر فصام الشهر وهو مـمن له الإفطار، أيجزيه ذلك من صيام عدّة من أيام أخر، أو غير مـجزيه ذلك؟ وفرض صوم عدة من أيام أخر ثابت علـيه بهيئته وإن صام الشهر كله، وهل لـمن كان مريضا أو علـى سفر صيام شهر رمضان، أم ذلك مـحظور علـيه، وغير جائز له صومه، والواجب علـيه الإفطار فـيه حتـى يقـيـم هذا ويبرأ هذا؟ قـيـل: قد اختلف أهل العلـم فـي كل ذلك، ونـحن ذاكرو اختلافهم فـي ذلك، ومخبرون بأولاه بـالصواب إن شاء اللّه . فقال بعضهم: الإفطار فـي الـمرض عزمة من اللّه واجبة، ولـيس بترخيص. ذكر من قال ذلك: ٢٣١١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية جميعا، عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عبـاس ، قال: الإفطار فـي السفر عزمة. ٢٣١٢ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: أخبرنا سعيد، عن يعلـى، عن يوسف بن الـحكم، قال: سألت ابن عمر، أو سئل عن الصوم فـي السفر، فقال: أرأيت لو تصدقت علـى رجل بصدقة فردّها علـيك ألـم تغضب؟ فإنها من اللّه تصدق صدقة بها علـيكم. ٢٣١٣ـ حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: حدثنا الـمـحاربـي عن عبد الـملك بن حميد، قال: قال أبو جعفر كان أبـي لا يصوم فـي السفر وينهى عنه. ٢٣١٤ـ وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد، عن الضحاك : أنه كره الصوم فـي السفر. وقال أهل هذه الـمقالة: من صام فـي السفر فعلـيه القضاء إذا قام. ذكر من قال ذلك: ٢٣١٥ـ حدثنا نصر بن علـي الـخثعمي، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم، عن أبـيه، عن رجل: أن عمر أمر الذي صام فـي السفر أن يعيد. ٢٣١٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي عديّ، عن سعيد بن عمرو بن دينار، عن رجل من بنـي تـميـم عن أبـيه، قال: أمر عمر رجلاً صام فـي السفر أن يعيد صومه. ٢٣١٧ـ حدثنـي ابن حميد الـحمصي، قال: حدثنا علـيّ بن معبد، عن عبـيد اللّه بن عمرو، عن عبد الكريـم، عن عطاء، عن الـمـحرر بن أبـي هريرة، قال: كنت مع أبـي فـي سفر فـي رمضان، فكنت أصوم ويفطر، فقال لـي أبـي: أما إنك إذا أقمت قضيت. ٢٣١٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا سلـيـمان بن داود، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم مولـى قريبة، قال: سمعت عروة يأمر رجلاً صام فـي السفر أن يقضي. ٢٣١٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم مولـى قريبة أن رجلاً صام فـي السفر فأمره عروة أن يقضي. ٢٣٢٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن صبـيح، قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم، عن أبـيه كلثوم: أن قوما قدموا علـى عمر بن الـخطاب وقد صاموا رمضان فـي سفر، فقال لهم: واللّه لكأنكم كنتـم تصومون فقالوا: واللّه يا أمير الـمؤمنـين لقد صمنا، قال: فأطقتـموه؟ قالوا: نعم، قال: فـاقضوه فـاقضوه فـاقضوه. وعلة من قال هذه الـمقالة أن اللّه تعالـى ذكره فرض بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشّهْرَ فَلْـيَصُمْهُ صوم شهر رمضان علـى من شهده مقـيـما غير مسافر، وجعل علـى من كان مريضا أو مسافرا صوم عدّة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله: ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر قالوا: فكما غير جائز للـمقـيـم إفطار أيام شهر رمضان وصوم عدة أيام أخر مكانها، لأن الذي فرضه اللّه علـيه بشهوده الشهر صوم الشهر دون غيره، فكذلك غير جائز لـمن لـم يشهده من الـمسافرين مقـيـما صومه، لأن الذي فرضه اللّه علـيه عدة من أيام أخر واعتلوا أيضا من الـخبر بـما: ٢٣٢١ـ حدثنا به مـحمد بن عبد اللّه بن سعيد الواسطي، قال: حدثنا يعقوب بن مـحمد الزهري، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبـي سلـمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (الصّائِمُ فـي السّفَرِ كالـمُفْطِرِ فـي الـحَضَر). ٢٣٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد اللّه بن سعيد، قال: حدثنا يزيد بن عياض، عن الزهري، عن أبـي سلـمة بن عبد الرحمن، عن أبـيه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الصّائمُ فـي السّفَر كالـمُفْطِرِ فـي الـحَضَر). وقال آخرون: إبـاحة الإفطار فـي السفر رخصة من اللّه تعالـى ذكره رخصها لعبـاده، والفرض الصوم، فمن صام فرضه أدّى، ومن أفطر فبرخصة اللّه له أفطر قالوا: وإن صام فـي سفر فلا قضاء علـيه إذا أقام. ذكر من قال ذلك: ٢٣٢٣ـ حدثنا ابن البشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، قال: حدثنا عروة وسالـم أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أمير علـى الـمدينة فتذاكروا الصوم فـي السفر، قال سالـم: كان ابن عمر لا يصوم فـي السفر، وقال عروة: وكانت عائشة تصوم، فقال سالـم: إنـما أخذت عن ابن عمر، وقال عروة: إنـما أخذت عن عائشة حتـى ارتفعت أصواتهما، فقال عمر بن عبد العزيز: اللّه م عفوا إذا كان يسرا فصوموا، وإذا كان عسرا فأفطروا. ٢٣٢٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، قال: حدثنـي رجل، قال: ذكر الصوم فـي السفر عند عمر بن عبد العزيز، ثم ذكر نـحو حديث ابن بشار. ٢٣٢٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن مـحمد بن إسحاق، وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن سالـم بن عبد اللّه ، قال: خرج عمر بن الـخطاب فـي بعض أسفـاره فـي لـيال بقـيت من رمضان، فقال: إن الشهر قد تشعشع قال أبو كريب فـي حديثه أو تسعسع، ولـم يشك يعقوب فلو صمنا فصام وصام الناس معه ثم أقبل مرة قافلاً حتـى إذا كان بـالروحاء أهلّ هلال شهر رمضان، فقال إن اللّه قد قضى السفر، فلو صمنا ولـم نثلـم شهرنا قال: فصام وصام الناس معه. ٢٣٢٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنـي أبـي، وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: أخبرنا عبـيد اللّه ، قال: أخبرنا بشير بن سلـمان، عن خيثمة، قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم فـي السفر، قال: قد أمرت غلامي أن يصوم فأبى. قلت: فأين هذه الآية: ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر؟ قال: نزلت ونـحن يومئذ نرتـحل جياعا وننزل علـى غير شبع، وإنا الـيوم نرتـحل شبـاعا وننزل علـى شبع. ٢٣٢٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع: عن بشير بن سلـمان، عن خيثمة، عن أنس نـحوه. ٢٣٢٨ـ حدثنا هناد وأبو السائب قالا: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أنس أنه سئل عن الصوم فـي السفر فقال: من أفطر فبرخصة اللّه ، ومن صام فـالصوم أفضل. ٢٣٢٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أشعث بن عبد الـملك، عن مـحمد بن عثمان بن أبـي العاص، قال: الفطر فـي السفر رخصة، والصوم أفضل. ٢٣٣٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو الفـيض، قال: كان علـيّ علـينا أمير بـالشام، فنهانا عن الصوم فـي السفر، فسألت أبـا قرصافة رجلاً من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم من بنـي لـيث قال عبد الصمد: سمعت رجلاً من قومه يقول: إنه واثلة بن الأسقع قال لو صمت فـي السفر ما قضيت. ٢٣٣١ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن بسطام بن مسلـم، عن عطاء قال: إن صمتـم أجزأ عنكم وإن أفطرتـم فرخصة. ٢٣٣٢ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن كهمس، قال: سألت سالـم بن عبد اللّه عن الصوم فـي السفر، فقال: إن صمتـم أجزأ عنكم، وإن أفطرتـم فرخصة. ٢٣٣٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبد الرحيـم، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء، قال: من صام فحقّ أدّاه، ومن أفطر فرخصة أخذ بها. ٢٣٣٤ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن حماد، عن سعيد بن جبـير، قال: الفطر فـي السفر رخصة، والصوم أفضل. ٢٣٣٥ـ حدثنا هناد قال: حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، قال: هو تعلـيـم، ولـيس بعزم، يعنـي قول اللّه : ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر إن شاء صام، وإن شاء لـم يصم. ٢٣٣٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الـحسن فـي الرجل يسافر فـي رمضان، قال: إن شاء صام، وإن شاء أفطر. ٢٣٣٧ـ حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا سفـيان بن حبـيب، قال: حدثنا العوّام بن حوشب، قال: قلت لـمـجاهد: الصوم فـي السفر؟ قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصوم فـيه ويفطر، قال: قلت فأيهما أحبّ إلـيك؟ قال: إنـما هي رخصة، وأن تصوم رمضان أحبّ إلـيّ. ٢٣٣٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبـير وإبراهيـم ومـجاهد أنهم قالوا: الصوم فـي السفر، إن شاء صام وإن شاء أفطر، والصوم أحبّ إلـيهم. ٢٣٣٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، قال: قال لـي مـجاهد فـي الصوم فـي السفر، يعنـي صوم رمضان: واللّه ما منهما إلا حلال الصوم والإفطار، وما أراد اللّه بـالإفطار إلا التـيسير لعبـاده. ٢٣٤٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سلـيـم، قال: صحبت أبـي والأسود بن يزيد وعمرو بن ميـمون وأبـا وائل إلـى مكة، وكانوا يصومون رمضان وغيره فـي السفر. ٢٣٤١ـ حدثنا علـيّ بن حسن الأزدي قال: حدثنا معافـى بن عمران، عن سفـيان، عن حماد، عن سعيد بن جبـير: الفطر فـي السفر رخصة، والصوم أفضل. ٢٣٤٢ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن سعيد الواسطي، قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا صالـح بن مـحمد بن صالـح، عن أبـيه قال: قلت للقاسم بن مـحمد: إنا نسافر فـي الشتاء فـي رمضان، فإن صمت فـيه كان أهون علـيّ من أن أقضيه فـي الـحر. فقال: قال اللّه : يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ما كان أيسر علـيك فـافعل. وهذا القول عندنا أولـى بـالصواب لإجماع الـجميع علـى أن مريضا لو صام شهر رمضان وهو مـمن له الإفطار لـمرضه أن صومه ذلك مـجزىء عنه، ولا قضاء علـيه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلوما بذلك أن حكم الـمسافر حكمه فـي أن لا قضاء علـيه إن صامه فـي سفره، لأن الذي جعل للـمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للـمريض وأمر به من القضاء. ثم فـي دلالة الآية كفـاية مغنـية عن استشهاد شاهد علـى صحته ذلك بغيرها، وذلك قول اللّه تعالـى ذكره: يُريدُ اللّه بِكُم الـيُسْرَ ولاَ يُرِيدُ بِكُم العُسْرَ ولا عسر أعظم من أن يـلزم من صامه فـي سفره عدة من أيام أخر، وقد تكلف أداء فرضه فـي أثقل الـحالـين علـيه حتـى قضاه وأدّاه. فإن ظنّ ذو غبـاوة أن الذي صامه لـم يكن فرضه الواجب، فإن فـي قول اللّه تعالـى ذكره: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ، شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فـيهِ القُرآنُ ما ينبىء أن الـمكتوب صومه من الشهور علـى كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقـيـما، لعموم اللّه تعالـى ذكره الـمؤمنـين بذلك بقوله: يا أيّها الّذين آمَنُوا كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الصّيامُ شَهْرُ رَمَضَانَ وأن قوله: ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر معناه: ومن كان مريضا أو علـى سفر فأفطر برخصة اللّه فعلـيه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التـي أفطر فـي سفره أو مرضه. ثم فـي تظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله إذا سئل عن الصوم فـي السفر: (إن شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)، الكفـاية الكافـية عن الاستدلال علـى صحة ما قلنا فـي ذلك بغيره. ٢٣٤٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبد الرحيـم ووكيع، وعبدة بن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة: أن حمزة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الصوم فـي السفر، وكان يسرد الصوم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ). ٢٣٤٤ـ حدثنا أبو كريب وعبـيد بن إسماعيـل الهبـاري قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبـيه أن حمزة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نـحوه. ٢٣٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبو زرعة وهب اللّه بن راشد، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبـير يحدث عن أبـي مراوح عن حمزة الأسلـمي صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: يا رسول اللّه إنـي أسرد الصوم فأصوم فـي السفر؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إنّـمَا هي رُخْصَةٌ مِنَ اللّه لِعِبَـادِهِ، فَمَنْ فَعَلْها فَحَسَنٌ جَمِيـلٌ، وَمَنْ تَرَكَها فَلا جُناحَ عَلَـيْ) فكان حمزة يصوم الدهر، فـيصوم فـي السفر والـحضر وكان عروة بن الزبـير يصوم الدهر، فـيصوم فـي السفر والـحضر، حتـى إن كان لـيـمرض فلا يفطر وكان أبو مراوح يصوم الدهر، فـيصوم فـي السفر والـحضر. ففـي هذا مع نظائره من الأخبـار التـي يطول بـاستـيعابها الكتاب الدلالة الدالة علـى صحة ما قلنا من أن الإفطار رخصة لا عزم، والبـيان الواضح علـى صحة ما قلنا فـي تأويـل قوله: ومَنْ كانَ مَرِيضا أوْ علـى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر. فإن قال قائل: فإن الأخبـار بـما قلت وإن كانت متظاهرة، فقد تظاهرت أيضا بقوله: (لَـيْسَ مِنَ الْبِرّ الصّيامُ فـي السّفَر)؟. قـيـل: إن ذلك إذا كان صيام فـي مثل الـحال التـي جاء الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال فـي ذلك لـمن قال له. ٢٣٤٦ـ حدثنا الـحسين بن يزيد السبـيعي، قال: حدثنا ابن إدريس، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن مـحمد بن عمرو بن الـحسن، عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً فـي سفره قد ظُلّل علـيه، وعلـيه جماعة، فقال: (مَنْ هَذَا؟) قالوا: صائم، قال: (لَـيْسَ مِنَ البِرّ الصّوْمُ فِـي السّفَر). قال أبو جعفر: أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط وبـين ابن إدريس ومـحمد بن عبد الرحمن شعبة. ٢٣٤٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن مـحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، عن مـحمد بن عمرو بن الـحسن بن علـيّ، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً قد اجتـمع الناس علـيه، وقد ظُلّل علـيه، فقالوا: هذا رجل صائم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَـيْسَ مِنَ الْبِرّ أنْ تَصُومُوا فِـي السّفَر). فمن بلغ منه الصوم ما بلغ من الذي قال له النبـي صلى اللّه عليه وسلم، ذلك، فلـيس من البرّ صومه لأن اللّه تعالـى ذكره قد حرم علـى كل أحد تعريض نفسه لـما فـيه هلاكها، وله إلـى نـجاتها سبـيـل، وإنـما يطلب البرّ بـما ندب اللّه إلـيه وحضّ علـيه من الأعمال لا بـما نهى عنه. وأما الأخبـار التـي رويت عنه صلى اللّه عليه وسلم من قوله: (الصّائِمُ فـي السّفَرَ كالـمُفْطِر فـي الـحَضَر) فقد يحتـمل أن يكون قـيـل لـمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظلل علـيه إن كان كان قبل ذلك، وغير جائز علـيه أن يضاف إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم قِـيـلُ ذلك، لأن الأخبـار التـي جاءت بذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واهية الأسانـيد لا يجوز الاحتـجاج بها فـي الدين. فإن قال قائل: وكيف عطف علـى الـمريض وهو اسم بقوله: أوْ عَلـى سَفَرٍ و (علـى) صفة لا اسم؟ قـيـل: جاز أن ينسق بعلـى علـى الـمريض، لأنها فـي معنى الفعل، وتأويـل ذلك: أو مسافرا، كما قال تعالـى ذكره: دَعانا لِـجَنْبِه أوْ قاعِدا أو قائما فعطف بـالقاعد والقائم علـى اللام التـي فـي لـجنبه، لأن معناها الفعل، كأنه قال: دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: يريد اللّه بكم أيها الـمؤمنون بترخيصه لكم فـي حال مرضكم وسفركم فـي الإفطار، وقضاء عدّة أيام أخر من الأيام التـي أفطرتـموها بعد أقامتكم وبعد برئكم من مرضكم التـخفـيف علـيكم، والتسهيـل علـيكم لعلـمه بـمشقة ذلك علـيكم فـي هذه الأحوال. وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ يقول: ولا يريد بكم الشدة والـمشقة علـيكم، فـيكفلكم صوم الشهر فـي هذه الأحوال، مع علـمه شدة ذلك علـيكم وثقل حمله علـيكم لو حملكم صومه. كما: ٢٣٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ قال: الـيسر: الإفطار فـي السفر، والعسر: الصيام فـي السفر. ٢٣٤٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي حمزة، قال: سألت ابن عبـاس عن الصوم فـي السفر، فقال: يسر وعسر، فخذ بـيسر اللّه . ٢٣٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ قال: هو الإفطار فـي السفر، وجعل عدّة من أيام أخر، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ. ٢٣٥١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ فأريدوا لأنفسكم الذي أراد اللّه لكم. ٢٣٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن عيـينة، عن عبد الكريـم الـجزري عن طاوس، عن ابن عبـاس قال: لا تعب علـى من صام ولا علـى من أفطر، يعنـي فـي السفر فـي رمضان يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ. ٢٣٥٣ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: حدثنا الفضيـل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال سمعت الضحاك بن مزاحم فـي قوله: يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ الإفطار فـي السفر، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ الصيام فـي السفر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة عدّة ما أفطرتـم من أيام أخر أوجبت علـيكم قضاء عدّة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم. كما: ٢٣٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة قال: عدة ما أفطر الـمريض والـمسافر. ٢٣٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة قال: إكمال العدة: أن يصوم ما أفطر من رمضان فـي سفر أو مرض إلـى أن يتـمه، فإذا أتـمه فقد أكمل العدة. فإن قال قائل: ما الذي علـيه بهذه الواو التـي فـي قوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة عَطَفَتْ؟ قـيـل: اختلف أهل العربـية فـي ذلك، فقال بعضهم: هي عاطفة علـى ما قبلها كأنه قـيـل: ويريد لتكلـموا العدة ولتكبروا اللّه . وقال بعض نـحويـي الكوفة: وهذه اللام التـي فـي قوله: وَلِتُكْمِلُوا لام كي، لو ألقـيت كان صوابـا قال: والعرب تدخـلها فـي كلامها علـى إضمار فعل بعدها، ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفـيها الواو ألا ترى أنك تقول: جئتك لتـحسن إلـيّ، ولا تقول: جئتك ولتـحسن إلـيّ فإذا قلته فأنت تريد: ولتـحسن جئتك قال: وهذا فـي القرآن كثـير، منه قوله: وَلِتَصْغَى إلَـيْهِ أفئِدَةُ وقوله: وكذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيـمَ مَلَكُوتَ السّمَوَات وَالأرْضِ وَلِـيَكُونَ مِنَ الـمُوقِنـين لو لـم تكن فـيه الواو كان شرطا علـى قولك: أريناه ملكوت السموات والأرض لـيكون، فإذا كانت الواو فـيها فلها فعل مضمر بعدها، و (لـيكون من الـموقنـين) أريناه. وهذا القول أولـى بـالصواب فـي العربـية، لأن قوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة لـيس قبله لام بـمعنى التـي فـي قوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة فتعطف بقوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة علـيها، وإن دخول الواو معها يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها، إذ كانت الواو لو حذفت كانت شرطا لـما قبلها من الفعل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلِتُكَبّرُوا اللّه علـى ما هَدَاكُمْ. يعنـي تعالـى ذكره: ولتعظموا اللّه بـالذكر له بـما أنعم علـيكم به من الهداية التـي خذل عنها غيركم من أهل الـملل الذين كتب علـيهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب علـيكم فـيه، فضلوا عنه بإضلال اللّه إياهم، وخصكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتب اللّه علـيكم من صومه، وتشكروه علـى ذلك بـالعبـادة له. والذكر الذي خصهم اللّه علـى تعظيـمه به التكبـير يوم الفطر فـيـما تأوّله جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٥٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن داود بن قـيس، قال: سمعت زيد بن أسلـم يقول: وَلِتُكَبّرُوا اللّه علـى ما هَدَاكُمْ قال: إذا رأى الهلال، فـالتكبـير من حين يرى الهلال حتـى ينصرف الإمام فـي الطريق والـمسجد إلا أنه إذا حضر الإمام كفّ فلا يكبر إلا بتكبـيره. ٢٣٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: سمعت سفـيان يقول: وَلِتُكَبّرُوا اللّه علـى ما هَدَاكُمْ قال: بلغنا أنه التكبـير يوم الفطر. ٢٣٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان ابن عبـاس يقول: حقّ علـى الـمسلـمين إذا نظروا إلـى هلال شوّال أن يكبروا اللّه حتـى يفرغوا من عيدهم لأن اللّه تعالـى ذكره يقول: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّه علـى ما هَدَاكُمْ قال ابن زيد: ينبغي لهم إذا غدوا إلـى الـمصلـى كبروا، فإذا جلسوا كبروا، فإذا جاء الإمام صمتوا، فإذا كبر الإمام كبروا، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبـيره، حتـى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس: قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: والـجماعة عندنا علـى أن يغدوا بـالتكبـير إلـى الـمصلـى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرونَ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولتشكروا اللّه علـى ما أنعم به علـيكم من الهداية والتوفـيق. وتـيسير ما لو شاء عسر علـيكم. و (لعل) فـي هذا الـموضع بـمعنى (كي)، ولذلك عطف به علـى قوله: وَلِتُكْمِلُوا العِدّة وَلِتُكَبّرُوا اللّه علـى ما هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ. ١٨٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وإذا سألك يا مـحمد عبـادي عنـي أين أنا؟ فإنـي قريب منهم أسمع دعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم. وقد اختلفوا فـيـما أنزلت فـيه هذه الآية، فقال بعضهم: نزلت فـي سائل سأل النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا مـحمد أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل اللّه وإذَا سألَكَ عِبَـادِي عَنّـي فإِنـي قَريبٌ أُجِيبُ... الآية. ٢٣٥٩ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبدة السجستانـي، عن الصلت بن حكيـم، عن أبـيه، عن جده. ٢٣٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان عن عوف، عن الـحسن، قال: سأل أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أين ربنا؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَإذَا سألكَ عِبَـادي عَنّـي فإنّـي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان... الآية. وقال آخرون: بل نزلت جوابـا لـمسئلة قوم سألوا النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أيّ ساعة يدعون اللّه فـيها؟ ذكر من قال ذلك: ٢٣٦١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لـما نزلت: وَقَالَ رَبّكُمُ ادْعُونِـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ قالوا فـي أي ساعة؟ قال: فنزلت: وَإذَا سألَكَ عِبَـادِي عَنّـي فإنّـي قَرِيبٌ إلـى قوله: لَعَلّهُمْ يَرْشُدُون. ٢٣٦٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان قالوا: لو علـمنا أيّ ساعة ندعو؟ فنزلت وإذَا سألَكَ عِبَـادِي عَنّـي فإنّـي قَرِيبٌ... الآية. ٢٣٦٣ـ حدثنـي القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: زعم عطاء بن أبـي ربـاح أنه بلغه لـما نزلت: وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونـي أسْتَـجِيبْ لَكُمْ قال.الناس: لو نعلـم أي ساعة ندعو؟ فنزلت: وَإذَا سألكَ عِبـادي عَنّـي فإنّـي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان فَلْـيَسْتَـجيبُوا لـي وَلْـيْوءْمِنُوا بِـي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ. ٢٣٦٤ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإذَا سألَكَ عِبَـادِي عَنّـي فإنّـي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعُوَةَ الدّاعِ إذَا دَعان قال: لـيس من عبد مؤمن يدعو اللّه إلا استـجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق فـي الدنـيا أعطاه اللّه ، وإن لـم يكن له رزقا فـي الدنـيا ذَخَرَهُ له إلـى يوم القـيامة، ودفع عنه به مكروها. ٢٣٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا اللـيث بن سعد، عن ابن صالـح، عمن حدثه أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما أُعْطيَ أحدٌ الدّعاءَ وَمُنِعَ الإجابةَ، لأنّ اللّه يَقُولُ: ادْعُونِـي أسْتَـجِبْ لَكم) ومعنى متأولـي هذا التأويـل: وإذا سألك عبـادي عنـي أيّ ساعة يدعوننـي فإنـي منهم قريب فـي كل وقت أجيب دعوة الداع إذا دعان. وقال آخرون: بل نزلت جوابـا لقول قوم قالوا إذا قال اللّه لهم: ادْعُونـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ إلـى أين ندعوه؟ ذكر من قال ذلك: ٢٣٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال مـجاهد: ادْعُونـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ قالوا: إلـى أين؟ فنزلت: أيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه إنّ اللّه وَاسِعٌ عَلِـيـم. وقال آخرون: بل نزلت جوابـا لقوم قالوا: كيف ندعو؟ ذكر من قال ذلك: ٢٣٦٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لـما أنزل اللّه ادْعُونـي أَسْتَـجِبْ لَكُمْ قال رجال: كيف ندعو يا نبـي اللّه ؟ فأنزل اللّه : وَإذَا سَأَلَكَ عِبَـادي عَنّـي فإنّـي قَرِيبٌ إلـى قوله: يَرْشُدُونَ. وأما قوله: فَلْـيَسْتَـجِيبُوا لـي فإنه يعنـي: فلـيستـجيبوا لـي بـالطاعة، يقال منه: استـجبت له واستـجبته بـمعنى أجبته، كما قال كعب بن سعد الغنوي: ودَاعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ إلـى النّدَىفلَـمْ يَتَـجِهُ عندَ ذَاكَ مُـجِيبُ يريد: فلـم يجبه. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال مـجاهد وجماعة غيره. ٢٣٨٩حدثنا القاسم، قال حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي الـحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد قوله: فَلْـيَسْتَـجِيبُوا لـي قال: فلـيطيعوا لـي، قال: الاستـجابة: الطاعة. ٢٣٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: سألت عبد اللّه بن الـمبـارك عن قوله: فَلْـيَسْتَـجِيبُوا لـي قال: طاعة اللّه . وقال بعضهم: معنى فَلْـيَسْتَـجِيبُوا لـي فلـيدعونـي. ذكر من قال ذلك: ٢٣٦٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي منصور بن هارون، عن أبـي رجاء الـخراسانـي، قال فَلْـيَسْتَـجِيبُوا لـي: فلـيدعونـي. وأما قوله: وَلْـيُوءْمِنُوا بِـي فإنه يعنـي: ولـيصدقوا، أي ولـيؤمنوا بـي إذا هم استـجابوا لـي بـالطاعة أنـي لهم من وراء طاعتهم لـي فـي الثواب علـيها وإجزالـي الكرامة لهم علـيها. وأما الذي تأول قوله: فَلْـيَسْتَـجِيبُوا لـي أي بـمعنى فلـيدعونـي، فإنه كان يتأول قوله: وَلْـيُوءْمِنُوا بـي: ولـيؤمنوا بـي أنـي أستـجيب لهم. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٠ـ حدثنا القاسم، حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي منصور بن هارون، عن أبـي رجاء الـخراسانـي: وَلْـيُوءْمِنُوا بـي يقول: أنـي أستـجيب لهم. وأما قوله: لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ فإنه يعنـي: فلـيستـجيبوا لـي بـالطاعة، ولـيؤمنوا بـي فـيصدّقوا علـى طاعتهم إياي بـالثواب منـي لهم ولـيهتدوا بذلك من فعلهم فـيرشدوا كما: ٢٣٧١ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع فـي قوله: لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ يقول: لعلهم يهتدون. فإن قال لنا قائل: وما معنى هذا القول من اللّه تعالـى ذكره؟ فأنت ترى كثـيرا من البشر يدعون اللّه فلا يجاب لهم دعاء وقد قال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذَا دَعانِ؟ قـيـل: إن لذلك وجهين من الـمعنى: أحدهما أن يكون معنـيا بـالدعوة العمل بـما ندب اللّه إلـيه وأمر به، فـيكون تأويـل الكلام: وإذا سألك عبـادي عنـي فإنـي قريب مـمن أطاعنـي وعمل بـما أمرته به أجيبه بـالثواب علـى طاعته إياي إذا أطاعنـي. فـيكون معنى الدعاء مسألة العبد ربه وما وعد أولـياؤه علـى طاعتهم بعلـمهم بطاعته، ومعنى الإجابة من اللّه التـي ضمنها له الوفـاء له بـما وعد العاملـين له بـما أمرهم به، كما رُوي عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم من قوله: (إنّ الدّعاءَ هُوَ العِبَـادَة). ٢٣٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جويبر، عن الأعمش، عن ذرّ، عن سَبـيْع الـحضرمي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ الدّعاءَ هُوَ العِبَـادةُ)، ثم قرأ: وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكُبِرُونَ عَنْ عِبَـادَتـي سَيَدْخُـلُونَ جَهَنّـمَ دَاخِرين. فأخبر صلى اللّه عليه وسلم أن دعاء اللّه إنـما هو عبـادته ومسألته بـالعمل له والطاعة وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك ذكر أن الـحسن كان يقول. ٢٣٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي منصور بن هارون، عن عبد اللّه بن الـمبـارك، عن الربـيع بن أنس، عن الـحسن أنه قال فـيها: ادْعُونـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ قال: اعملوا وأبشروا فإنه حق علـى اللّه أن يستـجيب الذين آمنوا وعملوا الصالـحات ويزيدهم من فضله. والوجه الاَخر: أن يكون معناه: أجيب دعوة الداع إذا دعان إن شئتَ. فـيكون ذلك وإن كان عاما مخرجه فـي التلاوة خاصا معناه. ١٨٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُمْ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُحِلّ لَكُمْ أطلق لكم وأبـيح. ويعنـي بقوله: لَـيْـلَةَ الصّيَامِ فـي لـيـلة الصيام. فأما الرفث فأنه كناية عن الـجماع فـي هذا الـموضع، يقال: هو الرفث والرفّوث. وقد رُوي أنها فـي قراءة عبد اللّه : (أحل لكم لـيـلة الصيام الرفوث إلـى نسائكم). وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل الرفث قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٣٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قال: حدثنا أيوب بن سويد، عن سفـيان، عن عاصم، عن بكر عن عبد اللّه الـمزنـي، عن ابن عبـاس قال: الرفث: الـجماع، ولكن اللّه كريـم يَكْنـي. ٢٣٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عبـاس ، مثله. ٢٣٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: الرفث: النكاح. ٢٣٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الرفث: غشيان النساء. ٢٣٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ قال: الـجماع. ٢٣٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٣٨٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: الرفث: هو النكاح. ٢٣٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: قال: حدثنا إسحاق، قال حدثنا عبد الكبـير البصري، قال: حدثنا الضحاك بن عثمان، قال: سألت سالـم بن عبد اللّه عن قوله: أُحِلّ لَكُمْ لَـيُـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ قال: هو الـجماع. ٢٣٨٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسَائِكُمْ يقول: الـجماع. والرفث فـي غير هذا الـموضع الإفحاش فـي الـمنطق كما قال العجاج: عَن اللّغا وَرَفَثِ التّكَلّـم القول فـي تأويـل قوله تعالـى: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: نساؤكم لبـاس لكم، وأنتـم لبـاس لهنّ. فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لبـاسا لنا ونـحن لهن لبـاسا واللبـاس إنـما هو ما لبس؟ قـيـل: لذلك وجهان من الـمعانـي: أحدهما أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لبـاسا، لتـخرجهما عند النوم واجتـماعهما فـي ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبة بـمنزلة ما يـلبسه علـى جسده من ثـيابه، فقـيـل لكل واحد منهما هو لبـاس لصاحبه، كما قال نابغة بنـي جعدة: إذَا ما الضّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهاتَدَاعَتْ فَكانَتْ عَلَـيْهِ لِبـاساخ ويروي (تثنت) فكنى عن اجتـماعهما متـجرّدين فـي فراش واحد بـاللبـاس كما يكنى بـالثـياب عن جسد الإنسان، كما قالت لـيـلـى وهي تصف إبلاً ركبها قوم: رَمَوها بأثْوَابٍ خِفـافٍ فَلا تَرَىلَهَا شَبَها إلاّ النّعامَ الـمُنَفّرَا يعنـي رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذلـي: تَبَرّأُ مِنْ دَمِ القَتِـيـلِ وَوَتْرِهِوقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِـيـلِ إزَارُها يعنـي بإزارها نفسها. وبذلك كان الربـيع يقول: ٢٣٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ يقول: هنّ لـحاف لكم، وأنتـم لـحاف لهن. والوجه الاَخر أن يكون جعل كل واحد منهما لصاحبه لبـاسا لأنه سَكَنٌ له، كما قال جل ثناؤه: جَعَلَ لَكُمُ اللّـيْـلَ لِبـاسا يعنـي بذلك سكنا تسكنون فـيه. وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إلـيها، كما قال تعالـى ذكره: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِـيَسْكُنَ إلَـيْهَا فـيكون كل واحد منهما لبـاس لصاحبه، بـمعنى سكونه إلـيه، وبذلك كان مـجاهد وغيره يقولون فـي ذلك. وقد يقال لـما ستر الشيء وواراه عن أبصار الناظرين إلـيه هو لبـاسه وغشاؤه، فجائز أن يكون قـيـل: هن لبـاس لكم، وأنتـم لبـاس لهنّ، بـمعنى أن كل واحد منكم ستر لصاحبه فـيـما يكون بـينكم من الـجماع عن أبصار سائر الناس. وكان مـجاهد وغيره يقولون فـي ذلك بـما: ٢٣٨٤ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ يقول: سكن لهن. ٢٣٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ قال قتادة: هنّ سكن لكم، وأنتـم سكن لهنّ. ٢٣٨٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ يقول: سكن لكم، وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ يقول: سكن لهن. ٢٣٨٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد فـي قوله: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ قال: الـمواقعة. ٢٣٨٨ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إبراهيـم، عن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس قوله: هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ قال: هنّ سكن لكم، وأنتـم سكن لهن. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ كُنْتُـمْ تَـخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَـيْكُمْ وَعَفـا عَنْكُمْ فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ وابُتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ. إن قال لنا قائل: وما هذه الـخيانة التـي كان القوم يختانونها أنفسهم التـي تاب اللّه منها علـيهم فعفـا عنهم؟ قـيـل: كانت خيانتهم أنفسهم التـي ذكرها اللّه فـي شيئين: أحدهما جماع النساء، والاَخر: الـمطعم والـمشرب فـي الوقت الذي كان حراما ذلك علـيهم. كما: ٢٣٨٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: حدثنا ابن أبـي لـيـلـى: أن الرجل كان إذا أفطر فنام لـم يأتها، وإذا نام لـم يطعم، حتـى جاء عمر بن الـخطاب يريد امرأته فقالت امرأته: قد كنت نـمت فظن أنها تعتل فوقع بها قال: وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم فقالوا: نسخن لك شيئا؟ قال: ثم نزلت هذه الآية: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ الآية. ٢٣٩٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلـما دخـل رمضان كانوا يصومون، فإذا لـم يأكل الرجل عند فطره حتـى ينام لـم يأكل إلـى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لـم يكن له أن يأتـيها إلـى مثلها. فجاء شيخ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعمونـي فقالت: حتـى أجعل لك شيئا سخنا، قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إنـي قد نـمت فلـم يعذرها وظن أنها تعتلّ فواقعها. فبـات هذا وهذا يتقلبـان لـيـلتهما ظهرا وبطنا، فأنزل اللّه فـي ذلك: وكُلُوا واشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنِ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر وقال: فَـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ فعفـا اللّه عن ذلك. وكانت سنة. ٢٣٩١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن معاذ بن جبل، قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لـم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتـيان النساء، فكان رجل من الأنصار يدعى أبـا صرمة يعمل فـي أرض له، قال: فلـما كان عند فطره نام، فأصبح صائما قد جهد، فلـما رآه النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما لـي أَرَى بِكَ جَهْدا)؟، فأخبر بـما كان من أمره. واختان رجل نفسه فـي شأن النساء، فأنزل اللّه أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ... إلـى آخر الآية. ٢٣٩٢ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنـي أبـي، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن البراء نـحو حديث ابن أبـي لـيـلـى الذي حدث به عمرو بن مرة، عن الرحمن بن أبـي لـيـلـى قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدهم لـم يأكل شيئا حتـى يكون من الغد، فجاء رجل من الأنصار، وقد عمل فـي أرض له وقد أعيا وكلّ، فغلبته عينه ونام، وأصبح من الغد مـجهودا، فنزلت هذه الآية: وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمْ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ. ٢٣٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن رجاء البصري، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن البراء، قال: كان أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لـم يأكل إلـى مثلها، وإن قـيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، وكان توجه ذلك الـيوم فعمل فـي أرضه، فلـما حضر الإفطار أتـى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نـمت فلـم ينتصف النهار حتـى غشي علـيه، فذكرت ذلك للنبـي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت فـيه هذه الآية: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ إلـى: مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ ففرحوا بها فرحا شديدا. حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه تعالـى ذكره: أُحِلّ لكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائكُم وذلك أن الـمسلـمين كانوا فـي شهر رمضان إذا صلو العشاء حرم علـيهم النساء والطعام إلـى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من الـمسلـمين أصابوا الطعام والنساء فـي رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الـخطاب، فشكوا ذلك إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ كُنْتُـمْ تـخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَـيْكُمْ وَعَفَـا عَنْكُمْ فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ يعنـي انكحوهن وكُلُوا وَاشْرَبُوا حّتـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ. ٢٣٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن لهيعة، قال: حدثنـي موسى بن جبـير مولـى بنـي سلـمة أنه سمع عبد اللّه بن كعب بن مالك يحدّث عن أبـيه قال: كان الناس فـي رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم علـيه الطعام والشراب والنساء حتـى يفطر من الغد. فرجع عمر بن الـخطاب من عند النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ذات لـيـلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها، فقالت: إنـي قد نـمت فقال: ما نـمت ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الـخطاب إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ كُنْتُـمْ تَـخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَـيْكُمْ وَعَفـا عَنْكُمْ فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ... الآية. ٢٣٩٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: حدثنا ثابت: أن عمر بن الـخطاب واقع أهله لـيـلة فـي رمضان، فـاشتدّ ذلك علـيه، فأنزل اللّه : أحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةُ الصّيَامِ الرّفِثُ إلـى نِسائِكُمْ. ٢٣٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ إلـى: وعَفـا عَنْكُمْ كان الناس أول ما أسلـموا إذا صام أحدهم يصوم يومه، حتـى إذا أمسى طعم من الطعام فـيـما بـينه وبـين العتـمة، حتـى إذا صُلـيت حرم علـيهم الطعام حتـى يـمسي من اللـيـلة القابلة. وإن عمر بن الـخطاب بـينـما هو نائم، إذ سوّلت له نفسه، فأتـى أهله لبعض حاجته، فلـما اغتسل أخذ يبكي ويـلوم نفسه كأشدّ ما رأيت من الـملامة. ثم أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إنى أعتذر إلـى اللّه وإلـيك من نفسي هذه الـخاطئة، فإنها زينت لـي فواقعت أهلـي، هل تـجد لـي من رخصة يا رسول اللّه ؟ قال: (لـم تَكُنْ حَقِـيقا بذلك يا عُمَر)، فلـما بلغ بـيته، أرسل إلـيه فأنبأه بعذره فـي آية من القرآن، وأمر اللّه رسوله أن يضعها فـي الـمائة الوسطى من سورة البقرة، فقال: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ إلـى عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ كُنْتُـمْ تَـخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ يعنـي بذلك الذي فعل عمر بن الـخطاب. فأنزل اللّه عفوه، فقال: فَتابَ عَلَـيْكُمْ وَعَفَـا عَنْكُمْ فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ إلـى: مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ فأحلّ لهم الـمـجامعة والأكل والشرب حتـى يتبـين لهم الصبح. ٢٣٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ قال: كان الرجل من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يصوم الصيام بـالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رقد حرم ذلك كله علـيه إلـى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يختانون أنفسهم فـي ذلك، فعفـا اللّه عنهم، وأحلّ ذلك لهم بعد الرقاد وقبله فـي اللـيـل كله. ٢٣٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم يصوم الصائم فـي رمضان، فإذا أمسى، ثم ذكر نـحو حديث مـحمد بن عمرو وزاد فـيه: وكان منهم رجال يختانون أنفسهم، وكان عمر بن الـخطاب مـمن اختان نفسه، فعفـا اللّه عنهم، وأحلّ ذلك لهم بعد الرقاد وقبله، وفـي اللـيـل كله. ٢٣٩٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنـي إسماعيـل بن شَرُوس، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس : أن رجلاً قد سماه من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأنصار جاء لـيـلة وهو صائم، فقالت له امرأته: لا تنـم حتـى نصنع لك طعاما فنام، فجاءت فقالت: نـمت واللّه فقال: لا واللّه قالت: بلـى واللّه فلـم يأكل تلك اللـيـلة وأصبح صائما، فغشي علـيه فأنزلت الرخصة فـيه. ٢٤٠٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ كُنْتُـمْ تَـخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ وكان بدء الصيام أمروا بثلاثة أيام من كل شهر ركعتـين غدوة، وركعتـين عشية، فأحلّ اللّه لهم فـي صيامهم فـي ثلاثة أيام، وفـي أوّل ما افترض علـيهم فـي رمضان إذا أفطروا وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالاً ما لـم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم علـيهم ذلك إلـى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، ثم أحلّ اللّه لهم ذلك الطعام والشراب وغشيان النساء إلـى طلوع الفجر. ٢٤٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ قال: كان الناس قبل هذه الآية إذا رقد أحدهم من اللـيـل رقدة، لـم يحلّ له طعام ولا شراب، ولا أن يأتـي امرأته إلـى اللـيـلة الـمقبلة، فوقع بذلك بعض الـمسلـمين، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب، ومنهم من وقع علـى امرأته فرخص اللّه ذلك لهم. ٢٤٠٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: كتب علـى النصارى رمضان، وكتب علـيهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فكتب علـى الـمؤمنـين كما كتب علـيهم، فلـم يزل الـمسلـمون علـى ذلك يصنعون كما تصنع النصارى، حتـى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قـيس بن صرمة، وكان يعمل فـي حيطان الـمدينة بـالأجر، فأتـى أهله بتـمر، فقال لامرأته: استبدلـي بهذا التـمر طحينا فـاجعلـيه سخينة لعلـي أن آكله، فإن التـمر قد أحرق جوفـي، فـانطلقت فـاستبدلت له، ثم صنعت، فأبطأت علـيه فنام، فأيقظته، فكره أن يعصي اللّه ورسوله، وأبى أن يأكل، وأصبح صائما فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالعشي، فقال: (ما لك يا أبـا قَـيْسِ أَمْسَيْتَ طَلِـيحا)، فقصّ علـيه القصة. وكان عمر بن الـخطاب وقع علـى جارية له فـي ناس من الـمؤمنـين لـم يـملكوا أنفسهم فلـما سمع عمر كلام أبـي قـيس رهب أن ينزل فـي أبـي قـيس شيء، فتذكر هو، فقام فـاعتذر إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه إنـي أعوذ بـاللّه إنـي وقعت علـى جاريتـي، ولـم أملك نفسي البـارحة فلـما تكلـم عمر تكلـم أولئك الناس، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (ما كُنْتَ جَدِيرا بِذَلِكَ يَا ابْنَ الـخَطّاب)، فنسخ ذلك عنهم، فقال: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ هُنّ لِبـاسٌ لَكُمْ وأنْتُـمْ لِبـاسٌ لَهُنّ، عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ كُنْتُـمْ تَـخْتَانُونَ أنْفُسَكم يقول: إنكم تقعون علـيهن خيانة، فَتابَ عَلَـيْكُمْ وَعَفَـا عَنْكُمْ فـالاَنَ بـاشرُوهُنّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ يقول: جامعوهن ورجع إلـى أبـي قـيس فقال: وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ. ٢٤٠٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أُحِل لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إِلـى نِسائِكُمْ قال: كانوا فـي رمضان لا يـمسّون النساء ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتـى اللـيـل من القابلة، فإن مسوهنّ قبل أن يناموا لـم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام، فقال: قد اختنت نفسي فنزل القرآن، فأحلّ لهم النساء والطعام والشراب حتـى يتبـين لهم الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود من الفجر قال: وقال مـجاهد: كان أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يصوم الصائم منهم فـي رمضان، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رقد حرم علـيه ذلك كله حتـى كمثلها من القابلة، وكان منهم رجاله يختانون أنفسهم فـي ذلك. فعفـا عنهم وأحلّ لهم بعد الرقاد وقبله فـي اللـيـل، فقال: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ... الآية. ٢٤٠٤ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة أنه قال فـي هذه الآية: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيام الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ مثل قول مـجاهد، وزاد فـيه: أن عمر بن الـخطاب قال لامرأته: لا ترقدي حتـى أرجع من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرقدت قبل أن يرجع، فقال لها: ما أنت براقدة ثم أصابها حتـى جاء إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة: نزلت وكُلُوا وَاشْرَبُوا الآية فـي أبـي قـيس بن صرمة من بنـي الـخزرج أكل بعد الرقاد. ٢٤٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن يحيى بن حبـان أن صرمة بن أنس أتـى أهله ذات لـيـلة وهو شيخ كبـير وهو صائم، فلـم يهيئوا له طعاما، فوضع رأسه فأغفـى، وجاءته امرأته بطعامه، فقالت له: كل فقال: إنـي قد نـمت، قالت: إنك لـم تنـم فأصبح جائعا مـجهودا، فأنزل اللّه : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حّتـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْودِ مِنَ الفَجْرِ. فأما الـمبـاشرة فـي كلام العرب: فإنه ملاقاة بشرة ببشرة، وبشرة الرجل: جلدته الظاهرة. وإنـما كنى اللّه بقوله: فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ عن الـجماع: يقول: فـالاَن إذا أحللت لكم الرفث إلـى نسائكم فجامعوهنّ فـي لـيالـي شهر رمضان حتـى يطلع الفجر، وهي تبـين الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود من الفجر، وبـالذي قلنا فـي الـمبـاشرة قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٤٠٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان. وحدثنا عبد الـحميد بن سنان، قال: حدثنا إسحاق، عن سفـيان. وحدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أيوب بن سويد، عن سفـيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد اللّه الـمزنـي، عن ابن عبـاس ، قال: الـمبـاشرة: الـجماع، ولكن اللّه كريـم يكنـي. ٢٤٠٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد اللّه الـمزنـي، عن ابن عبـاس نـحوه. ٢٤٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ انكحوهن. ٢٤٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: الـمبـاشرة: النكاح. ٢٤١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: فـالاَنَ بـاشِرُوهُنّ قال: الـجماع، وكل شيء فـي القرآن من ذكر الـمبـاشرة فهو الـجماع نفسه، وقالها عبد اللّه بن كثـير مثل قول عطاء فـي الطعام والشراب والنساء. ٢٤١١ـ حدثنا حميد بن مسعدة قال: وحدثنا ابن بشار، وقال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: الـمبـاشرة الـجماع، ولكن اللّه يكنـي ما شاء بـما شاء. ٢٤١٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال أبو بشر: أخبرنا، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس مثله. ٢٤١٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فـالاَنَ بـاشِرُوهُن يقول: جامعوهن. ٢٤١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـمبـاشرة: الـجماع. ٢٤١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله. ٢٤١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الأوزاعي، قال: حدثنـي عبدة بن أبـي لبـابة، قال: سمعت مـجاهدا يقول: الـمبـاشرة فـي كتاب اللّه : الـجماع. ٢٤١٧ـ حدثنا ابن البرقـي، حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: قال الأوزاعي: حدثنا من سمع مـجاهدا يقول: الـمبـاشرة فـي كتاب اللّه الـجماع. واختلفوا فـي تأويـل قوله وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ فقال بعضهم: الولد. ذكر من قال ذلك: ٢٤١٨ـ حدثنـي عبدة بن عبد اللّه الصفـار البصري، قال: حدثنا إسماعيـل بن زياد الكاتب، عن شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الولد. ٢٤١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود، عن شعبة قال: سمعت الـحكم: واَبْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الولد. ٢٤٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن عكرمة قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الولد. ٢٤٢١ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال: سمعت الـحسن بن أبـي الـحسن يقول فـي هذه الآية: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الولد. ٢٤٢٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ فهو الولد. ٢٤٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ يعنـي الولد. ٢٤٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الولد، فإن لـم تلد هذه فهذه. ٢٤٢٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه. ٢٤٢٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عمن سمع الـحسن فـي قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: هو الولد. ٢٤٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: ما كتب لكم من الولد. ٢٤٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الـجماع. ٢٤٢٩ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: حدثنا الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـمان، قال، سمعت الضحاك بن مزاحم قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: الولد. وقال بعضهم: معنى ذلك لـيـلة القدر. ذكر من قال ذلك: ٢٤٣٠ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي عن عمرو بن مالك، عن أبـي الـجوزاء عن ابن عبـاس : وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: لـيـلة القدر. قال أبو هشام: هكذا قرأها معاذ. ٢٤٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا الـحسن بن أبـي جعفر، قال: حدثنا عمرو بن مالك عن أبـي الـجوزاء، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ قال: لـيـلة القدر. وقال آخرون: بل معناه: ما أحلّه اللّه لكم ورخصه لكم. ذكر من قال ذلك: ٢٤٣٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ يقول: ما أحله اللّه لكم. ٢٤٣٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة فـي ذلك: ابتغوا الرخصة التـي كتبت لكم. وقرأ ذلك بعضهم: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْذكر من قال ذلك: ٢٤٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: قلت لابن عبـاس : كيف تقرأ هذه الآية: وَابْتَغُوا أو (واتّبِعُوا)؟ قال: أيتهما شئت قال: علـيك بـالقراءة الأولـى. والصواب من القول فـي تأويـل ذلك عندي أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره قال: وَابْتَغُوا بـمعنى: اطلبوا ما كتب اللّه لكم، يعنـي الذي قضى اللّه تعالـى لكم. وإنـما يريد اللّه تعالـى ذكره: اطلبوا الذي كتبت لكم فـي اللوح الـمـحفوظ أنه يبـاح فـيطلق لكم وطلب الولد إن طلبه الرجل بجماعه الـمرأة مـما كتب اللّه له فـي اللوح الـمـحفوظ، وكذلك إن طلب لـيـلة القدر، فهو مـما كتب اللّه له، وكذلك إن طلب ما أحلّ اللّه وأبـاحه، فهو مـما كتبه له فـي اللوح الـمـحفوظ. وقد يدخـل فـي قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ جميع معانـي الـخير الـمطلوبة، غير أن أشبه الـمعانـي بظاهر الآية قول من قال معناه: وابتغوا ما كتب اللّه لكم من الولد لأنه عقـيب قوله: فـالاَنَ بـاشِرُوهنّ بـمعنى: جامعوهنّ فلأن يكون قوله: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّه لَكُمْ بـمعنى: وابتغوا ما كتب اللّه فـي مبـاشرتكم إياهنّ من الولد والنسل أشبه بـالآية من غيره من التأويلات التـي لـيس علـى صحتها دلالة من ظاهر التنزيـل، ولا خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وكُلُوا وَاشْرَبُوا حّتـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتِـمّوا الصّيامَ إلـى اللّـيْـلِ . اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: حَتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ فقال بعضهم: يعنـي بقوله: الـخيط الأبـيض: ضوء النهار. وبقوله: الـخيط الأسود: سواد اللـيـل. فتأويـله علـى قول قائل هذه الـمقالة: وكلوا بـاللـيـل فـي شهر صومكم، واشربوا، وبـاشروا نساءكم، مبتغين ما كتب اللّه لكم من الولد، من أول اللـيـل إلـى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلـمة اللـيـل وسواده. ذكر من قال ذلك: ٢٤٣٥ـ حدثنـي الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا روح بن عبـادة، قال: حدثنا أشعث، عن الـحسن فـي قول اللّه تعالـى ذكره: حَتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمْ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ قال: اللـيـل من النهار. ٢٤٣٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وكُلُوا واشْرَبُوا حّتـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَد مِنَ الفَجْر قال: حتـى يتبـين لكم النهار من اللـيـل، ثم أتـموا الصيام إلـى اللـيـل. ٢٤٣٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتـمّوا الصّيَامَ إلـى اللّـيْـلِ فهما علـمان وحَدّان بـيّنان فلا يـمنعكم أذان مؤذّن مراء أو قلـيـل العقل من سحوركم فإنهم يؤذنون بهجيع من اللـيـل طويـل. وقد يُرى بـياضٌ مّا علـى السحر يقال له الصبح الكاذب كانت تسميه العرب، فلا يـمنعكم ذلك من سحوركم، فإن الصبح لا خفـاء به: طريقةٌ معترضة فـي الأفق، وكلوا واشربوا حتـى يتبـين لكم الصبح، فإذا رأيتـم ذلك فأمسكوا. ٢٤٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ يعنـي اللـيـل من النهار. فأحلّ لكم الـمـجامعة والأكل والشرب حتـى يتبـين لكم الصبح، فإذا تبـين الصبح حرم علـيهم الـمـجامعة والأكل والشرب حتـى يتـموا الصيام إلـى اللـيـل. فأمر بصوم النهار إلـى اللـيـل، وأمر بـالإفطار بـاللـيـل. ٢٤٣٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، وقـيـل له: أرأيت قول اللّه تعالـى: الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ؟ قال: (إنّكَ لعَرِيضُ القَـفَـا)، قال: هذا ذهاب اللـيـل ومـجيء النهار. قـيـل له: الشعبـي عن عديّ بن حاتـم؟ قال: نعم، حدثنا حصين. وعلة من قال هذه الـمقالة وتأوّل الآية هذا التأويـل ما: ٢٤٤٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن مـجالد بن سعيد، عن الشعبـيّ، عن عدي بن حاتـم، قال: قلت يا رسول اللّه ، قول اللّه : وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ قال: (هُوَ بَـيَاضُ النّهارِ وَسَوادُ اللّلـيْـلِ). ٢٤٤١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن نـمير وعبد الرحيـم بن سلـيـمان، عن مـجالد، عن سعيد، عن عامر، عن عديّ بن حاتـم، قال: أتـيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعلـمنـي الإسلام، ونعت لـي الصلوات، كيف أصلـي كل صلاة لوقتها، ثم قال: (إذا جَاءَ رَمَضانُ فَكُلْ واشْرَبْ حتـى يَتَبَـيّنَ لك الـخَيْطُ الأَبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ، ثُمّ أتِـمّ الصّيَامَ إلـى اللـيـلِ)، ولـم أدر ما هو، ففتلت خيطين من أبـيض وأسود، فنظرت فـيهما عند الفجر، فرأيتهما سواء. فأتـيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللّه كل شيء أوصيتنـي قد حفظت، غير الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود، قال: (وَمَا مَنَعَكَ يا ابنَ حاتـمٍ؟) وتبسم كأنه قد علـم ما فعلت. قلت: فتلت خيطين من أبـيض وأسود فنظرت فـيهما من اللـيـل فوجدتهما سواء. فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى رُئي نواجذه، ثم قال: (ألَـمْ أقُلْ لَكَ مِنَ الفَجْرِ؟ إنـمَا هُوَ ضَوْءُ النهَارِ وَظُلْـمَةُ اللّـيْـلِ). ٢٤٤٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مالك بن إسماعيـل، قال: حدثنا داود وابن علـية جميعا، عن مطرف، عن الشعبـي، عن عديّ بن حاتـم، قال: قلت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود، أهما خيطان أبـيض وأسود؟ فقال: (إنّكَ لَعرِيضُ القَـفـا إنْ أبْصَرْتَ الـخَيْطَيْن)، ثم قال: (لا وَلَكِنّهُ سَوَادُ اللّـيْـلِ وَبَـياضُ النّهار). ٢٤٤٣ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحيـم البرقـي، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: نزلت هذه الآية: وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ فلـم ينزل مِنَ الفَجْرِ قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فـي رجلـيه الـخيط الأسود والـخيط الأبـيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتـى يتبـين له فأنزل اللّه بعد ذلك: مِنَ الفَجْرِ فعلـموا إنـما يعنـي بذلك: اللـيـل والنهار. وقال متأولو وقول اللّه تعالـى ذكره: حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ أنه بـياض النهار وسواد اللـيـل، صفة ذلك البـياض أن يكون منتشرا مستفـيضا فـي السماء يـملأ بـياضه وضوءه الطرق، فأما الضوء الساطع فـي السماء فإن ذلك غير الذي عناه اللّه بقوله: الـخَيْط الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسْوَدِ. ذكر من قال ذلك: ٢٤٤٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبـي مـجلز: الضوء الساطع فـي السماء لـيس بـالصبح، ولكن ذاك الصبح الكذاب، إنـما الصبح إذا انفضح الأفق. ٢٤٤٥ـ حدثنـي مسلـم بن جنادة السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلـم، قال: لـم يكونوا يعدّون الفجر فجركم هذا، كانوا يعدّون الفجر الذي يـملأ البـيوت والطرق. ٢٤٤٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام، عن الأعمش، عن مسلـم: ما كانوا يرون إلا أن الفجر الذي يستفـيض فـي السماء. ٢٤٤٧ـ حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا روح بن عبـادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنـي عطاء أنه سمع ابن عبـاس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطع فـي السماء فلـيس يحلّ ولا يحرّم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبـين علـى رءوس الـجبـال هو الذي يحرّم الشراب. ٢٤٤٨ـ حدثنا الـحسن بن الزبرقان النـخعي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن مـحمد بن أبـي ذؤيب، عن الـحرث بن عبد الرحمن، عن مـحمد بن عبد الرحمن بن ثوبـان، قال: (الفَجْرُ فَجْرَانِ، فـالّذَي كأنه ذَنَبُ السّرْحَانِ لا يُحَرّمُ شَيْئا، وأما الـمُسْتَطِيرُ الذي يَأْخُذُ الأُفُقَ فإنّه يُحِلّ الصّلاةَ ويُحَرّمُ الصّوْمَ). ٢٤٤٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وإسماعيـل بن صبـيح وأبو أسامة، عن أبـي هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لاَ يَـمْنَعْكُمْ مِنَ سُحْورِكُمْ أذَانُ بِلالٍ وَلا الفَجْرُ الـمُسْتَطِيـلُ، وَلَكِنِ الفَجْرُ الـمُسْتَطِيرُ فِـي الأُفُقِ). ٢٤٥٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام الأسدي، قال: حدثنا شعبة، عن سوادة قال: سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول: (لا يَغُرّنّكُمْ نِدَاءُ بِلالٍ وَلا هَذَا البَـياضُ حتّـى يَبْدُوَ الفَجْرُ وَيَنفَجِرَ). وقال آخرون: الـخيط الأبـيض: هو ضوء الشمس، والـخيط الأسود: هو سواد اللـيـل. ذكر من قال ذلك: ٢٤٥١ـ حدثنا هشام بن السري، قال: حدثنا عبـادة بن حميد، عن الأعمش، عن إبراهيـم التـيـمي، قال: سافر أبـي مع حذيفة قال: فسار حتـى إذا خشينا أن يفجأنا الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قال: قلت له: أما من يريد الصوم فلا قال: بلـى قال: ثم سار حتـى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحّر. ٢٤٥٢ـ حدثنا هناد وأبو السائب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم التـيـمي، عن أبـيه، قال: خرجت مع حذيفة إلـى الـمدائن فـي رمضان، فلـما طلع الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أما رجل يريد أن يصوم فلا قال: لكنـي قال: ثم سرنا حتـى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحر؟ قال: قلنا أما من يريد الصوم فلا قال: لكنّـي ثم نزل فتسحّر، ثم صلـى. ٢٤٥٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: ربـما شربت بعد قول الـمؤذّن يعنـي فـي رمضان قد قامت الصلاة قال: وما رأيت أحدا كان أفعل له من الأعمش، وذلك لـما سمع، قال: حدثنا إبراهيـم التـيـمي عن أبـيه قال: كنا مع حذيفة نسير لـيلاً، فقال: هل منكم متسحر الساعة؟ قال: ثم سار، ثم قال حذيفة: هل منكم متسحر الساعة؟ قال: ثم سار حتـى استبطأنا الصلاة، قال: فنزل فتسحّر. ٢٤٥٤ـ حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانـي، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو إسحاق عن هبـيرة، عن علـيّ، أنه لـما صلـى الفجر، قال: هذا حين يتبـين الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود من الفجر. ٢٤٥٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن الصلت، قال: حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار، عن أبـيه، عن البراء، قال: تسحرت فـي شهر رمضان، ثم خرجت، فأتـيت ابن مسعود، فقال: اشرب فقلت: إنـي قد تسحرت. فقال: اشرب فشربنا ثم خرجنا والناس فـي الصلاة. ٢٤٥٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الشيبـانـي، عن جبلة بن سحيـم، عن عامر بن مطر، قال أتـيت عبد اللّه بن مسعود فـي داره، فأخرج فضلاً من سحوره، فأكلنا معه، ثم أقـيـمت الصلاة فخرجنا فصلـينا. ٢٤٥٧ـ حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبـي إسحاق، عن عبد اللّه بن معقل، عن سالـم مولـى أبـي حذيفة قال: كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد فـي رمضان، فأتـيت ذات لـيـلة فقلت: ألا تأكل يا خـلـيفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فأومأ بـيده أن كفّ، ثم أتـيته مرة أخرى، فقلت له: ألا تأكل يا خـلـيفة رسول اللّه ؟ فأومأ بـيده أن كفّ. ثم أتـيته مرة أخرى، فقلت: ألا تأكل يا خـلـيفة رسول اللّه ؟ فنظر إلـى الفجر ثم أومأ بـيده أن كفّ. ثم أتـيته فقلت: ألا تأكل يا خـلـيفة رسول اللّه ؟ قال: هات غداءك قال: فأتـيته به فأكل ثم صلـى ركعتـين، ثم قام إلـى الصلاة. ٢٤٥٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: الوتر بـاللـيـل والسحور بـالنهار. وقد روي عن إبراهيـم غير ذلك. ٢٤٥٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن حماد، عن إبراهيـم، قال: السحور بلـيـل، والوتر بلـيـل. ٢٤٦٠ـ حدثنا حكام عن ابن أبـي جعفر، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، قال: السحور والوتر ما بـين التثويب والإقامة. ٢٤٦١ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن شبـيب بن غرقدة، عن عروة، عن حبـان، قال: تسحرنا مع علـيّ ثم خرجنا وقد أقـيـمت الصلاة فصلـينا. ٢٤٦٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن شبـيب، عن حبـان بن الـحرث، قال: مررت بعلـيّ وهو فـي دار أبـي موسى وهو يتسحر، فلـما انتهيت إلـى الـمسجد أقـيـمت الصلاة. ٢٤٦٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبـي إسحاق، عن أبـي السفر، قال: صلـى علـيّ بن أبـي طالب الفجر، ثم قال: هذا حين يتبـين الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود من الفجر. وعلة من قال هذا القول أن القول إنـما هو النهار دون اللـيـل. قالوا: وأول النهار طلوع الشمس، كما أن آخره غروبها. قالوا: ولو كان أوله طلوع الفجر لوجب أن يكون آخره غروب الشفق. قالوا: وفـي إجماع الـحجة علـى أن آخر النهار غروب الشمس دلـيـل واضح، علـى أن أوله طلوعها. قالوا: وفـي الـخبر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه تسحر بعد طلوع الفجر أوضح الدلـيـل علـى صحة قولنا. ذكر الأخبـار التـي رويت عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك: ٢٤٦٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: قلت: تسحرتَ مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لو أشاء لأقول هو النهار إلا أن الشمس لـم تطلع. ٢٤٦٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: ما كذب عاصم علـى زر، ولا زر علـى حذيفة، قال: قلت له: يا أبـا عبد اللّه تسحرتَ مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم؟ قال: نعم هو النهار إلا أن الشمس لـم تطلع. ٢٤٦٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل قال: قلت أبعد الصبح؟ قال: هو الصبح إلا أنه لـم تطلع الشمس. ٢٤٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا وخلاد الصفـار، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبـيش، قال: أصبحت ذات يوم فغدوت إلـى الـمسجد، فقلت: لو مررت علـى بـاب حذيفة ففتـح لـي فدخـلت، فإذا هو يُسخّن له طعام، فقال: اجلس حتـى تَطعَم فقلت: إنـي أريد الصوم. فقرب طعامه فأكل وأكلت معه، ثم قام إلـى لِقْحة فـي الدار، فأخذ يحلب من جانب وأحلب أنا من جانب، فناولنـي، فقلت: ألا ترى الصبح؟ فقال: اشرب فشربت، ثم جئت إلـى بـاب الـمسجد فأقـيـمت الصلاة، فقلت له: أخبرنـي بآخر سحور تسحرته مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: هو الصبح إلا أنه لـم تطلع الشمس. ٢٤٦٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا روح بن جنادة، قال: حدثنا حماد، عن مـحمد بن عمرو، عن أبـي سلـمة، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إذَا سَمِعَ أحَدُكُمُ النّدَاءَ وَالإناءُ علـى يَدِهِ فَلا يَضَعْهُ حتّـى يَقْضِيَ حاجَتَهُ مِنُهُ). ٢٤٦٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا روح بن جنادة، قال: حدثنا حماد، عن عمار بن أبـي عمار، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مثله، وزاد فـيه: وكان الـمؤذّن يؤذّن إذا بزغ الفجر. ٢٤٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين. وحدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق، قال: سمعت أبـي قال: أخبرنا الـحسين بن واقد قالا جميعا، عن أبـي غالب، عن أبـي أمامة قال: أقـيـمت الصلاة والإناء فـي يد عمر، قال: أشربها يا رسول اللّه ؟ قال: (نَعَمْ)، فشربها. ٢٤٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس، عن أبـيه، عن عبد اللّه ، قال: قال بلال: أتـيت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أؤذنه بـالصلاة وهو يريد الصوم، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولنـي فشربت، ثم خرج إلـى الصلاة. ٢٤٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن أحمد الطوسي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق عن عبد اللّه بن مغفل، عن بلال قال: أتـيت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أؤذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولنـي فشربت، ثم خرجنا إلـى الصلاة. وأولـى التأويـلـين بـالآية، التأويـل الذي رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال (الـخَيْطُ الأبْـيَضُ: بَـياضُ النهارِ، والـخَيْطُ الأسْوَدُ: سَوَادُ اللّـيْـلِ) وهو الـمعروف فـي كلام العرب، قال أبو دؤاد الإيادي: فَلَـمّا أضَاءَتْ لَنا سُدْفَةٌولاحَ منَ الصّبْحِ خَيْطٌ أنارَا وأما الأخبـار التـي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه شرب أو تسحر ثم خرج إلـى الصلاة، فإنه غير دافع صحة ما قلنا فـي ذلك لأنه غير مستنكر أن يكون صلى اللّه عليه وسلم شرب قبل الفجر، ثم خرج إلـى الصلاة، إذ كانت الصلاة صلاة الفجر هي علـى عهده كانت تصلـى بعد ما يطلع الفجر ويتبـين طلوعه ويؤذن لها قبل طلوعه. وأما الـخبر الذي رُوي عن حذيفة أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مواقع النبل، فإنه قد اسْتُثبت فـيه، فقـيـل له: أبعد الصبح؟ فلـم يجب فـي ذلك بأنه كان بعد الصبح، ولكنه قال: هو الصبح. وذلك من قوله يحتـمل أن يكون معناه هو الصبح لقربه منه وإن لـم يكن هو بعينه، كما تقول العرب: (هذا فلان شبها)، وهي تشير إلـى غير الذي سمته، فتقول: (هو هو) تشبـيها منها له به، فكذلك قول حذيفة: هو الصبح، معناه: هو الصبح شبها به وقربـا منه. وقال ابن زيد فـي معنى الـخيط الأبـيض والأسود ما: ٢٤٧٣ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ قال: الـخيط الأبـيض الذي يكون من تـحت اللـيـل يكشف اللـيـل، والأسود: ما فوقه. وأما قوله: مِنَ الفَجْر فإنه تعالـى ذكره يعنـي: حتـى يتبـين لكم الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود الذي هو من الفجر. ولـيس ذلك هو جميع الفجر، ولكنه إذا تبـين لكم أيها الـمؤمنون من الفجر ذلك الـخيط الأبـيض الذي يكون من تـحت اللـيـل الذي فوقه سواد اللـيـل، فمن حينئذٍ فصوموا، ثم أتـموا صيامكم من ذلك إلـى اللـيـل. وبـمثل ما قلنا فـي ذلك كان ابن زيد يقول: ٢٤٧٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: مِنَ الفَجْر قال: ذلك الـخيط الأبـيض هو من الفجر نسبة إلـيه، ولـيس الفجر كله، فإذا جاء هذا الـخيط وهو أوله فقد حلت الصلاة وحرم الطعام والشراب علـى الصائم. وفـي قوله تعالـى ذكره: وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّـى يَتَبَـيّنَ لَكُمُ الـخَيْطُ الأبْـيَضُ مِنَ الـخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتـمّوا الصّيَامَ إلـى اللّـيْـلِ أوضح الدلالة علـى خطأ قول من قال: حلال الأكل والشرب لـمن أراد الصوم إلـى طلوع الشمس لأن الـخيط الأبـيض من الفجر يتبـين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل اللّه تعالـى ذكره ذلك حدّا لـمن لزمه الصوم فـي الوقت الذي أبـاح إلـيه الأكل والشرب والـمبـاشرة. فمن زعم أن له أن يتـجاوز ذلك الـحد، قـيـل له: أرأيت إن أجاز له آخر ذلك ضحوة أو نصف النهار؟ فإن قال: إن قائل ذلك مخالف للأمة قـيـل له: وأنت لـما دلّ علـيه كتاب اللّه ونقل الأمة مخالف، فما الفرق بـينك وبـينه من أصل أو قـياس؟ فإن قال: الفرق بـينـي وبـينه أن اللّه أمر بصوم النهار دون اللـيـل، والنهار من طلوع الشمس. قـيـل له: كذلك يقول مخالفوك: والنهار عندهم أوله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداء طلوعها دون أن يتتامّ طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداء غروبها دون أن يتتامّ غروبها. ويقال لقائلـي ذلك: إن كان النهار عندكم كما وصفتـم هو ارتفـاع الشمس، وتكامل طلوعها وذهاب جميع سدفة اللـيـل وغبس سواده، فكذلك عندكم اللـيـل هو تتامّ غروب الشمس وذهاب ضيائها وتكامل سواد اللـيـل وظلامه. فإن قالوا: ذلك كذلك. قـيـل لهم: فقد يجب أن يكون الصوم إلـى مغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبـياضها من أفق السماء. فإن قالوا: ذلك كذلك، أوجبوا الصوم إلـى مغيب الشفق الذي هو بـياض. وذلك قول إن قالوه مدفوع بنقل الـحجة التـي لا يجوز فـيـما نقلته مـجمعة علـيه الـخطأ والسهو علـى تـخطئته. وإن قالوا: بل أول اللـيـل ابتداء سُدْفته وظلامه ومغيب عين الشمس عنا. قـيـل لهم: وكذلك أول النهار: طلوع أول ضياء الشمس ومغيب أوائل سدفة اللـيـل. ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك، ويسئل الفرق بـين ذلك، فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله. وأما الفجر، فإنه مصدر من قول القائل: تفجر الـماء يتفجر فجرا: إذا انبعث وجرى، فقـيـل للطالع من تبـاشير ضياء الشمس من مطلع الشمس فجر، لانبعاث ضوئه علـيهم وتورّده علـيهم بطرقهم ومـحاجهم تفجر الـماء الـمنفجر من منبعه. وأما قوله: ثُمّ أتِـمُوا الصيّامَ إلـى اللّـيْـلِ فإنه تعالـى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبـال اللـيـل، كما حدّ الإفطار وإبـاحة الأكل والشرب والـجماع وأول الصوم بـمـجيء أول النهار وأول إدبـار آخر اللـيـل، فدل بذلك علـى أن لا صوم بـاللـيـل كما لا فطر بـالنهار فـي أيام الصوم، وعلـى أن الـمواصل مـجوّع نفسه فـي غير طاعة ربه. كما: ٢٤٧٥ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عاصم بن عمر، عن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا أقْبَلَ اللّـيْـلُ وأدْبَرَ النّهارُ وَغابَتِ الشّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصّائمُ). ٢٤٧٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو إسحاق الشيبـانـي، وحدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا أبو عبـيدة وأبو معاوية، عن شيبـان، وحدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو معاوية، وحدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الشيبـانـي قالوا جميعا فـي حديثهم عن عبد اللّه بن أبـي أوفـى قال: كنا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي مسير وهو صائم، فلـما غربت الشمس قال لرجل: (انْزِلْ فـاجْدَحْ لـي) قالوا: لو أمسيت يا رسول اللّه فقال: (انْزِلْ فـاجْدَحْ لـي) فقال الرجل: يا رسول اللّه لو أمسيت قال: (انْزِلْ فـاجْدَحْ لِـي) قال: يا رسول اللّه إن علـينا نهارا فقال له الثالثة، فنزل فجدح له. ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا أقْبَلَ اللّـيْـلُ مِنْ هَهُنا) وضرب بـيده نـحو الـمشرق (فَقَدْ أفْطَرَ الصّائمُ). ٢٤٧٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفـيع، قال: فرض اللّه الصيام إلـى اللـيـل، فإذا جاء اللـيـل فأنت مفطر إن شئت فكل، وإن شئت فلا تأكل. ٢٤٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن أبـي العالـية أنه سئل عن الوصال فـي الصوم فقال: افترض اللّه علـى هذه الأمة صوم النهار، فإذا جاء اللـيـل فإن شاء أكل وإن شاء لـم يأكل. ٢٤٧٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنـي ابن علـية، عن داود بن أبـي هند، قال: قال أبو العالـية فـي الوصال فـي الصوم، قال: قال اللّه : ثُمّ أتِـموا الصّيامَ إلـى اللّـيْـلِ فإذا جاء اللـيـل فهو مفطر، فإن شاء أكل، وإن شاء لـم يأكل. ٢٤٨٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن دكين، عن مسعر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: أتِـمّوا الصّيامَ إلـى اللّـيْـلِ يعنـي أنها كرهت الوصال. فإن قال قائل: فما وجه وصال من واصل؟ فقد علـمت بـما: ٢٤٨١ـ حدثكم به أبو السائب، قال: حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، قال: كان عبد اللّه بن الزبـير يواصل سبعة أيام، فلـما كبر جعلها خمسا، فلـما كبر جدا جعلها ثلاثا. ٢٤٨٢ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا حفص، عن عبد الـملك، قال: كان ابن أبـي يعمر يفطر فـي كل شهر مرة. ٢٤٨٣ـ حدثنا ابن أبـي بكر الـمقدمي، قال: حدثنا الفروي، قال: سمعت مالكا يقول: كان عامر بن عبد اللّه بن الزبـير يواصل لـيـلة ست عشرة ولـيـلة سبع عشرة من رمضان لا يفطر بـينهما، فلقـيته فقلت له: يا أبـا الـحرث ماذا تـجده يقوّيك فـي وصالك؟ قال: السمن أشربه أجده يبلّ عروقـي، فأما الـماء فإنه يخرج من جسدي. وما أشبه ذلك مـمن فعل ذلك، مـمن يطول بذكرهم الكتاب؟ قـيـل: وجه من فعل ذلك إن شاء اللّه تعالـى علـى طلب الـخموصة لنفسه والقوّة، لا علـى طلب البرّ بفعله. وفعلهم ذلك نظير ما كان عمر بن الـخطاب يأمرهم به بقوله: (اخشوشنوا وتـمعددوا وانزوا علـى الـخيـل نزوا واقطعوا الرّكُب وامشوا حفـاة)، يأمرهم فـي ذلك بـالتـخشن فـي عيشهم لئلا يتنعموا فـيركنوا إلـى خفض العيش ويـميـلوا إلـى الدعة فـيجبنوا ويحتـموا عن أعدائهم، وقد رغب لـمن واصل عن الوصال كثـير من أهل الفضل. ٢٤٨٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق: أن ابن أبـي نعيـم كان يواصل من الأيام حتـى لا يستطيع أن يقوم، فقال عمرو بن ميـمون: لو أدرك هذا أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم رجموه. ثم فـي الأخبـار الـمتواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالنهي عن الوصال التـي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها، إذ كان فـي ذكر ما ذكرنا مكتفـى عن الاستشهاد علـى كراهة الوصال بغيره. ٢٤٨٥ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد اللّه ، قال: أخبرنـي نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل يا رسول اللّه قال: (إنّـي لَسْتُ كأحَدٍ مِنْكُمْ، إنّـي أبِـيتُ أُطْعَمُ وأُسْقَـى). وقد رُوي عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الإذن بـالوصال من السحر إلـى السحر. ٢٤٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قال: حدثنا أبو شعيب، عن اللـيث، عن يزيد بن الهاد عن عبد اللّه بن خبـاب، عن أبـي سعيد الـخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (لا تُوَاصِلُوا فأيّكُمْ أرَادَ أنْ يُواصِلَ فَلْـيُوَاصِلْ حتّـى السّحَرِ)، قالوا: يا رسول اللّه إنك تواصل، قال: (إنّـي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنّـي أبِـيتُ لـي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِـي وَساقٍ يَسْقِـينـي). ٢٤٨٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو إسرائيـل العبسي، عن أبـي بكر بن حفص، عن أم ولد حاطب بن أبـي بلتعة أنها مرّت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يتسحر، فدعاها إلـى الطعام فقالت: إنـي صائمة، قال: (وَكَيْفَ تَصُومِينَ)؟ فذكرت ذلك للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (أيْنَ أنْتِ من وِصَالِ آل مُـحَمّدِ صلى اللّه عليه وسلم، مِنَ السّحَرِ إلـى السّحَرِ)؟. فتأول الآية إذن: ثم أتـموا الكفّ عما أمركم اللّه بـالكفّ عنه، من حين يتبـين لكم الـخيط الأبـيض من الـخيط الأسود من الفجر إلـى اللـيـل، ثم حلّ لكم ذلك بعده إلـى مثل ذلك الوقت. كما: ٢٤٨٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ثُمّ أتِـمّوا الصيّامَ إلـى اللـيْـلِ قال: من هذه الـحدود الأربعة، فقرأ: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَة الصّيامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُم فقرأ حتـى بلغ: ثُم أتـمّوا الصيّامَ إلـى اللّـيْـلِ وكان أبـي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علـينا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِد. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ لا تـجامعوا نساءكم، وبقوله: وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ يقول: فـي حال عكوفكم فـي الـمساجد، وتلك حال حبسهم أنفسهم علـى عبـادة اللّه فـي مساجدهم. والعكوف أصله الـمقام، وحبس النفس علـى الشيء، كما قال الطرمّاح بن حكيـم: فبـاتَ بَناتُ اللّـيْـلِ حَوْلِـيَ عُكّفـاعُكُوفَ البَوَاكِي بَـيْنَهُنّ صَريعُ يعنـي بقوله عكفـا: مقـيـمة. وكما قال الفرزدق: تَرَى حَوْلهنّ الـمُعْتَفِـينَ كأنّهُمْعَلـى صَنـمٍ فِـي الـجاهِلَـيّةِ عُكّفُ وقد اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمبـاشرة التـي عنى اللّه بقوله: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ فقال بعضهم: معنى ذلك الـجماع دون غيره من معانـي الـمبـاشرة. ذكر من قال ذلك: ٢٤٨٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ فـي رمضان أو فـي غير رمضان، فحرم اللّه أن ينكح النساء لـيلاً ونهارا حتـى يقضي اعتكافه. ٢٤٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ قال: الـجماع. ٢٤٩١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك ، قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتـى نزلت: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ. ٢٤٩٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك فـي قوله: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِقال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من الـمسجد جامع إن شاء، فقال اللّه وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ يقول: لا تقربوهن ما دمتـم عاكفـين فـي مسجد أو غيره. ٢٤٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك عن جويبر عن الضحاك نـحوه. ٢٤٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: كان أناس يصيبون نساءهم وهم عاكفون فـيها فنهاهم اللّه عن ذلك. ٢٤٩٥ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ قال: كان الرجل إذا خرج من الـمسجد وهو معتكف ولقـي امرأته بـاشرها إن شاء، فنهاهم اللّه عزّ وجل عن ذلك، وأخبرهم أن ذلك لا يصلـح حتـى يقضي اعتكافه. ٢٤٩٦ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ يقول: من اعتكف فإنه يصوم ولا يحلّ له النساء ما دام معتكفـا. ٢٤٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِقال: الـجوار، فإذا خرج أحدكم من بـيته إلـى بـيت اللّه فلا يقرب النساء. ٢٤٩٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: كان ابن عبـاس يقول: من خرج من بـيته إلـى بـيت اللّه فلا يقرب النساء. ٢٤٩٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرج الرجل فـيبـاشر أهله ثم يرجع إلـى الـمسجد، فنهاهم اللّه عن ذلك. ٢٥٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلـى الغائط جامع امرأته، ثم اغتسل، ثم رجع إلـى اعتكافه، فنهوا عن ذلك. قال ابن جريج: قال مـجاهد، نهوا عن جماع النساء فـي الـمساجد حيث كانت الأنصار تـجامع، فقال: وَلا تُبـاشِرُوهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ قال: عاكفون الـجوار. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الـجماع الـمبـاشرة؟ قال: الـجماع نفسه، فقلت له: فـالقُبلة فـي الـمسجد والـمسة؟ فقال: أما ما حرم فـالـجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك فـي الـمسجد. ٢٥٠١ـ حدثت عن حسين بن الفرج، قال: حدثنا الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك : وَلا تُبَـاشِرُوهُنّ يعنـي الـجماع. وقال آخرون: معنى ذلك علـى جميع معانـي الـمبـاشرة من لـمس وقبلة وجماع. ذكر من قال ذلك: ٢٥٠٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال مالك بن أنس: لا يـمسّ الـمعتكف امرأته ولا يبـاشرها ولا يتلذّذ منها بشيء، قبلة ولا غيرها. ٢٥٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا تُبـاِشُروهُنّ وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِد قال: الـمبـاشرة: الـجماع وغير الـجماع كله مـحرّم علـيه، قال: الـمبـاشرة بغير جماع: إلصاق الـجلد بـالـجلد. وعلة من قال هذا القول، أن اللّه تعالـى ذكره عمّ بـالنهي عن الـمبـاشرة ولـم يخصص منها شيئا دون شيء فذلك علـى ما عمه حتـى تأتـي حجة يجب التسلـيـم لها بأنه عنى به مبـاشرة دون مبـاشرة. وأولـى القولـين عندي بـالصواب قول من قال: معنى ذلك الـجماع أو ما قام مقام الـجماع مـما أوجب غسلاً إيجابه وذلك أنه لا قول فـي ذلك إلا أحد قولـين: أما من جعل حكم الآية عاما، أو جعل حكمها فـي خاصّ من معانـي الـمبـاشرة. وقد تظاهرت الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نساءه كن يرجلنه وهو معتكف، فلـما صحّ ذلك عنه، علـم أن الذي عنى به من معانـي الـمبـاشرة البعض دون الـجميع. ٢٥٠٤ـ حدثنا علـيّ بن شعيب، قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال: أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة: (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا اعتكف يدنـي إلـيّ رأسه فأرجّله). ٢٥٠٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبـير وعمرة أن عائشة قالت: (إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـم يكن يدخـل البـيت إلا لـحاجة الإنسان، وكان يُدخـل علـيّ رأسه وهو فـي الـمسجد فأرجّله). ٢٥٠٦ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: (كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يدنـي إلـيّ رأسه وهو مـجاور فـي الـمسجد وأنا فـي حجرتـي وأنا حائض، فأغسله وأرجله). ٢٥٠٧ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنا ابن فضيـل، ويعلـى بن عبـيد، عن الأعمش، عن تـميـم بن سلـمة، عن عروة عن عائشة قالت: (كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يعتكف فـيخرج إلـيّ رأسه من الـمسجد وهو عاكف فأغسله وأنا حائض). ٢٥٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن معمر، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: (أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يخرج رأسه فأرجله وهو معتكف). فإذا كان صحيحا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ذكرنا من غسل عائشة رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن الـمراد بقوله: وَلا تُبـاشِروهُن وأنْتُـمْ عاكِفُونَ فِـي الـمَساجِدِ غير جميع ما لزمه اسم الـمبـاشرة وأنه معنـيّ به البعض من معانـي الـمبـاشرة دون الـجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مـجمعا علـى أن الـجماع مـما عنى به كان واجبـا تـحريـم الـجماع علـى الـمعتكف وما أشبهه، وذلك كل ما قام فـي الالتذاذ مقامه من الـمبـاشرة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَقْرَبُوها. يعنـي تعالـى ذكره بذلك هذه الأشياء التـي بـينتها من الأكل والشرب والـجماع فـي شهر رمضان نهارا فـي غير عذر، وجماع النساء فـي الاعتكاف فـي الـمساجد. يقول: هذه الأشياء حددتها لكم، وأمرتكم أن تـجتنبوها فـي الأوقات التـي أمرتكم أن تـجتنبوها وحرّمتها فـيها علـيكم، فلا تقربوها وابعدوا منها أن تركبوها، فتستـحقوا بها من العقوبة ما يستـحقه من تعدى حدودي وخالف أمري وركب معاصيّ. وكان بعض أهل التأويـل يقول: حدود اللّه : شروطه. وذلك معنى قريب من الـمعنى الذي قلنا، غير أن الذي قلنا فـي ذلك أشبه بتأويـل الكلـمة، وذلك أن حدّ كل شيء ما حصره من الـمعانـي وميز بـينه وبـين غيره، فقوله: تِلْكَ حُدوُدُ اللّه من ذلك، يعنـي به الـمـحارم التـي ميزها من الـحلال الـمطلق فحددها بنعوتها وصفـاتها وعرّفها عبـاده. ذكر من قال ذلك بـمعنى الشروط: ٢٥٠٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: أما حدود اللّه فشروطه. وقال بعضهم: حدود اللّه : معاصيه. ذكر من قال ذلك: ٢٥١٠ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك : تِلْكَ حُدُودُ اللّه يقول: معصية اللّه ، يعنـي الـمبـاشرة فـي الاعتكاف. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذِلَكَ يُبَـيّنُ اللّه آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُون. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: كما بـينت لكم أيها الناس واجب فرائضي علـيكم من الصوم، وعرّفتكم حدوده وأوقاته، وما علـيكم منه فـي الـحضر، وما لكم فـيه فـي السفر والـمرض، وما اللازم لكم تـجنبه فـي حال اعتكافكم فـي مساجدكم، فأوضحت جميع ذلك لكم، فكذلك أبـين أحكامي وحلالـي وحرامي وحدودي ونهيـي فـي كتابـي وتنزيـلـي، وعلـى لسان رسولـي وصلى اللّه عليه وسلم للناس. ويعنـي بقوله: ولَعَلَهُمْ يَتَقُونَ يقول: أبـين ذلك لهم لـيتقوا مـحارمي ومعاصيّ، ويتـجنبوا سخطي وغضبـي بتركهم ركوب ما أبـين لهم فـي أياتـي أنـي قد حرمته علـيهم، وأمرتهم بهجره وتركه. ١٨٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بـالبـاطل. فجعل تعالـى ذكره بذلك أكل مال أخيه بـالبـاطل كالاَكل مال نفسه بـالبـاطل، ونظير ذلك قوله تعالـى: وَلا تَلْـمِزُوا أنْفُسَكُمْ وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ بـمعنى: لا يـلـمز بعضكم بعضا، ولا يقتل بعضكم بعضا لأن اللّه تعالـى ذكره جعل الـمؤمنـين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكنـي عن أنفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول: أخي وأخوك أينا أبطش، تعنـي أنا وأنت نصطرع فننظر أينا أشد، فـيكنـي الـمتكلـم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه ومن ذلك قول الشاعر: أخي وأخُوكَ بِبَطْن النّسَيْرِلَـيْسَ لنَا مِنْ مَعَدّ عَرِيْب فتأويـل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فـيـما بـينكم بـالبـاطل، وأكله بـالبـاطل أكله من غير الوجه الذي أبـاحه اللّه لاَكلـيه. وأما قوله: وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّام فإنه يعنـي: وتـخاصموا بها، يعنـي بأموالكم إلـى الـحكام لتأكلوا فريقا، طائفة من أموال الناس بـالإثم وأنتـم تعلـمون. ويعنـي بقوله: بـالإثْم بـالـحرام الذي قد حرمه اللّه علـيكم، وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أي وأنتـم تتعمدون أكل ذلك بـالإثم علـى قصد منكم إلـى ما حرم اللّه علـيكم منه، ومعرفة بأن فعلكم ذلك معصية للّه وإثم. كما: ٢٥١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ فهذا فـي الرجل يكون علـيه مال ولـيس علـيه فـيه بـينة فـيجحد الـمال فـيخاصمهم إلـى الـحكام وهو يعرف أن الـحق علـيه، وهو يعلـم أنه آثم آكل حراما. ٢٥١٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ قال: لا تـخاصم وأنت ظالـم. ٢٥١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٥١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالـم فهو آثم حتـى يرجع إلـى الـحقّ. واعلـم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحلّ لك حراما ولا يحقّ لك بـاطلاً، وإنـما يقضي القاضي بنـحو ما يرى ويشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطىء ويصيب. واعلـموا أنه من قد قضي له بـالبـاطل، فإن خصومته لـم تنقض حتـى يجمع اللّه بـينهما يوم القـيامة، فـيقضي علـى الـمبطل للـمـحق، ويأخذ مـما قضي به للـمبطل علـى الـمـحق فـي الدنـيا. ٢٥١٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ قال: لا تدل بـمال أخيك إلـى الـحاكم وأنت تعلـم أنك ظالـم، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما علـيك. ٢٥١٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ لتِأكُلُوا فَريقا مِنْ أمْوَالِ النّاسِ بـالإثْمِ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أما البـاطل، يقول: يظلـم الرجل منكم صاحبه، ثم يخاصمه لـيقطع ماله وهو يعلـم أنه ظالـم، فذلك قوله: وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ. ٢٥١٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي خالد الواسطي، عن داود بن أبـي هند، عن عكرمة قوله: وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ قال: هو الرجل يشتري السلعة فـيردّها ويردّ معها دراهم. ٢٥١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ وَتُدْلُوا بها إلـى الـحُكّامِ يقول: يكون أجدل منه وأعرف بـالـحجة، فـيخاصمه فـي ماله بـالبـاطل لـيأكل ماله بـالبـاطل. وقرأ: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ قال: هذا القمار الذي كان يعمل به أهل الـجاهلـية. وأصل الإدلاء: إرسال الرجل الدلو فـي سبب متعلقا به فـي البئر، فقـيـل للـمـحتـجّ بدعواه أدلـى بحجة كيت وكيت إذ كان حجته التـي يحتـجّ بها سببـا له هو به متعلق فـي خصومته كتعلق الـمستقـي من بئر بدلو قد أرسلها فـيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فـيها جميعا، أعنـي من الاحتـجاج، ومن إرسال الدلو فـي البئر بسبب: أدلـى فلان بحجته فهو يدلـي بها إدلاء، وأدلـى دلوه فـي البئر فهو يدلـيها إدلاء. فأما قوله: وَتُدْلُوا بِها إلـى الـحُكّامِ فإن فـيه وجهين من الإعراب، أحدهما: أن يكون قوله: وَتُدْلُوا جزما عطفـا علـى قوله: وَلا تأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنكُمْ بـالبـاطِلِ أي ولا تدلوا بها إلـى الـحكام، وقد ذكر أن ذلك كذلك فـي قراءة أبـيّ بتكرير حرف النهي، ولا تدلوا بها إلـى الـحكام. والاَخر منهما النصب علـى الظرف، فـيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بـينكم بـالبـاطل وأنتـم تدلون بها إلـى الـحكام، كما قال الشاعر: لا تَنْهَ عَنْ خُـلُقٍ وتَأتِـيَ مِثْلَهُعارٌ عَلَـيْكُ إذَا فَعَلْتَ عَظِيـمُ يعنـي: لا تنه عن خـلق وأنت تأتـي مثله، وهو أن يكون فـي موضع جزم علـى ما ذكر فـي قراءة أبـيّ أحسن منه أن يكون نصبـا. ١٨٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ ...} ذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل اللّه تعالـى ذكره هذه الآية جوابـا لهم فـيـما سألوا عنه. ذكر الأخبـار بذلك: ٢٥١٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للنّاسَ قال قتادة: سألوا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك: لـم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل اللّه فـيها ما تسمعون: هِيَ مَوَاقِـيتُ للنّاسِ فجعلها لصوم الـمسلـمين ولإفطارهم ولـمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومـحلّ دَينهم فـي أشياء، واللّه أعلـم بـما يصلـح خـلقه. ٢٥٢٠ـ حدثنـي الـمثنى،، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: لـم خـلقت الأهلة؟ فأنزل اللّه تعالـى:يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للّناسِ وَالـحَجّ جعلها اللّه مواقـيت لصوم الـمسلـمين وإفطارهم ولـحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وحلّ ديونهم. ٢٥٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: مَوَاقِـيتُ للّناسِ وَالـحَجّ قال: هي مواقـيت للناس فـي حجهم وصومهم وفطرهم ونسكهم. ٢٥٢٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الناس: لـم خـلقت الأهلة؟ فنزلت: يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للّناسِ لصومهم وإفطارهم وحجهم ومناسكهم قال: قال ابن عبـاس : ووقت حجهم، وعدة نسائهم، وحلّ دينهم. ٢٥٢٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للّناسِ فهي مواقـيت الطلاق والـحيض والـحج. ٢٥٢٤ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: حدثنا الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك : يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للّناسِ يعنـي حل دَينهم، ووقت حجهم، وعدّة نسائهم. ٢٥٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: سأل الناس رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للّناسِ يعلـمون بها حل دينهم، وعدّة نسائهم، ووقت حجهم. ٢٥٢٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد عن شريك، عن جابر، عن عبد اللّه بن يحيى، عن علـيّ أنه سئل عن قوله: مَوَاقِـيتُ للّناسِ قال: هي مواقـيت الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه فإذا رأيتـموه فصوموا، وإذا رأيتـموه فأفطروا، فإن غمّ علـيكم فأتـموا ثلاثـين. فتأويـل الآية إذا كان الأمر علـى ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله فـي ذلك: يسألونك يا مـحمد عن الأهلة ومـحاقها وسِرارها وتـمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومـحاق واستسرار، وما الـمعنى الذي خالف بـينه وبـين الشمس التـي هي دائمة أبدا علـى حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان، فقل يا مـحمد خالف بـين ذلك ربكم لتصيـيره الأهلة التـي سألتـم عن أمرها ومخالفة ما بـينها وبـين غيرها فـيـما خالف بـينها وبـينه مواقـيت لكم ولغيركم من بنـي آدم فـي معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومـحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتـموه، وتصرّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقـيت للناس. وأما قوله: وَالـحَجّ فإنه يعنـي وللـحج، يقول: وجعلها أيضا ميقاتا لـحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَـيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَـى وأتْوُا البُـيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُون. قـيـل: نزلت هذه الآية فـي قوم كانوا لا يدخـلون إذا أحرموا بـيوتهم من قبل أبوابها. ذكر من قال ذلك: ٢٥٢٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لـم يدخـلوا البـيوت إلا من ظهورها قال: فجاء رجل من الأنصار فدخـل من بـابه، فقـيـل له فـي ذلك، فنزلت هذه الآية: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها. ٢٥٢٨ـ حدثنـي سفـيان بن وكيع، قال: حدثنـي أبـي، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن البراء قال: كانوا فـي الـجاهلـية إذا أحرموا أتوا البـيوت من ظهورها، ولـم يأتوا من أبوابها، فنزلت: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها... الآية. ٢٥٢٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت داود، عن قـيس بن حبـير: أن ناسا كانوا إذا أحرموا لـم يدخـلوا حائطا من بـابه ولا دارا من بـابها أو بـيتا، فدخـل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه دارا. وكان رجل من الأنصار يقال له رفـاعة بن تابوت، فجاء فتسوّر الـحائط، ثم دخـل علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلـما خرج من بـاب الدار أو قال من بـاب البـيت خرج معه رفـاعة، قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما حَمَلَكَ عَلـى ذَلِكَ؟) قال: يا رسول اللّه رأيتك خرجت منه، فخرجت منه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّـي رَجلٌ أحْمَسُ)، فقال: إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد. فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَلَـيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَـى وأتْوُا البُـيُوتَ مِنْ أبْوَابِها. ٢٥٣٠ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها يقول: لـيس البرّ بأن تأتوا البـيوت من كوّات فـي ظهور البـيوت وأبواب فـي جنوبها تـجعلها أهل الـجاهلـية. فنهوا أن يدخـلوا منها وأمروا أن يدخـلوا من أبوابها. ٢٥٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٥٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: كان ناس من أهل الـحجاز إذا أحرموا لـم يدخـلوا من أبواب بـيوتهم ودخـلوا من ظهورها، فنزلت: وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَـى الآية. ٢٥٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد فـي قوله: وَلَـيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَـى وأتْوُا البُـيُوتَ مِنْ أبْوَابِها قال: كان الـمشركون إذا أحرم الرجل منهم نقب كوّة فـي ظهر بـيته فجعل سلـما فجعل يدخـل منها قال: فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من الـمشركين، قال: فأتـى البـاب لـيدخـل، فدخـل منه قال: فـانطلق الرجل لـيدخـل من الكوّة قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما شأنكَ؟) فقال: أنـي أحمس، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وأنا أحْمَسُ). ٢٥٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بـالعمرة لـم يحل بـينهم وبـين السماء شيء يتـحرّجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلاّ بـالعمرة فتبدو له الـحاجة بعد ما يخرج من بـيته فـيرجع ولا يدخـل من بـاب الـحجرة من أجل سقـف البـاب أن يحول بـينه وبـين السماء، فـيفتـح الـجدار من ورائه، ثم يقوم فـي حجرته فـيأمر بحاجته فُتـخرج إلـيه من بـيته. حتـى بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهلّ زمن الـحديبـية بـالعمرة، فدخـل حجرة، فدخـل رجل علـى أثره من الأنصار من بنـي سلـمة، فقال له النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّـي أحْمَسُ). ٢٥٣٥ـ قال الزهري: وكان الـحمس لا يبـالون ذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس، يقول: وأنا علـى دينك. فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها. ٢٥٣٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ الآية كلها. قال قتادة: كان هذا الـحيّ من الأنصار فـي الـجاهلـية إذا أهلّ أحدهم بحجّ أو عمرة لا يدخـل دارا من بـابها إلا أن يتسوّر حائطا تسوّرا، وأسلـموا وهم كذلك. فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـي ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنـيعهم ذلك، وأخبرهم أنه لـيس من البرّ صنـيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البـيوت من أبوابها. ٢٥٣٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها فإن ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لـم يدخـلوا بـيوتهم من أبوابها كانوا ينقبون فـي أدبـارها، فلـما حجّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجة الوداع أقبل يـمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلـم. فلـما بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـاب البـيت احتبس الرجل خـلفه وأبى أن يدخـل قال: يا رسول اللّه إنـي أحمس يقول: إنـي مـحرم وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الـحُمْس. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وأنا أيْضا أحْمَسُ فـادْخُـلْ) فدخـل الرجل، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وأتْوُا البُـيُوتَ مِنْ أبْوَابِها. ٢٥٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَلَـيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَـى وأتْوُا البُـيُوتَ مِنْ أبْوَابِها. وإن رجالاً من أهل الـمدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوّه شيئا أحرم فأمن، فإذا أحرم لـم يـلـج من بـاب بـيته واتـخذ نقبـا من ظهر بـيته. فلـما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة كان بها رجل مـحرم كذلك، وإن أهل الـمدينة كانوا يسمون البستان: الـحُشّ. وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخـل بستانا، فدخـله من بـابه، ودخـل معه ذلك الـمـحرم، فناداه رجل من ورائه: يا فلان إنك مـحرم وقد دخـلت فقال: (أَنا أحْمَسُ)، فقال: يا رسول اللّه إن كنتَ مـحرما فأنا مـحرم، وإن كنتَ أحمس فأنا أحمس. فأنزل اللّه تعالـى ذكره:وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إلـى آخر الآية. فأحلّ اللّه للـمؤمنـين أن يدخـلوا من أبوابها. ٢٥٣٩ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيّع قوله: وَلَـيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَـى وأتْوُا البُـيُوتَ مِنْ أبْوَابِها قال: كان أهل الـمدينة وغيرهم إذا أحرموا لـم يدخـلوا البـيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوروها، فكان إذا أحرم أحدهم لا يدخـل البـيت إلا أن يتسوّره من قبل ظهره. وإن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم دخـل ذات يوم بـيتا لبعض الأنصار، فدخـل رجل علـى أثره مـمن قد أحرم، فأنكروا ذلك علـيه، و قالوا: هذا رجل فـاجر فقال له النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لِـمَ دَخَـلْتَ مِنَ البـابِ وَقَدْ أحْرَمْتَ؟) فقال: رأيتك يا رسول اللّه دخـلت فدخـلت علـى أثرك. فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّـي أحْمَسُ) وقريش يومئذ تدعى الـحمس فلـما أن قال ذلك النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال الأنصاريّ: إن دينـي دينك. فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها... الآية. ٢٥٤٠ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قلت لعطاء قوله: وَلَـيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُـيُوتَ مِنْ ظُهُورِها قال: كان أهل الـجاهلـية يأتون البـيوت من ظهورها ويرونه برّا، فقال (البرّ)، ثم نعت البرّ، وأمر بأن يأتوا البـيوت من أبوابها. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: كانت هذه الآية فـي الأنصار يأتون البـيوت من ظهورها يتبررون بذلك. فتأويـل الآية إذا: ولـيس البر أيها الناس بأن تأتوا البـيوت فـي حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البرّ من اتقـى اللّه فخافه، وتـجنب مـحارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التـي أمره بها، فأما إتـيان البـيوت من ظهورها فلا برّ للّه فـيه، فأتوها من حيث شئتـم من أبوابها وغير أبوابها، ما لـم تعتقدوا تـحريـم إتـيانها من أبوابها فـي حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده، لأنه مـما لـم أحرّمه علـيكم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُون. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واتقوا اللّه أيها الناس فـاحذروه وارهبوه بطاعته فـيـما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلـحوا فتنـجحوا فـي طلبـاتكم لديه وتدركوا به البقاء فـي جناته والـخـلود فـي نعيـمه. وقد بـينا معنى الفلاح فـيـما مضى قبل بـما يدلّ علـيه. ١٩٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّه لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت فـي أمر الـمسلـمين بقتال أهل الشرك. و قالوا: أمر فـيها الـمسلـمون بقتال من قاتلهم من الـمشركين، والكفّ عمن كفّ عنهم، ثم نسخت ببراءة. ذكر من قال ذلك: ٢٥٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبـي جعفر، عن أبـي جعفر، عن الربـيع فـي قوله: وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّه لا يُحِبّ الـمُعْتَدِينَ قال: هذه أول آية نزلت فـي القتال بـالـمدينة، فلـما نزلت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقاتل من يقاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتـى نزلت براءة. ولـم يذكر عبد الرحمن (الـمدينة). ٢٥٤٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ إلـى آخر الآية قال: قد نسخ هذا، وقرأ قول اللّه : قاتِلُوا الـمُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلَونَكُمْ كافّةً وهذه الناسخة، وقرأ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ حتـى بلغ: فإذَا انْسَلَـخَ الأشْهُرُ الـحُرُمُ فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدَتْـمُوُهُمْ إلـى: إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـم. وقال آخرون: بل ذلك أمر من اللّه تعالـى ذكره للـمسلـمين بقتال الكفـار لـم ينسخ، وإنـما الاعتداء الذي نهاهم اللّه عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابت حكمه الـيوم. قالوا: فلا شيء نسخ من حكم هذه الآية. ذكر من قال ذلك: ٢٥٤٣ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن صدقة الدمشقـي، عن يحيى بن يحيى الغسانـي، قال: كتبت إلـى عمر بن العزيز أسأله عن قوله: وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّه لا يُحِبّ الـمُعْتَدِينَ قال: فكتب إلـيّ أن ذلك فـي النساء والذرية ومن لـم ينصب لك الـحرب منهم. ٢٥٤٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَقاتِلُوا فـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ لأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أمروا بقتال الكفـار. ٢٥٤٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٥٤٦ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّه لا يُحِبّ الـمُعْتَدِينَ يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصبـيان ولا الشيخ الكبـير ولا من ألقـى إلـيكم السلـم وكفّ يده، فإن فعلتـم هذا فقد اعتديتـم. ٢٥٤٧ـ حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلـى عديّ بن أرطاة: إنـي وجدت آية فـي كتاب اللّه : وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّه لا يُحِبّ الـمُعْتَدِينَ أي لا تقاتل من لا يقاتلك، يعنـي النساء والصبـيان والرهبـان. وأولـى هذين القولـين بـالصواب، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى الـمدعي نسخ آية يحتـمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة علـى صحة دعواه تـحكم، والتـحكم لا يعجز عنه أحد. وقد دللنا علـى معنى النسخ والـمعنى الذي من قبله يثبت صحة النسخ بـما قد أغنى عن إعادته فـي هذه الـموضع. فتأويـل الآية إذا كان الأمر علـى ما وصفنا: وقاتلوا أيها الـمؤمنون فـي سبـيـل اللّه وسبـيـله: طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعبـاده. يقول لهم تعالـى ذكره: قاتلوا فـي طاعتـي، وعلـى ما شرعت لكم من دينـي، وادعوا إلـيه من ولـىّ عنه، واستكبر بـالأيدي والألسن، حتـى ينـيبوا إلـى طاعتـي، أو يعطوكم الـجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالـى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لـم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب الـمقاتلون منهم فقهروا، فذلك معنى قوله: وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ لأنه أبـاح الكفّ عمن كفّ، فلـم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافـين عن قتال الـمسلـمين من كفـار أهل الكتاب علـى إعطاء الـجزية صَغارا. فمعنى قوله: وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا ولـيدا ولا امرأة ولا من أعطاكم الـجزية من أهل الكتابـين والـمـجوس، إنّ اللّه لا يُحِبّ الـمُعْتَدِين الذين يجاوزون حدوده، فـيستـحلون ما حرّمه اللّه علـيهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء الـمشركين وذراريهم. ١٩١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ ...} يعنـي تعالـى ذكره: واقتلوا أيها الـمؤمنون الذين يقاتلونكم من الـمشركين حيث أصبتـم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله: حَيْثُ ثَقِـفْتُـمُوهُم ومعنى الثقـفة بـالأمر: الـحذق به والبصر، يقال: إنه لثَقْـفٌ لقَـفْ إذا كان جيد الـحذر فـي القتال بصيرا بـمواقع القتل. وأما التثقـيف فمعنى غير هذا وهو التقويـم فمعنى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِـفْتُـمُوهُم اقتلوهم فـي أيّ مكان تـمكنتـم من قتلهم وأبصرتـم مقاتلهم. وأما قوله: وأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ فإنه يعنـي بذلك الـمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بـمكة، فقال لهم تعالـى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم وقد أخرجوكم من دياركم من مساكنكم وديارهم كما أخرجوكم منها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَالفِتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْل. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل والشرك بـاللّه أشدّ من القتل. وقد بـينت فـيـما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبـار فتأويـل الكلام: وابتلاء الـمؤمن فـي دينه حتـى يرجع عنه فـيصير مشركا بـاللّه من بعد إسلامه أشدّ علـيه وأضرّ من أن يقتل مقـيـما علـى دينه متـمسكا علـيه مـحقّا فـيه. كما: ٢٥٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال: ارتداد الـمؤمن إلـى الوثن أشدّ علـيه من القتل. ٢٥٤٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٢٥٥٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل يقول: الشرك أشدّ من القتل. ٢٥٥١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. ٢٥٥٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل يقول: الشرك أشدّ من القتل. ٢٥٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال: الشرك. ٢٥٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد فـي قوله: وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال: الفتنة: الشرك. ٢٥٥٥ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال: الشرك أشد من القتل. ٢٥٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله جل ذكره: وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْلِ قال: فتنة الكفر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدَ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيه فإنْ قاتَلُوكُمْ فـاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ. والقرّاء مختلفة فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة ومكة: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِد الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فـاقْتُلُوهُمْ بـمعنى: ولا تبتدئوا أيها الـمؤمنون الـمشركين بـالقتال عند الـمسجد الـحرام حتـى يبدءوكم به، فإن بدءوكم به هنالك عند الـمسجد الـحرام فـي الـحرم فـاقتلوهم، فإن اللّه جعل ثواب الكافرين علـى كفرهم وأعمالهم السيئة القتل فـي الدنـيا والـخزي الطويـل فـي الاَخرة. كما: ٢٥٥٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيه كانوا لا يقاتلون فـيه حتـى يبدءوا بـالقتال. ثم نسخ بعد ذلك فقال: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تكونَ فِتْنَةٌ حتـى لا يكون شرك وَيَكُونَ الدّينُ للّه أن يقال: لا إله إلا اللّه ، علـيها قاتل نبـيّ اللّه وإلـيها دعا. ٢٥٥٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا همام، عن قتادة: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فـاقْتُلُوهُمْ فأمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند الـمسجد الـحرام إلا أن يبدءوا فـيه بقتال، ثم نسخ اللّه ذلك بقوله: فإذَا انْسَلَـخَ الأشْهُرُ الـحُرُم فـاقْتُلُوا الـمُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتّـمُوهُمْ فأمر اللّه نبـيه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم فـي الـحلّ والـحرم وعند البـيت، حتـى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ، وأن مـحمدا رسول اللّه . ٢٥٥٩ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ فكانوا لا يقاتلونهم فـيه، ثم نسخ ذلك بعد، فقال: قاتِلُوُهمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ. وقال بعضهم: هذه آية مـحكمة غير منسوخة. ذكر من قال ذلك: ٢٥٦٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإنْ قاتَلَوكُم فـي الـحرم، فـاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ لا تقاتل أحدا فـيه أبدا، فمن عدا علـيك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك. وقرأ ذلك عظم قراء الكوفـيـين: (وَلا تَقْتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فـاقْتُلُوهُمْ) بـمعنى: ولا تبدءوهم بقتل حتـى يبدءوكم به. ذكر من قال ذلك: ٢٥٦١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد، عن أبـي حماد، عن حمزة الزيات قال: قلت للأعمش: أرأيت قراءتك: (ولا تقتلوهم عند الـمسجد الـحرام حتـى يقتلوكم فـيه فإن قتلوكم فـاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن اللّه غفور رحيـم)، إذا قتلوهم كيف يقتلونهم؟ قال: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا: قُتلنا، وإذا ضرب منهم رجل قالوا ضربنا. وأولـى هاتـين القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فـاقْتُلُوهُمْ لأن اللّه تعالـى ذكره لـم يأمر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـي حال إذا قاتلهم الـمشركون بـالاستسلام لهم حتـى يقتلوا منهم قتـيلاً بعد ما أذن له ولهم بقتالهم، فتكون القراءة بـالإذن بقتلهم بعد أن يقتلوا منهم أولـى من القراءة بـما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه قد كان تعالـى ذكره أذن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من الـمشركين قبل أن يقتلوا منهم قتـيلاً، وبعد أن يقتلوا منهم قتـيلاً. وقد نسخ اللّه تعالـى ذكره هذه الآية بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وقوله: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ ونـحو ذلك من الاَيات. وقد ذكرنا بعض قول من قال هي منسوخة، وسنذكر قول من حضرنا ذكره مـمن لـم يذكر. ٢٥٦٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ قال: نسخها قوله: فـاقْتُلُوا الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ. ٢٥٦٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ حّتـى يُقاتِلُوكُمْ فِـيهِ قال: حتـى يبدءوكم كان هذا قد حرم، فأحلّ اللّه ذلك له، فلـم يزل ثابتا حتـى أمره اللّه بقتالهم بعد. ١٩٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ } يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فإن انتهى الكافرون الذي يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بـاللّه ، فتركوا ذلك وتابوا، فإن اللّه غفور لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلـى اللّه من معاصيه التـي سلفت منه وأيامه التـي مضت، رحيـم به فـي آخرته بفضله علـيه، وإعطائه ما يعطي أهل طاعته من الثواب بإنابته إلـى مـحبته من معصيته. كما: ٢٥٦٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإن انْتَهَوْا فإن تابوا، فإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ. ١٩٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّه فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ } يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمدصلى اللّه عليه وسلم: وقاتلوا الـمشركين الذين يقاتلونكم حتـى لا تَكُونَ فتنةٌ يعنـي: حتـى لا يكون شرك بـاللّه ، وحتـى لا يعبد دونه أحد، وتضمـحل عبـادة الأوثان الاَلهة والأنداد، وتكون العبـادة والطاعة للّه وحده دون غيره من الأصنام والأوثان كما قال قتادة فـيـما: ٢٥٦٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: حتـى لا يكون شرك. وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّه فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: حتـى لا يكون شرك. ٢٥٦٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: الشرك ويَكُونَ الدّينُ للّه. ٢٥٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٢٥٦٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: أما الفتنة: فـالشرك. ٢٥٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول: قاتلوا حتـى لا يكون شرك. ٢٥٧٠ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَقَاتِلُوهُمْ حتّـى لا تَكُونع فِتْنَةٌ أي شرك. ٢٥٧١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال: حتـى لا يكون كفر، وقرأ: تُقاتِلُوَنُهمْ أوْ يُسْلِـمُونَ. ٢٥٧٢ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَقاتِلُوهُمْ حّتـى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يقول: شرك. وأما الدين الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع فهو العبـادة والطاعة للّه فـي أمره ونهيه، من ذلك قول الأعشى: هُوَ دَانَ الرّبـابَ إذْ كَرِهُوا الدّينَ دِرَاكا بغزْوَةٍ وصِيال يعنـي بقوله: إذ كرهوا الدين: إذ كرهوا الطاعة وأبوها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٥٧٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ويَكُونَ الدّين للّه يقول: حتـى لا يعبد إلا اللّه ، وذلك لا إله إلا اللّه علـيه قاتل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وإلـيه دعا، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّـي أُمِرْتُ أنْ أُقُاتِلَ النّاسَ حّتـى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّه ، ويقِـيـمُوا الصّلاةَ، ويُؤْتُوا الزّكاةَ، فإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ عَصَمُوا مّنـي دِماءَهُمْ وأمْوالَهُمْ إلاّ بِحَقّها وَحِسابهُمْ علـى اللّه ). ٢٥٧٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ويَكُونَ الدّينُ للّه أن يقال: لا إله إلا اللّه . ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إِنّ اللّه أمَرَنِـي أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حّتـى يَقُولُوا لا إلَهَ إلاّ اللّه ). ثم ذكر مثل حديث الربـيع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإنِ انْتَهَوْا فإن انتهى الذين يقاتلونكم منَ الكفـار عن قتالكم، ودخـلوا فـي ملتكم، وأقرّوا بـما ألزمكم اللّه من فرائضه، وتركوا ما هم علـيه من عبـادة الأوثان، فدعوا الاعتداء علـيهم وقتالهم وجهادهم، فإنه لا ينبغي أن يعتدى إلا علـى الظالـمين وهم الـمشركون بـاللّه ، والذين تركوا عبـادته وعبدوا غير خالقهم. فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء علـى الظالـم فـيقال: فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ؟ قـيـل: إن الـمعنى فـي ذلك غير الوجه الذي ذهبتَ، وإنـما ذلك علـى وجه الـمـجازاة لِـما كان من الـمشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، كما يقال: إن تعاطيت منـي ظلـما تعاطيته منك، والثانـي لـيس بظلـم، كما قال عمرو بن شأس الأسدي: جَزَيْنا ذَوي العُدْوَانِ بـالأمسِ قَرْضَهُمْ قِصَاصا سَوَاءً حَذْوَكَ النّعْلَ بـالنّعْلِ وإنـما كان ذلك نظير قوله: اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ويَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سخَر اللّه مِنْهُمْ وقد بـينا وجه ذلك ونظائره فـيـما مضى قبل. وبـالذي قلنا فـي ذلك من التأويـل قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٥٧٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ والظالـم الذي أبى أن يقول لا إله إلا اللّه . ٢٥٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ قال: هم الـمشركون. ٢٥٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا عثمان بن غياث، قال: سمعت عكرمة فـي هذه الآية: فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ: قال: هم من أبى أن يقول لا إله إلا اللّه . وقال آخرون: معنى قوله: فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ فلا تقاتل إلا من قاتل. ذكر من قال ذلك: ٢٥٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم. ٢٥٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٥٨٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ فإن اللّه لا يحبّ العدوان علـى الظالـمين ولا علـى غيرهم، ولكن يقول: اعتدوا علـيهم بـمثل ما اعتدوا علـيكم. فكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول فـي قوله فإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلاّ علـى الظّالِـمِينَ لا يجوز أن يقول فإن انتهوا، إلا وقد علـم أنهم لا ينتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا علـى الظالـمين منهم، فأضمر كما قال: فَمَنْ تَـمَتّعَ بِـالعُمرةِ إلـى الـحجّ فَمَا اسْتَـيْسرَ من الهدْيِ يريد فعلـيه ما استـيسر من الهَدْيِ، وكما تقول: إلـى من تقصد أقصد، يعنـي إلـيه. وكان بعضهم ينكر الإضمار فـي ذلك ويتأوله، فإن انتهوا فإن اللّه غفور رحيـم لـمن انتهى، ولا عدوان إلا علـى الظالـمين الذين لا ينتهون. ١٩٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ ...} يعنـي بقوله جل ثناؤه: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ ذا القعدة، وهو الشهر الذي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتـمر فـيه عمرة الـحديبـية، فصده مشركو أهل مكة عن البـيت ودخول مكة، وكان ذلك سنة ستّ من هجرته، وصالـح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمشركين فـي تلك السنة، علـى أن يعود من العام الـمقبل، فـيدخـل مكة ويقـيـم ثلاثا، فلـما كان العام الـمقبل، وذلك سنة سبع من هجرته خرج معتـمرا وأصحابه فـي ذي القعدة، وهو الشهر الذي كان الـمشركون صدّوه عن البـيت فـيه فـي سنة ستّ، وأخـلـى له أهل مكة البلد، حتـى دخـلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقضى حاجته منها، وأتـمّ عمرته، وأقام بها ثلاثا، ثم خرج منها منصرفـا إلـى الـمدينة، فقال اللّه جل ثناؤه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم وللـمسلـمين معه: الشّهْرُ الـحَرَامُ يعنـي ذا القعدة الذي أوصلكم اللّه فـيه إلـى حرمه وبـيته علـى كراهة مشركي قريش ذلك حتـى قضيتـم منه وطركم بـالشّهْرِ الـحَرَامِ الذي صدكم مشركو قريش العام الـماضي قبله فـيه، حتـى انصرفتـم عن كره منكم عن الـحرم، فلـم تدخـلوه ولـم تصلوا إلـى بـيت اللّه ، فأقصكم اللّه أيها الـمؤمنون من الـمشركين بإدخالكم الـحرم فـي الشهر الـحرام علـى كره منهم لذلك، بـما كان منهم إلـيكم فـي الشهر الـحرام من الصدّ والـمنع من الوصول إلـى البـيت. كما: ٢٥٨١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا يوسف، يعنـي ابن خالد السمتـي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَالـحُرُماتُ قِصَاصٌ قال: هم الـمشركون حبسوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـي ذي القعدة، فرجعه اللّه فـي ذي القعدة، فأدخـله البـيت الـحرام، فـاقتصّ له منهم. ٢٥٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه جل ثناؤه: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ قال: فخرَت قريش بردّها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الـحديبـية مـحرما فـي ذي القعدة عن البلد الـحرام، فأدخـله اللّه مكة فـي العام الـمقبل من ذي القعدة فقضى عمرته، وأقصّه بـما حيـل بـينه وبـينها يوم الـحديبـية. ٢٥٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٥٨٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ أقبل نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـاعتـمروا فـي ذي القعدة ومعهم الهديُ، حتـى إذا كانوا بـالـحديبـية صدهم الـمشركون، فصالـحهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى أن يرجع من عامه ذلك، حتـى يرجع من العام الـمقبل، فـيكون بـمكة ثلاثة أيام، ولا يدخـلها إلا بسلاح راكب ويخرج، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنـحروا الهدي بـالـحديبـية، وحلقوا وقصروا. حتـى إذا كان من العام الـمقبل أقبل نبـيّ اللّه وأصحابه حتـى دخـلوا مكة، فـاعتـمروا فـي ذي القعدة، فأقاموا بها ثلاث لـيال، فكان الـمشركون قد فخروا علـيه حين ردّوه يوم الـحديبـية، فأقصه اللّه منهم، فأدخـله مكة فـي ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فـيه فـي ذي القعدة، فقال اللّه : الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ. ٢٥٨٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن عثمان، عن مقسم فـي قوله: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ قالا: كان هذا فـي سفر الـحديبـية، صدّ الـمشركون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عن البـيت فـي الشهر الـحرام، فقاضُوا الـمشركين يومئذٍ قضية (إن لكم أن تعتـمروا فـي العام الـمقبل) فـي هذا الشهر الذي صدوهم فـيه، فجعل اللّه تعالـى ذكره لهم شهرا حراما يعتـمرون فـيه مكان شهرهم الذي صدوا، فلذلك قال: والـحُرُماتُ قِصَاصٌ. ٢٥٨٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ قال: لـما اعتـمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرة الـحديبـية فـي ذي القعدة سنة ستّ من مهاجره صدّه الـمشركون، وأبوا أن يتركوه، ثم إنهم صالـحوه فـي صلـحهم علـى أن يخـلوا له مكة من عام قابل ثلاثة أيام يخرجون، ويتركونه فـيها، فأتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد فتـح خيبر من السنة السابعة، فخـلوا له مكة ثلاثة أيام، فنكح فـي عمرته تلك ميـمونة بنت الـحارث الهلالـية. ٢٥٨٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ أحصروا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي ذي القعدة عن البـيت الـحرام، فأدخـله اللّه البـيت الـحرام العام الـمقبل، واقتصّ له منهم، فقال: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ. ٢٥٨٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: أقبل نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فأحرموا بـالعمرة فـي ذي القعدة ومعهم الهدي، حتـى إذا كانوا بـالـحديبـية صدّهم الـمشركون، فصالـحهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يرجع ذلك العام حتـى يرجع العام الـمقبل، فـيقـيـم بـمكة ثلاثة أيام، ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنـحروا الهدي بـالـحديبـية، وحلقوا وقصروا. حتـى إذا كانوا من العام الـمقبل، أقبل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حتـى دخـلوا مكة، فـاعتـمروا فـي ذي القعدة وأقاموا بها ثلاثة أيام، وكان الـمشركون قد فخروا علـيه حين ردّوه يوم الـحديبـية، فقاصّ اللّه له منهم، وأدخـله مكة فـي ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فـيه فـي ذي القعدة. قال اللّه جل ثناؤه: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ. ٢٥٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: والـحُرُماتُ قِصَاصٌ فهم الـمشركون كانوا حبسوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـي ذي القعدة عن البـيت، ففخروا علـيه بذلك، فرجعه اللّه فـي ذي القعدة، فأدخـله اللّه البـيت الـحرام واقتصّ له منهم. ٢٥٩٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ حتـى فرغ من الآية قال: هذا كله قد نسخ، أمره أن يجاهد الـمشركين. وقرأ: قاتِلُوا الـمُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً وقرأ: قاِتلُوا الّذِين يَـلُونَكُمْ مِنَ الكُفّـارِ العرب، فلـما فرغ منهم، قال اللّه جل ثناؤه: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونِ بـاللّه وَلا بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمونَ ما حَرمَ اللّه ورَسُولُهُ حتـى بلغ قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ قال: وهم الروم قال: فوجه إلـيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ٢٥٩١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقـفـي، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي هذه الآية: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ قال: أمركم اللّه بـالقصاص، ويأخذ منكم العدوان. ٢٥٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء وسألته عن قوله: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ والـحُرُماُت قِصَاصٌ قال: نزلت فـي الـحديبـية، منعوا فـي الشهر الـحرام، فنزلت: الشّهْرُ الـحَرَامُ بـالشّهْرِ الـحَرَامِ عمرة فـي شهر حرام بعمرة فـي شهر حرام. وإنـما سمى اللّه جل ثناؤه ذا القعدة الشهر الـحرام، لأن العرب فـي الـجاهلـية كانت تـحرّم فـيه القتال والقتل وتضع فـيه السلاح، ولا يقتل فـيه أحد أحدا ولو لقـي الرجل قاتل أبـيه أو ابنه. وإنـما كانوا سموه ذا القعدة لقعودهم فـيه عن الـمغازي والـحروب، فسماه اللّه بـالاسم الذي كانت العرب تسميه به. وأما الـحرمات فإنها جمع حرمة كالظلـمات جمع ظلـمة، والـحجرات جمع حجرة. وإنـما قال جل ثناؤه: والـحُرُماتُ قِصَاصٌ فجمع، لأنه أراد الشهر الـحرام والبلد الـحرام وحرمة الإحرام، فقال جل ثناؤه لنبـيه مـحمد والـمؤمنـين معه: دخولكم الـحرم بإحرامكم هذا فـي شهركم هذا الـحرام قصاص مـما منعتـم من مثله عامكم الـماضي، وذلك هو الـحرمات التـي جعلها اللّه قصاصا. وقد بـينا أن القصاص هو الـمـجازاة من جهة الفعل أو القول أو البدن، وهو فـي هذا الـموضع من جهة الفعل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ بِـمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ. اختلف أهل التأويـل فـيـما نزل فـيه قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ بِـمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ. فقال بعضهم بـما: ٢٥٩٣ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ بِـمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فهذا ونـحوه نزل بـمكة والـمسلـمون بومئذ قلـيـل، ولـيس لهم سلطان يقهر الـمشركين، وكان الـمشركون يتعاطونهم بـالشتـم والأذى، فأمر اللّه الـمسلـمين من يجازي منهم أن يجازي بـمثل ما أوتـي إلـيه أو يصبر أو يعفو فهو أمثل فلـما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمدينة، وأعزّ اللّه سلطانه أمر الـمسلـمين أن ينتهوا فـي مظالـمهم إلـى سلطانهم، وأن لا يعدو بعضهم علـى بعض كأهل الـجاهلـية. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلكم أيها الـمؤمنون من الـمشركين، فقاتلوهم كما قاتلوكم. و قالوا: نزلت هذه الآية علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالـمدينة وبعد عمرة القضية. ذكر من قال ذلك: ٢٥٩٤ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ بِـمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فقاتلوهم فـيه كما قاتلوكم. وأشبه التأويـلـين بـما دلّ علـيه ظاهر الآية الذي حكي عن مـجاهد، لأن الاَيات قبلها إنـما هي أمر من اللّه للـمؤمنـين بجهاد عدوّهم علـى صفة، وذلك قوله: وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والاَيات بعدها، وقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ إنـما هو فـي سياق الاَيات التـي فـيها الأمر بـالقتال والـجهاد، واللّه جل ثناؤه إنـما فرض القتال علـى الـمؤمنـين بعد الهجرة فمعلوم بذلك أن قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ بِـمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ مدنـي لا مكي، إذ كان فرض قتال الـمشركين لـم يكن وجب علـى الـمؤمنـين بـمكة، وأن قوله: فَمَن اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ فـاعْتَدُوا عَلَـيْهِ بِـمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَـيْكُمْ نظير قوله: وَقاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وأن معناه: فمن اعتدى علـيكم فـي الـحرم فقاتلكم فـاعتدوا علـيه بـالقتال نـحو اعتدائه علـيكم بقتاله إياكم، لأنـي قد جعلت الـحرمات قصاصا، فمن استـحلّ منكم أيها الـمؤمنون من الـمشركين حرمة فـي حرمي، فـاستـحلوا منه مثله فـيه. وهذه الآية منسوخة بإذن اللّه لنبـيه بقتال أهل الـحرم ابتداء فـي الـحرم وقوله: وَقاتِلُوا الـمُشْركِين كافّةً... علـى نـحو ما ذكرنا من أنه بـمعنى الـمـجازاة وإتبـاع لفظ لفظا وإن اختلف معناهما، كما قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه وقد قال: فَـيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنُهمْ وما أشبه ذلك مـما أتبع لفظ لفظا واختلف الـمعنـيان. والاَخر أن يكون بـمعنى العَدْوِ الذي هو شدّ ووثوب من قول القائل: عدا الأسد علـى فريسته. فـيكون معنى الكلام: فمن عدا علـيكم: أي فمن شدّ علـيكم ووثب بظلـم، فـاعدوا علـيه: أي فشدّوا علـيه وثبوا نـحوه قصاصا لـما فعل بكم لا ظلـما ثم تدخـل التاء فـي (عدا)، فـيقال افتعل مكان فعل، كما يقال: اقترب هذا الأمر بـمعنى قرب، واجتلب كذا بـمعنى جلب، وما أشبه ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّه وَاعْلَـمُوا أن اللّه مَعَ الـمُتّقِـين. يعنـي جل ثناؤه بذلك: واتقوا اللّه أيها الـمؤمنون فـي حرماته وحدوده أن تعتدوا فـيها فتتـجاوزوا فـيها ما بـينه وحده لكم، واعلـموا أن اللّه يحبّ الـمتقـين الذين يتقونه بأداء فرائضه وتـجنب مـحارمه. ١٩٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّه وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنّ اللّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، ومن عَنَى بقوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة فقال بعضهم: عنى بذلك: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وسبـيـل اللّه : طريقه الذي أمر أن يسلك فـيه إلـى عدوّه من الـمشركين لـجهادهم وحربهم، وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة يقول: ولا تتركوا النفقة فـي سبـيـل اللّه ، فإن اللّه يعوّضكم منها أجرا ويرزقكم عاجلاً. ذكر من قال ذلك: ٢٥٩٥ـ حدثنـي أبو السائب سلـم بن جنادة، والـحسن بن عرفة قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سفـيان، عن حذيفة: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: يعنـي فـي ترك النفقة. ٢٥٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا شعبة، وحدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبـي وائل، عن حذيفة وحدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الأعمش وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم جميعا، عن شقـيق، عن حذيفة، قال: هو ترك النفقة فـي سبـيـل اللّه . ٢٥٩٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبـي صالـح، عن عبد اللّه بن عبـاس أنه قال فـي هذه الآية: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: تنفق فـي سبـيـل اللّه وإن لـم يكن لك إلا مِشْقَصٌ أو سهم شعبة الذي يشك فـي ذلك. ٢٥٩٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن منصور، عن أبـي صالـح الذي كان يحدّث عنه الكلبـي، عن ابن عبـاس قال: إن لـم يكن لك إلا سهم أو مشقص أنفقته. ٢٥٩٩ـ حدثنـي ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن منصور، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: فـي النفقة. ٢٦٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو بن أبـي قـيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: لـيس التهلكة أن يُقتل الرجل فـي سبـيـل اللّه ، ولكن الإمساك عن النفقة فـي سبـيـل اللّه . ٢٦٠١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن عكرمة، قال: نزلت فـي النفقات فـي سبـيـل اللّه ، يعنـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة. ٢٦٠٢ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر عن مـحمد بن كعب القرظي أنه كان يقول فـي هذه الآية: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: كان القوم فـي سبـيـل اللّه ، فـيتزوّد الرجل، فكان أفضل زادا من الاَخر أنفق البـائس من زاده حتـى لا يبقـى من زاده شيء أحبّ أن يواسي صاحبه، فأنزل اللّه : وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة. ٢٦٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شيبـان، عن منصور بن الـمعتـمر، عن أبـي صالـح مولـى أم هانىء، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: لا يقولنّ أحدكم إنـي لا أجد شيئا إن لـم يجد إلا مشقصا فلـيتـجهز به فـي سبـيـل اللّه . ٢٦٠٤ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود يعنـي ابن أبـي هند، عن عامر: أن الأنصار كان احتبس علـيهم بعض الرزق، وكانوا قد أنفقوا نفقات، قال: فساء ظنهم وأمسكوا قال: فأنزل اللّه : وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَةِ قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم. ٢٦٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: تـمنعكم نفقةً فـي حقَ خيفةُ العَيْـلة. ٢٦٠٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: وكان قتادة يحدّث أن الـحسن حدثه أنهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم، أو قال: لا ينفقون فـي ذلك، فأمرهم اللّه أن ينفقوا فـي مغازيهم فـي سبـيـل اللّه . ٢٦٠٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة يقول: لا تـمسكوا بأيديكم عن النفقة فـي سبـيـل اللّه . ٢٦٠٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه يقول: أنفقْ فـي سبـيـل اللّه ولو عقالاً، وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة تقول: لـيس عندي شيء. ٢٦٠٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا خصيف، عن عكرمة فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: لـما أمر اللّه بـالنفقة فكانوا أو بعضهم يقولون: ننفق فـيذهب مالنا ولا يبقـى لنا شيء، قال: فقال أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلـى التهلكة، قال: أنفقوا وأنا أرزقكم. ٢٦١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن، قال: نزلت فـي النفقة. ٢٦١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن همام الأهوازي، قال: أخبرنا يونس، عن الـحسن فـي التهلكة، قال: أمرهم اللّه بـالنفقة فـي سبـيـل اللّه ، وأخبرهم أن ترك النفقة فـي سبـيـل اللّه التهلكة. ٢٦١٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قوله: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: يقول: أنفقوا فـي سبـيـل اللّه ما قلّ وكثر قال: وقال لـي عبد اللّه بن كثـير: نزلت فـي النفقة فـي سبـيـل اللّه . ٢٦١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، قال: لا يقولنّ الرجل: لا أجد شيئا قد هلكت، فلـيتـجهز ولو بـمشقص. ٢٦١٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة يقول: أنفقوا ما كان من قلـيـل أو كثـير، ولا تستسلـموا، ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا. ٢٦١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: التهلكة: أن يـمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة فـي الـجهاد فـي سبـيـل اللّه . ٢٦١٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الـحسن، فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة فتدعوا النفقة فـي سبـيـل اللّه . وقال آخرون مـمن وجهوا تأويـل ذلك إلـى أنه معنـية به النفقة: معنى ذلك: وأنفقوا فـي سبـيـل اللّه ، ولا تلقوا بأيديكم إلـى التهلكة، فتـخرجوا فـي سبـيـل اللّه بغير نفقة ولا قوّة. ذكر من قال ذلك: ٢٦١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: إذا لـم يكن عندك ما تنفق فلا تـخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقـي بـيديك إلـى التهلكة. وقال آخرون: بل معناه أنفقوا فـي سبـيـل اللّه ولا تلقوا بأيديكم فـيـما أصبتـم من الاَثام إلـى التهلكة، فتـيأسوا من رحمة اللّه ، ولكن ارجوا رحمته واعملوا الـخيرات.ذكر من قال ذلك: ٢٦١٨ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن البراء بن عازب فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: هو الرجل يصيب الذنوب فـيـلقـي بـيده إلـى التهلكة، يقول: لا توبة لـي. ٢٦١٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجل أحمل علـى الـمشركين وحدي فـيقتلونـي أكنت ألقـيت بـيدي إلـى التهلكة؟ فقال: لا إنـما التهلكة فـي النفقة بعث اللّه رسوله، فقال: فَقَاتِلْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه لاَ تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ. ٢٦٢٠ـ حدثنا الـحسن بن عرفة وابن وكيع، قالا: حدثنا وكيع بن الـجراح، عن سفـيان الثوري، عن أبـي إسحاق السبـيعي، عن البراء بن عازب فـي قول اللّه :وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: هو الرجل يذنب الذنب فـ يقول: لا يغفر اللّه له. ٢٦٢١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت البراء وسأله رجل فقال: يا أبـا عمارة أرأيت قول اللّه : وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة أهو الرجل يتقدم فـيقاتل حتـى يقتل؟ قال: لا ولكنه الرجل يعمل بـالـمعاصي، ثم يـلقـي بـيده ولا يتوب. ٢٦٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت البراء وسأله رجل فقال: الرجل يحمل علـى كتـيبة وحده فـيقاتل، أهو مـمن ألقـى بـيده إلـى التهلكة؟ فقال: لا ولكن التهلكة: أن يذنب الذنب فـيـلقـي بـيده، فـ يقول: لا تقبل لـي توبة. ٢٦٢٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن الـجراح، عن أبـي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبـا عمارة الرجل يـلقـى ألفـا من العدوّ فـيحمل علـيهم وإنـما هو وحده، أيكون مـمن قال: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة؟ فقال: لا، لـيقاتل حتـى يقتل، قال اللّه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: فَقاتِلْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ. ٢٦٢٤ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا هشام. وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن هشام، عن مـحمد قال: وسألت عبـيدة عن قول اللّه : وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة الآية. فقال عبـيدة: كان الرجل يذنب الذنب قال: حسبته قال العظيـم فـيـلقـي بـيده فـيستهلك زاد يعقوب فـي حديثه: فنهوا عن ذلك، فقـيـل: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة. ٢٦٢٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبـيدة السلـمانـي عن ذلك، فقال: هو الرجل يذنب الذنب فـيستسلـم ويـلقـي بـيده إلـى التهلكة، و يقول: لا توبة له. يعنـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة. ٢٦٢٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن مـحمد، عن عبـيدة فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: كان الرجل يصيب الذنب فـيـلقـي بـيده. ٢٦٢٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبـيدة: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة قال: القنوط. ٢٦٢٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن يونس، وهشام عن ابن سيرين، عن عبـيدة السلـمانـي، قال: هو الرجل يذنب الذنب فـيستسلـم، يقول: لا توبة لـي، فـيـلقـي بـيده. ٢٦٢٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: حدثنـي أيوب عن ابن سيرين، عن عبـيدة أنه قال: هي فـي الرجل يصيب الذنب العظيـم، فـيـلقـي بـيده ويرى أنه قد هلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنفقوا فـي سبـيـل اللّه ولا تتركوا الـجهاد فـي سبـيـله. ذكر من قال ذلك: ٢٦٣٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي حيوة، عن يزيد بن أبـي حبـيب، عن أسلـم أبـي عمران، قال: غزونا من الـمدينة نريد القسطنطينـية وعلـى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلـى الـجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الولـيد قال: فصففنا صفـين لـم أرصفـين قط أعرض ولا أطول منهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط الـمدينة، قال: فحمل رجل منا علـى العدوّ، فقال الناس: مَهْ لا إله إلا اللّه ، يـلقـي بـيده إلـى التهلكة قال أبو أيوب الأنصاري: إنـما تتأوّلون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يـلتـمس الشهادة أو يُبلـي من نفسه إنـما نزلت هذه الآية فـينا معشر الأنصار. إنا لـما نصر اللّه نبـيه، وأظهر الإسلام، قلنا بـيننا معشر الأنصار خفـيّا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقـيـم فـيها ونصلـحها حتـى نصر اللّه نبـيه، هلـم نقـيـم فـي أموالنا ونصلـحها فأنزل اللّه الـخبر من السماء: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة الآية، فـالإلقاء بـالأيدي إلـى التهلكة: أن نقـيـم فـي أموالنا ونصلـحها، وندع الـجهاد. قال أبو عمران: فلـم يزل أبو أيوب يجاهد فـي سبـيـل اللّه حتـى دفن بـالقسطنطينـية. ٢٦٣١ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، وعبد اللّه بن أبـي زياد قالا: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن يزيد، قال: أخبرنـي حيوة وابن لهيعة، قالا: حدثنا يزيد بن أبـي حبـيب، قال: حدثنـي أسلـم أبو عمران مولـى تـجيب، قال: كنا بـالقسطنطينـية، وعلـى أهل مصر عقبة بن عامر الـجهنـي صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعلـى أهل الشام فضالة بن عبـيد صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرج من الـمدينة صفّ عظيـم من الروم، قال: وصففنا صفـا عظيـما من الـمسلـمين، فحمل رجل من الـمسلـمين علـى صفّ الروم حتـى دخـل فـيهم، ثم خرج إلـينا مقبلاً، فصاح الناس و قالوا: سبحان اللّه ، ألقـى بـيده إلـى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية علـى هذا التأويـل، وإنـما أنزلت هذه الآية فـينا معاشر الأنصار: إنا لـما أعزّ اللّه دينه وكثر ناصريه، قلنا فـيـما بـيننا بعضنا لبعض سرّا من رسول اللّه إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فـيها فأصلـحنا ما ضاع منها فأنزل اللّه فـي كتابه يردّ علـينا ما همـمنا به، فقال: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة بـالإقامة التـي أردنا أن نقـيـم فـي الأموال ونصلـحها، فأمرنا بـالغزو فما زال أبو أيوب غازيا فـي سبـيـل اللّه حتـى قبضه اللّه . والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه أمر بـالإنفـاق فـي سبـيـله بقوله: وأنْفِقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وسبـيـله: طريقه الذي شرعه لعبـاده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا فـي إعزاز دينـي الذي شرعته لكم بجهاد عدوّكم الناصبـين لكم الـحرب علـى الكفر بـي ونهاهم أن يـلقوا بأيديهم إلـى التهلكة، فقال: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة. وذلك مثلٌ، والعرب تقول للـمستسلـم للأمر: أعطى فلان بـيديه، وكذلك يقال للـمـمكن من نفسه مـما أريد به أعطى بـيديه. فمعنى قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَة ولا تستسلـموا للّهلكة فتعطوها أزمتكم فتهلكوا والتارك النفقة فـي سبـيـل اللّه عند وجوب ذلك علـيه مستسلـم للّهلكة بتركه أداء فرض اللّه علـيه فـي ماله. وذلك أن اللّه جل ثناؤه جعل أحد سهام الصدقات الـمفروضات الثمانـية فـي سبـيـله، فقال: إنّـمَا الصّدَقاتُ للفُقَراءِ وَالـمَساكِين إلـى قوله: وفِـي سَبِـيـلِ اللّه وَابْنِ السّبِـيـلِ فمن ترك إنفـاق ما لزمه من ذلك فـي سبـيـل اللّه علـى ما لزمه كان للّهلكة مستسلـما وبـيديه للتهلكة ملقـيا. وكذلك الاَيس من رحمة اللّه لذنب سلف منه، ملق بـيديه إلـى التهلكة، لأن اللّه قد نهى عن ذلك فقال: وَلا تَـيأسُوا مِنْ رَوحِ اللّه إنّهُ لا يَـيْأسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إلاّ القَوْمُ الكافِرُونَ. وكذلك التارك غزو الـمشركين وجهادهم فـي حال وجوب ذلك علـيه فـي حال حاجة الـمسلـمين إلـيه، مضيع فرضا، ملق بـيده إلـى التهلكة. فإذا كانت هذه الـمعانـي كلها يحتـملها قوله: وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَةِ ولـم يكن اللّه عزّ وجل خصّ منها شيئا دون شيء، فـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن اللّه نهى عن الإلقاء بأيدينا لـما فـيه هلاكنا، والاستسلام للّهلكة، وهي العذاب، بترك ما لزمنا من فرائضه، فغير جائز لأحد منا الدخول فـي شيء يكره اللّه منا مـما نستوجب بدخولنا فـيه عذابه. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويـل الآية: وأنفقوا أيها الـمؤمنون فـي سبـيـل اللّه ، ولا تتركوا النفقة فـيها فتهلكوا بـاستـحقاقكم بترككم ذلك عذابـي. كما: ٢٦٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلـى التّهْلُكَةِ قال: التهلكة: عذاب اللّه . قال أبو جعفر: فـيكون ذلك إعلاما منه لهم بعد أمره إياهم بـالنفقة ما لـمن ترك النفقة الـمفروضة علـيه فـي سبـيـله من العقوبة فـي الـمعاد. فإن قال قائل: فما وجه إدخال البـاء فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ وقد علـمت أن الـمعروف من كلام العرب ألقـيت إلـى فلان درهما، دون ألقـيت إلـى فلان بدرهم؟ قـيـل: قد قـيـل إنها زيدت نـحو زيادة القائل فـي البـاء فـي قوله: جذبت بـالثوب، وجذبت الثوب، وتعلقت به، وتعلقته، وتَنْبُتُ بـالدّهْنِ وإنـما هو تُنِبت الدهنَ. وقال آخرون: البـاء فـي قوله: وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ أصل للكلـمة، لأن كل فعل واقع كُنـي عنه فهو مضطّر إلـيها، نـحو قولك فـي رجل: (كلّـمته)، فأردت الكناية عن فعله، فإذا أردت ذلك قلت: (فعلت به) قالوا: فلـما كان البـاء هي الأصل جاز إدخال البـاء وإخراجها فـي كل فعل سبـيـله سبـيـل كلـمتهوأما التهلكة، فإنها التفعلة من الهلاك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وأحْسِنُوا إنّ اللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنـينَ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وأحْسِنُوا أحسنوا أيها الـمؤمنون فـي أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتـجنب ما أمرتكم بتـجنبه من معاصيّ، ومن الإنفـاق فـي سبـيـلـي، وعود القويّ منكم علـى الضعيف ذي الـخَـلّة، فإنـي أحبّ الـمـحسنـين فـي ذلك. كما: ٢٦٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: أخبرنا سفـيان، عن أبـي إسحاق عن رجل من الصحابة فـي قوله: وأحْسِنُوا إنّ اللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ قال: أداء الفرائض. وقال بعضهم: معناه: أحسنوا الظنّ بـاللّه . ذكر من قال ذلك: ٢٦٣٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة: وأحْسِنُوا إن اللّه يُحِبُ الـمُـحْسِنِـينَ قال: أحسنوا الظنّ بـاللّه يبركم. وقال آخرون: أحسنوا بـالعود علـى الـمـحتاج. ذكر من قال ذلك: ٢٦٣٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وأحْسِنُوا أن اللّه يُحِبّ الـمـحْسنِـينَ عودوا علـى من لـيس فـي يده شيء. ١٩٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَتِمّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّه ...} اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك أتـموا الـحج بـمناسكه وسننه، وأتـموا العمرة بحدودها وسننها. ذكر من قال ذلك: ٢٦٣٦ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: هو فـي قراءة عبد اللّه : (وأقـيـموا الـحج والعمرة إلـى البـيت) قال: لا تـجاوزوا بـالعمرة البـيت. قال إبراهيـم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبـير، فقال: كذلك قال ابن عبـاس . ٢٦٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم أنه قرأ: (وأقِـيـمُوا الـحَج والعُمْرَةَ إلـى البَـيْتِ). ٢٦٣٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة أنه قرأ: (وأقِـيـمُوا الـحَج والعُمْرَةَ إلـى البَـيْت). ٢٦٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وأتـموا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه يقول: من أحرم بحج أو بعمرة فلـيس له أن يحلّ حتـى يتـمها تـمام الـحج يوم النـحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البـيت فقد حل من إحرامه كله، وتـمام العمرة إذا طاف بـالبـيت وبـالصفـا والـمروة، فقد حل. ٢٦٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: ما أمروا فـيهما. ٢٦٤١ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: قال إبراهيـم عن علقمة بن قـيس قال: (الـحج): مناسك الـحج، و(العمرة): لا يجاوز بها البـيت. ٢٦٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: قال تقضي مناسك الـحجّ عرفة والـمزدلفة ومواطنها، والعمرة للبـيت أن يطوف بـالبـيت وبـين الصفـا والـمروة ثم يحلّ. وقال آخرون: تـمامهما أن تـحرم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلك. ذكر من قال ذلك: ٢٦٤٣ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه ابن سلـمة، عن علـيّ أنه قال: جاء رجل إلـى علـيّ فقال له فـي هذه الآية: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه أن تـحرم من دويرة أهلك. ٢٦٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة، عن عنبسة، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلـمة، قال: جاء رجل إلـى علـيّ رضوان اللّه علـيه، فقال: أرأيت قول اللّه عز وجل: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه؟ قال: أن تـحرم من دويرة أهلك. ٢٦٤٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، عن سعيد بن جبـير، قال: من تـمام العمرة أن تـحرم من دويرة أهلك. ٢٦٤٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن ثور بن يزيد، عن سلـيـمان بن موسى، عن طاوس، قال: تـمامهما: إفرادهما مؤتنفتـين من أهلك. ٢٦٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سفـيان، عن ثور، عن سلـيـمان بن موسى، عن طاوس: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: تفردهما مؤقتتـين من أهلك، فذلك تـمامهما. وقال آخرون: تـمام العمرة أن تعمل فـي غير أشهر الـحجّ، وتـمام الـحجّ أن يؤتـى بـمناسكه كلها حتـى لا يـلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة. ذكر من قال ذلك: ٢٦٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: وتـمام العمرة ما كان فـي غير أشهر الـحجّ. وما كان فـي أشهر الـحجّ، ثم أقام حتـى يحجّ فهي متعة علـيه فـيها الهدي إن وجد، وإلا صام ثلاثة أيام فـي الـحجّ وسبعة إذا رجع. ٢٦٤٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: ما كان فـي غير أشهر الـحجّ فهي عمرة تامة، وما كان فـي أشهر الـحجّ فهي متعة وعلـيه الهدي. ٢٦٥٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يقول: إن العمرة فـي أشهر الـحج لـيست بتامة قال: فقـيـل له: العمرة فـي الـمـحرّم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وقال آخرون: إتـمامهما أن تـخرج من أهلك لا تريد غيرهما. ذكر من قال ذلك: ٢٦٥١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي رجل، عن سفـيان، قال: هو يعنـي تـمامهما أن تـخرج من أهلك لا تريد إلا الـحجّ والعمرة، وتهلّ من الـميقات لـيس أن تـخرج لتـجارة ولا لـحاجة، حتـى إذا كنت قريبـا من مكة قلت: لو حججت أو اعتـمرت. وذلك يجزىء، ولكن التـمام أن تـخرج له لا تـخرج لغيره. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتـموا الـحجّ والعمرة للّه إذا دخـلتـم فـيهما. ذكر من قال ذلك: ٢٦٥٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـيست العمرة واجبة علـى أحد من الناس قال: فقلت له: قول اللّه تعالـى: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه؟ قال: لـيس من الـخـلق أحد ينبغي له إذا دخـل فـي أمر إلا أن يتـمه، فإذا دخـل فـيها لـم ينبغ له أن يهلّ يوما أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يوما لـم ينبغ له أن يفطر فـي نصف النهار. وكان الشعبـي يقرأ ذلك رفعا. ٢٦٥٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثنـي سعيد بن أبـي بردة أن الشعبـي وأبـا بردة تذاكرا العمرة، قال: فقال الشعبـي: تطوّع وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه وقال أبو بردة: هي واجبة وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه. ٢٦٥٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن عون، عن الشعبـي أنه كان يقرأ وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه. وقد رُوي عن الشعبـي خلاف هذا القول، وإن كان الـمشهور عنه من القول هو هذا. وذلك ما: ٢٦٥٥ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الـمغيرة، عن الشعبـي، قال: العمرة واجبة. فقراءة من قال: العمرة واجبة نَصْبها بـمعنى أقـيـموا فرض الـحج والعمرة. كما: ٢٦٥٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: أخبرنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبـا إسحاق، يقول: سمعت مسروقا يقول: أمرتـم فـي كتاب اللّه بأربع: بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والـحجّ، والعمرة قال: ثم تلا هذه الآية: وَللّه علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه إلـى الْبَـيْتِ. ٢٦٥٧ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا يروي عن الـحسن، عن مسروق، قال: أمرنا بإقامة أربعة: الصلاة، والزكاة، والعمرة، والـحجّ، فنزلت العمرة من الـحجّ منزلة الزكاة من الصلاة. ٢٦٥٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: أنبأنا مـحمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال علـيّ بن حسين وسعيد بن جبـير، وسئلا: أواجبة العمرة علـى الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلـمها إلا واجبة، كما قال اللّه : وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه. ٢٦٥٩ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، قال: سأل رجل سعيد بن جبـير عن العمرة فريضة هي أم تطوّع؟ قال: فريضة قال: فإن الشعبـي يقول: هي تطوّع قال: كذب الشعبـي وقرأ: وأتِـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه. ٢٦٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول فـي قوله: وأتِـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه قال: هما واجبـان: الـحجّ، والعمرة. فتأويـل هؤلاء فـي قوله تبـارك وتعالـى: وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه أنهما فرضان واجبـان من اللّه تبـارك وتعالـى (أمر) بإقامتهما، كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأَوجب العمرة وجوب الـحجّ. وهم عدد كثـير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الـحالفـين كرهنا تطويـل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم. و قالوا: معنى قوله: وأتِـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه وأقـيـموا الـحجّ والعمرة. ذكر من قال ذلك: ٢٦٦١ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: وأتِـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه يقول: أقـيـموا الـحجّ والعمرة. ٢٦٦٢ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا إسرائيـل، عن ثوير، عن أبـيه، عن علـيّ: (وَأَقِـيـمُوا الـحجّ والعُمْرَةَ للبـيْتِ) ثم هي واجبة مثل الـحجّ. ٢٦٦٣ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا ثوير، عن أبـيه، عن عبد اللّه : (وَأَقِـيـمُوا الـحجّ وَالْعُمْرَةَ إلـى الْبَـيْتِ) ثم قال عبد اللّه : واللّه لولا التـحرّج وأنـي لـم أسمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيها شيئا، لقلت إن العمرة واجبة مثل الـحجّ. وكأنهم عنوا بقوله: أقـيـموا الـحجّ والعمرة: ائتوا بهما بحدودهما وأحكامهما علـى ما فرض علـيكم. وقال آخرون مـمن قرأ قراءة هؤلاء بنصب العمرة: العمرة تطوّع. ورأوا أنه لا دلالة علـى وجوبها فـي نصبهم العمرة فـي القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يـلزم العبد عمله وإتـمامه بدخوله فـيه، ولـم يكن ابتداء الدخول فـيه فرضا علـيه، وذلك كالـحجّ التطوّع لا خلاف بـين الـجميع فـيه أنه إذا أحرم به أن علـيه الـمضيّ فـيه وإتـمامه ولـم يكن فرضا علـيه ابتداء الدخول فـيه. و قالوا: فكذلك العمرة غير فرض واجب الدخول فـيها ابتداء، غير أن علـى من دخـل فـيها وأوجبها علـى نفسه إتـمامها بعد الدخول فـيها. قالوا: فلـيس فـي أمر اللّه بإتـمام الـحجّ والعمرة دلالة علـى وجوب فرضها. قالوا: وإنـما أوجبنا فرض الـحجّ بقوله عزّ وجل: وللّه علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً. ومـمن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الـخالفـين. ذكر من قال ذلك: ٢٦٦٤ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت سعيد بن أبـي عروبة، عن أبـي معشر عن إبراهيـم، قال: قال عبد اللّه : الـحجّ فريضة، والعمرة تطوّع. ٢٦٦٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن أبـي عروبة، عن أبـي معشر، عن النـخعي، عن ابن مسعود مثله. ٢٦٦٦ـ وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن سعيد بن جبـير، قال: العمرة لـيست بواجبة. ٢٦٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، قال: سألت إبراهيـم عن العمرة فقال: سنة حسنة. ٢٦٦٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، مثله. ٢٦٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، مثله. ٢٦٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، مثله. ٢٦٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا عبد اللّه بن عون، عن الشعبـي، قال: العمرة تطوّع. فأما الذين قرءوا ذلك برفع العمرة فإنهم قالوا: لا وجه لنصبها، فـالعمرة إنـما هي زيارة البـيت، ولا يكون مستـحقا اسم معتـمر إلا وهو له زائر قالوا: وإذا كان لا يستـحق اسم معتـمر إلا بزيارته، وهو متـى بلغه فطاف به وبـالصفـا والـمروة، فلا عمل يبقـى بعده يؤمر بإتـمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتـمامه الـحاج بعد بلوغه والطواف به وبـالصفـا والـمروة بإتـيان عرفة والـمزدلفة، والوقوف بـالـمواضع التـي أمر بـالوقوف بها وعمل سائر أعمال الـحجّ الذي هو من تـمامه بعد إتـيان البـيت لـم يكن لقول القائل للـمعتـمر أتـمّ عمرتك وجه مفهوم، وإذا لـم يكن له وجه مفهوم.. فـالصواب من القراءة فـي العمرة الرفع علـى أنه من أعمال البرّ للّه، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهوقوله: للّه. وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب العمرة علـى العطف بها علـى الـحج، بـمعنى الأمر بإتـمامهما له. ولا معنى لاعتلال من اعتلّ فـي رفعها بأن العمرة زيارة البـيت، فإن الـمعتـمر متـى بلغه، فلا عمل بقـي علـيه يؤمر بإتـمامه، وذلك أنه إذا بلغ البـيت فقد انقضت زيارته وبقـي علـيه تـمام العمل الذي أمره اللّه به فـي اعتـماره، وزيارته البـيت وذلك هو الطواف بـالبـيت، والسعي بـين الصفـا والـمروة، وتـجنب ما أمر اللّه بتـجنبه إلـى إتـمامه ذلك، وذلك عمل وإن كان مـما لزمه بإيجاب الزيارة علـى نفسه غير الزيارة. هذا مع إجماع الـحجة علـى قراءة العمرة بـالنصب، ومخالفة جميع قرّاء الأمصار قراءة من قرأ ذلك رفعا، ففـي ذلك مستغنى عن الاستشهاد علـى خطأ من قرأ ذلك رفعا. وأما أولـى القولـين اللذين ذكرنا بـالصواب فـي تأويـل قوله: والعُمْرَةَ للّه علـى قراءة من قرأ ذلك نصبـا فقول عبد اللّه بن مسعود، ومن قال بقوله من أن معنى ذلك: وأتـموا الـحجّ والعمرة للّه إلـى البـيت بعد إيجابكم إياهما لا أن ذلك أمر من اللّه عزّ وجل بـابتداء عملهما والدخول فـيهما وأداء عملهما بتـمامه بهذه الآية، وذلك أن الآية مـحتـملة للـمعنـيـين اللذين وصفنا من أن يكون أمرا من اللّه عزّ وجل بإقامتهما ابتداء وإيجابـا منه علـى العبـاد فرضهما، وأن يكون أمرا منه بإتـمامهما بعد الدخول فـيهما، وبعد إيجاب موجبهما علـى نفسه، فإذا كانت الآية مـحتـملة للـمعنـيـين اللذين وصفنا، فلا حجة فـيها لأحد الفريقـين علـى الاَخر، إلا وللاَخر علـيه فـيها مثلها. وإذا كان كذلك ولـم يكن بإيجاب فرض العمرة خبر عن الـحجة للعذر قاطعا، وكانت الأمة فـي وجوبها متنازعة، لـم يكن لقول قائل هي فرض بغير برهان دالّ علـى صحة قوله معنى، إذ كانت الفروض لا تلزم العبـاد إلا بدلالة علـى لزومها إياهم واضحة. فإن ظنّ ظانّ أنها واجبة وجوب الـحجّ، وأن تأويـل من تأوّل قوله: وأتِـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه بـمعنى: أقـيـموا حدودهما وفروضهما أولـى من تأويـلنا بـما: ٢٦٧٢ـ حدثنـي به حاتـم بن بكير الضبـي، قال: حدثنا أشهل بن حاتـم الأرطبـائي، قال: حدثنا ابن عون، عن مـحمد بن جحادة، عن رجل، عن زميـل له، عن أبـيه، وكان أبوه يكنى أبـا الـمنتفق، قال: أتـيت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بعرفة، فدنوت منه، حتـى اختلفت عنق راحلتـي وعنق راحلته، فقلت: يا رسول اللّه أنبئنـي بعمل ينـجينـي من عذاب اللّه ويدخـلنـي جنته قال: (اعْبُدِ اللّه وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَا، وأقِمِ الصّلاةَ الـمَكْتُوبَةَ، وأدّ الزكاةَ الـمَفُرُوضَةَ، وحُجّ واعْتَـمِرْ) قال أشهل: وأظنه قال: (وصم رمضان، وانظر ماذا تـحبّ من الناس أن يأتوه إلـيك فـافعله بهم، وما تكره من الناس أن يأتوه إلـيك فذرهم منه). ٢٦٧٣ـ وما حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، ومـحمد بن أبـي عدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالـم، عن عمرو بن أوس، عن أبـي رزين العقـيـلـي رجل من بنـي عامر قال: قلت يا رسول اللّه إن أبـي شيخ كبـير لا يستطيع الـحج ولا العمرة ولا الظعن، وقد أدركه الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: (حُجّ عَنْ أبِـيكَ واعْتَـمِرْ). ٢٦٧٤ـ وما حدثنـي به يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن أبـي قلابة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب فقال: (اعْبُدُوا اللّه وَلا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا، وأقِـيـمُوا الصّلاةَ، وآتُوا الزّكاةَ، وحُجّوا وَاعَتَـمِرُوا واسْتَقِـيـمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ). وما أشبه ذلك من الأخبـار، فإن هذه أخبـار لا يثبت بـمثلها فـي الدين حجة لوَهْيَ أسانـيدها، وأنها مع وهي أسانـيدها لها فـي الأخبـار أشكال تنبىء عن أن العمرة تطوع لا فرض واجب. وهو ما: ٢٦٧٥ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، ومـحمد بن عيسى الدامغانـي، قالا: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، عن الـحجاج بن أرطاة، عن مـحمد بن الـمنكدر، عن جابر بن عبد اللّه ، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم: أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟، فقال: (لا، وأنْ تَعْتَـمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ). ٢٦٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، وحدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا شريك، عن معاوية بن إسحاق، عن أبـي صالـح الـحنفـي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الـحَجّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوّعٌ). وقد زعم بعض أهل الغبـاء أنه قد صح عنده أن العمرة واجبة بأنه لـم يجد تطوعا إلا وله إمام من الـمكتوبة فلـما صح أن العمرة تطوع وجب أن يكون لها فرض، لأن الفرض إمام التطوّع فـي جميع الأعمال. فـيقال لقائل ذلك: فقد جعل الاعتكاف تطوعا، فما الفرض الذي هو إمام متطوّعه؟ ثم يسئل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب؟ فإن قال: واجب، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال: تطوع، قـيـل: فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعا والعمرة فرضا من الوجه الذي يجب التسلـيـم له؟ فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخرة مثله. وبـما استشهدنا من الأدلة، فإن أولـى القراءتـين بـالصواب فـي العمرة قراءة من قرأها نصبـا. وإن أولـى التأويـلـين فـي قوله وأتـمّوا الـحَجّ والعُمْرَةَ للّه تأويـل ابن عبـاس الذي ذكرنا عنه من رواية علـي بن أبـي طلـحة عنه من أنه أمر من اللّه بإتـمام أعمالهما بعد الدخول فـيهما وإيجابهما علـى ما أمر به من حدودهما وسننهما. وإن أولـى القولـين فـي العمرة بـالصواب قول من قال: هي تطوّع لا فرض. وإن معنى الآية: وأتـموا أيها الـمؤمنون الـحجّ والعمرة للّه بعد دخولكم فـيهما وإيجابكموهما علـى أنفسكم علـى ما أمركم اللّه من حدودهما. وإنـما أنزل اللّه تبـارك وتعالـى هذه الآية علـى نبـيه علـيه الصلاة والسلام فـي عمرة الـحديبـية التـي صدّ فـيها عن البـيت معرفه الـمؤمنـين فـيها ما علـيهم فـي إحرامهم إن خـلـى بـينهم وبـين البـيت ومبـينا لهم فـيها ما الـمخرج لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصدّوا عن البـيت وبذكر اللازم لهم من الأعمال فـي عمرتهم التـي اعتـمروها عام الـحديبـية وما يـلزمهم فـيها بعد ذلك فـي عمرتهم وحجهم، افتتـح بقوله: يَسْألُونَكَ عَن الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِـيتُ للنّاسِ والـحَجّ. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الـحجّ والعمرة بشواهد، فكرهنا تطويـل الكتاب بإعادته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنْ أُحْصِرُتُـمْ فَمَا اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْي. اختلف أهل التأويـل فـي الإحصار الذي جعل اللّه علـى من ابتلـي به فـي حجه وعمرته ما استـيسر من الهدي، فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع الـمـحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه اللّه علـيه فـي إحرامه ووصوله إلـى البـيت الـحرام. ذكر من قال ذلك: ٢٦٧٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أنه كان يقول: الـحصر: الـحبس كله. يقول: أيـما رجل اعترض له فـي حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس قال: وقال مـجاهد فـي قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فإن أحصرتـم: يـمرض إنسان أو يكسر أو يحبسه أمر فغلبه كائنا ما كان، فلـيرسل بـما استـيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولايحل حتـى يوم النـحر. ٢٦٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٦٧٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الإحصار كل شيء يحبسه. ٢٦٨٠ـ وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن سعيد، عن قتادة أنه قال: فـي الـمـحصر: هو الـخوف والـمرض والـحابس إذا أصابه ذلك بعث بهديه، فإذا بلغ الهدي مـحله حل. ٢٦٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه عن البـيت يبعث بهديه، فإذا بلغ مـحله صار حلالاً. ٢٦٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق،قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، قال: كل شيء حبس الـمـحرم فهو إحصار. ٢٦٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن إبراهيـم، قال أبو جعفر: أحسبه عن شريك، عن إبراهيـم بن الـمهاجر، عن إبراهيـم: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ قال: مرض أو كسر أو خوف. ٢٦٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ عن ابن عبـاس قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْي يقول: من أحرم بحجّ أو بعمرة، ثم حبس عن البـيت بـمرض يجهده، أو عذر يحبسه فعلـيه قضاؤها. وعلة من قال بهذه الـمقالة أن الإحصار معناه فـي كلام العرب: منع العلة من الـمرض وأشبـاهه غير القهر والغلبة من قاهر أو غالب إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما منع العدوّ، وحبس حابس فـي سجن، وغلبة غالب حائل بـين الـمـحرم والوصول إلـى البـيت من سلطان، أو إنسان قاهر مانع، فإن ذلك إنـما تسميه العرب حصرا لا إحصارا. قالوا: ومـما يدل علـى ذلك قول اللّه جل ثناؤه: وَجَعَلْنا جَهَنّـمَ للْكافِرِينَ حَصِيرا يعنـي به: حاصرا: أي حابسا. قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التـي وصفنا يسمى إحصارا لوجب أن يقال: قد أحصر العدوّ. قالوا: وفـي اجتـماع لغات العرب علـى (حوصر العدوّ) و(العدوّ مـحاصر)، دون (أحصر العدوّ) و(هم مـحصرون)، و(أحصر الرجل) بـالعلة من الـمرض والـخوف، أكبر الدلالة علـى أن اللّه جل ثناؤه إنـما عنى بقوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ بـمرض أو خوف أو علة مانعة. قالوا: وإنـما جعلنا حبس العدوّ ومنعه الـمـحرم من الوصول إلـى البـيت بـمعنى حصر الـمرض قـياسا علـى ما جعل اللّه جل ثناؤه من ذلك للـمريض الذي منعه الـمرض من الوصول إلـى البـيت، لا بدلالة ظاهر قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ إذ كان حبس العدوّ والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة الـمانعة من الـمرض والكسر. وقال آخرون: معنى قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإن حبسكم عدوّ عن الوصول إلـى البـيت، أو حابس قاهر من بنـي آدم. قالوا: فأما العلل العارضة فـي الأبدان كالـمرض والـجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخـل فـي قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ. ذكر من قال ذلك: ٢٦٨٥ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وعطاء، عن ابن عبـاس أنه قال: الـحصر: حصر العدوّ، فـيبعث الرجل بهديته، فإن كان لا يستطيع أن يصل إلـى البـيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلـى مكة، فإنه يبعث بها ويحرم قال مـحمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال يحرم أو يحلّ من يوم يواعد فـيه صاحب الهدي إذا اشترى، فإذا أمن فعلـيه أن يحجّ أو يعتـمر، فإذا أصابه مرض يحبسه ولـيس معه هدي، فإنه يحلّ حيث يحبس، فإن كان معه هدي فلا يحلّ حتـى يبلغ الهدي مـحله، فإذا بعث به فلـيس علـيه أن يحجّ قابلاً، ولا يعتـمر إلا أن يشاء. ٢٦٨٦ـ حُدثت عن أبـي عبـيد القاسم بن سلام، قال: ثنـي يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لا حصر إلا من حبس عدوّ. ٢٦٨٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وعطاء، عن ابن عبـاس مثل حديث مـحمد بن عمرو، عن أبـي عاصم، إلا أنه قال: فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعد فـيه صاحب الهدية إذا اشترى. ثم ذكر سائر الـحديث مثل حديث مـحمد بن عمرو، عن أبـي عاصم. وقال مالك بن أنس: (بلغنـي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلّ وأصحابه بـالـحديبـية، فنـحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بـالبـيت، وقبل أن يصل إلـيه الهدي، ثم لـم نعلـم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا مـمن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء). ٢٦٨٨ـ حدثنـي بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيـل بـينه وبـين البـيت؟ فقال: يحلّ من كلّ شيء، وينـحر هديه، ويحلق رأسه حيث يحبس، ولـيس علـيه قضاء إلا أن يكون لـم يحجّ قط، فعلـيه أن يحجّ حجة الإسلام قال: والأمر عندنا فـيـمن أحصر بغير عدوّ بـمرض أو ما أشبهه، أن يبدأ بـما لا بدّ منه، ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي. وعلة من قال هذه الـمقالة أعنـي من قال قولَ مالك أن هذه الآية نزلت فـي حصر الـمشركين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عن البـيت، فأمر اللّه نبـيه ومن معه بنـحر هداياهم والإحلال. قالوا: فإنـما أنزل اللّه هذه الآية فـي حصر العدوّ، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلـى غير الـمعنى الذي نزلت فـيه. قالوا: وأما الـمريض، فإنه إذا لـم يطق لـمرضه السير حتـى فـاتته عرفة، فإنـما هو رجل فـاته الـحجّ، علـيه الـخروج من إحرامه بـما يخرج به من فـاته الـحج، ولـيس من معنى الـمـحصر الذي نزلت هذه الآية فـي شأنه. وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ تأويـل من تأوله بـمعنى: فإن أحصركم خوف عدوّ أو مرض أو علة عن الوصول إلـى البـيت، أي صيركم خوفكم أو مرضكم تـحصرون أنفسكم، فتـحبسونها عن النفوذ لـما أوجبتـموه علـى أنفسكم من عمل الـحجّ والعمرة. فلذا قـيـل (أحصرتـم)، لـما أسقط ذكر الـخوف والـمرض. يقال منه: أحصرنـي خوفـي من فلان عن لقائك، ومرضي عن فلان، يراد به: جعلنـي أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الـحابس الرجل والإنسان، قـيـل: حصرنـي فلان عن لقائك، بـمعنى حبسنـي عنه. فلو كان معنى الآية ما ظنه الـمتأوّل من قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلـى البـيت، لوجب أن يكون: فإن حُصِرتـم. ومـما يبـين صحة ما قلناه من أن تأويـل الآية مراد بها إحصار غير العدوّ وأنه إنـما يراد بها الـخوف من العدوّ، قوله: فإنْ أمِنْتُـمْ فمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ والأمن إنـما يكون بزوال الـخوف. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى اللّه فـي هذه الآية هو الـخوف الذي يكون بزواله الأمن. وإذا كان ذلك كذلك، لـم يكن حبس الـحابس الذي لـيس مع حبسه خوف علـى النفس من حبسه داخلاً فـي حكم الآية بظاهرها الـمتلّو، وإن كان قد يـلـحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القـياس من أجل أن حبس من لا خوف علـى النفس من حبسه، كالسلطان غير الـمخوفة عقوبته، والوالد وزوج الـمرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنع عن الشخوص لعمل الـحجّ، أو الوصول إلـى البـيت بعد إيجاب الـمـمنوع الإحرام، غير داخـل فـي ظاهر قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ لـما وصفنا من أن معناه: فـان أحصركم خوف عدوّ، بدلالة قوله: فإذَا أمِنْتُـمْ فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحجّ. وقد بـين الـخبر الذي ذكرنا آنفـا عن ابن عبـاس أنه قال: الـحصر: حصر العدوّ. وإذ كان ذلك أولـى التأويـلـين بـالآية لـما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلـى البـيت، فكل مانع عرض للـمـحرم فصدّه عن الوصول إلـى البـيت، فهو له نظير فـي الـحكم. ثم اختلف أهل العلـم فـي تأويـل قوله: فَمَا اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فقال بعضهم: هو شاة. ذكر من قال ذلك: ٢٦٨٩ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن يونس بن أبـي إسحاق السبـيعي، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: مَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة. ٢٦٩٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، وحدثنا عبد الـحميد، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: مَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة. ٢٦٩١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد عن ابن عبـاس ، مثله. ٢٦٩٢ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: تـمتعت فسألت ابن عبـاس فقال: مَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: قلت شاة؟ قال: شاة. ٢٦٩٣ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبـي إسحاق. عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عبـاس عما استـيسر من الهدي؟ قال: من الأزواج الثمانـية من الإبل والبقر والـمعز والضأن. ٢٦٩٤ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا هشيـم، قال الزهري: أخبرنا وسئل عن قول اللّه جل ثناؤه: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: كان ابن عبـاس يقول: من الغنـم. ٢٦٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس قال: ما استـيسر من الهدي: من الأزواج الثمانـية. ٢٦٩٦ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا خالد، قال: قـيـل للأشعث: ما قول الـحسن: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ؟ قال: شاة. ٢٦٩٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ؟ قال: شاة. ٢٦٩٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. ٢٦٩٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله، إلا أنه كان يقال: أعلاه بدنة، وذكر سائر الـحديث مثله. ٢٧٠٠ـ حدثنا ابن بشار قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن زرارة، عن ابن عبـاس ، قال: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة. ٢٧٠١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبـي جمرة، عن ابن عبـاس ، مثله. ٢٧٠٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن ابن جريج، عن عطاء: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ شاة. ٢٧٠٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، قال: حدثنا مـحمد بن نَقِـيع، عن عطاء، مثله. ٢٧٠٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الـمـحصر يبعث بهدي شاة فما فوقها. ٢٧٠٥ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا ابن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة قال: إذا أهلّ الرجل بـالـحج فأحصر، بعث بـما استـيسر من الهدى شاة قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبـير، فقال: كذلك قال ابن عبـاس . ٢٧٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : ما استـيسر من الهدي: شاة فما فوقها. ٢٧٠٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي عن شعبة، قال: حدثنا أبو جمرة، عن ابن عبـاس ، قال: ما استـيسر من الهدي: جزور أو بقرة أو شاة، أو شرك فـي دم. ٢٧٠٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يقول: إن ابن عبـاس كان يرى أن الشاة ما استـيسر من الهدي. ٢٧٠٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد الـحذاء، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: ما استـيسر من الهدي: شاة. ٢٧١٠ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: ما استـيسر من الهدي: شاة. ٢٧١١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سهل بن يوسف قال: حدثنا حميد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير، قال: قال ابن عبـاس : الهدي: شاة، فقـيـل له: أيكون دون بقرة؟ قال: فأنا أقرأ علـيكم من كتاب اللّه ما تدرون به أن الهدي شاة ما فـي الظبـي؟ قالوا: شاة، قال: هَدْيا بـاِلغَ الكَعْبَةِ. ٢٧١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن قـيس بن سعد، عن عطاء بن أبـي ربـاح، عن ابن عبـاس ، قال: شاة. ٢٧١٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن دلهم بن صالـح، قال: سألت أبـا جعفر، عن قوله ما استـيسر من الهدي: فقال: شاة. ٢٧١٤ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدثه عن جعفر بن مـحمد عن أبـيه: أن علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه كان يقول: ما استـيسر من الهدي: شاة. ٢٧١٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا مطرّف بن عبد اللّه ، قال: حدثنا مالك، عن جعفر بن مـحمد، عن أبـيه، عن علـيّ رضي اللّه عنه، مثله. ٢٧١٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مالك أنه بلغه أن عبد اللّه بن عبـاس كان يقول: ما استـيسر من الهدي: شاة. ٢٧١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحبّ إلـي. ٢٧١٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد قال: حدثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: علـيه، يعنـي الـمـحصر هدي إن كان موسرا فمن الإبل، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنـم. ٢٧١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا ابن أبـي ذئب، عن شعبة مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس ، قال: ما استـيسر من الهدي: شاة، وما عظمت شعائر اللّه ، فهو أفضل. ٢٧٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة أن عطاء بن أبـي ربـاح حدثه أن ما استـيسر من الهدي: شاة. وقال آخرون: (ما استـيسر من الهدي): من الإبل والبقر، سنّ دون سنّ. ذكر من قال ذلك: ٢٧٢١ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر، قال: سمعت عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (ما استـيسر من الهدي): البقرة دون البقرة، والبعير دون البعير. ٢٧٢٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبـي مـجلز، قال: سأل رجل ابن عمر: ما استـيسر من الهدي؟ قال: أترضى شاة؟ كأنه لا يرضاه. ٢٧٢٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن القاسم بن مـحمد ونافع، عن ابن عمر قال: ما استـيسر من الهدي: ناقة أو بقرة، فقـيـل له: ما استـيسر من الهدي؟ قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة. ٢٧٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عمر أنه قال: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: جزور، أو بقرة. ٢٧٢٥ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا: حدثنا هشيـم، قال الزهري أخبرنا، وسئل عن قول اللّه : فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: قال ابن عمر: من الإبل والبقر. ٢٧٢٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر فـي قوله جل ثناؤه: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة. ٢٧٢٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن القاسم، عن ابن عمر فـي قوله: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: الإبل والبقر. ٢٧٢٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يقول: كان عبد اللّه بن عمر وعائشة يقولان: (ما استـيسر من الهدي): من الإبل والبقر. ٢٧٢٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا الولـيد بن أبـي هشام، عن زياد بن جبـير، عن أخيه عبد اللّه أو عبـيد اللّه بن جبـير، قال: سألت ابن عمر عن الـمتعة فـي الهدي؟ فقال: ناقة، قلت: ما تقول فـي الشاة؟ قال: أكلكم شاة أكلكم شاة. ٢٧٣٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن مـجاهد وطاوس، قالا: ما استـيسر من الهدي: بقرة. ٢٧٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال فـي قول ابن عمر: بقرة فما فوقها. ٢٧٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (ما استـيسر من الهدي): قال: بدنة أو بقرة، فأما شاة فإنها هي نسك. ٢٧٣٣ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، قال: البدنة دون البدنة، والبقرة دون البقرة، وإنـما الشاة نسك، قال: تكون البقرة بأربعين وبخمسين. ٢٧٣٤ـ حدثنا الربـيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: ثنـي أسامة، عن نافع، عن ابن عمر، كان يقول: ما استـيسر من الهدي: بقرة. ٢٧٣٥ـ وحدثنا الربـيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: ثنـي أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه، قال: رأيت ابن عمر وأهل الـيـمن يأتونه فـيسألونه عما استـيسر من الهدي ويقولون: الشاة الشاة قال: فـيردّ علـيهم: الشاة الشاة يحضهم إلا أن الـجزور دون الـجزور، والبقرة دون البقرة، ولكن ما استـيسر من الهدي: بقرة. وأولـى القولـين بـالصواب قول من قال: ما استـيسر من الهدي شاة لأن اللّه جل ثناؤه إنـما أوجب ما استـيسر من الهدي، وذلك علـى كل ما تـيسر للـمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون اللّه جل ثناؤه خصّ من ذلك شيئا، فـيكون ما خصّ من ذلك خارجا من جملة ما احتـمله ظاهر التنزيـل، ويكون سائر الأشياء غيره مـجزئا إذا أهداه الـمهدي بعد أن يستـحقّ اسم هدي. فإن قال قائل: فإن الذي أبوا أن تكون الشاة مـما استـيسر من الهدي بأنه لا يستـحقّ اسم هدي كما أنه لو أهدى دجاجة أو بـيضة لـم يكن مهديا هديا مـجزئا؟ قـيـل: لو كان فـي الـمهدي الدجاجة والبـيضة من الاختلاف نـحو الذي فـي الـمهدي الشاة لكان سبـيـلهما واحدة فـي أن كل واحد منهما قد أدّى ما علـيه بظاهر التنزيـل إذا لـم يكن أحد الهَدْيَـيْن يخرجه من أن يكون مؤديا بإهدائه ما أهدى من ذلك مـما أوجبه اللّه علـيه فـي إحصاره. ولكن لـما أخرج الـمهدي ما دون الـجذع من الضأن والثنـي من الـمعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان من أن يكون مهديا ما أوجبه اللّه علـيه فـي إحصاره أو متعته بـالـحجة القاطعة العذر، نقلاً عن نبـينا صلى اللّه عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله: فمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وإن كان مـما استـيسر لنا من الهدايا. ولـما اختلف فـي الـجذع من الضأن والثنـيّ من الـمعز، كان مـجزئا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيـل، لأنه مـما استـيسر من الهدي. فإن قال قائل: فما مـحلّ (ما) التـي فـي قوله جل وعز: فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ؟ قـيـل: رفع. فإن قال: بـماذا؟ قـيـل: بـمتروك، وذلك (فعلـيه) لأن تأويـل الكلام: وأتـموا الـحجّ والعمرة أيها الـمؤمنون للّه، فإن حبسكم عن إتـمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدوّ فعلـيكم لإحلالكم إن أردتـم الإحلال من إحرامكم ما استـيسر من الهدي. وإنـما اخترنا الرفع فـي ذلك، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره، وذلك كقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيامٍ وكقوله: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ وما أشبه ذلك مـما يطول بإحصائه الكتاب، تركنا ذكره استغناء بـما ذكرنا عنه. ولو قـيـل موضع (ما) نصب بـمعنى: فإن أحصرتـم فأهدوا ما استـيسر من الهدي، لكان غير مخطىء قائله. وأما الهدي فإنه جمع واحدها هَدِيّة، علـى تقدير جَدِيّة السرج، والـجمع الـجَدْي مخفف. ٢٧٣٦ـ حدثت عن أبـي عبـيدة معمر بن الـمثنى، عن يونس، قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: لا أعلـم فـي الكلام حرفـا يشبهه. وبتـخفـيف الـياء وتسكين الدال من (الهدي) قرأه القراء فـي كل مصر، إلا ما ذكر عن الأعرج، فإن. ٢٧٣٧ـ أبـا هشام الرفـاعي، حدثنا، قال: حدثنا يعقوب، عن بشار، عن أسد، عن الأعرج أنه قرأ: (هَدِيّا بـالِغَ الكَعْبَةِ) بكسر الدال مثقلاً، وقرأ: (حتّـى يَبْلُغَ الهَدِيّ مَـحِلّه) بكسر الدال مثقلة. واختلف فـي ذلك عن عاصم، فرُوي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلـى قراءة سائر القراء. والهدي عندي إنـما سمي هديا لأنه تقرّب به إلـى اللّه جل وعزّ مهديه بـمنزلة الهدية يهديها الرجل إلـى غيره متقرّبـا بها إلـيه، يقال منه: أهديت الهدي إلـى بـيت اللّه فأنا أهديه إهداء، كما يقال فـي الهدية يهديها الرجل إلـى غيره: أهديت إلـى فلان هدية وأنا أهديها. ويقال للبدنة هدية، ومنه قول زهير بن أبـي سلـمى يذكر رجلاً أسر يشبهه فـي حرمته بـالبدنة التـي تُهْدَى: فَلَـمْ أرَ مَعْشَرا أسَرُوا هَدِيّاولَـمْ أرَ جارَ بَـيْتٍ يُسْتَبـاءُ القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلاَ تَـحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّـى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَـحِلّه. يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتـم فأردتـم الإحلال من إحرامكم، فعلـيكم ما استـيسر من الهدي، ولا تـحلوا من إحرامكم إذا أحصرتـم حتـى يبلغ الهدي الذي أوجبته علـيكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتـم فـيه قبل تـمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه مـحله وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان الـمـحرم قد أوجبه علـى نفسه، فنهاه اللّه عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، حتـى يبلغ الهدي الذي أبـاح اللّه له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه مـحله. ثم اختلف أهل العلـم فـي مـحل الهدي الذي عناه اللّه جل اسمه الذي متـى بلغه كان للـمـحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فـيه. فقال بعضهم: مـحلّ هدي الـمـحصر الذي يحلّ به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه، إذا كان إحصاره من خوف عدوّ منعه ذبحه إن كان مـما يذبح، أو نـحره إن كان مـما ينـحر، فـي الـحلّ ذبح أو نـحر أو فـي الـحرم (حيث حبس)، وإن كان من غير خوف عدوّ فلا يحلّ حتـى يطوف بـالبـيت ويسعى بـين الصفـا والـمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدوّ دون غيره. ذكر من قال ذلك: ٢٧٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرنـي مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلّ هو وأصحابه بـالـحديبـية، فنـحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم، وحلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بـالبـيت، وقبل أن يصل إلـيه الهدي. ثم لـم نعلـم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا مـمن كان معه أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء. ٢٧٣٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مالك، عن نافع: أن عبد اللّه بن عمر خرج إلـى مكة معتـمرا فـي الفتنة، فقال: إن صددت عن البـيت صنعنا كما صنعنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأهلّ بعمرة من أجل أن النبـيّ كان أهلّ بعمرة عام الـحديبـية. ثم إن عبد اللّه بن عمر نظر فـي أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد قال: فـالتفت إلـى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أنـي قد أوجبت الـحجّ مع العمرة قال: ثم طاف طوافـا واحدا، ورأى أن ذلك مُـجْز عنه وأهدى. قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وعلـى هذا الأمر عندنا فـيـمن أحصر بعدوّ كما أحصر نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه. فأما من أحصر بغير عدوّ فإنه لا يحلّ دون البـيت قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدوّ وحيـل بـينه وبـين البـيت، فقال: يحلّ من كل شيء، وينـحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، ولـيس علـيه قضاء إلا أن يكون لـم يحجّ قط، فعلـيه أن يحجّ حِجة الإسلام. ٢٧٤٠ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، قال: ثنـي يحيى بن سعيد، عن سلـيـمان بن يسار: أن عبد اللّه بن عمر ومروان بن الـحكم وعبد اللّه بن الزبـير أفتوا ابن حزابة الـمخزومي، وصُرع فـي الـحج ببعض الطريق، أن يبدأ بـما لا بد منه ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحجّ عاما قابلاً ويهدي. قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وذلك الأمر عندنا فـيـمن أحصر بغير عدوّ قال: وقال مالك: وكل من حبس عن الـحجّ بعد ما يحرم إما بـمرض، أو خطأ فـي العدد، أو خفـي علـيه الهلال، فهو مـحصر، علـيه ما علـى الـمـحصر يعنـي من الـمقام علـى إحرامه حتـى يطوف أو يسعى، ثم الـحجّ من قابل والهدي. ٢٧٤١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرنـي أيوب بن موسى أن داود بن أبـي عاصم أخبره: أنه حجّ مرة فـاشتكى، فرجع إلـى الطائف ولـم يطف بـين الصفـا والـمروة، فكتب إلـى عطاء بن أبـي ربـاح يسأله عن ذلك، وأن عطاء كتب إلـيه: أن أهرق دما وعلة من قال بقول مالك فـي أن مـحل الهدي فـي الإحصار بـالعدوّ نـحره حيث حبس صاحبه، ما: ٢٧٤٢ـ حدثنا به أبو كريب ومـحمد بن عمارة الأسدي، قالا: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبـيدة، قال: أخبرنـي أبو مرّة مولـى أم هانىء، عن ابن عمر، قال: لـما كان الهدي دون الـجبـال التـي تطلع علـى وادي الثنـية عرض له الـمشركون فردّوا وجهه قال: فنـحر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الهدي حيث حبسوه، وهي الـحديبـية، وحلق، وتأسّى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق، وتربص آخرون فقالوا: لعلنا نطوف بـالبـيت، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (رَحِمَ اللّه الـمُـحَلّقِـين). قـيـل: والـمقصرين قال: (رَحِمَ اللّه الـمُـحَلّقِـينَ) قـيـل: والـمقصرين قال: (والـمُقَصّرِين). ٢٧٤٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن الـمسور بن مخرمة ومروان بن الـحكم، قالا: لـما كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القضية بـينه وبـين مشركي قريش، وذلك بـالـحديبـية عام الـحديبـية، قال لأصحابه: (قُومُوا فـانْـحَرُوا وَاحْلِقُوا) قال: فواللّه ما قام منهم رجل حتـى قال ذلك ثلاث مرات. فلـما لـم يقم منهم أحد، قام فدخـل علـى أم سلـمة، فذكر ذلك لها، فقالت أم سلـمة: يا نبـيّ اللّه اخرج ثم لا تكلـم أحدا منهم بكلـمة حتـى تنـحر بدنك وتدعو حلاّقك فتـحلق فقام فخرج فلـم يكلـم منهم أحدا حتـى فعل ذلك. فلـما رأوا ذلك قاموا فنـحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتـى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. قالوا: فنـحر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم هديه حين صدّه الـمشركون عن البـيت بـالـحديبـية، وحل هو وأصحابه. قالوا: والـحديبـية لـيست من الـحرم، قالوا، ففـي مثل ذلك دلـيـل واضح علـى أن معنى قوله: حتّـى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَـحِلّهُ حتـى يبلغ بـالذبح أو النـحر مـحل أكله، والانتفـاع به فـي مـحل ذبحه ونـحره، كما رُوي عن نبـي اللّه علـيه الصلاة والسلام فـي نظيره إذ أتـي بلـحم أتته بريرة من صدقة كان تصدّق بها علـيها، فقال: (قَرّبُوهُ فَقَدْ بَلَغَ مَـحِلّهُ) يعنـي: فقد بلغ مـحل طيبه وحلاله له بـالهدية إلـيه بعد أن كان صدقة علـى بريرة. وقال بعضهم: مـحل هدي الـمـحصر الـحرم لا مـحلّ له غيره. ذكر من قال ذلك: ٢٧٤٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عمرو بن سعيد النـخعي أهلّ بعمرة، فلـما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلـى الطريق يتشرّفون الناس، فإذا هم بـابن مسعود، فذكروا ذلك له، فقال: لـيبعث بهدي، واجعلوا بـينكم يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي فلـيحل، وعلـيه قضاء عمرته. ٢٧٤٥ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن سلـيـمان بن مهران، عن عمارة بن عمير وإبراهيـم، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: خرجنا مهلّـين بعمرة فـينا الأسود بن يزيد، حتـى نزلنا ذات الشقوق، فلدغ صاحب لنا، فشقّ ذلك علـيه مشقة شديدة، فلـم ندر كيف نصنع به، فخرج بعضنا إلـى الطريق، فإذا نـحن بركب فـيه عبد اللّه بن مسعود، فقلنا له: يا أبـا عبد الرحمن رجل منا لدغ، فكيف نصنع به؟ قال: يبعث معكم بثمن هدي، فتـجعلون بـينكم وبـينه يوما أمارة، فإذا نـحر الهدي فلـيحل، وعلـيه عمرة فـي قابل. ٢٧٤٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: بـينا نـحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ، فمرّ علـينا عبد اللّه فسألناه، فقال: اجعلوا بـينكم وبـينه يوم أمار، فـيبعث بثمن الهدي، فإذا نـحر حلّ وعلـيه العمرة. ٢٧٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، قال: سمعت إبراهيـم النـخعي يحدّث عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: أهلّ رجل منا بعمرة، فلدغ، فطلع ركب فـيهم عبد اللّه بن مسعود، فسألوه، فقال: يبعث بهدى، واجعلوا بـينكم وبـينه يوما أمارا، فإذا كان ذلك الـيوم فلـيحلّ وقال عمارة بن عمير: وكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللّه : وعلـيه العمرة من قابل. ٢٧٤٨ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: خرجنا عمارا، فلـما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا، فـاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به، فإذا عبد اللّه بن مسعود فـي ركب، فقلنا له: لدغ صاحب لنا، فقال: اجعلوا بـينكم وبـين صاحبكم يوما. ولـيرسل بـالهدي، فإذا نـحر الهدي فلـيحلل، ثم علـيه العمرة. ٢٧٤٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن الـحجاج، قال: حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود، عن أبـيه، عن ابن مسعود: أن عمرو بن سعيد النـخعي أهلّ بعمرة، فلـما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلـى الطريق يتشوّفون الناس، فإذا هم بـابن مسعود، فذكروا ذلك له، فقال: لـيبعث بهدي، واجعلوا بـينكم وبـينه يوم أمار، فإذا ذبح الهدي فلـيحلّ، وعلـيه قضاء عمرته. ٢٧٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ يقول: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البـيت بـمرض يجهده أو عذر يحبسه، فعلـيه ذبح ما استـيسر من الهدي، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام، فعلـيه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء علـيه. ثم قال: وَلا تَـحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتـى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَـحِلّهُ فإن كان أحرم بـالـحجّ فمـحله يوم النـحر، وإن كان أحرم بعمرة فمـحل هديه إذا أتـى البـيت. ٢٧٥١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فهو الرجل من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم كان يحبس عن البـيت فـيهدي إلـى البـيت، ويـمكث علـى إحرامه حتـى يبلغ الهدي مـحله، فإذا بلغ الهدي مـحله حلق رأسه، فأتـمّ اللّه له حجه. والاحصار أيضا: أن يحال بـينه وبـين الـحجّ، فعلـيه هدي إن كان موسرا من الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنـم. ويجعل حجه عمرة، ويبعث بهديه إلـى البـيت، فإذا نـحر الهدي فقد حلّ، وعلـيه الـحجّ من قابل. ٢٧٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلـمة، قال: سئل علـيّ رضي اللّه عنه عن قول اللّه عزّ وجل: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ فإذا أحصر الـحاج بعث بـالهدي، فإذا يحل عنه حلّ، ولا يحلّ حتـى ينـحر هديه. ٢٧٥٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، قال: سمعت عطاء يقول: من حبس فـي عمرته، فبعث بهدية فـاعترض لها فإنه يتصدّق بشيء أو يصوم، ومن اعترض لهديته، وهو حاجّ، فإن مـحلّ الهدي والإحرام يوم النـحر، ولـيس علـيه شيء. ٢٧٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، مثله. ٢٧٥٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَـحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّـى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَـحِلّهُ الرجل يحرم ثمّ يخرج فـيحصر، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير، وإما تنكسر راحلته، فإنه يقـيـم، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها. فإن هو صحّ فسار فأدرك فلـيس علـيه هدي، وإن فـاته الـحجّ فإنها تكون عمرة، وعلـيه من قابل حجة. وإن هو رجع لـم يزل مـحرما حتـى ينـحر عنه يوم النـحر. فإن هو بلغه أن صاحبه لـم ينـحر عنه عاد مـحرما وبعث بهدي آخر، فواعد صاحبه يوم ينـحر عنه بـمكة، فنـحر عنه بـمكة ويحلّ، وعلـيه من قابل حجة وعمرة. ومن الناس من يقول عمرتان. وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه، فعلـيه من قابل عمرتان، وأناس يقولون: لا بل ثلاث عُمَرٍ نـحو مـما صنعوا فـي الـحج حين صنعوا، علـيه حجة وعمرتان. ٢٧٥٦ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وعطاء، عن ابن عبـاس ، قال: إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلـى البـيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلـى مكة، فإنه يبعث بها مكانه، ويواعد صاحب الهدي. فإذا أمن فعلـيه أن يحج ويعتـمر. فإن أصابه مرض يحبسه ولـيس معه هدي، فإنه يحل حيث يحبس، وإن كان معه هدي فلا يحل حتـى يبلغ الهدي مـحله إذا بعث به، ولـيس علـيه أن يحج قابلاً ولا يعتـمر إلا أن يشاء. وعلة من قال هذه الـمقالة، أن مـحل الهدايا والبدن الـحرم أن اللّه عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّه فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ لَكُمْ فِـيها مَنافعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ، فجعل مـحلها الـحرم، ولا مـحلّ للّهدي دونه. قالوا: وأما ما ادّعاه الـمـحتـجون بنـحر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم هداياه بـالـحديبـية حين صدّ عن البـيت فلـيس ذلك بـالقول الـمـجتـمع علـيه، وذلك أن: ٢٧٥٧ـ الفضل بن سهل حدثنـي ، قال: حدثنا مخوّل بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسرائيـل، عن مـجزأة بن زاهر الأسلـمي، عن أبـيه، عن ناجية بن جندب الأسلـمي، قال: أتـيت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حين صدّ عن الهدي، فقلت: يا رسول اللّه ابعث معي بـالهدي فلننـحره بـالـحرم قال: (كَيْفَ تصْنَعُ بهِ)؟ قلت: آخذ به أودية فلا يقدرون علـيه. فـانطلقت به حتـى نـحرته بـالـحرم. قالوا: فقد بـين هذا الـخبر أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم نـحر هداياه فـي الـحرم، فلا حجة لـمـحتـجّ بنـحره بـالـحديبـية فـي غير الـحرم. وقال آخرون: معنى هذه الآية وتأويـلها علـى غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقـين اللذين ذكرنا اختلافهم علـى ما ذكرنا. و قالوا: إنـما معنى ذلك: فإن أحصرتـم أيها الـمؤمنون عن حجكم فمنعتـم من الـمضيّ لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدوّ وأداء اللازم لكم وحجكم حتـى فـاتكم الوقوف بعرفة، فإن علـيكم ما استـيسر من الهدي لـما فـاتكم من حجكم مع قضاء الـحجّ الذي فـاتكم. فقال أهل هذه الـمقالة: لـيس للـمـحصر فـي الـحجّ بـالـمرض والعلل غيره الإحلال إلا بـالطواف بـالبـيت والسعي بـين الصفـا والـمروة إن فـاته الـحجّ. قالوا: فأما إن أطاق شهود الـمشاهد فإنه غير مـحصر. قالوا: وأما العمرة فلا إحصار فـيها، لأن وقتها موجود أبدا. قالوا: والـمعتـمر لا يحلّ إلا بعمل آخر ما يـلزمه فـي إحرامه. قالوا: ولـم يدخـل الـمعتـمر فـي هذه الآية، وإنـما عنى بها الـحاج. ثم اختلف أهل هذه الـمقالة، فقال بعضهم: لا إحصار الـيوم بعدوّ كما لا إحصار بـمرض يجوّز لـمن فـاته أن يحلّ من إحرامه قبل الطواف بـالبـيت والسعي بـين الصفـا والـمروة. ذكر من قال ذلك: ٢٧٥٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبر اهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن مـجاهد، عن طاوس، قال: قال ابن عبـاس : لا إحصار الـيوم. ٢٧٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرنـي عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت: لا أعلـم الـمـحرم يحل بشيء دون البـيت. ٢٧٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لا حصر إلا من حبسه عدو، فـيحل بعمرة، ولـيس علـيه حج ولا عمرة. وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت الـيوم وبعد الـيوم، علـى نـحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التـي حكينا عنهم. ذكر من قال ذلك: وقال: ومعنى الآية: فإن أحصرتـم عن الـحج حتـى فـاتكم، فعلـيكم ما استـيسر من الهدي لفوته إياكم: ٢٧٦١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبري يونس، عن ابن شهاب، عن سالـم، قال: كان عبد اللّه بن عمر ينكر الاشتراط فـي الـحج، و يقول: ألـيس حسبكم سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الـحج طاف بـالبـيت والصفـا والـمروة ثم حل من كل شيء حتـى يحج عاما قابلاً، ويهدي أو يصوم إن لـم يجد هديا. ٢٧٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: الـمـحصر لا يحل من شيء حتـى يبلغ البـيت ويقـيـم علـى إحرامه كما هو إلا أن تصيبه جراحة أو جرح، فـيتداوى بـما يصلـحه ويفتدي. فإذا وصل إلـى البـيت، فإن كانت عمرة قضاها، وإن كانت حجة فسخها بعمرة، وعلـيه الـحج من قابل والهدي، فإن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام فـي الـحج وسبعة إذا رجع. ٢٧٦٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبـيد اللّه ، قال: أخبرنـي نافع: أن ابن عمر مر علـى ابن حزابة وهو بـالسقـيا، فرأى به كسرا فـاستفتاه، فأمره أن يقـف كما هو لا يحلّ من شيء حتـى يأتـي البـيت إلا أن يصيبه أذى فـيتداوى وعلـيه ما استـيسر من الهدي. وكان أهلّ بـالـحج. ٢٧٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي سالـم بن عبد اللّه أن عبد اللّه بن عمر، قال: من أحصر بعد أن يهلّ بحجّ، فحبسه خوف أو مرض أو خلا له ظهر يحمله أو شيء من الأمور كلها، فإنه يتعالـج لـحبسه ذلك بكل شيء لا بدّ له منه، غير أنه لا يحلّ من النساء والطيب، ويفتدي بـالفدية التـي أمر اللّه بها صيامٍ أو صدقة أو نسك. فإن فـاته الـحجّ وهو بـمـحبسه ذلك، أو فـاته أن يقـف فـي مواقـف عرفة قبل الفجر من لـيـلة الـمزدلفة، فقد فـاته الـحجّ، وصارت حجته عمرة يقدم مكة فـيطوف بـالبـيت وبـالصفـا والـمروة. فإن كان معه هدي نـحره بـمكة قريبـا من الـمسجد الـحرام، ثم حلق رأسه، أو قصر، ثم حلّ من النساء والطيب وغير ذلك. ثم علـيه أن يحجّ قابلاً ويهدي ما تـيسر من الهدي. ٢٧٦٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالـم بن عبد اللّه ، عن عبد اللّه بن عمر أنه قال: الـمـحصر لا يحلّ حتـى يطوف بـالبـيت وبـين الصفـا والـمروة. وإن اضطّر إلـى شيء من لبس الثـياب التـي لا بدّ له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى. فهذا ما رُوي عن ابن عمر فـي الإحصار بـالـمرض وما أشبهه، وأما فـي الـمـحصر بـالعدوّ فإنه كان يقول فـيه بنـحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله. ٢٧٦٦ـ حدثنـي تـميـم بن الـمنتصر، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، قال: أخبرنا عبـيد اللّه ، عن نافع: أن ابن عمر أراد الـحجّ حين نزل الـحجاج بـابن الزبـير فكلـمه ابناه سالـم وعبـيد اللّه ، فقالا: لا يضرّك أن لا تـحجّ العام، إنا نـخاف أن يكون بـين الناس قتال فـيحال بـينك وبـين البـيت قال: إن حيـل بـينـي وبـين البـيت فعلت كما فعلنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين حال كفـار قريش بـينه وبـين البـيت فحلق ورجع. وأما ما ذكرناه عنهم فـي العمرة من قولهم إنه لا إحصار فـيها ولا حصر، فإنه: ٢٧٦٧ـ حدثنـي به يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنـي هشيـم، عن أبـي بشر، عن يزيد بن عبد اللّه بن الشخير أنه أهلّ بعمرة فأحصر، قال: فكتب إلـى ابن عبـاس وابن عمر، فكتبـا إلـيه أن يبعث بـالهدي، ثم يقـيـم حتـى يحلّ من عمرته قال: فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر. ٢٧٦٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا يعقوب، عن أبـي العلاء بن الشخير، قال: خرجت معتـمرا فصرعت عن بعيري فكسرت رجلـي. فأرسلنا إلـى ابن عبـاس وابن عمر نسألهما، فقالا: إن العمرة لـيس لها وقت كوقت الـحجّ، لاتـحلّ حتـى تطوف بـالبـيت، قال: فأقمت بـالدّثِـينَةِ أو قريبـا منه سبعة أشهر أو ثمانـية أشهر. ٢٧٦٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنـي مالك، عن أيوب بن أبـي تـميـمة السختـيانـي عن رجل من أهل البصرة كان قديـما أنه قال: خرجت إلـى مكة، حتـى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلـى مكة إلـى عبد اللّه بن عبـاس، وبها عبد اللّه بن عبـاس وعبد اللّه بن عمر والناس، فلـم يرخص لـي أحد أن أحلّ، فأقمت علـى ذلك إلـى سبعة أشهر حتـى أحللت بعمرة. ٢٧٧٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن ابن شهاب فـي رجل أصابه كسر وهو معتـمر، قال: يـمكث علـى إحرامه حتـى يأتـي البـيت ويطوف به وبـالصفـا والـمروة، ويحلق أو يقصر، ولـيس علـيه شيء. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل هذه الآية قول من قال: إن اللّه عزّ وجل عنى بقوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلا تَـحْلِقُوا رُءُؤُسَكُمْ حتّـى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَـحِلّهُ كل مـحصر فـي إحرام بعمرة كان إحرام الـمـحصر أو بحجّ، وجعل مـحل هديه الـموضع الذي أحصر فـيه، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه مـحله. وتأول بـالـمـحل الـمنـحر أو الـمذبح، وذلك حين حلّ نـحرُه أو ذبحُه فـي حرم كان أو فـي حلّ، وألزمه قضاء ما حلّ منه من إحرامه قبل إتـمامه إذا وجد إلـيه سبـيلاً، وذلك لتواتر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه صدّ عام الـحديبـية عن البـيت وهو مـحرم وأصحابه بعمرة، فنـحر هو وأصحابه بأمره الهديَ، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلـى البـيت، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه فـي العام الذي بعده. ولـم يدّع أحد من أهل العلـم بـالسير ولا غيرهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام علـى إحرامه انتظارا للوصول إلـى البـيت والإحلال بـالطواف به وبـالسعي بـين الصفـا والـمروة، ولا يَحَفّـى وصول هديه إلـى الـحرم. فأولـى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ لـم يأت بحظره خبر، ولـم تقم بـالـمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلـم مختلفـين فـيـما اخترنا من القول فـي ذلك، فمن متأوّل معنى الآية تأويـلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بـما قلنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولـى الأمور بتأويـل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلـم أنها يومئذٍ نزلت وفـي حكم صدّ الـمشركين إياه عن البـيت أوحيت. وقد رُوي بنـحو الذي قلنا فـي ذلك خبر. ٢٧٧١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: ثنـي الـحجاج بن أبـي عثمان، قال: حدثنـي يحيى بن أبـي كثـير، أن عكرمة مولـى ابن عبـاس حدثه، قال: حدثنـي الـحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلّ وَعَلَـيْهِ حَجّةٌ أُخْرَى) قال: فحدثت ابن عبـاس وأبـا هريرة بذلك، فقالا: صدق. ٢٧٧٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا مروان، قال: حدثنا حجاج الصوّاف، وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفـيان بن حبـيب، عن الـحجاج الصوّاف، عن يحيى بن أبـي كثـير، عن عكرمة، عن الـحجاج بن عمرو، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم نـحوه، وعن ابن عبـاس وأبـي هريرة. ومعنى هذا الـخبر الأمر بقضاء الـحجة التـي حلّ منها نظير فعل النبـيّ علـيه الصلاة والسلام وأصحابه فـي قضائهم عمرتهم التـي حلوا منها عام الـحديبـية من القابل فـي عام عمرة القضية. ويقال لـمن زعم أن الذي حصره عدوّ إذا حلّ من إحرامه التطوّع فلا قضاء علـيه، وأن الـمـحصر بـالعلل علـيه القضاء ما العلة التـي أوجبت علـى أحدهما القضاء وأسقطت عن الاَخر، وكلاهما قد حلّ من إحرام كان علـيه إتـمامه لولا العلة العائقة؟ فإن قال: لأن الآية إنـما نزلت فـي الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلـى غير ما نزلت فـيه قـيـل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلـم، غير أنا نسلـم لك ما قلت فـي ذلك، فهلا كان حكم الـمنع بـالـمرض والإحصار له حكم الـمنع بـالعدو إذ هما متفقان فـي الـمنع من الوصول إلـى البـيت وإتـمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسبـاب منعهما، فكان أحدهما مـمنوعا بعلة فـي بدنه، والاَخر بـمنع مانع؟ ثم يسئل الفرق بـين ذلك من أصل أو قـياس، فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. وأما الذين قالوا: لا إحصار فـي العمرة، فإنه يقال لهم: قد علـمتـم أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم إنـما صد عن البـيت، وهو مـحرم بـالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم علـى عدم الإحصار فـيها؟ أو رأيتـم إن قال قائل: لا إحصار فـي حج، وإنـما فـيه فوت، وعلـى الفـائت الـحج الـمقام علـى إحرامه حتـى يطوف بـالبـيت، ويسعى بـين الصفـا والـمروة، لأنه لـم يصح عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم أنه سن فـي الإحصار فـي الـحجّ سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم سنّ فـيها ما سنّ، وأنزل اللّه تبـارك وتعالـى فـي حكمها ما بـين من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى اللّه عليه وسلم، ففـيها الإحصار دون الـحجّ هل بـينها وبـينه فرق؟ ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك، فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ. يعنـي بذلك جل ثناؤه فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وَلاَ تَـحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتّـى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَـحِلّهُ إلا أن يضطرّ إلـى حلقه منكم مضطرّ، إما لـمرض، وإما لأذى برأسه، من هوامّ أو غيرها، فـيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لـم يبلغ الهدي مـحلّه، فـيـلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك، فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٢٧٧٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما أذًى من رأسه؟ قال: القمل وغيره، والصداع، وما كان فـي رأسه. وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الـحجّ بـالنسك أو الإطعام إلا بعد التكفـير، وإن أراد أن يفتدي بـالصوم حلق ثم صام. ذكر من قال ذلك: ٢٧٧٤ـ حدثنا عبـيد اللّه بن معاذ، عن أبـيه، عن أشعث، عن الـحسن، قال: إذا كان بـالـمـحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بـالشاة، أو يطعم الـمساكين، وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك. ذكر من قال ذلك: ٢٧٧٥ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، قال: إذا أهلّ الرجل بـالـحجّ فأحصر بعث بـما استـيسر من الهدي شاة، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي مـحلّه، فحلق رأسه، أو مسّ طيبـا أو تداوى، كان علـيه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. قال إبراهيـم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبـير، فقال: كذلك قال ابن عبـاس . ٢٧٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيسَرَ مِنَ الهَدْيِ قال: من أحصر بـمرض أو كسر فلـيرسل بـما استـيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولايحلّ حتـى يوم النـحر. فمن كان مريضا، أو اكتـحل، أو ادّهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه، فحلق، ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. ٢٧٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٢٧٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا تَـحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حتـى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَـحِلّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ هذا إذا كان قد بعث بهديه، ثم احتاج إلـى حلق رأسه من مرض، وإلـى طيب، وإلـى ثوب يـلبسه، قميص أو غير ذلك، فعلـيه الفدية. ٢٧٧٩ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح كاتب اللـيث، قال: حدثنـي اللـيث، عن عقـيـل، عن ابن شهاب قال: من أحصر عن الـحجّ فأصابه فـي حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه، فحلق رأسه فـي مـحبسه ذلك، فعلـيه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. ٢٧٨٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: حدثنا عقـيـل، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي سالـم بن عبد اللّه ، أن عبد اللّه بن عمر قال: من أحصر بعد أن يهلّ بحجّ، فحبسه مرض أو خوف، فإنه يتعالـج فـي حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحلّ له النساء والطيب، ويفتدي بـالفدية التـي أمر اللّه بها: صيامٍ، أو صدقة، أو نسك. ٢٧٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنـي بشر بن السريّ، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلـمة، قال: سئل علـيّ رضي اللّه عنه عن قول اللّه جل ثناؤه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ قال: هذا قبل أن ينـحر الهدي، إن أصابه شيء فعلـيه الكفـارة. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فعلـيه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الـحِلاق إذا أراد حلاقه. ذكر من قال ذلك: ٢٧٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فمن اشتدْ مرضه أو آذاه رأسه وهو مـحرم، فعلـيه صيام أو إطعام أو نسك، ولا يحلق رأسه حتـى يقدم فديته قبل ذلك. وعلة من قال هذه الـمقالة ما. ٢٧٨٣ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فقال: إن كعب بن عجرة مرّ بـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وبرأسه من الصئبـان والقمل كثـير، فقال له النبـيّ علـيه الصلاة والسلام: (هَلْ عِنْدَكَ شاةٌ)؟ فقال كعب: ما أجدها. فقال له النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنْ شِئْتَ فأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين، وإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، ثُم احْلِقْ رأسَكَ). فأما الـمرض الذي أبـيح معه العلاج بـالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، والـجراحات التـي تكون بجسد الإنسان التـي يحتاج معها إلـى العلاج بـالدواء الذي فـيه الطيب ونـحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان. وأما الأذى الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنـحو الصداع والشقـيقة، وما أشبه ذلك، وأن يكثر صئبـان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مـما فـي حلقه صلاحه ودفع الـمضرّة الـحالّة به، فـيكون ذلك له بعموم قول اللّه جل وعزّ أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ. وقد تظاهرت الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن هذه الآية نزلت علـيه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبـانه، وذلك عام الـحديبـية. ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك: ٢٧٨٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي، عن كعب بن عجرة، قال: مرّ بـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالـحديبـية ولـي وفرة فـيها هوام ما بـين أصل كل شعرة إلـى فرعها قمل وصئبـان، فقال: (إن هَذَا لأذًى)، قلت: أجل يا رسول اللّه شديد، قال: (أمَعَكَ دَمٌ)؟ قلت: لا قال: (فإنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وَإنْ شِئْتَ فَتصَدّقْ بِثَلاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَـمْرٍ علـى سِتّةِ مَساكِين، علـى كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاع). ٢٧٨٥ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عامر، عن كعب بن عجرة، عن النبـيّ بنـحوه. ٢٧٨٦ـ حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أسد بن عمرو، عن أشعث، عن عامر، عن عبد اللّه بن معقل عن كعب بن عجرة، قال: خرجت مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم زمن الـحديبـية ولـي وفرة من شعر، قد قملت وأكلنـي الصئبـان. فرآنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (احْلِقْ) ففعلت، فقال: (هَلْ لَكَ هَدْيٌ؟) فقلت: ما أجد. فقال: (إنّهُ ما اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ)، فقلت: ما أجد. فقال: (صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ) قال: ففـيّ نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ إلـى آخر الآية. وهذا الـخبر ينبىء عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنـما تـجب علـى الـحالق بعد الـحلق، وفساد قول من قال: يفتدي ثم يحلق لأن كعبـا يخبر أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أمره بـالفدية بعد ما أمره بـالـحلق فحلق. ٢٧٨٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، حدثنا سفـيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهانـي، عن عبد اللّه بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال: أمرنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام، أو فَرْق من طعام بـين ستة مساكين. ٢٧٨٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهانـي، عن عبد اللّه بن معقل، قال: قعدت إلـى كعب وهو فـي الـمسجد، فسألته عن هذه الآية: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقةٍ أوْ نُسُكٍ فقال كعب: نزلت فـيّ كان بـي أذى من رأسي، فحمُلت إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقمل يتناثر علـى وجهي، فقال: (ما كُنْتُ أرَى أنّ الـجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ ما أرَى، أتـجِدُ شاةً؟) فقلت: لا فنزلت هذه الآية: فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ قال: فنزلت فـيّ خاصة، وهي لكم عامة. ٢٧٨٩ـ حدثنـي تـميـم، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن عبد الرحمن بن الأصبهانـي، قال: سمعت عبد اللّه بن معقل الـمري، يقول: سمعت كعب بن عجرة يقول: حججت مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقمل رأسي ولـحيتـي وشاربـي وحاجبـي، فذكر ذلك للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل إلـيّ فقال: (ما كُنْتُ أرَى هَذَا أصَابَكَ)، ثم قال: (ادْعُوا لـي حَلاّقا) فدعوه، فحلقنـي. ثم قال: (أعِنْدَكَ شَيْء تَنْسُكُهُ عَنْكَ؟) قال: قلت لا قال: (فَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين كُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعامٍ). قال كعب: فنزلت هذه الآية فـيّ خاصة: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك ثم كانت للناس عامّة. ٢٧٩٠ـ حدثنـي نصر بن علـيّ الـجهضمي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنـي أيوب، عن مـجاهد، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب بن عجرة، قال: مرْ بـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أوقد تـحت قدر والقمل يتناثر علـى وجهي، فقال: (أتُؤْذِيكَ هَوَامّ رأسِكَ؟) قال: قلت نعم قال: (احْلِقْهُ وَصم ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين، أوِ اذْبَحْ شاةً). ٢٧٩١ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب بإسناده عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: والقمل يتناثر علـيّ، أو قال: علـى حاجبـيّ وقال أيضا: (أو انسك نسيكة). قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. ٢٧٩٢ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عبد اللّه بن عون، عن مـجاهد، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب، قال: فـيّ أنزلت هذه الآية، قال: فقال لـي: (ادْنُه) فدنوت، فقال: (أيؤذِيكَ هوامّك)؟ قال: أظنه قال نعم قال: فأمرنـي بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تـيسر. ٢٧٩٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالـح بن أبـي الـخـلـيـل عن مـجاهد، عن كعب بن عجرة: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أتـى علـيه زمن الـحديبـية وهو يوقد تـحت قدر له وهوامّ رأسه تتناثر علـى وجهه، فقال: (أتُؤْذِيكَ هَوَامّكَ؟) قال: نعم قال: (احْلِقْ رأسْكَ وَعَلَـيْكَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ، تذبَحُ ذَبـيحَةً أوْ تَصُومُ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ تُطْعِمُ سِتّةَ مَساكِينَ). ٢٧٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن أبـي الـخـلـيـل، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، قال: ذكر لنا أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أتـى علـى كعب بن عجرة زمن الـحديبـية، ثم ذكر نـحوه. ٢٧٩٥ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـيّ، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: وأخبرنـي سيف، عن مـجاهد، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب بن عجرة، قال: مرّ بـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا بـالـحديبـية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: (أيُؤْذِيكَ هَوَامّكَ؟) قال قلت: نعم قال: (فـاحْلِقْ) قال: ففـيّ نزلت هذه الآية: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صدَقَةِ أوْ نُسُك. ٢٧٩٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح وأيوب السختـيانـي، عن مـجاهد، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب بن عجرة، قال: مرّ بـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الـحديبـية، وأنا أوقد تـحت قدر والقمل يتهافت علـيّ، فقال: (أتُؤْذِيكَ هَوَامّكَ)؟ قال: قلت: نعم قال: (فـاحْلِق، وَانْسُكْ نَسِيكَةٍ، أوْ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ فَرَقا بَـيْنَ سِتّة مَساكِين). قال أيوب: انسك نسيكة وقال ابن أبـي نـجيح: اذبح شاة. قال سفـيان: والفرق ثلاثة آصع. ٢٧٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: حدثنـي عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب بن عجرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رآه وقمله يسقط علـى وجهه، فقال: (أيُؤْذِيكَ هَوَامّكَ؟) قال: نعم. فأمره أن يحلق وهو بـالـحديبـية لـم يتبـين لهم أنهم يحلون بها، وهم علـى طمع أن يدخـلوا مكة. فأنزل اللّه الفدية، فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يطعم فرقا بـين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام. ٢٧٩٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن أبـي بشر، عن مـجاهد، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـالـحديبـية، ونـحن مـحرمون، وقد حصرنا الـمشركون قال: وكانت لـي وفرة، فجعلت الهوامّ تساقط علـى وجهي. فمرّ بـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (أيُؤْذِيكَ هَوَامّ رأسِكَ؟) قال: قلت نعم. ونزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك. ٢٧٩٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مـجاهد، عن كعب بن عجرة، قال: لفـيّ نزلت وإياي عنى بها: فَمَنْ كانَ منكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال: قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو بـالـحديبـية، وهو عند الشجرة، وأنا مـحرم: (أيُؤْذِيكَ هَوَامّهُ؟) قلت: نعم، أو كلـمة لا أحفظها عنى بها ذاك. فأنزل اللّه جل وعز: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك والنسك. شاة. ٢٨٠٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن مـجاهد، قال: قال كعب بن عجرة: والذي نفسي بـيده، لفـيّ نزلت هذه الآية، وإياي عنى بها، ثم ذكر نـحوه، قال: وأمره أن يحلق رأسه. ٢٨٠١ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مالك بن أنس، عن عبد الكريـم بن مالك الـجزري، عن مـجاهد، عن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فآذاه القمل فـي رأسه، فأمره رسول اللّه علـيه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال: (صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينُ مُدّيْنِ مُدّيْن لِكلّ إنْسانٍ، أوِ أنْسُكْ بِشاةٍ، أيّ ذلك فعلت أجزأك). ٢٨٠٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قـيس، عن مـجاهد، (عن ابن أبـي لـيـلـى) عن كعب بن عجرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: (لَعَلّهُ آذَاكَ هَوَامّكَ؟) يعنـي القمل، قال: فقلت: نعم يا رسول اللّه . فقال رسول اللّه : (احْلِقْ رأسَكَ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينَ، أوِ أنْسُكْ بِشاة). ٢٨٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدّثه، عن عطاء بن عبد اللّه الـخراسانـي أنه قال: أخبرنـي شيخ بسوق البرم بـالكوفة، عن كعب بن عجرة أنه قال: جاءنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أنفخ تـحت قدر لأصحابـي، قد امتلأ رأسي ولـحيتـي قملاً، فأخذ بجبهتـي، ثم قال: (احْلِقْ هَذَا، وَصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكيِن)، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـم أنه لـيس عندي ما أنسك به. ٢٨٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن نافع، قال: حدثنـي أسامة بن زيد، عن مـحمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة، قال كعب: أمرنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين آذانـي القمل أن أحلق رأسي، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد علـم أنه لـيس عندي ما أنسك به. ٢٨٠٥ـ حدثنا إبراهيـم بن سعيد الـجوهري، قال: حدثنا روح، عن أسامة بن زيد، عن مـحمد بن كعب، قال: سمعت كعب بن عجرة يقول: أمرنـي، يعنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أن أحلق وأفتدي بشاة. ٢٨٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة، عن عنبسة، عن الزبـير بن عدي، عن أبـي وائل شقـيق بن سلـمة قال: لقـيت كعب بن عجرة فـي هذه السوق، فسألته عن حلق رأسه؟ فقال: أحرمتُ فآذانـي القمل. فبلغ ذلك النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فأتانـي وأنا أطبخ قدرا لأصحابـي، فحك بأصبعه رأسي فـانتثر منه القمل، فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (احْلِقْهُ وأطْعِمْ سِتّةَ مَساكِين). ٢٨٠٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريح، قال: أخبرنـي عطاء أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم كان بـالـحديبـية عام حبسوا بها، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة، فقال له النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (أتُؤْذِيكَ هَذِهِ الهَوَامّ؟) قال: نعم قال: (فـاحْلِقْ وَاجْزُزْ ثُمّ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتّةَ مَساكِينَ مُدّيْنِ مُدّيْنِ) قال: قلت أسمى النبـي صلى اللّه عليه وسلم مدّين مدّين؟ قال: نعم، كذلك بلغنا أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم سمى ذلك لكعب، ولـم يسمّ النسك قال: وأخبرنـي أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أخبر كعبـا بذلك بـالـحديبـية قبل أن يؤذن للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بـالـحلق والنـحر، لا يدري عطاء كم بـين الـحلق والنـحر. ٢٨٠٨ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنـي عمي عبد اللّه بن وهب، قال: ثنـي اللـيث، عن ابن مسافر، عن ابن شهاب، عن فضالة بن مـحمد الأنصاري، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه: أن كعب بن عجرة أصابه أذى فـي رأسه، فحلق قبل أن يبلغ الهدي مـحله، فأمره النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام. ٢٨٠٩ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو الأسود، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن مخرمة، عن أبـيه، قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: سمعت شعيبـا يحدّث عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكعب بن عجرة: (أيُؤْذِيَكَ دَوَابّ رأسِكَ؟)قال: نعم، قال: (فـاحْلِقْهُ وَافْتَدِ إمّا بِصَوْم ثَلاثَةِ أيّامٍ، وإمّا أنْ تُطْعِمَ سِتّةَ مَساكِين، أوْ نُسُكِ شاةٍ) ففعل. وقد بـينا قبل معنى الفدية، وأنها بـمعنى الـجزاء والبدل. واختلف أهل العلـم فـي مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما اللّه علـى من حلق شعره من الـمـحرمين فـي حال مرضه أو من أذى برأسه، فقال بعضهم: الواجب علـيه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بـين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلّوا بـالأخبـار التـي ذكرناها قبل. ذكر من قال ذلك: ٢٨١٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن السدي، عن أبـي مالك: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة. ٢٨١١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، قال: حدثنا عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء، مثله. ٢٨١٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن عثمان بن الأسود، عن مـجاهد، مثله. ٢٨١٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم ومـجاهد أنهما قالا فـي قوله: فَفِدّيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا: الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا. ٢٨١٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن أشعث، عن الشعبـي، عن عبد اللّه بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال فـي قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال: الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا إلا أنه قال فـي إطعام الـمساكين: ثلاثة آصع من تـمر بـين ستة مساكين. ٢٨١٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فمَنْ كانَ مِنكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك إن صنع واحدا فعلـيه فدية، وإن صنع اثنـين فعلـيه فديتان، وهو مخير أن يصنع أيّ الثلاثة شاء. أما الصيام فثلاثة أياموأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأما النسك فشاة فما فوقها. نزلت هذه الآية فـي كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه، فحلقه. ٢٨١٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فمن كان مريضا أو اكتـحل، أو ادّهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق، ففدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة فرق بـين ستة مساكين، أو نسك، والنسك: شاة. ٢٨١٧ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَلا تَـحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حّتـى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَـحِلّهُ قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي مـحله فحلق، ففدية من صيام أو صدقة، أو نسك قال: فـالصيام ثلاثة أيام، والصدقة: إطعام ستة مساكين، بـين كل مسكينـين صاع. والنسك: شاة. ٢٨١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الكريـم، عن سعيد بن جبـير، قال: يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما، قال: مدّا لطعامه، ومدّا لإدامه. ٢٨١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة بإسناده مثله. ٢٨٢٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلـمة، قال: سئل علـيّ رضي اللّه عن قول اللّه : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع علـى ستة مساكين، والنسك: شاة. ٢٨٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي يزيد بن أبـي حبـيب، عن حرب بن قـيس مولـى يحيى بن أبـي طلـحة أنه سمع مـحمد بن كعب، وهو يذكر الرجل الذي نزل فـيه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأسِهِ قال: فأفتاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أما الصيام: فثلاثة أيام، وأما الـمساكين فستة، وأما النسك فشاة. ٢٨٢٢ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، قال: إذا أهلّ الرجل بـالـحجّ فأحصر بعث بـما استـيسر من الهدي شاة، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي مـحله حلق رأسه، أو مسّ طيبـا، أو تداوى، كان علـيه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. والصيام: ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع علـى ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك: شاة. ٢٨٢٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم ومـجاهد قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع علـى ستة مساكين، والنسك: شاة. وقال آخرون: الواجب علـيه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لـم يكن له فعله فـي حال صحته وهو مـحرم من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٤ـ حدثنا ابن أبـي عمران، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن معاذ، عن أبـيه، عن أشعث، عن الـحسن فـي قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال: إذا كان بـالـمـحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء فـالصيام: عشرة أيام، والصدقة علـى عشرة مساكين، كل مسكين مكّوكين، مكوكا من تـمر، ومكوكا من برّ، والنسك: شاة. ٢٨٢٥ـ حدثنـي عبد الـملك بن مـحمد الرقاشي، قال: حدثنا بشر بن عمرو، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الـحسن وعكرمة: فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قال: إطعام عشرة مساكين. وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب علـى مـحرم أو صدقة جزاء من نقص دخـل فـي إحرامه، أو فعل ما لـم يكن له فعله بدلاً من دم علـى ما أوجب اللّه علـى الـمتـمتع من الصوم إذا لـم يجد الهدي. و قالوا: جعل اللّه علـى الـمتـمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لـم يجده، قالوا: فكل صوم وجب مكان دم فمثله، قالوا: فإذا لـم يصم وأراد الإطعام فإن اللّه جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لـمن عجز عن الصوم فـي رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره، فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين فـي فدية الـحلق. وقال آخرون: بل الواجب علـى الـحالق النسك شاة إن كانت عنده، فإن لـم تكن عنده قوّمت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدّق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيـم سعيد بن جبـير عن هذه الآية: فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فأجابه بقوله: يحكم علـيه إطعام، فإن كان عنده اشترى شاة، فإن لـم تكن قوّمت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدّق، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. فقال إبراهيـم: كذلك سمعت علقمة يذكر قال: لـما قال لـي سعيد بن جبـير: هذا ما أظرفه قال: قلت: هذا إبراهيـم قال: ما أظرفه كان يجالسنا قال: فذكرت ذلك لإبراهيـم، قال: فلـما قلت (يجالسنا)، انتفض منها. ٢٨٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: يحكم علـى الرجل فـي الصيد، فإن لـم يجد جزاءه قوم طعاما، فإن لـم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما، وكذلك الفدية. وقال آخرون: بل هو مخير بـين الـخلال الثلاث يفتدي بأيها شاء. ذكر من قال ذلك: ٢٨٢٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سيف بن سلـيـمان، عن مـجاهد، قال: كل شيء فـي القرآن (أو أو)، فهو بـالـخيار، مثل الـجراب فـيه الـخيط الأبـيض والأسود، فأيهما خرج أخذته. ٢٨٢٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: كل شيء فـي القرآن (أو أو) فصاحبه بـالـخيار، يأخذ الأولـى فـالأولـى. ٢٨٣٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا، عن مـجاهد، قال: كل ما كان فـي القرآن (كذا فمن لـم يجد فكذا) فـالأول فـالأول، وكل ما كان فـي القرآن (أو كذا أو كذا)، فهو فـيه بـالـخيار. ٢٨٣١ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا الـمـحاربـي عن يحيى بن أبـي أنـيسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، وسئل عن قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك فقال مـجاهد: إذا قال اللّه تبـارك وتعالـى لشيء (أو أو)، فإن شئت فخذ بـالأول، وإن شئت فخذ بـالاَخر. ٢٨٣٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال لـي عطاء وعمرو بن دينار فـي قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صَيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُك قالا: له أيتهنّ شاء. ٢٨٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: كل شيء فـي القرآن (أو أو)، فلصاحبه أن يختار أيه شاء. قال ابن جريج: قال لـي عمرو بن دينار: كل شيء فـي القرآن أو أو، فلصاحبه أن يأخذ بـما شاء. ٢٨٣٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا لـيث عن عطاء ومـجاهد أنهما قالا: ما كان فـي القرآن (أو كذا أو كذا)، فصاحبه بـالـخيار، أيّ ذلك شاء فعل. ٢٨٣٥ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا يزيد، عن سفـيان، عن لـيث ومـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: كلّ شيء فـي القرآن (أو أو)، فهو مخير فـيه، فإن كان (فمن فمن)، فـالأولَ فـالأولَ. ٢٨٣٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: كل شيء فـي القرآن (أو أو)، فلـيتـخير أيّ الكفـارات شاء، فإذا كان (فمن لـم يجد)، فـالأول فـالأول. ٢٨٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال: حدثت عن عطاء، قال: كل شيء فـي القرآن (أو أو) فهو خيار. والصواب من القول فـي ذلك عندنا ما ثبت به الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بـين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. وللـمفتدي الـخيار بـين أيّ ذلك شاء لأن اللّه لـم يحصره علـى واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلـى غيرها، بل جعل إلـيه فعل أيّ الثلاث شاء. ومن أبى ما قلنا من ذلك قـيـل له: ما قلت فـي الـمكفر عن يـمينه أمخير إذا كان موسرا فـي أن يكفر بأيّ الكفـارات الثلاث شاء؟ فإن قال: لا، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال بلـى، سئل الفرق بـينه وبـين الـمفتدي من حلق رأسه وهو مـحرم من أذى به، ثم لن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. علـى أن ما قلنا فـي ذلك إجماع من الـحجة، ففـي ذلك مستغنى عن الاستشهاد علـى صحته بغيره. وأما الزاعمون أن كفـارة الـحلق قبل الـحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفـارة للـمتـمتع قبل التـمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قـيـل لهم: وكذلك الكفـارة عن الـيـمين قبل الـيـمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قـيـل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفـارة الـحلق قبل الـحلق وهدي الـمتعة قبل التـمتع ولـم يجب أن تكون كفـارة الـيـمين قبل الـيـمين؟ وهل بـينكم وبـين من عكس علـيكم الأمر فـي ذلك فأوجب كفـارة الـيـمين قبل الـيـمين وأبطل أن تكون كفـارة الـحلق كفـارة له إلا بعد الـحلق فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. فإن اعتلّ فـي كفـارة الـيـمين قبل الـيـمين أنها غير مـجزئة قبل الـحلف بإجماع الأمة، قـيـل له فردّ الأخرى قـياسا علـيها إذْ كان فـيها اختلاف. وأما القائلون إن الواجب علـى الـحالق رأسه من أذى من الصيام: عشرة أيام، ومن الإطعام: عشرة مساكين فمخالفون نصّ الـخبر الثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فـيقال لهم: أرأيتـم من أصاب صيدا فـاختار الإطعام أو الصيام، أتسوّون بـين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبـيره من الإطعام والصيام، أم تفرّقون بـين ذلك علـى قدر افتراق الـمقتول من الصيد فـي الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بـين جميع ذلك سوّوا بـين ما يجب علـى من قتل بقرة وحشية وبـين ما يجب علـى من قتل ولد ظبـية من الإطعام والصيام وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف. وإن قالوا: بل نـخالف بـين ذلك، فنوجب ذلك علـيه علـى قدر قـيـمة الـمصاب من الطعام والصيام. قـيـل: فكيف رددتـم الواجب علـى الـحالق رأسه من أذى من الكفـارة علـى الواجب علـى الـمتـمتع من الصوم، وقد علـمتـم أن الـمتـمتع غير مخير بـين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت علـيه منه الكفـارة، وإنـما هو تارك عملاً من الأعمال، وتركتـم ردّ الواجب علـيه وهو متلف بحلق رأسه ما كان مـمنوعا من إتلافه، ومخير بـين الكفـارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف ومخير فـي تكفـيره بـين الكفـارات الثلاث؟ وهل بـينكم وبـين من خالفكم فـي ذلك وجعل الـحالق قـياسا لـمصيب الصيد، وجمع بـين حكميهما لاتفـاقهما فـي الـمعانـي التـي وصفنا، وخالف بـين حكمه وحكم الـمتـمتع فـي ذلك لاختلاف أمرهما فـيـما وصفنا فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقولوا فـي ذلك قولاً إلا ألزموا فـي الاَخر مثله، مع أن اتفـاق الـحجة علـى تـخطئة قائل هذا القول فـي قوله هذا كفـاية عن الاستشهاد علـى فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الاَثار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والقـياس علـيه بـالفساد شاهد؟ واختلف أهل العلـم فـي الـموضع الذي أمر اللّه أن ينسك نسك الـحلق ويطعم فديته، فقال بعضهم: النسك والإطعام بـمكة لا يجزىء بغيرها من البلدان. ذكر من قال ذلك: ٢٨٣٨ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة، قال: حدثنا فضيـل بن عياض، عن هشام، عن الـحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبـمكة، وما سوى ذلك حيث شاء. ٢٨٣٩ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة، حدثنا فضيـل، عن لـيث، عن طاوس، قال: كل شيء من الـحجّ فبـمكة، إلا الصوم. ٢٨٤٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سألت عطاء عن النسك، قال: النسك بـمكة لا بد. ٢٨٤١ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: الصدقة والنسك فـي الفدية بـمكة، والصيام حيث شئت. ٢٨٤٢ـ حدثنـي يعقوب قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا لـيث، عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبـمكة، وما كان من صيام فحيث شاء. ٢٨٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبل، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: النسك بـمكة أو بـمنى. ٢٨٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: النسك بـمكة أو بـمنى، والطعام بـمكة. وقال آخرون: النسك فـي الـحلق والإطعام والصوم حيث شاء الـمفتدي. ذكر من قال ذلك: ٢٨٤٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، قال: أخبرنـي أبو أسماء مولـى ابن جعفر، قال: حجّ عثمان ومعه علـيّ والـحسين بن علـي رضوان اللّه علـيهم، فـارتـحل عثمان قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر قال: فإذا نـحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلنا له: أيها النائم فـاستـيقظ، فإذا الـحسين بن علـيّ قال: فحمله ابن جعفر حتـى أتـى به السّقْـيا قال: فأرسل إلـى علـيّ، فجاء ومعه أسماء بنت عميس قال: فمرّضناه نـحوا من عشرين لـيـلة قال: فقال علـيّ للـحسين: ما الذي تـجد؟ قال: فأومأ إلـى رأسه قال: فأمر به علـيّ فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنـحرها. ٢٨٤٦ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد بن عبد اللّه بن الـمسيب الـمخزومي أخبره أنه سمع أبـا أسماء مولـى عبد اللّه بن جعفر، يحدث: أنه خرج مع عبد اللّه بن جعفر يريد مكة مع عثمان، حتـى إذا كنا بـين السقـيا والعرج اشتكى الـحسين بن علـيّ، فأصبح فـي مقـيـله الذي قال فـيه بـالأمس. قال أبو أسماء: فصحبته أنا وعبد اللّه بن جعفر، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع، فقال عبد اللّه بن جعفر: إن هذه لراحلة حسين. فلـما دنا منه قال له: أيها النائم وهو يظنّ أنه نائم فلـما دنا منه وجده يشتكي، فحمله إلـى السقـيا، ثم كتب إلـى علـيّ فقدم إلـيه إلـى السقـيا فمرضه قريبـا من أربعين لـيـلة. ثم إن علـيا قـيـل له: هذا حسين يشير إلـى رأسه، فدعا علـيّ بجزور فنـحرها، ثم حلق رأسه. ٢٨٤٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنـي يحيى بن سعيد، قال: أقبل حسين بن علـيّ مع عثمان حراما، حسبت أنه اشتكى بـالسقـيا. فذكر ذلك لعلـيّ، فجاء هو وأسماء بنت عميس، فمرّضوه عشرين لـيـلة، فأشار حسين إلـى رأسه، فحلقه ونـحر عنه جزورا. قلت: فرجع به؟ قال: لا أدري. وهذا الـخبر يحتـمل أن يكون ما ذكر فـيه من نـحر علـيّ عن الـحسين الناقة قبل حلقه رأسه، ثم حلقه رأسه بعد النـحر إن كان علـى ما رواه مـجاهد عن يزيد كان علـى وجه الإحلال من الـحسين من إحرامه للإحصار عن الـحجّ بـالـمرض الذي أصابه، وإن كان علـى ما رواه يعقوب عن هشيـم من نـحر علـيّ عنه الناقة بعد حلقه رأسه أن يكون علـى وجه الافتداء من الـحلق، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزىء نـحره دون مكة والـحرم. ٢٨٤٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، قال: الفدية حيث شئت. ٢٨٤٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن الـحكم، عن إبراهيـم فـي الفدية فـي الصدقة والصوم والدم: حيث شاء. ٢٨٥٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبـيدة، عن إبراهيـم أنه كان يقول، فذكر مثله. وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبـمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء الـمفتدي. ذكر من قال ذلك: ٢٨٥١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، وعبد الـملك وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبـمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء. وعلة من قال: الدم والإطعام بـمكة، القـياس علـى هدي جزاء الصيد وذلك أن اللّه شرط فـي هديه بلوغ الكعبة فقال: يَحكُمُ بهَ ذَوا عَدْلٍ منكُم هدْيا بـالغَ الكعبْةِ. قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية فـي إحرام، فسبـيـله سبـيـل جزاء الصيد فـي وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة لـمن وجب علـيه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد. وأما علة من زعم أن للـمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدّق ويصوم أن اللّه لـم يشترط علـى الـحالق رأسه من أذى هديا، وإنـما أوجب علـيه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخـل فـي عداد من يستـحقّ ذلك الاسم كان مؤدّيا ما كلفه اللّه ، لأن اللّه لو أراد من إلزام الـحالق رأسه فـي نسكه بلوغ الكعبة لشرط ذلك علـيه، كما شرط فـي جزاء الصيد، وفـي ترك اشتراط ذلك علـيه دلـيـل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ. وأما علة من قال: النسك بـمكة والصيام والإطعام حيث شاء، فـالنسك دم كدم الهدي، فسبـيـله سبـيـل هدي قاتل الصيد. وأما الإطعام فلـم يشترط اللّه فـيه أن يصرف إلـى أهل مسكنة مكان دون مكان، كما شرط فـي هدي الـجزاء بلوغ الكعبة، فلـيس لأحد أن يدّعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذْ لـم يكن اللّه شرط ذلك لأهل مكان بعينه، كما لـيس لأحد أن يدّعى أن ما جعله اللّه من الهدي لساكنـي الـحرم لغيرهم، إذ كان اللّه قد خصّ أن ذلك لـمن به من أهل الـمسكنة. والصواب من القول فـي ذلك، أن اللّه أوجب علـى حالق رأسه من أذى من الـمـحرمين فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولـم يشترط أن ذلك علـيه بـمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففـي أي مكان نسك أو أطعم أو صام فـيجزي عن الـمفتدي وذلك لقـيام الـحجة علـى أن اللّه إذ حرم أمهات نسائنا فلـم يحصرهن علـى أنهن أمهات النساء الـمدخول بهن لـم يجب أن يكنّ مردودات الأحكام علـى الربـائب الـمـحصورات علـى أن الـمـحرمة منهن الـمدخول بأمها، فكذلك كل مبهمة فـي القرآن غير جائز ردّ حكمها علـى الـمفسرة قـياسا، ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بـما احتـمله ظاهر التنزيـل إلا أن يأتـي فـي بعض ذلك خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بإحالة حكم ظاهره إلـى بـاطنه، فـيجب التسلـيـم حينئذ لـحكم الرسول، إذ كان هو الـمبـين عن مراد اللّه . وأجمعوا علـى أن الصيام مـجزىء عن الـحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد. واختلفوا فـيـما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الـحلق، وهل يجوز للـمفتدي الأكل منه أم لا؟ فقال بعضهم لـيس للـمفتدي أن يأكل منه، ولكن علـيه أن يتصدّق بجميعه. ذكر من قال ذلك: ٢٨٥٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الـملك، عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهنّ: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر الـمساكين. ٢٨٥٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن سالـم، عن عطاء قال: لا تأكل من فدية، ولا من جزاء، ولا من نذر، وكل من الـمتعة، ومن الهدي التطوّع. ٢٨٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن سالـم، عن مـجاهد، قال: جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوّع والتـمتع. ٢٨٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن الـحجاج، عن عطاء، قال: لا تأكل من جزاء، ولا من فدية، وتصدّق به. ٢٨٥٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفـارات كذلك. ٢٨٥٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا عبد الـملك والـحجاج وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ولا من الفدية، ويؤكل مـما سوى ذلك. ٢٨٥٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن عطاء وطاوس ومـجاهد أنهم قالوا: لا يؤكل من الفدية وقال مرة: من هدي الكفـارة، ولا من جزاء الصيد. وقال بعضهم: له أن يأكل منه. ذكر من قال ذلك: ٢٨٥٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبـيد اللّه ، قال: أخبرنـي نافع، عن ابن عمر قال: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مـما سوى ذلك. ٢٨٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبـي لـيـلـى، قال: من الفدية وجزاء الصيد والنذر. ٢٨٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: الشاة بـين ستة مساكين يأكل منه إن شاء، ويتصدّق علـى ستة مساكين. ٢٨٦٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنـي عبد الـملك، قال: ثنـي من سمع الـحسن، يقول: كل من ذلك كله، يعنـي من جزاء الصيد والنذر والفدية. ٢٨٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا خالد بن الـحرث، قال: حدثنا الأشعث عن الـحسن أنه كان لا يرى بأسا بـالأكل من جزاء الصيد ونذر الـمساكين. وعلة من حظر علـى الـمفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن اللّه أوجب علـى الـحالق والـمتطيب ومن كان بـمثل حالهم فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخـلو ذلك الذي أوجبه علـيه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه علـيه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره، فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فـيه إلا الـخروج منه إلـى من وجب له أو يكون له وحده، وما وجب له فلـيس علـيه لأنه غير مفهوم فـي لغة أن يقال: وجب علـى فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة، وإنـما يجب له علـى غيره، فأما علـى نفسه فغير مفهوم وجوبه. أو يكون وجب علـيه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك غير جائز أن يكون علـيه لـما وصفنا. وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب علـيه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنـما وجب علـيه بعض النسك لا النسك كله. قالوا: وفـي إلزام اللّه إياه النسك تاما ما يبـين عن فساد هذا القول. وعلة من قال له أن يأكل من ذلك أن اللّه أوجب علـى الـمفتدي نسكا، والنسك فـي معانـي الأضاحي وذلك هو ذبح ما يجزي فـي الأضاحي من الأزواج الثمانـية. قالوا: ولـم يأمر اللّه بدفعه إلـى الـمساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره اللّه ، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بـما شاء، وإطعام ما أحبّ منه من أحب، كما له ذلك فـي أضحيته. والذي نقول به فـي ذلك: أن اللّه أوجب علـى الـمفتدي نسكا إن اختار التكفـير بـالنسك، ولن يخـلو الواجب علـيه فـي ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره، أو ذبحه والتصدّق به. فإن كان الواجب علـيه فـي ذلك ذبحه، فـالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما علـيه، وإن أكل جميعه ولـم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلـم أحدا من أهل العلـم قاله، أو يكون الواجب علـيه ذبحه والصدقة به فإن كان ذلك علـيه، فغير جائز له أكل ما علـيه أن يتصدّق به، كما لو لزمته زكاة فـي ماله لـم يكن له أن يأكل منها، بل كان علـيه أن يعطيها أهلها الذين جعلها اللّه لهم. ففـي إجماعهم علـى أن ما ألزمه اللّه من ذلك فإنـما ألزمه لغيره، دلالة واضحة علـى حكم ما اختلفوا فـيه من غيره. ومعنى النسك: الذبح للّه فـي لغة العرب، يقال: نسك فلان للّه نسيكة، بـمعنى: ذبح للّه ذبـيحة يَنْسكها نَسكا. كما: ٢٨٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: النسك: أن يذبح شاة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإذَا أمِنْتُـمْ. اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتـم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم. ذكر من قال ذلك: ٢٨٦٥ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة: فإذَا أمِنْتُـمْ فإذا برأتـم. ٢٨٦٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبـيه فـي قوله: فإذَا أمِنْتُـمْ فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ يقول: فإذا أمنت حين تـحصر إذا أمنت من كسرك من وجعك، فعلـيك أن تأتـي البـيت فـيكون لك متعة، فلا تـحل حتـى تأتـي البـيت. وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتـم من وجع خوفكم. ذكر من قال ذلك: ٢٨٦٧ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فإذَا أمِنْتُـمْ لتعلـموا أن القوم كانوا خائفـين يومئذ. ٢٨٦٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فإذَا أمِنْتُـمْ قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه. وهذا القول أشبه بتأويـل الآية، لأن الأمن هو خلاف الـخوف، لا خلاف الـمرض، إلا أن يكون مرضا مخوفـا منه الهلاك، فـيقال: فإذا أمنتـم الهلاك من خوف الـمرض وشدته، وذلك معنى بعيد. وإنـما قلنا: إن معناه الـخوف من العدو لأن هذه الاَيات نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام الـحديبـية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم اللّه بها ما علـيهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الـحج، وما الذي علـيهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ فَمَا اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتـم أيها الـمؤمنون، فما استـيسر من الهدي، فإذا أمنتـم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتـمتعتـم بعمرتكم إلـى حجكم، فعلـيكم ما استـيسر من الهدي. ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة التـمتع الذي عنى اللّه بهذه الآية، فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو مـحرم بـالـحج أو مرض أو عائق، من العلل حتـى يفوته الـحج، فـيقدم مكة، فـيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فـيستـمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلـى السنة الـمستقبلة، ثم يحج ويهدي، فـيكون متـمتعا بـالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأوّل إلـى إحرامه الثانـي من القابل. ذكر من قال ذلك: ٢٨٦٩ـ حدثنا عمران بن موسى البصري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبـير وهو يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، واللّه ما التـمتع بـالعمرة إلـى الـحجّ كما تصنعون، إنـما التـمتع أن يهلّ الرجل بـالـحجّ فـيحصره عدوّ أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتـى تذهب أيام الـحجّ فـيقدم فـيجعلها عمرة، فـيتـمتع بحله إلـى العام القابل ثم يحجّ ويهدي هديا، فهذا التـمتع بـالعمرة إلـى الـحجّ. ٢٨٧٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء قال: كان ابن الزبـير يقول: الـمتعة لـمن أحصر قال: و قال ابن عبـاس : هي لـمن أحصر ومن خـلـيت سبـيـله. ٢٨٧١ـ حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنـي ابن جريج قال: قال عطاء: كان ابن الزبـير يقول: إنـما الـمتعة للـحصر ولـيست لـمن خـلـي سبـيـله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتـم فـي حجكم فما استـيسر من الهدي، فإذا أمنتـم وقد حللتـم من إحرامكم ولـم تقضوا عمرة تـخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتـم حين أحصرتـم بـالهدي وأخرتـم العمرة إلـى السنة القابلة فـاعتـمرتـم فـي أشهر الـحج ثم حللتـم فـاستـمتعتـم بإحلالكم إلـى حجكم، فعلـيكم ما استـيسر من الهدي. ذكر من قال ذلك: ٢٨٧٢ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم عن علقمة: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ قال: إذا أهلّ الرجل بـالـحجّ فأحصر قال: يبعث بـما استـيسر من الهدي شاة قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي مـحله، وحلق رأسه، أو مسّ طيبـا، أو تداوى، كان علـيه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. فإذَا أمِنْتُـمْ فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتـى أتـى البـيت حلّ من حجه بعمرة وكان علـيه الـحجّ من قابل. وإن هو رجع ولـم يتـمّ إلـى البـيت من وجهه ذلك، فإنّ علـيه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة. فإن هو رجع متـمتعا فـي أشهر الـحجّ، فإن علـيه ما استـيسر من الهدي شاة، فمن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام فـي الـحجّ وسبعة إذا رجع. قال إبراهيـم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبـير، فقال: كذلك قال ابن عبـاس فـي ذلك كله. ٢٨٧٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فإنْ أُحْصِرْتُـمْ فَمَا اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْي قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه حتـى يبعث بهديه، فإذا بلغت مـحلها صار حلالاً. فإن أمن أو برأ ووصل إلـى البـيت فهي له عمرة وأحل وعلـيه الـحجّ عاما قابلاً. وإن هو لـم يصل إلـى البـيت حتـى يرجع إلـى أهله، فعلـيه عمرة وحجة وهدي. قال قتادة: والـمتعة التـي لا يتعاجم الناس فـيها أن أصلها كان هكذا. ٢٨٧٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: فإذَا أمِنْتُـمْ فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ إلـى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال: هذا الـمـحصر إذا أمن فعلـيه الـمتعة فـي الـحجّ وهدي الـمتـمتع، فإن لـم يجد فـالصيام، فإن عجل العمرة قبل أشهر الـحجّ فعلـيه فـيها هدي. ٢٨٧٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السريّ، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد اللّه بن سلـمة، عن علـيّ: فإذَا أمِنْتُـمْ فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ فإن أخر العمرة حتـى يجمعها مع الـحجّ فعلـيه الهدي. وقال آخرون: عَنَى بذلك الـمـحصر وغير الـمـحصر. ذكر من قال ذلك: ٢٨٧٦ـ حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنـي ابن جريج، قال: أخبرنـي عطاء أن ابن عبـاس كان يقول: الـمتعة لـمن أحصر، ولـمن خـلـي سبـيـله. وكان ابن عبـاس يقول: أصابت هذه الآية الـمـحصر ومن خـلـيت سبـيـله. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستـمتع بعمرته إلـى حجه، فعلـيه ما استـيسر من الهدي. ذكر من قال ذلك: ٢٨٧٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: فإذَا أمِنْتُـمْ فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ فَمَا اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ أما الـمتعة فـالرجل يحرم بحجة، ثم يهدمها بعمرة. وقد خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الـمسلـمين حاجا، حتـى إذا أتوا مكة قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ أحَبّ مِنْكمْ أنْ يَحِلّ فَلْـيَحِلّ)، قالوا: فما لك يا رسول اللّه ؟ قال: (أنَا مَعِي هَدْيٌ). وقال آخرون: بل ذلك الرجل يقدم معتـمرا من أفق من الاَفـاق فـي أشهر الـحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بـمكة حتـى ينشىء منها الـحج، فـيحج من عامه ذلك، فـيكون مستـمتعا بإحلال إلـى إحرامه بـالـحج. ذكر من قال ذلك: ٢٨٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ من يوم الفطر إلـى يوم عرفة، فعلـيه ما استـيسر من الهدي. ٢٨٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٨٨٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: قدم ابن عمر مرة فـي شوال، فأقمنا حتـى حججنا، فقال: إنكم قد استـمتعتـم إلـى حجكم بعمرة، فمن وجد منكم أن يهدي فلـيهد، ومن لا فلـيصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلـى أهله. ٢٨٨١ـ حدثنا ابن بشار، وعبد الـحميد بن بـيان قال ابن بشار: حدثنا، وقال عبد الـحميد: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن نافع، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتـمرين فـي شوال، فأدركهما الـحج وهما بـمكة، فقال ابن عمر: من اعتـمر معنا فـي شوال ثم حج، فهو متـمتع علـيه ما استـيسر من الهدي، فمن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام فـي الـحجّ وسبعة إذا رجع. ٢٨٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن لـيث، عن عطاء فـي رجل اعتـمر فـي غير أشهر الـحجّ، فساق هديا تطوّعا، فقدم مكة فـي أشهر الـحجّ، قال: إن لـم يكن يريد الـحجّ، فلـينـحر هديه ثم لـيرجع إن شاء، فإن هو نـحر الهدي وحلّ، ثم بدا له أن يقـيـم حتـى يحجّ، فلـينـحر هديا آخر لتـمتعه، فإن لـم يجد فلـيصم. ٢٨٨٣ـ حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبـي لـيـلـى، مثل ذلك. ٢٨٨٤ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب بأنه كان يقول: من اعتـمر فـي شوّال أو فـي ذي القعدة ثم أقام بـمكة حتـى يحجّ، فهو متـمتع، علـيه ما علـى الـمتـمتع. ٢٨٨٥ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن حجاج، عن عطاء مثل ذلك. ٢٨٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ فَمَا اسْتَـيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ يقول: من أحرم بـالعمرة فـي أشهر الـحجّ، فما استـيسر من الهدي. ٢٨٨٧ـ حدثنا ابن البرقـي، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: أخبرنا نافع، قال: أخبرنـي ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: الـمتعة لـخـلق اللّه أجمعين، الرجل، والـمرأة، والـحرّ، والعبد، هي لكل إنسان اعتـمر فـي أشهر الـحجّ ثم أقام ولـم يبرح حتـى يحجّ، ساق هديا مقلدا أو لـم يسق إنـما سميت الـمتعة من أجل أنه اعتـمر فـي شهور الـحجّ فتـمتع بعمرة إلـى الـحجّ، ولـم تسمّ الـمتعة من أجل أنه يحلّ بتـمتع النساء. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: عَنَى بها: فإن أحصرتـم أيها الـمؤمنون فـي حجكم فما استـيسر من الهدي، فإذا أمنتـم فمن تـمتع مـمن حلّ من إحرامه بـالـحجّ بسبب الإحصار بعمرة اعتـمرها لفوته الـحجّ فـي السنة القابلة فـي أشهر الـحجّ إلـى قضاء الـحجة التـي فـاتته حين أحصر عنها، ثم دخـل فـي عمرته فـاستـمتع بإحلاله من عمرته إلـى أن يحجّ، فعلـيه ما استـيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متـمتعا من أنشأ عمرة فـي أشهر الـحجّ وقضاها ثم حلّ من عمرته وأقام حلالاً حتـى يحجّ من عامه غير أن الذي هو أولـى بـالذي ذكره اللّه فـي قوله: فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ هو ما وصفنا من أجل أن اللّه جل وعز أخبر عما علـى الـمـحصر عن الـحجّ والعمرة من الأحكام فـي إحصاره، فكان مـما أخبر تعالـى ذكره أنه علـيه إذا أمن من إحصاره فتـمتع بـالعمرة إلـى الـحجّ ما استـيسر من الهدي، فإن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام كان معلوما بذلك أنه معنـيّ به اللازم له عند أمنه من إحصاره من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه فـي حجه الذي أحصر فـيه دون الـمتـمتع الذي لـم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: فما استـيسر من الهدي، فهَدْيه جزاء لاستـمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حلّ منه حين عاد لقضاء حجته التـي أحصر فـيها وعمرته التـي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لـم يجد هديا فعلـيه صيام ثلاثة أيام فـي الـحجّ فـي حجه وسبعة إذا رجع إلـى أهله. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الثلاثة أيام التـي أوجب اللّه علـيه صومهنّ فـي الـحجّ أي أيّ أيام الـحجّ هن؟ فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أيّ أيام شاء بعد أن لا يتـجاوز بآخرهن يوم عرفة. ذكر من قال ذلك: ٢٨٨٨ـ حدثنـي الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، عن أبـيه عن علـيّ رضي اللّه عنه: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. ٢٨٨٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن نصر، عن ابن أبـي حبـيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: الصيام للـمتـمتع ما بـين إحرامه إلـى يوم عرفة. ٢٨٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر فـي قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فـاته صامها أيام منى. ٢٨٩١ـ حدثنا الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن عروة، قال: الـمتـمتع يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. ٢٨٩٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن فـي قوله: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: آخرهن يوم عرفة. ٢٨٩٣ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سألت الـحكم عن صوم ثلاثة أيام فـي الـحج، قال: يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. ٢٨٩٤ـ حدثنـي عبـيد بن إسماعيـل الهبـاري، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير، عن الأعمش، عن إبراهيـم: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ أنه قال: آخرها يوم عرفة. ٢٨٩٥ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا بشير، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبـير أنه قال فـي الـمتـمتع إذا لـم يجد الهدي: صام يوما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة. ٢٨٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلـم، وهارون عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: يصوم الـمتـمتع الثلاثة الأيام لـمتعته فـي العشر إلـى يوم عرفة قال: وسمعت مـجاهدا وطاوسا يقولان: إذا صامهن فـي أشهر الـحجّ أجزأه. ٢٨٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: صوم ثلاثة أيام للـمتـمتع، إذا لـم يجد ما يهدي يصوم فـي العشر إلـى يوم عرفة متـى صام أجزأه، فإن صام الرجل فـي شوّال أو ذي القعدة أجزأه. ٢٨٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: ثنـي يعقوب بن عطاء، أن عطاء بن أبـي ربـاح، كان يقول: من استطاع أن يصومهنّ فـيـما بـين أوّل يوم من ذي الـحجة إلـى يوم عرفة فلـيصم. ٢٨٩٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، عن الـحسن فـي قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: آخرها يوم عرفة. ٢٩٠٠ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، وحدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر فـي هذه الآية: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. ٢٩٠١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ آخرهن يوم عرفة من ذي الـحجة. ٢٩٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٩٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر. ٢٩٠٤ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: فآخرها يوم عرفة. ٢٩٠٥ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: آخرها يوم عرفة. ٢٩٠٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قطر، عن عطاء: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: آخرها يوم عرفة. ٢٩٠٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: عرفة وما قبلها من العشر. ٢٩٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد وإبراهيـم، قالا: صيام ثلاثة أيام فـي الـحج فـي العشر آخرهن عرفة. ٢٩٠٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خير، قال: سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام فـي الـحج، قال: آخرهن يوم عرفة. ٢٩١٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَمَنْ تَـمَتّعَ بـالعُمْرَةِ إلـى الـحَجّ إلـى: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ وهذا علـى الـمتـمتع بـالعمرة إذا لـم يجد هديا فعلـيه صيام ثلاثة أيام فـي الـحجّ قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تـمّ صومه وسبعة إذا رجع إلـى أهله. ٢٩١١ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا زياد بن الـمنذر، عن أبـي جعفر: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: آخرها يوم عرفة. وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى. ذكر من قال ذلك: ٢٩١٢ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن جعفر بن مـحمد، عن أبـيه أن علـيا كان يقول: من فـاته صيام ثلاثة أيام فـي الـحجّ صامهنّ أيام التشريق. ٢٩١٣ـ حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: ثنـي عمي عبد اللّه بن وهب، قال: ثنـي يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبـير، قال: قالت عائشة: يصوم الـمتـمتع الذي يفوته الصيام أيام منى. ٢٩١٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من فـاته صيام الثلاثة الأيام فـي الـحجّ، فلـيصم أيام التشريق فإنهنّ من الـحج. ٢٩١٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمر بن مـحمد أن نافعا حدّثه أن عبد اللّه بن عمر قال: من اعتـمر فـي أشهر الـحجّ فلـم يكن معه هدي ولـم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق، فلـيصم أيام منى. ٢٩١٦ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عبد اللّه بن عيسى بن أبـي لـيـلـى يحدّث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وعن سالـم، عن عبد اللّه بن عمر أنهما قالا: لـم يرخص فـي أيام التشريق أن يصوم إلا لـمن يجد هديا. ٢٩١٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا هشام، عن عبـيد اللّه ، عن نافع عن ابن عمر قال: إذا لـم يصم الثلاثة الأيام قـيـل النـحر صام أيام التشريق، فإنها من أيام الـحجّ. وذكر هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة قال: ٢٩١٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن هشام بن عروة، عن أبـيه فـي هذه الآية: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: هي أيام التشريق. ٢٩١٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن يونس، عن أبـي إسحاق، عن وبرة، عن ابن عمر، قال: يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة قال: وقال عبـيد بن عمير: يصوم أيام التشريق. وعلة من قال: آخر الثلاثة الأيام التـي أوجب اللّه صومهنّ فـي الـحجّ علـى من لـم يجد الهدي من الـمتـمتعين يوم عرفة، أن اللّه جل ثناؤه أوجب صومهنّ فـي الـحجّ بقوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قالوا: وإذا انقضى يوم عرفة فقد انقضى الـحجّ، لأن يوم النـحر يوم إحلال من الإحرام. قالوا: وقد أجمع الـجميع أنه غير جائز له صوم يوم النـحر قالوا: فإن يكن إجماعهم علـى أن ذلك له غير جائز من أجل أنه لـيس من أيام الـحجّ، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الـحجّ لأن أيام الـحجّ متـى انقضت من سنة، فلن تعود إلـى سنة أخرى بعدها. أو يكون إجماعهم علـى أن ذلك له غير جائز من أجل أنه يوم عيد، فأيام التشريق التـي بعده فـي معناه لأنها أيام عيد، وأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قد نهى عن صومهن كما نهى عن صوم يوم النـحر. قالوا: وإذا كان يفوت صومهن بـمضيّ يوم عرفة لـم يكن إلـى صيامهن فـي الـحجّ سبـيـل لأن اللّه شرط صومهن فـي الـحجّ، فلـم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه اللّه علـيه لـمتعته. وعلة من قال: آخر الأيام الثلاثة التـي ذكرها اللّه فـي كتابه انقضاء آخر أيام منى، أن اللّه أوجب علـى الـمتـمتع ما استـيسر من الهدي، ثم الصيام إن لـم يجد إلـى الهدي سبـيلاً. قالوا: وإنـما يجب علـيه نـحر هدي الـمتعة يوم النـحر، ولو كان له واجدا قبل ذلك. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك فإنـما رخص له فـي الصوم يوم يـلزمه نـحر الهدي فلا يجد إلـيه سبـيلاً. قالوا: والوقت الذي يـلزمه فـيه نـحر الهدي يوم النـحر والأيام التـي بعده من أيام النـحر، فأما قبل ذلك فلـم يـمكن نـحره. قالوا: فإذا كان النـحر لـم يكن له لازما قبل ذلك، وإنـما لزمه يوم النـحر فإنـما لزمه الصوم يوم النـحر، وذلك حين عدم الهدي فلـم يجده، فوجب علـيه الصوم. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فـالصوم إنـما يـلزمه أوله فـي الـيوم الذي يـلـي يوم النـحر، وذلك أن النـحر إنـما كان لزمه من بعد طلوع الفجر، ومن ذلك الوقت إذا لـم يجده يكون له الصوم. قالوا: وإذا طلع فجر يوم ولـم يـلزمه صومه قبل ذلك إذا كان الصوم لا يكون فـي بعض نهار يوم فـي واجب، علـم أن الواجب علـيه الصوم من الـيوم الذي يـلـيه إلـى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النـحر من أيام التشريق. قالوا: ولا معنى لقول القائل: إن أيام منى لـيست من أيام الـحج لأنهن ينسك فـيهن بـالرمي والعكوف علـى عمل الـحجّ كما ينسك غير ذلك من أعمال الـحجّ فـي الأيام قبلها. قالوا: هذا مع شهادة الـخبر الذي: ٢٩٢٠ـ حدثنـي به مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الزهري، عن سالـم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبـيه، قال: رخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للـمتـمتع إذا لـم يجد الهدي ولـم يصم حتـى فـاتته أيام العشر، أن يصوم أيام التشريق مكانها. لصحة ما قلنا فـي ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فـيه. ٢٩٢١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنـي هشيـم، عن سفـيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن حذافة بن قـيس، فنادى فـي أيام التشريق، فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكر للّه، إلا من كان علـيه صوم من هدي. واختلف أهل العلـم فـي أول الوقت الذي يجب علـى الـمتـمتع الابتداء فـي صوم الأيام الثلاثة التـي قال اللّه عز وجل: فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ والوقت الذي يجوز له فـيه صومهن، وإن لـم يكن واجبـا علـيه فـيه صومهن. فقال بعضهم: له أن يصومهن من أول أشهر الـحج. ذكر من قال ذلك: ٢٩٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وطاوس أنهما كانا يقولان: إذا صامهنّ فـي أشهر الـحج أجزأه قال: وقال مـجاهد: إذا لـم يجد الـمتـمتع ما يهدي فإنه يصوم فـي العشر إلـى يوم عرفة، متـى ما صام أجزأه، فإن صام الرجل فـي شوّال أو ذي القعدة أجزأه. ٢٩٢٣ـ حدثنـي أحمد بن الـمغيرة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم الطائفـي، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: من صام يوما فـي شوّال ويوما فـي ذي القعدة ويوما فـي ذي الـحجة، أجزأه عنه من صوم التـمتع. ٢٩٢٤ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: إن شاء صام أوّل يوم من شوّال. ٢٩٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قول اللّه جل وعز: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِـي الـحَجّ قال: إن شاء صامها فـي العشر، وإن شاء فـي ذي القعدة، وإن شاء فـي شوّال. وقال آخرون: يصومهنّ فـي عشر ذي الـحجة دون غيرها. ذكر من قال ذلك: ٢٩٢٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء: يصوم الثلاثة الأيام للـمتعة فـي العشر إلـى يوم عرفة. ٢٩٢٧ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثنـي يعقوب أن عطاء بن أبـي ربـاح كان يقول: من استطاع أن يصومهنّ فـيـما بـين أول يوم من ذي الـحجة إلـى يوم عرفة فلـيصم. ٢٩٢٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ولا بأس أن يصوم الـمتـمتع فـي العشر وهو حلال. ٢٩٢٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الـحجاج، عن أبـي جعفر، قال: لا يصام إلا فـي العشر. ٢٩٣٠ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا الربـيع، عن عطاء أنه كان يقول فـي صيام ثلاثة أيام فـي الـحجّ، قال: فـي تسع من ذي الـحجة أيها شئت، فمن صام قبل ذلك فـي شوّال وفـي ذي القعدة، فهو بـمنزلة من لـم يصم. وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بـالـحج. ذكر من قال ذلك: ٢٩٣١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: إذا خشي أن لا يدرك الصوم بـمكة صام بـالطريق يوما أو يومين. ٢٩٣٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام فـي الـمتعة وأنت حلال. وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهنّ إلا بعد ما يحرم بـالـحج. ذكر من قال ذلك: ٢٩٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يصومهنّ إلا وهو حرام. ٢٩٣٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن نصر، عن ابن أبـي حبـيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: الصيام للـمتـمتع ما بـين إحرامه إلـى يوم عرفة. ٢٩٣٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو متـمتع إلا أن يحرم وقال مـجاهد: يجزيه إذا صام فـي ذي القعدة. والصواب من القول فـي ذلك عندي أن للـمتـمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التـي أوجب اللّه علـيه صومهنّ لـمتعته إذا لـم يجد ما استـيسر من الهدي من أول إحرامه بـالـحج بعد قضاء عمرته واستـمتاعه بـالإحلال إلـى حجه إلـى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النـحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله أو ترك صومهن فأخره حتـى انقضاء يوم عرفة. وإنـما قلنا: له صوم أيام التشريق، لـما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قَبْلُ، فإن صامهنّ قبل إحرامه بـالـحج فإنه غير مـجزىء صومه ذلك من الواجب علـيه من الصوم الذي فرضه اللّه علـيه لـمتعته وذلك أن اللّه جل وعز إنـما أوجب الصوم علـى من لـم يجد هديا مـمن استـمتع بعمرته إلـى حجه، فـالـمعتـمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله فـي حجه غير مستـحق اسم متـمتع بعمرته إلـى حجه، وإنـما يقال له قبل إحرامه معتـمر حتـى يدخـل بعد إحلاله فـي الـحج قبل شخوصه عن مكة، فإذا دخـل فـي الـحج مـحرما به بعد قضاء عمرته فـي أشهر الـحج ومقامه بـمكة بعد قضاء عمرته حلالاً حتـى حج من عامه سمي متـمتعا. فإذا استـحقّ اسم متـمتع لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلـم يجده. فأما إن صامه قبل دخوله فـي الـحجّ وإن كان من نـيته الـحج، فإنـما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يـلزمه أو لا يـلزمه، فسبـيـله سبـيـل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفـارة يـمين لـيـمين يريد أن يحلف بها ويحنث فـيها، وذلك ما لا خلاف بـين الـجميع أنه غير مـجزىء من كفـارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث. فإن ظن ظانّ أن صوم الـمعتـمر بعد إحلاله من عمرته أو قبله وقبل دخوله فـي الـحج مـجزىء عنه من الصوم الذي أوجبه اللّه علـيه إن تـمتع بعمرته إلـى الـحج، نظير ما أجزأ الـحالف بـيـمين إذا كفر عنها قبل حنثه فـيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ لأن اللّه جعل ثناؤه جعل للـيـمين تـحلـيلاً هو غير تكفـير، فـالفـاعل فـيها قبل الـحنث فـيها ما يفعله الـمكفر بعد حنثه فـيها مـحلل غير مكفر. والـمتـمتع إذا صام قبل تـمتعه صائمٌ، تكفـيرا لـما يظنّ أنه يـلزمه ولـما يـلزمه، وهو كالـمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو مـحرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه. ومن أبى ما قلنا فـي ذلك مـمن زعم أن للـمعتـمر الصوم قبل إحرامه بـالـحج، قـيـل له: ما قلت فـيـمن كفر من الـمـحرمين عن الواجب علـى من ترك رمي الـجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الـجمرات، ثم أقام بـمنى أيام منى حتـى انقضت تاركا رمي الـجمرات، هل يجزيه تكفـيره ذلك عن الواجب علـيه فـي ترك ما ترك من ذلك؟ فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك فـي جميع مناسك الـحجّ التـي أوجب اللّه فـي تضيـيعه علـى الـمـحرم أو فـي فعله كفـارة، فإن سوّى بـين جميع ذلك فـاد قوله، وسئل عن نظير ذلك فـي العازم علـى أن يجامع فـي شهر رمضان، وهو مقـيـم صحيح إذا كفر قبل دخول الشهر، ودخـل الشهر ففعل ما كان عازما علـيه هل تـجزيه كفـارته التـي كفر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسئل عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن فـاد قوله فـي ذلك، خرج من قول جميع الأمة. وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بـينه وبـين الصائم لـمتعته قبل تـمتعه وقبل إحرامه بـالـحجّ، ثم عكس علـيه القول فـي ذلك، فلن يقول فـي أحدهما شيئا إلا ألزم فـي الاَخر مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتـمْ. يعنـي جل ثناؤه بذلك: فمن لـم يجد ما استـيسر من الهدي، فعلـيه صيام ثلاثة أيام فـي حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلـى أهله ومصره. فإن قال لنا قائل: أو ما يجب علـيه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التـي يصومهن فـي الـحجّ إلا بعد رجوعه إلـى مصره وأهله؟ قـيـل: بل قد أوجب اللّه علـيه صوم الأيام العشرة بعدم ما استـيسر من الهدي لـمتعته، ولكن اللّه تعالـى ذكره رأفة منه بعبـاده رخص لـمن أوجب ذلك علـيه، كما رخص للـمسافر والـمريض فـي شهر رمضان الإفطار وقضاء عدّة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تـحمل الـمتـمتع فصام الأيام السبعة فـي سفره قبل رجوعه إلـى وطنه، أو صامهنّ بـمكة، كان مؤدّيا ما علـيه من فرض الصوم فـي ذلك، وكان بـمنزلة الصائم شهر رمضان فـي سفره أو مرضه، مختارا للعسر علـى الـيسر. وبـالذي قلنا فـي ذلك قالت علـماء الأمة. ذكر من قال ذلك: ٢٩٣٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ قال: هي رخصة إن شاء صامها فـي الطريق. ٢٩٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ قال: هنّ رخصة إن شاء صامها فـي الطريق، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلـى أهله. ٢٩٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مـجاهد، نـحوه. ٢٩٣٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ قال: إن شاء صامها فـي الطريق، وإنـما هي رخصة. ٢٩٤٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن مـجاهد، قال: إن شئت صم السبعة فـي الطريق، وإن شئت إذا رجعت إلـى أهلك. ٢٩٤١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن قطر، عن عطاء، قال: يصوم السبعة إذا رجع إلـى أهله أحبّ إلـيّ. ٢٩٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ قال: إن شئت فـي الطريق، وإن شئت بعد ما تقدم إلـى أهلك. فإن قال: وما برهانك علـى أن معنى قوله: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ إذا رجعتـم إلـى أهلـيكم وأمصاركم دون أن يكون معناه: إذا رجعتـم من منى إلـى مكة؟ قـيـل: إجماع جميع أهل العلـم علـى أن معناه ما قلنا دون غيره. ذكر من قال ذلك: ٢٩٤٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ قال: إذا رجعت إلـى أهلك. ٢٩٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ إذا رجعتـم إلـى أمصاركم. ٢٩٤٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٢٩٤٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير: وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُـمْ قال: إلـى أهلك. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: كامِلَةٌ فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام فـي الـحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلـى أهله عشرة كاملة من الهدي. ذكر من قال ذلك: ٢٩٤٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قال: كاملة من الهدي. ٢٩٤٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، عن عبـاد، عن الـحسن، مثله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام علـى إحرامه ولـم يحلّ ولـم يتـمتع تـمتعكم بـالعمرة إلـى الـحج. وقال آخرون: معنى ذلك الأمر وإن كان مخرجه مخرج الـخبر، وإنـما عنى بقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض علـيكم صومها. وقال آخرون: بل قوله: كامِلَةٌ توكيد للكلام، كما يقول القائل: سمعته بأذنـي ورأيته بعينـي، وكما قال: فَخَرّ عَلَـيهِمُ السّقْـفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ولا يكون الـخرّ إلا من فوق، فأما من موضع آخر فإنـما يجوز علـى سعة الكلام. وقال آخرون: إنـما قال: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وقد ذكر سبعة وثلاثة، لأنه إنـما أخبر أنها مـجزئة ولـيس يخبر عن عدّتها، و قالوا: ألا ترى أن قوله: (كاملة) إنـما هو وافـية؟. وأولـى هذه الأقوال عندي قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة علـيكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لـم يجد الهدي فعلـيه صيام ثلاثة أيام فـي الـحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام علـيكم إكمال صومها لـمتعتكم بـالعمرة إلـى الـحج. فأخرج ذلك مخرج الـخبر، ومعناه الأمر بها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ. يعنـي جل ثناؤه بقوله ذَلِكَ أي التـمتع بـالعمرة إلـى الـحجّ لـمن لـم يكن أهله حاضري الـمسجد الـحرام. كما: ٢٩٤٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ يعنـي الـمتعة أنها لأهل الاَفـاق، ولا تصلـح لأهل مكة. ٢٩٥٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أن هذا لأهل الأمصار لـيكون علـيهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتـمر أخرى، فتـجمع حجته وعمرته فـي سنة واحدة. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بقوله: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ بعد إجماع جميعهم علـى أن أهل الـحرم معنـيون به، وأنه لا متعة لهم. فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الـحرم خاصة دون غيرهم. ذكر من قال ذلك: ٢٩٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، قال: قال ابن عبـاس ومـجاهد: أهل الـحرم. ٢٩٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريـم، عن مـجاهد: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: أهل الـحرم. ٢٩٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، قال: بلغنا عن ابن عبـاس فـي قوله: حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: هم أهل الـحرم، والـجماعةُ علـيه. ٢٩٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عبـاس كان يقول: يا أهل مكة إنه لا متعة لكم أحلت لأهل الاَفـاق وحرّمت علـيكم، إنـما يقطع أحدكم واديا أو قال: يجعل بـينه وبـين الـحرم واديا ثم يهل بعمرة. ٢٩٥٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا اللـيث، قال: ثنـي يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أهل مكة كانوا يغزون ويتـجرون، فـيقدمون فـي أشهر الـحجّ ثم يحجون، ولا يكون علـيهم الهدي ولا الصيام أرخص لهم فـي ذلك، لقول اللّه عزّ وجل: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ. ٢٩٥٦ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: أهل الـحرم. ٢٩٥٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: الـمتعة للناس، إلا لأهل مكة مـمن لـم يكن أهله من الـحرم، وذلك قول اللّه عزّ وجل: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: وبلغنـي عن ابن عبـاس مثل قول طاوس. وقال آخرون: عنى بذلك أهل الـحرم ومن كان منزله دون الـمواقـيت إلـى مكة. ذكر من قال ذلك: ٢٩٥٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: من كان دون الـمواقـيت. ٢٩٥٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك بإسناده مثله، إلا أنه قال: ما كان دون الـمواقـيت إلـى مكة. ٢٩٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عطاء، قال: من كان أهله من دون الـمواقـيت، فهو كأهل مكة لا يتـمتع. وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الـحرم، ومن قرب منزله منه. ذكر من قال ذلك: ٢٩٦١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: عرفة، ومرّ، وعرنة، وضَجنان، والرجيع، ونـخـلتان. ٢٩٦٢ـ حدثنا أحمد بن حازم الغفـاري والـمثنى قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: عرفة ومرّ، وعرنة، وضجنان، والرجيع. ٢٩٦٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الزهري فـي هذه الآية قال: الـيوم والـيومين. ٢٩٦٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول: من كان أهله علـى يوم أو نـحوه تـمتع. ٢٩٦٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء: أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة فـي قوله: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ. ٢٩٦٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ذَلِكَ لَـمَنْ لَـمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِري الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال: أهل مكة وفَجّ وذي طوى، وما يـلـي ذلك فهو من مكة. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري الـمسجد الـحرام من هو حوله مـمن بـينه وبـينه من الـمسافة ما لا تقصر إلـيه الصلوات لأن حاضر الشيء فـي كلام العرب هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا يستـحق أن يسمى غائبـا إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه، وكان الـمسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلـى ما تقصر فـي مثله الصلاة، وكان من لـم يكن كذلك لا يستـحق اسم غائب عن وطنه ومنزله، كان كذلك من لـم يكن من الـمسجد الـحرام علـى ما تقصر إلـيه الصلاة غير مستـحقّ أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته. وإنـما لـم تكن الـمتعة لـمن كان من حاضري الـمسجد الـحرام من أجل أن التـمتع إنـما هو الاستـمتاع بـالإحلال من الإحرام بـالعمرة إلـى الـحجّ مرتفقا فـي ترك العود إلـى الـمنزل والوطن بـالـمقام بـالـحرم حتـى ينشىء منه الإحرام بـالـحجّ، وكان الـمعتـمر متـى قضى عمرته فـي أشهر الـحجّ ثم انصرف إلـى وطنه، أو شخص عن الـحرم إلـى ما تقصر فـيه الصلاة، ثم حجّ من عامه ذلك، بطل أن يكون مستـمتعا لأنه لـم يستـمتع بـالـمرفق الذي جعل للـمستـمتع من ترك العود إلـى الـميقات والرجوع إلـى الوطن بـالـمقام فـي الـحرم، وكان الـمكيّ من حاضري الـمسجد الـحرام لا يرتفق بذلك من أجل أنه متـى قضى عمرته أقام فـي وطنه بـالـحرم، فهو غير مرتفق بشيء مـما يرتفق به من لـم يكن أهله من حاضري الـمسجد الـحرام فـيكون متـمتعا بـالإحلال من عمرته إلـى حجه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّه وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه شَدِيدُ العِقابِ. يعنـي بذلك جل اسمه: واتقوا اللّه بطاعته فـيـما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا فـي ذلك وتتـجاوزوا فـيـما بـيّن لكم من مناسككم، فتستـحلوا ما حرّم فـيها علـيكم. واعْلَـمُوا: تـيقنوا أنه تعالـى ذكره شديد عقابه لـمن عاقبه علـى ما انتهك من مـحارمه وركب من معاصيه. ١٩٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْحَجّ أَشْهُرٌ مّعْلُومَاتٌ ...} يعنـي جل ثناؤه بذلك: وقت الـحجّ أشهر معلومات. (والأشهر) مرفوعات بـالـحجّ، وإن كان له وقتا لا صفة ونعتا، إذ لـم تكن مـحصورات بتعريف بإضافة إلـى معرفة أو معهود، فصار الرفع فـيهن كالرفع فـي قول العرب فـي نظير ذلك من الـمـحلّ (الـمسلـمون جانب والكفـار جانب)، برفع الـجانب الذي لـم يكن مـحصورا علـى حدّ معروف، ولو قـيـل جانب أرضهم أو بلادهم لكان النصب هو الكلام. ثم اختلف أهل التأويـل فـي قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فقال بعضهم: يعنـي بـالأشهر الـمعلومات: شوّالاً، وذا القعدة، وعشرا من ذي الـحجة. ذكر من قال ذلك: ٢٩٦٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: شوّال، وذو القعدة، وعشر ذي الـحجة. ٢٩٦٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان وشريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، مثله. ٢٩٦٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عبـاس ، مثله. ٢٩٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن نصر السلـمي، قال: حدثنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن أبـي حبـيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: أشهر الـحجّ شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الـحجة. ٢٩٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهنّ: شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الـحجة، جعلهنّ اللّه سبحانه للـحجّ، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلـح أن يحرم أحد بـالـحجّ إلا فـي أشهر الـحجّ، والعمرة يحرم بها فـي كل شهر. ٢٩٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس فـي قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الـحجة. ٢٩٧٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا: حدثنا سفـيان، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، مثله. ٢٩٧٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيـم والشعبـي مثله. ٢٩٧٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان وإسرائيـل، عن مغيرة، عن إبراهيـم، مثله. ٢٩٧٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا إسرائيـل، عن جابر، عن عامر، مثله. ٢٩٧٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، مثله. ٢٩٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٢٩٧٩ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي هشيـم، قال: أخبرنا الـحجاج، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس . وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم والشعبـي. وأخبرنا يونس، عن الـحسن. وأخبرنا جويبر، عن الضحاك . وأخبرنا حجاج، عن عطاء ومـجاهد، مثله. ٢٩٨٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الولـيد، قال: حدثنا حماد، عن عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: شوّال، وذو القعدة، وعشر ذي الـحجة فـي الـحجّ أشهر معلومات. ٢٩٨١ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر، قال: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: شوّال، وذو القعدة، وعشر ذي الـحجة. ٢٩٨٢ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا حسين بن عقـيـل، عن الضحاك ، قال: شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الـحجة. ٢٩٨٣ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقـيـل الـخراسانـي، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله. وقال آخرون: بل يعنـي بذلك شوّالاً، وذا القعدة، وذا الـحجة كله. ذكر من قال ذلك: ٢٩٨٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أكان عبد اللّه يسمي أشهر الـحجّ؟ قال: نعم، شوّال، وذو القعدة، وذو الـحجة. ٢٩٨٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الـحجّ؟ قال: نعم، كان يسمي شوّالاً، وذا القعدة، وذا الـحجة. ٢٩٨٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيـم بن مهاجر، عن مـجاهد، عن ابن عمر، قال: شوّال، وذو القعدة، وذو الـحجة. ٢٩٨٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، قال عطاء: فهي شوال، وذو القعدة، وذو الـحجة. ٢٩٨٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٢٩٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أشهر الـحج: شوال، وذو القعدة، وذو الـحجة. وربـما قال: وعشر ذي الـحجة. ٢٩٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: شوال، وذو القعدة، وذو الـحجة. ٢٩٩١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، مثله. ٢٩٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، قال: أشهر الـحج: شوّال، وذو القعدة، وذو الـحجة. فإن قال لنا قائل: وما وجه قائلـي هذه الـمقالة، وقد علـمت أن عمل الـحجّ لا يعمل بعد تقضي أيام منى؟ قـيـل: إن معنى ذلك غير الذي توهمته، وإنـما عنوا بقـيـلهم الـحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهنّ الـحجّ لا أشهر العمرة، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة. ومـما يدل علـى أن ذلك معناهم فـي قـيـلهم ذلك ما: ٢٩٩٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: أن تفصلوا بـين أشهر الـحجّ والعمرة فتـجعلوا العمرة فـي غير أشهر الـحجّ، أتـمّ لـحجّ أحدكم وأتـمّ لعمرته. ٢٩٩٤ـ حدثنـي نصر بن علـيّ الـجهضمي، قال: أخبرنـي أبـي، قال: حدثنا شعبة، قال: ما لقـينـي أيوب أو قال: ما لقـيت أيوب إلا سألنـي عن حديث قـيس بن مسلـم، عن طارق بن شهاب، قال: قلت لعبد اللّه : امرأة منا قد حجت، أو هي تريد أن تـحجّ، أفتـجعل مع حجها عمرة؟ فقال: ما أرى هؤلاء إلا أشهر الـحجّ قال: فـيقول لـي أيوب ومن عنده: مثل هذا الـحديث حدثك قـيس بن مسلـم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد اللّه . ٢٩٩٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يقول: إن العمرة فـي أشهر الـحجّ لـيست بتامة قال: فقـيـل له: العمرة فـي الـمـحرّم؟ فقال: كانوا لا يرونها تامة. ٢٩٩٦ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن عون، قال: سألت القاسم بن مـحمد عن العمرة فـي أشهر الـحج، قال: كانوا لا يرونها تامة. ٢٩٩٧ـ حدثنا ابن بـيان الواسطي، قال: أخبرنا إسحاق عن عبد اللّه بن عون، عن ابن سيرين أنه كان يستـحبّ العمرة فـي الـمـحرّم، قال: تكون فـي أشهر الـحجّ قال: كانوا لا يرونها تامة. ٢٩٩٨ـ حدثنا ابن بـيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن عون، عن مـحمد بن سيرين، قال: قال ابن عمر للـحكم بن الأعرج أو غيره: إن أطعتنـي انتظرت حتـى إذا أهلّ الـمـحرّم خرجت إلـى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. ٢٩٩٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي يعقوب، قال: سمعت ابن عمر يقول: لأن أعتـمر فـي عشر ذي الـحجة أحبّ إلـيّ من أن أعتـمر فـي العشرين. ٣٠٠٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن طارق بن شهاب، قال: سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تـجمع مع حجها عمرة، فقال: أسمع اللّه يقول: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ما أراها إلا أشهر الـحجّ. ٣٠٠١ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام، قال: حدثنا حزام القطعي، قال: سمعت مـحمد بن سيرين يقول: ما أحد من أهل العلـم شكّ أن عمرة فـي غير أشهر الـحجّ أفضل من عمرة فـي أشهر الـحجّ. ونظائر ذلك مـما يطول بـاستـيعاب ذكره الكتاب، مـما يدلّ علـى أن معنى قـيـل من قال: وقت الـحجّ ثلاثة أشهر كوامل، أنهنّ من غير شهور العمرة، وأنهنّ شهور لعمل الـحجّ دون عمل العمرة، وإن كان عمل الـحجّ إنـما يعمل فـي بعضهنّ لا فـي جميعهن. وأما الذين قالوا: تأويـل ذلك: شوّال، وذو القعدة، وعشر ذي الـحجة، فإنهم قالوا: إنـما قصد اللّه جل ثناؤه بقوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إلـى تعريف خـلقه ميقات حجهم، لا الـخبر عن وقت العمرة. قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه اعتـمر فـي بعض شهور الـحجّ، ثم لـم يصحّ عنه بخلاف ذلك خبر. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الـحجّ ينقضي وقته بـانقضاء العاشر من أيام ذي الـحجة، علـم أن معنى قوله: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ إنـما هو ميقات الـحجّ شهران وبعض الثالث. والصواب من القول فـي ذلك عندنا قول من قال: إن معنى ذلك الـحج شهران وعشر من الثالث لأن ذلك من اللّه خبر عن ميقات الـحجّ ولا عمل للـحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لـم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لـم يكن معنـيا به جميعه صحّ قول من قال: وعشر ذي الـحجة. فإن قال قائل: فكيف قـيـل: الـحَجّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهو شهران وبعض الثالث؟ قـيـل إن العرب لا تـمتنع خاصة فـي الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول له الـيوم يومان منذ لـم أره. وإنـما تعنـي بذلك يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وإنـما يتعجل فـي يوم ونصف. وقد يفعل الفـاعل منهم الفعل فـي الساعة، ثم يخرجه عاما علـى السنة والشهر، فـ يقول: زرته العام وأتـيته الـيوم، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلـى آخره، ولكنه يعنـي أنه فعله إذ ذاك وفـي ذلك الـحين، فكذلك الـحجّ أشهر، والـمراد منه الـحجّ شهران وبعض آخر. فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوّال وذو القعدة وعشر ذي الـحجة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ. يعنـي بقوله جل ثناؤه: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ فمن أوجب الـحجّ علـى نفسه وألزمها إياه فـيهن، يعنـي فـي الأشهر الـمعلومات التـي بـينها. وإيجابه إياه علـى نفسه العزم علـى عمل جميع ما أوجب اللّه علـى الـحاجّ عمله وترك جميع ما أمره اللّه بتركه. وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي يكون به الرجل فـارضا الـحجّ بعد إجماع جميعهم، علـى أن معنى الفرض: الإيجاب والإلزام، فقال بعضهم: فرض الـحجّ الإهلال. ذكر من قال ذلك: ٣٠٠٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد اللّه الـمدنـي بن دينار، عن ابن عمر قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: من أهلّ بحج. ٣٠٠٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن الـمسيب، عن عطاء، قال: التلبـية. ٣٠٠٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنا علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان الثوري: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: فـالفريضة الإحرام، والإحرام: التلبـية. ٣٠٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيـم، يعنـي ابن مهاجر، عن مـجاهد: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: الفريضة: التلبـية. ٣٠٠٦ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا ورقاء عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: أهلّ. ٣٠٠٧ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: الفرض التلبـية، ويرجع إن شاء ما لـم يحرم. ٣٠٠٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: الفرض: الإهلال. ٣٠٠٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: التلبـية. ٣٠١٠ـ حدثنا إبراهيـم بن عبد اللّه بن مسلـم، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير، قال: أخبرنا حماد بن سلـمة، عن جبر بن حبـيب، قال: سألت القاسم بن مـحمد عمن فرض فـيهنّ الـحج، قال: إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبـيت، فقد فرضت الـحج. وقال آخرون: فرض الـحج إحرامه. ذكر من قال ذلك: ٣٠١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ يقول: من أحرم بحجّ أو عمرة. ٣٠١٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قالوا جميعا: حدثنا سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: فمن أحرم. واللفظ لـحديث ابن بشار. ٣٠١٣ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك والـحسن بن صالـح، عن لـيث، عن عطاء، قال: الفرض: الإحرام. ٣٠١٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الـحجاج، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الـحسن فـي قوله: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قالا: فرض الـحجّ: الإحرام. ٣٠١٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ فهذا عند الإحرام. ٣٠١٦ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا حسين بن عقـيـل، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس : قال: الفرض: الإحرام. ٣٠١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقـيـل الـخراسانـي، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله. ٣٠١٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: أخبرنا الـمغيرة، عن إبراهيـم: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ قال: من أحرم. وهذا القول الثانـي يحتـمل أن يكون بـمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام كان عند قائله الإيجاب بـالعزم. ويحتـمل أن يكون كان عنده بـالعزم والتلبـية، كما قال القائلون القول الأول. وإنـما قلنا: إن فرض الـحجّ الإحرام لإجماع الـجميع علـى ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يـلزم الـمـحرم أن يوجبه علـى نفسه، علـى ما وصفنا آنفـا، لأنه لا يخـلو القول فـي ذلك من أحد أمور ثلاثة: إما أن يكون الرجل غير مـحرم إلا بـالتلبـية وفعل جميع ما يجب علـى الـموجب الإحرام علـى نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون مـحرما إلا بـالتـجرّد للإحرام، وأن يكون من لـم يكن له متـجرّدا فغير مـحرم. وفـي إجماع الـجميع علـى أنه قد يكون مـحرما وإن لـم يكن متـجرّدا من ثـيابه بإيجابه الإحرام ما يدل علـى أنه قد يكون مـحرما وإن لـم يـلبّ، إذ كانت التلبـية بعض مشاعر الإحرام، كما التـجرّد له بعض مشاعره. وفـي إجماعهم علـى أنه قد يكون مـحرما بترك بعض مشاعر حجه ما يدلّ علـى أن حكم غيره من مشاعره حكمه. أو يكون إذ فسد هذا القول قد يكون مـحرما وإن لـم يـلبّ ولـم يتـجرّد ولـم يعزم العزم الذي وصفنا. وفـي إجماع الـجميع علـى أنه لا يكون مـحرما من لـم يعزم علـى الإحرام ويوجبه علـى نفسه إذا كان من أهل التكلـيف ما ينبىء عن فساد هذا القول، وإذ فسد هذان الوجهان فبـينة صحة الوجه الثالث، وهو أن الرجل قد يكون مـحرما بإيجابه الإحرام بعزمه علـى سبـيـل ما بـينا، وإن لـم يظهر ذلك بـالتـجرّد والتلبـية وصنـيع بعض ما علـيه عمله من مناسكه. وإذا صحّ ذلك صحّ ما قلنا من أن فرض الـحجّ هو ما قُرن إيجابه بـالعزم علـى نـحو ما بـينا قبل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلا رَفَثَ. اختلف أهل التأويـل فـي معنى الرفث فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: هو الإفحاش للـمرأة فـي الكلام، وذلك بأن يقول: إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا لا يكنـي عنه، وما أشبه ذلك. ذكر من قال ذلك: ٣٠١٩ـ حدثنا أحمد بن حماد الدولابـي ويونس. قالا: حدثنا سفـيان، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: سألت ابن عبـاس عن الرفث فـي قول اللّه : فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ قال: هو التعريض بذكر الـجماع، وهي العِرابة من كلام العرب، وهو أدنى الرفث. ٣٠٢٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن روح بن القاسم، عن ابن طاوس فـي قوله: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: العِرَابة والتعريض للنساء بـالـجماع. ٣٠٢١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عون، قال: حدثنا زياد بن حصين، قال: ثنـي أبـي حصين بن قـيس، قال: أصعدت مع ابن عبـاس فـي الـحاج، وكنت له خـلـيلاً، فلـما كان بعدما أحرمنا قال ابن عبـاس ، فأخذ بذنب بعيره، فجعل يـلويه، وهو يرتـجز و يقول: وَهُنّ يَـمْشِينَ بِنا هَمِيسَاإنْ تَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَـمِيسَا قال: فقلت: أترفث وأنت مـحرم؟ قال: إنـما الرفث ما قـيـل عند النساء. ٣٠٢٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن رجل، عن أبـي العالـية الرياحي، عن ابن عبـاس أنه كان يحدو وهو مـحرم، و يقول: وَهُنّ يَـمْشِينَ بِنا هَميسَاإنْ تَصْدِقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَـمِيسَا قال: قلت: تتكلـم بـالرفث وأنت مـحرم؟ قال: إنـما الرفث ما قـيـل عند النساء. ٣٠٢٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس أن نافعا أخبره أن عبد اللّه بن عمر كان يقول: الرفث: إتـيان النساء والتكلـم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم. ٣٠٢٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، عن مـحمد بن كعب القرظي، مثله. ٣٠٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيحلّ للـمـحرم أن يقول لامرأته: إذا حللت أصبتك؟ قال: لا، ذاك الرفث قال: وقال عطاء: الرفث ما دون الـجماع. ٣٠٢٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنـي مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الرفث: الـجماع وما دونه من قول الفحش. ٣٠٢٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قول الرجل لامرأته: إذا حللت أصبتك، قال: ذاك الرفث. ٣٠٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبـي العالـية، قال: كنت أمشي مع ابن عبـاس وهو مـحرم، وهو يرتـجز و يقول: وَهُنْ يَـمْشِينَ بِنا هَمِيسَاإنْ تَصْدُقِ الطّيْرُنَنِكْ لَـمِيسَا قال: قلت: أترفث يا ابن عبـاس وأنت مـحرم؟ قال: إنـما الرفث ما روجع به النساء. ٣٠٢٩ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا سفـيان ويحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن الزبـير السبـائي وعطاء، أنه سمع طاوسا قال: سمعت ابن الزبـير يقول: لا يحلّ للـمـحرم الإعرابة. فذكرته لابن عبـاس ، فقال: صدق. قلت لابن عبـاس : وما الإعراب؟ قال: التعريض. ٣٠٣٠ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يحيى، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنـي الـحسن بن مسلـم، عن طاوس أنه كان يقول: لا يحلّ للـمـحرم الإعرابة. قال طاوس: والإعرابة: أن يقول وهو مـحرم: إذا حللت أصبتك. ٣٠٣١ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن زياد بن حصين، عن أبـي العالـية، قال: لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء. ٣٠٣٢ـ حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن علقمة بن مرثد، عن عطاء قال: كانوا يكرهون الإعرابة يعنـي التعريض بذكر الـجماع وهو مـحرم. ٣٠٣٣ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس أنه سمع أبـاه أنه كان يقول: لا تـحلّ الإعرابة، والإعرابة: التعريض. ٣٠٣٤ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: سألت ابن عبـاس عن قول اللّه تعالـى: فَلا رَفَثَ قال: الرفث الذي ذكر ههنا لـيس بـالرفث الذي ذكر فـي: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصّيام الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ ومن الرفث: التعريض بذكر الـجماع، وهي الإعراب بكلام العرب. ٣٠٣٥ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو معاوية: قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء: أنه كره التعريبللـمـحرم. ٣٠٣٦ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي ابن طاوس أن أبـاه كان يقول: الرفث: الإعرابة مـما رواه من شأن النساء، والإعرابة: الإيضاح بـالـجماع. ٣٠٣٧ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا الـحسن بن مسلـم أنه سمع طاوسا يقول: لا يحلّ للـمـحرم الإعرابة. ٣٠٣٨ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : فَلا رَفَثَ قال: الرفث: غشيان النساء والقُبَل والغَمْز، وأن يعرّض لها بـالفحش من الكلام ونـحو ذلك. ٣٠٣٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مـجاهد قال: كان ابن عمر يقول للـحادي: لا تعرّض بذكر النساء. ٣٠٤٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر وابن جريج، عن ابن طاوس عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: الرفث فـي الصيام: الـجماع، والرفث فـي الـحجّ: الإعرابة، وكان يقول: الدخول والـمسيس: الـجماع. وقال آخرون: الرفث فـي هذا الـموضع: الـجماع نفسه. ذكر من قال ذلك: ٣٠٤١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن خصيف، عن مقسم، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٤٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٠٤٣ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: الرفث: إتـيان النساء. ٣٠٤٤ـ حدثنا عبد الـحميد قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، قال: سألت ابن عبـاس عن الرفث، فقال: الـجماع. ٣٠٤٥ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن سفـيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد اللّه ، عن ابن عبـاس قال: الرفث: هو الـجماع، ولكن اللّه كريـم يكنـي عما شاء. ٣٠٤٦ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبـي العالـية قال: سمعت ابن عبـاس يرتـجز وهو مـحرم، يقول: خَرَجْنَ يَسْرينَ بِنا هَمِيسَاإنْ تَصْدُقِ الطّيْرُ نَنِكْ لَـمِيسَا قال شريك: إلا أنه لـم يكن عن الـجماع لـميسا. فقلت: ألـيس هذا الرفث؟ قال: لا إنـما الرفث: إتـيان النساء والـمـجامعة. ٣٠٤٧ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن عون، عن زياد بن حصين، عن أبـي العالـية، عن ابن عبـاس بنـحوه، إلا أن عونا صرّح به. ٣٠٤٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عبـاس ، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٤٩ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه قوله: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: إتـيان النساء. ٣٠٥٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: غشيان النساء. ٣٠٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار الرفث: الـجماع فما دونه من شأن النساء. ٣٠٥٢ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار بنـحوه. ٣٠٥٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء فـي قوله: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفـيع، عن مـجاهد: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٥٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد، عن قتادة فـي قوله: فَلا رَفَثَ قال: كان قتادة يقول: الرفث: غشيان النساء. ٣٠٥٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، مثله. ٣٠٥٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٥٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن الـحسن بن عبـيد اللّه ، عن أبـي الضحى، عن ابن عبـاس ، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٥٩ـ حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٠ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: الرفث: الـمـجامعة. ٣٠٦١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَلا رَفَثَ فلا جماع. ٣٠٦٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَلا رَفَثَ قال: جماع النساء. ٣٠٦٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن الـحجاج، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مـحمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن النضر بن عربـي، عن عكرمة، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٦٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن حسين بن عقـيـل. وحدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم. وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قالا: أخبرنا حسين بن عقـيـل، عن الضحاك ، قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٧٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس ، مثله قال: وأخبرنا عبد الـملك، عن عطاء، مثله. ٣٠٧١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يونس، عن الـحسن، وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم قالا: مثل ذلك. ٣٠٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، وأخبرنا مغيرة، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. ٣٠٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: الرفث: النكاح. ٣٠٧٤ـ حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: ثنـي ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول الرفث: الـجماع. ٣٠٧٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الرفث: غشيان النساء. قال معمر: وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة. ٣٠٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرفث: إتـيان النساء، وقرأ: أُحِلّ لَكُمْ لَـيْـلَةَ الصيّامِ الرّفَثُ إلـى نِسائِكُمْ. ٣٠٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد فـي قوله: فَلا رَفَثَ قال: الرفث: الـجماع. ٣٠٧٨ـ حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، مثله. والصواب من القول فـي ذلك عندي أن اللّه جل ثناؤه نهى من فرض الـحجّ فـي أشهر الـحجّ عن الرفث، فقال: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ فَلا رَفَثَ. والرفث فـي كلام العرب: أصله الإفحاش فـي الـمنطق علـى ما قد بـينا فـيـما مضى، ثم تستعمله فـي الكناية عن الـجماع. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلـم مختلفـين فـي تأويـله، وفـي هذا النهي من اللّه عن بعض معانـي الرفث أم عن جميع معانـيه، وجب أن يكون علـى جميع معانـيه، إذ لـم يأت خبر بخصوص الرفث الذي هو بـالـمنطق عند النساء من سائر معانـي الرفث يجب التسلـيـم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلـى تأويـل بـاطن إلا بحجة ثابتة. فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلـى البـاطن من تأويـلها منقول بإجماع، وذلك أن الـجميع لا خلاف بـينهم فـي أن الرفث عند غير النساء غير مـحظور علـى مـحرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معنـيّ بها بعض الرفث دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرّم من معانـي الرفث علـى الـمـحرم شيء إلا ما أجمع علـى تـحريـمه علـيه، أو قامت بتـحريـمه حجة يجب التسلـيـم لها. قـيـل: إن ما خصّ من الآية فأبـيح خارج من التـحريـم، والـحظر ثابت لـجميع ما لـم تـخصصه الـحجة من معنى الرفث بـالآية، كالذي كان علـيه حكمه لو لـم يخصّ منه شيء، لأن ما خصّ من ذلك وأخرج من عمومه إنـما لزمنا إخراج حكمه من الـحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية بعد الذي خصّ منها علـى الـحكم الذي كان يـلزم العبـاد فرضه بها لو لـم يخصص منها شيء لأن العلة فـيـما لـم يخصص منها بعد الذي خصّ منها نظير العلة فـيه قبل أن يخصّ منها شيء. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا فُسُوقَ. اختلف أهل التأويـل فـي معنى الفسوق التـي نهى اللّه عنها فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: هي الـمعاصي كلها. ذكر من قال ذلك: ٣٠٧٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٨٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٨١ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنـي مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الفسوق: الـمعاصي كلها، قال اللّه تعالـى: وَإنْ تَفْعَلُوا فإنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ. ٣٠٨٢ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله. ٣٠٨٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٨٤ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: الفسوق: الـمعصية. ٣٠٨٥ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الفسوق: الـمعاصي كلها. ٣٠٨٦ـ حدثنـي يعقوب قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن روح بن القاسم، عن ابن طاوس، عن أبـيه فـي قوله: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٨٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، عن مـحمد بن كعب القرظي فـي قوله: وَلا فُسُوقَقال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٨٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد جميعا، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلا فُسُوقَ قال: الـمعاصي. ٣٠٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٠٩١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: الفسوق: الـمعاصي قال: وقال مـجاهد مثل قول سعيد. ٣٠٩٢ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: عصيان اللّه . ٣٠٩٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٩٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن الـحجاج، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: الفسوق: الـمعاصي. ٣٠٩٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة وابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٠٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الـحجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس : وَلا فُسُوقَ قال: الـمعاصي قال: وأخبرنا عبد الـملك، عن عطاء، مثله. ٣٠٩٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٣٠٩٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن النضر بن عربـي، عن عكرمة، مثله. ٣١٠٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الفسوق: معصية اللّه ، لا صغير من معصية اللّه . ٣١٠١ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَلا فُسُوقَقال: الفسوق: معاصي اللّه كلها. ٣١٠٢ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، وعن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الفسوق: الـمعاصي وقال مثل ذلك الزهري وقتادة. وقال آخرون: بل الفسوق فـي هذا الـموضع ما عصي اللّه به فـي الإحرام مـما نهى عنه فـيه من قتل صيد وأخذ شعر وقلـم ظفر، وما أشبه ذلك مـما خصّ اللّه به الإحرام وأمر بـالتـجنب منه فـي خلال الإحرام. ذكر من قال ذلك: ٣١٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس أن نافعا أخبره أن عبد اللّه بن عمر كان يقول: الفسوق: إتـيان معاصي اللّه فـي الـحرم. ٣١٠٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مـحمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي اللّه به، صيد أو غيره. وقال آخرون: بل الفسوق فـي هذا الـموضع: السبـاب. ذكر من قال ذلك: ٣١٠٥ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن إبراهيـم بن مهاجر، عن مـجاهد، عن ابن عمر، قال: الفسوق: السبـاب. ٣١٠٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: الفسوق: السبـاب. ٣١٠٧ـ حدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول: الفسوق: السبـاب. ٣١٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفـيع، عن مـجاهد: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: السبـاب. ٣١٠٩ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: وَلا فُسُوقَ قل: أما الفسوق: فهو السبـاب. ٣١١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـمعلـى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، قال: الفسوق: السبـاب. ٣١١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا معلـى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدّث نـحوه. ٣١١٢ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يونس، عن الـحسن، قال: وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم قالا: الفسوق: السبـاب. ٣١١٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: الفسوق: السبـاب. ٣١١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا فُسُوقَ قال: الفسوق: السبـاب. ٣١١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور عن إبراهيـم، مثله. وقال آخرون: الفسوق: الذبح للأصنام. ذكر من قال ذلك: ٢٩٣٦حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي الفسوق: الذبح للأنصاب، وقرأ: أوْ فِسْقا أُهِلّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ فقطع ذلك أيضا قطع الذبح للأنصاب بـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حين حجّ فعلّـم أَمته الـمناسك. وقال آخرون: الفسوق: التنابز بـالألقاب. ذكر من قال ذلك: ٣١١٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقـيـل، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله. وأولـى الأقوال التـي ذكرنا بتأويـل الآية فـي ذلك، قول من قال: معنى قوله: وَلا فُسُوقَ النهي عن معصية اللّه فـي إصابة الصيد وفعل ما نهى اللّه الـمـحرم عن فعله فـي حال إحرامه وذلك أن اللّه جل ثناؤه قال: فَمَنْ فَرَضَ فِـيهِنّ الـحَجّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ يعنـي بذلك فلا يرفث، ولا يفسق: أي لا يفعل ما نهاه اللّه عن فعله فـي حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة اللّه فـي إحرامه. وقد علـمنا أن اللّه جل ثناؤه قد حرّم معاصيَه علـى كل أحد، مـحرما كان أو غير مـحرم، وكذلك حرّم التنابز بـالألقاب فـي حال الإحرام وغيرها بقوله: وَلا تَلْـمِزُوا أنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بـالألْقاب وحرم علـى الـمسلـم سبـاب أخيه فـي كل حال فرض الـحجّ أو لـم يفرضه. فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى اللّه عنه العبد من الفسوق فـي حال إحرامه وفرضه الـحجّ هو ما لـم يكن فسوقا فـي حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه كما أن الرفث الذي نهاه عنه فـي حال فرضه الـحجّ، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه لأنه لا معنى لأن يقال فـيـما قد حرّم اللّه علـى خـلقه فـي كل الأحوال: لا يفعلنّ أحدكم فـي حال الإحرام ما هو حرام علـيه فعله فـي كل حال، لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له وقد عمّ به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه الـمـحرم من الفسوق فخصّ به حال إحرامه، وقـيـل له: (إذا فرضت الـحجّ فلا تفعله)، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الـحجّ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن اللّه جل ثناؤه خصّ بـالنهي عنه الـمـحرم فـي حال إحرامه مـما نهاه عنه من الطيب واللبـاس والـحلق وقصّ الأظفـار وقتل الصيد، وسائر ما خصّ اللّه بـالنهي عنه الـمـحرم فـي حال إحرامه. فتأويـل الآية إذًا: فمن فرض الـحجّ فـي أشهر الـحجّ فأحرم فـيهنّ. فلا يرفث عند النساء فـيصرّح لهنّ بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتـيان ما نهاه اللّه فـي حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلـم ظفر، وغير ذلك مـما حرّم اللّه علـيه فعله وهو مـحرم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ. اختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل الـمـحرم أحدا. ثم اختلف قائلو هذا القول، فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتـى يغضبه. ذكر من قال ذلك: ٣١١٧ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه : وَلا جِدالَ فِـي الـحَجّ قال: أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١١٨ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، قال: سألت ابن عبـاس ، عن الـجدال، فقال: أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١١٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: الـجدال أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٢٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء، قال: الـجدال: أن يـماري الرجل أخاه حتـى يغضبه. ٣١٢١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: أن تَـمْـحَنَ صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن سلـمة بن كهيـل، قال: سألت مـجاهدا عن قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٢٣ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، قال: الـجدال: هو أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٢٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، قال: الـجدال: الـمراء. ٣١٢٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: الـجدال: أن تـجادل صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٢٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: الـجدال: أن تصخب علـى صاحبك. ٣١٢٧ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: الـمراء. ٣١٢٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، وحدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قالا: حدثنا حسين بن عقـيـل، عن الضحاك ، قال: الـجدال: أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٢٩ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا واقد الـخـلقانـي، عن عطاء، قال: أما الـجدال: فتـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٣٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الـجدال: الـمراء، أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـمعلـى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم قال: الـجدال: الـمراء. ٣١٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـمعلـى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدّث نـحوه. ٣١٣٣ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم بـمثله. ٣١٣٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن الـحجاج، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: الـجدال: أن يـماري بعضهم بعضا حتـى يغضبوا. ٣١٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ الـجدال: الغضب، أن تغضب علـيك مسلـما، إلا أن تستعتب مـملوكا فتعظه من غير أن تغضبه، ولا أمْر علـيك إن شاء اللّه تعالـى فـي ذلك. ٣١٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن النضر بن عربـي، عن عكرمة، قال: الـجدال: أن تـماري صاحبك حتـى يغضبك أو تغضبه. ٣١٣٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا: الـجدال: هو الصخب والـمراء وأنت مـحرم. ٣١٣٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الـجدال: ما أغضب صاحبك من الـجدل. ٣١٣٩ـ حدثنـي علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: الـجدال: الـمراء والـملاحاة حتـى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى اللّه عن ذلك. ٣١٤٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عبـاس ، قال: الـجدال: أن تـماري صاحبك حتـى تغضبه. ٣١٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: الـجدال: الـمراء. ٣١٤٢ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا: هو الصخب والـمراء وأنت مـحرم. ٣١٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ كانوا يكرهون الـجدال. وقال آخرون منهم: الـجدال فـي هذا الـموضع معناه: السبـاب. ذكر من قال ذلك: ٣١٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس أن نافعا أخبره أن عبد اللّه بن عمر كان يقول: الـجدال فـي الـحجّ: السبـاب والـمراء والـخصومات. ٣١٤٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مـحمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الـجدال: السبـاب والـمنازعة. ٣١٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: الـجدال: السبـاب. ٣١٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية جميعا، عن سعيد، عن قتادة، قال: الـجدال: السبـاب. وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الـجدال والـمراء، وإنـما عنى الاختلاف فـيـمن هو أتـمّ حجّا من الـحجّاج. ذكر من قال ذلك: ٣١٤٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، عن مـحمد بن كعب القرظي، قال: الـجدال: كانت قريش إذا اجتـمعت بـمنى قال هؤلاء: حجنا أتـمّ من حجكم، وقال هؤلاء: حجنا أتـمّ من حجكم. وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بـينهم فـي الـيوم الذي فـيه الـحجّ، فنهوا عن ذلك. ذكر من قال ذلك: ٣١٤٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن جبـير بن حبـيب، عن القاسم بن مـحمد أنه قال: الـجدال فـي الـحجّ أن يقول بعضهم: الـحجّ الـيوم، ويقول بعضهم: الـحج غدا. وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك فـي أمر مواقـف الـحجّ أيهم الـمصيب موقـف إبراهيـم. ذكر من قال ذلك: ٣١٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: كانوا يقـفون مواقـف مختلفة يتـجادلون، كلهم يدّعي أن موقـفه موقـف إبراهيـم. فقطعه اللّه حين أعلـم نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بـمناسكهم. وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ خبر من اللّه تعالـى عن استقامة وقت الـحجّ علـى ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء. ذكر من قال ذلك: ٣١٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: قد استقام الـحجّ ولا جدال فـيه. ٣١٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: لا شهر ينسأ، ولا شك فـي الـحجّ قد بـين، كانوا يسقطون الـمـحرم ثم يقولون صفران لصفر وشهر ربـيع الأول، ثم يقولون شهرا ربـيع لشهر ربـيع الاَخر وجمادى الأولـى، ثم يقولون جماديان لـجمادى الاَخرة ولرجب، ثم يقولون لشعبـان رجب، ثم يقولون لرمضان شعبـان، ثم يقولون لشوّال رمضان، ويقولون لذي القعدة شوّال، ثم يقولون لذي الـحجة ذا القعدة، ثم يقولون للـمـحرّم ذا الـحجة، فـيحجون فـي الـمـحرّم ثم يأتنفون، فـيحسبون علـى ذلك عدة مستقبلة علـى وجه ما ابتدءوا، فـيقولون الـمـحرّم وصفر وشهرا ربـيع، فـيحجون فـي الـمـحرّم لـيحجوا فـي كل سنة مرّتـين، فـيسقطون شهرا آخر، فـيعدون علـى العدة الأولـى، فـيقولون صفران وشهرا ربـيع نـحو عدتهم فـي أول ما أسقطوا. ٣١٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحوه. ٣١٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بنـي كنانة. ٣١٥٥ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: لا شبهة فـي الـحجّ قد بـين اللّه أمر الـحجّ. ٣١٥٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: قد استقام أمر الـحجّ فلا تـجادلوا فـيه. ٣١٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: لا شهر ينسأ، ولا شك فـي الـحجّ قد بُـيّن. ٣١٥٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن العلاء بن عبد الكريـم، عن مـجاهد: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: قد علـم وقت الـحجّ فلا جدال فـيه، ولا شك. ٣١٥٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز والعلاء، عن مـجاهد، قال: هو شهر معلوم لا تنازع فـيه. ٣١٦٠ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم، عن مـجاهد: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: لا شكّ فـي الـحج. ٣١٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس : وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: الـمراء بـالـحجّ. ٣١٦٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ فقد تبـين الـحجّ قال: كانوا يحجون وفـي ذي الـحجة عامين، وفـي الـمـحرّم عامين، ثم حجوا فـي صفر عامين، وكانوا يحجون فـي كل سنة فـي كل شهر عامين، ثم وافقت حجة أبـي بكر من العامين فـي ذي القعدة قبل حجة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بسنة، ثم حجّ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من قابل فـي ذي الـحجة فذلك حين يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَـلَقَ اللّه السّمَوَاتِ وَالأرْضَ). ٣١٦٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ قال: بـين اللّه أمر الـحجّ ومعالـمه فلـيس فـيه كلام. وأولـى هذه الأقوال فـي قوله وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ بـالصواب، قول من قال: معنى ذلك: قد بطل الـجدال فـي الـحجّ ووقته، واستقام أمره ووقته علـى وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فـيه ولا مراء وذلك أن اللّه تعالـى ذكره أخبر أن وقت الـحجّ أشهر معلومات، ثم نفـى عن وقته الاختلاف الذي كانت الـجاهلـية فـي شركها تـختلف فـيه. وإنـما اخترنا هذا التأويـل فـي ذلك ورأيناه أولـى بـالصواب مـما خالفه لـما قد قدمنا من البـيان آنفـا فـي تأويـل قوله: وَلا فُسُوقَ أنه غير جائز أن يكون اللّه خصّ بـالنهي عنه فـي تلك الـحال إلا ما هو مطلق مبـاح فـي الـحال التـي يخالفها، وهي حال الإحلال وذلك أن حكم ما خصّ به من ذلك حكم حال الإحرام إن كان سواء فـيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لـخصوصه به حالاً دون حال، وقد عمّ به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل فـي تأويـل قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ أن تأويـله: لا تـمار صاحبك حتـى تغضبه، إلا أحد معنـيـين: إما أن يكون أراد لا تـماره ببـاطل حتـى تغضبه. فذلك ما لا وجه له، لأن اللّه عز وجل قد نهي عن الـمراء بـالبـاطل فـي كل حال مـحرما كان الـمـماري أو مـحلاّ، فلا وجه لـخصوص حال الإحرام بـالنهي عنه لاستواء حال الإحرام والإحلال فـي نهى اللّه عنه. أو يكون أراد: لا تـماره بـالـحق، وذلك أيضا ما لا وجه له لأن الـمـحرم لو رأى رجلاً يروم فـاحشة كان الواجب علـيه مراءه فـي دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلـمه والذهاب منه بحقّ له قد غصبه علـيه كان علـيه مراؤه فـيه وجداله حتـى يتـخـلصه منه. والـجدال والـمراء لا يكون بـين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلـم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الاَخر غير جائز تركه بحال، فأيّ وجوهه التـي خصّ بـالنهي عنه حال الإحرام؟ وكذلك لا وجه لقول من تأوّل ذلك أنه بـمعنى السبـاب، لأن اللّه تعالـى ذكره قد نهى الـمؤمنـين بعضهم عن سبـاب بعض علـى لسان رسوله علـيه الصلاة والسلام فـي كل حال، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (سبـاب الـمُسْلِـمِ فُسُوقٌ، وَقِتالُهُ كُفْرٌ) فإذا كان الـمسلـم عن سبّ الـمسلـم منهيا فـي كل حال من أحواله، مـحرما كان أو غير مـحرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه فـي حال الإحرام إذا أحرمت. وفـيـما رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الـخبر الذي: ٣١٦٤ـ حدثنا به مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مِنْ حَجّ هَذَا البَـيْتَ فَلَـمْ يَرْفُثْ وَلْـم يَفْسُقْ خَرَجَ مِثْلَ يَوْمَ وَلَدتَهْ أُمّهُ). ٣١٦٥ـ حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَجّ هَذَا البَـيْتَ فَلـمْ يَرْفُثْ وَلـمْ يُفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ). ٣١٦٦ـ حدثنا أحمد بن الولـيد، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثل حديث ابن الـمثنى، عن وهب بن جرير. ٣١٦٧ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله أيضا. ٣١٦٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الولـيد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنـي منصور، قال: سمعت أبـا حازم يحدّث عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، نـحوه. ٣١٦٩ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا مـحمد بن عبـيد اللّه ، عن الأعمش، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَجّ هَذَا البَـيْتَ فَلَـمْ يَرْفُثْ وَلـمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كمَا وَلَدَتْهُ أُمّهُ). ٣١٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن سفـيان، عن منصور، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر مثله، إلا أنه قال: (رَجَعَ كمَا وَلدَتهُ أمّهُ). ٣١٧١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن سيار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نـحوه، إلا أنه قال: (رَجَعَ إلـى أهْلِه مِثْلَ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أمّهُ). ٣١٧٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا يحيى بن أبـي كثـير، عن إبراهيـم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يسار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال، فذكر نـحوه، إلا أنه قال: (رَجَعَ إلـى أهْلِهِ مِثْلَ يَوْمَ وَلَدتْهُ أُمّهُ). ٣١٧٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا يحيى بن أبـي كثـير، عن إبراهيـم بن طهمان، عن منصور عن هلال بن يسار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَجّ هَذَا البَـيْتَ) يعنـي الكعبة (فَلَـمْ يَرْفُثْ وَلْـم يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدتْهُ أُمّهُ). ٣١٧٤ـ حدثنا الفضل بن الصبـاح، قال: حدثنا هشيـم بن بشير، عن سيار، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَجّ للّه فَلَـمْ يَرْفُثْ وَلـمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَهَيْئَةِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ). دلالة واضحة علـى أن قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ بـمعنى النفـي عن الـحجّ بأن يكون فـي وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بـينهم فـيـما يعنـيهم من الأمور أو لا يعنـيهم. وذلك أنه صلى اللّه عليه وسلم أخبر أنه من حجّ فلـم يرفث ولـم يفسق استـحقّ من اللّه الكرامة ما وصف أنه استـحقه بحجه تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى اللّه الـحاجّ عنهما فـي حجه من غير أن يضمّ إلـيهما الـجدال. فلو كان الـجدال الذي ذكره اللّه فـي قوله: وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ مـما نهاه اللّه عنه بهذه الآية، علـى نـحو الذي تأوّل ذلك من تأوله من أنه الـمراء والـخصومات أو السبـاب وما أشبه ذلك، لـما كان صلى اللّه عليه وسلم لـيخصّ بـاستـحقاق الكرامة التـي ذكر أنه يستـحقها الـحاج الذي وصف أمره بـاجتناب خـلتـين مـما نهاه اللّه عنه فـي حجه دون الثالثة التـي هي مقرونة بهما. ولكن لـما كان معنى الثالثة مخالفـا معنى صاحبتـيها فـي أنها خبر علـى الـمعنى الذي وصفنا، وأن الأخريـين بـمعنى النهي الذي أخبر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن مـجتنبهما فـي حجه مستوجب ما وصف من إكرام اللّه إياه مـما أخبر أنه مكرمه به إذا كانتا بـمعنى النهي، وكان الـمنتهي عنهما للّه مطيعا بـانتهائه عنهما، ترك ذلك الثالثة إذا لـم تكن فـي معناهما، وكانت مخالفة سبـيـلها سبـيـلهما. فإذ كان ذلك كذلك، فـالذي هو أولـى بـالقراءة من القراءات الـمخالفة بـين إعراب الـجدال وإعراب الرفث والفسوق، لـيعلـم سامع ذلك إذا كان من أهل الفهم بـاللغات أن الذي من أجله خولف بـين إعرابـيهما اختلاف معنـيـيهما، وإن كان صوابـا قراءة جميع ذلك بـاتفـاق إعرابه علـى اختلاف معانـيه، إذ كانت العرب قد تُتبع بعض الكلام بعضا بإعراب مع اختلاف الـمعانـي، وخاصة فـي هذا النوع من الكلام. فأعجب القراءات إلـيّ فـي ذلك إذ كان الأمر علـى ما وصفت، قراءة من قرأ (فَلا رَفَثٌ وَلا فُسُوقٌ وَلا جِدَالَ فِـي الـحَجّ) برفع الرفث والفسوق وتنوينهما، وفتـح الـجدال بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريـين وكثـير من أهل مكة، منهم عبد اللّه بن كثـير وأبو عمرو بن العلاء. وأما قول من قال: معناه النهي عن اختلاف الـمختلفـين فـي أتـمهم حجا، والقائلـين معناه: النهي عن قول القائل: غدا الـحجّ، مخالفـا به قول الاَخر: الـيوم الـحجّ، فقولٌ فـي حكايته الكفـاية عن الاستشهاد علـى وهائه وضعفه، وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفـيض وخبر صادق يوجب العلـم أن ذلك كان كذلك، فنزلت الآية بـالنهي عنه. أو أن معنى ذلك فـي بعض معانـي الـجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بـالصفة التـي وصفنا. وأما دلالتنا علـى قول ما قلنا من أنه نفـيٌ من اللّه جل وعز عن شهور الـحج، فـالاختلاف الذي كانت الـجاهلـية تـختلف فـيها بـينها قبل كما وصفنا. وأما دلالتنا علـى أن الـجاهلـية كانت تفعل ذلك فـالـخبر الـمستفـيض فـي أهل الأخبـار أن الـجاهلـية كانت تفعل ذلك مع دلالة قول اللّه تقدس اسمه: إنّـمَا النّسيءُ زِيادَةٌ فِـي الكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عاما ويُحَرّمُونَهُ عاما. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَـمْهُ اللّه . يعنـي بذلك جل ثناؤه: افعلوا أيها الـمؤمنون ما أمرتكم به فـي حجكم من إتـمام مناسككم فـيه، وأداء فرضكم الواجب علـيكم فـي إحرامكم، وتـجنب ما أمرتكم بتـجنبه من الرفث والفسوق فـي حجكم لتستوجبوا به الثواب الـجزيـل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالـح ابتغاء مرضاتـي وطلب ثوابـي، فأنا به عالـم ولـجميعه مـحص حتـى أوفـيكم أجره وأجازيكم علـيه، فإنـي لا تـخفـى علـيّ خافـية ولا ينكتـم عنـي ما أردتـم بأعمالكم، لأنـي مطلع علـى سرائركم وعالـم بضمائر نفوسكم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَزوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ذكر أن هذه الآية نزلت فـي قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بـما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، فأمر اللّه جل ثناؤه من لـم يكن يتزوّد منهم بـالتزوّد لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يتـحفظ بزاده فلا يرمي به. ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك: ٣١٧٥ـ حدثنـي الـحسين بن علـي الصدائي، قال: حدثنا عمرو بن عبد الغفـار، قال: حدثنا مـحمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر، فأنزل اللّه : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّاد التّقْوَى فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقـيق والسويق. ٣١٧٦ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه الـمخزومي، قال: حدثنا شبـابة، قال: حدثنا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عبـاس ، قال: كانوا يحجون ولا يتزوّدون، فنزلت: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ٣١٧٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى، قال: الكعك والزيت. ٣١٧٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبـير، قال: هو الكعك والسويق. ٣١٧٩ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان أناس يحجون، ولا يتزوّدون، فأنزل اللّه : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ٣١٨٠ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، قال: حدثنا عبد الـملك بن عطاء كوفـي لنا. ٣١٨١ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن عبد الـملك، عن الشعبـي فـي قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: التـمر والسويق. ٣١٨٢ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا حنظلة، قال: سئل سالـم عن زاد الـحاج، فقال: الـخبز واللـحم والتـمر. قال عمرو: وسمعت أبـا عاصم مرة يقول: حدثنا حنظلة سئل سالـم عن زاد الـحاج، فقال الـخبز والتـمر. ٣١٨٣ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن هشيـم، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد ويقولون: نتوكل علـى اللّه ، فأنزل اللّه جل ثناؤه: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ٣١٨٤ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن عمر بن ذر، عن مـجاهد، قال: كان الـحاج منهم لا يتزوّد، فأنزل اللّه : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ٣١٨٥ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا يحيى عن عمر بن ذر وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن ذر، عن مـجاهد قال: كانوا يسافرون ولا يتزوّدون، فنزلت: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى وقال الـحسن بن يحيى فـي حديثه: كانوا يحجون ولا يتزوّدون. ٣١٨٦ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن عمر بن ذر، عن مـجاهد نـحوه. ٣١٨٧ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مـجاهدا يحدث فذكر نـحوه. ٣١٨٨ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: كان أهل الاَفـاق يخرجون إلـى الـحجّ يتوصلون بـالناس بغير زاد، يقولون: نـحن متكلون فأنزل اللّه : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ٣١٨٩ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَتَزَوّدُوا قال: كان أهل الاَفـاق يخرجون إلـى الـحجّ يتوصلون بـالناس بغير زاد، فأمروا أن يتزوّدوا. ٣١٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كان أهل الـيـمن يتوصلون بـالناس، فأمروا أن يتزوّدوا ولا يستـمتعوا قال: وخير الزاد التقوى. ٣١٩١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن لـيث، عن مـجاهد: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كانوا لا يتزوّدون، فأمروا بـالزاد، وخير الزاد التقوى. ٣١٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى فكان الـحسن يقول: إن ناسا من أهل الـيـمن كانوا يحجون ويسافرون، ولا يتزوّدون، فأمرهم اللّه بـالنفقة والزاد فـي سبـيـل اللّه ، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى. ٣١٩٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد بن أبـي عروبة فـي قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: قال قتادة: كان ناس من أهل الـيـمن يحجون ولا يتزودون، ثم ذكر نـحو حديث بشر عن يزيد. ٣١٩٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى كان ناس من أهل الـيـمن يخرجون بغير زاد إلـى مكة، فأمرهم اللّه أن يتزوّدوا، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى. ٣١٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كان ناس يخرجون من أهلـيهم لـيست معهم أزودة يقولون: نـحجّ بـيت اللّه ولا يطعمنا؟ فقال اللّه : تزوّدوا ما يكفّ وجوهكم عن الناس. ٣١٩٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى فكان ناس من أهل الـيـمن يحجون ولا يتزوّدون، فأمرهم اللّه أن يتزوّدوا، وأنبأ أن خير الزاد التقوى. ٣١٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، عن سعيد بن جبـير: وَتَزَوّدُوا قال: السويق والدقـيق والكعك. ٣١٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، عن سعيد بن جبـير: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: الـخُشْكنانـج والسويق. ٣١٩٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الـملك بن عطاء البكالـي، قال: سمعت الشعبـي يقول فـي قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: هو الطعام، وكان يومئذٍ الطعم قلـيلاً قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التـمر والسويق. ٣٢٠٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى وخير زاد الدنـيا الـمنفعة من اللبـاس والطعام والشراب. ٣٢٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كان ناس يتزوّدون إلـى عُقْبة، فإذا انتهوا إلـى تلك العقبة توكلوا ولـم يتزوّدوا. ٣٢٠٢ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا الـمـحاربـي، قال: قال سفـيان فـي قوله: وَتَزَوّدوا قال: أمروا بـالسوق والكعك. ٣٢٠٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنـي أبـي أنه سمع عكرمة يقول فـي قوله: وَتَزَودُوا قال: هو السويق والدقـيق. ٣٢٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: كانت قبـائل من العرب يحرّمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس، فقال اللّه تبـارك تعالـى لهم: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. ٣٢٠٥ـ حدثنا عمرو بن عبد الـحميد الاَملـي، قال: حدثنا سفـيان عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان الناس يقدمون مكة بغير زاد، فأنزل اللّه : وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى. فتأويـل الآية إذا: فمن فرض فـي أشهر الـحجّ الـحجّ فأحرم فـيهنّ فلا يرفثن ولا يفسقن، فإن أمر الـحجّ قد استقام لكم، وعرفّكم ربكم ميقاته وحدوده. فـاتقوا اللّه فـيـما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إلـيه يعلـمه. وتزوّدوا من أقواتكم ما فـيه بلاغكم إلـى أداء فرض ربكم علـيكم فـي حجكم ومناسككم، فإنه لا برّ للّه جل ثناؤه فـي ترككم التزوّد لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا فـي تضيـيع أقواتكم وإفسادها، ولكن البرّ فـي تقوى ربكم بـاجتناب ما نهاكم عنه فـي سفركم لـحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزوّد، فمنه تزوّدوا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن الضحاك بن مزاحم. ٣٢٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَتَزَوّدُوا فإنّ خَيْرَ الزّادِ التّقْوَى قال: والتقوى عمل بطاعة اللّه . وقد بـينا معنى التقوى فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُون يا أُولـي الألْبـاب. يعنـي بذلك جل ثناؤه: واتقون يا أَهل العقول والأفهام بأداء فرائضي علـيكم التـي أوجبتها علـيكم فـي حجكم ومناسككم وغير ذلك من دينـي الذي شرعته لكم، وخافوا عقابـي بـاجتناب مـحارمي التـي حرمتها علـيكم تنـجوا بذلك مـما تـخافون من غضبـي علـيكم وعقابـي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتـي. وخصّ جل ذكره بـالـخطاب بذلك أولـي الألبـاب، لأنهم أهل التـميـيز بـين الـحق والبـاطل، وأهل الفكر الصحيح والـمعرفة بحقائق الأشياء التـي بـالعقول تدرك وبـالألبـاب تفهم، ولـم يجعل لغيرهم من أهل الـجهل فـي الـخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشبـاحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضلّ سبـيلاً. والألبـاب: جمع لبّ، وهو العقل. ١٩٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ ... } يعنـي بذلك جل ذكره: لـيس علـيكم أيها الـمؤمنون جناح. والـجناح: الـحرج كما: ٣٢٠٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ وهو لا حرج علـيكم فـي الشراء والبـيع قبل الإحرام وبعده. وقوله: أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ يعنـي أن تلتـمسوا فضلاً من عند ربكم، يقال منه: ابتغيت فضلاً من اللّه ومن فضل اللّه أبتغيه ابتغاء: إذا طلبته والتـمسته، وبغيته أبغيه بغيا، كما قال عبد بنـي الـحسحاس: بَغاكَ وَما تَبْغِيهِ حّتـى وَجَدْتَهُكأنّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أمْسِ مَوْعِدَا يعنـي طلبك والتـمسك. وقـيـل: إن معنى ابتغاء الفضل من اللّه : التـماس رزق اللّه بـالتـجارة، وأن هذه الآية نزلت فـي قوم كانوا لا يرون أن يتـجروا إذا أحرموا يـلتـمسون البرّ بذلك، فأعلـمهم جل ثناؤه أن لا برّ فـي ذلك وأن لهم التـماس فضله بـالبـيع والشراء. ذكر من قال ذلك: ٣٢٠٨ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن عمر بن ذر، عن مـجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتـجرون، فأنزل اللّه : لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: فـي الـموسم. ٣٢٠٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عمر بن ذرّ، قال: سمعت مـجاهدا يحدّث، قال: كان ناس لا يتـجرون أيام الـحجّ، فنزلت فـيهم لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ. ٣٢١٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا أبو لـيـلـى، عن بريدة فـي قوله تبـارك وتعالـى: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: إذا كنتـم مـحرمين أن تبـيعوا وتشتروا. ٣٢١١ـ حدثنا طلـيق بن مـحمد الواسطي، قال: أخبرنا أسبـاط، قال: أخبرنا الـحسن بن عمرو، عن أبـي أمامة التـيـمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري فهل لنا حجّ؟ قال: ألـيس تطوفون بـالبـيت وتأتون الـمعروف وترمون الـجمار وتـحلقون رءوسكم؟ فقلنا: بلـى قال: جاء رجل إلـى النبـي: صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن الذي سألتنـي عنه، فلـم يدر ما يقول له حتـى نزل جبريـل علـيه السلام علـيه بهذه الآية: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ إلـى آخر الآية، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أنْتُـمْ حُجّاجٌ). ٣٢١٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: كانت تقرأ هذه الآية: (لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فـي مواسم الـحجّ). ٣٢١٣ـ حدثنا عبد الـحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور بن الـمعتـمر فـي قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: هو التـجارة فـي البـيع والشراء، والاشتراء لا بأس به. ٣٢١٤ـ حدثت عن أبـي هشام الرفـاعي، قال: حدثنا وكيع، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: (لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فـي مواسم الـحج). ٣٢١٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن علـيّ بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، قال: كان مَتْـجَر الناس فـي الـجاهلـية عكاظ وذو الـمـجاز، فلـما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتـى أنزل اللّه جل ثناؤه: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ. ٣٢١٦ـ حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبـابة بن سوار، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي أميـمة، قال: سمعت ابن عمر، وسئل عن الرجل يحج ومعه تـجارة، فقرأ ابن عمر: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ. ٣٢١٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: كانوا لا يتـجرون فـي أيام الـحجّ، فنزلت: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ. ٣٢١٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس ، أنه قال: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فِـي مواسم الـحج. ٣٢١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا طلـحة بن عمرو الـحضرمي، عن عطاء قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فـي مواسم الـحج، هكذا قرأها ابن عبـاس . ٣٢٢٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: التـجارة فـي الدنـيا، والأجر فـي الاَخرة. ٣٢٢١ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: التـجارة أحلت لهم فـي الـمواسم، قال: فكانوا لا يبـيعون، أو يبتاعون فـي الـجاهلـية بعرفة. ٣٢٢٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٢٢٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ كان هذا الـحيّ من العرب لا يعرّجون علـى كسير ولا ضالة لـيـلة النفر، وكانوا يسمونها لـيـلة الصّدَر، ولا يطلبون فـيها تـجارة ولا بـيعا، فأحلّ اللّه عز وجل ذلك كله للـمؤمنـين أن يعرجوا علـى حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم. ٣٢٢٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عبـيد اللّه بن أبـي يزيد، قال: سمعت ابن الزبـير يقول: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فـي مواسم الـحج. ٣٢٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال ابن عبـاس : كانت ذو الـمـجاز وعكاظ متـجرا للناس فـي الـجاهلـية، فلـما جاء الإسلام تركوا ذلك حتـى نزلت: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فـي مواسم الـحجّ. ٣٢٢٦ـ حدثنا أحمد بن حازم والـمثنى، قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: كان بعض الـحاج يسمون الداجّ، فكانوا ينزلون فـي الشقّ الأيسر من منى، وكان الـحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتـجرون، حتـى نزلت: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فحجّوا. ٣٢٢٧ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا عمر بن ذر، عن مـجاهد، قال: كان ناس يحجون ولا يتـجرون، حتـى نزلت: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فرخص لهم فـي الـمتـجر والركوب والزاد. ٣٢٢٨ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ، قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ: هي التـجارة، قال: اتـجروا فـي الـموسم. ٣٢٢٩ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي فأبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: كان الناس إذا أحرموا لـم يتبـايعوا حتـى يقضوا حجهم، فأحله اللّه لهم. ٣٢٣٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: كانوا يتقون البـيوع والتـجارة أيام الـموسم، يقولون أيام ذكر، فأنزل اللّه : لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فحجوا. ٣٢٣١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: (لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فِـي مَوَاسِمِ الـحَج). ٣٢٣٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: لا بأس بـالتـجارة فـي الـحجّ، ثم قرأ: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ. ٣٢٣٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس قوله: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال: كان هذا الـحيّ من العرب لا يعرّجون علـى كسير ولا علـى ضالة ولا ينتظرون لـحاجة، وكانوا يسمونها لـيـلة الصدَر، ولا يطلبون فـيها تـجارة فأحلّ اللّه ذلك كله أن يعرجوا علـى حاجتهم، وأن يطلبوا فضلاً من ربهم. ٣حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن عبد الرحمن بن الـمهاجر، عن أبـي صالـح مولـي، عمر، قال: قلت لعمر: يا أمير الـمؤمنـين، كنتـم تتـجرون فـي الـحجّ؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا فـي الـحج. ٣٢٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن الـمسيب، عن رجل من بنـي تـيـم اللّه ، قال: جاء رجل إلـى عبد اللّه بن عمر، فقال: يا أبـا عبد الرحمن: إنا قوم نُكري فـيزعمون أنه لـيس لنا حج؟ قال: ألستـم تـحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلـى، قال: فأنت حاجّ جاء رجل إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ. ٣٢٣٥ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا إذا أفـاضوا من عرفـات لـم يتـجروا بتـجارة، ولـم يعرّجوا علـى كسير، ولا علـى ضالة فأحلّ اللّه ذلك، فقال: لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ... إلـى آخر الآية. ٣حدثنـي سعيد بن الربـيع الرازي، قال: حدثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، قال: كانت عكاظ ومـجنة وذو الـمـجاز أسواقا فـي الـجاهلـية، فكانوا يتـجرون فـيها، فلـما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جَناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فـي مواسم الـحج. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإذَا أفَضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: فإذَا أفَضْتُـمْ فإذا رجعتـم من حيث بدأتـم. ولذلك قـيـل للذي يضرب القداح بـين الأيسار مفـيض، لـجمعه القداح ثم إفـاضته إياها بـين الـياسرين، ومنه قول بشر بن أبـي خازم الأسدي: فَقُلْتُ لَهَا رُدّي إلَـيْهِ جَنَانَهُفَرَدّتْ كمَا رَدّ الـمَنِـيحَ مُفِـيضُ ثم اختلف أهل العربـية فـي عرفـات، والعلة التـي من أجلها صرفت وهي معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لـجماعة بقاع؟ فقال بعض نـحويـي البصريـين: هي اسم كان لـجماعة مثل مسلـمات ومؤمنات، سميت به بقعة واحدة فصرف لـمّا سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفـا قبل أن تسمى به البقعة تركا منهم له علـى أصله لأن التاء فـيه صارت بـمنزلة الـياء والواو فـي مسلـمين ومسلـمون لأنه تذكيره، وصار التنوين بـمنزلة النون، فلـما سمي به ترك علـى حاله كما يترك (الـمسلـمون) إذا سمي به علـى حاله قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سميّ به، ويشبه التاء بهاء التأنـيث وذلك قبـيح ضعيف. واستشهدوا بقوله الشاعر: تَنَوّرْتُها مِنْ أذْرِعَاتٍ وأهْلُهابَـيْثربَ أدنى دَارِهَا نَظَرٌ عالـي ومنهم من لا ينوّن أذرعات، وكذلك عانات، وهو مكان. وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: إنـما انصرفت عرفـات لأنهن علـى جماع مؤنث بـالتاء قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث بـالتاء، ثم سمّيتْ به رجلاً أو مكانا أو أرضا أو امرأة انصرفت. قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الـجماع إلا جماعا، ثم تـجعله بعد ذلك واحدا. وقال آخرون منهم: لـيست عرفـات حكاية، ولا هي اسم منقول ولكن الـموضع مسمى هو وجوانبه بعرفـات، ثم سميت بها البقعة اسم للـموضع، ولا ينفرد واحدها قال: وإنـما يجوز هذا فـي الأماكن والـمواضع، ولا يجوز ذلك فـي غيرها من الأشياء قال: ولذلك نصبت العرب التاء فـي ذلك لأنه موضع، ولو كان مـحكيا لـم يكن ذلك فـيه جائزا، لأن من سمى رجلاً مسلـمات أو بـمسلـمين لـم ينقله فـي الإعراب عما كان علـيه فـي الأصل، فلذلك خالف عانات وأذرعات ما سمي به من الأسماء علـى جهة الـحكاية. واختلف أهل العلـم فـي الـمعنى الذي من أجله قـيـل لعرفـات عرفـات فقال بعضهم: قـيـل لها ذلك من أجل أن إبراهيـم خـلـيـل اللّه صلوات اللّه علـيه لـما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفـات بذلك. وهذا القول من قائله يدل علـى أن عرفـات اسم للبقعة، وإنـما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سبـاسب، فتـجمع بـما حولها. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، عن أسبـاط، عن السدي، قال: لـما أذّن إبراهيـم فـي الناس بـالـحج، فأجابوه بـالتلبـية، وأتاه من أتاه أمره اللّه أن يخرج إلـى عرفـات ونعتها فخرج، فلـما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يردّه، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة. فطار فوقع علـى الـجمرة الثانـية، فصدّه أيضا، فرماه وكبر فطار فوقع علـى الـجمرة الثالثة، فرماه وكبر فلـما رأى أنه لا يطيقه، ولـم يدر إبراهيـم أين يذهب، انطلق حتـى أتـى ذا الـمـجاز، فلـما نظر إلـيه فلـم يعرفه جاز، فلذلك سمي ذا الـمـجاز. ثم انطلق حتـى وقع بعرفـات فلـما نظر إلـيها عرف النعت، قال: قد عرفتُ، فسمي عرفـات. فوقـف إبراهيـم بعرفـات، حتـى إذا أمسى ازدلف إلـى جمع، فسميت الـمزدلفة، فوقـف بجمع. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سلـيـمان التـيـمي، عن نعيـم بن أبـي هند، قال: لـما وقـف جبريـل بإبراهيـم علـيهما السلام بعرفـات، قال: عرفت، فسميت عرفـات لذلك. ٣حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن الـمسيب: قال علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه: بعث اللّه جبريـل إلـى إبراهيـم فحجّ به، فلـما أتـى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرّة قبل ذلك، ولذلك سميت عرفة. وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن مسلـم القرشي، عن أبـي طِهفة، عن أبـي الطفـيـل، عن ابن عبـاس قال: إنـما سميت عرفـات، لأن جبريـل علـيه السلام، كان يقول لإبراهيـم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فـ يقول: قد عرفت، فلذلك سميت عرفـات. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء قال: إنـما سميت عرفة أن جبريـل كان يُرِي إبراهيـم علـيهما السلام الـمناسك، فـ يقول: عرفتُ عرفت، فسمي عرفـات. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن زكريا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: قال ابن عبـاس : أصل الـجبل الذي يـلـي عُرَنة وما وراءه موقـف حتـى يأتـي الـجبل جبل عرفة وقال ابن أبـي نـجيح: عرفـات: النّبْعة والنّبَـيْعَة وذات النابت، وذلك قول اللّه : فإذَا أفَضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ وهو الشعب الأوسط. وقال زكريا: ما سال من الـجبل الذي يقـف علـيه الإمام إلـى عرفة، فهو من عرفة، وما دبَر ذلك الـجبل فلـيس من عرفة. وهذا القول يدلّ علـى أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد بـاسم الـجماعة الـمختلفة الأشخاص. وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الـجماع الذي كان له أصلاً، وإذا ترك صرفه ذهب به إلـى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى الـمعارف. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإذَا أفَضْتُـمْ فكررتـم راجعين من عرفة إلـى حيث بدأتـم الشخوص إلـيها منه فـاذْكُرُوا اللّه يعنـي بذلك الصلاة، والدعاء عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ. وقد بـينا قبل أن الـمشاعر هي الـمعالـم من قول القائل: شعرت بهذا الأمر: أي علـمت، فـالـمشعر هو الـمَعْلَـم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده والـمقام والـمبـيت والدعاء من معالـم الـحجّ وفروضه التـي أمر اللّه بها عبـاده. وقد: ٣٢٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن زكريا، عن ابن أبـي نـجيح، قال: يستـحبّ للـحاج أن يصلـي فـي منزله بـالـمزدلفة إن استطاع، وذلك أن اللّه قال: فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هَدَاكُمْ. فأما الـمشعر فإنه هو ما بـين جبلـي الـمزدلفة من مَأزِمي عرفة إلـى مـحسر، ولـيس مأزما عرفة من الـمشعر. وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٢٣٧ـحدثنا هناد بن السريّ قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون علـى الـجبـيـل بجمع فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر. ٣٢٣٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله: فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ قال: هو الـجبل وما حوله. ٣٢٣٩ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن حكيـم بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: ما بـين الـجبلـين اللذين بجمع مشعر. ٣٢٤٠ـحدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبـير، مثله. ٣٢٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثنـي أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن سعيد بن جبـير، قال: سألته عن الـمشعر الـحرام فقال: ما بـين جبلـي الـمزدلفة. ٣٢٤٢ـحدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالـم، عن ابن عمر، قال: الـمشعر الـحرام: الـمزدلفة كلها. قال معمر: وقاله قتادة. ٣٢٤٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، قال: أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبـير: فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ قال: ما بـين جبلـي الـمزدلفة هو الـمشعر الـحرام. ٣٢٤٤ـحدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا أبـي، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون، قال: سألت عبد اللّه بن عمر عن الـمشعر الـحرام، فقال: إذا انطلقت معي أعلـمتكه قال: فـانطلقت معه، فوقـفنا حتـى إذا أفـاض الإمام سار وسرنا معه، حتـى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا فـي أقصى الـجبـال مـما يـلـي عرفـات قال: أين السائل عن الـمشعر الـحرام؟ أخذت فـيه، قلت: ما أخذت فـيه؟ قال: كلها مشاعر إلـى أقصى الـحرم. ٣٢٤٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيـل، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون الأوديّ، قال: سألت عبد اللّه بن عمر، عن الـمشعر الـحرام قال: إن تلزمنـي أركه قال: فلـما أفـاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب فـي أدنى الـجبـال، قال: أين السائل عن الـمشعر الـحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك، قال: أخذتَ فـيه، قلت: ما أخذت فـيه؟ قال: حين هبطت أيدي الركاب فـي أدنى الـجبـال فهو مشعر إلـى مكة. ٣٢٤٦ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي، قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن الـمشعر الـحرام؟ فقال: الْزَمْنـي فلـما كان من الغد وأتـينا الـمزدلفة، قال: أين السائل عن الـمشعر الـحرام؟ هذا الـمشعر الـحرام. ٣٢٤٧ـحدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: الـمشعر الـحرام: الـمزدلفة كلها. ٣٢٤٨ـحدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أين الـمزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزِمي عرفة، فذلك إلـى مـحسّر قال: ولـيس الـمأزمان مأزما عرفة من الـمزدلفة، ولكنّ مفـاضاهما قال: قـف بـينهما إن شئت، وأحبّ إلـيّ أن تقـف دون قُزَح، هلـمّ إلـينا من أجل طريق الناس. ٣٢٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: رآهم ابن عمر يزدحمون علـى قزح، فقال علام يزدحم هؤلاء كل ما ههنا مشعر. ٣٢٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـمشعر الـحرام الـمزدلفة كلها. ٣٢٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٢٥٢ـحدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فإذَا أفَضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ وذلك لـيـلة جمع. قال قتادة: كان ابن عبـاس يقول: ما بـين الـجبلـين مشعر. ٣٢٥٣ـحدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الـمشعر الـحرام هو ما بـين جبـال الـمزدلفة، ويقال: هو قرن قزح. ٣٢٥٤ـحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ وهي الـمزدلفة، وهي جمع. وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما: ٣٢٥٥ـ حدثنا به هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: لـم أجد أحدا يخبرنـي عن الـمشعر الـحرام. ٣٢٥٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: الـمشعر الـحرام: ما بـين جبلـي مزدلفة. ٣٢٥٧ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قـيس، عن حكيـم بن جبـير، عن سعيد بن جبـير، قال: سألت ابن عمر عن الـمشعر الـحرام؟ فقال: ما أدري، وسألت ابن عبـاس ، فقال: ما بـين الـجبلـين. ٣٢٥٨ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل: عن أبـي إسحاق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس قال: الـجبـيـل وما حوله مشاعر. ٣٢٥٩ـحدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن ثوير، قال: وقـفت مع مـجاهد علـى الـجبـيـل، فقال: هذا الـمشعر الـحرام. ٣٢٦٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، الـجبـيـل وما حوله مشاعر. وإنـما جعلنا أول حدّ الـمشعر مـما يـلـي منى منقطع وادي مـحسر مـما يـلـي الـمزدلفة، لأن ٣٢٦١ـالـمثنى، حدثنـي قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن زيد بن أسلـم، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (عَرَفَةُ كُلّها مَوْقِـفٌ إلا عُرَنَةَ، وَجمْعٌ كُلّها مَوْقِـفٌ إلا مُـحَسّرا). ٣٢٦٢ـحدثنـي يعقوب، قال: ثنـي هشيـم، عن حجاج، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عبد اللّه بن الزبـير، أنه قال: كل مزدلفة موقـف إلا وادي مـحسر. ٣٢٦٣ـحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن حجاج، قال: أخبرنـي من سمع عروة بن الزبـير يقول مثل ذلك. ٣٢٦٤ـحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن هشام بن عروة، قال: قال عبد اللّه بن الزبـير فـي خطبته: تَعَلّـمُنّ أن عرفة كلها موقـف إلا بطن عرنة، تعلّـمُنّ أن مزدلفة كلها موقـف إلا بطن مـحسر. غير أن ذلك وإن كان كذلك فإنـي أختار للـحاج أن يجعل وقوفه لذكر اللّه من الـمشعر الـحرام علـى قزح وما حوله، لأن: ٣٢٦٥ـأبـا كريب حدثنا ، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، عن إبراهيـم بن إسماعيـل بن مـجمع، عن عبد الرحمن بن الـحرث الـمخزومي، عن زيد بن علـيّ، عن عبـيد اللّه بن أبـي رافع، عن علـيّ قال: لـما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالـمزدلفة، غدا فوقـف علـى قزح، وأردف الفضل، ثم قال: (هذا الـمَوْقِـفُ، وكل مُزْدِلفة مَوْقِـفٌ). ٣٢٦٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن مـجمع، عن عبد الرحمن بن الـحرث، عن زيد بن علـيّ بن الـحسين، عن عبـيد اللّه بن أبـي رافع عن أبـي رافع، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. ٣٢٦٧ـ حدثنا هناد وأحمد الدولابـي، قالا: حدثنا سفـيان، عن ابن الـمنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الـحويرث، قال: رأيت أبـا بكر واقـفـا عل قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا أيها الناس أصبحوا ثم دفع. ٣٢٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عبد اللّه بن عثمان، عن يوسف بن ماهك، حججت مع ابن عمر، فلـما أصبح بجمع صلـى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتـى وقـف مع الإمام علـى قزح، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته. وأما قول عبد اللّه بن عمر حين صار بـالـمزدلفة: (هذا كله مشاعر إلـى مكة)، فإن معناه أنها معالـم من معالـم الـحج ينسك فـي كل بقعة منها بعض مناسك الـحجّ، لا أن كل ذلك الـمشعر الـحرام الذي يكون الواقـف حيث وقـف منه إلـى بطن مكة قاضيا ما علـيه من الوقوف بـالـمشعر الـحرام من جمع. وأما قول عبد الرحمن بن الأسود: (لـم أجد أحدا يخبرنـي عن الـمشعر الـحرام) فلأنه يحتـمل أن يكون أراد: لـم أجد أحدا يخبرنـي عن حدّ أوله ومنتهى آخره علـى حقه وصدقه لأن حدود ذلك علـى صحتها حتـى لا يكون فـيها زيادة ولا نقصان لا يحيط بها إلا القلـيـل من أهل الـمعرفة بها، غير أن ذلك وإن لـم يقـف علـى حدّ أوله ومنتهى آخره وقوفـا لا زيادة فـيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الـحاجة للوقوف لاخفـاء به علـى أحد من سكان تلك الناحية وكثـير من غيرهم، وكذلك سائر مشاعر الـحجّ والأماكن التـي فرض اللّه عز وجل علـى عبـاده أن ينسكوا عندها كعرفـات ومنى والـحرم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُـمْ مِنْ قَبْلِهِ لَـمِنْ الضالّـينَ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: واذكروا اللّه أيها الـمؤمنون عند الـمشعر الـحرام بـالثناء علـيه، والشكر له علـى أياديه عندكم، ولـيكن ذكركم إياه بـالـخضوع لأمره، والطاعة له والشكر علـى ما أنعم علـيكم من التوفـيق، لـما وفقكم له من سنن إبراهيـم خـلـيـله بعد الذي كنتـم فـيه من الشرك والـحيرة والعمى عن طريق الـحقّ وبعد الضلالة كذكره إياكم بـالهدى، حتـى استنقذكم من النار به بعد أن كنتـم علـى شفـا حفرة منها، فنـجاكم منها. وذلك هو معنى قوله: كمَا هَدَاكُمْ. وأما قوله: وَإنْ كُنْتُـمْ مِنْ قَبْلِهِ لَـمِنَ الضّالّـينَ فإن من أهل العربـية من يوجه تأويـل (إن) إلـى تأويـل (ما)، وتأويـل اللام التـي فـي (لَـمِنَ) إلـى (إلا). فتأويـل الكلام علـى هذا الـمعنى: وما كنتـم من قبل هداية اللّه إياكم لـما هداكم له من ملة خـلـيـله إبراهيـم التـي اصطفـاها لـمن رضي عنه من خـلقه إلا من الضالـين. ومنهم من يوجه تأويـل (إن) إلـى (قد)، فمعناه علـى قول قائل هذه الـمقالة: واذكروا اللّه أيها الـمؤمنون كما ذكركم بـالهدى، فهداكم لـما رضيه من الأديان والـملل، وقد كنتـم من قبل ذلك من الضالـين. ١٩٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثم أفـيضوا من حيث أفـاض الناس} اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، ومَن الـمعنـيّ بـالأمر بـالإفـاضة من حيث أفـاض الناس، ومَنِ الناسُ الذين أمروا بـالإفـاضة من موضع إفـاضتهم. فقال بعضهم: الـمعنـيّ بقوله: ثمّ أفِـيضُوا قريش، ومن ولدته قريش الذين كانوا يسمون فـي الـجاهلـية الـحمس، أمروا فـي الإسلام أن يفـيضوا من عرفـات، وهي التـي أفـاض منها سائر الناس غير الـحمس. وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش، كانوا يقولون: لا نـخرج من الـحرم. فكانوا لا يشهدون موقـف الناس بعرفة معهم، فأمرهم اللّه بـالوقوف معهم. ذكر من قال ذلك: ٣٢٦٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن عبد الرحمن الطفـاوي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبـيه. عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان علـى دينها وهم الـحمس، يقـفون بـالـمزدلفة يقولون: نـحن قَطِين اللّه ، وكان من سواهم يقـفون بعرفة. فأنزل اللّه : ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ. ٣٢٧٠ـحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا أبـان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلـى عبد الـملك بن مروان كتبتَ إلـيّ فـي قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لرجل من الأنصار (إنّـي أحْمَس) وإنـي لا أدري أقالها النبـيّ أم لا؟ غيرأنـي سمعتها تُـحدّث عنه. والـحمس: ملة قريش، وهم مشركون، ومَن ولدت قريش فـي خزاعة وبنـي كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة، إنـما كانوا يدفعون من الـمزدلفة وهو الـمشعر الـحرام، وكانت بنو عامر حمسا، وذلك أن قريشا ولدتهم، ولهم قـيـل: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ وأن العرب كلها كانت تفـيض من عرفة إِلا الـحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من الـمزدلفة. ٣٢٧١ـحدثنـي أحمد بن مـحمد الطوسي، قال: حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفـيان، عن حسين بن عبـيد اللّه ، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كانت العرب تقـف بعرفة، وكانت قريش تقـف دون ذلك بـالـمزدلفة، فأنزل اللّه : ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ فرفع النبـي صلى اللّه عليه وسلم الـموقـف إلـى موقـف العرب بعرفة. ٣٢٧٢ـحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عبد الـملك، عن عطاء: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ من حيث تُفـيض جماعة الناس. ٣٢٧٣ـحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم، قال: حدثنا ، عن عبد اللّه بن أبـي طلـحة، عن مـجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط اللّه إلـى السماء الدنـيا فـي الـملائكة، فـ يقول: هلّـم إلـيّ عبـادي، آمنوا بوعدي وصَدّقوا رسلـي فـ يقول: ما جزاؤهم؟ فـيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللّه إنّ اللّه غَفُورٌ رحيـمٌ. ٣٢٧٤ـحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ قال: عرفة قال: كانت قريش تقول: نـحن الـحمس أهل الـحرم ولا نـخـلّفُ الـحرم ونفـيض عن الـمزدلفة. فأُمروا أن يبلغوا عرفة. ٣٢٧٥ـحدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ، قال قتادة: وكانت قريش وكل حلـيف لهم وبنـي أخت لهم لا يفـيضون من عرفـات، إنـما يفـيضون من الـمغَمّس ويقولون: إنـما نـحن أهل اللّه ، فلا نـخرج من حرمه. فأمرهم اللّه أن يفـيضوا من حيث أفـاض الناس من عرفـات، وأخبرهم أن سُنّة إبراهيـم وإسماعيـل هكذا: الإفـاضة من عرفـات. ٣٢٧٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ قال: كانت العرب تقـف بعرفـات، فتُعظم قريشٌ أن تقـف معهم، فتقـف قريشٌ بـالـمزدلفة فأمرهم اللّه أن يفـيضوا مع الناس من عرفـات. ٣٢٧٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ، قال: كانت قريش وكل ابن أخت وحلـيف لهم لا يفـيضون مع الناس من عرفـات، يقـفون فـي الـحرم ولا يخرجون منه، يقولون: إنـما نـحن أهل حرم اللّه فلا نـخرج من حرمه. فأمرهم اللّه أن يفـيضوا من حيث أفـاض الناس وكانت سُنّة إبراهيـم وإسماعيـل الإفـاضة من عرفـات. ٣٢٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، قال: كانت قريش لا أدري قبل الفـيـل أو بعده ابتدعت أمْرَ الـحمس، رأيا رأوه بـينهم قالوا: نـحن بنو إبراهيـم وأهل الـحرمة وولاة البـيت وقاطنو مكة وساكنوها، فلـيس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظّموا شيئا من الـحِلّ كما تعظمون الـحرم، فإنكم إن فعلتـم ذلك استـخفّت العرب بحرمكم، و قالوا: قد عظموا من الـحل مثل ما عظموا من الـحرم. فتركوا الوقوف علـى عرفة، والإفـاضة منها، وهم يعرفون ويقرّون أنها من الـمشاعر والـحجّ ودين إبراهيـم، ويرون لسائر الناس أن يقـفوا علـيها، وأن يفـيضوا منها. إلا أنهم قالوا: نـحن أهل الـحرم، فلـيس ينبغي لنا أن نـخرج من الـحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نـحن الـحمس والـحمس: أهل الـحرم ثم جعلوا لـمن ولدوا من العرب من ساكنـي الـحلّ مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فـيحلّ لهم ما يحلّ لهم، ويحرم علـيهم ما يحرم علـيهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخـلوا معهم فـي ذلك، ثم ابتدعوا فـي ذلك أمورا لـم تكن، حتـى قالوا: لا ينبغي للـحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلئوا السمن وهم حُرُم، ولا يدخـلوا بـيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فـي بـيوت الأدم ما كانوا حراما، ثم رفعوا فـي ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الـحلّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الـحلّ فـي الـحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بـالبـيت إذا قدموا أوّل طوافهم إلا فـي ثـياب الـحمس، فإن لـم يجدوا منها شيئا طافوا بـالبـيت عراة. فحملوا علـى ذلك العرب فدانت به، وأخذوا بـما شرعوا لهم من ذلك، فكانوا علـى ذلك حتـى بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه حين أحكم له دينه وشرع له حجته: ثُمّ أفـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفرُوا اللّه إنّ اللّه غَفُورٌ رَحيـمٌ يعنـي قريشا والناس العرب. فرفعهم فـي سنة الـحجّ إلـى عرفـات، والوقوف علـيها، والإفـاضة منها فوضع اللّه أمر الـحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بـالإسلام حين بعث اللّه رسوله. ٣٢٧٩ـ حدثنا بحر بن نصر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن أبـي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قال: كانت قريش تقـف بقزح، وكان الناس يقـفون بعرفة قال: فأنزل اللّه : ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ. وقال آخرون: الـمخاطبون بقوله: ثُمّ أفِـيضُوا الـمسلـمون كلهم، والـمعنـيّ بقوله: مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ من جمع، وبـالناس إبراهيـم خـلـيـل الرحمن علـيه السلام. ذكر من قال ذلك: ٣٢٨٠ـ حدثت عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا هارون بن معاوية الفزاري، عن أبـي بسطام عن الضحاك ، قال: هو إبراهيـم. والذي نراه صوابـا من تأويـل هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متـحمسا معها من سائر العرب لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك تأويـله. وإذ كان ذلك كذلك فتأويـل الآية: فمن فرض فـيهن الـحجّ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فـي الـحج، ثم أفـيضوا من حيث أفـاض الناس، واستغفروا اللّه إن اللّه غفور رحيـم، وما تفعلوا من خير يعلـمه اللّه . وهذا إذ كان ما وصفنا تأويـله فهو من الـمقدّم الذي معناه التأخير، والـمؤخر الذي معناه التقديـم، علـى نـحو ما تقدم بـياننا فـي مثله، ولولا إجماع من وصفت إجماعه علـى أن ذلك تأويـله. لقلت: أولـى التأويـلـين بتأويـل الآية ما قاله الضحاك من أن اللّه عنى بقوله: مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ من حيث أفـاض إبراهيـم لأن الإفـاضة من عرفـات لا شك أنها قبل الإفـاضة من جمع، وقبل وجوب الذكر عند الـمشعر الـحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك وكان اللّه عز وجل إنـما أمر بـالإفـاضة من الـموضع الذي أفـاض منه الناس بعد انقضاء ذكر الإفـاضة من عرفـات وبعد أمره بذكره عند الـمشعر الـحرام، ثم قال بعد ذلك: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ كان معلوما بذلك أنه لـم يأمر بـالإفـاضة إلا من الـموضع الذي لـم يفـيضوا منه دون الـموضع الذي قد أفـاضوا منه، وكان الـموضع الذي قد أفـاضوا منه فـانقضى وقت الإفـاضة منه، لا وجه لأن يقال: أفض منه. فإذا كان لا وجه لذلك وكان غير جائز أن يأمر اللّه جل وعز بأمر لا معنى له، كانت بـيّنة صحة ما قاله من التأويـل فـي ذلك، وفساد ما خالفه لولا الإجماع الذي وصفناه وتظاهر الأخبـار بـالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويـل. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه: والناس جماعة، وإبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم واحد، واللّه تعالـى ذكره يقول: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ؟ قـيـل: إن العرب تفعل ذلك كثـيرا، فتدلّ بذكر الـجماعة علـى الواحد. ومن ذلك قول اللّه عزّ وجل: الّذين قاَل لهُمْ النّاسَ إنّ النّاسُ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والذي قال ذلك واحد، وهو فـيـما تظاهرت به الرواية من أهل السير نعيـم بن مسعود الأشجعي، ومنه قول اللّه عز وجل: يا ايّها الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبـات وَاعْمَلُوا صَالـحا قـيـل: عنى بذلك النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. ونظائر ذلك فـي كلام العرب أكثر من أن تـحصى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاسْتَغْفِرُوا اللّه إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإذَا أفضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ منصرفـين إلـى منى فـاذْكُرُوا اللّه عِنْدَ الـمَشْعَر الـحَرَامِ وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته، فوفقكم لـما ارتضى لـخـلـيـله إبراهيـم، فهداه له من شريعة دينه بعد أن كنتـم ضلالاً عنه. وفـي (ثُمّ) فـي قوله: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ من التأويـل وجهان: أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفـيضوا فـانصرفوا راجعين إلـى منى من حيث أفـاض إبراهيـم خـلـيـلـي من الـمشعر الـحرام، وسلونـي الـمغفرة لذنوبكم، فإنـي لها غفور، وبكم رحيـم. كما: ٣٢٨١ـ حدثنـي إسماعيـل بن سيف العجلـي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السريّ السلـمي، قال: حدثنا ابن كنانة، ويكنى أبـا كنانة، عن أبـيه، عن العبـاس بن مرداس السلـمي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (دَعَوْتُ اللّه يَوْمَ عَرَفَةَ أنْ يَغْفِرَ لأمّتِـي ذُنُوبَها، فأجابَنِـي أنْ قَدْ غَفَرْتُ، إلاّ ذُنُوبَها بَـيْنَها وَبْـينَ خَـلْقِـي، فأعَدْت الدّعاءَ يَوْمَئِذٍ، فَلَـمْ أُجَبْ بِشَيْءٍ، فَلَـمّا كانَ غَدَاةَ الـمُزْدَلفة قلْتُ: يا رَبّ إنّكَ قادرٌ أنْ تُعَوّضَ هَذَا الـمَظْلُومَ منْ ظُلامَتِهِ، وتَغْفِرَ لِهَذَا الظّالِـمِ، فأجَابِنـي أنْ قَدْ غَفَرْتُ) قال: فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأيناك تضحك فـي يوم لـم تكن تضحك فـيه؟ قال: (ضحكت مِنْ عَدُوّ اللّه إبْلِـيسَ لَـمّا سَمِعَ بِـمَا سَمِعَ إذَا هُوَ يَدْعُو بـالْوَيْـلِ وَالثُبُوِر، وَيَضَعُ التّرَابَ علـى رأسِهِ). ٣٢٨٢ـحدثنا مسلـم بن حاتـم الأنصاري، قال: حدثنا بشار بن بكير الـحنفـي، قالا: حدثنا عبد العزيز بن أبـي روّاد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشية عرفة، فقال: (أيّها النّاسُ إنّ اللّه تَطَوّلُ عَلَـيْكُمْ فِـي مَقامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُـحْسِنِكُمْ، وأعْطَى مُـحْسِنَكُمْ ما سألَ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِـمُـحْسِنِكُمْ إلاّ التّبِعاتِ فِـيـما بَـيْنَكُمْ أفِـيضُوا علـى اسْمِ اللّه ) فلـما كان غداة جمع قال: (أيّها النّاسِ إنّ اللّه قَدْ تَطَوّلَ عَلَـيْكُمْ فـي مَقامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُـحْسِنِكُمْ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمُ لِـمُـحْسِنِكُمْ، والتّبِعاتِ بَـيْنَكُمْ عَوّضَها مِنْ عِنْدِهِ أفِـيضُوا علـى اسْمِ اللّه ) فقال أصحابه: يا رسول اللّه أفضت بنا بـالأمس كئيبـا حزينا، وأفضت بنا الـيوم فرحا مسرورا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّـي سألْتُ رّبـي بـالأمْسِ شَيْئا لَـمْ يَجُدْ لـي بِهِ، سألتُه التّبِعات فأبى علـيّ، فَلَـمّا كانَ الـيَوْمُ أتانـي جِبْرِيـلُ قال: إنّ رَبّكَ يُقْرِئُكَ السّلامَ ويَقُول التّبِعاتُ ضَمِنْتُ عِوَضَها مِنْ عِنْدِي). فقد بـين هذان الـخبران أن غفران اللّه التبعات التـي بـين خـلقه فـيـما بـينهم إنـما هو غداة جمع، وذلك فـي الوقت الذي قال جل ثناؤه: ثمّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللّه لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذٍ، تفضلاً منه علـيكم، رحيـم بكم. والاَخر منهما: ثم أفـيضوا من عرفة إلـى الـمشعر الـحرام، فإذا أفضتـم إلـيه منها فـاذكروا اللّه عنده كما هداكم. ٢٠٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى:. {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه ... } يعنـي بقول جل ثناؤه: فَإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فإذا فرغتـم من حجكم فذبحتـم نسائككم، فـاذْكُرُوا اللّه يقال منه: نسك الرجل ينسك نُسْكا ونُسُكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه، والـمنسك: اسم مثل الـمشرق والـمغرب. فأما النسك فـي الدين، فإنه يقال منه ما كان الرجل ناسكا، ولقد نَسَك، وَنسُك نُسْكا ونُسُكا ونساكة، وذلك إذا تقرأ. وبـمثل الذي قلنا فـي معنى الـمناسك فـي هذا الـموضع قال مـجاهد. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ قال: إهراقة الدماء. ٣٢٨٣ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وأما قوله: فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي صفة ذكر القوم إبـاءكم الذين أمرهم اللّه أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم إبـاءهم أو أشدّ ذكرا، فقال بعضهم: كان القوم فـي جاهلـيتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتـمعون فـيتفـاخرون بـمآثر آبـائهم، فأمرهم اللّه فـي الإسلام أن يكون ذكرهم بـالثناء والشكر والتعظيـم لربهم دون غيره، وأن يـلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره نظير ما كانوا ألزموا أنفسهم فـي جاهلـيتهم من ذكر آبـائهم. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس فـي هذه الآية، قال: كانوا يذكرون آبـاءهم فـي الـحج، فـيقول بعضهم: كان أبـي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبـي يضرب بـالسيف، ويقول بعضهم: كان أبـي جزّ نواصي بنـي فلان. ٣وحدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز، عن مـجاهد قال: كانوا يقولون: كان آبـاؤنا ينـحرون الـجزر، ويفعلون كذا، فنزلت هذه الآية: اذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ اشَدّ ذِكْرا. ٣حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن أبـي وائل: فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال: كان أهل الـجاهلـية يذكرون فعال آبـائهم. ٣٢٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبـا بكر بن عياش، قال: كان أهل الـجاهلـية إذا فرغوا من الـحجّ قاموا عند البـيت فـيذكرون آبـائهم وأيامهم: كان أبـي يطعم الطعام، وكان أبـي يفعل، فذلك قوله: فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ. قال أبو كريب: قلت لـيحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبـي وائل. ٣٢٨٥ـ وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنـي حجاج عمن حدثه، عن مـجاهد فـي قوله: اذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقـفوا عند الـجمرة فذكروا آبـاءهم، وذكروا أيامهم فـي الـجاهلـية وفعال آبـائهم، فنزلت هذه الآية. ٣٢٨٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن عبد الـملك، عن قـيس، عن مـجاهد فـي قوله: فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وقـفوا عند الـجمرة، وذكروا أيامهم فـي الـجاهلـية وفعال آبـائهم قال: فنزلت هذه الآية. ٣٢٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْركُمْ آبـاءَكُمْ قال: تفـاخرت العرب بـينها بفعل آبـائها يوم النـحر حين فرغوا فأمروا بذكر اللّه مكان ذلك. ٣٢٨٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه. ٣٢٨٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ قال قتادة: كان أهل الـجاهلـية إذا قضوا مناسكهم بـمنى قعدوا حلقا، فذكروا صنـيع آبـائهم فـي الـجاهلـية وفعالهم به، يخطب خطيبهم ويحدّث مـحدّثهم، فأمر اللّه عزّ وجل الـمسلـمين أن يذكروا اللّه كذكر أهل الـجاهلـية آبـاءهم أو أشدّ ذكرا. ٣٢٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتـمعوا فـافتـخروا وذكروا آبـاءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكر اللّه ، يذكرونه كذكرهم آبـائهم، أو أشدّ ذكرا. ٣٢٩١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبـير وعكرمة قالا: كانوا يذكرون فعل آبـائهم فـي الـجاهلـية إذا وقـفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية. ٣٢٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول ذلك يوم النـحر حين ينـحرون قال: قال فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ قال: كانت العرب يوم النـحر حين يفرغون يتفـاخرون بفعال آبـائها، فأمروا بذكر اللّه عزّ وجل مكان ذلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فـاذكروا اللّه كذكر الأبناء والصبـيان الاَبـاء. ذكر من قال ذلك: ٣٢٩٣ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبـي روّاد، عن عطاء أنه قال فـي هذه الآية: كَذِكْركُمْ آبـاءَكُمْ قال: هو قول الصبـيّ: يا أبـاه. ٣٢٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك : فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ يعنـي بـالذكر، ذكر الأبناء الاَبـاء. ٣٢٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء: كَذِكْرِكُمْ آبـاَءكُمْ: أبه أمه. ٣٢٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا صالـح بن عمر، عن عبد الـملك، عن عطاء، قال: كالصبـيّ يـلهج بأبـيه وأمه. ٣٢٩٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: فَإذَا قَضَيَـيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْركُمْ آبـاَءكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا يقول: كذكر الأبناء الاَبـاء أو أشد ذكرا. ٣حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا يقول: كما يذكر الأبناء الاَبـاء. ٣حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ يعنـي ذكر الأبناء الاَبـاء. وقال آخرون: بل قـيـل لهم: اذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربهم لـم يذكروا غير آبـائهم فأمروا من ذكر اللّه بنظير ذكر آبـاءهم. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقاموا بـمنى يقوم الرجل فـيسأل اللّه و يقول: اللّه مّ إنّ أبـي كان عظيـم الـجفنة عظيـم القبة كثـير الـمال، فأعطنـي مثل ما أعطيت أبـي. لـيس يذكر اللّه ، إنـما يذكر آبـاءه، ويسأله أن يعطى فـي الدنـيا. والصواب من القول عندي فـي تأويـل ذلك أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه أمر عبـاده الـمؤمنـين بذكره بـالطاعة له فـي الـخضوع لأمره والعبـادة له بعد قضاء مناسكهم. وذلك الذكر جائز أن يكون هو التكبـير الذي أمر به جل ثناؤه بقوله: واذْكُرُوا اللّه فـي أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ الذي أوجبه علـى من قضى نسكه بعد قضائه نسكه، فألزمه حينئذٍ من ذكره ما لـم يكن له لازما قبل ذلك، وحثّ علـى الـمـحافظة علـيه مـحافظة الأبناء علـى ذكر الاَبـاء فـي الإكثار منه بـالاستكانة له والتضرّع إلـيه بـالرغبة منهم إلـيه فـي حوائجهم كتضرّع الولد لوالده والصبـيّ لأمه وأبـيه، أو أشدّ من ذلك إذ كان ما كان بهم وبآبـائهم من نعمة فمنه وهو ولـيه. وإنـما قلنا: الذكر الذي أمر اللّه جل ثناؤه به الـحاج بعد قضاء مناسكه بقوله: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُروا اللّه كَذِكْركُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا جائز أن يكون هو التكبـير الذي وصفنا من أجل أنه لا ذكر للّه أمر العبـاد به بعد قضاء مناسكهم لـم يكن علـيهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبـير الذي خصّ اللّه به أيام منى. فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أنه جل ثناؤه قد أوجب علـى خـلقه بعد قضائهم مناسكهم من ذكره ما لـم يكن واجبـا علـيهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خصّ به ذلك الوقت سوى التكبـير الذي ذكرناه، كانت بـينة صحة ما قلنا من تأويـل ذلك علـى ما وصفنا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ ربّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ أيها الـمؤمنون فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا وارغبوا إلـيه فـيـما لديه من خير الدنـيا والاَخرة بـابتهال وتـمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصا ولطلب مرضاته، وقولوا ربنا آتنا فـي الدنـيا حسنة وفـي الاَخرة حسنة وقنا عذا النار ولا تكونوا كمن اشترى الـحياة الدنـيا بـالاَخرة، فكانت أعمالهم للدنـيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظّ لهم فـي ثواب اللّه ، ولا نصيب لهم فـي جناته وكريـم ما أعدّ لأولـيائه، كما قال فـي ذلك أهل التأويـل. ٣حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن أبـي وائل: فَمِنَ النّاسِ مَن يقولُ ربّنَا آتِنا فـي الدّنـيَا هب لنا غنـما، هب لنا إبلاً وَمالَهُ فـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ٣٢٩٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن أبـي وائل، قال: كانوا فـي الـجاهلـية يقولون: هب لنا إبلاً، ثم ذكر مثله. ٣٢٩٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبـا بكر بن عياش فـي قوله: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَهُ فِـي الاَخِرَةٍ منْ خَلاقٍ قال: كانوا يعنـي أهل الـجاهلـية يقـفون يعنـي بعد قضاء مناسكهم فـيقولون: اللّه مّ ارزقنا إبلاً، اللّه مّ ارزقنا غنـما. فأنزل اللّه هذه الآية: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَهُ فِـي الاَخِرَة مِنْ خَلاقٍ. قال أبو كريب: قلت لـيحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبـي وائل. ٣٣٠٠ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَه فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال: كانوا يطوفون بـالبـيت عراة فـيدعون فـيقولون: اللّه مّ أسقنا الـمطر، وأعطنا علـى عدوّنا الظفر، وردّنا صالـحين إلـى صالـحين. ٣٣٠١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تبـارك وتعالـى: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا نصرا ورزقا، ولا يسألون لاَخرتهم شيئا. ٣٣٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٣٠٣ـ وحدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قول اللّه : فَمِنْ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فهذا عبد نوى الدنـيا لها عمل ولها نصب. ٣٣٠٤ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُول رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَمالَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بـمنى لا يذكر اللّه الرجلُ منهم، إنـما يذكر أبـاه، ويسأل أن يعطى فـي الدنـيا. ٣٣٠٥ـ وحدثنـي يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فإذَا قَضَيْتُـمْ مَناسِكَكُمْ فـاذْكُرُوا اللّه كَذِكْرِكُمْ آبـاءَكُمْ أوْ أشَدّ ذِكْرا قال: كانوا أصنافـا ثلاثة فـي تلك الـمواطن يومئذٍ: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأهل الكفر، وأهل النفـاق. فمن الناس من يقول: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَهُ فِـي الاَخِرة مِنْ خَلاقٍ إنـما حجوا للدنـيا والـمسألة لا يريدون الاَخرة ولا يؤمنون بها، ومنهم من يقول: رَبّنَا آتِنَا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً الآية قال: والصنف الثالث وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيَا... الآية. وأما معنى الـخلاق فقد بـيناه فـي غير هذا الـموضع، وذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي تأويـله والصحيح لدينا من معناه بـالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بـما فـيه كفـاية عن إعادته فـي هذا الـموضع. ٢٠١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وِمِنْهُمْ مّن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ } اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحسنة التـي ذكر اللّه فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: يعنـي بذلك: ومن الناس من يقول: ربنا أعطنا عافـية فـي الدنـيا وعافـية فـي الاَخرة: ذكر من قال ذلك: ٣٣٠٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال: فـي الدنـيا عافـية، وفـي الاَخرة عافـية. قال قتادة: وقال رجل: اللّه مّ ما كنت معاقبـي به فـي الاَخرة فعجله لـي فـي الدنـيا فمرض مرضا حتـى أضنى علـى فراشه، فذكر للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم شأنه، فأتاه النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقـيـل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّهُ لا طاقَةَ لأِحَدٍ بِعُقُوبَةِ اللّه ، وَلَكِنْ قُلْ: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنـيْا حَسَنَةً وفـي الاَخِرِةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّار) فقالها، فما لبث إلا أياما أو يسيرا حتـى برأ. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سعيد بن الـحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: ثنـي حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: عاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً قد صار مثل الفرخ الـمنتوف، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللّه بِشَيْءٍ، أوْ تَسألُ اللّه شَيْئا؟) قال: قلت: اللّه مّ ما كنت معاقبـي به فـي الاَخرة فعاقبنـي به فـي الدنـيا قال: (سُبْحانَ اللّه هَلْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أحَدٌ أوْ يُطِيقُهُ فهَلاّ قُلْتَ: اللّه مّ آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً، وفِـي الاَخِرَة حَسَنَةً، وَقِنا عَذَابَ النّارِ). وقال آخرون: بل عنى اللّه عز وجل بـالـحسنة فـي هذا الـموضع: فـي الدنـيا: العلـم والعبـادة، وفـي الاَخرة: الـجنة. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عبـاد، عن هشام بن حسان، عن الـحسن: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال: الـحسنة فـي الدنـيا: العلـم والعبـادة، وفـي الاَخرة: الـجنة. ٣٣٠٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن سفـيان بن حسين، عن الـحسن فـي قوله: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنـيْا حَسَنَةً، وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال: العبـادة فـي الدنـيا، والـجنة فـي الاَخرة. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار، قال: حدثنا عبـاد بن العوّام، عن هشام، عن الـحسن فـي قوله: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً قال: الـحسنة فـي الدنـيا: الفهم فـي كتاب اللّه والعلـم. ٣٣٠٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفـيان الثوري يقول هذه الآية: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال: الـحسنة فـي الدنـيا: العلـم والرزق الطيب، وفـي الاَخرة حسنة: الـجنة. وقال آخرون: الـحسنة فـي الدنـيا: الـمال، وفـي الاَخرة: الـجنة. ذكر من قال ذلك: ٣٣٠٩ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال: فهؤلاء النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنون. ٣٣١٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً هؤلاء الـمؤمنون أما حسنة الدنـيا فـالـمال، وأما حسنة الاَخرة فـالـجنة. والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيـمان به وبرسوله، مـمن حجّ بـيته، يسألون ربهم الـحسنة فـي الدنـيا، والـحسنة فـي الاَخرة، وأن يقـيهم عذاب النار. وقد تـجمعُ الـحسنة من اللّه عزّ وجل العافـية فـي الـجسم والـمعاش والرزق وغير ذلك والعلـم والعبـادةوأما فـي الاَخرة فلا شك أنها الـجنة، لأن من لـم ينلها يومئذٍ فقد حرم جميع الـحسنات وفـارق جميع معانـي العافـية. وإنـما قلنا إن ذلك أولـى التأويلات بـالآية لأن اللّه عز وجل لـم يخصص بقوله مخبرا عن قائل ذلك من معانـي الـحسنة شيئا، ولا نصب علـى خصوصه دلالة دالة علـى أن الـمراد من ذلك بعض دون بعض، فـالواجب من القول فـيه ما قلنا من أنه لا يجوز أن يخصّ من معانـي ذلك شيء، وأن يحكم بعمومه علـى ما عمه اللّه . وأما قوله: وَقِنا عَذَابَ النّارِ فإنه يعنـي بذلك: اصرف عنا عذاب النار، يقال منه: وقـيته، كذا أقـيه وقاية وواقـية ووقاء مـمدودا، وربـما قالوا: وقاك اللّه وَقْـيا: إذا دفعت عنه أذى أو مكروها. ٢٠٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُولَـَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ } يعنـي بقوله جل ثناؤه: أولئك الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم: رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسنَةً وفـي الاَخِرَة حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ رغبة منهم إلـى اللّه جل ثناؤه فـيـما عنده، وعلـما منهم بأن الـخير كله من عنده، وأن الفضل بـيده يؤتـيه من يشاء. فأعلـم جل ثناؤه أن لهم نصيبـا وحظا من حجهم ومناسكهم وثوابـا جزيلاً علـى عملهم الذي كسبوه، وبـاشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم خاصا ذلك لهم دون الفريق الاَخر الذين عانوا ما عانوا من نصب أعمالهم وتعبها، وتكلفوا ما تكلفوا من أسفـارهم بغير رغبة منهم فـيـما عند ربهم من الأجر والثواب، ولكن رجاء خسيس من عرض الدنـيا وابتغاء عاجل حطامها. كما: ٣٣١١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنـيْا وَما لَه فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال: فهذا عبد نوى الدنـيا لها عمل ولها نصب، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ مـمّـما كَسَبُوا أي حظ من أعمالهم. ٣٣١٢ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي: فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيا وَما لَهُ فِـي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إنـما حجوا للدنـيا والـمسألة، لا يريدون الاَخرة ولا يؤمنون بها، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِـي الدّنْـيَا حَسَنَةً وفِـي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال: فهؤلاء النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنون أُولَئِكَ لَهُمْ نَصيبٌ مـمّا كَسَبُوا وَاللّه سَرِيعُ الـحِسابِ لهؤلاء الأجر بـما عملوا فـي الدنـيا. وأما قوله: وَاللّه سَرِيعُ الـحِسابِ فإنه يعنـي جل ثناؤه: أنه مـحيط بعمل الفريقـين كلـيهما اللذين من مسألة أحدهما: ربنا آتنا فـي الدنـيا ومن مسألة الاَخر: ربنا آتنا فـي الدنـيا حسنة وفـي الاَخرة حسنة وقنا عذاب النار فمـحص له بأسرع الـحساب، ثم إنه مُـجازٍ كلا الفريقـين علـى عمله. وإنـما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الـحساب، لأنه جل ذكره يحصي ما يحصى من أعمال عبـاده بغير عقد أصابع ولا فكر ولا روية فعل العجزة الضعفة من الـخـلق، ولكنه لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فـيهما، ثم هو مـجاز عبـاده علـى كل ذلك فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الـحساب، وأخبر خـلقه أنه لـيس لهم بـمثل فـيحتاج فـي حسابه إلـى عقد كف أو وعي صدر. ٢٠٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرُواْ اللّه فِيَ أَيّامٍ مّعْدُودَاتٍ ...} يعنـي جل ذكره: اذكروا اللّه بـالتوحيد والتعظيـم فـي أيام مـحصيات، وهي أيام رمي الـجمار، أمر عبـاده يومئذٍ بـالتكبـير أدبـار الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من حصى الـجمار يرمي بها جمرة من الـجمار. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك: ٣٣١٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم: قال: حدثنا هشيـم، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَاذْكُروا اللّه فِـي أيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: أيام التشريق. ٣٣١٤ـ وحدثنـي مـحمد بن نافع البصري، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن هشيـم، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٣١٥ـ وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامٍ مَعَدُودَاتٍ يعنـي الأيام الـمعدودات أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النـحر. ٣٣١٦ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامٍ مَعْدُوداتٍ يعنـي أيام التشريق. ٣٣١٧ـ وحدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٣١٨ـ وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مخـلد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس : سمعه يوم الصدر يقول بعد ما صدر يكبر فـي الـمسجد ويتأوّل: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ. ٣٣١٩ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامِ مَعْدُوداتٍ يعنـي أيام التشريق. ٣٣٢٠ـ وحدثنا عبد الـحميد بن بـيان السكري، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن عطاء بن أبـي ربـاح في قول اللّه عز وجل: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: هي أيام التشريق. ٣٣٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء، مثله. ٣وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال أيام التشريق بـمنى. ٣حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن لـيث، عن مـجاهد وعطاء قالا: هي أيام التشريق. ٣٣٢٢ـ وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٣٢٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، مثله. ٣٣٢٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم قال: الأيام الـمعدودات: أيام التشريق. ٣٣٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، مثله. ٣٣٢٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا يونس، عن الـحسن، قال: الأيام الـمعدودات: الأيام بعد النـحر. ٣٣٢٧ـ وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت إسماعيـل بن أبـي خالد عن الأيام الـمعدوات، فقال: أيام التشريق. ٣٣٢٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامِ مَعْدُوداتٍ كنا نـحدّث أنها أيام التشريق. ٣٣٢٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامِ مَعْدُوداتٍ قال: هي أيام التشريق. ٣٣٣٠ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما الأيام الـمعدودات: فهي أيام التشريق. ٣٣٣١ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٣٣٣٢ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال: الأيام الـمعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النـحر. ٣٣٣٣ـ وحدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فِـي أيّامِ مَعْدُوداتٍ قال: أيام التشريق الثلاثة. ٣٣٣٤ـ وحدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: سألت ابن زيد عن الأيام الـمعدودات، والأيام الـمعلومات؟ فقال: الأيام الـمعدودات: أيام التشريق، والأيام الـمعلومات: يوم عرفة، ويوم النـحر، وأيام التشريق. وإنـما قلنا: إن الأيام الـمعدودات هي: أيام مِنى وأيام رمي الـجمار لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول فـيها: إنها أيام ذكر اللّه عز وجل. ذكر الأخبـار التـي رويت بذلك: ٣٣٣٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم وخلاد بن أسلـم، قال: حدثنا هشيـم، عن عمر بن أبـي سلـمة، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أيّامُ التّشْريق أيّامُ طُعْمٍ وَذِكْرٍ). ٣٣٣٦ـ وحدثنا خلاد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا صالـح، قال: ثنـي ابن شهاب، عن سعيد بن الـمسيب، عن أبـي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث عبد اللّه بن حذافة يطوف فـي منى: (لا تَصُومُوا هَذِهِ الأيّامَ فإنّهَا أيّامُ أكْلٍ وَشْرْبٍ وَذِكْرِ اللّه عَزّ وَجَلّ). ٣٣٣٧ـ وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال جميعا: حدثنا خالد، عن أبـي قلابة، عن أبـي الـملـيح، عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ هَذِهِ الأيّامَ أيّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللّه ). ٣٣٣٨ـ وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن عطاء، عن عائشة، قالت: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وقال: (هِيَ أيّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللّه ). ٣٣٣٩ـ وحدثنـي يعقوب، قال: ثنـي هشيـم، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث بشر بن سحيـم، فنادى فـي أيام التشريق، فقال: (إنّ هذهِ الأيامَ أيامُ أكلٍ وَشُربٍ وذكرِ اللّه ). ٣٣٤٠ـ وحدثنـي يعقوب قال: حدثنا هشيـم، عن سفـيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن حذافة بن قـيس فنادى فـي أيام التشريق فقال: (إنّ هَذِهِ الأيّامَ أيّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللّه ، إلاّ مَنْ كانَ علـيهِ صَوْمٌ مِنْ هَدْيٍ). ٣٣٤١ـ وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن مـحمد بن إسحاق، عن حكيـم بن حكيـم، عن مسعود بن الـحكم الزرقـي، عن أمه قالت: لكأنـي أنظر إلـى علـيّ رضي اللّه عنه علـى بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البـيضاء حين وقـف علـى شعب الأنصار وهو يقول: (أيّها النّاسُ إنّها لَـيْسَتْ بأيّام صِيامٍ، إنّـمَا هِيَ أيّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ). فإن قال قائل: إن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إذ قال فـي أيام منى: (إنّها أيّام أكْلٍ وَشُربٍ وَذِكْرِ اللّه ) لـم يخبر أمته أنها الأيام الـمعدودات التـي ذكرها اللّه فـي كتابه، فما تنكر أن يكون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عنى بقوله: وذكر اللّه : الأيام الـمعلومات؟ قـيـل: غير جائز أن يكون عنى ذلك، لأن اللّه لـم يكن يوجب فـي الأيام الـمعلومات من ذكره فـيها ما أوجب فـي الأيام الـمعدودات، وإنـما وصف الـمعلومات جل ذكره بأنها أيام يذكر فـيها اسم اللّه علـى بهائم الأنعام، فقال: لِـيَشْهَدوا مَنافِعَ لهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه فِـي أيّامٍ مَعْلُوماتٍ علـى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيـمَةِ الأنْعامِ فلـم يوجب فـي الأيام الـمعلومات من ذكره كالذي أوجبه فـي الأيام الـمعدودات من ذكره، بل أخبر أنها أيام ذكره علـى بهائم الأنعام. فكان معلوما إذ قال صلى اللّه عليه وسلم لأيام التشريق: (إنّها أيّامُ أكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللّه ) فأخرج قوله: (وذكْر اللّه )، مطلقا بغير شرط ولا إضافة، إلـى أنه الذكر علـى بهائم الأنعام، أنه عنى بذكر الذكر الذي ذكره اللّه فـي كتابه، فأوجبه علـى عبـاده مطلقا بغير شرط ولا إضافة إلـى معنى فـي الأيام الـمعدودات. وأنه لو كان أراد بذلك صلى اللّه عليه وسلم وصف الأيام الـمعلومات به، لوصل قوله: (وذكر)، إلـى أنه ذكر اللّه علـى ما رزقهم من بهائم الأنعام، كالذي وصف اللّه به ذلك ولكنه أطلق ذلك بـاسم الذكر من غير وصله بشيء، كالذي أطلقه تبـارك وتعالـى بـاسم الذكر، فقال: وَاذْكُرُوا اللّه فِـي أيّامِ مَعْدُوداتٍ فكان ذلك من أوضح الدلـيـل علـى أنه عنى بذلك ما ذكره اللّه فـي كتابه وأوجبه فـي الأيام الـمعدودات. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تَأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ لِـمَنِ اتّقَـى. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فمن تعجل فـي يومين من أيام التشريق للنفر فـي الـيوم الثانـي فلا إثم علـيه فـي نفره وتعجله فـي النفر، ومن تأخر عن النفر فـي الـيوم الثانـي من أيام التشريق إلـى الـيوم الثالث حتـى ينفر فـي الـيوم الثالث فلا إثم علـيه فـي تأخره. ذكر من قال ذلك: ٣٣٤٢ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا هشيـم، عن عطاء، قال: لا إثم علـيه فـي تعجيـله، ولا إثم علـيه فـي تأخيره. ٣٣٤٣ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، عن عوف، عن الـحسن، مثله. ٣٣٤٤ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن عكرمة، مثله. ٣٣٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْنِ يوم النفر فَلا إثْمَ عَلَـيْه لا حرج علـيه وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْه. ٣٣٤٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما من تعجل فـي يومين فلا إثم علـيه، يقول: من نفر فـي يومين فلا جناح علـيه، ومن تأخر فنفر فـي الثالث فلا جناح علـيه. ٣٣٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْنِ يقول: فمن تعجل فـي يومين: أي من أيام التشريق فلا إثم علـيه، ومن أدركه اللـيـل بـمنى من الـيوم الثانـي من قبل أن ينفر فلا نفر له حتـى تزول الشمس من الغد. ومن تأخّرَ فلا إثْمَ عَلَـيْه يقول: من تأخر إلـى الـيوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم علـيه. ٣٣٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فـي يَوْمَينِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: رخص اللّه فـي أن ينفروا فـي يومين منها إن شاءوا، ومن تأخر فـي الـيوم الثالث فلا إثم علـيه. ٣٣٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيـم أنه قال فـي هذه الآية: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال فـي تعجيـله. ٣٣٥٠ـ وحدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: حدثنا إسرائيـل، عن منصور، عن إبراهيـم قال: لا إثم علـيه: لا إثم علـى من تعجل، ولا إثم علـى من تأخر. ٣٣٥١ـ وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيـل، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: هذا فـي التعجيـل. ٣٣٥٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك وإسرائيـل، عن زيد بن جبـير، قال: سمعت ابن عمر يقول: حلّ النفر فـي يومين لـمن اتقـى. ٣٣٥٣ـ وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس . فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثمَ عَلَـيْهِ فـي تعجله وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فـي تأخره. ٣٣٥٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أللـمكيّ أن ينفر فـي النفر الأول؟ قال: نعم، قال اللّه عز وجل: فَمَنْ تَعَجّلَ فـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فهي للناس أجمعين. ٣٣٥٥ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: لـيس علـيه إثم. ٣٣٥٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن بعد يوم النـحر فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ يقول: من نفر من منى فـي يومين بعد النـحر فلا إثم علـيه، ومن تأخر فلا إثم علـيه فـي تأخره، فلا حرج علـيه. ٣٣٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فـي تعجله وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فـي تأخره. وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل فـي يومين فهو مغفور له لا إثم علـيه، ومن تأخر كذلك. ذكر من قال ذلك: ٣٣٥٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن ثوير، عن أبـيه، عن عبد اللّه : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تَأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: لـيس علـيه إثم. ٣٣٥٩ـ وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حماد، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ أي غفر له وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: غفر له. ٣٣٦٠ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ أي غفر له. ٣٣٦١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـمـحاربـي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا. عن سفـيان، عن حماد، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه فـي قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: قد غفر له. ٣٣٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن سفـيان، عن حماد، عن إبراهيـم فـي قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قد غفر له. ٣٣٦٣ـ وحدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه قال فـي هذه الآية: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: برىء من الإثم. ٣٣٦٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن علـيّ بن زيد، عن الـحسن، عن ابن عمر: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثمَ عَلَـيْهِ قال: رجع مغفورا له. ٣٣٦٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: قد غفر له. ٣٣٦٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن جابر، عن أبـي عبد اللّه ، عن ابن عبـاس : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: قد غفر له، إنهم يتأولونها علـى غير تأويـلها، إن العمرة لتكفر ما معها من الذنوب فكيف بـالـحج؟. ٣٣٦٧ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي حصين، عن إبراهيـم وعامر: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثمَ عَلَـيْهِقالا: غفر له. ٣٣٦٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنـي من أصدّقه، عن ابن مسعود قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: خرج من الإثْم كله وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْه قال: برىء من الإثم كله، وذلك فـي الصدَر عن الـحجّ. قال ابن جريج: وسمعت رجلاً يحدّث عن عطاء بن أبـي ربـاح، عن علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: فلا إثم علـيه، قال: غفر له، ومن تأخر فلا إثم علـيه، قال: غُفر له. ٣٣٦٩ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أسود بن سوادة القطان، قال: سمعت معاوية بن قرة قال: يخرج من ذنوبه. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تعجل فـي يومين فلا إثم علـيه، ومن تأخر فلا إثم علـيه فـيـما بـينه وبـين السنة التـي بعدها. ذكر من قال ذلك: ٣٣٧٠ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلـحة، قال: سألت مـجاهدا عن قول اللّه عزّ وجل: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْم عَلَـيْهِ قال: لـمن فـي الـحج، لـيس علـيه إثم حتـى الـحج من عام قابل. وقال آخرون: بل معناه: فلا إثم علـيه إن اتقـى اللّه فـيـما بقـي من عمره. ذكر من قال ذلك: ٣٣٧١ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: ذهب إثمه كله إن اتقـى فـيـما بقـي. ٣٣٧٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، مثله. ٣٣٧٣ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، مثله. ٣٣٧٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ قال: لـمن اتقـى بشرط. ٣٣٧٥ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ لا جناح علـيه، ومن تأخر إلـى الـيوم الثالث فلا جناح علـيه لـمن اتقـى وكان ابن عبـاس يقول: وددت أنَـي من هؤلاء مـمن يصيبه اسم التقوى. ٣٣٧٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: هي فـي مصحف عبد اللّه : لـمن اتقـى اللّه . ٣٣٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فلا حرج علـيه، يقول اتقـى معاصي اللّه عز وجل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن تعجل فـي يومين من أيام التشريق فلا إثم علـيه، أي فلا حرج علـيه فـي تعجيـله النفر إن هو اتقـى قتلَ الصيد حتـى ينقضي الـيوم الثالث، ومن تأخر إلـى الـيوم الثالث فلـم ينفر فلا حرج علـيه. ذكر من قال ذلك: ٣٣٧٨ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مـحمد بن أبـي صالـح: لـمن اتقـى أن يصيب شيئا من الصيد حتـى يـمضي الـيوم الثالث. ٣٣٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي قال: ثنـي عمي قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْن فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ ولا يحلّ له أن يقتل صيدا حتـى تـخـلو أيام التشريق. وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل فـي يومين من أيام التشريق فنفر فلا إثم علـيه، أي مغفور له. ومن تأخر فنفر فـي الـيوم الثالث فلا إثم علـيه، أي مغفور له إن اتقـى علـى حجه أن يصيب فـيه شيئا نهاه اللّه عنه. ذكر من قال ذلك: ٣٣٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لِـمَنِ اتّقـى قال: يقول لـمن اتّقـى علـى حجه. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتّقـى فـي حجه غفر له ما تقدم من ذنبه، أو ما سلف من ذنبه. وأولـى هذه الأقوال بـالصحة قول من قال: تأويـل ذلك: فمن تعجل فـي يومين من أيام منى الثلاثة فنفر فـي الـيوم الثانـي فلا إثم علـيه، لـحط اللّه ذنوبه، إن كان قد اتقـى اللّه فـي حجه فـاجتنب فـيه ما أمره اللّه بـاجتنابه وفعل فـيه ما أمره اللّه بفعله وأطاعه بأدائه علـى ما كلفه من حدوده. ومن تأخر إلـى الـيوم الثالث منهن فلـم ينفر إلـى النفر الثانـي حتـى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم علـيه لتكفـير اللّه له ما سلف من آثامه وأجرامه، وإن كان اتّقـى اللّه فـي حجة بأدائه بحدوده. وإنـما قلنا إن ذلك أولـى تأويلاته لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَنْ حَجّ هَذَا البَـيْتَ فَلَـمْ يَرْفُثْ وَلَـمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ) وأنه قال صلى اللّه عليه وسلم: (تابِعُوا بَـيْنَ الـحَجّ وَالعُمْرَةِ، فإنّهُما يَنْفِـيانِ الذّنُوبَ كَمَا يَنْفِـي الكِيرُ خَبَثَ الـحَديدِ وَالذّهَبِ وَالفِضّةِ). ٣٣٨١ـ حدثنا عبد اللّه بن سعيد الكندي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدثنا ، عن عاصم، عن شقـيق، عن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (تَابِعُوا بَـيْنَ الـحَجّ وَالعُمْرَةِ فإنهُما يَنفِـيانِ الفَقْرَ وَالذّنُوبَ كمَا يَنْفِـي الكِيرُ خَبَثَ الـحَدِيدِ وَالذّهَبِ وَالفِضّةِ، وَلَـيسَ للـحَجّةِ الـمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ دُونَ الـجنّة). ٣٣٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، عن ، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. ٣٣٨٣ـ حدثنا حدثنا الفضل بن الصبـاح، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عاصم بن عبـيد اللّه ، عن عبد اللّه بن عامر بن ربـيعة، عن أبـيه، عن عمر يبلغ به النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (تَابِعُوا بَـيْنَ الـحَجّ وَالعُمْرةِ، فإنّ متابعةَ ما بـينهما تَنْفِـي الفَقْرَ والذّنوبَ كَمَا يَنْفـي الكِيرُ الـخَبثَ، أو خبثَ الـحَديدِ). ٣٣٨٤ـ حدثنا إبراهيـم بن سعد، قال: حدثنا سعيد بن عبد الـحميد، قال: حدثنا ابن أبـي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالـح مولـى التوأمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا قَضَيْتَ حَجّكَ فأنْتَ مِثْلُ ما وَلَدَتْكَ أُمّكَ). وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بذكر جميعها الكتاب، مـما ينبىء عنه أن من حجّ فقضاه بحدوده علـى ما أمره اللّه ، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ لِـمَنِ اتّقـى اللّه فـي حجه. فكان فـي ذلك من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعز: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ أنه خارج من ذنوبه، مـحطوطة عنه آثامه، مغفورة له أجرامه. وأنه لا معنى لقول من تأول قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فلا حرج علـيه فـي نفره فـي الـيوم الثانـي، ولا حرج علـيه فـي مقامه إلـى الـيوم الثالث لأن الـحرج إنـما يوضع عن العامل فـيـما كان علـيه ترك عمله فـيرخص له فـي عمله بوضع الـحرج عنه فـي عمله، أو فـيـما كان علـيه عمله، فـيرخص له فـي تركه بوضع الـحرج عنه فـي تركه. فأما ما علـى العامل عمله فلا وجه لوضع الـحرج عنه فـيه إن هو عمله، وفرضه عمله، لأنه مـحال أن يكون الـمؤدّى فرضا علـيه حَرِجا بأدائه، فـيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فـيه الـحرج. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الـحاج لا يخـلو عند من تأول قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فلا حرج علـيه، أو فلا جناح علـيه من أن يكون فرضه النفر فـي الـيوم الثانـي من أيام التشريق، فوضع عنه الـحرج فـي الـمقام، أو أن يكون فرضه الـمقام إلـى الـيوم الثالث، فوضع عنه الـحرج فـي النفر فـي الـيوم الثانـي، فإن يكن فرضه فـي الـيوم الثانـي من أيام التشريق الـمقام إلـى الـيوم الثالث منها، فوضع عنه الـحرج فـي نفره فـي الـيوم الثانـي منها، وذلك هو التعجيـل الذي قـيـل: فَمَنْ تَعَجّلَ فـي يَوْمَينِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فلا معنى لقوله علـى تأويـل من تأوّل ذلك: فَلا إِثمَ عَلَـيْهِ فلا جناح علـيه، وَمَنْ تَأَخّرَ فَلا إِثمَ عَلَـيْهِ لأن الـمتأخر إلـى الـيوم الثالث إنـما هو متأخر عن أداء فرض علـيه تارك قبول رخصة النفر، فلا وجه لأن يقال: لا حرج علـيك فـي مقامك علـى أداء الواجب علـيك، لـما وصفنا قبل، أو يكون فرضه فـي الـيوم الثانـي النفر، فرخص له فـي الـمقام إلـى الـيوم الثالث فلا معنى أن يقال: لا حرج علـيك فـي تعجلك النفر الذي هو فرضك وعلـيك فعله للذي قدمنا من العلة وكذلك لا معنى لقول من قال: معناه: فَمَنْ تَعَجّلَ فـي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ ولا حرج علـيه فـي نفره ذلك، إن اتقـى قتل الصيد إلـى انقضاء الـيوم الثالث لأن ذلك لو كان تأويلاً مسلـما لقائله لكان فـي قوله: وَمَنْ تأخّرَ فلاَ إثْمَ عَلَـيْهِ ما يبطل دعواه، لأنه لا خلاف بـين الأمة فـي أن الصيد للـحاج بعد نفره من منى فـي الـيوم الثالث حلال، فما الذي من أجله وضع عنه الـحرج فـي قوله: وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ إذا هو تأخر إلـى الـيوم الثالث ثم نفر؟هذا مع إجماع الـحجة علـى أن الـمـحرم إذا رمى وذبح وحلق وطاف بـالبـيت فقد حلّ له كل شيء، وتصريح الرواية الـمروية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحو ذلك، التـي: ٣٣٨٥ـ حدثنا بها هناد بن السري الـحنظلـي، قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان، عن حجاج، عن أبـي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة قالت: سألت عائشة أم الـمؤمنـين رضي اللّه عنها متـى يحلّ الـمـحرم؟ فقالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا رَمَيْتُـمْ وَذَبحْتُـمْ وَحَلَقْتُـمْ حَلّ لَكُمْ كُلّ شَيْءٍ إلاّ النّساءَ) قال: وذكر الزهري عن عمرة، عن عائشة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، مثله. وأما الذي تأول ذلك أنه بـمعنى: لا إثم علـيه إلـى عام قابل فلا وجه لتـحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثم عن الـحاج سنة مستقبلة، دون آثامه السالفة، لأن اللّه جل ثناؤه لـم يحصر ذلك علـى نفـي إثم وقت مستقبل بظاهر التنزيـل، ولا علـى لسان الرسول علـيه الصلاة والسلام، بل دلالة ظاهر التنزيـل تبـين عن أن الـمتعجل فـي الـيومين والـمتأخر لا إثم علـى كل واحد منهما فـي حاله التـي هو بها دون غيرها من الأحوال، والـخبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم يصرّح بأنه بـانقضاء حجه علـى ما أمر به خارج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففـي ذلك من دلالة ظاهر التنزيـل، وصريح قول الرسول صلى اللّه عليه وسلم دلالة واضحة علـى فساد قول من قال: معنى قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ فلا إثم علـيه من وقت انقضاء حجه إلـى عام قابل. فإن قال لنا قائل: ما الـجالب اللام فـي قوله: لِـمَنِ اتّقَـى وما معناها؟ قـيـل: الـجالب لها معنى قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ لأن فـي قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ معنى حططنا ذنوبه وكفرنا آثامه، فكان فـي ذلك معنى: جعلنا تكفـير الذنوب لـمن اتّقَـى اللّه فـي حجه، فترك ذكر جعلنا تكفـير الذنوب اكتفـاء بدلالة قوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر، فقال: لـمن اتّقَـى أي هذا لـمن اتقـى. وأنكر بعضهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فـيـما زعم من صلة (قول) متروك، فكان معنى الكلام عنده (قلنا): ومن تأخر فلا إثم علـيه لـمن اتقـى، وقام قوله: ومن تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ مقام القول. وزعم بعض أهل العربـية أن موضع طرح الإثم فـي الـمتعجل، فجعل فـي الـمتأخر، وهو الذي أدى ولـم يقصر، مثل ما جعل علـى الـمقصر، كما يقال فـي الكلام: إن تصدّقت سرّا فحسن، وإن أظهرت فحسن. وهما مختلفـان، لأن الـمتصدّق علانـية إذا لـم يقصد الرياء فحسن، وإن كان الإسرار أحسن ولـيس فـي وصف حالتـي الـمتصدقـين بـالـحسن وصف إحداهما بـالإثم وقد أخبر اللّه عز وجل عن النافرين بنفـي الإثم عنهما، ومـحال أن ينفـي عنهما إلا ما كان فـي تركه الإثم علـى ما تأوله قائلو هذه الـمقالة. وفـي إجماع الـجميع علـى أنهما جميعا لو تركا النفر وأقاما بـمنى لـم يكونا آثمين ما يدلّ علـى فساد التأويـل الذي تأوله من حكينا عنه هذا القول وقال أيضا: فـيه وجه آخر، وهو معنى نهي الفريقـين عن أن يؤثم أحد الفريقـين الاَخر، كأنه أراد بقوله: فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ لا يقل الـمتعجل للـمتأخر: أنت آثم، ولا الـمتأخر للـمتعجل أنت آثم بـمعنى: فلا يؤثمنّ أحدهما الاَخر. وهذا أيضا تأويـل لقول جميع أهل التأويـل مخالف، وكفـى بذلك شاهدا علـى خطئه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّه وَاعْلَـمُوا أنّكُم الـمثنى إلَـيْهِ تُـحْشَرُونَ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: واتقوا اللّه أيها الـمؤمنون فـيـما فرض علـيكم من فرائضه، فخافوه فـي تضيـيعها والتفريط فـيها، وفـيـما نهاكم عنه فـي حجكم ومناسككم أن ترتكبوه أو تأتوه وفـيـما كلفكم فـي إحرامكم لـحجكم أن تقصروا فـي أدائه والقـيام به، واعلـموا أنكم إلـيه تـحشرون، فمـجازيكم هو بأعمالكم، الـمـحسن منكم بإحسانه، والـمسيء بإساءته، وموف كل نفس منكم ما عملت وأنتـم لا تظلـمون. ٢٠٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّه عَلَىَ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ } وهذا نعت من اللّه تبـارك وتعالـى للـمنافقـين، يقول جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا مـحمد ظاهر قوله وعلانـيته، ويستشهد اللّه علـى ما فـي قلبه، وهو ألدّ الـخصام، جَدِلٌ بـالبـاطل. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت فـيه هذه الآية، قال بعضهم: نزلت فـي الأخنس بن شريق، قدم علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك: ٣٣٨٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحيَاة الدّنـيا ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الـخِصامُ قال: نزلت فـي الأخنس بن شريق الثقـفـي، وهو حلـيف لبنـي زهرة. وأقبل إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم بـالـمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجب النبـي صلى اللّه عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنـما جئت أريد الإسلام، واللّه يعلـم أنـي صادق. وذلك قوله: وَيَشْهِدُ اللّه عَلَـى ما فِـي قَلْبه ثم خرج من عند النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فمرّ بزرع لقوم من الـمسلـمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الـحمرُ، فأنزل اللّه عز وجل: وَإذَا تَوَلـى سَعَى فِـي الأرْض لِـيُفْسِدَ فِـيها ويُهلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْل. وأما ألدّ الـخصام: فأعوج الـخصام، وفـيه نزل: وَيْـلٌ لِكُلّ هُمَزَة لُـمَزَة ونزلت فـيه: وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مَهِينٍ إلـى عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِـيـم. وقال آخرون: بل نزل ذلك فـي قوم من أهل النفـاق تكلـموا فـي السرية التـي أصيبت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالرّجيع. ذكر من قال ذلك: ٣٣٨٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبـي إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما أصيبت هذه السرية أصحاب خبـيب بـالرجيع بـين مكة والـمدينة، فقال رجال من الـمنافقـين: يا ويح هؤلاء الـمقتولـين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا فـي بـيوتهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم فأنزل اللّه عز وجل فـي ذلك من قول الـمنافقـين، وما أصاب أولئك النفر فـي الشهادة والـخير من اللّه : وَمِن النّاسِ مَنْ يَعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحيَاة الدّنـيا أي ما يظهر بلسانه من الإسلام وَيُشُهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ أي من النفـاق وَهُوَ ألدّ الِـخصَامِ أي ذو جدال إذا كلـمك وراجعك، وإذَا تَوَلّـى أي خرج من عندك سَعَى فِـي الأرْض لَـيُفْسدَ فـيها ويُهلِك الـحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّه لا يُحِبّ الفَسَادَ أي لا يحبّ عمله ولا يرضاه، وَإذَا قِـيـلَ لَهُ اتّقِ اللّه أخَذَتْهُ العِزّةُ بـالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّـمُ وَلَبِئْسَ الـمِهادُ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابُتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه الذين شروا أنفسهم للّه بـالـجهاد فـي سبـيـل اللّه والقـيام بحقه حتـى هلكوا علـى ذلك يعنـي هذه السرية. ٣٣٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن مـجحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: لـما أصيبت السرية التـي كان فـيها عاصم ومرثد بـالرجيع، قال رجال من الـمنافقـين، ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب. وقال آخرون: بل عنى بذلك جميع الـمنافقـين، وعنى بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا وَيُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ اختلاف سريرته وعلانـيته. ذكر من قال ذلك: ٣٣٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن أبـي معشر، قال: أخبرنـي أبـي أبو معشر نـجيح، قال: سمعت سعيد الـمقبري يذاكر مـحمد بن كعب، فقال سعيد: إن فـي بعض الكتب: (إن للّه عبـادا ألسنتهم أحلـى من العسل، قلوبهم أمرّ من الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللـين، يجترون الدنـيا بـالدين، قال اللّه تبـارك وتعالـى: أعلـيّ يجترءون، وبـي يغترّون؟ وعزّتـي لأبعثن علـيهم فتنة تترك الـحلـيـم منهم حيران) فقال مـحمد بن كعب: هذا فـي كتاب اللّه جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب اللّه ؟ قال: قول اللّه عز وجل: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويَشْهَدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ وَهُوَ ألدّ الـخِصَامِ وَإذَا توَلّـى سَعَى فِـي الأرْضِ لَـيُفْسِدَ فِـيها ويُهْلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلَ واللّه لا يْحِبّ الفَسادَ فقال سعيد: قد عرفتَ فـيـمن أنزلت هذه الآية. فقال مـحمد بن كعب: إن الآية تنزل فـي الرجل ثم تكون عامة بعد. ٣٣٩٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي اللـيث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبـي هلال، عن القرظي، عن نوف، وكان يقرأ الكتب، قال: إنـي لأجد صفة ناس من هذه الأمة فـي كتاب اللّه الـمنزل: (قوم يجتالون الدنـيا بـالدين، ألسنتهم أحلـى من العسل وقلوبهم أمرّ من الصبر، يـلبسون للناس لبـاس مسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب، فعلـيّ يجترءون، وبـي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن علـيهم فتنة تترك الـحلـيـم فـيهم حيران) قال القرظي: تدبرتها فـي القرآن فإذا هم الـمنافقون، فوجدتها: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبّكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فـي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ وَمِنَ النّاسِ مَنُ يَعْبُدُ اللّه علـى حَرْفٍ فإن أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ بهِ. ٣٣٩١ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ قال: هو الـمنافق. ٣٣٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ قال: علانـيته فـي الدنـيا، ويُشْهِدُ اللّه فـي الـخصومة أنـما يريد الـحق. ٣٣٩٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ قال: هذا عبد كان حسن القول سيىء العمل، يأتـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيحسن له القول، وَإذَا تَوَلـى سَعَى فِـي الأرْضِ لِـيُفْسِدَ فِـيها. ٣٣٩٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ قال: يقول قولاً فـي قلبه غيره، واللّه يعلـم ذلك. وفـي قوله ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ وجهان من القراءة: فقرأته عامة القرّاء: ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ بـمعنى أن الـمنافق الذي يعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوله، يستشهد اللّه علـى ما فـي قلبه، أن قوله موافق اعتقاده، وأنه مؤمن بـاللّه ورسوله وهو كاذب. كما: ٣٣٩٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا إلـى وَاللّه لا يُحِبّ الفَسادَ كان رجل يأتـي إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم فـ يقول: أي رسول اللّه أشهد أنك جئت بـالـحق والصدق من عند اللّه قال: حتـى يعجب النبـي صلى اللّه عليه وسلم بقوله. ثم يقول: أما واللّه يا رسول اللّه ، إن اللّه لـيعلـم ما فـي قلبـي مثل ما نطق به لسانـي. فذلك قوله: ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ قال: هؤلاء الـمنافقون، وقرأ قول اللّه تبـارك وتعالـى: إذَا جاءَكَ الـمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنّكَ لَرَسُولُ اللّه حتـى بلغ: إنّ الـمُنافِقِـينَ لَكاذِبُونَ بـما يشهدون أنك رسول اللّه . وقال السدي: ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ يقول: اللّه يعلـم أنـي صادق، أنـي أريد الإسلام. ٣٣٩٦ـ حدثنـي بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسبـاط. وقال مـجاهد: ويشهد اللّه فـي الـخصومة، أنـما يريد الـحق. ٣٣٩٧ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عنه. وقرأ ذلك آخرون: (وَيَشْهَدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ) بـمعنى: واللّه يشهد علـى الذي فـي قلبه من النفـاق، وأنه مضمر فـي قلبه غير الذي يبديه بلسانه وعلـى كذبه فـي قلبه. وهي قراءة ابن مـحيصن، وعلـى ذلك الـمعنى تأوّله ابن عبـاس . وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فـيـما مضى فـي حديث أبـي كريب، عن يونس بن بكير عن مـحمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفـا. والذي نـختار فـي ذلك من قول القراء قراءة من قرأ: ويُشْهِدُ اللّه علـى ما فِـي قَلْبِهِ بـمعنى يستشهد اللّه علـى ما فـي قلبه، لإجماع الـحجة من القراء علـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ. الألدّ من الرجال: الشديد الـخصومة، يقال فـي (فعلت) منه: قد لَدَدْتُ يا هذا ولـم تكن ألدّ، فأنت تَلُدّ لَدَدَا ولدادة فأما إذ غلب خاصمه، فإنـما يقال فـيه: لددت يا فلان فلانا فأنت تَلُدّهُ لَدّا، ومنه قول الشاعر: ثُمّ أُرَدّي بِهِمُ مَنْ تُرْدِيتَلُدّ أقْرَانَ الـخُصُوم اللّدّ اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: تأويـله: أنه ذو جدال. ذكر من قال ذلك: ٣٣٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ أي ذو جدال إذا كلـمك وراجعك. ٣٣٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ يقول: شديد القسوة فـي معصية اللّه جدل بـالبـاطل، وإذا شئت رأيته عالـم اللسان جاهل العمل يتكلـم بـالـحكمة ويعمل بـالـخطيئة. ٣٤٠٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ قال: جدل بـالبـاطل. وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقـيـم الـخصومة ولكنه معوجّها. ذكر من قال ذلك: ٣٤٠١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ قال: ظالـم لا يستقـيـم. ٣٤٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد، قال الألدّ الـخصام: الذي لا يستقـيـم علـى خصومة. ٣٤٠٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ألدّ الـخصام: أعوج الـخصام. قال أبو جعفر: وكلا هذين القولـين متقارب الـمعنى، لأن الاعوجاج فـي الـخصومة من الـجدال واللدد. وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذب قوله. ذكر من قال ذلك: ٣٤٠٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا وكيع، عن بعض أصحابه، عن الـحسن، قال: الألدّ الـخصام: الكاذب القول. وهذا القول يحتـمل أن يكون معناه معنى القولـين الأولـين إن كان أراد به قائله أنه يخاصم بـالبـاطل من القول والكذب منه جدلاً واعوجاجا عن الـحقّوأما الـخصام: فهو مصدر من قول القائل: خاصمت فلانا خصاما ومخاصمة. وهذا خبر من اللّه تبـارك وتعالـى عن الـمنافق الذي أخبر نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أنه يعجبه إذا تكلـم قـيـله ومنطقه، ويستشهد اللّه علـى أنه مـحقّ فـي قـيـله ذلك لشدة خصومته وجداله بـالبـاطل والزور من القول. ٢٠٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا تَوَلّىَ سَعَىَ فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّسْلَ وَاللّه لاَ يُحِبّ الفَسَادَ } يعنـي بقوله جل ثناؤه: وإذا تولـى، وإذا أدبر هذا الـمنافق من عندك يا مـحمد منصرفـا عنك. كما: ٣٤٠٥ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : وإذا تَوّلـى قال: يعنـي: وإذا خرج من عندك سعى. وقال بعضهم: وإذا غضب. ذكر من قال ذلك: ٣٤٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج قال: قال ابن جريج فـي قوله: وإذَا تَوَلّـى قال: إذا غضب. فمعنى الآية: وإذا خرج هذا الـمنافق من عندك يا مـحمد غضبـان عمل فـي الأرض بـما حرّم اللّه علـيه، وحاول فـيها معصية اللّه ، وقطع الطريق، وإفساد السبـيـل علـى عبـاد اللّه ، كما قد ذكرنا آنفـا من فعل الأخنس بن شريق الثقـفـي الذي ذكر السدي أن فـيه نزلت هذه الآية من إحراقه زرع الـمسلـمين وقتله حمرهم. والسعي فـي كلام العرب العمل، يقال منه: فلان يسعى علـى أهله، يعنـي به يعمل فـيـما يعود علـيهم نفعه ومنه قول الأعشى: وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غيرِ مُوَاكِلٍقَـيْسٌ فَضَرّ عَدُوّها وبَنى لَها يعنـي بذلك: عمل لهم فـي الـمكارم. وكالذي قلنا فـي ذلك كان مـجاهد يقول. ٣٤٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه وإذَا تَوَلّـى سَعَى قال: عمل. واختلف أهل التأويـل فـي معنى الإفساد الذي أضافه اللّه عز وجل إلـى هذا الـمنافق، فقال بعضهم: تأويـله ما قلنا فـيه من قطعه الطريق وإخافته السبـيـل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق. وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك: ٣٤٠٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج فـي قوله: سَعَى فـي الأرْض لِـيُفْسِدَ فِـيها قطع الرحم، وسفك الدماء، دماء الـمسلـمين، فإذا قـيـل: لـم تفعل كذا وكذا؟ قال أتقرّب به إلـى اللّه عز وجل. والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن اللّه تبـارك وتعالـى وصف هذا الـمنافق بأنه إذا تولـى مدبرا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمل فـي أرض اللّه بـالفساد. وقد يدخـل فـي الإفساد جميع الـمعاصي، وذلك أن العمل بـالـمعاصي إفساد فـي الأرض، فلـم يخصص اللّه وصفه ببعض معانـي الإفساد دون بعض. وجائز أن يكون ذلك الإفساد منه كان بـمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك، وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادا فـي الأرض، لأن ذلك منه للّه عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيـل أن يكون كان يقطع الطريق، ويخيف السبـيـل، لأن اللّه تعالـى ذكره وصفه فـي سياق الآية بأنه سعى فـي الأرض لـيفسد فـيها ويهلك الـحرث والنسل، وذلك بفعل مخيف السبـيـل أشبه منه بفعل قطاع الرحم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيُهْلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلِ. اختلف أهل التأويـل فـي وجه إهلاك هذا الـمنافق، الذي وصفه اللّه بـما وصفه به من صفة إهلاك الـحرث والنسل فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقا لزرع قوم من الـمسلـمين وعقرا لـحمرهم. ٣٤٠٩ـ حدثنـي بذلك موسى بن هارون، قال: ثنـي عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي. وقال آخرون بـما. ٣٤١٠ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر بن عربـي، عن مـجاهد: وَإذَا تَوَلّـى سَعَى فِـي الأرْض لِـيُفْسِدَ فِـيها ويُهْلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلَ الآية، قال: إذا تولـى سعى فـي الأرض بـالعدوان والظلـم، فـيحبس اللّه بذلك القطر، فـيهلك الـحرث والنسل، واللّه لا يحبّ الفساد قال: ثم قرأ مـجاهد: ظَهَرَ الفَسادُ فـي البَرّ وَالبَحْرِ بِـمَا كَسَبَتْ أيْدي النّاسِ لـيذُيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ قال: ثم قال: أما واللّه ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية علـى ماء جار فهو بحر. والذي قاله مـجاهد وإن كان مذهبـا من التأويـل تـحتـمله الآية، فإن الذي هو أشبه بظاهر التنزيـل من التأويـل وما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناهوأما الـحرث، فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد، وإهلاكه الزرع: إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مـجاهد بـاحتبـاس القطر من أجل معصيته ربه وسعيه بـالإفساد فـي الأرض، وقد يحتـمل أن يكون كان بقتله القوّام به والـمتعاهدين له حتـى فسد فهلك. وكذلك جائز فـي معنى إهلاكه النسل أن يكون كان بقتله أمهاته وأو آبـاءه التـي منها يكون النسل، فـيكون فـي قتله الاَبـاء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائز أن يكون كما قال مـجاهد، غير أن ذلك وإن كان تـحتـمله الآية فـالذي هو أولـى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فـيه هذه الآية إنـما نزلت فـي قتله حمر القوم من الـمسلـمين وإحراقه زرعا لهم. وذلك وإن كان جائزا أن يكون كذلك، فغير فـاسد أن تكون الآية نزلت فـيه، والـمراد بها كل من سلك سبـيـله فـي قتل كل ما قتل من الـحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال والذي يحلّ قتله فـي بعض الأحوال إذا قتله بغير حق بل ذلك كذلك عندي، لأن اللّه تبـارك وتعالـى لـم يخصص من ذلك شيئا دون شيء بل عمه. وبـالذي قلنا فـي عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٤١١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي أنه سأل ابن عبـاس : ويُهلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلَ قال: نسل كل دابة. ٣٤١٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، أنه سأل ابن عبـاس : قال: قلت أرأيت قوله الـحَرْثَ وَالنّسْلَ قال: الـحرث حرثكم، والنسل: نسل كل دابة. ٣٤١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبـي إسحاق، عن التـيـمي، قال: سألت ابن عبـاس عن الـحرث والنسل، فقال: الـحرث: مـما تـحرثون، والنسل: نسل كل دابة. ٣٤١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبـي إسحاق، عن رجل من تـميـم، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٤١٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : ويُهْلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلَ فنسل كل دابة، والناس أيضا. ٣٤١٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ويُهْلِكَ الـحَرْث قال: نبـات الأرض والنّسلَمن كل دابة تـمشي من الـحيوان من الناس والدوابّ. ٣٤١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: ويُهْلِكَ الـحَرْثَ قال: نبـات الأرض، والنّسلَ: نسل كل شيء. ٣٤١٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: الـحرث: النبـات، والنسل: نسل كل دابة. ٣٤١٩ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ويُهْلِكَ الـحَرْثَ قال: الـحرث الذي يحرثه الناس: نبـات الأرض، والنْسلَ: نسل كل دابة. ٣٤٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ويُهْلِكَ الـحَرْثَ والنّسْلَ قال: الـحرث: الزرع، والنّسلَ من الناس والأنعام، قال: يقتل نسل الناس والأنعام قال: وقال مـجاهد: يبتغي فـي الأرض هلاك الـحرث: نبـات الأرض، والنسل: من كل شيء من الـحيوان. ٣٤٢١ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: ويُهْلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلَ قال: الـحرث: الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم. ٣٤٢٢ـ حدثنـي ابن عبد الرحيـم البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: سئل سعيد بن عبد العزيز عن فساد الـحرث والنسل وما هما أيّ حرث وأيّ نسل؟ قال سعيد: قال مكحول: الـحرث: ما تـحرثون، وأما النسل: فنسل كل شيء. وقد قرأ بعض القرّاء: (ويُهْلِكُ الـحَرْثَ وَالنّسْل) برفع (يهلك) علـى معنى: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياةِ الدّنْـيا وَيُشْهِدُ اللّه عَلـى ما فِـي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدّ الـخِصَامِ، ويُهْلِكُ الـحَرْثَ والنّسْلَ، وَإذَا تَوَلـى سَعَى فِـي الأرْضِ لِـيُفْسِدُ فِـيها، وَاللّه لا يُحِبّ الفَساد. فـيردّ و(يهلك) علـى (ويشهد اللّه ) عطفـا به علـيه. وذلك قراءة عندي غير جائزة وإن كان لها مخرج فـي العربـية لـمخالفتها لـما علـيه الـحجة مـجمعة من القراءة فـي ذلك قراءة: ويُهْلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْلَ وأن ذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب ومصحفه فـيـما ذكر لنا: (لـيفسد فـيها ولـيهلك الـحرث والنسل)، وذلك من أدلّ الدلـيـل علـى تصحيح قراءة من قرأ ذلك وُيهْلِكَ بـالنصب عطفـا به علـى: لِـيُفْسِدَ فِـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه لا يْحِبّ الفَسادَ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: واللّه لا يحبّ الـمعاصي، وقطع السبـيـل، وإخافة الطريق. والفساد: مصدر من قول القائل: فسد الشيء يفسد، نظير قولهم: ذهب يذهب ذهابـا، ومن العرب من يجعل مصدر فسد فسودا، ومصدر ذهب يذهب ذهوبـا. ٢٠٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } يعنـي بذلك جل ثناؤه: وإذا قـيـل لهذا الـمنافق الذي نعت نعته لنبـيه علـيه الصلاة والسلام وأخبره أنه يعجبه قوله فـي الـحياة الدنـيا: اتقّ اللّه ، وخَفْهُ فـي إفسادك فـي أرض اللّه ، وسعيك فـيها بـما حرّم اللّه علـيك من معاصيه، وإهلاكك حروث الـمسلـمين ونسلهم استكبر ودخـلته عزّة وحمية بـما حرّم اللّه علـيه، وتـمادى فـي غيه وضلاله. قال اللّه جل ثناؤه: فكفـاه عقوبة من غيه وضلاله صِلِـيّ نار جهنـم ولبئس الـمهاد لصالـيها. واختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها كل فـاسق ومنافق. ذكر من قال ذلك: ٣٤٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان، قال: حدثنا بسطام بن مسلـم، قال: حدثنا أبو رجاء العطاردي، قال: سمعت علـيا فـي هذه الآية: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحَياة الدّنْـيا إلـى: وَاللّه رَءُوفٌ بـالعِبـادِ قال علـيّ: اقتتلا وربّ الكعبة. ٣٤٢٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإذَا قِـيـلَ لَهُ اتّقِ اللّه أخَذَتْهُ العِزّةُ بـالإْثمِ إلـى قوله: وَاللّه رَءُوفٌ بـالعِبـادِ قال: كان عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه إذا صلـى السبحة وفرغ دخـل مربدا له، فأرسل إلـى فتـيان قد قرءوا القرآن، منهم ابن عبـاس وابن أخي عيـينة، قال: فـيأتون فـيقرءون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمروا بهذه الآية: وَإذَا قِـيـلَ لَهُ اتّقِ اللّه أخَذِتْهُ العِزّةُ بـالإثْمِ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بـالعِبـادِ قال ابن زيد: وهؤلاء الـمـجاهدون فـي سبـيـل اللّه . فقال ابن عبـاس لبعض من كان إلـى جنبه: اقتتل الرجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير الـمؤمنـين قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال فلـما رأى ذلك ابن عبـاس قال: أرى ههنا من إذا أمر بتقوى اللّه أخذته العزة بـالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه يقوم هذا فـيأمر هذا بتقوى اللّه ، فإذا لـم يقبل وأخذته العزّة بـالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي فقاتله، فـاقتتل الرجلان. فقال عمر: للّه تلادك يا بن عبـاس. وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق، وقد ذكرنا من قال ذلك فـيـما مضى. وأما قوله: وَلَبِئْس الـمِهادُ فإنه يعنـي: ولبئس الفراش والوطاء: جهنـم التـي أوعد بها جل ثناؤه هذا الـمنافق، ووطأها لنفسه بنفـاقه وفجوره وتـمرّده علـى ربه. ٢٠٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } يعنـي جل ثناؤه: ومن الناس من يبـيع نفسه بـما وعد اللّه الـمـجاهدين فـي سبـيـله وابتاع به أنفسهم بقوله: إنّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الـجَنّةَ وقد دللنا علـى أن معنى شرى بـاع فـي غير هذا الـموضع بـما أغنى عن إعادته. وأما قوله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه فإنه يعنـي أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلب مرضاة اللّه . ونصب (ابتغاء) بقوله (يشري)، فكأنه قال: ومن الناس من يشري من أجل ابتغاء مرضاة اللّه ، ثم ترك (من أجل) وعمل فـيه الفعل. وقد زعم بعض أهل العربـية أنه نصب ذلك علـى الفعل علـى يشري كأنه قال: لابتغاء مرضاة اللّه ، فلـما نزع اللام عمل الفعل قال: ومثله: حَذَر الـمَوتِ وقال الشاعر وهو حاتـم: وأغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَريـم ادّخارَهُوأُعْرضُ عَنْ قَوْل اللّئِيـم تَكَرّما وقال: لـما أذهب اللام أعمل فـيه الفعل. وقال بعضهم: أيـما مصدر وضع موضع الشرط وموضع (أن) فتـحسن فـيها البـاء واللام، فتقول: أتـيتك من خوف الشرّ، ولـخوف الشرّ، وبأن خفت الشرّ فـالصفة غير معلومة، فحذفت وأقـيـم الـمصدر مُقامها قال: ولو كانت الصفة حرفـا واحدا بعينه لـم يجز حذفها كما غير جائز لـمن قال: فعلت هذا لك ولفلان، أن يسقط اللام. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت هذه الآية فـيه ومن عنى بها، فقال بعضهم: نزلت فـي الـمهاجرين والأنصار، وعنى بها الـمـجاهدون فـي سبـيـل اللّه . ذكر من قال ذلك: ٣٤٢٥ـ حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه قال: الـمهاجرون والأنصار. وقال بعضهم: نزلت فـي رجال من الـمهاجرين بأعيانهم. ذكر من قال ذلك: ٣٤٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه قال: نزلت فـي صهيب بن سنان وأبـي ذرّ الغفـاريّ جندب بن السكن أخذ أهل أبـي ذرّ أبـا ذرّ، فـانفلت منهم، فقدم علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلـما رجع مهاجرا عرضوا له، وكانوا بـمر الظهران، فـانفلت أيضا حتـى قدم علـى النبـيّ علـيه الصلاة والسلاموأما صهيب فأخذه أهله، فـافتدى منهم بـماله، ثم خرج مهاجرا فأدركه منقذ بن عمير بن جدعان، فخرج له مـما بقـي من ماله، وخـلـى سبـيـله. ٣٤٢٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلـم، فأراد أن يأتـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ويهاجر إلـى الـمدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالـي وما كان لـي من شيء فخـلوا عنى فألـحق بهذا الرجل فأبوا. ثم إن بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخـلوا عنه ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج فأنزل اللّه عز وجل علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـالـمدينة: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه الآية فلـما دنا من الـمدينة تلقاه عمر فـي رجال، فقال له عمر: ربح البـيع، قال: وبـيعك فلا يخسر، قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فـيك كذا وكذا. وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه فـي طاعة اللّه وجهاد فـي سبـيـله أو أمر بـمعروف. ذكر من قال ذلك: ٣٤٢٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الـحسن أبو عبد اللّه ، قال: حدثنا أبو عون، عن مـحمد، قال: حمل هشام بن عامر علـى الصفّ حتـى خرقه، فقالوا: ألقـى بـيده، فقال أبو هريرة: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه . ٣٤٢٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قـيس بن أبـي حازم، عن الـمغيرة، قال: بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيـلة، فقاتل، فقتل، فأكثر الناس فـيه يقولون: ألقـى بـيده إلـى التهلكة قال: فبلغ ذلك عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه، فقال: كذبوا، ألـيس اللّه عز وجل يقول: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه واللّه رَءُوفٌ بـالعِبـادِ؟ ٣٤٣٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حمل هشام بن عامر علـى الصفّ حتـى شقه، فقال أبو هريرة: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه . ٣٤٣١ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزام بن أبـي حزم، قال: سمعت الـحسن قرأ: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتغاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بـالعِبـادِ أتدرون فـيـم أنزلت؟ نزلت فـي أن الـمسلـم لقـي الكافر فقال له: قل لا إله إلا اللّه ، فإذا قلتها عصمت دمك ومالك إلا بحقهما. فأبى أن يقولها، فقال الـمسلـم: واللّه لأشرينّ نفسي للّه. فتقدّم فقاتل حتـى قتل. ٣٤٣٢ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، حدثنا زياد بن أبـي مسلـم، عن أبـي الـخـلـيـل، قال: سمع عمر إنسانا قرأ هذه الآية: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه قال: استرجع عمر فقال: إنا للّه وإنا إلـيه راجعون، قام رجل يأمر بـالـمعروف وينهى عن الـمنكر فقتل. والذي هو أولـى بظاهر هذه الآية من التأويـل، ما روي عن عمر بن الـخطاب وعن علـيّ بن أبـي طالب وابن عبـاس رضي اللّه عنهم، من أن يكون عنى بها الاَمر بـالـمعروف والناهي عن الـمنكر. وذلك أن اللّه جل ثناؤه وصف صفة فريقـين: أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما فـي نفسه وإذا اقتدر علـى معصية اللّه ركبها وإذا لـم يقتدر رامها وإذا نهى أخذته العزّة بـالإثم بـما هو به آثم، والاَخر منهما بـائع نفسه طالب من اللّه رضا اللّه . فكان الظاهر من التأويـل أن الفريق الـموصوف بأنه شرى نفسه للّه وطلب رضاه، إنـما شراها للوثوب بـالفريق الفـاجر طلب رضا اللّه . فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويـل الآية. وأما ما رُوي من نزول الآية فـي أمر صهيب، فإن ذلك غير مستنكر، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند اللّه علـى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بسبب من الأسبـاب، والـمعنّـي بها كل من شمله ظاهرها. فـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن اللّه عز ذكره وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته، فكل من بـاع نفسه فـي طاعته حتـى قتل فـيها أو استقتل وإن لـم يقتل، فمعنـيّ بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه فـي جهاد عدوّ الـمسلـمين كان ذلك منه أو فـي أمر بـمعروف أو نهي عن منكر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه رَءُوفٌ بـالعِبـاد. قد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الرأفة بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع، وأنها رقة الرحمة فمعنى ذلك: واللّه ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له فـي جهاد من حادّه فـي أمره من أهل الشرك والفسوق وبغيره من عبـاده الـمؤمنـين فـي عاجلهم وآجل معادهم، فـينـجز لهم الثواب علـى ما أبلوا فـي طاعته فـي الدنـيا، ويسكنهم جناته علـى ما عملوا فـيها من مرضاته. ٢٠٨القول فـي تأول قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ } اختلف أهل التأويـل فـي معنى السلـم فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: معناه: الإسلام. ذكر من قال ذلك: ٣٤٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ قال: ادخـلوا فـي الإسلام. ٣٤٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ قال: ادخـلوا فـي الإسلام. ٣٤٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: السلـم: الإسلام. ٣٤٣٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربـي، عن مـجاهد: ادخـلوا فـي الإسلام. ٣٤٣٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ قال: السلـم: الإسلام. ٣٤٣٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ يقول: فـي الإسلام. ٣٤٣٩ـ حدثت عن الـحسين بن فرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ: فـي الإسلام. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخـلوا فـي الطاعة. ذكر من قال ذلك: ٣٤٤٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ يقول: ادخـلوا فـي الطاعة. وقد اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الـحجاز: (ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ) بفتـح السين. وقرأته عامة قراء الكوفـيـين بكسر السين. فأما الذين فتـحوا السين من (السلـم)، فإنهم وجهوا تأويـلها إلـى الـمسالـمة، بـمعنى: ادخـلوا فـي الصلـح والـمساومة وترك الـحرب وإعطاء الـجزيةوأما الذين قرءوا ذلك بـالكسر من السين فإنهم مختلفون فـي تأويـله فمنهم من يوجهه إلـى الإسلام، بـمعنى ادخـلوا فـي الإسلام كافة، ومنهم من يوجهه إلـى الصلـح، بـمعنى: ادخـلوا فـي الصلـح، ويستشهد علـى أن السين تكسر، وهي بـمعنى الصلـح بقول زهير بن أبـي سلـمى: وقدْ قُلْتُـما إنْ نُدْركِ السّلْـمَ وَاسِعابِـمَالٍ وَمَعُروفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلـمِ وأولـى التأويلات بقوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ قول من قال: معناه: ادخـلوا فـي الإسلام كافة. وأما الذي هو أولـى القراءتـين بـالصواب فـي قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر السين لأن ذلك إذا قرىء كذلك وإن كان قد يحتـمل معنى الصلـح، فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالـح عند العرب، أغلب علـيه من الصلـح والـمسالـمة، وينشد بـيت أخي كندة: دَعَوْتُ عَشِيرَتـي للسّلْـمِ لَـمّارأيْتُهُمْ تَوَلّوْا مُدْبِرِينا بكسر السين، بـمعنى: دعوتهم للإسلام لـما ارتدوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بعد وفـاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائر ما فـي القرآن من ذكر السلـم بـالفتـح سوى هذه التـي فـي سورة البقرة، فإنه كان يخصها بكسر سينها توجيها منه لـمعناها إلـى الإسلام دون ما سواها. وإنـما اخترنا ما اخترنا من التأويـل فـي قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ وصرفنا معناه إلـى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها الـمؤمنون، فلن يعدو الـخطاب إذ كان خطابـا للـمؤمنـين من أحد أمرين، إما أن يكون خطابـا للـمؤمنـين بـمـحمد الـمصدّقـين به وبـما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيـمان: ادخـلوا فـي صلـح الـمؤمنـين ومسالـمتهم، لأن الـمسالـمة والـمصالـحة إنـما يؤمر بها من كان حربـا بترك الـحرب. فأما الـموالـي فلا يجوز أن يقال له: صالـح فلانا، ولا حرب بـينهما ولا عداوة. أو يكون خطابـا لأهل الإيـمان بـمن قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الأنبـياء الـمصدقـين بهم، وبـما جاءوا به من عند اللّه الـمنكرين مـحمدا ونبوّته، فقـيـل لهم: ادخـلوا فـي السلـم يعنـي به الإسلام لا الصلـح. لأن اللّه عز وجل إنـما أمر عبـاده بـالإيـمان به وبنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به، وإلـى ذلك دعاهم دون الـمسالـمة والـمصالـحة بل نهى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم فـي بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلـى الإسلام، فقال: فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلـى السّلْـمِ وأنْتُـمُ الأعْلَوْنَ وَاللّه مَعَكُمْ وإنـما أبـاح له صلى اللّه عليه وسلم فـي بعض الأحوال إذا دعوه إلـى الصلـح ابتداء الـمصالـحة، فقال له جل ثناؤه: وَإنْ جَنَـحُوا للسّلْـمِ فـاجنَـحْ لَهَا فأما دعاؤهم إلـى الصلـح ابتداء فغير موجود فـي القرآن، فـيجوز توجيه قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ إلـى ذلك. فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقـين دعى إلـى الإسلام كافة؟ قـيـل قد اختلف فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: دعى إلـيه الـمؤمنون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاء به. وقال آخرون: قـيـل: دعي إلـيه الـمؤمنون بـمن قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الأنبـياء الـمكذبون بـمـحمد. فإن قال: فما وجه دعاء الـمؤمن بـمـحمد وبـما جاء به إلـى الإسلام؟ قـيـل: وجه دعائه إلـى ذلك الأمر له بـالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضيـيع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله كافّةً من صفة السلـم، ويكون تأويـله: ادخـلوا فـي العمل بجميع معانـي السلـم، ولا تضيعوا شيئا منه يا أهل الإيـمان بـمـحمد وما جاء به. وبنـحو هذا الـمعنى كان يقول عكرمة فـي تأويـل ذلك. ٣٤٤١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: نزلت فـي ثعلبة وعبد اللّه بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابنـي كعب وشعبة بن عمرو وقـيس بن زيد، كلهم من يهود، قالوا: يا رسول اللّه يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فـيه، وإن التوراة كتاب اللّه ، فدعنا فلنقم بها بـاللـيـل فنزلت: يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا ادْخُـلُوا فـي السّلْـمِ كافةً وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ. فقد صرّح عكرمة بـمعنى ما قلنا فـي ذلك من أن تأويـل ذلك دعاء للـمؤمنـين إلـى رفض جميع الـمعانـي التـي لـيست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضيـيع شيء من حدوده. وقال آخرون: بل الفريق الذي دعى إلـى السلـم فقـيـل لهم ادخـلوا فـيه بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بـالدخول فـي الإسلام. ذكر من قال ذلك: ٣٤٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس فـي قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ كافّةً يعنـي أهل الكتاب. ٣٤٤٣ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول اللّه عز وجل: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: يعنـي أهل الكتاب. والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال إن اللّه جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بـالدخول فـي العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخـل فـي الذين آمنوا الـمصدقون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبـما جاء به، والـمصدّقون بـمن قبله من الأنبـياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا اللّه عز وجل كلا الفريقـين إلـى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والـمـحافظة علـى فرائضه التـي فرضها، ونهاهم عن تضيـيع شيء من ذلك، فـالآية عامة لكل من شمله اسم الإيـمان، فلا وجه لـخصوص بعض بها دون بعض. وبـمثل التأويـل الذي قلنا فـي ذلك كان مـجاهد يقول. ٣٤٤٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: ادخـلوا فـي الإسلام كافة، ادخـلوا فـي الأعمال كافة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كافّةً يعنـي جل ثناؤه كافّةً عامة جميعا. كما: ٣٤٤٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: فـي السّلْـمِ كافّةً قال: جميعا. ٣٤٤٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: جميعا. ٣٤٤٧ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: جميعا، وعن أبـيه، عن قتادة، مثله. ٣٤٤٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الـجرّاح، عن النضر، عن مـجاهد، ادْخُـلُوا فـي الإسلام جميعا. ٣٤٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس : كافّةً: جميعا. ٣٤٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كافّةً جميعا، وقرأ: وَقاتِلُوا الـمُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافةًجميعا. ٣٤٥١ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ادْخُـلُوا فِـي السّلْـمِ كافّةً قال: جميعا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِـينٌ. يعنـي جل ثناؤه بذلك: اعملوا أيها الـمؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخـلوا فـي التصديق به قولاً وعملاً، ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدوّ مبـين لكم عداوته. وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تَسْبِـيتُ السبت وسائر سنن أهل الـملل التـي تـخالف ملة الإسلام. وقد بـينت معنى الـخطوات بـالأدلة الشاهدة علـى صحته فـيـما مضى، فكرهت إعادته فـي هذا الـمكان. ٢٠٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ } يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتـم الـحق، فضللتـم عنه، وخالفتـم الإسلام وشرائعه، من بعدما جاءتكم حججي، وبـينات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بـالأدلة التـي قطعت عذركم أيها الـمؤمنون، فـاعلـموا أن اللّه ذو عزّه، لا يـمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم علـى مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع، حكيـم فـيـما يفعل بكم من عقوبته علـى معصيتكم إياه بعد إقامته الـحجة علـيكم، وفـي غيره من أموره. وقد قال عدد من أهل التأويـل: إن البـينات هي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن. وذلك قريب من الذي قلنا فـي تأويـل ذلك، لأن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم والقرآن من حجج اللّه علـى الذين خوطبوا بهاتـين الاَيتـين. غير أن الذي قلناه فـي تأويـل ذلك أولـى بـالـحقّ، لأن اللّه جل ثناؤه، قد احتـجّ علـى من خالف الإسلام من أخبـار أهل الكتاب بـما عهد إلـيهم فـي التوراة والإنـجيـل وتقدم إلـيه علـى ألسن أنبـيائهم بـالوصاة به، فذلك وغيره من حجج اللّه تبـارك وتعالـى علـيهم مع ما لزمهم من الـحجج بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـالقرآن فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويـل فـي ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر أقوال القائلـين فـي تأويـل قوله: فإنْ زَلَلْتُـمْ: ٣٤٥٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: فإنْ زَلَلْتُـمْ يقول: فإن ضللتـم. ٣٤٥٣ـ وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فإنْ زَلَلْتُـمْ قال: والزلل: الشرك. ذكر أقوال القائلـين فـي تأويـل قوله: مِنْ بَعْدَ ما جاءَتْكُمْ البَـيّناتُ: ٣٤٥٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: مِنْ بَعْد ما جاءَتْكُمْ البَـيّناتُ يقول: من بعد ما جاءكم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ٣٤٥٥ـ وحدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: فإنْ زَلَلْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمْ البَـيّناتُ قال: الإسلام والقرآن. ٣٤٥٦ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فـاعْلَـمُوا أنّ اللّه عَزيزٌ حَكِيـمُ يقول: عزيز فـي نقمته، حكيـم فـي أمره. ٢١٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الامُورُ } يعنـي بذلك جل ثناؤه: هل ينظر الـمكذّبون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به، إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام والـملائكة. ثم اختلفت القراء فـي قراءة قوله: وَالـمَلائِكَةُ. فقرأ بعضهم: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأْتِـيَهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالـمَلائِكَةُ بـالرفع عطفـا بـالـملائكة علـى اسم اللّه تبـارك وتعالـى، علـى معنى: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه والـملائكة فـي ظلل من الغمام. ذكر من قال ذلك: ٣٤٥٧ـ حدثنـي أحمد بن يوسف، عن أبـي عبـيد القاسم بن سلاّم، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر الرازي، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية قال: فـي قراءة أبـيّ بن كعب: (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِـيهُمُ اللّه وَالـمَلائِكَةُ فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ) قال: تأتـي الـملائكة فـي ظلل من الغمام، ويأتـي اللّه عز وجل فـيـما شاء. ٣٤٥٨ـ وقد حدثت هذا الـحديث عن عمار بن الـحسن، عن عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِـيَهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالـملائِكَةُ الآية وقال أبو جعفر الرازي: وهي فـي بعض القراءة: (هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه والـملائكة فـي ظلل من الغمام)، كقوله: وَيَوْمَ تَشَقّقُ السّماءُ بـالغَمامِ وَنُزّلَ الـمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً. وقرأ ذلك آخرون: (هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِـيهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والـملائِكَةِ) بـالـخفض عطفـا بـالـملائكة علـى الظلل بـمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام وفـي الـملائكة. وكذلك اختلفت القراء فـي قراءة (ظلل)، فقرأها بعضهم: (فـي ظلل)، وبعضهم: (فـي ظلال). فمن قرأها (فـي ظلل)، فإنه وجهها إلـى أنها جمع ظلة، والظلة تـجمع ظلل وظلال، كما تـجمع الـخـلة خـلل وخلال، والـجلة جلل وجلالوأما الذي قرأها فـي ظلال فإنه جعلها جمع ظلة، كما ذكرنا من جمعهم الـخـلة خلال. وقد يحتـمل أن يكون قارئه كذلك وجهه إلـى أن ذلك جمع ظل، لأن الظلة والظل قد يجمعان جميعا ظلالاً. والصواب من القراءة فـي ذلك عندي هَلْ يَنْظُرُون إلاّ أنْ يَأتِـيَهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ لـخبر روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنّ مِنَ الغَمامَ طاقاتٍ يَأتـي اللّه فِـيها مَـحْفوفـا) فدل بقوله طاقات علـى أنها ظلل لا ظلال، لأن واحد الظلل ظلة، وهي الطاق. واتبـاعا لـخط الـمصحف. وكذلك الواجب فـي كل ما اتفقت معانـيه واختلفت فـي قراءته القراء ولـم يكن علـى إحدى القراءتـين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خط الـمصحف، فـالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رسم الـمصحف. وأما الذي هو أولـى القراءتـين فـي: وَالـمَلائِكَةُ فـالصواب بـالرفع عطفـا بها علـى اسم اللّه تبـارك وتعالـى علـى معنى: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام، وإلا أن تأتـيهم الـملائكة علـى ما رُوي عن أبـيّ بن كعب، لأن اللّه جل ثناؤه قد أخبر فـي غير موضع من كتابه أن الـملائكة تأتـيهم، فقال جل ثناؤه: وَجاءَ رَبّكَ وَالـمَلَكُ صَفّـا صَفّـا وقال: هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ تأتِـيهُمُ الـمَلائِكَةُ أوْ يَأتـي رَبّكَ أوْ يَأتـي بَعْض آياتِ رَبّكَ. فإن أشكل علـى امرىء قول اللّه جل ثناؤه: وَالـمَلَكُ صَفّـا صَفّـا فظنّ أنه مخالف معناه معنى قوله هَلْ يَنْظُرونَ إلاّ أنْ يَأتِـيهُمْ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالـمَلائِكَةُ إذ كان قوله (والـملائكة) فـي هذه الآية بلفظ جمع، وفـي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظانّ، وذلك أن الـملَك فـي قوله: وَجاءَ رَبّكَ وَالـمَلَكُ بـمعنى الـجميع، ومعنى الـملائكة، والعرب تذكر الواحد بـمعنى الـجميع، فتقول: فلان كثـير الدرهم والدينار، يراد به الدراهم والدنانـير، وهلك البعير والشاة بـمعنى جماعة الإبل والشاء، فكذلك قوله: وَالـمَلَكُ بـمعنى الـملائكة. ثم اختلف أهل التأويـل فـي قوله: ظُلَلٍ مِنّ الغَمامِ وهل هو من صلة فعل اللّه جل ثناؤه، أو من صلة فعل الـملائكة، ومن الذي يأتـي فـيها؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل اللّه ، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام، وأن تأتـيهم الـملائكة. ذكر من قال ذلك: ٣٤٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأتِـيَهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ قال: هو غير السحاب لـم يكن إلا لبنـي إسرائيـل فـي تـيههم حين تاهوا، وهو الذي يأتـي اللّه فـيه يوم القـيامة. ٣٤٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يَأَتِـيَهُمُ اللّه فـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ قال: يأتـيهم اللّه وتأَتـيهم الـملائكة عند الـموت. ٣٤٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة فـي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِـيَهُمُ اللّه فـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ قال: طاقات من الغمام والـملائكة حوله. قال ابن جريج وقال غيره: والـملائكة بـالـموت. وقول عكرمة هذا وإن كان موافقا قول من قال: إن قوله فـي ظلل من الغمام من صلة فعل الرب تبـارك وتعالـى الذي قد تقدم ذكرناه، فإنه له مخالف فـي صفة الـملائكة وذلك أن الواجب من القراءة علـى تأويـل قول عكرمة هذا فـي الـملائكة الـخفض، لأنه تأول الآية: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام وفـي الـملائكة، لأنه زعم أن اللّه تعالـى يأتـي فـي ظلل من الغمام والـملائكة حوله. هذا إن كان وجه قوله والـملائكة حوله، إلـى أنهم حول الغمام، وجعل الهاء فـي حوله من ذكر الغمام وإن كان وجه قوله: والـملائكة حوله إلـى أنهم حول الرب تبـارك وتعالـى، وجعل الهاء فـي حوله من ذكر الرب عز جل، فقوله نظير قول الأخرين الذين قد ذكرنا قولهم غير مخالفهم فـي ذلك. وقال آخرون: بل قوله فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمام من صلة فعل الـملائكة، وإنـما تأتـي الـملائكة فـيها، وأما الربّ تعالـى ذكره فإنه يأتـي فـيـما شاء. ذكر من قال ذلك: ٣٤٦٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِـيَهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالـملائِكَةُ... الآية، قال: ذلك يوم القـيامة، تأتـيهم الـملائكة فـي ظلل من الغمام قال: الـملائكة يجيئون فـي ظلل من الغمام، والربّ تعالـى يجيء فـيـما شاء. وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من وجه قوله: فـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ إلـى أنه من صلة فعل الربّ عز وجل، وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام، وتأتـيهم الـملائكة. كما: ٣٤٦٣ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيـم بن الـمختار، عن ابن جريج، عن زمعة بن صالـح عن سلـمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ مِن الغَمامِ طاقاتٍ يأتـي اللّه فِـيها مَـحْفُوفـا)وذلك قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِـيَهُمُ اللّه فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والـمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ. وأما معنى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ فإنه ما ينظرون، وقد بـينا ذلك بعللّه فـيـما مضى من كتابنا هذا قبل. ثم اختلف فـي صفة إتـيان الرب تبـارك وتعالـى الذي ذكره فـي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِـيَهُمُ اللّه فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عزّ وجل من الـمـجيء والإتـيان والنزول، وغير جائز تكلف القول فـي ذلك لأحد إلا بخبر من اللّه جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول فـي صفـات اللّه وأسمائه، فغير جائز لأحد من جهة الاستـخراج إلا بـما ذكرنا. وقال آخرون: إتـيانه عز وجل نظير ما يعرف من مـجيء الـجائي من موضع إلـى موضع وانتقاله من مكان إلـى مكان. وقال آخرون: معنى قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أنْ يأتِـيَهُمُ اللّه يعنـي به: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم أمر اللّه ، كما يقال: قد خشينا أن يأتـينا بنو أمية، يراد به حكمهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن يأتـيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: بَلْ مَكْرُ اللّـيْـلِ وَالنّهارِ وكما يقال: قطع الوالـي اللصّ أو ضربه، وإنـما قطعه أعوانه. وقد بـينا معنى الغمام فـيـما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره، لأن معناه ههنا هو معناه هنالك. فمعنى الكلام إذا: هل ينظر التاركون الدخول فـي السلـم كافة والـمتبعون خطوات الشيطان إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام، فـيقضي فـي أمرهم ما هو قاضٍ. ٣٤٦٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن إسماعيـل بن رافع الـمدينـي، عن يزيد بن أبـي زياد، عن رجل من الأنصار، عن مـحمد بن كعب القرظي، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (تُوقَـفُونَ مَوْقِـفـا وَاحِدا يَوْمَ القِـيامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عاما لا يُنْظَرُ إلَـيْكُمْ وَلا يُقْضى بَـيْنَكُمْ، قَدْ حُصِرَ عَلَـيْكُمْ فَتَبْكُونَ حّتـى يَنْقَطِعَ الدّمْعُ، ثمّ تَدْمَعُونَ دَما، وتَبْكُونَ حتّـى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الأذْقانَ، أوْ يُـلْـجِمَكُمْ فَتَصيحُونَ، ثمّ تَقُولُونَ: مَنْ يَشْفَعُ لَنا إلـى ربّنا فَـيَقْضِي بَـيْنَنا؟ فَـيَقُولُونَ مَنْ أحَقّ بِذَلِكَ مِنْ أبِـيكُمْ آدَمَ؟ جَبَلَ اللّه تُرْبَتَهُ، وَخَـلَقهُ بِـيَدِهِ، وَنَفَخَ فِـيهِ مِنْ رُوحِهِ، وكَلّـمَهُ قِبَلاً، فَـيُؤْتَـى آدَمُ، فَـيُطْلَبُ ذَلِكَ إلَـيْهِ، فَـيَأبـي، ثمّ يَسْتَقْرئُونَ الأنْبِـياءَ نَبِـيّا نبـيّا، كُلّـما جاءُوا نَبِـيّا أبى)، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (حتّـى يأتُونـي، فإذَا جاءُونِـي خَرَجْتُ حتّـى آتـي الفَحْصَ)، قال أبو هريرة: يا رسول اللّه : وما الفَحصُ؟ قال: (قُدّامُ الَعرْشِ، فأخِرّ ساجِدا، فَلا أزَالُ ساجِدا حتّـى يَبْعَثَ اللّه إلـيّ مَلَكا، فَـيأخُذَ بِعَضُديّ فَـيَرْفَعَنِـي، ثُمّ يَقُولَ اللّه لـي: يا مُـحَمّدُ فأَقُولُ: نَعَمْ وَهُوَ أعْلَـمُ، فَـ يَقُولُ: ما شأنُكَ؟ فأقُولُ: يا رَبّ وَعَدْتِنِـي الشّفـاعَة، فَشَفّعْنِـي فِـي خَـلْقِكَ فـاقْض بَـيْنَهُمْ فَـ يَقُولُ: قَدْ شَفّعْتُكَ، أنا آتِـيكُمْ فأقْضي بَـيْنَكُمْ). قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فأنْصَرِفُ حتّـى أقِـفَ مَعَ النّاسِ، فَبَـيْنا نَـحْنُ وُقُوفٌ سَمعْنا حِسّا مِنَ السّماءِ شَديدا، فَهالنَا، فَنَزَلَ أهْلُ السّماء الدّنـيْا بِـمثْلَـيْ مَنْ فِـي الأرْضِ مِنَ الـجِنّ وَالإنْسِ حتّـى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ، فَقُلْنا لَهُمْ: أفِـيكُمْ رَبّنا؟ قالُوا: لا وَهُوَ آتٍ ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السّماءِ الثّانِـيَةِ بِـمِثْلَـيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الـمَلائِكَةِ، وَبِـمْثلَـيْ مَنْ فِـيها مِنَ الـجِنّ وَالإنْسِ، حتّـى إذَا دَنَوا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ، فَقُلْنا لَهُمْ: أفِـيكُمْ رَبّنا؟ قالُوا: لا وَهُوَ آتٍ. ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السّماءِ الثّالِثَةِ بِـمِثْلَـيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الـملائَكةِ، وبِـمِثْلَـيْ مَنْ فِـي الأرْضِ مِنَ الـجِنّ وَالإنْسِ حتـى إذَا دَنَوا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرضُ بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافّهُمْ، فَقُلْنا لَهُمْ: أفِـيكُمْ رَبّنا؟ قالُوا: لا وَهُوَ آتٍ، ثُمّ نَزَلَ أهْلُ السمّوَات علـى عَدَدِ ذَلِكَ مِنَ التّضْعِيفِ حتّـى نَزَلَ الـجَبّـارُ فِـي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالـمَلائِكَةِ وَلهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِـيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحانَ ذي الـمُلْكِ وَالـمَلَكُوتِ، سُبْحانَ رَبّ العَرْشِ ذِي الـجَبرُوتِ، سُبْحانَ الـحَيّ الّذِي لا يَـمُوتُ، سُبْحانَ الّذِي يُـمِيتُ الـخَلائِقَ وَلا يَـمُوتُ، سُبّوحٌ قَدّوسٌ، ربّ الـمَلائِكَةِ والرّوحِ، قُدّوسٌ قُدّوسٌ، سُبْحَانَ رَبّنا الأعْلَـى، سُبْحانَ ذِي السّلْطانِ وَالعَظَمَة، سُبْحانَهُ أَبدا أبَدا، فَـيَنْزلُ تَبـارَكَ وتَعالـى يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِـيَةٌ، وَهُمْ الـيَوْمَ أرْبَعَةٌ، أقْدَامُهُمْ علـى تُـخُومِ الأرْض السّفْلَـى وَالسّمَوَاتُ إلـى حُجَزهِمْ، وَالَعرْشُ علـى مَناكِبهِمْ، فَوَضَعَ اللّه عَزّ وَجَلّ عَرْشَهُ حَيْثُ شاءَ مِنَ الأرْضِ. ثُمّ يُنادي مُنادٍ نِدَاءً يُسْمِعُ الـخَلائِقَ، فَـ يَقُولُ: يا مَعْشَرَ الـجِنّ وَالإنْسِ إنّـي قَدْ أنْصَتّ مُنْذُ يَوْمَ خَـلَقْتُكُمْ إلـى يَوْمِكُمْ هَذَا، أسمَعُ كَلامَكُمْ، وأُبْصِر أعْمالَكُمْ، فأنْصِتُوا إلـيّ، فإنَـما هِيَ صُحُفَكُمْ وأعْمالُكُمْ تُقْرأُ عَلَـيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرا فَلَـيَحْمَد اللّه ، وَمَنْ وَجَدَ غيرَ ذَلِكَ فَلا يَـلُومَنّ إلاّ نَفْسَهُ، فَـيَقْضِي اللّه عَزّ وَجَلّ بـينَ خَـلْقِه الـجِنّ والإنْسِ وَالَبهائِم، فإنّهُ لَـيُقْتَصّ يَوْمَئِذٍ للْـجَمّاءمِنْ ذَاتِ القَرْنِ). وهذا الـخبر يدل علـى خطأ قول قتادة فـي تأويـله قوله: وَالـمَلائِكَةُ أنه يعنـي به: الـملائكة تأتـيهم عند الـموت، لأن صلى اللّه عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قـيام الساعة فـي موقـف الـحساب حين تشقق السماء. وبـمثل ذلك رُوي الـخبر عن جماعة من الصحابة والتابعين كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا فـي ذلك. ويوضح أيضا صحة ما اخترنا فـي قراءة قوله: وَالـمَلائِكَةُ بـالرفع علـى معنى: وتأتـيهم الـملائكة، ويبـين عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بـالـخفض لأنه أخبر صلى اللّه عليه وسلم أن الـملائكة تأتـي أهل القـيامة فـي موقـفهم حين تفطر السماء قبل أن يأتـيهم ربهم فـي ظلل من الغمام، إلا أن يكون قارىء ذلك ذهب إلـى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك: إلا أن يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام، وفـي الـملائكة الذين يأتون أهل الـموقـف حين يأتـيهم اللّه فـي ظلل من الغمام فـيكون ذلك وجها من التأويـل وإن كان بعيدا من قول أهل العلـم ودلالة الكتاب وآثار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الثابتة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقُضِيَ الأمْرُ وَإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ. يعنـي جل ثناؤه بذلك: وفصل القضاء بـالعدل بـين الـخـلق، علـى ما ذكرناه قبل عن أبـي هريرة عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مِنْ أخْذِ الـحَقّ لِكُلّ مَظْلُومٍ مِنْ كُلّ ظالِـمٍ، حتّـى القِصَاص للـجمّاء من القرْناء مِنَ البهائِم). وأما قوله: وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ فإنه يعنـي: وإلـى اللّه يئول القضاء بـين خـلقه يوم القـيامة والـحكم بـينهم فـي أمورهم التـي جرت فـي الدنـيا من ظلـم بعضهم بعضا، واعتداء الـمعتدي منهم حدود اللّه ، وخلاف أمره، وإحسان الـمـحسن منهم، وطاعته إياه فـيـما أمره به، فـيفصل بـين الـمتظالـمين، ويجازي أهل الإحسان بـالإحسان، وأهل الإساءة بـما رأى، ويتفضل علـى من لـم يكن منهم كافرا فـيعفو ولذلك قال جل ثناؤه: وَإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ وإن كانت أمور الدنـيا كلها والاَخرة من عنده مبدؤها وإلـيه مصيرها، إذ كان خـلقه فـي الدنـيا يتظالـمون، ويـلـي النظر بـينهم أحيانا فـي الدنـيا بعضُ خـلقه، فـيحكم بـينهم بعضُ عبـيده، فـيجور بعض، ويعدل بعض، ويصيب واحد، ويخطىء واحد، ويـمكّن من تنفـيذ الـحكم علـى بعض، ويتعذّر ذلك علـى بعض لـمنعة جانبه وغلبته بـالقوّة. فأعلـم عبـاده تعالـى ذكره أن مرجع جميع ذلك إلـيه فـي موقـف القـيامة، فـينصف كلاّ من كل، ويجازي حق الـجزاء كلاّ، حيث لا ظلـم ولا مـمتنع من نفوذ حكمه علـيه، وحيث يستوي الضعيف والقويّ، والفقـير والغنـيّ، ويضمـحل الظلـم وينزل سلطان العدل. وإنـما أدخـل جل وعز الألف واللام فـي الأمور لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور، ولـم يعن بها بعضا دون بعض، فكان ذلك بـمعنى قول القائل: يعجبنـي العسل، والبغل أقوى من الـحمار، فـيدخـل فـيه الألف واللام، لأنه لـم يقصد به قصد بعض دون بعض، إنـما يراد به العموم والـجمع. ٢١١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَلْ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: سل يا مـحمد بنـي إسرائيـل الذين لا ينتظرون بـالإنابة إلـى طاعتـي، والتوبة إلـي بـالإقرار بنبوّتك وتصديقك فـيـما جئتهم به من عندي، إلا أن آتـيهم فـي ظلل من الغمام وملائكتـي، فأفصل القضاء بـينك وبـين من آمن بك وصدّقك بـما أنزلتُ إلـيك من كتبـي، وفرضت علـيك وعلـيهم من شرائع دينـي وبـينهم كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، علـى ما فرضت علـيهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتـي، وتابعت علـيهم من حججي علـى أيدي أنبـيائي ورسلـي من قبلك مريدة لهم علـى صدقهم بـينة أنها من عندي، واضحة أنها من أدلتـي علـى صدق نُذري ورسلـي فـيـما افترضت علـيهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حججي، وكذبوا رسلـي، وغيروا نعمي قبلهم، وبدّلوا عهدي ووصيتـي إلـيهم. وأما الآية فقد بـينت تأويـلها فـيـما مضى من كتابنا بـما فـيه الكفـاية وهي ههنا. ما: ٣٤٦٥ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: سَلْ بَنِـي إسْرائِيـلَ كَمْ آتَـيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَـيّنَةٍ ما ذكر اللّه فـي القرآن وما لـم يذكر، وهم الـيهود. ٣٤٦٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: سَلْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ كَمْ آتَـيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَـيّنَةٍ يقول: آتاهم اللّه آيات بـينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوّهم وهم ينظرون، وظلّلَ علـيهم الغمام، وأنزل علـيهم الـمنّ والسلوى. وذلك من آيات اللّه التـي آتاها بنـي إسرائيـل فـي آيات كثـيرة غيرها، خالفوا معها أمر اللّه ، فقتلوا أنبـياء اللّه ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إلـيهم، قال اللّه : وَمَنْ يُبَدّلْ نعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فإنّ اللّه شَدِيدُ العِقاب. وإنـما أنبأ اللّه نبـيه بهذه الاَيات، فأمره بـالصبر علـى من كذبه، واستكبر علـى ربه، وأخبره أن ذلك فعل من قبله من أسلاف الأمـم قبلهم بأنبـيائهم، مع مظاهرته علـيهم الـحجج، وأن من هو بـين أظهرهم من الـيهود إنـما هم من بقايا من جرت عادتهم مـمن قص علـيه قصصهم من بنـي إسرائيـل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّه مِنْ بعَدِ ما جاءَتْهُ فَإنّ اللّه شَديدُ العِقابِ. يعنـي بـالنعم جل ثناؤه الإسلام وما فرض من شرائع دينه. ويعنـي بقوله: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّه ومن يغير ما عاهد اللّه فـي نعمته التـي هي الإسلام من العمل والدخول فـيه فـيكفر به، فإنه معاقبه بـما أوعد علـى الكفر به من العقوبة، واللّه شديد عقابه، ألـيـم عذابه. فتأويـل الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا بـالتوراة فصدّقوا بها، ادخـلوا فـي الإسلام جميعا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إلـيه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البـينات من عندي بـمـحمد، وما أظهرت علـى يديه لكم من الـحجج والعبر، فلا تبدلوا عهدي إلـيكم فـيه وفـيـما جاءكم به من عندي فـي كتابكم بأنه نبـيـي ورسولـي، فإنه من يبدّل ذلك منكم فـيغيره فإنـي له معاقب بـالألـيـم من العقوبة. وبـمثل الذي قلنا فـي قوله: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٤٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ قال: يكفر بها. ٣٤٦٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. ٣٤٦٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَمَنْ يُبَدّلْ نِعْمَةَ اللّه قال: يقول: من يبدلها كفرا. ٣٤٧٠ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَمَنْ يُبَدّلْ نَعْمَةَ اللّه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ يقول: ومن يكفر نعمته من بعد ما جاءته. ٢١٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا...} يعنـي جل ثناؤه بذلك: زين للذين كفروا حب الـحياة الدنـيا العاجلة اللذات، فهم يبتغون فـيها الـمكاثرة والـمفـاخرة، ويطلبون فـيها الرياسات والـمبـاهاة، ويستكبرون عن اتبـاعك يا مـحمد، والإقرار بـما جئت به من عندي تعظما منهم علـى من صدقك واتبعك، ويسخرون بـمن تبعك من أهل الإيـمان، والتصديق بك، فـي تركهم الـمكاثرة، والـمفـاخرة بـالدنـيا وزينتها من الرياش والأموال، بطلب الرياسات وإقبـالهم علـى طلبهم ما عندي برفض الدنـيا وترك زينتها، والذين عملوا لـي وأقبلوا علـى طاعتـي ورفضوا لذات الدنـيا وشهواتها، اتبـاعا لك، وطلبـا لـما عندي، واتقاء منهم بأداء فرائضي، وتـجنب معاصيّ فوق الذين كفروا يوم القـيامة بإدخال الـمتقـين الـجنة، وإدخال الذين كفروا النار. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك من التأويـل قال جماعة منهم. ذكر من قال ذلك: ٣٤٧١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا الـحياةُ الدّنْـيا قال: الكفـار يبتغون الدنـيا ويطلبونها، ويسخرون من الذين آمنوا فـي طلبهم الاَخرة. قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان مـحمد نبـيا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا، واللّه ما اتبعه إلا أهل الـحاجة مثل ابن مسعود. ٣٤٧٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَالّذِينَ اتّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ قال: فوقهم فـي الـجنة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. ويعنـي بذلك: واللّه يعطي الذين اتقوا يوم القـيامة من نعمه وكراماته وجزيـل عطاياه، بغير مـحاسبة منه لهم علـى منّ به علـيهم من كرامته. فإن قال لنا قائل: وما فـي قوله: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابِ من الـمدح؟ قـيـل: الـمعنى الذي فـيه من الـمدح الـخبر عن أنه غير خائف نفـاد خزائنه، فـيحتاج إلـى حساب ما يخرج منها، إذ كان الـحساب من الـمعطي إنـما يكون لـيعلـم قدر العطاء الذي يخرج من ملكه إلـى غيره لئلا يتـجاوز فـي عطاياه إلـى ما يجحف به، فربنا تبـارك وتعالـى غير خائف نفـاد خزائنه، ولا انتقاص شيء من ملكه بعطائه ما يعطي عبـاده، فـيحتاج إلـى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يُبِقـي فذلك الـمعنى الذي فـي قوله: وَاللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. ٢١٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ...} اختلف أهل التأويـل فـي معنى الأمة فـي هذا الـموضع، وفـي الناس الذين وصفهم اللّه بأنهم كانوا أمة واحدة فقال بعضهم: هم الذين كانوا بـين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا علـى شريعة من الـحق، فـاختلفوا بعد ذلك. ذكر من قال ذلك: ٣٤٧٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كان بـين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم علـى شريعة من الـحق، فـاختلفوا، فبعث اللّه النبـيـين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي فـي قراءة عبد اللّه (كانَ النّاسُ أمةً واحدةً فـاختْلفُوا). ٣٤٧٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: كانوا علـى الهدى جميعا، فـاختلفوا فَبَعَثَ اللّه النّبِـيّـينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرينَ فكان أولَ نبـيّ بعث نوح. فتأويـل الأمة علـى هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس الدين، كما قال النابغة الذبـيانـي: حَلَفْتُ فَلَـمْ أتْركْ لِنَفْسِكَ رِيبَةًوَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمّةٍ وَهُوَ طائِعُ يعنـي ذا الدين. فكان تأويـل الآية علـى معنى قول هؤلاء: كان الناس أمة مـجتـمعة علـى ملة واحدة ودين واحد، فـاختلفوا، فبعث اللّه النبـيـين مبشرين ومنذرين. وأصل الأمة الـجماعة، تـجتـمع علـى دين واحد، ثم يكتفـى بـالـخبر عن الأمة من الـخبر عن الدين لدلالتها علـيه كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ شاءَ اللّه لَـجَعَلَكُمْ أمّةً وَاحِدَةً يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عبـاس فـي تأويـله قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً إلـى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتـى اختلفوا. وقال آخرون: بل تأويـل ذلك كان آدم علـى الـحق إماما لذرّيته، فبعث اللّه النبـيـين فـي ولده ووجهوا معنى الأمة إلـى الطاعة للّه والدعاء إلـى توحيده واتبـاع أمره من قول اللّه عزّ وجل: إنّ إبْرَاهيـمَ كانَ أُمّةً قانِتا للّه حَنِـيفـا يعنـي بقوله أُمّةً إماما فـي الـخير يقتدى به، ويتبع علـيه. ذكر من قال ذلك: ٣٤٧٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: كانَ النّاسُ أُمْةً وَاحِدَةً قال: آدم. ٣٤٧٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. ٣٤٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال: آدم، قال: كان بـين آدم ونوح عشرة أنبـياء، فبعث اللّه النبـيـين مبشرين ومنذرين. قال مـجاهد: آدم أمة وحده، وكأنّ من قال هذا القول استـجاز بتسمية الواحد بـاسم الـجماعة لاجتـماع أخلاق الـخير الذي يكون فـي الـجماعة الـمفرقة فـيـمن سماه بـالأمة، كما يقال: فلان أمة وحده، يقول مقام الأمة. وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتـماع الأسبـاب من الناس علـى ما دعاهم إلـيه من أخلاق الـخير، فلـما كان آدم صلى اللّه عليه وسلم سببـا لاجتـماع من اجتـمع علـى دينه من ولده إلـى حال اختلافهم سماه بذلك أمة. وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة علـى دين واحد يوم استـخرج ذرية آدم من صلبه، فعرضهم علـى آدم. ذكر من قال ذلك: ٣٤٧٨ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً. وعن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، عن أبـيّ بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عرضوا علـى آدم ففطرهم يومئذٍ علـى الإسلام، وأقرّوا له بـالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلـمين كلهم. ثم اختلفوا من بعد آدم، فكان أبـيّ يقرأ: (كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فـاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللّه النَبِـيـيّنَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) إلـى (فِـيـما اخْتَلَفُوا فِـيهِ) وإن اللّه إنـما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف. ٣٤٧٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحدَةً قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لـم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك الـيوم، فبعث اللّه النبـيـين قال: هذا حين تفرّقت الأمـم. وتأويـل الآية علـى هذا القول نظير تأويـل قول من قال بقول ابن عبـاس : إن الناس كانوا علـى دين واحد فـيـما بـين آدم ونوح. وقد بـينا معناه هنالك إلا أن الوقت الذي كان فـيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته ابن عبـاس . وقال آخرون بخلاف ذلك كله فـي ذلك، و قالوا: إنـما معنى قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً علـى دين واحد، فبعث اللّه النبـيـين. ذكر من قال ذلك: ٣٤٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول: كان دينا واحدا، فبعث اللّه النبـيـين مبشرين ومنذرين. وأولـى التأويلات فـي هذه الآية بـالصواب أن يقال: إن اللّه عز وجل أخبر عبـاده أن الناس كانوا أمة واحدة علـى دين واحد وملة واحدة. كما: ٣٤٨١ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كانَ النّاسُ أُمةً وَاحِدَةً يقول: دينا واحدا علـى دين آدم، فـاختلفوا، فبعث اللّه النبـيـين مبشرين ومنذرين. وكان الدين الذي كانوا علـيه دين الـحق. كما قال أبـيّ بن كعب وكما: ٣٤٨٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: هي فـي قراءة ابن مسعود: (اختلفوا عنه) عن الإسلام. فـاختلفوا فـي دينهم، فبعث اللّه عند اختلافهم فـي دينهم النبـيـين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب لـيحكم بـين الناس فـيـما اختلفوا فـيه رحمة منه جل ذكره بخـلقه واعتذارا منه إلـيهم. وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فـيه أمة واحدة من عهد آدم إلـى عهد نوح علـيهما السلام، كما روى عكرمة، عن ابن عبـاس ، وكما قاله قتادة. وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض علـى آدم خـلقه. وجائز أن يكون كان ذلك فـي وقت غير ذلك. ولا دلالة من كتاب اللّه ولا خبر يثبت به الـحجة علـى أيّ هذه الأوقات كان ذلك، فغير جائز أن نقول فـيه إلا ما قال اللّه عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث اللّه فـيهم لـما اختلفوا الأنبـياء والرسل. ولا يضرّنا الـجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعنا العلـم به إذا لـم يكن العلـم به للّه طاعة، غير أنه أيّ ذلك كان، فإن دلـيـل القرآن واضح علـى أن الذين أخبر اللّه عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنـما كانوا أمة واحدة علـى الإيـمان ودين الـحقّ دون الكفر بـاللّه والشرك به. وذلك أن اللّه جل وعز قال فـي السورة التـي يذكر فـيها يونس: وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فـاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِـمَةٌ سَبَقتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَـيْنَهُمْ فِـيـما فِـيهِ يَخْتَلِفُونَ فتوعد جل ذكره علـى الاختلاف لا علـى الاجتـماع، ولا علـى كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتـماعهم قبل الاختلاف كان علـى الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لـم يكن إلا بـانتقال بعضهم إلـى الإيـمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولـى بحكمته جل ثناؤه فـي ذلك الـحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلـى طاعته، ومـحال أن يتوعد فـي حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك فـي حال اجتـماع الـجميع علـى الكفر والشرك. وأما قوله: فَبَعَثَ اللّه النَبِـيّـينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فإنه يعنـي أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع اللّه بجزيـل الثواب، وكريـم الـمآب ويعنـي بقوله وَمُنْذِرِينَ ينذرون من عصى اللّه فكفر به، بشدة العقاب، وسوء الـحساب والـخـلود فـي النار وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بـالـحَقّ لِـيَحْكُمَ بَـيْنَ النّاسِ فِـيـما اخْتَلَفُوا فِـيهِ يعنـي بذلك لـيحكم الكتاب وهو التوراة بـين الناس فـيـما اختلف الـمختلفون فـيه فأضاف جل ثناؤه الـحكم إلـى الكتاب، وأنه الذي يحكم بـين الناس دون النبـيـين والـمرسلـين، إذ كان من حكم من النبـيـين والـمرسلـين بحكم، إنـما يحكم بـما دلهم علـيه الكتاب الذي أنزل اللّه عزّ وجل، فكان الكتاب بدلالته علـى ما دل وصفه علـى صحته من الـحكم حاكما بـين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بـينهم غيره. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ. يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ وما اختلف فـي الكتاب الذي أنزله وهو التوراة، إلاّ الّذينَ أُوتُوهُ يعنـي بذلك الـيهود من بنـي إسرائيـل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلـم بها. والهاء فـي قوله (أوتوه) عائدة علـى الكتاب الذي أنزله اللّه . مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ يعنـي بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج اللّه وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فـيه وفـي أحكامه عند اللّه ، وأنه الـحق الذي لا يسعهم الاختلاف فـيه، ولا العمل بخلاف ما فـيه. فأخبر عز ذكره عن الـيهود من بنـي إسرائيـل أنهم خالفوا الكتاب التوراة، واختلفوا فـيه علـى علـم منهم، ما يأتون متعمدين الـخلاف علـى اللّه فـيـما خالفوه فـيه من أمره وحكم كتابه. ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الـخطيئة التـي أنزلها، وركوبهم الـمعصية التـي ركبوها من خلافهم أمره، إنـما كان منهم بغيا بـينهم. والبغي مصدر من قول القائل: بغى فلان علـى فلان بغيا إذا طغى واعتدى علـيه فجاوز حدّه، ومن ذلك قـيـل للـجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففـاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: بغى كل ذلك بـمعنى واحد، وهي زيادته وتـجاوز حده. فمعنى قوله جل ثناؤه: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ بَغيْا بَـيْنَهُمْ من ذلك. يقول: لـم يكن اختلاف هؤلاء الـمختلفـين من الـيهود من بنـي إسرائيـل فـي كتابـي الذي أنزلته مع نبـي عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فـيه، وخلاف حكمه من بعد ما ثبتت حجته علـيهم بغيا بـينهم، طلب الرياسة من بعضهم علـى بعض، واستذلالاً من بعضم لبعض. كما: ٣٤٨٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ثم رجع إلـى بنـي إسرائيـل فـي قوله: وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ يقول: إلا الذين أوتوا الكتاب والعلـم مِنْ بَعدِ ما جاءَتُهُمُ البَـيّناتُ بَغيْا بَـيْنَهُمْ يقول: بغيا علـى الدنـيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها، أيهم يكون له الـملك والـمهابة فـي الناس. فبغى بعضهم علـى بعض، وضرب بعضهم رقاب بعض. ثم اختلف أهل العربـية فـي (مِن) التـي فـي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ ما حكمها ومعناها؟ وما الـمعنى الـمنتسق فـي قوله وَما اخْتَلَفَ فِـيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَتْهُمُ البَـيّناتُ بَغيْا بَـيْنَهُمْ؟ فقال بعضهم: من ذلك للذين أوتوا الكتاب وما بعده صلة له. غير أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فـيه إلا الذين أوتوه بغيا بـينهم من بعد ما جاءتهم البـينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لـما قال هذا القائل، ولا لتقديـم البغي قبل (من)، لأن (من) إذا كان الـجالب لها البغي، فخطأ أن تتقدمه لأن البغي مصدر، ولا تتقدم صلة الـمصدر علـيه. وزعم الـمنكر ذلك أن (الذين) مستثنى، وأن (من بعد ما جاءتهم البـينات) مستثنى بـاستثناء آخر. وأن تأويـل الكلام: وما اختلف فـيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فـيه إلا بغيا، ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البـينات. فكأنه كرّر الكلام توكيدا. وهذا القول الثانـي أشبه بتأويـل الآية، لأن القوم لـم يختلفوا إلا من بعد قـيام الـحجة علـيهم ومـجيء البـينات من عند اللّه ، وكذلك لـم يختلفوا إلا بغيا، فذلك أشبه بتأويـل الآية. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لَـما اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنِهِ وَاللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـم. يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَهَدَى اللّه فوفق الذي آمنوا وهم أهل الإيـمان بـاللّه وبرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم الـمصدّقـين به وبـما جاء به أنه من عند اللّه لـما اختلف الذين أوتوا الكتاب فـيه. وكان اختلافهم الذي خذلهم اللّه فـيه، وهدى له الذين آمنوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: الـجمعة، ضلوا عنها وقد فرضت علـيهم كالذين فرض علـينا، فجعلوها السبت فقال صلى اللّه عليه وسلم: (نَـحْنُ الاَخِرُونَ السّابِقُونَ، بَـيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِـيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذَا الـيَوْمُ الّذِي اخْتَلَفُوا فِـيهِ، فَهَدَانا اللّه لَهُ، فَلِلْـيَهُودِ غَدا وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ). ٣٤٨٤ـ حدثنا بذلك أحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار اللـيثـي، قال: سمعت أبـا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى اللّه عليه وسلم. فذكر الـحديث. ٣٤٨٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبـي صالـح عن أبـي هريرة: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنِهِ قال: قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (نَـحْنُ الاَخِرُونَ الأوّلُونَ يَوْمَ القِـيامَةِ، نَـحْنُ أوّلُ النّاسِ دُخُولاً الـجَنّة بَـيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِـيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانا اللّه لِـما اختَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنِهِ فَهذَا الْـيوْمُ الّذِي هَدانَا اللّه لهُ والنّاسُ لنَا فِـيهِ تَبَعٌ، غَدا لِلْـيهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنّصَارَى). وكان مـما اختلفوا فـيه أيضا ما قال ابن زيد، وهو ما: ٣٤٨٦ـ حدثنـي به يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا للإسلام، واختلفوا فـي الصلاة، فمنهم من يصلـى إلـى الـمشرق، ومنهم من يصلـي إلـى بـيت الـمقدس، فهدانا للقبلة واختلفوا فـي الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، وبعضهم بعض لـيـلة، وهدانا اللّه له. واختلفوا فـي يوم الـجمعة، فأخذت الـيهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا اللّه له. واختلفوا فـي إبراهيـم، فقالت الـيهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانـيا، فبرأه اللّه من ذلك، وجعله حنـيفـا مسلـما، وما كان من الـمشركين للذين يدّعونه من أهل الشرك. واختلفوا فـي عيسى، فجعلته الـيهود لفرية، وجعلته النصارى ربـا، فهدانا اللّه للـحق فـيه فهذا الذي قال جل ثناؤه: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ بإذْنهِ. قال: فكانت هداية اللّه جل ثناؤه الذين آمنوا بـمـحمد، وبـما جاء به لـما اختلف هؤلاء الأحزاب من بنـي إسرائيـل الذين أوتوا الكتاب فـيه من الـحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان علـيه من الـحقّ من كان قبل الـمختلفـين الذين وصف اللّه صفتهم فـي هذه الآية إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيـم الـحنـيف الـمسلـم خـلـيـل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وسطا، كما وصفهم به ربهم لـيكونوا شهداء علـى الناس. كما: ٣٤٨٧ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ فهداهم اللّه عند الاختلاف أنهم أقاموا علـى ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف، أقاموا علـى الإخلاص للّه وحده وعبـادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا علـى الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف فكانوا شهداء علـى الناس يوم القـيامة كانوا شهداء علـى قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالـح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم كذبوا رسلهم. وهي فـي قراءة أبـيّ بن كعب: (لـيكونوا شهداء علـى الناس يوم القـيامة، واللّه يهدي من يشاء إلـى صراط مستقـيـم). فكان أبو العالـية يقول فـي هذه الآية الـمخرج من الشبهات والضلالات والفتن. ٣٤٨٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ يقول: اختلف الكفـار فـيه، فهدى اللّه الذي آمنوا للـحق من ذلك وهي فـي قراءة ابن مسعود: فهدى اللّه الذين آمنوا لـما اختلفوا (عنه) عن الإسلام. وأما قوله: بإذْنِهِ فإنه يعنـي جل ثناؤه بعلـمه بـما هداهم له، وقد بـينا معنى الإذن إذ كان بـمعنى العلـم فـي غير الـموضع بـما أغنى عن إعادته ههنا. وأما قوله: وَاللّه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـم فإنه يعنـي به: واللّه يسدد من يشاء من خـلقه ويرشده إلـى الطريق القويـم علـى الـحق الذي لا اعوجاج فـيه، كما هدى الذين آمنوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، لـما اختلف الذين أوتوا الكتاب فـيه بغيا بـينهم، فسدّدهم لإصابة الـحق والصواب فـيه. وفـي هذه الآية البـيان الواضح علـى صحة ما قاله أهل الـحق من أن كل نعمة علـى العبـاد فـي دينهم أو دنـياهم، فمن اللّه عز وجل. فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيه أهداهم للـحق أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنـما أضلهم، وإن كان هداهم للـحق فـيكف قـيـل: فَهَدَى اللّه الّذِين آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ؟ قـيـل: إن ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه، وإنـما معنى ذلك: فهدى اللّه الذين آمنوا للـحق فـيـما اختلف فـيه من كتاب اللّه الذين أوتوه، فكفر بتبديـله بعضهم، وثبت علـى الـحقّ والصواب فـيه بعضهم، وهم أهل التوراة الذين بدّلوها، فهدى اللّه للـحق مـما بدلوا وحرّفوا الذين آمنوا من أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا علـى ذي غفلة، فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و(مِنْ) إنـما هي فـي كتاب اللّه فـي (الـحق) واللام فـي قوله: لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ وأنت تـحوّل اللام فـي (الـحقّ)، و(من) فـي (الاختلاف) فـي التأويـل الذي تتأوله فتـجعله مقلوبـا؟ قـيـل: ذلك فـي كلام العرب موجود مستفـيض، واللّه تبـارك وتعالـى إنـما خاطبهم بـمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر: كانَتْ فَريضَةَ ما تَقَولُ كمَاكانَ الزّنَاءُ فَريضَة الرّجْمِ وإنـما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الاَخر: إنّ سِرَاجا لَكرِيـمٌ مَفْخَرُهْتَـحْلَـى بِهِ العَينُ إذَا ما تَـجْهَرُهْ وإنـما سراج الذي يحلـى بـالعين، لا العين بسراج. وقد قال بعضهم: إن معنى قوله فَهَدَى اللّه الّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِـيهِ مِنَ الـحَقّ أن أهل الكتب الأول اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند اللّه ، فهدى اللّه أهل الإيـمان بـمـحمد للتصديق بجميعها، وذلك قول، غير أن الأول أصحّ القولـين، لأن اللّه إنـما أخبر بـاختلافهم فـي كتاب واحد. ٢١٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ ...} وأما قوله: أمْ حَسِبْتُـمْ كأنه استفهم ب(أم) فـي ابتداء لـم يتقدمه حرف استفهام لسبوق كلام هو به متصل، ولو لـم يكن قبله كلام يكون به متصلاً، وكان ابتداء لـم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام لأن قائلاً لو كان قال مبتدئا كلاما لاَخر: أم عندك أخوك؟ لكان قائلاً ما لا معنى له ولكن لو قال: أنت رجل مدلّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ كان مصيبـا. وقد بـينا بعض هذا الـمعنى فـيـما مضى من كتابنا هذا بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. فمعنى الكلام: أم حسبتـم أنكم أيها الـمؤمنون بـاللّه ورسله تدخـلون الـجنة، ولـم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتبـاع الأنبـياء والرسل من الشدائد والـمـحن والاختبـار، فتبتلوا بـما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدّة الـحاجة والفـاقة والضرّاء، وهي العلل والأوصاب ولـم تزلزلوا زلزالهم، يعنـي: ولـم يصبهم من أعدائهم من الـخوف والرعب شدة وجهد حتـى يستبطىء القوم نصر اللّه إياهم، فـيقولون: متـى اللّه ناصرنا. ثم أخبرهم اللّه أن نصره منهم قريب، وأنه معلـيهم علـى عدوّهم، ومظهرهم علـيه، فنـجز لهم ما وعدهم، وأعلـى كلـمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا. وهذه الآية فـيـما يزعم أهل التأويـل نزلت يوم الـخندق، حين لقـي الـمؤمنون ما لقوا من شدة الـجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فـيه يومئذٍ، يقول اللّه جل وعز للـمؤمنـين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَـمْ تَرَوْها) إلـى قوله: وَإذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ وَتظُنّونَ بـاللّه الظّنُونا هُنالِكَ ابْتُلِـيَ الـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَلاً شَدِيدا. ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب: ٣٤٨٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنةَ وَلـمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَستّهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال: نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم: ما وَعَدَنا اللّه وَرَسُولُهُ إلاّ غُرُورا. ٣٤٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله وَلـمّا يأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ، مَسّتْهُمُ البَأساءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا قال: نزلت فـي يوم الأحزاب، أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بلاء وحصر، فكانوا كما قال اللّه جل وعز: وَبَلغَتِ القُلُوبُ الـحَناجِرَ. وأما قوله: وَلـمّا يَأتِكُمْ فإن عامة أهل العربـية يتأوّلونه بـمعنى: ولـم يأتكم، ويزعمون أن ما صلة وحشو، وقد بـينت القول فـي (ما) التـي يسميها أهل العربـية صلة (ما)، حكمها فـي غير هذا الـموضع بـما أغنى عن إعادته. وأما معنى قوله: مَثَلُ الّذِين خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ فإنه يعنـي: شبه الذين خـلوا فمضوا قبلكم. وقد دللت فـي غير هذا الـموضع علـى أن الـمثل الشبه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٤٩١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ وَلَـمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتهُمْ البْأسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا. ٣٤٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن عبد الـملك بن جريج، قال قوله: حتّـى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِين آمَنُوا قال: هو خيرهم وأعلـمهم بـاللّه . وفـي قوله: حتـى يَقُولَ الرّسُولُ وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لـما كان يحسن فـي موضعه (فعل) أبطل عمل (حتـى) فـيها، لأن (حتـى) غير عاملة فـي (فَعَلَ)، وإنـما تعمل فـي (يفعل)، وإذا تقدمها (فعل) وكان الذي بعدها (يفعل)، وهو مـما قد فعل وفرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فـالفصيح من كلام العرب حينئذٍ الرفع فـي (يفعل) وإبطال عمل (حتـى) عنه، وذلك نـحو قول القائل: قمت إلـى فلان حتـى أضربه، والرفع هو الكلام الصحيح فـي (أضربه)، إذا أراد: قمت إلـيه حتـى ضربته، إذا كان الضرب قد كان وفُرغ منه، وكان القـيام غير متطاول الـمدة. فأما إذا كان ما قبل (حتـى) من الفعل علـى لفظ (فعل) متطاول الـمدة، وما بعدها من الفعل علـى لفظ غير منقض، فـالصحيح من الكلام نصب (يفعل) وإعمال (حتـى)، وذلك نـحو قول القائل: ما زال فلان يطلبك حتـى يكلـمك، وجعل ينظر إلـيك حتـى يثبتك فـالصحيح من الكلام الذي لا يصحّ غير النصب ب(حتـى)، كما قال الشاعر: مَطَوْتُ بِهِمْ حتـى تَكِلّ مَطِيّهُمْوحتّـى الـجِيَادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ فنصب تكل والفعل الذي بعد حتـى ماض، لأن الذي قبلها من الـمطو متطاول، والصحيح من القراءة إذا كان ذلك كذلك: (وزلزلوا حتـى يقولَ الرسول)، نصب يقول، إذ كانت الزلزلة فعلاً متطاولاً، مثل الـمطو بـالإبل. وإنـما الزلزلة فـي هذا الـموضع: الـخوف من العدوّ، لا زلزلة الأرض، فلذلك كانت متطاولة وكان النصب فـي (يقول) وإن كان بـمعنى (فعل) أفصح وأصحّ من الرفع فـيه. ٢١٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا مـحمد، أيّ شيء ينفقون من أموالهم فـيتصدقون به، وعلـى من ينفقونه فـيـما ينفقونه ويتصدقون به؟ فقل لهم: ما أنفقتـم من أموالكم وتصدقتـم به فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لاَبـائكم وأمهاتكم وأقربـيكم، وللـيتامى منكم والـمساكين وابن السبـيـل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إلـيهم فإن اللّه به علـيـم، وهو مـحصيه لكم حتـى يوفـيكم أجوركم علـيه يوم القـيامة، ويثـيبكم علـى ما أطعتـموه بإحسانكم علـيه. والـخير الذي قال جل ثناؤه فـي قوله: قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ هو الـمال الذي سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه من النفقة منه، فأجابهم اللّه عنه بـما أجابهم به فـي هذه الآية. وفـي قوله: ماذَا وجهان من الإعراب: أحدهما أن يكون (ماذا) بـمعنى أيّ شيء، فـيكون نصبـا بقوله: (ينفقون)، فـيكون معنى الكلام حينئذً: يسألونك أيّ شيء ينفقون، ولا ينصب ب(يسألونك). والاَخر منهما الرفع. وللرفع فـي (ذلك) وجهان: أحدهما أن يكون (ذا) الذي مع (ما) بـمعنى (الذي)، فـيرفع (ما) ب(ذا) و(ذا) ب(ما)، و(ينفقون) من صلة (ذا)، فإن العرب قد تصل (ذا)، وهذا كما قال الشاعر: عَدَسْ، ما لعَبّـادٍ علـيكِ إمارَةٌأمِنْتِ وَهَذَا تَـحْمِلِـينَ طَلِـيقُ ف(تـحملـين) من صلة (هذا)، فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: يسألونك ما الذي ينفقون. والاَخر من وجهي الرفع أن تكون (ماذا) بـمعنى أيّ شيء، فـيرفع (ماذا)، وإن كان قوله: يُنْفِقُونَ واقعا علـيه، إذ كان العامل فـيه وهو (ينفقون) لا يصلـح تقديـمه قبله، وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديـم الفعل فـيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر: ألا تَسألاَنِ الـمَرْءَ ماذَا يُحاوِلُأنَـحْبٌ فَـيُقْضَى أمْ ضَلالٌ وَبـاطِلُ وكما قال الاَخر: وَقالُوا تَعَرّفْها الـمَنازِلَ مِنْ مِنًىوَما كُلّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أنا عارفُ فرفع كلّ ولـم ينصبه بعارف. إذْ كان معنى قوله: (وما كان من يغشى منى أنا عارف) جحود معرفة من يغشى منى، فصار فـي معنى ما أحد. وهذه الآية (نزلت) فـيـما ذكر قبل أن يفرض اللّه زكاة الأموال. ذكر من قال ذلك: ٣٤٩٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ قال: يوم نزلت هذه الآية لـم تكن زكاة، وإنـما هي النفقة ينفقها الرجل علـى أهله والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. ٣٤٩٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل الـمؤمنون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ والـيتَامَى وَالـمَساكِينِ وَابْنِ السّبِـيـلِ فذلك النفقة فـي التطوّع والزكاة سوى ذلك كله قال: وقال مـجاهد: سألوا فأفتاهم فـي ذلك ما أنفقتـم من خير فللوالدين والأقربـين وما ذكر معهما. ٣٤٩٥ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنـي عيسى، قال: سمعت ابن أبـي نـجيح فـي قول اللّه : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قال: سألوه فأفتاهم فـي ذلك: فللوالدين والأقربـين وما ذكر معهما. ٣٤٩٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله: قُلْ ما أنْفَقْتُـم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ قال: هذا من النوافل قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم. وهذا الذي قاله السدي من أنه لـم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاة، وإنـما كانت نفقة ينفقها الرجل علـى أهله، وصدقة يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة، قول مـمكن أن يكون، كما قال: ومـمكن غيره. ولا دلالة فـي الآية علـى صحة ما قال، لأنه مـمكن أن يكون قوله: قُلْ ما أنْفَقْتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبـيِنَ الآية، حَثّا من اللّه جل ثناؤه علـى الإنفـاق علـى من كانت نفقته غير واجبة من الاَبـاء والأمهات والأقربـاء، ومن سمى معهم فـي هذه الآية، وتعريفـا من اللّه عبـاده مواضع الفضل التـي تصرف فـيها النفقات، كما قال فـي الآية الأخرى: وآتَـى الـمَالَ علـى حُبّهِ ذَوِي القُربى والـيَتَامى وَالـمَساكِينَ وَابْنِ السّبِـيـلِ وَالسّائِلِـينَ وَفِـي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتَـى الزّكاة وهذا القول الذي قلناه فـي قول ابن جريج الذي حكيناه. وقد بـينا معنى الـمسكنة، ومعنى ابن السبـيـل فـيـما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته. ٢١٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِتالُ فرض علـيكم القتال، يعنـي قتال الـمشركين، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. واختلف أهل العلـم فـي الذين عنوا بفرض القتال، فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة دون غيرهم. ذكر من قال ذلك: ٣٤٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو علـى الناس من أجلها؟ قال: لا، كتب علـى أولئك حينئذٍ. ٣٤٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا خالد، عن حسين بن قـيس، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: كُتِبَ عَلَـيْكُمْ الِقتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال: نسختها قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا. وهذا قول لا معنى له، لأن نسخ الأحكام من قبل اللّه جل وعز لا من قبل العبـاد، وقوله: قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا خبر من اللّه عن عبـاده الـمؤمنـين وأنهم قالوه لا نسخ منه. ٣٤٩٩ـ حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول اللّه عز وجل: كُتِبَ عَلَـيْكُمْ القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو علـى الناس كلهم؟ قال: لا أعلـمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل فـي خاصة نفسه فلا. وقال آخرون: هو علـى كل واحد حتـى يقوم به من فـي قـيامه الكفـاية، فـيسقط فرض ذلك حينئذٍ عن بـاقـي الـمسلـمين كالصلاة علـى الـجنائز وغسلهم الـموتـى ودفنهم، وعلـى هذا عامة علـماء الـمسلـمين. وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الـحجة علـى ذلك، ولقول اللّه عز وجل: فَضّلَ اللّه الـمُـجاهِدينَ بأمْوَالِهم وأنْفُسِهِمْ علـى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاّ وَعَدَ اللّه الـحُسْنَى فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للـمـجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الـحسنى، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهمّ السوأى لا الـحسنى. وقال آخرون: هو فرض واجب علـى الـمسلـمين إلـى قـيام الساعة. ذكر من قال ذلك: ٣٥٠٠ـ حدثنا حسين بن ميسر، قال: حدثنا روح بن عبـادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبـي عاصم، قال: قلت لسعيد بن الـمسيب: قد أعلـم أن الغزو واجب علـى الناس فسكت. وقد أعلـم أنْ لو أنكر ما قلت لبـين لـي. وقد بـينا فـيـما مضى معنى قوله (كتب) بـما فـيه الكفـاية. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر (ذو) اكتفـاء بدلالة قوله: (كره لكم) علـيه، كما قال: وَاسْألِ القَرْيَةَ. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك روي عن عطاء فـي تأويـله. ذكر من قال ذلك: ٣٥٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال: كره إلـيكم حينئذ. والكره بـالضم: هو ما حمل الرجل نفسه علـيه من غير إكراه أحد إياه علـيه، والكره بفتـح الكاف: هو ما حمله غيره، فأدخـله علـيه كرها ومـمن حُكي عنه هذا القول معاذ بن مسلـم. ٣٥٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد، عن معاذ بن مسلـم، قال: الكُرْه: الـمشقة، والكَرْه: الإجبـار. وقد كان بعض أهل العربـية يقول الكرَه والكُرْه لغتان بـمعنى واحد، مثل الغَسل والغُسل، والضّعف والضّعف، والرّهب والرّهب. وقال بعضهم: الكُره بضم الكاف اسم، والكَره بفتـحها مصدر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أنْ تُـحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتال، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خير لكم، ولا تـحبوا ترك الـجهاد، فلعلكم أن تـحبوه وهو شّر لكم. كما: ٣٥٠٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: كُتِبَ عَلَـيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تَكُرَهُوا شَيْئا وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُـحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وذلك لأن الـمسلـمين كانوا يكرهون القتال، فقال: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. يقول: إن لكم فـي القتال الغنـيـمة والظهور والشهادة، ولكم فـي القعود أن لا تظهروا علـى الـمشركين، ولا تستشهدوا، ولا تصيبوا شيئا. ٣٥٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن إبراهيـم السلـمي، قال: ثنـي يحيى بن مـحمد بن مـجاهد، قال: أخبرنـي عبـيد اللّه بن أبـي هاشم الـجعفـي، قال: أخبرنـي عامر بن واثلة قال: قال ابن عبـاس : كنت رِدْف النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (يا ابن عبـاس ارْضَ عنِ اللّه بـمَا قَدّرَ وَإنْ كانَ خِلافَ هواكَ، فإنّه مُثْبَتٌ فـي كتابِ اللّه ) قلت: يا رسول اللّه فأين وقد قرأتُ القرآن؟ قال: (فـي قوله: وَعَسَىَ أنْ تَكْرَهُوا شيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُـحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وَاللّه يَعْلَـمُ وأنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ). القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه يَعْلَـمُ وأنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ. يعنـي بذلك جل ثناؤه: واللّه يعلـم ما هو خير لكم مـما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبت علـيكم من جهاد عدوّكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإنـي أعلـم أن قتالكم إياهم، هو خير لكم فـي عاجلكم ومعادكم وترككم قتالهم شر لكم، وأنتـم لا تعلـمون من ذلك ما أعلـم، يحضهم جل ذكره بذلك علـى جهاد أعدائه، ويرغبهم فـي قتال من كفر به. ٢١٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك يا مـحمد أصحابك عن الشهر الـحرام وذلك رجب عن قتال فـيه. وخفض (القتال) علـى معنى تكرير عن علـيه، وكذلك كانت قراءة عبد اللّه بن مسعود فـيـما ذكر لنا. وقد: ٣٥٠٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قال: يقول: يسألونك عن قتال فـيه قال: وكذلك كان يقرؤها: (عن قتال فـيه). قال أبو جعفر: قل يا مـحمد قتال فـيه، يعنـي فـي الشهر الـحرام كبـير: أي عظيـم عند اللّه استـحلاله، وسفك الدماء فـيه. ومعنى قوله: قِتالٍ فِـيهِ قل القتال فـيه كبـير. وإنـما قال: قل قتال فـيه كبـير، لأن العرب كانت لا تقرع فـيه الأسنة، فـيـلقـى الرجل قاتل أبـيه أو أخيه فـيه فلا يهيجه تعظيـما له، وتسميه مضر (الأصمّ) لسكون أصوات السلاح وقعقعته فـيه. وقد: ٣٥٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قال: حدثنا شعيب بن اللـيث، قال: حدثنا اللـيث، قال: حدثنا الزبـير، عن جابر قال: لـم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يغزو فـي الشهر الـحرام إلا أن يُغْزَى، أو يغزو حتـى إذا حضر ذلك أقام حتـى ينسلـخ. وقوله جل ثناؤه: وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه ومعنى الصدّ عن الشيء: الـمنع منه، والدفع عنه، ومنه قـيـل: صدّ فلان بوجهه عن فلان: إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إلـيه. وقوله: وكُفْرٌ بِه يعنـي: وكفر بـاللّه ، والبـاء فـي به عائدة علـى اسم اللّه الذي فـي سبـيـل اللّه . وتأويـل الكلام: وصدّ عن سبـيـل اللّه ، وكفر به، وعن الـمسجد الـحرام وإخراج أهل الـمسجد الـحرام، وهم أهله وولاته أكْبَرُ عِنْدَ اللّه من القتال فـي الشهر الـحرام. فـالصدّ عن سبـيـل اللّه مرفوع بقوله أكبرُ عنَد اللّه وقوله: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ عطف علـى الصدّ ثم ابتدأ الـخبر عن الفتنة فقال: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ يعنـي: الشرك أعظم وأكبر من القتل، يعنـي من قتل ابن الـحضرمي الذي استنكرتـم قتله فـي الشهر الـحرام. وقد كان بعض أهل العربـية يزعم أن قوله: وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ معطوف علـى (القتال)، وأن معناه: يسألونك عن الشهر الـحرام، عن قتال فـيه، وعن الـمسجد الـحرام، فقال اللّه جل ثناؤه: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه من القتال فـي الشهر الـحرام.
وهذا القول مع خروجه من أقوال أهل العلـم، قول لا وجه له لأن القوم لـم يكونوا فـي شكّ من عظيـم ما أتـى الـمشركون إلـى الـمسلـمين فـي إخراجهم إياهم من منازلهم بـمكة، فـيحتاجوا إلـى أن يسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن إخراج الـمشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم؟ بل لـم يدّع ذلك علـيهم أحد من الـمسلـمين، ولا أنهم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك. وإذْ كان ذلك كذلك، فلـم يكن القوم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا عما ارتابوا بحكمه كارتـيابهم فـي أمر قتل ابن الـحضرمي، إذ ادّعوا أن قاتله من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتله فـي الشهر الـحرام، فسألوا عن أمره، لارتـيابهم فـي حكمه. فأما إخراج الـمشركين أهل الإسلام من الـمسجد الـحرام، فلـم يكن فـيهم أحد شاكا أنه كان ظلـما منهم لهم فـيسألوا عنه. ولا خلاف بـين أهل التأويـل جميعا أن هذه الآية نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي سبب قتل ابن الـحضرمي وقاتله. ذكر الرواية عمن قال ذلك: ٣٥٠٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبـير، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن جحش فـي رجب مقـفله من بدر الأولـى، وبعث معه بثمانـية رهط من الـمهاجرين، لـيس فـيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابـا، وأمره أن لا ينظر فـيه حتـى يسير يومين ثم ينظر فـيه فـيـمضي لـما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدا. وكان أصحاب عبد اللّه بن جحش من الـمهاجرين من بنـي عبد شمس أبو حذيفة بن ربـيعة ومن بنـي أمية بن عبد شمس، ثم من حلفـائهم عبد اللّه بن جحش بن رياب، وهو أمير القوم، وعكّاشة بن مـحصن بن حرثان أحد بنـي أسد بن خزيـمة، ومن بنـي نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حلـيف لهم، ومن بنـي زهرة بن كلاب: سعد بن أبـي وقاص، ومن بنـي عديّ بن كعب عامر بن ربـيعة حلـيف لهم، وواقد بن عبد اللّه بن مناة بن عويـم بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بنـي سعد بن لـيث حلـيف لهم، ومن بنـي الـحرث بن فهر سهيـل بن بـيضاء. فلـما سار عبد اللّه بن جحش يومين فتـح الكتاب ونظر فـيه، فإذا فـيه: (إذا نظرت إلـى كتابـي هذا، فسر حتـى تنزل نـخـلة بـين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلّـم لنا من أخبـارهم). فلـما نظر عبد اللّه بن جحش فـي الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أمضي إلـى نـخـلة فأرصد بها قريشا حتـى آتـيه منهم بخبر، وقد نهانـي أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فـيها فلـينطلق، ومن كره ذلك فلـيرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمضى ومضى أصحابه معه، فلـم يتـخـلف عنه أحد، وسلك علـى الـحجاز، حتـى إذا كان بـمعدن فوق الفرُع يقال له نُـجْران، أضل سعد بن أبـي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا علـيه يعتقبـانه، فتـخـلفـا علـيه فـي طلبه، ومضى عبد اللّه بن جحش وبقـية أصحابه حتـى نزل بنـخـلة، فمرّت به عير لقريش تـحمل زبـيبـا وأدما وتـجارة من تـجارة قريش فـيها منهم عمرو بن الـحضرمي، وعثمان بن عبد اللّه بن الـمغيرة، وأخوه نوفل بن عبد اللّه بن الـمغيرة الـمخزوميان، والـحكم بن كيسان مولـى هشام بن الـمغيرة فلـما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبـا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن مـحصن، وقد كان حلق رأسه فلـما رأوه أمنوا و قالوا: عُمار فلا بأس علـينا منهم وتشاور القوم فـيهم، وذلك فـي أخر يوم من جمادى، فقال القوم: واللّه لئن تركتـم القوم هذه اللـيـلة لـيدخـلُنّ الـحرم فلـيـمتنعنّ به منكم، ولئن قتلتـموهم لنقتلنهم فـي الشهر الـحرام. فتردّد القوم فهابوا الإقدام علـيهم، ثم شجعوا علـيهم، وأجمعوا علـى قتل من قدروا علـيه منهم، وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد اللّه التـميـمي عمرو بن الـحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد اللّه ، والـحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد اللّه فأعجزهم. وقدم عبد اللّه بن جحش وأصحابه بـالعير والأسيرين، حتـى قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالـمدينة. وقد ذكر بعض آل عبد اللّه بن جحش أن عبد اللّه بن جحش قال لأصحابه: إن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مـما غنـمتـم الـخمس وذلك قبل أن يفرض الـخمس من الغنائم. فعزل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها علـى أصحابه فلـما قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما أمَرْتُكُمْ بِقِتالٍ فِـي الشّهْرِ الـحَرَامِ)، فوقـف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلـما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، سُقِط فـي أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم الـمسلـمون فـيـما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتـم ما لـم تؤمروا به، وقاتلتـم فـي الشهر الـحرام ولـم تؤمروا بقتال وقالت قريش: قد استـحلّ مـحمد وأصحابه الشهر الـحرام، فسفكوا فـيه الدم، وأخذوا فـيه الأموال وأسروا. فقال من يردّ ذلك علـيهم من الـمسلـمين مـمن كان بـمكة: إنـما أصابوا ما أصابوا فـي جمادى وقالت يهود تتفـاءل بذلك علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: عمرو بن الـحضرمي قتله واقد بن عبد اللّه ، عمرو: عمرت الـحرب، والـحضرمي: حضرت الـحرب، وواقد بن عبد اللّه : وقدت الـحرب فجعل اللّه علـيهم ذلك وبهم. فلـما أكثر الناس فـي ذلك أنزل اللّه جل وعز علـى رسوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ أي عن قتال فـيه قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ إلـى قوله: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي إن كنتـم قتلتـم فـي الشهر الـحرام فقد صدوكم عن سبـيـل اللّه مع الكفر به، وعن الـمسجد الـحرام، وإخراجكم عنه، إذ أنتـم أهله وولاته، أكبر عند اللّه من قتل من قتلتـم منهم وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي قد كانوا يفتنون الـمسلـم عن دينه حتـى يردّوه إلـى الكفر بعد إيـمانه وذلك أكبر عند اللّه من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتـى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا، أي هم مقـيـمون علـى أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبـين ولا نازعين فلـما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرج اللّه عن الـمسلـمين ما كانوا فـيه من الشّفَق، قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العير والأسيرين. ٣٥٠٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر، وأمّر علـيهم عبد اللّه بن جحش الأسدي، وفـيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربـيعة، وسعد بن أبـي وقاص، وعتبة بن غزوان السلـمي حلـيف لبنـي نوفل، وسهيـل بن بـيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد اللّه الـيربوعي حلـيف لعمر بن الـخطاب وكتب مع ابن جحش كتابـا وأمره أن لا يقرأه حتـى ينزل مَلَل، فلـما نزل ببطن ملل فتـح الكتاب، فإذا فـيه: أن سر حتـى تنزل بطن نـخـلة. فقال لأصحابه: من كان يريد الـموت فلـيـمض ولـيوص، فإنـي موص وماض لأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسار وتـخـلف عنه سعد بن أبـي وقاص وعتبة بن غزوان أضلا راحلة لهما، فأتـيا نُـجْران يطلبـانها، وسار ابن جحش إلـى بطن نـخـلة، فإذا هم بـالـحكم بن كيسان، وعبد اللّه بن الـمغيرة، والـمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الـحضرمي. فـاقتتلوا، فأسروا الـحكم بن كيسان وعبد اللّه بن الـمغيرة، وانفلت الـمغيرة، وقتل عمرو بن الـحضرمي، قتله واقد بن عبد اللّه ، فكانت أول غنـيـمة غنـمها أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فلـما رجعوا إلـى الـمدينة بـالأسيرين وما غنـموا من الأموال أراد أهل مكة أن يفـادوا بـالأسيرين، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (حّتـى نَنْظُرَ ما فَعَلَ صَاحِبـانا) فلـما رجع سعد وصاحبه فـادى بـالأسيرين، ففجر علـيه الـمشركون و قالوا: مـحمد يزعم أنه يتبع طاعة اللّه ، وهو أوّل من استـحلّ الشهر الـحرام وقتل صاحبنا فـي رجب، فقال الـمسلـمون: إنـما قتلناه فـي جمادى، وقـيـل فـي أول لـيـلة من رجب، وآخر لـيـلة من جمادى وغمد الـمسلـمون سيوفهم حين دخـل رجب، فأنزل اللّه جل وعز يعير أهل مكة: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ لا يحل، وما صنعتـم أنتـم يا مشعر الـمشركين أكبر من القتل فـي الشهر الـحرام، حين كفرتـم بـاللّه ، وصددتـم عنه مـحمدا وأصحابه، وإخراج أهل الـمسجد الـحرام منه حين أخرجوا مـحمدا، أكبر من القتل عند اللّه ، والفتنة هي الشرك أعظم عند اللّه من القتل فـي الشهر الـحرام، فذلك قوله: وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه وكُفْرٌ بِهِ والـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ. ٣٥٠٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى الصنعانـي، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان التـيـمي، عن أبـيه أنه حدثه رجل، عن أبـي السوار يحدثه، عن جندب بن عبد اللّه . عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه بعث رهطا، فبعث علـيهم أبـا عبـيدة فلـما أخذ لـينطلق بكى صبـابةً إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبعث رجلاً مكانه يقال له عبد اللّه بن جحش، وكتب له كتابـا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتـى يبلغ كذا وكذا، ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك علـى السير معك. فلـما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعا وطاعة لأمر اللّه ورسوله. فخبرهم الـخبر، وقرأ علـيهم الكتاب. فرجع رجلان ومضى بقـيتهم. فلقوا ابن الـحضرمي فقتلوه، ولـم يدروا ذلك الـيوم من رجب أو من جمادى؟ فقال الـمشركون للـمسلـمين: فعلتـم كذا وكذا فـي الشهر الـحرام فأتوا النبـيّصلى اللّه عليه وسلم فحدثوه الـحديث، فأنزل اللّه عز وجل: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه وكُفْرٌ بِهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ والفتنة: هي الشرك. وقال بعض الذين أظنه قال: كانوا فـي السرية: واللّه ما قتله إلا واحد، فقال: إن يكن خيرا فقد وَلِـيت، وإن يكن ذنبـا فقد عملت. ٣٥١٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قال: إن رجلاً من بنـي تـميـم أرسله النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي سرية، فمرّ بـابن الـحضرمي يحمل خمرا من الطائف إلـى مكة، فرماه بسهم فقتله وكان بـين قريش ومـحمد عقد، فقتله فـي آخر يوم من جمادى الاَخرة، وأول يوم من رجب، فقالت قريش: فـي الشهر الـحرام ولنا عهد؟ فأنزل اللّه جل وعز: قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه وكُفْرٌ بِهِ و صدّ عن الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه من قتل ابن الـحضرمي، والفتنة كفر بـاللّه ، وعبـادة الأوثان أكبر من هذا كله. ٣٥١١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، وعثمان الـجزري، عن مقسم مولـى ابن عبـاس ، قال: لقـي واقد بن عبد اللّه عمرو بن الـحضرمي فـي أول لـيـلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى فقتله، وهو أول قتـيـل من الـمشركين، فعير الـمشركون الـمسلـمين فقالوا: أتقتلون فـي الشهر الـحرام؟ فأنزل اللّه : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وصَدّ عَن سَبِـيـلِ اللّه وكُفْرٌ بِهِ وَالَـمسْجِدِ الـحَرَامِ يقول: وصدّ عن سبـيـل اللّه ، وكفر بـاللّه والـمسجد الـحرام، وصد عن الـمسجد الـحرام وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه من قتل عمرو بن الـحضرمي والفتنة: يقول: الشرك الذي أنتـم فـيه أكبر من ذلك أيضا. قال الزهري: وكان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيـما بلغنا يحرّم القتال فـي الشهر الـحرام ثم أُحِلّ بعد. ٣٥١٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وذلك أن الـمشركين صدّوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وردّوه عن الـمسجد الـحرام فـي شهر حرام، ففتـح اللّه علـى نبـيه فـي شهر حرام من العام الـمقبل، فعاب الـمشركون علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القتال فـي شهر حرام، فقال اللّه جل وعز: وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه وكُفْرٌ بِهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِه مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه من القتل فـيه وإن مـحمدا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الـحضرمي وهو مقبل من الطائف آخر لـيـلة من جمادى وأول لـيـلة من رجب وإن أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك اللـيـلة من جمادى وكانت أول رجب ولـم يشعروا، فقتله رجل منهم واحد. وإن الـمشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فقال اللّه جل وعز: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وغير ذلك أكبر منه صدّ عن سبـيـل اللّه ، وكفر به، والـمسجد الـحرام، وإخراج أهله منه، إخراج أهل الـمسجد الـحرام أكبر من الذي أصاب مـحمدٌ والشرك بـاللّه أشد. ٣٥١٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن حصين، عن أبـي مالك، قال: لـما نزلت: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ إلـى قوله: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ استكبروه، فقال: والفتنة: الشرك الذي أنتـم علـيه مقـيـمون أكبر مـما استكبرتـم. ٣٥١٤ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن حصين، عن أبـي مالك الغفـاري قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن جحش فـي جيش، فلقـي ناسا من الـمشركين ببطن نـخـلة، والـمسلـمون يحسبون أنه آخر يوم من جمادى، وهو أول يوم من رجب، فقتل الـمسلـمون ابن الـحضرمي، فقال الـمشركون: ألستـم تزعمون أنكم تـحرمون الشهر الـحرام والبلد الـحرام؟ وقد قتلتـم فـي الشهر الـحرام فأنزل اللّه : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ إلـى قوله: أكْبَرُ عِنْدَ اللّه مِنَ الذي استكبرتـم من قتل ابن الـحضرمي والفتنة التـي أنتـم علـيها مقـيـمون، يعنـي الشرك أكبر من القتل. ٣٥١٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: وكان يسميها، يقول: لقـي واقد بن عبد اللّه التـميـمي عمرو بن الـحضرمي ببطن نـخـلة فقتله. ٣٥١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ فـيـمن نزلت؟ قال: لا أدري، قال ابن جريج: قال عكرمة ومـجاهد: فـي عمرو بن الـحضرمي، قال ابن جريج: وأخبرنا ابن أبـي حسين عن الزهري ذلك أيضا. ٣٥١٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه وكُفْرٌ بِهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ قال يقول: صدّ عن الـمسجد الـحرام وإخراج أهله منه، فكل هذا أكبر من قتل ابن الـحضرمي، والفتنة أكبر من القتل كفر بـاللّه وعبـادة الأوثان أكبر من هذا كله. ٣٥١٨ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ كان أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم قتلوا ابن الـحضرمي فـي الشهر الـحرام، فعير الـمشركون الـمسلـمين بذلك، فقال اللّه : قتال فـي الشهر الـحرام كبـير، وأكبر من ذلك صدّ عن سبـيـل اللّه وكفر به، وإخراج أهل الـمسجد الـحرام من الـمسجد الـحرام. وهذان الـخبران اللذان ذكرناهما عن مـجاهد والضحاك ، ينبئان عن صحة ما قلنا فـي رفع (الصدّ) به، وأن رافعه (أكبر عند اللّه )، وهما يؤكدان صحة ما روينا فـي ذلك عن ابن عبـاس ، ويدلان علـى خطأ من زعم أنه مرفوع علـى العطف علـى الكبـير. وقول من زعم أن معناه: وكبـير صدّ عن سبـيـل اللّه ، وزعم أن قوله: (وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه ) خبر منقطع عما قبله مبتدأ. ٣٥١٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، عن الشعبـي فـي قوله: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ قال: يعنـي به الكفر. ٣٥٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه من ذلك. ثم عير الـمشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال: وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي الشرك بـاللّه أكبر من القتل. وبـمثل الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك رُوي عن ابن عبـاس . ٣٥٢١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: لـما قتل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن الـحضرمي فـي آخر لـيـلة من جمادى وأول لـيـلة من رجب، أرسل الـمشركون إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعيرونه بذلك، فقال: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وغير ذلك أكبر منه: صدّ عن سبـيـل اللّه ، وكفر به، والـمسجد الـحرام، وإخراج أهله منه أكبر من الذي أصاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي الذي ارتفع به قوله: وصَدّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه فقال بعض نـحويـي الكوفـيـين فـي رفعه وجهان: أحدهما: أن يكون الصدّ مردودا علـى الكبـير، يريد: قل القتال فـيه كبـير، وصدّ عن سبـيـل اللّه وكفر به، وإن شئت جعلت الصدّ كبـيرا، يريد به: قل القتال فـيه كبـير، وكبـير الصدّ عن سبـيـل اللّه والكفر به، قال: فأخطأ، يعنـي الفراء فـي كلا تأويـلـيه، وذلك أنه إذا رفع الصدّ عطفـا به علـى كبـير، يصير تأويـل الكلام: قل القتال فـي الشهر الـحرام كبـير، وصدّ عن سبـيـل اللّه ، وكفر بـاللّه . وذلك من التأويـل خلاف ما علـيه أهل الإسلام جميعا، لأنه لـم يدّع أحد أن اللّه تبـارك وتعالـى جعل القتال فـي الأشهر الـحرم كفرا بـاللّه ، بل ذلك غير جائز أن يتوهم علـى عاقل يعقل ما يقول أن يقوله، وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، واللّه جل ثناؤه يقول فـي أثر ذلك: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه ؟ فلو كان الكلام علـى ما رآه جائزا فـي تأويـله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل الـمسجد الـحرام من الـمسجد الـحرام كان أعظم عند اللّه من الكفر به، وذلك أنه يقول فـي أثره: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّه وفـي قـيام الـحجة بأن لا شيء أعظم عند اللّه من الكفر به، ما يبـين عن خطأ هذا القولوأما إذا رفع الصد بـمعنى ما زعم أنه الوجه الاَخر، وذلك رفعه بـمعنى: وكبـير صد عن سبـيـل اللّه ، ثم قـيـل: وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه ، صار الـمعنى: إلـى أن إخراج أهل الـمسجد الـحرام من الـمسجد الـحرام أعظم عند اللّه من الكفر بـاللّه ، والصدّ عن سبـيـله، وعن الـمسجد الـحرام، ومتأوّل ذلك كذلك داخـل من الـخطأ فـي مثل الذي دخـل فـيه القائل القول الأول من تصيـيره بعض خلال الكفر أعظم عند اللّه من الكفر بعينه، وذلك مـما لا يُخيـل علـى أحد خطؤه وفساده. وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: القول الأول فـي رفع الصد، ويزعم أنه معطوف به علـى الكبـير، ويجعل قوله: وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مرفوعا علـى الابتداء، وقد بـينا فساد ذلك وخطأ تأويـله. ثم اختلف أهل التأويـل فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ هل هو منسوخ أم ثابت الـحكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله اللّه جل وعز: وَقاتِلُوا الـمُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً وبقوله: اقْتُلُوا الـمُشْركينَ. ذكر من قال ذلك: ٣٥٢٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن ميسرة: أحل القتال فـي الشهر الـحرام فـي براءة قوله: فَلاَ تَظْلِـمُوا فِـيهِنّ أنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الـمُشْرِكينَ كافّةً يقول: فـيهن وفـي غيرهن. ٣٥٢٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان النبـي صلى اللّه عليه وسلم فـيـما بلغنا يحرم القتال فـي الشهر الـحرام، ثم أحلّ بعد. وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابت لا يحل القتال لأحد فـي الأشهر الـحرم بهذه الآية، لأن اللّه جعل القتال فـيه كبـيرا. ذكر من قال ذلك: ٣٥٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: قلت لعطاء: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ قلت: ما لهم وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك فـي الشهر الـحرام، ثم غزوهم بعد فـيه، فحلف لـي عطاء بـاللّه ما يحل للناس أن يغزوا فـي الشهر الـحرام، ولا أن يقاتلوا فـيه، وما يستـحب، قال: ولا يدعون إلـى الإسلام قبل أن يقاتلوا ولا إلـى الـجزية تركوا ذلك. والصواب من القول فـي ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة، من أن النهي عن قتال الـمشركين فـي الأشهر الـحرم منسوخ بقول اللّه جل ثناؤه: إنّ عِدّةَ الشّهِور عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِـي كِتابِ اللّه يَوْمَ خَـلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ القَـيّـمُ فَلا تَظْلِـمُوا فِـيهنّ أنْفُسَكُمْ، وَقاتِلُوا الـمُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكمْ كافّة. وإنـما قلنا ذلك ناسخ لقوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنـين، وثقـيفـا بـالطائف، وأرسل أبـا عامر إلـى أوطاس لـحرب من بها من الـمشركين فـي بعض الأشهر الـحرم، وذلك فـي شوّال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الـحرم. فكان معلوما بذلك أنه لو كان القتال فـيهن حراما وفـيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى اللّه عليه وسلم. وأخرى: أن جميع أهل العلـم بسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تتدافع أن بـيعة الرضوان علـى قتال قريش كانت فـي أول ذي القعدة، وأنه صلى اللّه عليه وسلم إنـما دعا أصحابه إلـيها يومئذ لأنه بلغه أن عثمان بن عفـان قتله الـمشركون إذ أرسله إلـيهم بـما إرسله به من الرسالة، فبـايع صلى اللّه عليه وسلم علـى أن يناجز القوم الـحرب ويحاربهم حتـى رجع عثمان بـالرسالة، وجرى بـين النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وقريش الصلـح، فكفّ عن حربهم حينئذ وقتالهم، وكان ذلك فـي ذي القعدة، وهو من الأشهر الـحرم. فإذا كان ذلك كذلك فبـين صحة ما قلنا فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ قُلْ قِتالٌ فِـيهِ كَبِـيرٌ وأنه منسوخ. فإن ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال فـي الأشهر الـحرم كان بعد استـحلال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إياهنّ لـما وصفنا من حروبه، فقد ظنّ جهلاً وذلك أن هذه الآية، أعنـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الـحَرَامِ قِتالٍ فِـيهِ فـي أمر عبد اللّه بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتـيـل الذي قتلوه، فأنزل اللّه فـي أمره هذه الآية فـي آخر جمادى الاَخرة من السنة الثانـية من مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة وهجرته إلـيها، وكانت وقعة حنـين والطائف فـي شوّال من سنة ثمان من مقدمه الـمدينة وهجرته إلـيها، وبـينهما من الـمدة ما لا يخفـى علـى أحد. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتـى يَرُدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا. يعنـي تعالـى ذكره: ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتـى يردوكم عن دينكم إن قدروا علـى ذلك. كما: ٣٥٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: ثنـي الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبـير: وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتـى يَرّدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا أي هم مقـيـمون علـى أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبـين ولا نازعين، يعنـي علـى أن يفتنوا الـمسلـمين عن دينهم حتـى يردوهم إلـى الكفر، كما كانوا يفعلون بـمن قدروا علـيه منهم قبل الهجرة. ٣٥٢٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتـى يَرّدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا قال: كفـار قريش. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَـيَـمُتْ وَهُوَ كافِرٌ .... يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: فـارْتَدّا علـى آثارهِما قَصَصا يعنـي بقوله: فـارتدا: رجعا. ومن ذلك قـيـل: استردّ فلان حقه من فلان، إذا استرجعه منه. وإنـما أظهر التضعيف فـي قوله: يَرْتَدِدْ لأن لام الفعل ساكنة بـالـجزم، وإذا سكنت فـالقـياس ترك التضعيف، وقد تضعف وتدغم وهي ساكنة بناء علـى التثنـية والـجمع. وقوله: فَـيَـمُتْ وَهُوَ كافِرٌ يقول: من يرجع عن دينه، دين الإسلام، فـيـمت وهو كافر، فـيـمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبطت أعمالهم يعنـي بقوله: حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ بطلت وذهبت، وبطولها: ذهاب ثوابها، وبطول الأجر علـيها والـجزاء فـي دار الدنـيا والاَخرة. وقوله: وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِـيهَا خالِدُونَ يعنـي الذين ارتدوا عن دينهم فماتوا علـى كفرهم، هم أهل النار الـمخـلدون فـيها. وإنـما جعلهم أهلها لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها الـمقـيـمون فـيها، كما يقال: هؤلاء أهل مـحلة كذا، يعنـي سكانها الـمقـيـمون فـيها. ويعنـي بقوله: هُمْ فِـيهَا خالِدُونَ هم فـيها لابثون لبثا من غير أمد ولا نهاية. ٢١٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّه أُوْلَـَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ } يعنـي بذلك جل ذكره: إن الذين صدّقوا بـاللّه وبرسوله، وبـما جاء به. وبقوله: وَالّذِينَ هاجَرُوا: الذين هجروا مساكنة الـمشركين فـي أمصارهم، ومـجاورتهم فـي ديارهم، فتـحوّلوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم إلـى غيرها، هجرة... لـما انتقل عنه إلـى ما انتقل إلـيه. وأصل الـمهاجرة الـمفـاعلة، من هجرة الرجل الرجل للشحناء تكون بـينهما، ثم تستعمل فـي كل من هجر شيئا لأمر كرهه منه. وإنـما سمي الـمهاجرون من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مهاجرين لـما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم، كراهة منهم النزول بـين أظهر الـمشركين وفـي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم علـى أنفسهم فـي ديارهم إلـى الـموضع الذي يأمنون ذلك. وأما قوله: وَجاهَدُوا فإنه يعنـي: وقاتلوا وحاربوا وأصل الـمـجاهدة الـمفـاعلة، من قول الرجل: قد جهد فلان فلانا علـى كذا، إذا كربه وشقّ علـيه يجهده جهدا. فإذا كان الفعل من اثنـين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة، قـيـل: فلان يجاهد فلانا، يعنـي أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشقّ علـيه، فهو يجاهده مـجاهدة وجهاداوأما سبـيـل اللّه : فطريقه ودينه. فمعنى قوله إذا: وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّه والذين تـحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم، وخوف فتنتهم علـى أديانهم، وحاربوهم فـي دين اللّه لـيدخـلوهم فـيه، وفـيـما يرضى اللّه ، أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحَمةَ اللّه أي يطمعون أن يرحمهم اللّه فـيدخـلهم جنته بفضل رحمته إياهم، واللّه غَفُورٌ أي ساتر ذنوب عبـاده بعفوه عنها، متفضل علـيهم بـالرحمة. وهذه الآية أيضا ذكر أنها نزلت فـي عبد اللّه بن جحش وأصحابه. ذكر من قال ذلك: ٣٥٢٧ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه أنه حدّثه رجل، عن أبـي السوار يحدثه، عن جندب بن عبد اللّه قال: لـما كان من أمر عبد اللّه بن جحش وأصحابه، وأمر ابن الـحضرمي ما كان قال بعض الـمسلـمين إن لـم يكونوا أصابوا فـي سفرهم، أظنه قال: وزرا، فلـيس لهم فـيه أجر، فأنزل اللّه : إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّه أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ. ٣٥٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي الزهري، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبـير قال: أنزل اللّه عز وجل القرآن بـما أنزل من الأمر، وفرج اللّه عن الـمسلـمين فـي أمر عبد اللّه بن جحش وأصحابه، يعنـي فـي قتلهم ابن الـحضرمي، فلـما تـجلـى عن عبد اللّه بن جحش وأصحابه ما كانوا فـيه حين نزل القرآن، طمعوا فـي الأجر، فقالوا: يا رسول اللّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فـيها أجر الـمـجاهدين؟ فأنزل اللّه عز وجل فـيهم: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّه أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ فوقـفهم اللّه من ذلك علـى أعظم الرجاء. ٣٥٢٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أثنى اللّه علـى أصحاب نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أحسن الثناء، فقال: إنّ الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَاجَرُوا وَجاهَدُوا فـي سَبِـيـلِ اللّه أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم اللّه أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب. ٣٥٣٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٢١٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ....} يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا مـحمد عن الـخمر وشربها. والـخمر: كل شراب خامر العقل فستره وغطى علـيه، وهو من قول القائل: خَمَرت الإناء إذا غطيته، وخَمِرَ الرجل: إذا دخـل فـي الـخَمَرِ، ويقال: هو فـي خُمار الناس وغُمارهم، يراد به: دخـل فـي عُرض الناس، ويقال للضبع: خامري أم عامر، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر، ومن ذلك أيضا خِمار الـمرأة، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه، ومنه يقال: هو يـمشي لك الـخَمَر، أي مستـخفـيا، كما قال العجاج: فِـي لامِعِ الِعقْبـانِ لا يأتـي الـخَمَرْيُوجّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشّجَرْ ويعنـي بقوله: لا يأتـي الـخمر: لا يأتـي مستـخفـيا ولا مسارقة، ولكن ظاهرا برايات وجيوش والعقبـان جمع عقاب، وهي الرايات. وأما (الـميسر) فإنها (الـمفعِل) من قول القائل: يسَر لـي هذا الأمر: إذا وجب لـي فهو يَـيْسِر لـي يَسَرا ومَيْسِرا، والـياسر: الواجب، بقداح وجب ذلك أو مبـاحه أو غير ذلك، ثم قـيـل للـمقامر: ياسر، ويَسَر، كما قال الشاعر: فَبِتّ كأنّنِـي يَسَرٌ غَبِـينٌيُقَلّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا وكما قال النابغة: أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِهأسِفٌ تآكَلَهُ الصّديقُ مُخَـلّعُ يعنـي بـالـياسر: الـمقامر، وقـيـل للقمار: ميسر، وكان مـجاهد يقول نـحو ما قلنا فـي ذلك. ٣٥٣١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَن الـخَمْرِ وَالـمَيْسِر قال: القمار، وإنـما سمي الـميسر لقولهم أيسروا واجزروا، كقولك ضع كذا وكذا. ٣٥٣٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: كل القمار من الـميسر، حتـى لعب الصبـيان بـالـجوز. ٣٥٣٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن،قال: حدثنا سفـيان، عن عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، قال: قال عبد اللّه : إياكم وهذه الكعاب الـموسومة التـي تزجرون بها زجرا فإنهن من الـميسر. ٣٥٣٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، مثله. ٣٥٣٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن نافع، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبـي زياد، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التـي تزجرون بها زجرا، فإنها من الـميسر. ٣٥٣٦ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن مـحمد بن سيرين، قال: القمار: ميسر. ٣٥٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم الأحول، عن مـحمد بن سيرين، قال: كل شيء له خطر، أو فـي خطر أبو عامر شك فهو من الـميسر. ٣٥٣٨ـ حدثنا الولـيد بن شجاع أبو همام، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن مـحمد بن سيرين، قال: كل قمار ميسر حتـى اللعب بـالنرد علـى القـيام والصياح والريشة يجعلها الرجل فـي رأسه. ٣٥٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين، قال: كل لعب فـيه قمار من شرب أو صياح أو قـيام فهو من الـميسر. ٣٥٤٠ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا خالد بن الـحرث، قال: حدثنا الأشعث، عن الـحسن، أنه قال: الـميسر: القمار. ٣٥٤١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن لـيث، عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الـميسر، حتـى لعب الصبـيان بـالكعاب والـجوز. ٣٥٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: الـميسر: القمار. ٣٥٤٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، عن عبـيد اللّه قال: إياكم وهاتـين الكعبتـين يزجر بهما زجرا فإنهما من الـميسر. ٣٥٤٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن أبـي عروبة، عن قتادة، قال: أما قوله والـميسر، فهو القمار كله. ٣٥٤٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يحيى بن عبد اللّه بن سالـم، عن عبـيد اللّه بن عمر أنه سمع عمر بن عبـيد اللّه يقول للقاسم بن مـحمد: النرد: ميسر، أرأيت الشطرنـج ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر اللّه وعن الصلاة، فهو ميسر. ٣٥٤٦ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: الـميسر: القمار، كان الرجل فـي الـجاهلـية يخاطر علـى أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. ٣٥٤٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الـميسر القمار. ٣٥٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الـميسر القمار. ٣٥٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن اللـيث، عن مـجاهد وسعيد بن جبـير، قالا: الـميسر: القمار كله، حتـى الـجوز الذي يـلعب به الصبـيان. ٣٥٥٠ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: سمعت عبـيد بن سلـيـمان يحدث عن الضحاك قوله: الـميسر: قال: القمار. ٣٥٥١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الـميسر: القمار. ٣٥٥٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو بدر شجاع بن الولـيد، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع أن ابن عمر كان يقول: القمار من الـميسر. ٣٥٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: الـميسر قداح العرب، وكعاب فـارس قال: وقال ابن جريج، وزعم عطاء بن ميسرة أن الـميسر: القمار كله. ٣٥٥٤ـ حدثنا ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: قال مكحول: الـميسر: القمار. ٣٥٥٥ـ حدثنا الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: حدثنا الفضل بن سلـيـمان وشجاع بن الولـيد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الـميسر: القمار. وأما قوله: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهم فـيهما، يعنـي فـي الـخمر والـميسر إثم كبـير. فـالإثم الكبـير الذي فـيهما ما ذكر عن السدي فـيـما: ٣٥٥٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ فإثم الـخمر أن الرجل يشرب فـيسكر فـيؤذي الناس. وإثم الـميسر أن يقامر الرجل فـيـمنع الـحق ويظلـم. ٣٥٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ قال: هذا أول ما عيبت به الـخمر. ٣٥٥٨ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ يعنـي ما ينقص من الدين عند من يشربها. والذي هو أولـى بتأويـل الآية، الإثم الكبـير الذي ذكر اللّه جل ثناؤه أنه فـي الـخمر والـميسر، فـالـخمر ما قاله السدي زوال عقل شارب الـخمر إذا سكر من شربه إياها حتـى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظم الاَثام، وذلك معنى قول ابن عبـاس إن شاء اللّه وأما فـي الـميسر فما فـيه من الشغل به عن ذكر اللّه ، وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بـين الـمتـياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: إنّـمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَـيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِـي الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصّلاةِ. وأما قوله: وَمَنافِعُ للنّاسِ فإن منافع الـخمر كانت أثمانها قبل تـحريـمها، وما يصلون إلـيه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى فـي صفتها: لنَا مِنْ ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌوَذِكْرَى هَمُومٍ ما تَفُكّ أذَاتُها وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذّةٌومالٌ كَثِـيرٌ عِدّةٌ نَشَوَاتُها وكما قال حسان: فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكاوأُسْدا ما يُنَهْنِهُنا اللّقاءُ وأما منافع الـميسر فـيـما يصيبون فـيه من أنصبـاء الـجزور، وذلك أنهم كانوا يـياسرون علـى الـجزور، وإذا أفلـج الرجل منهم صاحبه نـحره، ثم اقتسموا أعشارا علـى عدد القداح، وفـي ذلك يقول أعشى بنـي ثعلبة: وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلـى النّدَىونِـياطِ مُقْـفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٥٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم،قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـمنافع ههنا: ما يصيبون من الـجزور. ٣٥٦٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: أما منافعهما فإن منفعة الـخمر فـي لذته وثمنه، ومنفعة الـميسر فـيـما يصاب من القمار. ٣٥٦١ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال: منافعهما قبل أن يحرّما. ٣٥٦٢ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَمَنافعُ للنّاسِ قال: يقول فـيـما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها. واختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عظم أهل الـمدينة وبعض الكوفـيـين والبصريـين قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ بـالبـاء، بـمعنى: قل فـي شرب هذه والقمار هذا كبـير من الاَثام. وقرأه آخرون من أهل الـمصرين، البصرة والكوفة: (قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ) بـمعنى الكثرة من الاَثام، وكأنهم رأوا أن الإثم بـمعنى الاَثام، وإن كان فـي اللفظ واحدا فوصفوه بـمعناه من الكثرة. وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه بـالبـاء: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ لإجماع جميعهم علـى قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وقراءته بـالبـاء وفـي ذلك دلالة بـينة علـى أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر، لا الكثرة فـي العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقـيـل وإثمهما أكثر من نفعهما. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا. يعنـي بذلك عزّ ذكره: والإثم بشرب هذه والقمار هذا، أعظم وأكبر مضرّة علـيهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنـما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم علـى بعض وقاتل بعضهم بعضا، وإذا ياسروا وقع بـينهم فـيه بسببه الشرّ، فأدّاهم ذلك إلـى ما يأثمون به. ونزلت هذه الآية فـي الـخمر قبل أن يصرّح بتـحريـمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إلـيهما، وإنـما الإثم بأسبـابهما، إذ كان عن سببهما يحدث. وقد قال عدد من أهل التأويـل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تـحريـمهما أكبر من نفعهما قبل تـحريـمهما. ذكر من قال ذلك: ٣٥٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: منافعهما قبل التـحريـم، وإثمهما بعدما حرّما. ٣٥٦٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع: وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ينزل الـمنافع قبل التـحريـم، والإثم بعد ما حرّم. ٣٥٦٥ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنـي عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول: إثمهما بعد التـحريـم أكبر من نفعهما قبل التـحريـم. ٣٥٦٦ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول: ما يذهب من الدين والإثم فـيه أكبر مـما يصيبون فـي فرحها إذا شربوها. وإنـما اخترنا ما قلنا فـي ذلك من التأويـل لتواتر الأخبـار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تـحريـم الـخمر والـميسر، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر اللّه فـي هذه الآية فأضافه إلـيهما إنـما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبـابهما علـى ما وصفنا، لا الإثم بعد التـحريـم. ذكر الأخبـار الدالة علـى ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تـحريـم الـخمر: ٣٥٦٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قـيس، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما نزلت: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فكرهها قوم لقوله: فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وشربها قوم لقوله: وَمَنافِعُ للنّاسِ، حتـى نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ قال: فكانوا يدعونها فـي حين الصلاة ويشربونها فـي غير حين الصلاة، حتـى نزلت: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ فقال عمر: ضيعةً لك الـيوم قرنت بـالـميسر. ٣٥٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن معمر، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي حميد، عن أبـي توبة الـمصري، قال: سمعت عبد اللّه بن عمر يقول: أنزل اللّه عز وجل فـي الـخمر ثلاثا، فكان أول ما أنزل: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ الآية، فقالوا: يا رسول اللّه ننتفع بها ونشربها، كما قال اللّه جل وعز فـي كتابه. ثم نزلت هذه الآية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى... الآية، قالوا: يا رسول اللّه لا نشربها عند قرب الصلاة قال: ثم نزلت: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ الآية، قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (حُرّمَتِ الـخَمْرُ). ٣٥٦٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن قالا: قال اللّه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ ويَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنسختها الآية التـي فـي الـمائدة، فقال: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ الآية. ٣٥٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عوف، عن أبـي القموص زيد بن علـيّ، قال: أنزل اللّه عز وجل فـي الـخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال اللّه : يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: فشربها من الـمسلـمين من شاء اللّه منهم علـى ذلك، حتـى شرب رجلان، فدخلا فـي الصلاة، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو، فأنزل اللّه عز وجل فـيهما: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتـى شربها فـيـما زعم أبو القموص رجلٌ، فجعل ينوح علـى قتلـى بدر: تُـحَيّـي بـالسّلامَةِ أُمّ عَمرووهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ ذَرِيِنـي أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّـيرأيْتُ الـمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشامِ وَوَدّ بَنُو الـمَغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُبألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ كأيَ بـالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الشيّزَى يُكَلّلُ بـالسّنامِ كأيَ بـالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الفِتْـيانِ والـحُلَل الكِرَامِ قال: فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتـى انتهى إلـيه، فلـما عاينه الرجل، فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا كان بـيده لـيضربه، قال: أعوذ بـاللّه من غضب اللّه ورسوله، واللّه لا أطعَمُها أبدا فأنزل اللّه تـحريـمها: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأزْلامُ رجْسٌ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه: انتهينا انتهينا. ٣٥٧١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا عن سماك، عن الشعبـي، قال: نزلت فـي الـخمر أربع آيات: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فتركوها، ثم نزلت: تَتّـخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا فشربوها. ثم نزلت الاَيتان فـي الـمائدة إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ. ٣٥٧٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: نزلت هذه الآية: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ الآية، فلـم يزالوا بذلك يشربونها، حتـى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعا ناسا من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيهم علـيّ بن أبـي طالب، فقرأ: قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ ولـم يفهمها، فأنزل اللّه عز وجل يشدّد فـي الـخمر: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاَة وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ فكانت لهم حلالاً، يشربون من صلاة الفجر حتـى يرتفع النهار أو ينتصف، فـيقومون إلـى صلاة الظهر وهم مُصْحون، ثم لا يشربونها حتـى يصلوا العتـمة وهي العشاء، ثم يشربونها حتـى ينتصف اللـيـل وينامون، ثم يقومون إلـى صلاة الفجر وقد صحوا. فلـم يزالوا بذلك يشربونها، حتـى صنع سعد بن أبـي وقاص طعاما، فدعا ناسا من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم علـيه، فلـما أكلوا وشربوا من الـخمر سكروا وأخذوا فـي الـحديث، فتكلـم سعد بشيء، فغضب الأنصاري، فرفع لـحى البعير فكسر أنف سعد، فأنزل اللّه نسخ الـخمر وتـحريـمها وقال: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ. ٣٥٧٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن رجل عن مـجاهد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قال: لـما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض، حتـى نزل تـحريـمها فـي سورة الـمائدة. ٣٥٧٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ قال: هذا أوّل ما عيبت به الـخمر. ٣٥٧٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فذمهما اللّه ولـم يحرّمهما لـما أراد أن يبلغ بهما من الـمدة والأجل، ثم أنزل اللّه فـي سورة النساء أشدّ منها: لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُوُلونَ فكانوا يشربونها، حتـى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر علـيهم حراما. ثم أنزل اللّه جل وعز فـي سورة الـمائدة بعد غزوة الأحزاب: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ إلـى: لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ فجاء تـحريـمها فـي هذه الآية قلـيـلها وكثـيرها، ما أسكر منها وما لـم يسكر، ولـيس للعرب يومئذ عيش أعجب إلـيهم منها. ٣٥٧٦ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: لـما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْريـمِ الـخَمْرِ) قال: ثم نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْرِيـمِ الـخَمْرِ) قال: ثم نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ فحرّمت الـخمر عند ذلك. ٣٥٧٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ الآية كلها، قال نسخت ثلاثةً: فـي سورة الـمائدة، وبـالـحدّ الذي حدّ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، وضرب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يضربهم بذلك حدّا، ولكنه كان يعمل فـي ذلك برأيه، ولـم يكن حدّا مسمى وهو حد. وقرأ: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ الآية. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ. يعنـي جل ذكره بذلك: ويسألك يا مـحمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فـيتصدقون به، فقل لهم يا مـحمد أنفقوا منها العفو. واختلف أهل التأويـل فـي معنى: العَفْو فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: معناه: الفضل. ذكر من قال ذلك: ٣٥٧٨ـ حدثنا عمرو بن علـيّ البـاهلـي، قال: حدثنا وكيع ح، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: العفو: ما فضل عن أهلك. ٣٥٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قل العفو: أي الفضل. ٣٥٨٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو الفضل. ٣٥٨١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء فـي قوله: العفو، قال: الفضل. ٣٥٨٢ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: العفو، يقول: الفضل. ٣٥٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: كان القوم يعملون فـي كل يوم بـما فـيه، فإن فضل ذلك الـيوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا، ويتصدقون به علـى الناس. ٣٥٨٤ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: هوالفضل فضل الـمال. وقال آخرون: معنى ذلك ما كان عفوا لا يبـين علـى من أنفقه أو تصدق به. ذكر من قال ذلك: ٣٥٨٥ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ يقول: ما لا يتبـين فـي أموالكم. ٣٥٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس فـي قول اللّه جل وعز: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: الـيسير من كل شيء. وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة ما لـم يكن إسرافـا ولا إقتارا. ذكر من قال ذلك: ٣٥٨٧ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف، عن الـحسن فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ يقول: لا تـجهد مالك حتـى ينفد للناس. ٣٥٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء، عن قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ قال: العفو فـي النفقة أن لا تـجهد مالك حتـى ينفد، فتسأل الناس. ٣٥٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء، عن قوله يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: العفو: ما لـم يسرفوا، ولـم يقتروا فـي الـحقّ قال: وقال مـجاهد: العفو صدقة عن ظهر غنى. ٣٥٩٠ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: هو أن لا تـجهد مالك. وقال آخرون: معنى ذلك قُلِ العَفْوَ خذ منهم ما أتوك به من شيء قلـيلاً أو كثـيرا. ذكر من قال ذلك: ٣٥٩١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ يقول: ما أتوك به من شيء قلـيـل أو كثـير، فـاقبله منهم. وقال آخرون: معنى ذلك ما طاب من أموالكم. ذكر من قال ذلك: ٣٥٩٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ قال: يقول الطيب منه، يقول: أفضل مالك وأطيبه. ٣٥٩٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: كان يقول: العفو: الفضل. يقول: أفضل مالك. وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك: ٣٥٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد، أو عيسى عن قـيس، عن مـجاهد شك أبو عاصم قول اللّه جل وعز: قُلِ العَفْوَ قال: الصدقة الـمفروضة. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله فـي مئونتهم وما لا بدّ لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالإذن فـي الصدقة، وصدقته فـي وجه البرّ. ذكر بعض الأخبـار التـي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك: ٣حدثنا علـيّ بن مسلـم، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن الـمقبري، عن أبـي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول اللّه عندي دينار قال: (أنْفِقْهُ علـى نَفْسِكَ؟) قال: عندي آخر قال: (أنْفِقْهُ علـى أهْلِكَ) قال: عندي آخر قال: (أنْفِقْهُ علـى وَلَدِكَ) قال: عندي آخر قال: (فأنْتَ أبْصَرُ). ٣٥٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي، قال: حدثنا روح بن عبـادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنـي أبو الزبـير أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِـيرا فَلْـيَبَدأ بِنَفْسِهِ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِـمَنْ يَعُولُ، ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْـيَتَصَدّقْ علـى غَيْرِهِمْ). ٣٥٩٦ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن عاصم، عن عمر بن قتادة، عن مـحمود بن لبـيد، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلٌ ببـيضة من ذهب أصابها فـي بعض الـمعادن، فقال: يا رسول اللّه ، خذ هذه منـي صدقة، فواللّه ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيـمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: (هاتها) مغضبـا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: (يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِـمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّـمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى). ٣٥٩٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن إبراهيـم الـمخرمي، قال: سمعت أبـا الأحوص يحدث عن عبد اللّه ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ، وَابْدأ بِـمَنْ تَعُولُ، وَلا تُلامُ علـى كَفـافٍ). وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى اللّه عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بـالفضل عن حاجة الـمتصدق الفضل من ذلك، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو فـي كلام العرب فـي الـمال وفـي كل شيء هو الزيادة والكثرة، ومن ذلك قوله جل ثناؤه: حَتـى عَفَوْا بـمعنى: زادوا علـى ما كانوا علـيه من العدد وكثروا، ومنه قول الشاعر: وَلَكِنّا يَعضّ السّيْفُ مِنّابأسْوُقِ عافِـياتِ الشّحْمِ كُومِ يعنـي به كثـيرات الشحوم. ومن ذلك قـيـل للرجل: خذ ما عفـا لك من فلان، يراد به: ما فضل فصفـا لك عن جهده بـما لـم تـجهده. كان بـينا أن الذي أذن اللّه به فـي قوله قُلِ العَفْوَ لعبـاده من النفقة، فأذنهم بإنفـاقه إذا أرادوا إنفـاقه هو الذي بـين لأمته رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: (خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى) وأذنهم به. فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة الـمفروضة؟ قـيـل: أنكرنا ذلك لقـيام الـحجة علـى أن من حلت فـي ماله الزكاة الـمفروضة، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة، أن علـيه أن يسلـمه إلـيهم، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه فـي أداء الواجب كان لهم (فـي) ماله إلـيهم، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلـمه إلـيهم لا عفوه، وفـي تسمية اللّه جل ثناؤه ما علـم عبـاده وجه إنفـاقهم من أموالهم عفوا، ما يبطل أن يكون مستـحقا اسم جهد فـي حالة، وإذا كان ذلك كذلك فبّـين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ الـمال إلـى إمامه، فأعطاه كائنا ما كان من قلـيـل ماله وكثـيره، وقول من زعم أنه الصدقة الـمفروضة. وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول: إن معناه ما لـم يتبـين فـي أموالكم، لأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـما قال له أبو لبـابة: إن من توبتـي أن أنـخـلع إلـى اللّه ورسوله من مالـي صدقة، قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (يَكْفِـيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ) وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال له نـحوا من ذلك. والثلث لا شك أنه بـين فقده من مال ذي الـمال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلـم يَقْتُرُوا وكانَ بَـيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وكما قال جل ثناؤه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلـى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَـحْسُورا وذلك هو ما حده صلى اللّه عليه وسلم فـيـما دون ذلك علـى قدر الـمال واحتـماله. ثم اختلف أهل العلـم فـي هذه الآية: هل هي منسوخة، أم ثابتة الـحكم علـى العبـاد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة نسختها الزكاة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك: ٣٥٩٨ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة. ٣حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: لـم تفرض فـيه فريضة معلومة، ثم قال: خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة. ٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ هذه نسختها الزكاة. وقال آخرون: بل مثبتة الـحكم غير منسوخة. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد أو عيسى، عن قـيس، عن مـجاهد شك أبو عاصم، قال قال: العفو: الصدقة الـمفروضة. والصواب من القول فـي ذلك ما قاله ابن عبـاس علـى ما رواه عنه عطية من أن قوله: قُلِ العَفْوَ لـيس بإيجاب فرض فرض من اللّه حقا فـي ماله، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مـما يسخطه جوابـا منه لـمن سأل نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم عما فـيه له رضا، فهو أدب من اللّه لـجميع خـلقه علـى ما أدبهم به فـي الصدقة غير الـمفروضات ثابت الـحكم غير ناسخ لـحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتـجاوز فـي صدقات التطوّع وهبـاته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: (إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ بِنَفْسِهِ، ثُمّ بأهْلِه، ثُمّ بِوَلَدِهِ) ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِـي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِـي تُرْضِي اللّه ويُحِبّها. وذلك هو القوام بـين الإسراف والإقتار الذي ذكره اللّه عز وجلّ فـي كتابه إن شاء اللّه تعالـى. ويقال لـمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة علـى نسخه؟ وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم علـى أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث، فما الذي دلّ علـى أن ذلك منسوخ؟ فإن زعم أنه يعنـي بقوله: إنه منسوخ أن إخراج العفو من الـمال غير لازم فرضا، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة فـي الـمال قـيـل له: وما الدلـيـل علـى أن إخراج العفو كان فرضا، فأسقطه فرض الزكاة؟ ولا دلالة فـي الآية علـى أن ذلك كان فرضا، إذ لـم يكن أمر من اللّه عز ذكره، بل فـيها الدلالة علـى أنها جواب ما سأل عنه القوم علـى وجه التعرف لـما فـيه للّه الرضا من الصدقات، ولا سبـيـل لـمدعي ذلك إلـى دلالة توجب صحة ما ادّعى. وأما القراء فإنهم اختلفوا فـي قراءة العفو، فقرأته عامة قراء الـحجاز وقراء الـحرمين وعظم قراء الكوفـيـين: قُلِ العَفْوَ نصبـا، وقرأه بعض قراء البصريـين: قُلِ العَفْوُ رفعا. فمن قرأه نصبـا جعل (ماذا) حرفـا واحدا، ونصبه بقوله: يُنْفِقُونَ علـى ما قد بـينت قبل، ثم نصب العفو علـى ذلك فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟ ومن قرأه رفعا جعل (ما) من صلة (ذا) ورفعوا العفو فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي ينفقون، قل الذي ينفقون العفو. ولو نصب العفو، ثم جعل (ماذا) حرفـين بـمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ينفقون العفو، ورفع الذين جعلوا (ماذا) حرفـا واحدا بـمعنى: ما ينفقون؟ قل الذي ينفقون خبرا كان صوابـا صحيحا فـي العربـية. وبأيّ القراءتـين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنـيـيهما مع استفـاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بـالنصب، لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر. ٢٢٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: كَذَلِكَ يُبَـينُ اللّه لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ. يعنـي بقول عز ذكره: كَذَلِكَ يُبَـينُ اللّه لَكُمْ الاَياتِ هكذا يبـين أي ما بـينت لكم أعلامي وحججي، وهي آياته فـي هذه السورة، وعرفتكم فـيها ما فـيه خلاصكم من عقابـي، وبـينت لكم حدودي وفرائضي، ونبهتكم فـيها علـى الأدلة علـى وحدانـيتـي، ثم علـى حجج رسولـي إلـيكم، فأرشدتكم إلـى ظهور الهدى، فكذلك أبـين لكم فـي سائر كتابـي الذي أنزلته علـى نبـيـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم آياتـي وحججي، وأوضحها لكم لتتفكروا فـي وعدي ووعيدي وثوابـي وعقابـي، فتـجاوزوا طاعتـي التـي تنالون بها ثوابـي فـي الدار الاَخرة، والفوز بنعيـم الأبد علـى القلـيـل من اللذات، والـيسير من الشهوات، بركوب معصيتـي فـي الدنـيا الفـانـية التـي من ركبها، كان معاده إلـيّ، ومصيره إلـى ما لا قبل له به من عقابـي وعذابـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَة قال: يعنـي فـي زوال الدنـيا وفنائها، وإقبـال الاَخرة وبقائها. ٣حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ يقول: لعلكم تتفكرون فـي الدنـيا والاَخرة، فتعرفون فضل الاَخرة علـى الدنـيا. ٣حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قوله: كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِـي الدّنْـيا والاَخِرَةِ قال: أما الدنـيا فتعلـمون أنها دار بلاء ثم فناء، والاَخرة دار جزاء ثم بقاء، فتتفكرون، فتعملون للبـاقـية منهما قال: وسمعت أبـا عاصم يذكر نـحو هذا أيضا. ٣٥٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فـي الدّنْـيا والاَخِرَة وإنه من تفكر فـيهما عرف فضل إحداهما علـى الأخرى وعرف أن الدنـيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الاَخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا مـمن يَصْرم حاجة الدنـيا لـحاجة الاَخرة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهمْ خَيْرٌ، وإنْ تُـخَالِطُوهُم فَإخْوانُكُمْ. اختلف أهل التأويـل فـيـما نزلت هذه الآية: فقال بعضهم نزلت..... ٣٦٠٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيـل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال:: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الَـيتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ عزلوا أموال الـيتامى، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: وَإنْ تُـخالِطوِهمْ فإخْوَانُكُمْ وَلَوْ شاءَ اللّه لأعْنَتكُمْ فخالطوهم. ٣٦٠١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: لـما نزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ وإنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا انطلق من كان عنده يتـيـم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فـيحبس له حتـى يأكله أو يفسد. فـاشتدّ ذلك علـيهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عز وجل: وَيَسألُونَكَ عَنِ الَـيتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ فخـلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. ٣٦٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ قال: كنا نصنع للـيتـيـم طعاما فـيفضل منه الشيء، فـيتركونه حتـى يفسد، فأنزل اللّه : وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ. ٣حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، قال: سئل عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى عن مال الـيتـيـم، فقال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـم إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ اجتنبت مخالطتهم، واتقوْا كل شيء حتـى اتقوا الـمَاء، فلـما نزلت: وَإِنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: فخالطوهم. ٣حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى الآية كلها، قال: كان اللّه أنزل قبل ذلك فـي سورة بنـي إسرائيـل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ فكبرت علـيهم، فكانوا لا يخالطونهم فـي مأكل ولا فـي غيره. فـاشتدّ ذلك علـيهم، فأنزل اللّه الرخصة، فقال: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ. ٣٦٠٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتِـيـمِ إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ اعتزل الناس الـيتامى فلـم يخالطوهم فـي مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشقّ ذلك علـى الناس، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عز وجل: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ. ٣حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ... الآية قال: فذكر لنا واللّه أعلـم أنه أنزل فـي بنـي إسرائيـل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الـيَتِـيـم إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ حتّـى يَبْلُغَ أشُدّهُ فكبرت علـيهم، فكانوا لا يخالطونهم فـي طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فـاشتدّ ذلك علـيهم، فأنزل اللّه الرخصة فقال: ويَسألُونَكَ عَن الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُم فإخْوَانُكُم يقول: مخالطتهم فـي ركوب الدابة، وشرب اللبن، وخدمة الـخادم. يقول للولـيّ الذي يـلـي أمرهم: فلا بأس علـيه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن، أو يخدمه الـخادم. وقال آخرون فـي ذلك بـما: ٣حدثنـي عمرو بن علـيّ قال: حدثنا عمران بن عيـينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ الآية، قال: كان يكون فـي حجر الرجل الـيتـيـم، فـيعزل طعامه وشرابه وآنـيته، فشقّ ذلك علـى الـمسلـمين، فأنزل اللّه : وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوانُكُمْ وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح فأحلّ خـلطهم. ٣حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا حفص بن غياث، قال: حدثنا أشعث، عن الشعبـي، قال: لـما نزلت هذه الآية: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا قال: فـاجتنب الناس الأيتام، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه وماله من ماله، وشرابه من شرابه قال: فـاشتدّ ذلك علـى الناس، فنزلت: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح. قال الشعبـي: فمن خالط يتـيـما فلـيتوسع علـيه، ومن خالطه لـيأكل من ماله فلا يفعل. ٣٦٠٤ـ حدثنـي علـي بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُم خَيْرٌ وذلك أن اللّه لـما أنزل: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامَى ظُلْـما إنّـمَا يَأكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَونَ سَعِيرا كره الـمسلـمون أن يضموا الـيتامى، وتـحرّجوا أن يخالطوهم فـي شيء، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ. ٣حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح عن قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ قال: لـما نزلت سورة النساء عزل الناس طعامهم، فلـم يخالطوهم قال: ثم جاءوا إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: إنا يشق علـينا أن نعزل طعام الـيتامى وهم يأكلون معناه فنزلت وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ. قال ابن جريج وقال مـجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم، وألبـانهم عن ألبـانهم، وأُدْمهم عن أدمهم، فشق ذلك علـيهم، فنزلت: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: مخالطة الـيتـيـم فـي الـمراعي والأدم. قال ابن جريج: وقال ابن عبـاس : الألبـان وخدمة الـخادم وركوب الدابة. قال ابن جريج: وفـي الـمساكن، قال: والـمساكن يومئذٍ عزيزة. ٣٦٠٥ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا الـحسين بن الـحسن الأشقر، قال: أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: لـما نزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الـيَتـيـم إلاّ بـالّتِـي هِيَ أحْسَنُ و: إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الـيَتَامى ظُلْـما قال: اجتنب الناس مال الـيتـيـم وطعامه، حتـى كان يفسد إن كان لـحما أو غيره، فشق ذلك علـى الناس، فشكوا ذلك إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ. ٣٦٠٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد أو عيسى، عن قـيس بن سعد، شك أبو عاصم عن مـجاهد: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: مخالطة الـيتـيـم فـي الرّعْي والأدم. وقال آخرون: بل كان اتقاء مال الـيتـيـم واجتنابه من أخلاق العرب، فـاستفتوا فـي ذلك لـمشقته علـيهم، فأفتوا بـما بـينه اللّه فـي كتابه. ذكر من قال ذلك: ٣٦٠٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَيَسألُونَكَ عَنِ الَـيتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ قال: كانت العرب يشددون فـي الـيتـيـم حتـى لا يأكلوا معه فـي قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرا، ولا يستـخدموا له خادما، فجاءوا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فسألوه عنه، فقال: قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ يصلـح له ماله وأمره له خير، وإن يخالطه فـيأكل معه ويطعمه، ويركب راحلته ويحمله، ويستـخدم خادمه ويخدمه، فهو أجود. وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ. ٣٦٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ إلـى: إنّ اللّه عَزِيزٌ حَكيـمٌ وإن الناس كانوا إذا كان فـي حجر أحدهم الـيتـيـم جعل طعامه علـى ناحية ولبنه علـى ناحية، مخافة الوزر. وإنه أصاب الـمؤمنـين الـجهد، فلـم يكن عندهم ما يجعلون خدما للـيتامى، فقال اللّه : قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ... إلـى آخر الآية. ٣٦٠٩ـ حدثت عن الـحسن بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـيَتَامى كانوا فـي الـجاهلـية يعظمون شأن الـيتـيـم، فلا يَـمسّون من أموالهم شيئا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعاما. فأصابهم فـي الإسلام جهد شديد، حتـى احتاجوا إلـى أموال الـيتامى، فسألوا نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شأن الـيتامى، وعن مخالطتهم، فأنزل اللّه : وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ يعنـي بـالـمخالطة: ركوب الدابة، وخدمة الـخادم، وشرب اللبن. فتأويـل الآية إذًا: ويسألك يا مـحمد أصحابك عن مال الـيتامى، وخـلطهم أموالهم به فـي النفقة والـمطاعمة والـمشاربة والـمساكنة والـخدمة، فقل لهم: تفضلكم علـيهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة شيء من أموالهم، وغير أخذ عوض من أموالهم علـى إصلاحكم ذلك لهم، خير لكم عند اللّه ، وأعظم لكم أجرا، لـما لكم فـي ذلك من الأجر والثواب، وخير لهم فـي أموالهم فـي عاجل دنـياهم، لـما فـي ذلك من توفر أموالهم علـيهم. وإن تـخالطوهم فتشاركوهم بأموالكم أموالهم فـي نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضموا من أموالهم عوضا من قـيامكم بأمورهم وأسبـابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا، ويكنف بعضهم بعضا فذو الـمال يعين ذا الفـاقة، وذو القوّة فـي الـجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالـى ذكره: فأنتـم أيها الـمؤمنون وأيتامكم كذلك إن خالطتـموهم بأموالكم، فخـلطتـم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتـم من أموالهم فضل مرفق بـما كان منكم من قـيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبـابهم علـى النظر منكم لهم نظر الأخ الشفـيق لأخيه العامل فـيـما بـينه وبـينه بـما أوجب اللّه علـيه وألزمه، فذلك لكم حلال، لأنكم إخوان بعضكم لبعض. كما: ٣٦١٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فإخْوَانُكُمْ قال: قد يخالط الرجل أخاه. ٣حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي مسكين، عن إبراهيـم، قال: إنـي لأكره أن يكون مال الـيتـيـم كالعُرْة. ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيـم، عن عائشة، قالت: إنـي لأكره أن يكون مال الـيتـيـم عندي عُرّة حتـى أخـلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابـي. فإن قال لنا قائل: وكيف قال فإخْوَانُكُمْ فرفع الإخوان، وقال فـي موضع آخر: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا. قـيـل: لافتراق معنـيـيهما، وذلك أن أيتام الـمؤمنـين إخوان الـمؤمنـين، خالطهم الـمؤمنون بأموالهم أو لـم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تـخالطوهم فهم إخوانكم. والإخوان مرفوعون بـالـمعنى الـمتروك ذكره وهو هم لدلالة الكلام علـيه، وإنه لـم يُرد بـالإخوان الـخبر عنهم أنهم كانوا إخوانا من أجل مخالطة ولاتهم إياهم. ولو كان ذلك الـمراد لكانت القراءة نصبـا، وكان معناه حينئذٍ وإن تـخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرىء رفعا لـما وصفت من أنهم إخوان للـمؤمنـين الذين يـلونهم خالطوهم أو لـم يخالطوهم. وأما قوله: فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا فنصب لأنهما حالان للفعل غير دائبـين، ولا يصلـح معهما هو، وذلك أنك لو أظهرت هو معهما لاستـحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل: إن خفت من عدوّك أن تصلـي قائما، فهو راجل أو راكب لبطل الـمعنى الـمراد بـالكلام؟ وذلك أن تأويـل الكلام: فإن خفتـم أن تصلوا قـياما من عدوّكم، فصلوا رجالاً أو ركبـانا ولذلك نصبه إجراء علـى ما قبله من الكلام كما تقول فـي نـحوه من الكلام: إن لبست ثـيابـا فـالبـياض، فتنصبه لأنك تريد إن لبست ثـيابـا فـالبس البـياض، ولست تريد الـخبر عن أن جميع ما يـلبس من الثـياب فهو البـياض، ولو أردت الـخبر عن ذلك لقلت: إن لبست ثـيابـا فـالبـياضُ رفعا، إذ كان مخرج الكلام علـى وجه الـخبر منك عن اللابس أن كل ما يـلبس من الثـياب فبـياض، لأنك تريد حينئذٍ: إن لبست ثـيابـا فهي بـياض. فإن قال: فهل يجوز النصب فـي قوله: فإخْوَانكُمْ؟ قـيـل: جائز فـي العربـية، فأما فـي القراءة فإنـما منعناه لإجماع القرّاء علـى رفعهوأما فـي العربـية فإنـما أجزناه لأنه يحسن معه تكرير ما يحمل فـي الذي قبله من الفعل فـيهما: وإن تـخالطوهم فإخوانكم تـخالطون فـيكون ذلك جائزا فـي كلام العرب. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن ربكم وإن أذن لكم فـي مخالطتكم الـيتامى علـى ما أذن لكم به، فـاتقوا اللّه فـي أنفسكم أن تـخالطوهم وأنتـم تريدون أكل أموالهم بـالبـاطل، وتـجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلـى إفساد أموالهم، وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التـي لا قبل لكم بها، فإنه يعلـم من خالط منكم يتـيـمه، فشاركه فـي مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته فـي حال مخالطته إياه ما الذي يقصد بـمخالطته إياه إفساد ماله، وأكله بـالبـاطل، أم إصلاحه وتثميره، لأنه لا يخفـى علـيه منه شيء، ويعلـم أيكم الـمريد إصلاح ماله، من الـمريد إفساده. كما: ٣حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـحِ قال: اللّه يعلـم حين تـخـلط مالك بـماله أتريد أن تصلـح ماله أو تفسده فتأكله بغير حق. ٣حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أشعث، عن الشعبـي: وَاللّه يَعْلَـمُ الـمُفْسِدَ مِنَ الـمُصْلِـح قال الشعبـي: فمن خالط يتـيـما فلـيتوسع علـيه، ومن خالطه لـيأكل ماله فلا يفعل. ه القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ شاءَ اللّه لأعَنْتَكُمْ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولو شاء اللّه لـحرّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالهم، فجهدكم ذلك وشقّ علـيكم، ولـم تقدروا علـى القـيام بـاللازم لكم من حقّ اللّه تعالـى، والواجب علـيكم فـي ذلك من فرضه، ولكنه رخص لكم فـيه، وسهله علـيكم، رحمة بكم ورأفة. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لأَعْنَتَكُمْ فقال بعضهم بـما: ٣حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد، أو عيسى، عن قـيس بن سعد، عن مـجاهد شك أبو عاصم فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلَوْ شاءَ اللّه لأعْنَتَكُمْ لـحرّم علـيكم الـمرعى والأدم. قال أبو جعفر: يعنـي بذلك مـجاهد، رعي مواشي والـي الـيتـيـم مع مواشي الـيتـيـم والأكل من إدامه، لأنه كان يتأول فـي قوله: وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ أنه خـلطة الولـي الـيتـيـم بـالرعي والأدم. ٣٦١١ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَلَوْ شاءَ اللّه لأعْنَتَكُمْ يقول: ولو شاء اللّه لأحرجكم، فضيق علـيكم، ولكنه وسع ويسّر، فقال: وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيأكُلْ بـالـمَعْرُوفِ. ٣٦١٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلَوْ شاءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ يقول: لـجهدكم، فلـم تقوموا بحقّ ولـم تؤدّوا فريضة. ٣٦١٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع نـحوه، إلا أنه قال: فلـم تعملوا بحق. ٣٦١٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَوْ شاءَ اللّه لأعْنَتَكُمْ لشدّد علـيكم. ٣٦١٥ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه : وَلَوْ شاءَ اللّه لأعْنَتَكُمْ قال: لشقّ علـيكم فـي الأمر، ذلك العنت. ٣٦١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قوله: وَلَوْ شاءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ قال: ولو شاء اللّه لـجعل ما أصبتـم من أموال الـيتامى مُوبقا. وهذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذُكرَت عنه، وإن اختلفت ألفـاظ قائلـيها فـيها، فإنها متقاربـات الـمعانـي لأن من حرم علـيه شيء فقد ضيق علـيه فـي ذلك الشيء، ومن ضيق علـيه فـي شيء، فقد أحرج فـيه، ومن أحرج فـي شيء أو ضيق علـيه فـيه فقد جهد، وكل ذلك عائد إلـى الـمعنى الذي وصفت من أن معناه الشدة والـمشقة، ولذلك قـيـل: عَنِت فلان: إذا شق علـيه وجهده فهو يعنت عنتا، كما قال تعالـى ذكره: عَزِيرٌ عَلَـيْهِ ما عَنِتّـمْ يعنـي ما شقّ علـيكم وآذاكم وجهدكم، ومنه قوله تعالـى ذكره: ذَلِكَ لِـمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ فهذا إذا عنت العانت، فإن صيره غيره كذلك قـيـل: أعنته فلان فـي كذا: إذا جهده وألزمه أمرا جهده القـيام به يعنته إعناتا، فكذلك قوله: لأَعْنَتَكُمْ معناه: لأوجب لكم العنت بتـحريـمه علـيكم ما يجهدكم ويحرجكم مـما لا تطيقون القـيام بـاجتنابه وأداء الواجب له علـيكم فـيه. وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقككم وأهلككم. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: قرأ علـينا: وَلَوْ شاءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ قال ابن عبـاس : ولو شاء اللّه لـجعل ما أصبتـم من أموال الـيتامى موبقا. ٣٦١٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيـل وجرير، عن منصور، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس : وَلَوْ شاءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ قال: لـجعل ما أصبتـم موبقا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن اللّه عزيز فـي سلطانه لا يـمنعه مانع مـما أحلّ بكم من عقوبة، لو أعنتكم بـما يجهدكم القـيام به من فرائضه، فقصرتـم فـي القـيام به، ولا يقدر دافع أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مـما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله هو، لكنه بفضل رحمته منّ علـيكم بترك تكلـيفه إياكم ذلك، وهو حكيـم فـي ذلك لو فعله بكم، وفـي غيره من أحكامه وتدبـيره لا يدخـل أفعاله خـلل ولا نقص ولا وهي ولا عيب، لأنه فعل ذي الـحكمة الذي لا يجهل عواقب الأمور، فـيدخـل تدبـيره مذمة عاقبة، كما يدخـل ذلك أفعال الـخـلق لـجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختـيارهم فـيها ابتداء. ٢٢١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتّىَ يُؤْمِنّ... } اختلف أهل التأويـل فـي هذه الآية: هل نزلت مرادا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض الـمشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الـحكم بها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: نزلت مرادا بها تـحريـم نكاح كل مشركة علـى كل مسلـم من أنّ أجناس الشرك كانت عابدة وثن أو كانت يهودية أو نصرانـية أو مـجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تـحريـم نكاح أهل الكتاب بقوله: يَسألُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبـاتُ إلـى: وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الُـمؤْمِنات والـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي علـيّ بن واقد، قال: ثنـي عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال: وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حل لكم إذَا آتَـيْتُـمُوهُنّ أُجُورَهُنّ. ٣حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري، قالا: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ فنسخ من ذلك نساء أهل الكتاب أحلهن للـمسلـمين. ٣حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: نساء أهل مكة ومن سواهن من الـمشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب. ٣٦١٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. ٣٦١٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ إلـى قوله: لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ قال: حرّم اللّه الـمشركات فـي هذه الآية، ثم أنزل فـي سورة الـمائدة، فـاستثنى نساء أهل الكتاب، فقال: وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَـيْتُـمُوهُنّ أُجُوُرَهُنّ. وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لـم ينسخ منها شيء ولـم يستثن، إنـما هي آية عام ظاهرها خاص تأويـلها. ذكر من قال ذلك: ٣٦٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ يعنـي مشركات العرب اللاتـي لـيس لهنّ كتاب يقرأنه. ٣٦٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: الـمشركات من لـيس من أهل الكتاب وقد تزوّج حذيفة يهودية أو نصرانـية. ٣٦٢٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة فـي قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ يعنـي مشركات العرب اللاتـي لـيس لهن كتاب يقرأنه. ٣٦٢٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن حماد، عن سعيد بن جبـير قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: مشركات أهل الأوثان. وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت غير مخصوص منها مشركة دون مشركة، وثنـية كانت أو مـجوسية أو كتابـية، ولا نسخ منها شيء. ذكر من قال ذلك: ٣٦٢٤ـ حدثنا عبـيد بن آدم بن أبـي إياس العسقلانـي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا عبد الـحميد بن بهرام الفزاري، قال: حدثنا شهر بن حوشب، قال: سمعت عبد اللّه بن عبـاس، يقول: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من الـمؤمنات الـمهاجرات، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال اللّه تعالـى ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بـاْلإيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. وقد نكح طلـحة بن عبـيد اللّه يهودية، ونكح حذيفة بن الـيـمان نصرانـية فغضب عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه غضبـا شديدا حتـى همّ بأن يسطو علـيهما، فقالا: نـحن نطلّق يا أمير الـمؤمنـين ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهن، لقد حلّ نكاحهنّ، ولكن انتزعهنّ منكم صَغَرةً قِمَاءً. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية ما قاله قتادة من أن اللّه تعالـى ذكره عنى بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ من لـم يكن من أهل الكتاب من الـمشركات، وأن الآية عام ظاهرها خاص بـاطنها لـم ينسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فـيها. وذلك أن اللّه تعالـى ذكره أحل بقوله: وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ للـمؤمنـين من نكاح مـحصناتهن، مثل الذي أبـاح لهم من نساء الـمؤمنات. وقد بـينا فـي غير هذا الـموضع من كتابنا هذا، وفـي كتابنا (كتاب اللطيف من البـيان) أن كل آيتـين أو خبرين كان أحدهما نافـيا حكم الاَخر فـي فطرة العقل، فغير جائز أن يقضى علـى أحدهما بأنه ناسخ حكم الاَخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مـجيئه، وذلك غير موجود أن قوله: والـمُـحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوّتُوا الكِتابَ ناسخ ما كان قد وجب تـحريـمه من النساء بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ. فإن لـم يكن ذلك موجودا كذلك، فقول القائل: (هذه ناسخة هذه) دعوى لا برهان له علـيها، والـمدعِي دعوى لا برهان له علـيها متـحكم، والتـحكم لا يعجز عنه أحد. وأما القول الذي رُوي عن شهر بن حوشب، عن ابن عبـاس ، عن عمر رضي اللّه عنه من تفريقه بـين طلـحة وحذيفة وامرأتـيهما اللتـين كانتا كتابـيتـين، فقول لا معنى له لـخلافه ما الأمة مـجتـمعة علـى تـحلـيـله بكتاب اللّه تعالـى ذكره، وخبر رسوله صلى اللّه عليه وسلم. وقد رُوي عن عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه من القول خلاف ذلك بإسناد هو أصحّ منه، وهو ما: ٣٦٢٥ـ حدثنـي به موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا مـحمد بن بشر، قال: حدثنا سفـيان بن سعيد، عن يزيد بن أبـي زياد، عن زيد بن وهب، قال: قال عمر: الـمسلـم يتزوّج النصرانـية، ولا يتزوّج النصرانـي الـمسلـمة. وإنـما كره عمر لطلـحة وحذيفة رحمة اللّه علـيهم نكاح الـيهودية والنصرانـية، حذرا من أن يقتدي بهما الناس فـي ذلك فـيزهدوا فـي الـمسلـمات، أو لغير ذلك من الـمعانـي، فأمرهما بتـخـلـيتهما. كما: ٣٦٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقـيق، قال: تزوّج حذيفة يهودية، فكتب إلـيه عمر: خَـلّ سبـيـلها، فكتب إلـيه: أتزعم أنها حرام فأخـلـي سبـيـلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا الـمؤمسات منهن. ٣وقد حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الـحسن، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (نَتَزَوّجُ نِساءَ أهْلِ الْكِتابِ وَلا يَتَزَوّجُونَ نِسَاءنَا). فهذا الـخبر وإن كان فـي إسناده ما فـيه، فـالقول به لإجماع الـجميع علـى صحة القول به أولـى من خبر عبد الـحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب. فمعنى الكلام إذا: ولا تنكحوا أيها الـمؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتـى يؤمنّ، فـيصدّقن بـاللّه ورسوله، وما أنزل علـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ولأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ بـاللّه وبرسوله، وبـما جاء به من عند اللّه خير عند اللّه ، وأفضل من حرّة مشركة كافرة وإن شرف نسبها وكرم أصلها. يقول: ولا تبتغوا الـمناكح فـي ذوات الشرف من أهل الشرك بـاللّه ، فإن الإماء الـمسلـمات عند اللّه خير منكحا منهن. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت فـي رجل نكح أمة، فعذل فـي ذلك وعرضت علـيه حرّة مشركة.ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ قال: نزلت فـي عبد اللّه بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب علـيها فلطمها ثم فزع، فأتـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال له النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (ما هيَ يا عَبْدَ اللّه ؟) قال: يا رسول اللّه هي تصوم وتصلـي وتـحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك رسول اللّه . فقال: (هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ) فقال عبد اللّه : فوالذي بعثك بـالـحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل، فطعن علـيه ناس من الـمسلـمين، فقالوا: تزوّج أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلـى الـمشركين، ويُنكحوهم رغبة فـي أحسابهم. فأنزل اللّه فـيهم: وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وعبد مؤمن خير من مشرك. ٣حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي الـحجاج، قال: قال ابن جريج فـي قوله: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْركاتِ حّتـى يُؤْمِنّ قال: الـمشركات لشرفهن حتـى يؤمن. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم الـمشركة من غير أهل الكتاب فـي الـجمال والـحسب والـمال فلا تنكحوها، فإن الأمة الـمؤمنة خير عند اللّه منها وإنـما وضعت (لو) موضع (إن) لتقارب مخرجيهما ومعنـيـيهما، ولذلك تـجاب كل واحدة منهما بجواب صاحبتها علـى ما قد بـينا فـيـما مضى قبل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ حّتـى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن اللّه قد حرم علـى الـمؤمنات أن ينكحن مشركا، كائنا من كان الـمشرك من أيّ أصناف الشرك كان. فلا تُنكحوهن أيها الـمؤمنون منهم فإن ذلك حرام علـيكم، ولأن تزوّجوهن من عبد مؤمن مصدّق بـاللّه وبرسوله، وبـما جاء به من عند اللّه ، خير لكم من أن تزوّجوهن من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه. وكان أبو جعفر مـحمد بن علـيّ يقول: هذا القول من اللّه تعالـى ذكره، دلالة علـى أن أولـياء الـمرأة أحق بتزويجها من الـمرأة. ٣٦٢٧ـ حدثنا مـحمد بن يزيد أبو هشام الرفـاعي، قال: أخبرنا حفص بن غياث عن شيخ لـم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بولـيّ فـي كتاب اللّه . ثم قرأ: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ حّتـى يُؤْمِنُوا برفع التاء. ٣٦٢٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري فـي قوله: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ قال: لا يحلّ لك أن تُنكح يهوديا أو نصرانـيا، ولا مشركا من غير أهل دينك. ٣٦٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ لشرفهم حَتّـى يُؤْمِنُوا. ٣٦٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري: وَلا تُنْكِحُوا الـمُشْرِكِينَ حَتّـى يُؤْمِنُوا قال: حرّم الـمسلـمات علـى رجالهم يعنـي رجال الـمشركين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلـى النّار وَاللّه يَدْعُو إلَـى الـجَنةِ وَالـمَغْفِرَةِ بإذْنِهِ ويُبَـيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أُولَئِكَ هؤلاء الذين حرمت علـيكم أيها الـمؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعونكم إلـى النار، يعنـي يدعونكم إلـى العمل بـما يدخـلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بـاللّه ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم، ولا تنكحوا إلـيهم، فإنهم لا يألونكم خبـالاً ولكن اقبلوا من اللّه ما أمركم به، فـاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلـى الـجنة. يعنـي بذلك: يدعوكم إلـى العمل بـما يدخـلكم الـجنة ويوجب لكم النـجاة إن عملتـم به من النار، وإلـى ما يـمـحو خطاياكم أو ذنوبكم فـيعفو عنها، ويسترها علـيكم. وأما قوله: بإذْنِهِ فإنه يعنـي أنه يدعوكم إلـى ذلك بإعلامه إياكم سبـيـله وطريقه الذي به الوصول إلـى الـجنة والـمغفرة ثم قال تعالـى ذكره: ويُبَـيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يقول: ويوضح حججه وأدلته فـي كتابه الذي أنزله علـى لسان رسوله لعبـاده لـيتذكروا فـيعتبروا، ويـميزوا بـين الأمرين اللذين أحدهما دعاء إلـى النار والـخـلود فـيها والاَخر دعاء إلـى الـجنة وغفران الذنوب، فـيختاروا خيرهما لهم. ولـم يجهل التـميـيز بـين هاتـين إلا غبـيّ الرأي، مدخول العقل. ٢٢٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ ويسألك يا مـحمد أصحابك عن الـحيض وقـيـل (الـمـحيض) لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتـح عين الفعل وكسرها فـي الاستقبـال، مثل قول القائل: ضرب يضرب، وحبس يحبس، ونزل ينزل، فإن العرب تبنـي مصدره علـى الـمفعَل والاسم علـى الـمفعِل مثل الـمضَرب والـمضرِب من ضربت، ونزلت منزِلاً ومَنْزَلاً. ومسموع فـي ذوات الـياء والألف الـمعيش والـمعاش والـمعيب والـمعاب، كما قال رؤبة فـي الـمعيش: إلَـيْكَ أشْكُو شِدّةَ الـمَعِيشِوَمَرّ أعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي وإنـما كان القوم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـما ذكر لنا عن الـحيض، لأنهم كانوا قبل بـيان اللّه لهم ما يتبـينون من أمره، لا يساكنون حائضا فـي بـيت، ولا يؤاكلونهنّ فـي إناء، ولا يشاربونهنّ، فعرّفهم اللّه بهذه الآية أن الذي علـيهم فـي أيام حيض نسائهم أن يجتنبوا جماعهنّ فقط دون ما عدا ذلك من مضاجعتهن ومآكلتهن ومشاربتهن. كما: ٣٦٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ حتـى بلغ: حّتـى يَطْهُرْنَ فكان أهل الـجاهلـية لا تساكنهم حائض فـي بـيت، ولا تؤاكلهم فـي إناء، فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـي ذلك، فحرم فرجها ما دامت حائضا، وأحلّ ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك فـي فراشك إذا كان علـيها إزار مـحتـجزة به دونك. ٣٦٣٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا فـي أيام حيضهنّ يجتنبون إتـيانهنّ فـي مخرج الدم ويأتونهن فـي أدبـارهن. فنهاهم اللّه عن أن يقربوهن فـي أيام حيضهن حتـى يطهرن، ثم أذن لهم إذا تطهرن من حيضهن فـي إتـيانهن من حيث أمرهم بـاعتزالهن، وحرم إتـيانهن فـي أدبـارهن بكل حال. ذكر من قال ذلك: ٣٦٣٣ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا خصيف، قال: ثنـي مـجاهد، قال: كانوا يجتنبون النساء فـي الـمـحيض، ويأتونهنّ فـي أدبـارهنّ، فسألوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فأنزل اللّه : وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ إلـى: فإذَا تَطَهّرْنَ فأتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه فـي الفرج ولا تعدوه. وقـيـل: إن السائل الذي سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك كان ثابت بن الدحداح الأنصاري. ٣٦٣٤ـ حدثنـي بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قُلْ هُوَ أذًى. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قل لـمن سألك من أصحابك يا مـحمد عن الـمـحيض هو أذى. والأذى: هو ما يؤذى به من مكروه فـيه، وهو فـي هذا الـموضع يسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونـجاسته، وهو جامع لـمعان شتـى من خلال الأذى غير واحدة. وقد اختلف أهل التأويـل فـي البـيان عن تأويـل ذلك علـى تقارب معانـي بعض ما قالوا فـيه من بعض، فقال بعضهم قوله: قُلْ هُوَ أذًى قل هو قذر. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: قُلْ هُوَ أذًى قال: أما أذى: فقذر. ٣حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: قُلْ هُوَ أذًى قال: قل هو أذى، قال: قذر. وقال آخرون: قل هو دم. ذكر من قال ذلك: ٣٦٣٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله:وَيَسَألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ قُلْ هُوَ أذًى قال: الأذى: الدم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ فـاعتزلوا جماع النساء ونكاحهنّ فـي مـحيضهن. كما: ٣٦٣٦ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ يقول: اعتزلوا نكاح فروجهنّ. واختلف أهل العلـم فـي الذي يجب علـى الرجل اعتزاله من الـحائض، فقال بعضهم: الواجب علـى الرجل اعتزال جميع بدنها أن يبـاشره بشيء من بدنه. ذكر من قال ذلك: ٣٦٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن مـحمد، قال: قلت لعبـيدة: ما يحلّ لـي من امرأتـي إذا كانت حائضا؟ قال: اللـحاف واحد، والفراش شتـى. ٣٦٣٨ـ حدثنـي تـميـم بن الـمنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: حدثنا مـحمد، عن الزهري، عن عروة، عن ندبة، مولاة آل عبـاس قالت: بعثتنـي ميـمونة ابنة الـحرث، أو حفصة ابنة عمر، إلـى امرأة عبد اللّه بن عبـاس، وكانت بـينهما قرابة من قبل النساء، فوجدت فراشها معتزلاً فراشه، فظننت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشه فراشها، فقالت: إنـي طامث، وإذا طمثت أعتزل فراشي. فرجعت فأخبرت بذلك ميـمونة أو حفصة، فردّتنـي إلـى ابن عبـاس ، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فواللّه لقد كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ينام مع الـمرأة من نسائه، وإنها لـحائض، وما بـينه وبـينها إلا ثوب ما يجاوز الركبتـين. ٣٦٣٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب وابن عون، عن مـحمد، قال: قلت لعبـيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: الفراش واحد، واللـحاف شتـى، فإن لـم يجد إلا أن يردّ علـيها من ثوبه ردّ علـيها منه. واعتل قائلو هذه الـمقالة بأن اللّه تعالـى ذكره أمر بـاعتزال النساء فـي حال حيضهن، ولـم يخصص منهن شيئا دون شيء، وذلك عامّ علـى جميع أجسادهنّ واجب اعتزال كل شيء من أبدانهن فـي حيضهن. وقال آخرون: بل الذي أمر اللّه تعالـى ذكره بـاعتزاله منهن موضع الأذى، وذلك موضع مخرج الدم. ذكر من قال ذلك: ٣٦٤٠ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنـي عيـينة بن عبد الرحمن بن جوشن، قال: حدثنا مروان الأصغر، عن مسروق بن الأجدع، قال: قلت لعائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الـجماع. ٣٦٤١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشين وذو اللـحافـين؟ ٣٦٤٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم علـى الرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: فرجها. ٣٦٤٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن كتاب أبـي قلابة: أن مسروقا ركب إلـى عائشة، فقال: السلام علـى النبـيّ وعلـى أهل بـيته فقالت عائشة: أبو عائشة مرحبـا فأذنوا له، فدخـل فقال: إنـي أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستـحيـي فقالت: إنـما أنا أمك وأنت ابنـي. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها. ٣٦٤٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، قال: حدثنا حجاج، عن ميـمون بن مهران، عن عائشة قالت له: ما فوق الإزار. ٣٦٤٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت فـي مضاجعة الـحائض: لا بأس بذلك إذا كان علـيها إزار. ٣٦٤٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن أبـي معشر قال: سألت عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. ٣٦٤٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن مـحمد بن عمرو، عن مـحمد بن إبراهيـم بن الـحارث قال: قال ابن عبـاس : إذا جعلت الـحائض علـى فرجها ثوبـا أو ما يكفّ الأذى، فلا بأس أن يبـاشر جِلْدُها زَوْجَها. ٣٦٤٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: ما فوق الإزار. ٣٦٤٩ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا الـحكم بن فضيـل، عن خالد الـحذاء، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: اتق من الدم مثل موضع النعل. ٣٦٥٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلـمة، قالت فـي مضاجعة الـحائض: لا بأس بذلك إذا كان علـى فرجها خرقة. ٣٦٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج يعنـي وهي حائض قال: يبـيتان فـي لـحاف واحد، يعنـي الـحائض إذا كان علـى الفرج ثوب. ٣٦٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ عن عوف عن الـحسن قال: يبـيتان فـي لـحاف واحد يعنـي الـحائض إذا كان علـى الفرج ثوب. ٣٦٥٣ـ حدثنا تـميـم، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن لـيث، قال: تذاكرنا عند مـجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيثما شئت فـيـما بـين الفخذين والألـيتـين والسرة، ما لـم يكن فـي الدبر أو الـحيض. ٣٦٥٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن عامر، قال: يبـاشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفّت الأذى. ٣٦٥٥ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: ثنـي عمران بن حدير، قال: سمعت عكرمة يقول: كل شيء من الـحائض لك حلال غير مـجرى الدم. وعلة قائل هذه الـمقالة، قـيام الـحجة بـالأخبـار الـمتواترة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يبـاشر نساءه وهن حيض، ولو كان الواجب اعتزال جميعهن لـما فعل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلـما صح ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، علـم أن مراد اللّه تعالـى ذكره بقوله: فـاعْتَزِلُوا النّساءَ فِـي الـمَـحِيضِ هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الـجماع الـمـجمع علـى تـحريـمه علـى الزوج فـي قبلها دون ما كان فـيه اختلاف من جماعها فـي سائر بدنها. وقال آخرون: بل الذي أمر اللّه تعالـى ذكره بـاعتزاله منهن فـي حال حيضهن ما بـين السرة إلـى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها. ذكر من قال ذلك: ٣٦٥٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح، قال له: ما فوق السرّة. وذكر الـحائض. ٣٦٥٧ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبـير، قال: سئل ابن عبـاس عن الـحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار. ٣٦٥٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب وابن عون، عن مـحمد، قال: قال شريح: له ما فوق سرتها. ٣٦٥٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن واقد بن مـحمد بن زيد بن عبد اللّه بن عمر، قال: سئل سعيد بن الـمسيب: ما للرجل من الـحائض؟ قال: ما فوق الإزار. وعلة من قال هذه الـمقالة صحة الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـما: ٣٦٦٠ـ حدثنـي به ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سلـيـمان الشيبـانـي وحدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا حفص، قال: حدثنا الشيبـانـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن شداد بن الهاد، قال: سمعت ميـمونة، تقول: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يبـاشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها فـاتّزرت). ٣٦٦١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن الشيبـانـي، عن عبد اللّه بن شداد، عن ميـمونة: (أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يبـاشرها وهي حائض فوق الإزار). ٣٦٦٢ـ حدثنـي سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها فـاتزرت بإزار ثم يبـاشرها. ٣٦٦٣ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن الشيبـانـي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن تأتزر ثم يبـاشرها. ونظائر ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستـيعاب ذكر جميعها الكتاب قالوا: فما فعل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من ذلك فجائز، وهو مبـاشرة الـحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرّة، وما عدا ذلك من جسد الـحائض فواجب اعتزاله لعموم الآية. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: إن للرجل من امرأته الـحائض ما فوق الـمؤتزر ودونه لـما ذكرنا من العلة لهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ. اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: حتـى يَطْهُرْنَ بضم الهاء وتـخفـيفها، وقرأه آخرون بتشديد الهاء وفتـحهاوأما الذين قرءوه بتـخفـيف الهاء وضمها فإنهم وجهوا معناه إلـى: ولا تقربوا النساء فـي حال حيضهن حتـى ينقطع عنهن دم الـحيض ويطهرن وقال بهذا التأويـل جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٦٦٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي ومؤمل، قالا: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ قال: انقطاع الدم. ٣٦٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان أو عثمان بن الأسود: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ حتـى ينقطع الدم عنهن. ٣٦٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد اللّه العتكي، عن عكرمة فـي قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ قال: حتـى ينقطع الدم. وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد الهاء وفتـحها، فإنهم عنوا به: حتـى يغتسلن بـالـماء وشدّدوا الطاء لأنهم قالوا: معنى الكلـمة: حتـى يتطهرن أدغمت التاء فـي الطاء لتقارب مخرجيهما. وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: (حّتـى يَطّهّرْنَ) بتشديدها وفتـحها، بـمعنى: حتـى يغتسلن، لإجماع الـجميع علـى أن حراما علـى الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتـى تطهر. وإنـما اختلف فـي التطهر الذي عناه اللّه تعالـى ذكره، فأحلّ له جماعها، فقال بعضهم: هو الاغتسال بـالـماء، ولا يحلّ لزوجها أن يقربها حتـى تغسل جميع بدنها. وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة. وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانها. فإذا كان إجماع من الـجميع أنها لا تـحلّ لزوجها بـانقطاع الدم حتـى تطهر، كان بـينا أن أولـى القراءتـين بـالصواب أنفـاهما للبس عن فهم سامعها، وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان فـي قراءة قارئها بتـخفـيف الهاء وضمها ما لا يؤمن معه اللبس علـى سامعها من الـخطإ فـي تأويـلها، فـيرى أن للزوج غشيانها بعد انقطاع دم حيضها عنها وقبل اغتسالها وتطهرها. فتأويـل الآية إذا: ويسألونك عن الـمـحيض، قل هو أذى، فـاعتزلوا جماع نسائكم فـي وقت حيضهن، ولا تقربوهنّ حتـى يغتسلن فـيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإذَا تَطَهّرْنَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ فإذا اغتسلن فتطهرن بـالـماء فجامعوهن. فإن قال قائل: أففرض جماعهنّ حينئذ؟ قـيـل: لا. فإن قال: فما معنى قوله إذا: فأْتُوهُنّ؟ قـيـل: ذلك إبـاحة ما كان منع قبل ذلك من جماعهنّ وإطلاق لـما كان حظر فـي حال الـحيض، وذلك كقوله: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا وقوله: فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فـانْتَشرُوا فِـي الأرْضِ وما أشبه ذلك. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله فإذَا تَطَهّرْنَ فقال بعضهم: معنى ذلك: فإذا اغتسلن. ذكر من قال ذلك: ٣٦٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : فإذَا تَطَهّرْنَ يقول: فإذا طهرت من الدم وتطهرت بـالـماء. ٣٦٦٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنـي مـحمد بن مهدي ومؤمل، قالا: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن. ٣٦٦٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد اللّه العتكي، عن عكرمة فـي قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ يقول: اغتسلن. ٣٦٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان أو عثمان بن الأسود: فإذَا تَطَهّرْنَ إذا اغتسلن. ٣٦٧١ـ حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الـحسن فـي الـحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجها حتـى تغتسل وتـحلّ لها الصلاة. ٣٦٧٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم أنه كره أن يطأها حتـى تغتسل يعنـي الـمرأة إذا طهرت. وقال آخرون: معنى ذلك فإذا تطهرن للصلاة. ذكر من قال ذلك: ٣٦٧٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا لـيث، عن طاوس ومـجاهد أنهما قالا: إذا طهرت الـمرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرها بـالوضوء قبل أن تغتسل إذا أدركه الشبق فلـيُصِب. وأولـى التأويـلـين بتأويـل الآية قول من قال: معنى قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن لإجماع الـجميع علـى أنها لا تصير بـالوضوء بـالـماء طاهرا الطهر الذي يحلّ لها به الصلاة، وأن القول لا يخـلو فـي ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون معناه: فإذا تطهرن من النـجاسة فأتوهن. وإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متـى انقطع عنها الدم فجائز لزوجها جماعها إذا لـم تكن هنالك نـجاسة ظاهرة، هذا إن كان قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ جائزا استعماله فـي التطهر من النـجاسة، ولا أعلـمه جائزا إلا علـى استكراه الكلام أو يكون معناه: فإذا تطهرن للصلاة فـي إجماع الـجميع من الـحجة علـى أنه غير جائز لزوجها غشيانها بـانقطاع دم حيضها، إذا لـم يكن هنالك نـجاسة دون التطهر بـالـماء إذا كانت واجدته أدلّ الدلـيـل علـى أن معناه: فإذا تطهرن الطهر الذي يجزيهن به الصلاة. وفـي إجماع الـجميع من الأمة علـى أن الصلاة لا تـحلّ لها إلا بـالاغتسال أوضح الدلالة علـى صحة ما قلنا من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن فصرن طواهر الطهر الذي يجزيهن به الصلاة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه . اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهرن من الوجه الذي نهيتكم عن إتـيانهن منه فـي حال حيضهن، وذلك الفرج الذي أمر اللّه بترك جماعهنّ فـيه فـي حال الـحيض. ذكر من قال ذلك: ٣٦٧٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي أبـان بن صالـح، عن مـجاهد، قال: قال ابن عبـاس فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. ٣٦٧٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه يقول: فـي الفرج لا تعدوه إلـى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى. ٣٦٧٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا خالد الـحذاء، عن عكرمة فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا. ٣٦٧٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا أبو صخر، عن أبـي معاوية البجلـي، عن سعيد بن جبـير أنه قال: بـينا أنا ومـجاهد جالسان عند ابن عبـاس أتاه رجل فوقـف علـى رأسه، فقال: يا أبـا العبـاس أو يا أبـا الفضل ألا تشفـينـي عن آية الـمـحيض؟ قال: بلـى فقرأ: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ حتـى بلغ آخر الآية، فقال ابن عبـاس : من حيث جاء الدم، مِنْ ثم أُمرت أن تأتـي. ٣٦٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن عمرة، عن مـجاهد، قال: دبر الـمرأة مثله من الرجل. ثم قرأ: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيضِ إلـى: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. ٣٦٧٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: أمروا أن يأتوهن من حيث نهوا عنه. ٣٦٨٠ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا خصيف، قال: ثنـي مـجاهد: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه فـي الفرج، ولا تعدوه. ٣٦٨١ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه يقول: إذا تطهرن فأتوهنّ من حيث نُهي عنه فـي الـمـحيض. ٣٦٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان أو عثمان بن الأسود: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه بـاعتزالهنّ منه. ٣٦٨٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه أي من الوجه الذي يأتـي منه الـمـحيض طاهرا غير حائض، ولا تعدوا ذلك إلـى غيره. ٣٦٨٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: طواهر من غير جماع ومن غير حيض من الوجه الذي يأتـي الـمـحيض ولا يتعدى إلـى غيره. قال سعيد: ولا أعلـمه إلا عن ابن عبـاس . ٣٦٨٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: فَإِذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه من حيث نهيتـم عنه فـي الـمـحيض. وعن أبـيه عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: فَإِذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه من حيث نهيتـم عنه، واتقوا الأدبـار. ٣٦٨٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبـي، عن يزيد بن الولـيد، عن إبراهيـم فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: فـي الفرج. وقال آخرون: معناه: فأتوهن من الوجه الذي أمركم اللّه فـيه أن تأتوهن منه، وذلك الوجه هو الطهر دون الـحيض. فكان معنى قائل ذلك فـي الآية: فأتُوهنّ من قُبْل طهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. ذكر من قال ذلك: ٣٦٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه يعنـي أن يأتـيها طاهرا غير حائض. ٣٦٨٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن أبـي رزين فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: من قُبْل الطهر. ٣٦٨٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن أبـي رزين بـمثله. ٣٦٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبـي رزين: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه يقول: ائتوهن من عند الطهر. ٣٦٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا علـيّ بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبـي رزين: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: من قُبْل الطهر، ولا تأتوهن من قبل الـحيض. ٣٦٩٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد اللّه العتكي، عن عكرمة قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه يقول: إذا اغتسلن فأتوهنّ من حيث أمركم اللّه يقول: طواهر غير حُيّض. ٣٦٩٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: يقول طواهر غير حُيّض. ٣٦٩٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه من الطهر. ٣٦٩٥ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك : فأتوهن طُهّرا غير حيض. ٣٦٩٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: ائتوهن طاهرات غير حيض. ٣٦٩٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك : فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: طُهّرا غير حيض فـي القبل. وقال آخرون: بلـى معنى ذلك: فأتوا النساء من قبل النكاح لا من قبل الفجور. ذكر من قال ذلك: ٣٦٩٨ـ حدثنا عمرو بن علـيّ قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا إسماعيـل الأزرق، عن أبـي عمر الأسدي، عن ابن الـحنفـية: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه قال: من قبل الـحلال من قبل التزويج. وأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك عندي قول من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن وذلك أن كل أمر بـمعنى فنهي عن خلافه وضده، وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه فأتوهنّ من قبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله فـي حال حيضهن، لوجب أن يكون قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حَتـى يَطْهُرْنَ تأويـله: ولا تقربوهنّ فـي مخرج الدم دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فـيكون مطلقا فـي حال حيضها إتـيانهن فـي أدبـارهنّ. وفـي إجماع الـجميع علـى أن اللّه تعالـى ذكره لـم يطلق فـي حال الـحيض من إتـيانهنّ فـي أدبـارهن شيئا حرّمه فـي حال الطهر ولا حرم من ذلك فـي حال الطهر شيئا أحله فـي حال الـحيض، ما يعلـم به فساد هذا القول. وبعد: فلو كان معنى ذلك علـى ما تأوّله قائلو هذه الـمقالة لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم اللّه ، حتـى يكون معنى الكلام حينئذ علـى التأويـل الذي تأوّله، ويكون ذلك أمرا بإتـيانهن فـي فروجهن، لأن الكلام الـمعروف إذا أريد ذلك أن يقال: أتـى فلان زوجته من قبل فرجها، ولا يقال: أتاها من فرجها إلا أن يكون أتاها من قبل فرجها فـي مكان غير الفرج. فإن قال لنا قائل: فإن ذلك وإن كان كذلك، فلـيس معنى الكلام: فأتوهن فـي فروجهن، وإنـما معناه، فأتوهن من قبل قبلهن فـي فروجهن، كما يقال: أتـيت هذا الأمر من مأتاه. قـيـل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتـى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك علـى ما زعمتـم، فقد يجب أن يكون معنى قوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه غير الذي زعمتـم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم ومن حيث أمرتـم بـاعتزالهن، ولكن الواجب أن يكون تأويـله علـى ذلك: فأتوهنّ من قبل وجوههنّ فـي أقبـالهن، كما كان قول القائل ائت الأمر من مأتاه إنـما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلب الأمر غير الأمر الـمطلوب، فكذلك يجب أن مأتـى الفرج الذي أمر اللّه فـي قولهم بإتـيانه غير الفرج. وإذا كان كذلك وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههنّ فـي فروجهنّ، وجب أن يكون علـى قولهم مـحرّما إتـيانهنّ فـي فروجهن من قبل أدبـارهن، وذلك إن قالوه خرج من قاله من قـيـل أهل الإسلام، وخالف نصّ كتاب اللّه تعالـى ذكره وقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وذلك أن اللّه يقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ وأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي إتـيانهن فـي فروجهن من قبل أدبـارهن. فقد تبـين إذا إذ كان الأمر علـى ما وصفنا فساد تأويـل من قال ذلك: فأتوهنّ فـي فروجهنّ حيث نهيتكم عن إتـيانهن فـي حال حيضهن، وصحة القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن فـي فروجهن من الوجه الذي أذن اللّه لكم بإتـيانهن، وذلك حال طهرهن وتطهرهن دون حال حيضهن. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ اللّه يُحِبّ التّوابِـينَ ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ اللّه يُحِبّ التّوابِـينَ الـمنـيبـين من الإدبـار عن اللّه وعن طاعته إلـيه وإلـى طاعته وقد بـينا معنى التوبة قبل. واختلف فـي معنى قوله: ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ فقال بعضهم: هم الـمتطهرون بـالـماء. ذكر من قال ذلك: ٣٦٩٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا طلـحة، عن عطاء قوله: إنّ اللّه يُحِبّ التّوابِـينَ قال: التوابـين من الذنوب، ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ قال: الـمتطهرين بـالـماء للصلاة. ٣٧٠٠ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا طلـحة، عن عطاء، مثله. ٣٧٠١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء: إنّ اللّه يُحِبّ التّوابِـينَ من الذنوب لـم يصيبوها ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ بـالـماء للصلاة. وقال آخرون: معنى ذلك إن اللّه يحب التوابـين من الذنوب، ويحب الـمتطهرين من أدبـار النساء أن يأتوها. ذكر من قال ذلك: ٣٧٠٢ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع، قال: سمعت سلـيـمان مولـى أم علـي، قال: سمعت مـجاهدا يقول: من أتـى امرأته فـي دبرها فلـيس من الـمتطهرين. وقال آخرون: معنى ذلك: (ويحب الـمتطهرين) من الذنوب أن يعودوا فـيها بعد التوبة بها. ذكر من قال ذلك: ٣٧٠٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: يُحِبّ التّوابِـينَ من الذنوب لـم يصيبوها، ويُحِبّ الـمُتَطَهّرِينَ من الذنوب: لا يعودون فـيها. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: إن اللّه يحبّ التوّابـين من الذنوب، ويحبّ الـمتطهرين بـالـماء للصلاة لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانـيه. وذلك أن اللّه تعالـى ذكره ذكر أمر الـمـحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها فـي جاهلـيتهم، من تركهم مساكنة الـحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مـما كان تعالـى ذكره يكرهها من عبـاده. فلـما استفتـى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك أوحى اللّه تعالـى إلـيه فـي ذلك، فبـين لهم ما يكرهه مـما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحبّ من خـلقه من أناب إلـى رضاه ومـحبته، تائبـا مـما يكرهه. وكان مـما بـين لهم من ذلك أنه قد حرم علـيهم إتـيان نسائهم وإن طهرن من حيضهن حتـى يغتسلن، ثم قال: وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتـى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ فإن اللّه يحبّ الـمتطهرين، يعنـي بذلك الـمتطهرين من الـجنابة والأحداث للصلاة، والـمتطهرات بـالـماء من الـحيض والنفـاس والـجنابة والأحداث من النساء. وإنـما قال: ويحبّ الـمتطهرين، ولـم يقل الـمتطهرات، وإنـما جرى قبل ذلك ذكر التطهر للنساء لأن ذلك بذكر الـمتطهرين يجمع الرجال والنساء، ولو ذكر ذلك بذكر الـمتطهرات لـم يكن للرجال فـي ذلك حظ، وكان للنساء خاصة، فذكر اللّه تعالـى ذكره بـالذكر العام جميع عبـاده الـمكلفـين، إذ كان قد تعبد جميعهم بـالتطهر بـالـماء، وإن اختلفت الأسبـاب التـي توجب التطهر علـيهم بـالـماء فـي بعض الـمعانـي واتفقت فـي بعض. ٢٢٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنّىَ شِئْتُمْ... } يعنـي تعالـى ذكره بذلك: نساؤكم مزدرع أولادكم، فأتوا مزدرعكم كيف شئتـم، وأين شئتـم. وإنـما عنى بـالـحرث الـمزدَرَع، والـحرث هو الزرع، ولكنهن لـما كنّ من أسبـاب الـحرث جعلن حرثا، إذ كان مفهوما معنى الكلام. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٣٧٠٤ـ حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن يونس، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ قال: منبت الولد. ٣٧٠٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أما الـحرث فهي مزرعة يحرث فـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قفَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فـانكحوا مزدرع أولادكم من حيث شئتـم من وجوه الـمأتـى. والإتـيان فـي هذا الـموضع كناية عن اسم الـجماع. واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: أنّى شِئْتُـمْ فقال بعضهم: معنى أنّى: كيف. ذكر من قال ذلك: ٣٧٠٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: يأتـيها كيف شاء ما لـم يكن يأتـيها فـي دبرها أو فـي الـحيض. ٣٧٠٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: ائتها أنى شئت مقبلة ومدبرة، ما لـم تأتها فـي الدبر والـمـحيض. ٣٧٠٨ـ حدثنا علـيّ بن داود قال: حدثنا أبو صالـح قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يعنـي بـالـحرث: الفرج، يقول: تأتـيه كيف شئت مستقبلة ومستدبرة وعلـى أيّ ذلك أردت بعد أن لا تـجاوز الفرج إلـى غيره، وهوقوله: فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّه . ٣حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريـم، عن عكرمة: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: يأتـيها كيف شاء ما لـم يعمل عمل قوم لوط. ٣٧٠٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا الـحسن بن صالـح، عن لـيث، عن مـجاهد: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: يأتـيها كيف شاء، واتّق الدبر والـحيض. ٣٧١٠ـ حدثنـي عبـيد اللّه بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، قال: ثنـي يزيد أن ابن كعب كان يقول: إنـما قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: ائتها مضطجعة وقائمة ومنـحرفة ومقبلة ومدبرة كيف شئت إذا كان فـي قُبُلها. ٣٧١١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن مرة الهمدانـي، قال: سمعته يحدّث أن رجلاً من الـيهود لقـي رجلاً من الـمسلـمين، فقال له: أيأتـي أحدكم أهله بـاركا؟ قال: نعم قال: فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: فنزلت هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: كيف شاء بعد أن يكون فـي الفرج. ٣٧١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إن شئت قائما أو قاعدا أو علـى جنب إذا كان يأتـيها من الوجه الذي يأتـي منه الـمـحيض، ولا يتعدّى ذلك إلـى غيره. ٣٧١٣ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ ائت حرثك كيف شئت من قبلها، ولا تأتـيها فـي دبرها. أنّى شِئْتُـمْ قال: كيف شئتـم. ٣حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الـحرث، عن سعيد بن أبـي هلال أن عبد اللّه بن علـيّ حدثه: أنه بلغه أن ناسا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جلسوا يوما ورجل من الـيهود قريب منهم، فجعل بعضهم يقول: إنـي لاَتـي امرأتـي وهي مضطجعة، ويقول الاَخر: إنـي لاَتـيها وهي قائمة، ويقول الاَخر: إنـي لاَتـيها علـى جنبها وبـاركة فقال الـيهودي: ما أنتـم إلا أمثال البهائم، ولكنا إنـما نأتـيها علـى هيئة واحدة. فأنزل اللّه تعالـى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فهو القبل. وقال آخرون: معنى: أنّى شِئْتُـمْ من حيث شئتـم، وأيّ وجه أحببتـم. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبـي فديك، عن إبراهيـم بن إسماعيـل بن أبـي حبـيبة الأشهل، عن داود بن الـحصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : أنه كان يكره أن تؤتـى الـمرأة فـي دبرها و يقول: إنـما الـحرث من القبل الذي يكون منه النسل والـحيض. وينهى عن إتـيان الـمرأة فـي دبرها و يقول: إنـما نزلت هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: من أيّ وجه شئتـم. ٣حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن واضح، قال: حدثنا العتكي، عن عكرمة: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: ظهرها لبطنها غير معاجَزَة، يعنـي الدبر. ٣حدثنا عبـيد اللّه بن سعد، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن يزيد، عن الـحرث بن كعب، عن مـحمد بن كعب، قال: إن ابن عبـاس كان يقول: اسق نبـاتك من حيث نبـاته. ٣حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: من أين شئتـم. ذكر لنا واللّه أعلـم أن الـيهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قبل أعجازهنّ، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول فأكذب اللّه أحدوثتهم، فقال: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ. ٣٧١٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قال: يقول: ائتوا النساء فـي (غير) أدبـارهن علـى كل نـحو. قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبـي ربـاح قال: تذاكرنا هذا عند ابن عبـاس ، فقال ابن عبـاس : ائتوهن من حيث شئتـم مقبلة ومدبرة فقال رجل: كأن هذا حلال. فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا، وأنكره، كأنه إنـما يريد الفرج مقبلة ومدبرة فـي الفرج. وقال آخرون: معنى قوله: أنّى شِئْتُـمْ متـى شئتـم. ذكر من قال ذلك: ٣٧١٥ـ حدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ يقول: متـى شئتـم. ٣٧١٦ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا أبو صخر، عن أبـي معاوية البجلـي، وهو عمار الدهنـي، عن سعيد بن جبـير أنه قال: بـينا أنا ومـجاهد جالسان عند ابن عبـاس ، أتاه رجل فوقـف علـى رأسه، فقال: يا أبـا العبـاس أو يا أبـا الفضل ألا تشفـينـي عن آية الـمـحيض؟ فقال: بلـى فقرأ: وَيَسألُونَكَ عَنِ الـمَـحِيض حتـى بلغ آخر الآية، فقال ابن عبـاس : من حيث جاء الدم من ثَمّ أمرت أن تأتـي، فقال له الرجل: يا أبـا الفضل كيف بـالآية التـي تتبعها: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ؟ فقال: إي ويحك وفـي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا لكان الـمـحيض منسوخا إذا اشتغل من ههنا جئت من ههنا ولكن أنى شئتـم من اللـيـل والنهار. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتـم، وحيث شئتـم. ذكر من قال ذلك: ٣٧١٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا ابن عون، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قرىء القرآن لـم يتكلـم قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال: أتدري فـيـمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا قال: نزلت فـي إتـيان النساء فـي أدبـارهن. ٣٧١٨ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد اللّه بن مسلـم أبو مسلـم، قال: حدثنا أبو عمر الضرير، قال: حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم، صاحب الكرابـيسي، عن ابن عون، عن نافع، قال: كنت أمسك علـى ابن عمر الـمصحف، إذ تلا هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال: أن يأتـيها فـي دبرها. ٣٤٦٥حدثنـي عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا عبد الـملك بن مسلـمة، قال: حدثنا الدراورديّ، قال: قـيـل لزيد بن أسلـم: إن مـحمد بن الـمنكدر ينهى عن إتـيان النساء فـي أدبـارهن فقال زيد: أشهد علـى مـحمد لأخبرنـي أنه يفعله. ٣٧١٩ـ حدثنـي عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبـي الغمر، قال: ثنـي عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس، أنه قـيـل له: يا أبـا عبد اللّه إن الناس يروون عن سالـم: (كذب العبد أو العلـج علـى أبـي)، فقال مالك: أشهد علـى يزيد بن رومان أنه أخبرنـي، عن سالـم بن عبد اللّه ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقـيـل له: إن الـحارث بن يعقوب يروي عن أبـي الـحبـاب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر، فقال له: يا أبـا عبد الرحمن إنا نشتري الـجواري، فنـحمّض لهن؟ فقال: وما التـحميض؟ قال: الدبر فقال ابن عمر: أف أف، يفعل ذلك مؤمن؟ أو قال مسلـم. فقال مالك: أشهد علـى ربـيعة لأخبرنـي عن أبـي الـحبـاب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. ٣حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: أخبرنا عمرو بن طارق، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن موسى بن أيوب الغافقـي، قال: قلت لأبـي ماجد الزيادي: إن نافعا يحدّث عن ابن عمر: فـي دبر الـمرأة فقال: كذب نافع، صحبت ابن عمر ونافع مـملوك، فسمعته يقول: ما نظرت إلـى فرج امرأتـي منذ كذا وكذا. ٣حدثنـي أبو قلابة قال: حدثنا عبد الصمد، قال: ثنـي أبـي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: فـي الدبر. ٣حدثنـي أبو مسلـم، قال: حدثنا أبو عمر الضرير، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال حدثنا روح بن القاسم، عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتـيان النساء فـي أدبـارهنّ، فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر قال: روح: فشهدت ابن أبـي ملـيكة يسئل عن ذلك، فقال: قد أردته من جارية لـي البـارحة فـاعتاص علـيّ، فـاستعنت بدهن أو بشحم قال: فقلت له: سبحان اللّه أخبرنا قتادة أن أبـا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر فقال: لعنك اللّه ولعن قتادة فقلت: لا أحدّث عنك شيئا أبدا، ثم ندمت بعد ذلك. واعتلّ قائلو هذه الـمقالة لقولهم بـما: ٣حدثنـي به مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبـي أويس الأعشى، عن سلـيـمان بن بلال، عن زيد بن أسلـم، عن ابن عمر: أن رجلاً أتـى امرأته فـي دبرها، فوجد فـي نفسه من ذلك، فأنزل اللّه : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ. ٣٧٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنـي ابن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار: أن رجلاً أصاب امرأته فـي دبرها علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنكر الناس ذلك و قالوا: أثفرها فأنزل اللّه تعالـى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ. وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتـم، إن شئتـم فـاعزلوا وإن شئتـم فلا تعزلوا. ذكر من قال ذلك: ٣٧٢١ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا الـحسن بن صالـح، عن لـيث، عن عيسى بن سنان، عن سعيد بن الـمسيب: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إن شئتـم فـاعزلوا، وإن شئتـم فلا تعزلوا. ٣٧٢٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن يونس، عن أبـي إسحاق، عن زائدة بن عمير، عن ابن عبـاس قال: إن شئت فـاعزل، وإن شئت فلا تعزل. وأما الذين قالوا: معنى قوله: أنّى شِئْتُـمْ كيف شئتـم مقبلة ومدبرة فـي الفرج والقبل، فإنهم قالوا: إن الآية إنـما نزلت فـي استنكار قوم من الـيهود استنكروا إتـيان النساء فـي أقبـالهن من قبل أدبـارهن. قالوا: وفـي ذلك دلـيـل علـى صحة ما قلنا من أن معنى ذلك علـى ما قلنا. واعتلوا لقـيـلهم ذلك بـما: ٣٧٢٣ـ حدثنـي به أبو كريب، قال: حدثنا الـمـحاربـي، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن أبـان بن صالـح، عن مـجاهد، قال: عرضت الـمصحف علـى ابن عبـاس ثلاث عرضات من فـاتـحته إلـى خاتـمته أوقـفه عند كل آية وأسأله عنها، حتـى انتهى إلـى هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال ابن عبـاس : إن هذا الـحيّ من قريش، كانوا يشرحون النساء بـمكة، ويتلذّذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلـما قدموا الـمدينة تزوّجوا فـي الأنصار، فذهبوا لـيفعلوا بهنّ كما كانوا يفعلون بـالنساء بـمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لـم نكن نؤتـى علـيه فـانتشر الـحديث حتـى انتهى إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـي ذلك: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إن شئت فمقبلة وإن شئت فمدبرة وإن شئت فبـاركة وإنـما يعنـي بذلك موضع الولد للـحرث، يقول: ائت الـحرث من حيث شئت. ٣٧٢٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق بإسناده نـحوه. ٣٧٢٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن الـمنكدر، قال: سمعت جابرا يقول: إن الـيهود كانوا يقولون: إذا جامع الرجل أهله فـي فرجها من ورائها كان ولده أحول، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكَمْ أنّى شِئْتُـمْ. ٣٧٢٦ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا الثوري، عن مـحمد بن الـمنكدر، عن جابر بن عبد اللّه قال: قالت الـيهود: إذا أتـى الرجل امرأته فـي قبلها من دبرها وكان بـينهما ولد كان أحول، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتْوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ. ٣٧٢٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثـيـم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبـي بكر، عن أمّ سلـمة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قالت: تزوج رجل امرأة، فأراد أن يُجَبـيها، فأبت علـيه وقالت: حتـى أسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قالت أم سلـمة: فذكرت ذلك لـي. فذكرت أم سلـمة ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (أرْسِلـي إلَـيْها) فلـما جاءت قرأ علـيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ (صِماما واحدا، صماما واحدا). ٣٧٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفـيان بن عبد اللّه بن عثمان، عن ابن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبـي بكر، عن أمّ سلـمة، قالت: قدم الـمهاجرون فتزوّجوا فـي الأنصار، وكانوا يجبّون، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك، فقالت امرأة لزوجها: حتـى آتـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فأسأله عن ذلك. فأتت النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فـاستـحيت أن تسأله، فسألتُ أنا. فدعاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقرأ علـيها: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُتـمْ (صِماما واحدا صماما واحدا). ٣٧٢٩ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد اللّه بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أم سلـمة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه. ٣٧٣٠ـ حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى، قالا: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان الثوري، عن عبد للّه بن عثمان بن خثـيـم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن، عن أمّ سلـمة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ قال: (صِماما واحدا، صِماما واحِدا). ٣٧٣١ـ حدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الـحضرمي، قال: ثنـي وهيب، قال: ثنـي عبد اللّه بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لـحفصة: إنـي أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستـحيـي منك أن أسألك. قالت: سل يا بنـيّ عما بدا لك قلت: أسألك عن غشيان النساء فـي أدبـارهن؟ قالت: حدثتنـي أم سلـمة، قالت: كانت الأنصار لا تـجبّـي، وكان الـمهاجرون يُجبّون، فتزوّج رجل من الـمهاجرين امرأة من الأنصار. ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب، عن معاوية بن هشام. ٣٧٣٢ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن ابن الـمنكدر: قال: سمعت جابر بن عبد اللّه ، يقول: إن الـيهود كانوا يقولون: إذا أتـى الرجل امرأته بـاركة جاء الولد أحول، فنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ. ٣٧٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن أحمد بن عبد اللّه الطوسي، قال: حدثنا الـحسن بن موسى، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: جاء عمر إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه هلكت قال: (وَما الّذِي أهْلَكَكَ؟) قال: حوّلت رحلـي اللـيـلة قال: فلـم يردّ علـيه شيئا، قال: فأوحى اللّه إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ (أقْبِلْ وأَدْبِرَ، واتّقِ الدّبُرَ والـحَيْضَةَ). ٣حدثنا زكريا بن يحيى الـمصري، قال: حدثنا أبو صالـح الـحرانـي، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبـي حبـيب أن عامر بن يحيى أخبره عن حنش الصنعانـي، عن ابن عبـاس : أن ناسا من حمير أتوا إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول اللّه إنـي رجل أحبّ النساء، فكيف ترى فـي ذلك؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره فـي سورة البقرة بـيان ما سألوا عنه، وأنزل فـيـما سأل عنه الرجل: نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ائْتِها مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كانَ ذَلِكَ فِـي الفَرْجِ). والصواب من القول فـي ذلك عندنا قول من قال: معنى قوله أنّى شِئْتُـمْ من أيّ وجه شئتـم، وذلك أنّ أنّى فـي كلام العرب كلـمة تدل إذا ابتدىء بها فـي الكلام علـى الـمسألة عن الوجوه والـمذاهب، فكأن القائل إذا قال لرجل: أنى لك هذا الـمال؟ يريد من أيّ الوجوه لك، ولذلك يجيب الـمـجيب فـيه بأن يقول: من كذا وكذا، كما قال تعالـى ذكره مخبرا عن زكريا فـي مسألته مريـم: أنّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدَ اللّه وهي مقاربة أين وكيف فـي الـمعنى، ولذلك تداخـلت معانـيها، فأشكلت (أنى) علـى سامعها ومتأوّلها حتـى تأوّلها بعضهم بـمعنى أين، وبعضهم بـمعنى كيف، وآخرون بـمعنى متـى، وهي مخالفة جميع ذلك فـي معناها وهن لها مخالفـات. وذلك أن (أين) إنـما هي حرف استفهام عن الأماكن والـمـحال، وإنـما يستدلّ علـى افتراق معانـي هذه الـحروف بـافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلاً لو سأل آخر فقال: أين مالك؟ لقال بـمكان كذا، ولو قال له: أين أخوك؟ لكان الـجواب أن يقول: ببلدة كذا، أو بـموضع كذا، فـيجيبه بـالـخبر عن مـحل ما سأله عن مـحله، فـيعلـم أن أين مسألة عن الـمـحل. ولو قال قائل لاَخر: كيف أنت؟ لقال: صالـح أو بخير أو فـي عافـية، وأخبره عن حاله التـي هوفـيها، فـيعلـم حينئذٍ أن كيف مسألة عن حال الـمسؤول عن حاله. ولو قال له: أنى يحيـي اللّه هذا الـميت؟ لكان الـجواب أن يقال: من وجه كذا ووجه كذا، فـيصف قولاً نظير ما وصف اللّه تعالـى ذكره للذي قال: أنّى يُحْيى هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها فعلاً حين بعثه من بعد مـماته. وقد فرّقت الشعراء بـين ذلك فـي أشعارها، فقال الكميت بن زيد: تَذَكّرَ مِنْ أنّى ومِنْ أينَ شُرْبُهُيُوءَامِرُ نَفْسَيْهِ كذي الهجمةِ الأبِلْ وقال أيضا: أنّى ومِنْ أيْنَ نابَكَ الطّرَبُمِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ فـيجاء ب (أنّى) للـمسألة عن الوجه وب(أين) للـمسألة عن الـمكان، فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع رجعك الطرب. والذي يدل علـى فساد قول من تأول قول اللّه تعالـى ذكره: فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ كيف شئتـم، أو تأوله بـمعنى حيث شئتـم، أو بـمعنى متـى شئتـم، أو بـمعنى أين شئتـم أن قائلاً لو قال لاَخر: أنى تأتـي أهلك؟ لكان الـجواب أن يقول: من قبلها أو من دبرها، كما أخبر اللّه تعالـى ذكره عن مريـم إذ سئلت: أنّى لَكِ هَذَا أنها قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه . وإذ كان ذلك هو الـجواب، فمعلوم أن معنى قول اللّه تعالـى ذكره: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ إنـما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتـم من وجوه الـمأتـي، وأن ما عدا ذلك من التأويلات فلـيس للاَية بتأويـل. وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبـين خطأ قول من زعم أن قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ دلـيـل علـى إبـاحة إتـيان النساء فـي الأدبـار، لأن الدبر لا يحترث فـيه، وإنـما قال تعالـى ذكره: حَرْث لَكُمْ فأتوا الـحرث من أي وجوهه شئتـم، وأيّ مـحترث فـي الدبر فـيقال ائته من وجهه. وتبـين بـما بـينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عبـاس من أن هذه الآية نزلت فـيـما كانت الـيهود تقوله للـمسلـمين إذا أتـى الرجل الـمرأة من دبرها فـي قبلها جاء الولد أحول. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ. اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الـخير. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، أما قوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ فـالـخير. وقال آخرون: بل معنى ذلك وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ ذكْرَ اللّه عند الـجماع وإتـيان الـحرث قبل إتـيانه ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي مـحمد بن كثـير، عن عبد اللّه بن واقد، عن عطاء، قال: أراه عن ابن عبـاس : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ قال: التسمية عند الـجماع يقول بسم اللّه . والذي هو أولـى بتأويـل الآية، ما روينا عن السدي، وهو أن قوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ أمر من اللّه تعالـى ذكره عبـاده بتقديـم الـخير، والصالـح من الأعمال لـيوم معادهم إلـى ربهم، عدة منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه فـي موقـف الـحساب، فإنه قال تعالـى ذكره: وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَـجِدُوهُ عِنْدَ اللّه وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية، لأن اللّه تعالـى ذكره عقب قوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ بـالأمر بـاتقائه فـي ركوب معاصيه، فكان الذي هو أولـى بأن يكون الذي قبل التهديد علـى الـمعصية عاما الأمر بـالطاعة عاما. فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بـالطاعة بقوله: وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ من قوله: نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُـمْ؟ قـيـل: إن ذلك لـم يقصد به ما توهمته، وإنـما عنى به وقدّموا لأنفسكم من الـخيرات التـي ندبناكم إلـيها بقولنا: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْقتُـمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـينَ وما بعده من سائر ما سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأجيبوا عنه مـما ذكره اللّه تعالـى ذكره فـي هذه الاَيات، ثم قال تعالـى ذكره: قد بـينا لكم ما فـيه رشدكم وهدايتكم إلـى ما يرضي ربكم عنكم، فقدموا لأنفسكم الـخير الذي أمركم به، واتـخذوا عنده به عهدا لتـجدوه لديه إذا لقـيتـموه فـي معادكم، واتقوه فـي معاصيه أن تقربوها وفـي حدوده أن تضيعوها، واعلـموا أنكم لا مـحالة ملاقوه فـي معادكم، فمـجازٍ الـمـحسن منكم بإحسانه والـمسيء بإساءته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّه واعْلَـمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشّر الـمُؤْمِنِـينَ. وهذا تـحذير من اللّه تعالـى ذكره عبـاده أن يأتوا شيئا مـما نهاهم عنه من معاصيه، وتـخويف لهم عقابه عند لقائه، كما قد بـينا قبل، وأمرٌ لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أن يبشر من عبـاده بـالفوز يوم القـيامة، وبكرامة الاَخرة، وبـالـخـلود فـي الـجنة من كان منهم مـحسنا مؤمنا بكتبه ورسله وبلقائه، مصدقا إيـمانه قولاً بعمله ما أمره به ربه، وافترض علـيه من فرائضه فـيـما ألزمه من حقوقه، وبتـجنبه ما أمره بتـجنبه من معاصيه. ٢٢٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّه عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ ...} اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ فقال بعضهم: معناه: ولا تـجعلوه علة لأيـمانكم، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الـخير والإصلاح بـين الناس، قال: علـيّ يـمين بـاللّه ألا فعل ذلك، أو قد حلفت بـاللّه أن لا أفعله. فـيعتلّ فـي تركه فعل الـخير والإصلاح بـين الناس بـالـحلف بـاللّه . ذكر من قال ذلك: ٣٧٣٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأِيـمَانِكُمْ قال: هو الرجل يحلف علـى الأمر الذي لا يصلـح، ثم يعتلّ بـيـمينه يقول اللّه : أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا هو خير له من أن يـمضي علـى ما لا يصلـح، وإن حلفت كفّرت عن يـمينك وفعلت الذي هو خير لك. ٣٧٣٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر عن ابن طاوس، عن أبـيه مثله، إلا أنه قال: وإن حلفت فكفر عن يـمينك، وافعل الذي هو خير. ٣٧٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا عبـيد اللّه عن إسرائيـل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلـم قرابته ولا يتصدّق، أو يكون بـينه وبـين إنسان مغاضبة، فـيحلف لا يصلـح بـينهما و يقول: قد حلفت، قال: يكفر عن يـمينه، وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ. ٣٧٣٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا يقول: لا تعتلوا بـاللّه أن يقول أحدكم: إنه تألّـى أن لا يصل رحما، ولا يسعى فـي صلاح، ولا يتصدّق من ماله، مهلاً مهلاً بـارك اللّه فـيكم فإن هذا القرآن إنـما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تنفذوا له أمرا فـي شيء من نذوركم ولا أيـمانكم. ٣٧٣٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ قال: هو الرجل يحلف لا يصلـح بـين الناس ولا يبرّ، فإذا قـيـل له قال: قد حلفت. ٣٧٣٩ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الـخير الأمر الـحسن يقول حلفت، قال اللّه : افعل الذي هو خير، وكفر عن يـمينك، ولا تـجعل اللّه عرضة. ٣٧٤٠ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: سمعت أبـا معاذ قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ... الآية، هو الرجل يحرّم ما أحلّ اللّه له علـى نفسه، فـ يقول: قد حلفت فلا يصلـح إلا أن أَبرّ يـمينـي. فأمرهم اللّه أن يكفروا أيـمانهم، ويأتوا الـحلال. ٣٧٤١ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ أما عُرْضَة: فـيعرض بـينك وبـين الرجل الأمر، فتـحلف بـاللّه لا تكلـمه ولا تصله، وأما تبّروا: فـالرجل يحلف لا يبرّ ذا رحمه، فـ يقول: قد حلفت. فأمر اللّه أن لا يعرّض بـيـمينه بـينه وبـين ذي رحمه، ولـيبرّه ولا يبـالـي بـيـمينه، وأما تصلـحوا: فـالرجل يصلـح بـين الاثنـين فـيعصيانه، فـيحلف أن لا يُصلـح بـينهما، فـينبغي له أن يصلـح ولا يبـالـي بـيـمينه، وهذا قبل أن تنزل الكفـارات. ٣٧٤٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ قال: يحلف أن لا يتقـي اللّه ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين اثنـين، فلا يـمنعه يـمينه. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بـالـحلف بـاللّه فـي كلامكم فـيـما بـينكم، فتـجعلوا ذلك حجة لأنفسكم فـي ترك فعل الـخير. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ يقول: لا تـجعلنـي عرضة لـيـمينك أن لا تصنع الـخير، ولكن كفر عن يـمينك واصنع الـخير. ٣حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ كان الرجل يحلف علـى الشيء من البرّ والتقوى ولا يفعله. فنهى اللّه عز وجل عن ذلك، فقال: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا. ٣٧٤٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْقال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين اثنـين. يقول: فلـيفعل ولـيكفر عن يـمينه. ٣٧٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مـحمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن إبراهيـم النـخعي فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قال: لا تـحلف أن لا تتقـي اللّه ، ولا تـحلف أن لا تبرّ ولا تعمل خيرا، ولا تـحلف أن لا تصل، ولا تـحلف أن لا تصلـح بـين الناس، ولا تـحلف أن تقتل وتقطع. ٣٧٤٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن داود، عن سعيد بن جبـير ومغيرة عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً الآية، قالا: هو الرجل يحلف أن يبرّ ولا يتقـي ولا يصلـح بـين الناس، وأمر أن يتقـي اللّه ، ويصلـح بـين الناس، ويكفر عن يـمينه. ٣٧٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ فأمروا بـالصلة والـمعروف والإصلاح بـين الناس، فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فلـيفعله ولـيدع يـمينه. ٣٧٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ الآية، قال ذلك فـي الرجل يحلف أن لا يبرّ ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين الناس، فأمره اللّه أن يدع يـمينه ويصل رحمه ويأمر بـالـمعروف ويصلـح بـين الناس. ٣٧٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبـي الأسود، عن عروة، عن عائشة فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ قالت: لا تـحلفوا بـاللّه وإن بررتـم. ٣٧٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثت أن قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ الآية، نزلت فـي أبـي بكر فـي شأن مِسْطح. ٣٧٥٠ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن مغيرة، عن إبراهيـم قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ الآية، قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بـالـمعروف، ولا ينهى عن الـمنكر، ولا يصل رحمه. ٣٧٥١ـ حدثنـي الـمثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن الـمبـارك، عن هشيـم، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ قال: يحلف أن لا يتقـي اللّه ، ولا يصل رحمه، ولا يصلـح بـين اثنـين، فلا يـمنعه يـمينه: ٣٧٥٢ـ حدثنـي ابن عبد الرحيـم البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، عن سعيد، عن مكحول أنه قال فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لاِءَيْـمَانِكُمْ قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرا ولا يصل رحمه ولا يصلـح بـين الناس، نهاهم اللّه عن ذلك. وأولـى التأويـلـين بـالآية تأويـل من قال: معنى ذلك لا تـجعلوا الـحلف بـاللّه حجة لكم فـي ترك فعل الـخير فـيـما بـينكم وبـين اللّه وبـين الناس. وذلك أن العرضة فـي كلام العرب: القوّة والشدة، يقال منه: هذا الأمر عرضة له، يعنـي بذلك: قوّة لك علـى أسبـابك، ويقال: فلانة عرضة للنكاح: أي قوّة، ومنه قول كعب بن زهير فـي صفة نوق: مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرى إذَا عَرقتْعُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَـجْهُولُ يعنـي ب(عرضتها): قوتها وشدتها. فمعنى قوله تعالـى ذكره: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ إذا: لا تـجعلوا اللّه قوة لأيـمانكم فـي أن لا تبرّوا، ولا تتقوا، ولا تصلـحوا بـين الناس، ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مـما حلف علـيه من ترك البرّ والإصلاح بـين الناس فلـيحنث فـي يـمينه، ولـيبرّ، ولـيتق اللّه ، ولـيصلـح بـين الناس، ولـيكفر عن يـمينه. وترك ذكر (لا) من الكلام لدلالة الكلام علـيها واكتفـاء بـما ذكر عما ترك، كما قال امرؤ القـيس: فَقُلْتُ يَـمِينُ اللّه أبْرَحُ قاعِداولَوْ قَطّعُوا رأسي لَدَيْكِ وأوْصَالـي بـمعنى: فقلت: يـمين اللّه لا أبرح. فحذف (لا) اكتفـاء بدلالة الكلام علـيها. وأما قوله: أنْ تَبَرّوا فإنه اختلف فـي تأويـل البرّ الذي عناه اللّه تعالـى ذكره، فقال بعضهم: هو فعل الـخير كله. وقال آخرون: هو البرّ بذي رحمه، وقد ذكرت قائلـي ذلك فـيـما مضى. وأولـى ذلك بـالصواب قول من قال: عنى به فعل الـخير كله، وذلك أن أفعال الـخير كلها من البرّ. ولـم يخصص اللّه فـي قوله أنْ تَبَرّوا معنى دون معنى من معانـي البرّ، فهو علـى عمومه، والبرّ بذوي القرابة أحد معانـي البرّ. وأما قوله: وَتَتّقُوا فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتـحذروه وتـحذروا عقابه فـي فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدوها، وقد ذكرنا تأويـل من تأول ذلك أنه بـمعنى التقوى قبل. وقال آخرون فـي تأويـله بـما: ٣٧٥٣ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا قال: كان الرجل يحلف علـى الشيء من البرّ والتقوى لا يفعله، فنهى اللّه عزّ وجلّ عن ذلك، فقال: وَلا تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ الآية، قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضا بـي، تـحلفون بـي وأنتـم كاذبون لـيصدقكم الناس وتصلـحون بـينهم، فذلك قوله: أنْ تَبَرّوا وَتَتّقُوا... الآية. وأما قوله: وَتُصْلِـحُوا بَـيْنَ النّاسِ فهو الإصلاح بـينهم بـالـمعروف فـيـما لا مأثم فـيه، وفـيـما يحبه اللّه دون ما يكرهه. وأما الذي ذكرنا عن السدي من أن هذه الآية نزلت قبل نزول كفـارات الأيـمان، فقول لا دلالة علـيه من كتاب ولا سنة، والـخبر عما كان لا تدرك صحته إلا بخبر صادق، وإلا كان دعوى لا يتعذر مثلها وخلافها علـى أحد. وغير مـحال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بـيان كفـارات الأيـمان فـي سورة الـمائدة، واكتفـي بذكرها هناك عن إعاتها ههنا، إذ كان الـمخاطبون بهذه الآية قد علـموا الواجب من الكفـارات فـي الأيـمان التـي يحنث فـيها الـحالف. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واللّه سميع لـما يقوله الـحالف منكم بـاللّه إذا حلف، فقال: واللّه لا أبرّ، ولا أتقـي، ولا أصلـح بـين الناس، ولغير ذلك من قـيـلكم وأيـمانكم، علـيـم بـما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، الـخير تريدون أم غيره، لأنـي علام الغيوب وما تضمره الصدور، لا تـخفـى علـيّ خافـية، ولا ينكتـم عنـي أمر عُلن، فظهر أو خفـي فبطن، وهذا من اللّه تعالـى ذكره تهدد ووعيد. يقول تعالـى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه، أو تضمروا فـي أنفسكم، وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنـيات فعل ما زجرتكم عنه، فتستـحقوا بذلك منـي العقوبة التـي قد عرفتكموها، فإنـي مطلع علـى جميع ما تعلنونه أو تسرّونه. ٢٢٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِالّلغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ...} اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: لا يُؤَاخُذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمْ وفـي معنى اللغو. فقال بعضهم فـي معناه: لا يؤاخذكم اللّه بـما سبقتكم به ألسنتكم من الأيـمان علـى عجلة وسرعة، فـيوجب علـيكم به كفـارة إذا لـم تقصدوا الـحلف والـيـمين، وذلك كقول القائل: فعل هذا واللّه ، أو أفعله واللّه ، أو لا أفعله واللّه ، علـى سبوق الـمتكلـم بذلك لسانه بـما وصل به كلامه من الـيـمين. ذكر من قال ذلك: ٣٧٥٤ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة عن ابن عبـاس : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هي بلـى واللّه ، ولا واللّه . ٣٧٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، عن عائشة نـحوه. ٣٧٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، قال: سألت عائشة عن لغو الـيـمين، قالت: هو لا واللّه ، وبلـى واللّه ، ما يتراجع به الناس. ٣٧٥٨ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة فـي قول اللّه لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: لا واللّه ، وبلـى اللّه ، يصل بها كلامه. ٣٧٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلـم، عن عبد الـملك، عن عطاء قال: دخـلت مع عبـيد بن عمير علـى عائشة فقال لها: يا أمّ الـمؤمنـين قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: هو لا واللّه ، وبلـى واللّه ، لـيس مـما عقدتـم الأيـمان.
٣٧٦١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا ابن أبـي لـيـلـى، عن عطاء، قال: أتـيت عائشة مع عبـيد بن عمير، فسألها عبـيد عن قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ فقالت عائشة: هو قول الرجل: لا واللّه ، وبلـى واللّه ، ما لـم يعقد علـيه قلبه. ٣٧٦٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، قال: انطلقت مع عبـيد بن عمير إلـى عائشة وهي مـجاورة فـي ثبـير، فسألها عبـيد عن لغو الـيـمين، فقالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٦٣ـ حدثنا مـحمد بن موسى الـحرسي، قال: حدثنا حسان بن إبراهيـم الكرمانـي، قال: حدثنا إبراهيـم الصائغ، عن عطاء فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: قالت عائشة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هُوَ قَوْلُ الرّجُلِ فِـي بَـيْتِهِ كَلاّ وَاللّه وَبَلـى وَاللّه ). ٣٧٦٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: هم القوم يتدارءون فـي الأمر، فـيقول هذا: لا واللّه ، وبلـى واللّه ، وكلا واللّه ، يتدارءون فـي الأمر لا تعقد علـيه قلوبهم. ٣٧٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: قول الرجل: لا واللّه ، وبلـى واللّه ، يصل به كلامه لـيس فـيه كفـارة. ٣٧٦٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الـمغيرة، عن الشعبـي، قال: هو الرجل يقول: لا واللّه ، وبلـى واللّه ، يصل حديثه. ٣٧٦٧ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا ابن عون، قال: سألت عامرا عن قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٦٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي جميعا، عن ابن عون، عن الشعبـي مثله. ٣٧٦٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، قال: قال أبو قلابة فـي (لا واللّه وبلـى واللّه ): أرجو أن يكون لغة. وقال يعقوب فـي حديثه: أرجو أن يكون لغوا وقال ابن وكيع فـي حديثه: أرجو أن يكون لغة، ولـم يشك. ٣٧٧٠ـ حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد، قالوا: حدثنا وكيع، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح، قال: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٧١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن مالك، عن عطاء، قال: سمعت عائشة تقول فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٧٢ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عطاء، مثله. ٣٧٧٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عكرمة فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو قول الناس: لا واللّه وبلـى واللّه . ٣٧٧٤ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبـي وعكرمة قالا: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٧٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة عن عمرو، عن عطاء، قال: دخـلت مع عبـيد بن عمير علـى عائشة، فسألها، فقالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٧٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن ابن أبـي لـيـلـى وأشعث، عن عطاء، عن عائشة: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٧٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي وجرير، عن هشام، عن أبـيه، عن عائشة قالت: لا واللّه ، وبلـى واللّه . ٣٧٧٨ـ حدثنا ابن وكيع وهناد، قالا: حدثنا يعلـى، عن عبد الـملك، عن عطاء، قال: قالت عائشة فـي قول اللّه : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قالت: هو قولك: لا واللّه ، وبلـى واللّه ، لـيس لها عقد الأيـمان. ٣٧٧٩ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن الشعبـيّ قال: اللغو: قول الرجل: لا واللّه ، وبلـى واللّه ، يصل به كلامه ما لـم يشكّ شيئا يعقد علـيه قلبه. ٣٧٨٠ـ حدثنـي يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو أن سعيد بن أبـي هلال حدثه أنه سمع عطاء بن أبـي ربـاح يقول: سمعت عائشة تقول: لغو الـيـمين قول الرجل: لا واللّه ، وبلـى واللّه فـيـما لـم يعقد علـيه قلبه. ٣٧٨١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عمرو: وحدثنـي عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبـي حسين النوفلـي، عن عطاء، عن عائشة، بذلك. ٣٧٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن مـجاهد فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: الرجلان يتبـايعان، فـيقول أحدهما: واللّه لا أبـيعك بكذا وكذا، ويقول الاَخر: واللّه لا أشتريه بكذا وكذا فهذا اللغو لا يؤاخذ به. وقال آخرون: بل اللغو فـي الـيـمين: الـيـمين التـي يحلف بها الـحالف وهو يرى أنه كما يحلف علـيه ثم يتبـين غير ذلك وأنه بخلاف الذي حلف علـيه. ذكر من قال ذلك: ٣٧٨٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنـي ابن نافع، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن قـيس، عن أبـي هريرة أنه كان يقول: لغو الـيـمين: حلف الإنسان علـى الشيء يظن أنه الذي حلف علـيه، فإذا هو غير ذلك. ٣٧٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ واللغو: أن يحلف الرجل علـى الشيء يراه حقا ولـيس بحق. ٣٧٨٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح: قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ هذا فـي الرجل يحلف علـى أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فـيرى الذي هو خير منه، فأمره اللّه أن يكفر عن يـمينه ويأتـي الذي هو خير. ومن اللغو أيضا: أن يحلف الرجل علـى أمر لا يألو فـيه الصدق وقد أخطأ فـي يـمينه، فهذا الذي علـيه الكفـارة ولا إثم علـيه. ٣٧٨٦ـ حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن سلـيـمان بن يسار فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: خطأ غير عمد. ٣٧٨٧ـ حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عوف، عن الـحسن فـي هذه الآية: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو أن تـحلف علـى الشيء وأنت يخيـل إلـيك أنه كما حلفت ولـيس كذلك فلا يؤاخذه اللّه ولا كفـارة، ولكن الـمؤاخذة والكفـارة فـيـما حلف علـيه علـى علـم. ٣٧٨٨ـ حدثنا هناد وابن وكيع، قالا: حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الـحسن، قال: هو الرجل يحلف علـى الـيـمين لا يرى إلا أنه كما حلف. ٣٧٨٩ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الـحسن: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الـيـمين يرى أنها كذلك، ولـيست كذلك. ٣٧٩٠ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الـحسن فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الشي، وهو يرى أنه كذلك، فلا يكون كما قال فلا كفـارة علـيه. ٣٧٩١ـ حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع، قالوا: حدثنا وكيع، عن سفـيان، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الـيـمين لا يرى إلا أنها كما حلف علـيه، ولـيست كذلك. ٣٧٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح فـي قول اللّه : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: من حلف بـاللّه ولا يعلـم إلا أنه صادق فـيـما حلف. ٣٧٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ حلف الرجل علـى الشيء وهو لا يعلـم إلا أنه علـى ما حلف علـيه فلا يكون كما حلف، كقوله: إن هذا البـيت لفلان ولـيس له، وإن هذا الثوب لفلان ولـيس له. ٣٧٩٤ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الشيء يرى أنه فـيه صادق. ٣٧٩٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الأمر يرى أنه كما حلف علـيه فلا يكون كذلك، قال: فلا يؤاخذ بذلك قال: وكان يحبّ أن يكفر. ٣٧٩٦ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا الـجعفـي، عن زائدة، عن منصور، قال: قال إبراهيـم: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: أن يحلف علـى الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو لا يؤاخذ به. ٣٧٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيـم نـحوه، إلا أنه قال: إن حلفت علـى الشيء وأنت ترى أنك صادق ولـيس كذلك. ٣٧٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو إدريس، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك أنه قال: اللغو: الرجل يحلف علـى الأيـمان، وهو يرى أنه كما حلف. ٣٧٩٩ـ حدثنـي إسحاق بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن زياد، قال: هو الذي يحلف علـى الـيـمين يرى أنه فـيها صادق. ٣٨٠٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الـحضرمي، قال: حدثنا بكير بن أبـي السميط، عن قتادة فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الـخطأ غير العمد، الرجل يحلف علـى الشيء يرى أنه كذلك ولـيس كذلك. ٣٨٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن منصور ويونس، عن الـحسن قال: اللغو: الرجل يحلف علـى الشيء يرى أنه كذلك فلـيس علـيه فـيه كفـارة. ٣٨٠٢ـ حدثنا هناد وابن وكيع قال هناد: حدثنا وكيع وقال ابن وكيع: حدثنـي أبـي، عن عمران بن حدير قال: سمعت زرارة بن أوفـى قال: هو الرجل يحلف علـى الـيـمين لا يرى إلا أنها كما حلف. ٣٨٠٣ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا عمر بن بشير، قال: سئل عامر عن هذه الآية: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: اللغو: أن يحلف الرجل لا يألو عن الـحقّ فـيكون غير ذلك، فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به. ٣٨٠٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ فـاللغو: الـيـمين الـخطأ غير العمد، أن تـحلف علـى الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت علـيه ثم لا يكون كذلك، فهذا لا كفـارة علـيه، ولا مأثم فـيه. ٣٨٠٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ أما اللغو: فـالرجل يحلف علـى الـيـمين، وهو يرى أنها كذلك فلا تكون كذلك، فلـيس علـيه كفـارة. ٣٨٠٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: اللغو: الـيـمين الـخطأ فـي غير عمد أن يحلف علـى الشيء وهو يرى أنه كما حلف علـيه، وهذا ما لـيس علـيه فـيه كفـارة. ٣٨٠٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبـي مالك، قال: أما الـيـمين التـي لا يؤاخذ بها صاحبها فـالرجل يحلف علـى الـيـمين وهو يرى أنه فـيها صادق، فذلك اللغو. ٣٨٠٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين عن أبـي مالك مثله، إلا أنه قال: الرجل يحلف علـى الأمر، يرى أنه كما حلف علـيه فلا يكون كذلك، فلـيس علـيه فـيه كفـارة، وهو اللغو. ٣٨٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي معاوية بن صالـح، عن يحيى بن سعيد، وعن ابن أبـي طلـحة كذا قال ابن أبـي جعفر قالا: من قال: واللّه لقد فعلت كذا وكذا وهو يظن أن قد فعله، ثم تبـين أنه لـم يفعله، فهذا لغو الـيـمين، ولـيس علـيه فـيه كفـارة. ٣٨١٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن الـحسن فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الـخطأ غير العمد، كقول الرجل: واللّه إن هذا لكذا وكذا وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك. قال معمر: وقاله قتادة أيضا. ٣٨١١ـ حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو، قال: سئل سعيد عن اللغو فـي الـيـمين، قال سعيد وقال مكحول: الـخطأ غير العمد، ولكن الكفـارة فـيـما عقدت قلوبكم. ٣٨١٢ـ حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ اللّه به: أن يحلف الرجل علـى الشيء الذي يظن أنه فـيه صادق، فإذا هو فـيه غير ذلك، فلـيس علـيه فـيه كفـارة، وقد عفـا اللّه عنه. ٣٨١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: إذا حلف علـى الـيـمين وهو يرى أنه فـيه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ به، وإذا حلف علـى الـيـمين وهو يعلـم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به. وقال آخرون: بل اللغو من الأيـمان التـي يحلف بها صاحبها فـي حال الغضب علـى غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلَةً للكلام. ذكر من قال ذلك: ٣٨١٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مالك بن إسماعيـل، عن خالد، عن عطاء، عن وسيـم، عن طاوس، عن ابن عبـاس ، قال: لغو الـيـمين: أن تـحلف وأنت غضبـان. ٣٨١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاوس، قال: كل يـمين حلف علـيها رجل وهو غضبـان فلا كفـارة علـيه فـيها، قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ وعلة من قال هذه الـمقالة ما: ٣٨١٦ـ حدثنـي به أحمد بن منصور الـمروزي، قال: حدثنا عمر بن يونس الـيـمامي، قال: حدثنا سلـيـمان بن أبـي سلـيـمان الزهري، عن يحيى بن أبـي كثـير، عن طاوس، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لاَ يـمِينَ فِـي غَضَبٍ). وقال آخرون، بل اللغو فـي الـيـمين: الـحلف علـى فعل ما نهى اللّه عنه، وترك ما أمر اللّه بفعله. ذكر من قال ذلك: ٣٨١٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبـي هند، عن سعيد بن جبـير، قال: هو الذي يحلف علـى الـمعصية، فلا يفـي ويكفر يـمينه قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ. ٣٨١٨ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن جبـير، قال: لغو الـيـمين أن يحلف الرجل علـى الـمعصية للّه لا يؤاخذه اللّه بإيفـائها. ٣٨١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن سعيد بن جبـير بنـحوه، وزاد فـيه: قال: وعلـيه كفـارة. ٣٨٢٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الأعلـى ويزيد بن هارون، عن داود، عن سعيد بنـحوه. ٣٨٢١ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن جبـير: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الـمعصية فلا يؤاخذه اللّه أن يكفر عن يـمينه ويأتـي الذي هو خير. ٣٨٢٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير فـي هذه الآية: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: الرجل يحلف علـى الـمعصية فلا يؤاخذه اللّه بتركها. ٣٨٢٣ـ حدثنا الـحسن بن الصبـاح البزار، قال: حدثنا إسحاق، عن عيسى ابن بنت داود بن أبـي هند، قال: حدثنا خالد بن إلـياس، عن أمّ أبـيه: أنها حلفت أن لا تكلـم ابنة ابنها ابنة أبـي الـجهم، فأتت سعيد بن الـمسيب وأبـا بكر وعروة بن الزبـير، فقالوا: لا يـمين فـي معصية، ولا كفـارة علـيها. ٣٨٢٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الـمعصية فلا يؤاخذه اللّه بتركها إن تركها. قلت: فكيف يصنع؟ قال: يكفر عن يـمينه ويترك الـمعصية. ٣٨٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشيـم، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو الرجل يحلف علـى الـحرام، فلا يؤاخذه اللّه بتركه. ٣٨٢٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا داود، عن سعيد بن جبـير، قال فـي لغو الـيـمين، قال: هي الـيـمين فـي الـمعصية، قال: أو لا تقرأ فتفهم؟ قال اللّه : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا عَقّدْتُـمْ الأيـمَانَ قال: فلا يؤاخذه بـالإيفـاء، ولكن يؤاخذه بـالتـمام علـيها، قال: وقال لاَ تَـجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لأيـمَانِكُمْ... إلـى قوله: وَاللّه غَفُورٌ حَلِـيـمٌ. ٣٨٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن هشيـم، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: الرجل يحلف علـى الـمعصية فلا يؤاخذه اللّه بتركها ويُكَفّر. ٣٨٢٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبـي، عن مسروق فـي الرجل يحلف علـى الـمعصية، فقال: أيكفر خطوات الشيطان؟ لـيس علـيه كفـارة. ٣٨٢٩ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، مثل ذلك. ٣٨٣٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن الشعبـي فـي الرجل يحلف علـى الـمعصية قال: كفـارتها أن يتوب منها. ٣٨٣١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن الشعبـي أنه كان يقول: يترك الـمعصية ولا يكفر، ولو أمرته بـالكفـارة لأمرته أن يتـمّ علـى قوله. ٣٨٣٢ـ حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن مـجالد، عن عامر، عن مسروق قال: كل يـمين لا يحلّ لك أن تفـي بها فلـيس فـيها كفـارة. وعلة من قال هذا القول من الأثر ما: ٣٨٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الولـيد بن كثـير، قال: ثنـي عبد الرحمن بن الـحرث، عن عمرو بن شعيب، عن أبـيه، عن عبد اللّه بن عمرو، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (مَنْ نَذَرَ فِـيـما لا يَـمْلِكُ فَلا نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ علـى مَعْصِيَةٍ اللّه فَلاَ يَـمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ علـى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَـمِينَ لَهُ). ٣٨٣٤ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن حارثة بن مـحمد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ علـى يَـمِينِ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أوْ مَعْصِيَةٍ للّه فَبِرّهُ أنْ يَحْنَثَ بِهَا وَيَرْجِعَ عَنْ يَـمِينِهِ). وقال آخرون: اللغو من الأيـمان: كل يـمين وصل الرجل بها كلامه علـى غير قصد منه إيجابَها علـى نفسه. ذكر من قال ذلك: ٣٨٣٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا هشام، قال: حدثنا حماد، عن إبراهيـم، قال: لغو الـيـمين: أن يصل الرجل كلامه بـالـحلف، واللّه لـيأكلنّ، واللّه لـيشربنّ، ونـحو هذا لا يتعمد به الـيـمين ولا يريد به حلفـا، لـيس علـيه كفـارة. ٣٨٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن علـية، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيـم: لغو الـيـمين: ما يصل به كلامه: واللّه لتأكلنّ، واللّه لتشربن. ٣٨٣٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن مـجاهد: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هما الرجلان يتساومان بـالشيء، فـيقول أحدهما: واللّه لا أشتريه منك بكذا، ويقول الاَخر: واللّه لا أبـيعك بكذا وكذا. ٣٨٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، أن عروة حدثه أن عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قالت: أيـمان اللغو ما كان فـي الهزل والـمراء والـخصومة والـحديث الذي لا يعتـمد علـيه القلب. وعلة من قال هذا القول من الأثر ما: ٣٨٣٩ـ حدثنا به مـحمد بن موسى الـحرسي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن ميـمون الـمرادي، قال: حدثنا عوف الأعرابـي، عن الـحسن بن أبـي الـحسن، قال: مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوم ينتضلون يعنـي يرمون ومع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت واللّه وأخطأت فقال الذي مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول اللّه ، قال: (كَلاّ أيـمَانُ الرّماةِ لَغْوٌ لا كَفّـارَةَ فِـيها وَلا عُقُوبَةَ). وقال آخرون: اللغو من الأيـمان: ما كان من يـمين بـمعنى الدعاء من الـحالف علـى نفسه إن لـم يفعل كذا وكذا، أو بـمعنى الشرك والكفر. ذكر من قال ذلك: ٣٨٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قال: حدثنا إسماعيـل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن مـحمد بن عجلان، عن زيد بن أسلـم فـي قول اللّه : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: هو كقول الرجل: أعمى اللّه بصري إن لـم أفعل كذا وكذا، أخرجنـي اللّه من مالـي إن لـم آتك غدا. فهو هذا، ولا يترك اللّه له مالاً ولا ولدا. يقول: لو يؤاخذكم اللّه بهذا لـم يترك لكم شيئا. ٣٨٤١ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا إسماعيـل، قال: ثنـي يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الـحارث، عن زيد بن أسلـم، بـمثله. ٣٨٤٢ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا إسماعيـل بن مرزوق، قال: ثنـي يحيى بن أيوب أن زيد بن أسلـم كان يقول فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ مثل قول الرجل: هو كافر وهو مشرك قال: لا يؤاخذه حتـى يكون ذلك من قلبه. ٣٨٤٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: اللغو فـي هذا: الـحلف بـاللّه ما كان بـالألسن فجعله لغوا، وهو أن يقول: هو كافر بـاللّه ، وهو إذن يشرك بـاللّه ، وهو يدعو مع اللّه إلها. فهذا اللغو الذي قال اللّه فـي سورة البقرة. وقال آخرون: اللغو فـي الأيـمان: ما كانت فـيه كفـارة. ذكر من قال ذلك: ٣٨٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ فهذا فـي الرجل يحلف علـى أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فـيرى الذي هو خير منه، فأمره اللّه أن يكفر يـمينه ويأتـي الذي هو خير. ٣٨٤٥ـ حدثنـي يحيى بن جعفر، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ قال: الـيـمين الـمكفرة. وقال آخرون: اللغو من الأيـمان: هو ما حنث فـيه الـحالف ناسيا. ذكر من قال ذلك: ٣٨٤٦ـ حدثنـي الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشيـم، قال: أخبرنـي مغيرة، عن إبراهيـم، قال: هو الرجل يحلف علـى الشيء ثم ينساه يعنـي فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْو فِـي أيـمَانِكُمُ. قال أبو جعفر: واللغو من الكلام فـي كلام العرب كل كلام كان مذموما وفعلاً لا معنى له مهجورا، يقال منه: لغا فلان فـي كلامه يـلغو لغوا: إذا قال قبـيحا من الكلام، ومنه قول اللّه تعالـى ذكره: وَإذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقوله: وَإذَا مَرّوا بـاللّغْوِ مَرّوا كِرَاما ومسموع من العرب لغيت بـاسم فلان، بـمعنى أولعت بذكره بـالقبـيح. فمن قال لغيت، قال ألْغَى لَغا، وهي لغة لبعض العرب، ومنه قول الراجز: وَرُبّ أسْرابِ حجيجٍ كُظّمِعَنِ اللّغا ورفَثِ التّكلـمِ فإذا كان اللغو ما وصفت، وكان الـحالف بـاللّه ما فعلت كذا وقد فعل ولقد فعلت كذا وما فعل، واصلاً بذلك كلامه علـى سبـيـل سبوق لسانه من غير تعمد إثم فـي يـمينه، ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام، والقائل: واللّه إن هذا لفلان وهو يراه كما قال، أو واللّه ما هذا فلان وهو يراه لـيس به، والقائل: لـيفعلنّ كذا واللّه ، أو لا يفعل كذا واللّه ، علـى سبـيـل ما وصفنا من عجلة الكلام، وسبوق اللسان للعادة، علـى غير تعمد حلف علـى بـاطل، والقائل هو مشرك أو هو يهودي أو نصرانـي إن لـم يفعل كذا، أو إن فعل كذا من غير عزم علـى كفر، أو يهودية أو نصرانـية جميعهم قائلون هُجْرا من القول، وذميـما من الـمنطق، وحالفون من الأيـمان بألسنتهم ما لـم تتعمد فـيه الإثم قلوبهم. كان معلوما أنهم لغاة فـي أيـمانهم لا تلزمهم كفـارة فـي العاجل، ولا عقوبة فـي الاَجل لإخبـار اللّه تعالـى ذكره أنه غير مؤاخذ عبـاده بـما لغوا من أيـمانهم، وأن الذي هو مؤاخذهم به ما تعمدت فـيه الإثم قلوبهم. وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَنْ حَلَفَ علـى يـمينٍ فرأى غيرَها خيرا مِنْها فَلْـيأتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْـيُكَفّرْ عَنْ يَـمِينِهِ) فأوجب الكفـارة بإتـيان الـحالف ما حلف أن لا يأتـيه مع وجوب إتـيان الذي هو خير من الذي حلف علـيه أن لا يأتـيه، وكانت الغرامة فـي الـمال أو إلزام الـجزاء من الـمـجزيّ أبدال الـجازين، لا شك عقوبة كبعض العقوبـات التـي جعلها اللّه تعالـى ذكره نكالاً لـخـلقه فـيـما تعدّوا من حدوده، وإن كان يجمع جميعها أنها تـمـحيص وكفـارات لـمن عوقب بها فـيـما عوقبوا علـيه كان بـينا أن من ألزم الكفـارة فـي عاجل دنـياه فـيـما حلف به من الأيـمان فحنث فـيه، وإن كانت كفـارة لذنبه فقد واخذه اللّه بها بإلزامه إياه الكفـارة منها، وإن كان ما عجل من عقوبته إياه علـى ذلك مسقطا عنه عقوبته فـي آجله. وإذ كان تعالـى ذكره قد واخذه بها، فغير جائز لقائل أن يقول: وقد واخذه بها هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله، فإذ كان ذلك غير جائز، فبـين فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبـير أنه قال: اللغو: الـحلف علـى الـمعصية، لأن ذلك لو كان كذلك لـم يكن علـى الـحالف، علـى معصية اللّه كفـارة بحنثه فـي يـمينه، وفـي إيجاب سعيد علـيه الكفـارة دلـيـل واضح علـى أن صاحبها بها مؤاخذ لـما وصفنا: من أن من لزمه الكفـارة فـي يـمينه فلـيس مـمن لـم يؤاخذ بها. فإذا كان اللغو هو ما وصفنا مـما أخبرنا اللّه تعالـى ذكره أنه غير مؤاخذنا به، وكل يـمين لزمت صاحبها بحنثه فـيها الكفـارة فـي العاجل، أو أوعد اللّه تعالـى ذكره صاحبها العقوبة علـيها فـي الاَجل، وإن كان وضع عنه كفـارتها فـي العاجل، فهي مـما كسبته قلوب الـحالفـين، وتعمدت فـيه الإثم نفوس الـمقسمين، وما عدا ذلك فهو اللغو وقد بـينا وجوهه. فتأويـل الكلام إذًا: لا تـجعلوا اللّه أيها الـمؤمنون عرضة لأيـمانكم، وحجة لأنفسكم فـي أقسامكم فـي أن لا تبرّوا، ولا تتقوا، ولا تصلـحوا بـين الناس، فإن اللّه لا يؤاخذكم بـما لغته ألسنتكم من أيـمانكم، فنطقت به من قبـيح الأيـمان وذميـمها، علـى غير تعمدكم الإثم وقصدكم بعزائم صدوركم إلـى إيجاب عقد الأيـمان التـي حلفتـم بها، ولكنه إِنـما يؤاخذكم بـما تعمدتـم فـيه عقد الـيـمين وإيجابها علـى أنفسكم، وعزمتـم علـى الإتـمام علـى ما حلفتـم علـيه بقصد منكم وإرادة، فـيـلزمكم حينئذ إما كفـارة فـي العاجل، وإما عقوبة فـي الاَجل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي أوعد اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ عبـاده أنه مؤاخذهم به بعد إجماع جميعهم علـى أن معنى قوله: بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ما تعمدت. فقال بعضهم: الـمعنى الذي أوعد اللّه عبـاده مؤاخذتهم به هو حلف الـحالف منهم علـى كذب وبـاطل. ذكر من قال ذلك: ٣٨٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: إذا حلف الرجل علـى الـيـمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ بها، وإذا حلف وهو يعلـم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به. ٣٨٤٨ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا حسين الـجعفـي عن زائدة، عن منصور، قال: قال إبراهيـم: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ قال: أن يحلف علـى الشيء وهو يعلـم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به. ٣٨٤٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيـم: وَلَكِنْ يُؤاخُذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أن تـحلف وأنت كاذب. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا عَقّدْتُـمْ الأيـمَانَ وذلك الـيـمين الصبر الكاذبة، يحلف بها الرجل علـى ظلـم أو قطيعة. فتلك لا كفـارة لها إلا أن يترك ذلك الظلـم، أو يردّ ذلك الـمال إلـى أهله، وهو قوله تعالـى ذكره: إنّ الّذِين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيـمَانِهِمْ ثَمنَا قَلِـيلاً إلـى قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ. ٣٨٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ما عقدت علـيه. ٣٨٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٣٨٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد الـملك، عن عطاء قال: لا تؤاخذ حتـى تقصد الأمر ثم تـحلف علـيه بـاللّه الذي لا إله إلا هو فتعقد علـيه يـمينك. والواجب علـى هذا التأويـل أن يكون قوله تعالـى ذكره: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلوبُكُمْ فـي الاَخرة بـما شاء من العقوبـات، وأن تكون الكفـارة إنـما تلزم الـحالف فـي الأيـمان التـي هي لغو. وكذلك روي عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس أنه كان لا يرى الكفـارة إلا فـي الأيـمان التـي تكون لغوا. فأما ما كسبته القلوب، وعقدت فـيه علـى الإثم، فلـم يكن يوجب فـيه الكفـارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فـيـما مضى قبل. وإذ كان ذلك تأويـل الآية عندهم، فـالواجب علـى مذهبهم أن يكون معنى الآية فـي سورة الـمائدة: لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه بـاللّغْوِ فِـي أيـمَانِكُمْ فكفـارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهلـيكم أو كسوتهم، أو تـحرير رقبة، فمن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفـارة أيـمانكم إذا حلفتـم، ولكن يؤاخذكم بـما عقدتـم، واحفظوا أيـمانكم. وبنـحو ما ذكرناه عن ابن عبـاس من القول فـي ذلك كان سعيد بن جبـير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفـا. وقال آخرون: الـمعنى الذي أوعد اللّه تعالـى عبـاده الـمؤاخذة به بهذه الآية هو حلف الـحالف علـى بـاطل يعلـمه بـاطلاً، وبذلك أوجب اللّه عندهم الكفـارة دون اللغو الذي يحلف به الـحالف وهو مخطىء فـي حلفه يحسب أن الذي حلف علـيه كما حلف ولـيس ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك: ٣٨٥٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يقول: بـما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فـيه الـمأثم، فهذا علـيك فـيه الكفـارة. ٣٨٥٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله سواء. وكأن قائلـي هذه الـمقالة وجهوا تأويـل مؤاخذة اللّه عبده علـى ما كسبه قلبه من الأيـمان الفـاجرة، إلـى أنها مؤاخذة منه له بإلزامه الكفـارة فـيه وقال بنـحو قول قتادة جماعة أخر فـي إيجاب الكفـارة علـى الـحالف الـيـمين الفـاجرة، منهم عطاء والـحكم. ٣٨٥٥ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء والـحكم أنهما كانا يقولان فـيـمن حلف كاذبـا متعمدا: يكَفّر. وقال آخرون: بل ذلك معنـيان: أحدهما مؤاخذ به العبد فـي حال الدنـيا بإلزام اللّه إياه الكفـارة منه، والاَخر منهما مؤاخذ به فـي الاَخرة، إلا أن يعفو. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَكِنْ يُؤَاخُذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أما ما كسبت قلوبكم: فما عقدت قلوبكم، فـالرجل يحلف علـى الـيـمين يعلـم أنها كاذبة إرادة أن يقضي أمره. والأيـمان ثلاثة: اللغو، والعمد، والغموس، والرجل يحلف علـى الـيـمين وهو يريد أن يفعل ثم يرى خيرا من ذلك، فهذه الـيـمين التـي قال اللّه تعالـى ذكره: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِـمَا عَقّدْتُـمْ الأيـمَانَ فهذه لها كفـارة. وكأن قائل هذه الـمقالة وجه تأويـل قوله: وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ إلـى غير ما وجه إلـيه تأويـل قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِـمَا عَقّدْتُـمُ الأيـمَانَ وجعل قوله: بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبِكُمْ الغموس من الأيـمان التـي يحلف بها الـحالف علـى علـم منه بأنه فـي حلفه بها مبطل، وقوله: بِـمَا عَقّدْتُـمْ الأيـمَانَ الـيـمين التـي يستأنف فـيها الـحنث أو البرّ، وهو فـي حال حلفه بها عازم علـى أن يبرّ فـيها. وقال آخرون: بل ذلك هو اعتقاد الشرك بـاللّه والكفر. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا إسماعيـل بن مرزوق، قال: ثنـي يحيى بن أيوب، عن مـحمد، يعنـي ابن عجلان، أن يزيد بن أسلـم كان يقول فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم مثل قول الرجل: هو كافر، هو مشرك، قال: لا يؤاخذه اللّه حتـى يكون ذلك من قلبه. ٣حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللّه بـاللّغْوِ فِـي أيـمَانِكُمْ قال: اللغو فـي هذا: الـحلف بـاللّه ما كان بـالألسن فجعله لغوا، وهو أن يقول: هو كافر بـاللّه ، وهو إذًا يشرك بـاللّه ، وهو يدعو مع اللّه إلها، فهذا اللغو الذي قال اللّه تعالـى فـي سورة البقرة: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم قال: بـما كان فـي قلوبكم صدقا وَاخَذَك به، فإن لـم يكن فـي قلبك صدقا لـم يواخذك به، وإن أثمت. والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره أوعد عبـاده أن يؤاخذهم بـما كسبت قلوبهم من الأيـمان، فـالذي تكسبه قلوبهم من الأيـمان، هو ما قصدته، وعزمت علـيه علـى علـم ومعرفة منها بـما تقصده وتريده، وذلك يكون منها علـى وجهين: أحدهما علـى وجه العزم علـى ما يكون به العازم علـيه فـي حال عزمه بـالعزم علـيه آثما وبفعله مستـحقا الـمؤاخذة من اللّه علـيها، وذلك كالـحالف علـى الشيء الذي لـم يفعله أنه قد فعله، وعلـى الشيء الذي قد فعله أنه لـم يفعله، قاصدا لقـيـل الكذب، وذاكرا أنه قد فعل ما حلف علـيه أنه لـم يفعله، أو أنه لـم يفعل ما حلف علـيه أنه قد فعل، فـيكون الـحالف بذلك إن كان من أهل الإيـمان بـاللّه وبرسوله فـي مشيئة اللّه يوم القـيامة إن شاء واخذه به فـي الاَخرة، وإن شاء عفـا عنه بتفضله، ولا كفـارة علـيه فـيها فـي العاجل، لأنها لـيست من الإيـمان التـي يحنث فـيها، وإنـما الكفـارة تـجب فـي الأيـمان بـالـحنث فـيها، والـحالف الكاذب فـي يـمينه لـيست يـمينه مـما يتبدأ فـيه الـحنث فتلزم فـيه الكفـارة. والوجه الاَخر منهما: علـى وجه العزم عل إيجاب عقد الـيـمين فـي حال عزمه علـى ذلك، فذلك مـما لا يواخذ به صاحبه حتـى يحنث فـيه بعد حلفه، فإذا حنث فـيه بعد حلفه كان مواخذا بـما كان اكتسبه قلبه من الـحلف بـاللّه علـى إثم وكذب فـي العاجل بـالكفـارة التـي جعلها اللّه كفـارة لذنبه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه غَفُورٌ حَلِـيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واللّه غفور لعبـاده فـيـما لغوا من أيـمانهم التـي أخبر اللّه تعالـى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء واخذهم بها، ولـما واخذهم بها فكفروها فـي عاجل الدنـيا بـالتكفـير فـيه، ولو شاء واخذهم فـي آجل الاَخرة بـالعقوبة علـيه، فساتر علـيهم فـيها، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فـيها وغير ذلك من ذنوبهم. حلـيـم فـي تركه معاجلة أهل معصيته العقوبة علـى معاصيهم. ٢٢٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّلّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَآئِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنّ اللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ الذين يقسمون ألـية، والأَلِـيّة: الـحلف. كما: ٣حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا مسلـمة بن علقمة، قال: حدثنا داود بن أبـي هند، عن سعيد بن الـمسيب فـي قوله: للّذِينَ يُؤْلُونَ يحلفون. يقال: آلـى فلان يؤْلـي إيلاء وألـية، كما قال الشاعر: كَفَـيْنا مَنْ تغَيّبَ مِنْ تُرابٍوأحْنَثْنا ألـيّةَ مُقْسِمِينا ويقال أَلْوَة وأُلْوَة، كما قال الراجز: (يا أُلْوَةً ما أُلْوَةً ما أُلْوَتِـي ) وقد حكي عنهم أيضا أنهم يقولون: (إلوة) مكسورة الألف، والتربص: النظر والتوقـف. ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر أن يعتزلوا اكتفـاء بدلالة ما ظهر من الكلام علـيه. واختلف أهل التأويـل فـي صفة الـيـمين التـي يكون بها الرجل مؤلـيا من امرأته، فقال بعضهم: الـيـمين التـي يكون بها الرجل مؤلـيا من امرأته، أن يحلف علـيها فـي حال غضب علـى وجه الإضرار لها أن لا يجامعها فـي فرجها، فأما إن حلف علـى غير وجه الإضرار علـى غير غضب فلـيس هو مولـيا منها. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن حريث بن عميرة، عن أم عطية، قالت: قال جبـير: أرضعي ابن أخي مع ابنك فقالت: ما أستطيع أن أرضع اثنـين. فحلف أن لا يقربها حتـى تفطمه. فلـما فطمته مرّ به علـى الـمـجلس، فقال له القوم: حسنا ما غذوتـموه. قال جبـير: إنـي حلفت ألا أقربها حتـى تفطمه. فقال له القوم: هذا إيلاء. فأتـى علـيا فـاستفتاه، فقال: إن كنت فعلت ذلك غضبـا فلا تصلـح لك امرأتك، وإلا فـيه امرأتك. ٣٨٥٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، أنه سمع عطية بن جبـير، قال: توفـيت أم صبـيّ نسيبة لـي، فكانت امرأة أبـي ترضعه، فحلف أن لا يقربها حتـى تفطمه. فلـما مضت أربعة أشهر قـيـل له: قد بـانت منك وأحسب شكّ أبو جعفر، قال: فأتـى علـيا يستفتـيه، فقال: إن كنت قلت ذلك غضبـا فلا امرأة لك، وإلا فهي امرأتك. ٣٨٥٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرنـي سماك، قال: سمعت عطية بن جبـير يذكر نـحوه عن علـيّ. ٣٨٥٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد الـمـجيد، قال: حدثنا داود، عن سماك، عن رجل من بنـي عجل، عن أبـي عطية: أنه توفـي أخوه وترك ابنا له صغيرا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه فقالت: إنـي أخشى أن تغيـلهما، فحلف أن لا يقربها حتـى تفطمهما ففعل حتـى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبـي عطية إلـى الـمـجلس، فقالوا: لَـحُسْنَ ما غذى أبو عطية ابن أخيه قال: كلا زعمت أم عطية أنـي أغيـلهما فحلفت أن لا أقربها حتـى تفطمهما. فقالوا له: قد حرمت علـيك امرأتك. فذكرت ذلك لعلـيّ رضي اللّه عنه، فقال علـيّ: إنـما أردت الـخير، وإنـما الإيلاء فـي الغضب. ٣٨٥٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن سماك، عن أبـي عطية أن أخاه توفـي، فذكر نـحوه. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا داود بن أبـي هند، عن سماك بن حرب، أن رجلاً هلك أخوه، فقال لامرأته: أرضعي ابن أخي فقالت: أخاف أن تقع علـيّ. فحلف أن لا يـمسها حتـى تفطم. فأمسك عنها حتـى إذا فطمته أخرج الغلام إلـى قومه، فقالوا: لقد أحسنت غذاءه فذكر لهم شأنه، فذكروا امرأته قال: فذهب إلـى علـيّ فـاستـحلفه بـاللّه ما أردت بذلك؟ يعنـي إيلاءً، قال: فردّها علـيه. ٣٨٦٠ـ حدثنا علـيّ بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن أشعث بن سوار، عن سماك، عن عطية بن أبـي عطية، قال: توفـي أخ لـي وترك يتـيـما له رضيعا، وكنت رجلاً معسرا لـم يكن بـيدي ما أسترضع له قال: فقالت لـي امرأتـي، وكان لـي منها ابن ترضعه: إن كفـيتنـي نفسك كفـيتكهما. فقلت: وكيف أكفـيك نفسي؟ قالت: لا تقربنـي، فقلت: واللّه لا أقربك حتـى تفطميهما قال: ففطمتهما. وخرجا علـى القوم، فقالوا: ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما قال: فقصصت علـيهم القصة. فقالوا: ما نراك إلا آلـيت منها، وبـانت منك قال: فأتـيت علـيا، فقصصت علـيه القصة، فقال: إنـما الإيلاء ما أريد به الإيلاء. ٣٨٦١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر البُرسانـي، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عبـاس ، قال: لا إيلاء إلا بغضب. ٣٨٦٢ـ وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عبـاس ، قال: لا إيلاء إلا بغضب. ٣٨٦٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا ابن وكيع، عن أبـي فزارة، عن يزيد بن الأصمّ، عن ابن عبـاس ، قال: لا إيلاء إلا بغضب. ٣٨٦٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن أبـي عطية، عن علـيّ، قال: لا إيلاء إلا بغضب. ٣حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن سعيد، عن قتادة: أن علـيا قال: إذا قال الرجل لامرأته وهي ترضع: واللّه لا قربتك حتـى تفطمي ولدي، يريد به صلاح ولده، قال: لـيس علـيه إيلاء. ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن منصور السلولـي، عن مـحمد بن مسلـم الطائفـي، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبـير، قال: جاء رجل إلـى علـيّ، فقال: إنـي قلت لامرأتـي لا أقربها سنتـين، قال: قد آلـيت منها قال: إنـما قلت لأنها ترضع قال: فلا إذن. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن داود بن أبـي هند، عن سماك بن حرب، عن أبـي عطية، عن علـيّ أنه كان يقول: إنـما الإيلاء ما كان فـي غضب يقول الرجل: واللّه لا أقربك واللّه لا أمسّك، فأما ما كان فـي إصلاح من أمر الرضاع وغيره، فإنه لا يكون إيلاء ولا تبـين منه. ٣حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، يعنـي ابن مهدي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن حفص، عن الـحسن أنه سئل عنها، فقال: لا واللّه ما هو بإيلاء. ٣٨٦٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا بشر بن منصور، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إذا حلف من أجل الرضاع فلـيس بإيلاء. ٣٨٦٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، ثنـي يونس، قال: سألت ابن شهاب عن الرجل يقول: واللّه لا أقرب امرأتـي حتـى تفطم ولدي، قال: لا أعلـم الإيلاء يكون إلا بحلف بـاللّه فـيـما يريد الـمرء أن يضارّ به امرأته من اعتزالها، ولا نعلـم فريضة الإيلاء إلا علـى أولئك، فلا نرى أن هذا الذي أقسم بـالاعتزال لامرأته حتـى تفطم ولده، أقسم إلا علـى أمر يتـحرّى به فـيه الـخير، فلا نرى وجب علـى هذا ما وجب علـى الـمولـي الذي يولـي فـي الغضب. وقال آخرون: سواء إذا حلف الرجل علـى امرأته أن لا يجامعها فـي فرجها كان حلفه فـي غضب أو غير غضب، كل ذلك إيلاء. ذكر من قال ذلك: ٣٨٦٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي رجل، قال لامرأته: إن غشيتك حتـى تفطمي ولدك فأنت طالق، فتركها أربعة أشهر قال: هو إيلاء. ٣٨٦٨ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي معشر، عن النـخعي، قال: كل شيء يحول بـينه وبـين غشيانها فتركها حتـى تـمضي أربعة أشهر فهو داخـل علـيه. ٣٨٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبّـان بن موسى، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا أبو عوانة عن الـمغيرة، عن القعقاع، قال: سألت الـحسن عن رجل ترضع امرأته صبـيا فحلف أن لا يطأها حتـى تفطم ولدها، فقال: ما أرى هذا بغضب، وإنـما الإيلاء فـي الغضب قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الذي يحدثون؟ إنـما قال اللّه : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهمْ إلـى فإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ إذا مضت أربعة أشهر فلـيخطبها إن رغب فـيها. ٣٨٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم فـي رجل حلف أن لا يكلـم امرأته، قال: كانوا يرون الإيلاء فـي الـجماع. ٣٨٧١ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: قال: كل يـمين منعت جماعا حتـى تـمضي أربعة أشهر فهي إيلاء. ٣٨٧٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل وأشعث، عن الشعبـي، مثله. ٣٨٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم والشعبـي قالا: كل يـمين منعت جماعا فهي إيلاء. وقال آخرون: كل يـمين حلف بها الرجل فـي مساءة امرأته فهي إيلاء منه منها علـى الـجماع، حلف أو غيره، فـي رضا حلف أو سخط. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن خصيف، عن الشعبـي قال: كل يـمين حالت بـين الرجل وبـين امرأته فهي إيلاء، إذا قال: واللّه لأغضبنك، واللّه لأسوءنك، واللّه لأضربنك، وأشبـاه هذا. ٣حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: ثنـي أبـي وشعيب، عن اللـيث، عن يزيد بن أبـي حبـيب عن ابن أبـي ذئب العامريّ: أن رجلاً من أهله قال لامرأته: إن كلـمتك سنة فأنت طالق واستفتـى القاسم وسالـما فقالا: إن كلـمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لـم تكلـمها فهي طالق إذا مضت أربعة أشهر. ٣حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، قال: سمعت حمادا، قال: قلت لإبراهيـم: الإيلاء أن يحلف أن لا يجامعها ولا يكلـمها، ولا يجمع رأسه برأسها، أو لـيغضبنها، أو لـيحرّمنها، أو لـيسوءنها؟ قال: نعم. ٣٨٧٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت الـحكم عن رجل قال لامرأته: واللّه لأغيظنك فتركها أربعة أشهر قال: هو إيلاء. ٣٨٧٥ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: سمعت شعبة قال: سألت الـحكم، فذكر مثله. ٣٨٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، حدثنـي اللـيث، قال: حدثنا يونس، قال: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن الـمسيب: أنه إن حلف رجل أن لا يكلـم امرأته يوما أو شهرا، قال: فإنا نرى ذلك يكون إيلاء، وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلـمها، فكان يـمسها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفـيء أن يفـيء إلـى امرأته فـيكلـمها أو يـمسها، فمن فعل ذلك قبل أن تـمضي الأربعة الأشهر فقد فـاء ومن فـاء بعد أربعة أشهر وهي فـي عدتها فقد فـاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطلـيقة. وعلة من قال: إنـما الإيلاء فـي الغضب والضرار، أن اللّه تعالـى ذكره إنـما جعل الأجل الذي أجل فـي الإيلاء مخرجا للـمرأة من عضل الرجل وضراره إياها فـيـما لها علـيه من حسن الصحبة والعشرة بـالـمعروف. وإذا لـم يكن الرجل لها عاضلاً، ولا مضارّا بـيـمينه وحلفه علـى ترك جماعها، بل كان طالبـا بذلك رضاها، وقاضيا بذلك حاجتها، لـم يكن بـيـمينه تلك مولـيا، لأنه لا معنى هنالك يـلـحق الـمرأة به من قبل بعلها مساءة وسوء عشرة، فـيجعل الأجل الذي جعل الـمولـي لها مخرجا منه. وأما علة من قال: الإيلاء فـي حال الغضب والرضا سواء عموم الآية، وأن اللّه تعالـى ذكره لـم يخصص من قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ بعضا دون بعض، بل عمّ به كل مول مقسم، فكل مقسم علـى امرأته أن لا يغشاها مدة هي أكثر من الأجل الذي جعل اللّه له تربصه، فمؤلٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مؤلٍ، وإن كانت مدة يـمينه الأجل الذي جعل له تربصه. وأما علة من قال بقول الشعبـي والقاسم وسالـم، أن اللّه تعالـى ذكره جعل الأجل الذي حدّه للـمولـي مخرجا للـمرأة من سوء عشرتها بعلها إياها وإضراره بها. ولـيست الـيـمين علـيها بأن لا يجامعها ولا يقربها بأولـى بأن تكون من معانـي سوء العشرة والضرار من الـحلف علـيها أن لا يكلـمها أو يسوءها أو يغيظها لأن كل ذلك ضرر علـيها، وسوء عشرة لها. وأولـى التأويلات التـي ذكرناها فـي ذلك بـالصواب قول من قال: كل يـمين منعت الـمقسم الـجماع أكثر من الـمدة التـي جعل اللّه الـمولـي تربصها قائلاً فـي غضب كان ذلك أو رضا، وذلك للعلة التـي ذكرناها قبل لقائلـي ذلك. وقد أتـينا علـى فساد قول من خالف ذلك فـي كتابنا (كتاب اللطيف) بـما فـيه الكفـاية، فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنْ فـاءُوا فإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فإن رجعوا إلـى ترك ما حلفوا علـيه أن يفعلوه بهنّ من ترك جماعهن فجامعوهن وحنثوا فـي أيـمانهم، فإن اللّه غفور لـما كان منهم من الكذب فـي أيـمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهن، ولـما سلف منهم إلـيهن من الـيـمين علـى ما لـم يكن لهم أن يحلفوا علـيه، فحلفوا علـيه رحيـم بهم وبغيرهم من عبـاده الـمؤمنـين. وأصل الفـيء: الرجوع من حال إلـى حال، ومنه قوله تعالـى ذكره: وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ اقْتَتلُوا فأصْلِـحُوا بَـيْنَهُما إلـى قوله: حتـى تَفِـيءَ إلـى أمْرِ اللّه يعنـي: حتـى ترجع إلـى أمر اللّه . ومنه قول الشاعر: فَفـاءَتْ ولَـمْ تَقْضِ الّذِي أقْبَلَتْ لَهُوَمِنْ حاجَةِ الإنْسانِ ما لَـيْسَ قاضِيَا يقال منه: فـاء فلان يفـيء فـيئة، مثل الـجَيْئة، وَفَـيئا. والفـيئة: الـمرة. فأما فـي الظلّ، فإنه يقال: فـاء الظلّ يفـيء فـيوءا وفَـيْئا، وقد يقال فـيوءا أيضا فـي الـمعنى الأول، لأن الفـيء فـي كل الأشياء بـمعنى الرجوع. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل، غير أنهم اختلفوا فـيـما يكون به الـمؤلـي فـائيا، فقال بعضهم: لا يكون فـائيا إلا بـالـجماع. ذكر من قال ذلك: ٣٨٧٧ـ حدثنا علـيّ بن سهل الرملـي، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: الفـيء: الـجماع. ٣٨٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيـم، عن يزيد بن زياد بن أبـي الـجعد، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: الفـيء: الـجماع. ٣٨٧٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٨٨٠ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الـحكم بن عتـيبة عن مقسم، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٨٨١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حصين، عن الشعبـي، عن مسروق، قال: الفـيء: الـجماع. ٣٨٨٢ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن حصين، عن الشعبـي، عن مسروق مثله. ٣٨٨٣ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا مـحمد بن يزيد، عن إسماعيـل، قال: كان عامر لا يرى الفـيء إلا الـجماع. ٣٨٨٤ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيـل، عن عامر، بـمثله. ٣٨٨٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن علـيّ بن بذيـمة، عن سعيد بن جبـير قال: الفـيء: الـجماع. ٣٨٨٦ـ حدثنا أبو عبد اللّه النشائي، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفـيان، عن علـيّ بن بذيـمة، عن سعيد بن جبـير، مثله. ٣٨٨٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن جبـير، قال: الفـيء: الـجماع، لا عذر له إلا أن يجامع، وإن كان فـي سجن أو فـي سفر سعيد القائل. ٣٨٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن جبـير أنه قال: لا عذر له حتـى يغشى. ٣حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن حماد وإياس، عن الشعبـي، قال أحدهما، عن مسروق، قال: الفـيء: الـجماع وقال الاَخر عن الشعبـي: الفـيء: الـجماع. ٣حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب فـي رجل آلـى من امرأته ثم شغله مرض، قال: لا عذر له حتـى يغشى. ٣٨٨٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنـي أبـي، عن قتادة، عن سعيد بن جبـير فـي الرجل يؤلـي من امرأته قبل أن يدخـل بها، أو بعد ما دخـل بها، فـيعرض له عارض يحبسه، أو لا يجد ما يسوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر أنها أحقّ بنفسها. ٣٨٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم والشعبـي قالا: إذ آلـى الرجل من امرأته ثم أراد أن يفـيء، فلا فـيء إلا الـجماع. وقال آخرون: الفـيء: الـمراجعة بـاللسان أو القلب فـي حال العذر، وفـي غير حال العذر الـجماع. ذكر من قال ذلك: ٣٨٩١ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن وعكرمة أنهما قالا: إذا كان له عذر فأشهر فذاك له. يعنـي فـي رجل آلـى من امرأته فشغله مرض أو طريق فأشهد علـى مراجعة امرأته. ٣٨٩٢ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الـحكم قال: تذاكرنا أنا والنـخعي ذلك، فـال النـخعي: إذا كان له عذر فأشهد فقد فـاء، وقلت أنا: لا عذر له حتـى يغشى. فـانطلقنا إلـى أبـي وائل، فقال: إنى أرجو إذا كان له عذر فأشهد جاز. ٣٨٩٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الـحسن، قال: إن آلـى ثم مرض، أو سجن، أو سافر فراجع، فإن له عذرا أن لا يجامع قال: وسمعت الزهري يقول مثل ذلك: ٣٨٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي النفساء يؤلـي منها زوجها، قال: هذه فـي مـحارب سئل عنها أصحاب عبد اللّه ، فقالوا: إذا لـم يستطع كفر عن يـمينه وأشهد علـى الفـيء. ٣٨٩٥ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن أبـي الشعثاء، قال: نزل به ضيف، فآلـى من امرأته فنفست، فأراد أن يفـيء فلـم يستطع أن يقربها من أجل نفـاسها. فأتـى علقمة فذكر ذلك له، فقال: ألـيس قد فئت بقلبك ورضيت؟ قال: بلـى قال: فقد فئت هي امرأتك. ٣٨٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن إبراهيـم: أن رجلاً آلـى من امرأته، فولدت قبل أن تـمضي أربعة أشهر أراد الفـيئة، فلـم يستطع من أجل الدم حتـى مضت أربعة أشهر. فسأل عنها علقمة بن قـيس، فقال: ألـيس قد راجعتها فـي نفسك؟ قال: بلـى قال: فهي امرأتك. ٣٨٩٧ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: أخبرنا عامر، عن الـحسن، قال: إذا آلـى من امرأته ثم لـم يقدر أن يغشاها من عذر، قال: يُشهد أنه قد فـاء وهي امرأته. ٣٨٩٨ـ حدثنا عمران، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا عامر، عن حماد، عن إبراهيـم، عن علقمة بـمثله. ٣٨٩٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة. عن عكرمة قال: وحدثنا عبد الأعلـى قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة قال: إذا آلـى من امرأته فجهد أن يغشاها فلـم يستطع، فله أن يشهد علـى رجعتها. ٣٩٠٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن سعيد، عن قتادة، عن الـحسن وعكرمة أنهما سئلا عن رجل آلـى من امرأته، فشغله أمر، فأشهد علـى مراجعة امرأته، قالا: إذا كان له عذر فذاك له. ٣٩٠١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، قال: انطلقت أنا وإبراهيـم إلـى أبـي الشعثاء، فحدّث أن رجلاً من بنـي سعد بن همام آلـى من امرأته فنفست، فلـم يستطع أن يقربها، فسأل الأسود أو بعض أصحاب عبد اللّه ، فقال: إذا أشهد فهي امرأته. ٣٩٠٢ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيـم أنه قال: إن كان له عذر فأشهد فذلك له يعنـي الـمؤلـي من امرأته. ٣٩٠٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيـم أنه كان يحدّث عن أبـي الشعثاء، عن علقمة وأصحاب عبد اللّه : أنهم قالوا فـي الرجل إذا آلـى من امرأته فنفست، قالوا: إذا أشهد فهي امرأته. ٣٩٠٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: إذا آلـى الرجل من أمرته ثم فـاء فلـيشهد علـى فـيئه. وإذا آلـى الرجل من امرأته وهو فـي أرض غير الأرض التـي فـيها امرأته فلـيشهد علـى فـيئه. فإن أشهد وهو لا يعلـم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه علـيها فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها فهي امرأته. وإن علـم أنه لا فـيء إلا فـي الـجماع فـي هذا البـاب ففـاء وأشهد علـى فـيئه ولـم يقع علـيها حتـى مضت أربعة أشهر، فقد بـانت منه. ٣٩٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي يونس، قال: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن الـمسيب أنه إذا آلـى الرجل من امرأته، قال: فإن كان به مرض ولا يستطيع أن يـمسها، أو كان مسافرا فحبس، قال: فإذا فـاء وكفر عن يـمينه فأشهد علـى فـيئه قبل أن تـمضي أربعة أشهر فلا نراه إلا قد صلـح له أن يـمسك امرأته ولـم يذهب من طلاقها شيء قال: وقال ابن شهاب فـي رجل يؤلـي من امرأته ولـم يبق لها علـيه إلا تطلـيقة، فـيريد أن يفـيء فـي آخر ذلك وهو مريض أو مسافر، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر علـى أن يبلغها حتـى تـمضي أربعة أشهر أله فـي شيء من ذلك رخصة أن يكفر عن يـمينه، ولـم يقدر علـى أن يطأ امرأته؟ قال: نرى واللّه أعلـم إن فـاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته، بعد أن يشهد علـى ذلك ويكفر عن يـمينه، وإن لـم يبلغها ذلك من فـيئته، فإنه قد فـاء قبل أن يكون طلاقا. ٣٩٠٦ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الفـيء: الـجماع. فإن هو لـم يقدر علـى الـمـجامعة، وكانت به علة من مرض، أو كان غائبـا، أو كان مـحرما، أو شيء له فـيه عذر، ففـاء بلسانه وأشهد علـى الرضا، فإن ذلك له فـيء إن شاء اللّه . وقال آخرون: الفـيء: الـمراجعة بـاللسان بكل حال. ذكر من قال ذلك: ٣٩٠٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا الضحاك بن مخـلد، عن سفـيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيـم، قال: الفـيء: أن يفـيء بلسانه. ٣٩٠٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن زياد الأعلـم، عن الـحسن، قال: الفـيء: الإشهاد. ٣٩٠٩ـ حدثنا الـمثنى قال: ثنـي الـحجاج، قال: حدثنا حماد، عن زياد الأعلـم، عن الـحسن، مثله. ٣٩١٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبـي قلابة قال: إن فـاء فـي نفسه أجزأه، يقول: قد فـاء. ٣٩١١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيـل بن رجاء، قال: ذكروا الإيلاء عند إبراهيـم، فقال: أرأيت إن لـم ينتشر ذكره؟ إذا أشهد فهي امرأته. قال أبو جعفر: وإنـما اختلف الـمختلفون فـي تأويـل الفـيء علـى قدر اختلافهم فـي معنى الـيـمين التـي تكون إيلاء، فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون مؤلـيا من امرأته الإيلاء الذي ذكره اللّه فـي كتابه إلا بـالـحلف علـيها أن لا يجامعها جعل الفـيء الرجوع إلـى فعل ما حلف علـيه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الـجماع فـي الفرج إذا قدر علـى ذلك وأمكنه، وإذا لـم يقدر علـيه ولـم يـمكنه، فإحداث النـية أن يفعله إذا قدر علـيه وأمكنه وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه لـيعلـمه الـمسلـمون فـي قول من قال ذلك. وأما قول من رأى أن الفـيء هو الـجماع دون غيره، فإنه لـم يجعل العائق له عذرا، ولـم يجعل له مخرجا من يـمينه غير الرجوع إلـى ما حلف علـى تركه وهو الـجماع. وأما من كان من قوله: إنه قد يكون مؤلـيا منها بـالـحلف علـى ترك كلامها، أو علـى أن يسوءها أو يغيظها، أو ما أشبه ذلك من الأيـمان، فإن الفـيء عنده الرجوع إلـى ترك ما حلف علـيه أن يفعله مـما فـيه مساءتها بـالعزم علـى الرجوع عنه وإبداء ذلك بلسانه فـي كل حال عزم فـيها علـى الفـيء. وأولـى الأقوال بـالصحة فـي ذلك عندنا قول من قال: الفـيء: هو الـجماع لأن الرجل لا يكون مؤلـيا عندنا من امرأته إلا بـالـحلف علـى ترك جماعها الـمدة التـي ذكرنا للعلل التـي وصفنا قبل. فإذّ كان ذلك هو الإيلاء فـالفـيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان الذي آلـى علـيه خلافـا لأنه لـما جعل حكمه إن لـم يفـىء إلـى ما آلـى علـى تركه الـحكم الذي بـينه اللّه لهم فـي كتابه كان الفـيء إلـى ذلك معلوما أنه فعل ما آلـى علـى تركه إن أطاقه، وذلك هو الـجماع، غير أنه إذا حيـل بـينه وبـين الفـيء الذي هو الـجماع بعذر، فغير كائن تاركا جماعها علـى الـحقـيقة، لأن الـمرء إنـما يكون تاركا ماله إلـى فعله وتركه سبـيـل، فأما من لـم يكن له إلـى فعل أمر سبـيـل، فغير كائن تاركه. وإذ كان ذلك كذلك فإحداث العزم فـي نفسه علـى جماعها مـجزىء عنه فـي حال العذر، حتـى يجد السبـيـل إلـى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهد علـى نفسه فـي تلك الـحال بـالأوبة والفـيء كان أعجب إلـيّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: فإن اللّه غفور لكم فـيـما اجترمتـم بفـيئكم إلـيهن من الـحنث فـي الـيـمين التـي حلفتـم علـيهنّ بـاللّه أن لا تغشوهن، رحيـم بكم فـي تـخفـيفه عنكم كفـارة أيـمانكم التـي حلفتـم علـيهن ثم حنثتـم فـيها. ذكر من قال ذلك: ٣٩١٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن: فَإنْ فَـاءُوا فإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ قال: لا كفـارة علـيه. ٣٩١٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الـحسن، قال: إذا فـاء فلا كفـارة علـيه. ٣٩١٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: كانوا يرون فـي قول اللّه : فَإنْ فَـاءُوا فَإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ أن كفـارته فـيؤه. وهذا التأويـل الذي ذكرنا هو التأويـل الواجب علـى قول من زعم أن كل حانث فـي يـمين هو فـي الـمقام علـيها حَرِجٌ، فلا كفـارة علـيه فـي حنثه فـيها، وإن كفـارته الـحنث فـيهاوأما علـى قول من أوجب علـى الـحانث فـي كل يـمين حلف بها برّا كان الـحنث فـيها أو غير برّ، فإن تأويـله: فإن اللّه غفور للـمؤلـين من نسائهم فـيـما حنثوا فـيه من إيلائهم، فإن فـاءوا فكفروا أيـمانهم بـما ألزم اللّه الـحانثـين فـي أيـمانهم من الكفـارة، رحيـم بهم بإسقاطه عنهم العقوبة فـي العاجل والاَجل علـى ذلك بتكفـيره إياه بـما فرض علـيهم من الـجزاء والكفـارة، وبـما جعل لهم من الـمهل الأشهر الأربعة، فلـم يجعل فـيها للـمرأة التـي آلـى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة. كما: ٣٩١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: حدثنا يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فَـاءُوا فَإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ قال: وتلك رحمة اللّه ملكه أمرها الأربعة الأشهر إلا من معذرة، لأن اللّه قال: وَاللاّتِـي تَـخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِـي الـمَضَاجِعِ. ذكر بعض من قال: إذا فـاء الـمولـي فعلـيه الكفـارة: ٣٩١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وهو الرجل يحلف لامرأته بـاللّه لا ينكحها، فـيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر يـمينه بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تـحرير رقبة، فمن لـم يجد فصيام ثلاثة أيام. ٣٩١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي يونس، قال: ثنـي ابن شهاب، عن سعيد بن الـمسيب بنـحوه. ٣٩١٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا حماد بن سلـمة، عن حماد، عن إبراهيـم، قال: إذا آلـى فغشيها قبل الأربعة الأشهر كفر عن يـمينه. ٣٩١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي النفساء يؤلـي منها زوجها، قال: هذه فـي مـحارب سئل عنها أصحاب عبد اللّه ، فقالوا: إذا لـم يستطع كفر عن يـمينه وأشهد علـى الفـيء. ٣٩٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: إن فـاء فـيها كفر يـمينه وهي امرأته. ٣٩٢١ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٣٩٢٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيـم فـي الإيلاء قال: يوقـف قبل أن تـمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته وعلـيه يـمين يكفرها إذا حنث. قال أبو جعفر: وهذا التأويـل الثانـي هو الصحيح عندنا فـي ذلك لـما قد بـينا من العلل فـي كتابنا (كتاب الأيـمان) من أن الـحنث موجب الكفـارة فـي كل ما ابتدىء فـيه الـحنث من الأيـمان بعد الـحلف علـى معصية كانت الـيـمين أو علـى طاعة. ٢٢٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطّلاَقَ فَإِنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } اختلف أهل التأويـل فـي معنى قول اللّه تعالـى ذكره وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فـاءوا فرجعوا إلـى ما أوجب اللّه لهن من العشرة بـالـمعروف فـي الأشهر الأربعة التـي جعل اللّه لهم تربصهم عنهن وعن جماعهن وعشرتهن فـي ذلك بـالواجب، فإن اللّه لهم غفور رحيـم، وإن تركوا الفـيء إلـيهن فـي الأشهر الأربعة التـي جعل اللّه لهم التربص فـيهن حتـى ينقضين طلق منهم نساؤهم اللاتـي آلوا منهنّ بـمضيهن، ومضيهن عند قائلـي ذلك هو الدلالة علـى عزم الـمولـي علـى طلاق امرأته التـي آلـى منها. ثم اختلف متأولو هذا التأويـل بـينهم فـي الطلاق الذي يـلـحقها بـمضيّ الأشهر الأربعة، فقال بعضهم: هو تطلـيقة بـائنة. ذكر من قال ذلك: ٣٩٢٣ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا مـحمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس أو الـحسن، عن علـيّ قال: إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٢٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبـي، عن قتادة أن علـيا وابن مسعود كانا يجعلانها تطلـيقة إذا مضت أربعة أشهر فهي أحقّ بنفسها. قال قتادة: وقول علـيّ وعبد اللّه أعجب إلـيّ فـي الإيلاء. ٣٩٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن: أن علـيا قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر بـانت بتطلـيقة. ٣٩٢٦ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا معمر، عن عطاء الـخراسانـي، عن أبـي سلـمة أن عثمان بن عفـان وزيد بن ثابت كانا يقولان: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي واحدة بـائنة. ٣٩٢٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنا عطاء الـخراسانـي، قال: سمعنـي أبو سلـمة بن عبد الرحمن أسأل ابن الـمسيب عن الإيلاء، فمررت به، فقال: ما قال لك ابن الـمسيب؟ فحدثته بقوله. فقال: أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفـان وزيد بن ثابت يقولان؟ قلت: بلـى قال: كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة وهي أحقّ بنفسها. ٣٩٢٨ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد، عن الأوزاعي، عن عطاء الـخراسانـي، قال: حدثنا أبو سلـمة بن عبد الرحمن، أن عثمان بن عفـان، قال: إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلـى فتطلـيقة بـائنة. ٣٩٢٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن معمر، أو حدثت عنه، عن عطاء الـخراسانـي، عن أبـي سلـمة عن عثمان وزيد أنهما كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٣٠ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن منصور، عن إبراهيـم، عن عقلـمة، قال: آلـى عبد اللّه بن أنـيس من امرأته، فمكثت ستة أشهر، فأتـى ابن مسعود فسأله، فقال: أعلـمها أنها قد ملكت أمرها. فأتاها فأخبرها، وأصدقها رطلاً من وَرِق. ٣٩٣١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه أنه كان يقول فـي الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٣٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه ، مثل ذلك. ٣٩٣٣ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: آلـى عبد اللّه بن أنـيس من امرأته، قال: فخرج فغاب عنها ستة أشهر، ثم جاء فدخـل علـيها، فقـيـل: إنها قد بـانت منك. فأتـى عبد اللّه فذكر ذلك له، فقال له عبد اللّه : قد بـانت منك، فأتها وأعلـمها واخطبها إلـى نفسها فأتاها فأعلـمها أنها قد بـانت منه وخطبها إلـى نفسها، وأصدقها رطلاً من وَرِق. ٣٩٣٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن عطاء، قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بـائنة. ٣٩٣٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر: أن رجلاً من بنـي هلال يقال له فلان ابن أنـيس أو عبد اللّه بن أنـيس، أراد من أهله ما يريد الرجل من أهله، فأبت، فحلف أن لا يقربها. فطرأ علـى الناس بعث من الغد، فخرج فغاب ستة أشهر، ثم قدم فأتـى أهله، ما يرى أن علـيه بأسا. فخرج إلـى القوم فحدثهم بسخطه علـى أهله حيث خرج وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم: فإنها قد حرمت علـيك. فأتـى ابن مسعود فسأله عن ذلك، فقال ابن مسعود: أما علـمت أنها حرمت علـيك؟ قال لا قال: فـانطلق فـاستأذن علـيها، فإنها ستنكر ذلك، ثم أخبرها أن يـمينك التـي كنت حلفت علـيها صارت طلاقا، وأخبرها أنها واحدة وأنها أملك بنفسها، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك علـى ثنتـين، وإلا فهي أملك بنفسها. ٣٩٣٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي: قال: حدثنا سفـيان، عن علـيّ بن بذيـمة، عن أبـي عبـيدة، عن مسروق، عن عبد اللّه ، قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة، وتعتدّ ثلاثة قروء. ٣٩٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور والأعمش ومغيرة، عن إبراهيـم: أن عبد اللّه بن أنـيس آلـى من امرأته، فمضت أربعة أشهر، ثم جامعها وهو ناس، فأتـى علقمة، فذهب به إلـى عبد اللّه ، فقال عبد اللّه : بـانت منك فـاخطبها إلـى نفسها، فأصدقها رطلاً من فضة. ٣٩٣٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبـي قلابة: أن النعمان بن بشير آلـى من امرأته، فضرب ابن مسعود فخذه وقال: إذا مضت أربعة أشهر فـاعترفبتطلـيقة. ٣٩٣٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت داود، عن عامر أن ابن مسعود قال فـي الـمؤلـي: إذا مضت أربعة أشهر ولـم يفـىء فقد بـانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب. ٣٩٤٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: عزم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر. ٣٩٤١ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٩٤٢ـ حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بـائنة. ٣٩٤٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد بن مخـلد، عن جعفر بن برقان، عن عبد الأعلـى بن ميـمون بن مهران، عن عكرمة أنه قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطلـيقة بـائنة. فذكر ذلك عن ابن عبـاس . ٣٩٤٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيـم، عن يزيد بن زياد بن أبـي الـجعد، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: عزيـمة الطلاق انقضاء الأربعة. ٣٩٤٥ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، مثله. ٣٩٤٦ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا ابن فضل، قال: حدثنا الأعمش، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير: أن أمير مكة سأله عن الـمؤلـي، فقال: كان ابن عمر يقول: إذا مضت أربعة أشهر ملكت أمرها، وكان ابن عبـاس يقول ذلك. ٣٩٤٧ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا حفص، عن الـحجاج، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٤٨ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا حفص، عن حجاج، عن سالـم الـمكي، عن ابن الـحنفـية، مثله. ٣٩٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا أبـي وشعيب، عن اللـيث، عن يزيد بن أبـي حبـيب عن أبـان بن صالـح، عن ابن شهاب: أن قبـيصة بن ذؤيب قال فـي الإيلاء: هي تطلـيقة بـائنة وتأتنف العدّة وهي أملك بأمرها. ٣٩٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي، عن شريح أنه أتاه رجل فقال: إنـي آلـيت من امرأتـي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفـيء. فقال شريح: وَإِنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فَإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ لـم يزده علـيها. فأتـى مسروقا فذكر ذلك له، فقال: يرحم اللّه أبـا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لـم يفرج أحد عنه، وإنـما أتاه لـيفرج عنه. ثم قال: هي تطلـيقة بـائنة، وأنت خاطب من الـخطاب. ٣٩٥١ـ حدثنا ابن الـمثنى قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن مغيرة أنه سمع الشعبـي يحدث أنه شهد شريحا وسأله رجل عن الإيلاء فقال: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهم تَربّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ الآية، قال: فقمت من عنده، فأتـيت مسروقا، فقلت: يا أبـا عائشة وأخبرته بقول شريح، فقال: يرحم اللّه أبـا أمية، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا من كان يفرج عنا مثل هذا ثم قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بـائنة. ٣٩٥٢ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، قال: قرأت فـي كتاب أبـي قلابة عند أيوب: سألت سالـم بن عبد اللّه وأبـا سلـمة بن عبد الرحمن فقالا: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٥٣ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، عن قـيس بن سعد، عن عطاء، قال: إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطلـيقة بـائنة، ويخطبها فـي العدّة. ٣٩٥٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر، عن أبـيه فـي الرجل يقول لامرأته: واللّه لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدا ويحلف أن لا يقربها أبدا، فإن مضت أربعة أشهر ولـم يفـىءْ كانت تطلـيقة بـائنة وهو خاطب قول علـيّ وابن مسعود وابن عبـاس والـحسن. ٣٩٥٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، أنه سئل عن رجل قال لامرأته: إن قربتك فأنت طالق ثلاثا، قال: فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة، وسقط ذلك. ٣٩٥٦ـ حدثنا سوار، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، وحدثنا أبو هشام، قال: حدثنا وكيع جميعا، عن يزيد بن إبراهيـم، قال: سمعت الـحسن ومـحمدا فـي الإيلاء، قالا: إذا مضت أربعة أشهر فقد بـانت بتطلـيقة بـائنة، وهو خاطب من الـخطاب. ٣٩٥٧ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن عون، عن مـحمد، قال: كنا نتـحدث فـي الألـية أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٥٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيـم فـي الإيلاء قال: إن مضت، يعنـي أربعة أشهر بـانت منه. ٣٩٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن قتادة، عن النـخعي قال: إن قربها قبل الأربعة الأشهر فقد بـانت منه بثلاث، وإن تركها حتـى تـمضي الأربعة الأشهر بـانت منه بـالإيلاء فـي رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إن قربتك سنة. ٣٩٦٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة، قال: أَعْتَـم عبـيد اللّه بن زياد عند هند فـي لـيـلة أم عثمان ابنة عمر بن عبـيد اللّه فلـما أتاها أمرت جواريها، فأغلقن الأبواب دونه، فحلف أن لا يأتـيها حتـى تأتـيه، فقـيـل له: إن مضت أربعة أشهر ذهبت منك. ٣٩٦١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عوف، قال: بلغنـي أن الرجل إذا آلـى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة بـائنة، ويخطبها إن شاء. ٣٩٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهمْ تَرَبّصْ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فـي الذي يقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرمت علـيه، فتعتد عدّة الـمطلقة وهو أحد الـخطّاب. ٣٩٦٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبـيصة بن ذؤيب، قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطلـيقة بـائنة. ٣٩٦٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فَـاءُوا فَإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ وهذا فـي الرجل يؤلـي من امرأته و يقول: واللّه لا يجتـمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك فكان أهل الـجاهلـية يعدّونه طلاقا، فحدّ اللّه لهما أربعة أشهر، فإن فـاء فـيها كفر يـمينه وهي امرأته، وإن مضت أربعة أشهر ولـم يفـىء فهي تطلـيقة بـائنة، وهي أحقّ بنفسها، وهو أحد الـخطّاب. ٣٩٦٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٣٩٦٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ قال: كان ابن مسعود وعمر بن الـخطاب يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بـائنة، وهي أحقّ بنفسها. ٣٩٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو وهب، عن جويبر، عن الضحاك : لِلّذِينَ يُؤْلُونَ الآية، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته، فإن مضت أربعة أشهر ولـم يفـيء ولـم يطلق بـانت منه بـالإيلاء، فإن رجعت إلـيه فمهر جديد، ونكاح ببـينة، ورضا من الـمؤلـي. وقال آخرون: بل الذي يـلـحقها بـمضي الأربعة الأشهر تطلـيقة يـملك فـيها الزوج الرجعة. ذكر من قال ذلك: ٣٩٦٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب وأبـي بكر بن عبد الرحمن بن الـحرث بن هشام قالا: إذا آلـى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر، فواحدة وهو أملك لرجعتها. ٣٩٦٩ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا ابن إدريس، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة يـملك الرجعة. ٣٩٧٠ـ حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن مهديّ، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل بن أمية، عن مكحول، قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة، يـملك الرجعة. ٣٩٧١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبـي بكر بن عبد الرحمن، قال: هي واحدة وهو أحقّ بها، يعنـي إذا مضت الأربعة الأشهر. وكان الزهري يفتـي بقول أبـي بكر هذا. ٣٩٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا اللـيث، قال: ثنـي يونس، قال: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن الـمسيب أنه قال: إذا آلـى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفـيء فهي تطلـيقة وهو أملك بها ما كانت فـي عدتها. ٣٩٧٣ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، قال: حدثنا أبو يونس القويّ، قال: قال لـي سعيد بن الـمسيب: مـمن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق، قال: لعلك مـمن يقول: إذا مضت أربعة أشهر فقد بـانت؟ لا ولو مضت أربع سنـين. ٣٩٧٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا حجاج بن رشدين قال: حدثنا عبد الـجبـار بن عمر، عن ربـيعة أنه قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطلـيقة، وتستقبل عدتها، وزوجها أحق برجعتها. ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: كان ابن شبرمة يقول: إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة ويخاصم بـالقرآن، ويتأوّل هذه الآية: وَبُعُولَتُهُنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فِـي ذَلِكَثم نزع: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فَـاءُوا فَإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فَإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ. ٣٩٧٥ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: قال أبو عمرو: ونـحن فـي ذلك يعنـي فـي الإيلاء علـى قول أصحابنا الزهري ومكحول أنها تطلـيقة يعنـي مضي الأربعة الأشهر وهو أملك بها فـي عدتها. وقال آخرون: معنى قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ إلـى قوله: فَإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ للذين يؤلون علـى الاعتزال من نسائهم تنظر أربعة أشهر بأمره وأمرها، فإن فـاءوا بعد انقضاء الأشهر الأربعة إلـيهنّ، فرجعوا إلـى عشرتهن بـالـمعروف، وترك هجرانهن، وأتوا إلـى غشيانهن وجماعهن، فإن اللّه غفور رحيـم، وإن عزموا الطلاق فأحدثوا لهن طلاقا بعد الأشهر الأربعة، فإن اللّه سميع لطلاقهم إياهن، علـيـم بـما فعلوا بهن من إحسان وإساءة. وقال متأوّلو هذا التأويـل: مضيّ الأشهر الأربعة يوجب للـمرأة الـمطالبة علـى زوجها الـمؤلـي منها بـالفـيء أو الطلاق، ويجب علـى السلطان أن يقـف الزوج علـى ذلك، فإن فـاء أو طلق، وإلا طلق علـيه السلطان. ذكر من قال ذلك: ٣٩٧٦ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: أخبرنا الـمثنى بن الصبـاح، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن الـمسيب، أن عمر قال فـي الإيلاء: لا شيء علـيه حتـى يوقـف، فـيطلق أو يـمسك. ٣٩٧٧ـ حدثنـي عبد اللّه بن أحمد بن شبويه، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن الـمثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن الـمسيب، عن عمر بن الـخطاب، مثله. ٣٩٧٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت سعيد بن جبـير يحدّث عن عمر بن الـخطاب أنه قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لـم يجعله شيئا. ٣٩٧٩ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن الشيبـانـي، عن الشعبـي، عن عمرو بن سلـمة، عن علـيّ أنه كان يقـف الـمؤلـي بعد الأربعة الأشهر حتـى يفـيء أو يطلق. ٣٩٨٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن الشيبـانـي، عن الشعبـي، عن عمرو بن سلـمة، عن علـيّ قال فـي الإيلاء: يوقـف. ٣٩٨١ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن الشيبـانـي، عن بكير بن الأخنس، عن مـجاهد، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن علـيّ أنه كان يقـفه. ٣٩٨٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفـيان، عن الشيبـانـي، عن بكير بن الأخنس، عن مـجاهد، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن علـيّ أنه كان يوقـفه. ٣٩٨٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد، عن مروان بن الـحكم، عن علـيّ قال: يوقـف الـمؤلـي عند انقضاء الأربعة الأشهر حتـى يفـيء أو يطلق. قال أبو كريب، قال ابن إدريس: وهو قول أهل الـمدينة. ٣٩٨٤ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن لـيث، عن مـجاهد، عن مروان، عن علـيّ مثله. ٣٩٨٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، عن مروان بن الـحكم، عن علـيّ، قال: الـمؤلـي إما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٣٩٨٦ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن طاوس، أن عثمان كان يقـف الـمؤلـي بقول أهل الـمدينة. ٣٩٨٧ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا مسعر، عن حبـيب بن أبـي ثابت، قال: لقـيت طاوسا فسألته، فقال: كان عثمان يأخذ بقول أهل الـمدينة. ٣٩٨٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، عن أبـي الدرداء أنه قال: لـيس له أجل وهي معصية، يوقـف فـي الإيلاء، فإما أن يـمسك، وإما أن يطلق. ٣٩٨٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب أن أبـا الدرداء قال فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فإنه يوقـف، إما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٣حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبـي، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، أن أبـا الدرداء كان يقول: هي معصية، ولا تـحرم علـيه امرأته بعد الأربعة الأشهر، ويجعل علـيها العدة بعد الأربعة الأشهر. ٣حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبـا الدرداء وسعيد بن الـمسيب قالا: يوقـف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفـيء، وإما أن يطلق، ولا يزال مقـيـما علـى معصية حتـى يفـيء أو يطلق. ٣حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أن أبـا الدرداء وعائشة قالا: يوقـف الـمؤلـي عند انقضاء الأربعة، فإما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٣٩٩٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبـي الدرداء وسعيد بن الـمسيب، نـحوه. ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا الـحسن، عن ابن أبـي ملـيكة، قال: قالت عائشة: يوقـف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفـيء، وإما أن يطلق قال: قلت: أنت سمعتها؟ قال: لا تبكّتنـي. ٣٩٩١ـ حدثنا إبراهيـم بن مسلـم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة، مثله. ٣٩٩٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا عبد الـجبـار بن الورد، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، مثله. ٣٩٩٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عبـيد اللّه بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبـيه، عن عائشة أنها قالت: إذا آلـى الرجل أن لا يـمسّ امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يـمسكها كما أمره اللّه ، وإما أن يطلقها لا يوجب علـيه الذي صنع طلاقا ولا غيره. ٣٩٩٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبـي الزناد، عن أبـي الزناد، قال: أخبرنـي القاسم بن مـحمد: أن خالد بن العاص الـمخزومي كانت عنده ابنة أبـي سعيد بن هشام، وكان يحلف فـيها مرارا كثـيرة أن لا يقربها الزمان الطويـل، قال: فسمعت عائشة تقول له: ألا تتقـي اللّه يا ابن العاص فـي ابنة أبـي سعيد؟ أما تـحرج؟ أما تقرأ هذه الآية التـي فـي سورة البقرة؟ قال: فكأنها تؤثمه، ولا ترى أنه فـارق أهله. ٣٩٩٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال فـي الـمؤلـي: لا يحلّ له إلا ما أحلّ اللّه له، إما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٣٩٩٦ـ حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: أخبرنا عبد اللّه بن نـمير، قال: أخبرنا عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، نـحوه. ٣٩٩٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يجوز للـمؤلـي أن لا يفعل ما أمره اللّه ، يقول: يبـيّن رجعتها، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر يبـين رجعتها، أو يطلق قال أبو كريب: قال ابن إدريس وزاد فـيه: وراجعته فـيه، فقال قولاً معناه: إن له الرجعة. ٣٩٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جبـير أن عمر قال نـحوا من قول ابن عمر. ٣٩٩٩ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جرير بن حازم، قال: أخبرنا نافع أن ابن عمر قال فـي الإيلاء: يوقـف عند الأربعة الأشهر. ٤٠٠٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عبـيد اللّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلـى الرجل أن لا يـمسّ امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يـمسكها كما أمره اللّه ، وإما أن يطلقها ولا يوجب علـيه الذي صنع طلاقا ولا غيره. ٣حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير، قال: سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال: الأمراء يقضون بذلك. ٤٠٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: يوقـف الـمؤلـي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يطلق، وإما أن يفـيء. ٣حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن شبويه، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبـيد اللّه بن عمر، عن سهيـل بن أبـي صالـح، عن أبـيه، قال: سألت اثنـي عشر رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن الرجل يؤلـي من امرأته، فكلهم يقول: لـيس علـيه شيء حتـى تـمضي الأربعة الأشهر فـيوقـف، فإن فـاء وإلا طلق. ٣حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن الـمسيب فـي الرجل يؤلـي من امرأته قال: كان لا يرى أن تُدخـل علـيه فَرَقُه حتـى يطلق. ٤٠٠٢ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن سعيد بن الـمسيب فـي الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر إنـما جعله اللّه وقتا لا يحلّ له أن يجاوز حتـى يفـيء أو يطلق، فإن جاوز فقد عصى اللّه لا تـحرُمُ علـيه امرأته. ٤٠٠٣ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن داود بن أبـي هند، عن سعيد بن الـمسيب، قال: إذا مضت أربعة أشهر، فإما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٤٠٠٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى وابن بشار قالا: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن ابن الـمسيب فـي الإيلاء: يوقـف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٤٠٠٥ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن معمر، أو حدثته عنه، عن عطاء الـخراسانـي، قال: سألت ابن الـمسيب عن الإيلاء، فقال: يوقـف. ٤٠٠٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن الـمسيب، وعن ابن طاوس، عن أبـيه، قالا: يوقـف الـمؤلـي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يفـيء، وإما أن يطلق. ٤٠٠٧ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: ثنـي مالك بن أنس، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب وأبـي بكر بن عبد الرحمن بن الـحرث بن هشام مثل ذلك. يعنـي مثل قول عمر بن الـخطاب فـي الإيلاء: لا شيء علـيه، حتـى يوقـف، فـيطلق، أو يـمسك. ٤٠٠٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أنه قال فـي الإيلاء: يوقـف. ٤٠٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح. وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فـيوقـف حتـى يراجع أهله، أو يطلق. ٤٠١٠ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن أيوب، عن سلـيـمان بن يسار: أن مروان وقـفه بعد ستة أشهر. ٤٠١١ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عمر بن عبد العزيز فـي الإيلاء، قال: يوقـف عند الأربعة الأشهر حتـى يفـيء، أو يطلق. ٤٠١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ عن ابن عبـاس قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ هو الرجل يحلف لامرأته بـاللّه لا ينكحها، فـيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يـمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفـيء فـيراجع، وإما أن يعزم فـيطلق، كما قال اللّه سبحانه. ٣حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فَـاءُوا الآية، قال: كان علـيّ وابن عبـاس يقولان: إذا آلـى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقـف فـيقال له أمسكت أو طلقت، فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق. ٣حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ قال: هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا، فجعل اللّه له أربعة أشهر يتربص بها وقال: قول اللّه تعالـى ذكره: تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ يتربص بها فَإنْ فَـاءُوا فإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ فإذا رفعته إلـى الإمام ضرب له أجلاً أربعة أشهر، فإن فـاء وإلا طلق علـيه، فإن لـم ترفعه فإنـما هو حق لها تركته. ٤٠١٣ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال: لا يقع علـى الـمؤلـي طلاق حتـى يوقـف، ولا يكون مؤلـيا حتـى يحلف علـى أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف علـى أربعة أشهر فلا إيلاء علـيه، لأنه يوقـف عند الأربعة أشهر، وقد سقطت عنه الـيـمين، فذهب الإيلاء. ٤٠١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، قال: قال ابن عمر: حتـى يرفع إلـى السلطان، وكان أبـي يقول ذلك و يقول: لا واللّه وإن مضت أربع سنـين حتـى يوقـف. ٤٠١٥ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا فطر، قال: قال مـحمد بن كعب القرظي وأنا معه: لو أن رجلاً آلـى من امرأته أربع سنـين لـم نكنها منه حتـى نـجمع بـينهما، فإن فـاء فـاء، وإن عزم الطلاق عزم. ٤٠١٦ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا عبد العزيز الـماجشون، عن داود بن الـحصين، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يقول: يوقـف إذا مضت الأربعة. وقال آخرون: لـيس الإيلاء بشيء. ذكر من قال ذلك: ٤٠١٧ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن عمرو بن دينار، قال: سألت ابن الـمسيب عن الإيلاء فقال: لـيس بشيء. ٤٠١٨ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: ثنـي جعفر بن بـاقان، عن ميـمون بن مهران، قال: سألت ابن عمر عن رجل آلـى من امرأته فمضت أربعة أشهر فلـم يفـىء إلـيها، فتلا هذه الآية: لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائهِمْ تَرَبّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ... الآية. ٤٠١٩ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبونعيـم، قال: حدثنا مسعر، عن حبـيب بن أبـي ثابت، قال: أرسلت إلـى عطاء أسأله عن الـمؤلـي، فقال: لا علـم لـي به. وقال آخرون من أهل هذه الـمقالة: بل معنى قوله: وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ وإن امتنعوا من الفـيئة بعد استـيقاف الإمام إياهم علـى الفـيء أو الطلاق. ذكر من قال ذلك: ٤٠٢٠ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: يوقـف الـمؤلـي عند انقضاء الأربعة، فإن فـاء جعلها امرأته، وإن لـم يفـىءْ جعلها تطلـيقة بـائنة. ٤٠٢١ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: يوقـف الـمؤلـي عند انقضاء الأربعة، فإن لـم يفـىء فهي تطلـيقة بـائنة. قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بـما دل علـيه ظاهر كتاب اللّه تعالـى ذكره، قول عمر بن الـخطاب وعثمان وعلـيّ رضي اللّه عنهم ومن قال بقولهم فـي الطلاق: أن قوله: فإنْ فـاءُوا فإنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ إنـما معناه: فإن فـاءوا بعد وقـف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلـى أداء حق اللّه علـيهم لنسائهم اللاتـي آلوا منهن، فإن اللّه لهم غفور رحيـم، وإن عزموا الطلاق فطلقوهن، فإن اللّه سميع لطلاقهم إذا طلقوا، علـيـم بـما أتوا إلـيهن. وإنـما قلنا ذلك أشبه بتأويـل الآية، لأن اللّه تعالـى ذكره ذكر حين قال: وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ، ومعلوم أن انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنـما هو معلوم، فلو كان عزم الطلاق انقضاء الأشهر الأربعة لـم تكن الآية مختومة بذكر اللّه الـخبر عن اللّه تعالـى ذكره أنه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ كما أنه لـم يختـم الآية التـي ذكر فـيها الفـيء إلـى طاعته فـي مراجعة الـمؤلـي زوجته التـي آلـى منها وأداء حقها إلـيها بذكر الـخبر عن أنه شديد العقاب، إذ لـم يكن موضع وعيد علـى معصية، ولكنه ختـم ذلك بذكر الـخبر عن وصفه نفسه تعالـى ذكره بأنه غفور رحيـم، إذ كان موضع وعد الـمنـيب علـى إنابته إلـى طاعته، فكذلك ختـم الآية التـي فـيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام سميع وبـالفعل علـيـم، فقال تعالـى ذكره: وإن عزم الـمؤلون علـى نسائهم علـى طلاق من آلوا منه من نسائهم، فإن اللّه سميع لطلاقهم إياهن إن طلقوهن، علـيـم بـما أتوا إلـيهن مـما يحلّ لهم، ويحرم علـيهم. وقد استقصينا البـيان عن الدلالة علـى صحة هذا القول فـي كتابنا (كتاب اللطيف من البـيان عن أحكام شرائع الدين) فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع. ٢٢٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ... } يعنـي تعالـى ذكره: والـمطلقات اللواتـي طلقن بعد ابتناء أزواجهن بهن، وإفضائهم إلـيهن إذا كن ذوات حيض وطهر، يتربصن بأنفسهن عن نكاح الأزواج ثلاثة قروء. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل القُرء الذي عناه اللّه بقوله: يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ فقال بعضهم: هو الـحيض. ذكر من قال ذلك: ٤٠٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ قال: حِيَض. ٤٠٢٣ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ثَلاثَةَ قُروءٍ أي ثلاث حيض. يقول: تعتدّ ثلاث حيض. ٤٠٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: سمعت قتادة فـي قوله: وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ يقول: جعل عدّة الـمطلقات ثلاث حيض، ثم نسخ منها الـمطلقة التـي طلقت قبل أن يدخـل بها زوجها، واللائي يئسن من الـمـحيض، واللائي لـم يحضن، والـحامل. ٤٠٢٥ـ حدثنا علـيّ بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: القروء: الـحيض. ٤٠٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس : وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ قال: ثلاث حيض. ٤٠٢٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الأقراء الـحِيَض عن أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم. ٤٠٢٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل سمع عكرمة قال: الأقراء: الـحيض، ولـيس بـالطهر، قال تعالـى فَطَلّقُوهُنّ لِعدّتِهِنّ ولـم يقل: (لقروئهن). ٤٠٢٩ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ قال: ثلاث حيض. ٤٠٣٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ أما ثلاثة قروء: فثلاث حيض. ٤٠٣١ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي معشر، عن إبراهيـم النـخعي أنه رُفع إلـى عمر، فقال لعبد اللّه بن مسعود: لتقولنّ فـيها فقال: أنت أحقّ أن تقول قال: لتقولن قال: أقول: إن زوجها أحقّ بها ما لـم تغتسل من الـحيضة الثالثة، قال: ذاك رأيـي وافقتَ ما فـي نفسي فقضى بذلك عمر. ٤٠٣٢ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي معشر، عن النـخعي، عن قتادة، أن عمر بن الـخطاب قال لابن مسعود، فذكر نـحوه. ٤٠٣٣ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي معشر، عن النـخعي، أن عمر بن الـخطاب وابن مسعود قالا: زوجها أحقّ بها ما لـم تغتسل، أو قالا: تـحلّ لها الصلاة. ٤٠٣٤ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد بن أبـي عروبة، قال: حدثنا مطر أن الـحسن حدثهم: أن رجلاً طلق امرأته، ووكل بذلك رجلاً من أهله، أو إنسانا من أهله، فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتـى دخـلت امرأته فـي الـحيضة الثالثة، وقربت ماءها لتغتسل، فـانطلق الذي وكل بذلك إلـى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغسل، فقال: يا فلانة قالت: ما تشاء؟ قال: إنـي قد راجعتك. قالت: واللّه مالك ذلك قال: بلـى واللّه قال: فـارتفعا إلـى أبـي موسى الأشعري، فأخذ يـمينها بـاللّه الذي لا إله إلا هو إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك؟ قالت: لا واللّه ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل فردّها علـى زوجها، وقال: أنت أحقّ ما لـم تغتسل من الـحيضة الثالثة. ٤٠٣٥ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الـحسن، عن أبـي موسى الأشعري بنـحوه. ٤٠٣٦ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن، قال: قال عمر: هو أحقّ بها ما لـم تغتسل من الـحيضة الثالثة. ٤٠٣٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو الولـيد، قال: حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن يونس بن جبـير: أن عمر بن الـخطاب طلق امرأته، فأرادت أن تغتسل من الـحيضة الثالثة، فقال عمر بن الـخطاب: امرأتـي وربّ الكعبة فراجعها. قال ابن بشار: فذكرت هذا الـحديث لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: سمعت هذا الـحديث من أبـي هلال، عن قتادة، وأبو هلال لا يحتـمل هذا. ٤٠٣٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الـخطاب، فجاءت امرأة فقالت: إن زوجي طلقنـي واحدة أو إثنتـين، فجاء وقد وضعتُ مائي، وأغلقت بـابـي، ونزعت ثـيابـي. فقال عمر لعبد اللّه : ما ترى؟ قال: أراها امرأته ما دون أن تـحلّ لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك. ٤٠٣٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن إبراهيـم، عن الأسود أنه قال فـي رجل طلق امرأته ثم تركها حتـى دخـلت فـي الـحيضة الثالثة، فأرادت أن تغتسل، ووضعت ماءها لتغتسل، فراجعها: فأجازه عمر وعبد اللّه بن مسعود. ٤٠٤٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن الـحكم، عن إبراهيـم، عن الأسود، بـمثله، إلا أنه قال: ووضعت الـماء للغسل، فراجعها، فسأل عبد اللّه وعمر، فقال: هو أحقّ بها ما لـم تغتسل. ٣٧١٤حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قالا: كان عمر وعبد اللّه يقولان: إذا طلق الرجل امرأته تطلـيقة يـملك الرجعة، فهو أحقّ بها ما لـم تغتسل من حيضتها الثالثة. ٤٠٤١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الـمغيرة، عن إبراهيـم أن عمر بن الـخطاب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطلـيقة أو تطلـيقتـين، فهو أحقّ برجعتها، وبـينهما الـميراث ما لـم تغتسل من الـحيضة الثالثة. ٤٠٤٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن الـحسن: أن رجلاً طلق امرأته تطلـيقة أو تطلـيقتـين ثم وكل بها بعض أهله، فغفل الإنسان حتـى دخـلت مغتسلها، وقربت غسلها، فأتاه فآذنه، فجاء فقال: إنـي قد راجعتك فقالت: كلا واللّه قال: بلـى واللّه قالت: كلا واللّه قال: بلـى واللّه قال: فتـحالفـا، فـارتفعا إلـى الأشعري، واستـحلفها بـاللّه لقد كنت اغتسلت وحلت لك الصلاة. فأبت أن تـحلف، فردّها علـيه. ٤٠٤٣ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي معشر، عن النـخعي، أن عمر استشار ابن مسعود فـي الذي طلق امرأته تطلـيقة أو ثنتـين، فحاضت الـحيضة الثالثة، فقال ابن مسعود: أراه أحقّ بها ما لـم تغتسل، فقال عمر: وافقت الذي فـي نفسي. فردّها علـى زوجها. ٤٠٤٤ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب: أن علـيا كان يقول: هو أحقّ بها ما لـم تغتسل من الـحيضة الثالثة. ٤٠٤٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: إذا انقطع الدم فلا رجعة. ٤٠٤٦ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الـحيضة التـي طهرت منها. ٤٠٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، أن عمر سأل أبـا موسى عنها، وكان بلغه قضاؤه فـيها، فقال أبو موسى: قضيت أن زوجها أحقّ بها ما لـم تغتسل. فقال عمر: لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك. ٤٠٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب: أن علـيّ بن أبـي طالب قال فـي الرجل يتزوّج الـمرأة فـيطلقها تطلـيقة أو ثنتـين، قال: لزوجها الرجعة علـيها، حتـى تغتسل من الـحيضة الثالثة وتـحلّ لها الصلاة. ٤٠٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن رفـيع، عن أبـي عبـيدة بن عبد اللّه ، قال: أرسل عثمان إلـى أبـي يسأله عنها، فقال أبـي: وكيف يُفْتَـي منافق؟ فقال عثمان: أعيذك بـاللّه أن تكون منافقا، ونعوذ بـاللّه أن نسميك منافقا، ونعيذك بـاللّه أن يكون مثل هذا كان فـي الإسلام ثم تـموت ولـم تبـينه قال: فإنـي أرى أنه حقّ بها حتـى تغتسل من الـحيضة الثالثة وتـحلّ لها الصلاة قال: فلا أعلـم عثمان إلا أخذ بذلك. ٤٠٥٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبـي قلابة، قال: وأخبرنا معمر، عن قتادة قالا: راجع رجل امرأته حين وضعت ثـيابها تريد الاغتسال فقال: قد راجعتك، فقالت: كلا فـاغتسلت. ثم خاصمها إلـى الأشعري، فردّها علـيه. ٤٠٥١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن رفـيع، عن معبد الـجهنـي، قال: إذا غسلت الـمطلقة فرجها من الـحيضة الثالثة بـانت منه وحلت للأزواج. ٤٠٥٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حماد، عن إبراهيـم: أن عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه قال: يحلّ لزوجها الرجعة علـيها حتـى تغتسل من الـحيضة الثالثة، ويحلّ لها الصوم. ٤٠٥٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى، قالا: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، قال: قال علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه: هو أحقّ بها ما لـم تغتسل من الـحيضة الثالثة. ٤٠٥٤ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، عن علـيّ، مثله. وقال آخرون: بل القُرء الذي أمر اللّه تعالـى ذكره الـمطلقات أن يعتددن به: الطهر. ذكر من قال ذلك: ٤٠٥٥ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا سفـيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، قالت: الأقراء: الأطهار. ٤٠٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عبد اللّه بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبـيه، عن عائشة زوج النبـي صلى اللّه عليه وسلم أنها كانت تقول: الأقراء: الأطهار. ٤٠٥٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عمرة وعروة، عن عائشة قالت: إذا دخـلت الـمطلقة فـي الـحيضة الثالثة فقد بـانت من زوجها وحلت للأزواج. قال الزهري: قالت عمرة: كانت عائشة تقول: القرء: الطهر، ولـيس بـالـحيضة. ٤٠٥٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبـي بكر بن عبد الرحمن بن الـحارث بن هشام، مثل قول زيد وعائشة. ٤٠٥٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول زيد. ٤٠٦٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب وسلـيـمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال: إذا دخـلت الـمطلقة فـي الـحيضة الثالثة فقد بـانت من زوجها وحلت للأزواج. قال معمر: وكان الزهري يفتـي بقول زيد. ٤٠٦١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: بلغنـي أن عائشة قالت: إنـما الأقراء: الأطهار. ٤٠٦٢ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فلا رجعة له علـيها. ٤٠٦٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وعبد الأعلـى، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن الـمسيب فـي رجل طلق امرأته واحدة أو إثنتـين، قال: قال زيد بن ثابت: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فلا رجعة له علـيها. وزاد ابن أبـي عديّ قال: قال علـيّ بن أبـي طالب: هو أحقّ بها ما لـم تغتسل. ٤٠٦٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن الـمسيب، عن زيد وعلـيّ، بـمثله. ٤٠٦٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي الزناد، عن سلـيـمان بن يسار عن زيد بن ثابت، قال: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فلا ميراث لها. ٤٠٦٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن نافع، عن سلـيـمان بن يسار: أن الأحوص رجل من أشراف أهل الشام طلق امرأته تطلـيقة أو إثنتـين، فمات وهي فـي الـحيضة الثالثة، فرفعت إلـى معاوية، فلـم يوجد عنده فـيها علـم، فسأل عنها فضالة بن عبـيد ومن هناك من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلـم يوجد عندهم فـيها علـم، فبعث معاوية راكبـا إلـى زيد بن ثابت، فقال: لا ترثه، ولو ماتت لـم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك. ٤٠٦٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سلـيـمان بن يسار أن رجلاً يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطلـيقة، فمات وقد دخـلت فـي الـحيضة الثالثة، فرفع إلـى معاوية، فلـم يدر ما يقول، فكتب فـيها إلـى زيد بن ثابت، فكتب إلـيه زيد: إذا دخـلت الـمطلقة فـي الـحيضة الثالثة فلا ميراث بـينهما. ٤٠٦٨ـ حدثنا مـحمد بن يحيى،قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن سلـيـمان بن يسار، أن رجلاً يقال له الأحوص، فذكر نـحوه عن معاوية وزيد. ٤٠٦٩ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فلا رجعة له علـيها. ٤٠٧٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال فـي الـمطلقة: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فقد بـانت. ٤٠٧١ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عمر بن مـحمد، أن نافعا أخبره، عن عبد اللّه بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا دخـلت الـمرأة فـي الدم من الـحيضة الثالثة، فإنها لا ترثه ولا يرثها، وقد برئت منه وبرىء منها. ٤٠٧٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: بلغنـي، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلقت الـمرأة، فدخـلت فـي الـحيضة الثالثة أنه لـيس بـينهما ميراث ولا رجعة. ٤٠٧٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت سالـم بن عبد اللّه يقول مثل قول زيد بن ثابت. ٤٠٧٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: وسمعت يحيى يقول: بلغنـي عن أبـان بن عثمان أنه كان يقول ذلك. ٤٠٧٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن زيد بن ثابت، مثل ذلك. ٤٠٧٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع: أن معاوية بعث إلـى زيد بن ثابت، فكتب إلـيه زيد: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فقد بـانت. وكان ابن عمر يقوله. ٤٠٧٧ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سلـيـمان وزيد بن ثابت أنهما قالا: إذا حاضت الـحيضة الثالثة فلا رجعة، ولا ميراث. ٤٠٧٨ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن قـيس بن سعد، عن بكير بن عبد اللّه بن الأشج، عن زيد بن ثابت، قال: إذا طلق الرجل امرأته، فرأت الدم فـي الـحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها. ٤٠٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة عن موسى بن شداد، عن عمر بن ثابت الأنصاري، قال: كان زيد بن ثابت يقول: إذا حاضت الـمطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يـملك رجعتها. ٤٠٨٠ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا: إذا دخـلت فـي الـحيضة الثالثة فلا رجعة له علـيها. قال أبو جعفر: والقُرء فـي كلام العرب: جمعه قروء، وقد تـجمعه العرب أقراء، يقال فـي أفعل منه: أقرأت الـمرأة: إذا صارت ذات حيض وطهر، فهي تقرىء إقراء. وأصل القرء فـي كلام العرب: الوقت لـمـجيء الشيء الـمعتاد مـجيئه لوقت معلوم، ولإدبـار الشيء الـمعتاد إدبـاره لوقت معلوم، ولذلك قالت العرب: أقرأت حاجة فلان عندي، بـمعنى دنا قضاؤها، وجاء وقت قضائها وأقرأ النـجم: إذا جاء وقت أفوله، وأقرأ: إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر: إذَا ما الثّرَيّا وقَدْ أقْرأَتَأحَسّ السّماكانِ مِنها أُفُولاَ وقـيـل: أقرأت الريح: إذا هبت لوقتها، كما قال الهذلـي: شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بنـي شَلِـيـلٍإذَا هَبّتْ لِقارِئها الرّياحُ بـمعنى هبت لوقتها وحين هبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مـجيء الـحيض قرءا، إذا كان دما يعتاد طهوره من فرج الـمرأة فـي وقت، وكمونه فـي آخر، فسمي وقت مـجيئه قرءا، كما سمى الذين سموا وقت مـجيء الريح لوقتها قرءا، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم لفـاطمة بنت أبـي حبـيش: (دَعِي الصّلاةَ أيّامَ أقْرائِكِ) بـمعنى: دعي الصلاة أيام إقبـال حيضك. وسمى آخرون من العرب وقت مـجيء الطهر قرءا، إذ كان وقت مـجيئه وقتا لإدبـار الدم دم الـحيض، وإقبـال الطهر الـمعتاد مـجيئه لوقت معلوم، فقال فـي ذلك الأعشى ميـمون بن قـيس: وفـي كُلّ عامٍ أنْتَ جاشِمُ غَزْوَةٍتَشُدّ لأقصَاها عَزِيـمَ عَزائِكا مُوَرّثَةٍ مالاً وفـي الذّكْرِ رِفعَةًلـمَا ضاعَ فـيها مِنْ قُرُوءِ نسائِكا فجعل القرء: وقت الطهر. ولـما وصفنا من معنى القرء أشكل تأويـل قول اللّه : وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ علـى أهل التأويـل، فرأى بعضهم أن الذي أمرت به الـمرأة الـمطلقة ذات الأقراء من الأقراء أقراء الـحيض، وذلك وقت مـجيئه لعادته التـي تـجيء فـيه، فأوجب علـيها تربص ثلاث حيض بنفسها عن خطبة الأزواج. ورأى آخرون أن الذي أمرت به من ذلك إنـما هو أقراء الطهر، وذلك وقت مـجيئه لعادته التـي تـجيء فـيه، فأوجب علـيها تربص ثلاث أطهار. فإذ كان معنى القرء ما وصفنا لـما بـينا، وكان اللّه تعالـى ذكره قد أمر الـمريد بطلاق امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرا غير مـجامعة، وحرم علـيه طلاقها حائضا، كان اللازم للـمطلقة الـمدخول بها إذا كانت ذات أقراء تربص أوقات مـحدودة الـمبلغ بنفسها عقـيب طلاق زوجها إياها أن تنظر إلـى ثلاثة قروء بـين طهري كل قرء منهنّ قرء، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءا تتربصهن. فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدتها وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخـلت فـي عداد من تربص من الـمطلقات بنفسها ثلاثة قروء بـين طهري كل قرء منهنّ قرء له مخالف، وإذا فعلت ذلك كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالـى ذكره بظاهر تنزيـله. فقد تبـين إذا إذ كان الأمر علـى ما وصفنا أن القرء الثالث من أقرائها علـى ما بـينا الطهر الثالث، وأن بـانقضائه ومـجيء قرء الـحيض الذي يتلوه انقضاء عدتها. فإن ظنّ ذو غبـاوة إذ كنا قد نسمي وقت مـجيء الطهر قرءا، ووقت مـجيء الـحيض قرءا أنه يـلزمنا أن نـجعل عدة الـمرأة منقضية بـانقضاء الطهر الثانـي، إذ كان الطهر الذي طلقها فـيه، والـحيضة التـي بعده، والطهر الذي يتلوها أقراء كلها فقد ظن جهلاً، وذلك أن الـحكم عندنا فـي كل ما أنزله اللّه فـي كتابه علـى ما احتـمله ظاهر التنزيـل ما لـم يبـين اللّه تعالـى ذكره لعبـاده، أن مراده منه الـخصوص، إما بتنزيـل فـي كتابه، أو علـى لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خص من ذلك غير داخـل فـي الـجملة التـي أوجب الـحكم بها، وكان سائرها علـى عمومها، كما قد بـينا فـي كتابنا: (كتاب لطيف القول من البـيان عن أصول الأحكام) وغيره من كتبنا. فـالأقراء التـي هي أقراء الـحيض بـين طهري أقراء الطهر غير مـحتسبة من أقراء الـمتربصة بنفسها بعد الطلاق لإجماع الـجميع من أهل الإسلام أن الأقراء التـي أوجب اللّه علـيها تربصهن ثلاثة قروء، بـين كل قرء منهن أوقات مخالفـات الـمعنى لأقرائها التـي تربصهن، وإذ كن مستـحقات عندنا اسم أقراء، فإن ذلك من إجماع الـجميع لـم يجز لها التربص إلا علـى ما وصفنا قبل. وفـي هذه الآية دلـيـل واضح علـى خطأ قول من قال: إن امرأة الـمولـي التـي آلَـى منها تـحلّ للأزواج بـانقضاء الأشهر الأربعة إذا كانت قد حاضت ثلاث حيض فـي الأشهر الأربعة لأن اللّه تعالـى ذكره إنـما أوجب علـيها العدة بعد عزم الـمولـي علـى طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله: وَإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ فأوجب تعالـى ذكره علـى الـمرأة إذا صارت مطلقة تربص ثلاثة قروء، فمعلوم أنها لـم تكن مطلقة يوم آلـى منها زوجها لإجماع الـجميع علـى أن الإيلاء لـيس بطلاق موجب علـى الـمولَـى منها العدة. وإذ كان ذلك كذلك، فـالعدة إنـما تلزمها بعد الطلاق، والطلاق إنـما يـلـحقها بـما قد بـيناه قبل. وأما معنى قوله: وَالـمُطَلّقاتُ فإنه: والـمخـلـيات السبـيـل غير مـمنوعات بأزواج ولا مخطوبـات، وقول القائل: فلانة مطلقة، إنـما هو مُفعّلة من قول القائل: طلق الرجل زوجته فهي مطلقة وأما قولهم: هي طالق، فمن قولهم: طلقها زوجها فطلقت هي، وهي تَطْلُق طلاقا، وهي طالق. وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول: طَلَقت الـمرأة وإنـما قـيـل ذلك لها إذا خلاها زوجها، كما يقال للنعجة الـمهملة بغير راع ولا كالـىء إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مخلاة سبـيـلها: هي طالق فمثلت الـمرأة الـمخلاة سبـيـلها بها، وسميت بـما سميت به النعجة التـي وصفنا أمرهاوأما قولهم: طُلِقَت الـمرأة، فمعنى غير هذا إنـما يقال فـي هذا إذا نفست، هذا من الطلق، والأول من الطلاق. وقد بـينا أن التربص إنـما هو التوقـف عن النكاح، وحبس النفس عنه فـي غير هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ إنْ كُنّ يُؤمِنّ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: تأويـله: ولا يحلّ لهنّ، يعنـي للـمطلقات أن يكتـمن ما خـلق اللّه فـي أرحامهن من الـحيض إذا طلقن، حرم علـيهنّ أن يكتـمن أزواجهنّ الذين طلقوهن فـي الطلاق الذي علـيهم لهن فـيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة علـيهن. ذكر من قال ذلك: ٤٠٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: قال اللّه تعالـى ذكره: وَالـمُطَلّقاتُ يَترَبّصْنَ بأنْفُسهِنّ ثَلاثَة قُرُوءٍ إلـى قوله: وللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ واللّه عَزِيزٌ حَكِيـمٌ قال: بلغنا أن ما خـلق فـي أرحامهن الـحمل، وبلغنا أنه الـحيضة، فلا يحلّ لهنّ أن يكتـمن ذلك لتنقضي العدة ولا يـملك الرجعة إذا كانت له. ٤٠٨٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ قال: الـحيض. ٤٠٨٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ قال: أكثر ذلك الـحيض. ٤٠٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرفـا، عن الـحكم، قال: قال إبراهيـم فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ قال: الـحيض. ٤٠٨٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا خالد الـحذاء، عن عكرمة فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ قال: الـحيض. ثم قال خالد: الدم. وقال آخرون: هو الـحيض، غير أن الذي حرّم اللّه تعالـى ذكره علـيها كتـمانه فـيـما خـلق فـي رحمها من ذلك هو أن تقول لزوجها الـمطلق وقد أراد رجعتها قبل الـحيضة الثالثة: قد حضت الـحيضة الثالثة كاذبة، لتبطل حقه بقـيـلها البـاطل فـي ذلك. ذكر من قال ذلك: ٤٠٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبـيدة بن مُعَتّب، عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ قال: الـحيض الـمرأة تعتد قرءين، ثم يريد زوجها أن يراجعها، فتقول: قد حضت الثالثة. ٤٠٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ مَا خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهِنّ قال: أكثر ما عنـي به الـحيض. وقال آخرون: بل الـمعنى الذي نهيت عن كتـمانه زوجها الـمطلق الـحبل والـحيض جميعا. ذكر من قال ذلك: ٤٠٨٨ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ من الـحيض والـحمل، لا يحلّ لها إن كانت حائضا أن تكتـم حيضها، ولا يحلّ لها إن كانت حاملاً أن تكتـم حملها. ٤٠٨٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن ادريس، قال: سمعت مطرفـا، عن الـحكم، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ قال: الـحمل والـحيض. قال: ابن كريب: قال ابن إدريس: هذا أول حديث سمعته من طرف. ٤٠٩٠ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن الـحكم، عن مـجاهد، مثله، إلا أنه قال: الـحبل. ٤٠٩١ـ حدثنا إسماعيـل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّقال: من الـحيض والولد. ٤٠٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مسلـم بن خالد الزنـجي، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّقال: من الـحيض والولد. ٤٠٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ قال: لا يحلّ للـمطلقة أن تقول إنـي حائض ولـيست بحائض، ولا تقول: إنـي حبلـى ولـيست بحبلـى، ولا تقول: لست بحبلـى وهي بحبلـى. ٤٠٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٤٠٩٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الـحجاج، عن مـجاهد، قال: الـحيض والـحبل، قال: تفسير أن لا تقول إنـي حائض ولـيست بحائض، ولا لـيست بحائض وهي حائض، ولا أنـي حبلـى ولـيست بحبلـى، ولا لست بحبلـى وهي حبلـى. ٤٠٩٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الـحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مـجاهد نـحو هذا التفسير فـي هذه الآية. ٤٠٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد، مثله، وزاد فـيه: قال: وذلك كله فـي بغض الـمرأة زوجها وحبه. ٤٠٩٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ يقول: لا يحلّ لهن أن يكتـمن ما خـلق اللّه فـي أرحامهن من الـحيض والـحبل، لا يحلّ لها أن تقول: إنـي قد حضت ولـم تـحض، ولا يحلّ أن تقول: إنـي لـم أحض وقد حاضت، ولا يحلّ لها أن تقول: إنـي حبلـى ولـيست بحبلـى، ولا أن تقول: لست بحبلـى وهي حبلـى. ٤٠٩٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ الآية، قال: لا يكتـمن الـحيض ولا الولد، ولا يحلّ لها أن تكتـمه وهو لا يعلـم متـى تـحلّ لئلا يرتـجعها مضارة. ٤١٠٠ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ يعنـي الولد، قال: الـحيض والولد هو الذي اؤتـمن علـيه النساء. وقال آخرون: بل عنى بذلك الـحبل. ثم اختلف قائلو ذلك فـي السبب الذي من أجله نهيت عن كتـمان ذلك الرجل، فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقّ الزوج من الرجعة إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها. ذكر من قال ذلك: ٤١٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن قبـاث بن رزين، عن علـيّ بن ربـاح أنه حدثه أن عمر بن الـخطاب قال لرجل: اتل هذه الآية فتلا. فقال: إن فلانة مـمن يكتـمن ما خـلق اللّه فـي أرحامهن. وكانت طلقت وهي حبلـى، فكتـمت حتـى وضعت. ٤١٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطلـيقة أو تطلـيقتـين وهي حامل، فهو أحقّ برجعتها ما لـم تضع حملها، وهوقوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ إنْ كُنّ يُوءْمِنّ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ. ٤١٠٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: الطلاق مرّتان بـينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلقها بعد هاتـين فهي ثالثة، وإن طلّقها ثلاثا فقد حرمت علـيه حتـى تنكح زوجا غيره. إنـما اللاتـي ذكرن فـي القرآن: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ إنْ كُنّ يُوءْمِنّ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ وَبُعُولَتُهُنّ أحَقّ برَدّهِنّ هي التـي طلقت واحدة أو ثنتـين، ثم كتـمت حملها لكي تنـجو من زوجها، فأما إذا بت الثلاث تطلـيقات فلا رجعة له علـيها حتـى تنكح زوجا غيره. وقال آخرون: السبب الذي من أجله نهين عن كتـمان ذلك أنهن فـي الـجاهلـية كنّ يكتـمنه أزواجهنّ خوف مراجعتهم إياهن حتـى يتزوّجن غيرهم، فـيُـلـحق نَسَبُ الـحمل الذي هو من الزوج الـمطلّق بـمن تزوجته فحرّم اللّه ذلك علـيهن. ذكر من قال ذلك: ٤١٠٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ قال: كانت الـمرأة إذا طلقت كتـمت ما فـي بطنها وحملها لتذهب بـالولد إلـى غير أبـيه، فكره اللّه ذلك لهن. ٤١٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ قال: علـم اللّه أن منهن كواتـم يكتـمن الولد، وكان أهل الـجاهلـية كان الرجل يطلق امرأته وهي حامل، فتكتـم الولد وتذهب به إلـى غيره، وتكتـم مخافة الرجعة، فنهى اللّه عن ذلك، وقدّم فـيه. ٤١٠٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ قال: كانت الـمرأة تكتـم حملها حتـى تـجعله لرجل آخر منها. وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نهين عن كتـمان ذلك، هو أن الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حمل لكيلا يطلقها، وهي حامل منه للضرر الذي يـلـحقه وولده فـي فراقها إن فـارقها، فأمرن بـالصدق فـي ذلك ونهين عن الكذب. ذكر من قال ذلك: ٤١٠٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ فـالرجل يريد أن يطلق امرأته فـيسألها: هل بك حمل؟ فتكتـمه إرادة أن تفـارقه، فـيطلقها وقد كتـمته حتـى تضع. وإذا علـم بذلك فإنها تردّ إلـيه عقوبة لـما كتـمته، وزوجها أحقّ برجعتها صاغرة. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية قول من قال: الذي نهيت الـمرأة الـمطلقة عن كتـمانه زوجها الـمطلقها تطلـيقة أو تطلـيقتـين مـما خـلق اللّه فـي رحمها الـحيض والـحبل لأنه لا خلاف بـين الـجميع أن العدة تنقضي بوضع الولد الذي خـلق اللّه فـي رحمها كما تنقضي بـالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث فـي قول من قال: القرء: الطهر، وفـي قول من قال: هو الـحيض إذا انقطع من الـحيضة الثالثة فتطهرت بـالاغتسال. فإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه تعالـى ذكره إنـما حرم علـيهن كتـمان الـمطلق الذي وصفنا أمره ما يكون بكتـمانهن إياه بُطولُ حقه الذي جعله اللّه له بعد الطلاق علـيهن إلـى انقضاء عددهن، وكان ذلك الـحق يبطل بوضعهن ما فـي بطونهن إن كنّ حوامل، وبـانقضاء الأقرار الثلاثة إن كنّ غير حوامل، علـم أنهنّ منهيات عن كتـمان أزواجهنّ الـمطلقـين من كل واحد منهما أعنـي من الـحيض والـحبل مثل الذي هنّ منهيات عنه من الاَخر، وأن لا معنى لـخصوص من خص بأن الـمراد بـالآية من ذلك أحدهما دون الاَخر، إذا كان جميع مـما خـلق اللّه فـي أرحامهن، وأن فـي كل واحدة منهما من معنى بطول حق الزوج بـانتهائه إلـى غاية مثل ما فـي الاَخر. ويسأل من خص ذلك فجعله لأحد الـمعنـيـين دون الاَخر عن البرهان علـى صحة دعواه من أصل أو حجة يجب التسلـيـم لها، ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك، فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله. وأما الذي قاله السدي من أنه معنـي به نهي النساء كتـمان أزواجهن الـحبل عند إرادتهم طلاقهن، فقول لـما يدل علـيه ظاهر التنزيـل مخالف، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قال: وَالـمُطَلّقاتُ يَتَرَبَصْنَ بأنْفُسِهنّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ بـمعنى: ولا يحل أن يكتـمن ما خـلق اللّه فـي أرحامهن من الثلاثة القروء إن كن يؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر. وذلك أن اللّه تعالـى ذكره ذكر تـحريـم ذلك علـيهن بعد وصفه إياهن بـما وصفهن به من فراق أزواجهن بـالطلاق، وإعلامهن ما يـلزمهن من التربص معرّفـا لهن بذلك ما يحرم علـيهن وما يحلّ، وما يـلزمهن من العدة ويجب علـيهن فـيها، فكان مـما عرّفهن أن من الواجب علـيهن أن لا يكتـمن أزواجهن الـحيض والـحبل الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلـى نهاية مـحدودة انقطاع حقوق أزواجهن ضرار منهن لهم، فكان نهيه عما نهاهن عنه من ذلك بأن يكون من صفة ما يـلـيه قبله ويتلوه بعده، أولـى من أن يكون من صفة ما لـم يجر له ذكر قبله. فإن قال قائل: ما معنى قوله: إنْ كُنّ يُوءْمِنّ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِر أو يحلّ لهن كتـمان ذلك أزواجهن إن كنّ لا يؤمنّ بـاللّه ولا بـالـيوم الاَخر حتـى خص النهي عن ذلك الـمؤمنات بـاللّه والـيوم الاَخر؟ قـيـل: معنى ذلك علـى غير ما ذهبت إلـيه، وإنـما معناه: أن كتـمان الـمرأة الـمطلقة زوجها الـمطلقها ما خـلق اللّه تعالـى فـي رحمها من حيض وولد فـي أيام عدتها من طلاقه ضرارا له لـيس من فعل من يؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر ولا من أخلاقه، وإنـما ذلك من فعل من لا يؤمن بـاللّه ولا بـالـيوم الاَخر وأخلاقهن من النساء الكوافر فلا تتـخـلقن أيتها الـمؤمنات بأخلاقهن، فإن ذلك لا يحل لكن إن كنتن تؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر وكنتنّ من الـمسلـمات لا أن الـمؤمنات هن الـمخصوصات بتـحريـم ذلك علـيهنّ دون الكوافر، بل الواجب علـى كل من لزمته فرائض اللّه من النساء اللواتـي لهن أقراء إذا طلقت بعد الدخول بها فـي عدتها أن لا تكتـم زوجها ما خـلق اللّه فـي رحمها من الـحيض والـحبل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ إنْ أَرادُوا إصْلاَحا. والبعولة جمع بعل: وهو الزوج للـمرأة، ومنه قول جرير: أعِدّوا مَعَ الـحَلْـيِ الـملاَبَ فإنّـمَاجَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وأنْتُـمْ حَلائِلُهْ وقد يجمع البعل والبعول، كما يجمع الفحل والفحول والفحولة، والذكر الذكور والذكورة. وكذلك ما كان علـى مثال (فعول) من الـجمع، فإن العرب كثـيرا ما تدخـل فـيه الهاء، فإما ما كان منها علـى مثال (فِعال) فقلـيـل فـي كلامهم دخول الهاء فـيه، وقد حكي عنهم العظام والعظامة، ومنه قول الراجر: (ثم دَفنْتَ الفَرْثَ والْعِظامَة ) الـحجارة والـحجار، والـمهارة والـمهار، والذكارة والذكار، للذكور. وأما تأويـل الكلام، فإنه: أزواج الـمطلقات اللاتـي فرضنا علـيهنّ أن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، وحرمنا عيـلهنّ أن يكتـمن ما خـلق اللّه فـي أرحامهن، أحق وأولـى بردّهن إلـى أنفسهم فـي حال تربصهن إلـى الأقراء الثلاثة، وأيام الـحبل، وارتـجاعهن إلـى حبـالهن منهم بأنفسهن أن يـمنعهن من أنفسهن ذلك كما: ٤١٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ إنْ أَرادُوا إصْلاَحا يقول: إذ طلق الرجل امرأته تطلـيقة أو ثنتـين، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لـم تضع. ٤١٠٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ قال: فـي العدة. ٤١١٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري، قالا: قال اللّه تعالـى ذكره: وَالـمُطَلّقاتُ يَتَرَبَصْنَ بأنْفُسِهنّ ثَلاثَةَ قُرُوء وَلا يَحِلّ لَهُنّ أنْ يَكْتُـمْنَ ما خَـلَقَ اللّه فِـي أرْحامِهنّ إنْ كُنّ يُوءْمِنّ بـاللّه وَالـيَومِ الاَخِرِ وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ إنْ أَرادُوا إصْلاَحا وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته كان أحقّ برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال: الطّلاقُ مَرّتَانِ... الآية. ٤١١١ـ حدثنا موسى بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ فـي عدتهن. ٤١١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤١١٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: فـي العدة. ٤١١٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ أي فـي القروء فـي الثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، أو كانت حاملاً، فإذا طلقها زوجها واحدة أو اثنتـين راجعها إن شاء ما كانت فـي عدتها. ٤١١٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ قال: كانت الـمرأة تكتـم حملها حتـى تـجعله لرجل آخر، فنهاهن اللّه عن ذلك وقال: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ قال قتادة: أحقّ برجعتهن فـي العدة. ٤١١٦ـ حديث عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ يقول: فـي العدة ما لـم يطلقها ثلاثا. ٤١١٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ يقول: أحقّ برجعتها صاغرة عقوبة لـما كتـمت زوجها من الـحمل. ٤١١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ أحقّ برجعتهن ما لـم تنقض العدة. ٤١١٩ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ قال: ما كانت فـي العدة إذا أراد الـمراجعة. فإن قال لنا قائل: فما لزوج طلق واحدة أو اثنتـين بعد الإفضاء إلـيها علـيها رجعة فـي أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدا بـالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟ قـيـل: أما فـيـما بـينه وبـين اللّه تعالـى فغير جائز إذا أراد ضرارها بـالرجعة لا إصلاح أمرها وأمره مراجعتهاوأما فـي الـحكم فإنه مقضيّ له علـيها بـالرجعة نظير ما حكمنا علـيه ببطول رجعته علـيها لو كتـمته حملها الذي خـلقه اللّه فـي رحمها أو حيضها حتـى انقضت عدتها ضرارا منها له، وقد نهى اللّه عن كتـمانه ذلك، فكان سواء فـي الـحكم فـي بطول رجعة زوجها علـيها وقد أثمت فـي كتـمانها إياه ما كتـمته من ذلك حتـى انقضت عدتها هي والتـي أطاعت اللّه بتركها كتـمان ذلك منه، وإن اختلفـا فـي طاعة اللّه فـي ذلك ومعصيته، فكذلك الـمراجع زوجته الـمطلقة واحدة أو ثنتـين بعد الإفضاء إلـيها وهما حران، وإن أراد ضرار الـمراجعة برجعته فمـحكوم له بـالرجعة وإن كان آثما برأيه فـي فعله ومقدما علـى ما لـم يبحه اللّه له، واللّه ولّـي مـجازاته فـيـما أتـى من ذلك. فأما العبـاد فإنهم غير جائز لهم الـحول بـينه وبـين امرأته التـي راجعها بحكم اللّه تعالـى ذكره له بأنها حينئذ زوجته، فإن حاول ضرارها بعد الـمراجعة بغير الـحقّ الذي جعله اللّه له أخذ لها الـحقوق التـي ألزم اللّه تعالـى ذكره الأزواج للزوجات حتـى يعدو ضرر ما أراد من ذلك علـيه دونها، وفـي قوله: وَبُعُولَتُهنّ أحَقّ بِرَدّهِنّ فـي ذَلِكَ أبـين الدلالة علـى صحة قول من قال: إنّ الـمؤلـي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التـي آلـى منها أن له علـيها الرجعة فـي طلاقه ذلك، وعلـى فساد قول من قال: إن مضّي الأشهر الأربعة عزم الطلاق، وأنه تطلـيقه بـائنة، لأن اللّه تعالـى ذكره إنـما أعلـم عبـاده ما يـلزمهم إذا آلوا من نسائهم وما يـلزم النساء من الأحكام فـي هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفـيء. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ولَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَـيْهِنّ بـالْـمَعْرُوفِ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: تأويـله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بـالـمعروف علـى أزواجهن مثل الذي علـيهنّ لهم من الطاعة فـيـما أوجب اللّه تعالـى ذكره له علـيها. ذكر من قال ذلك: ٤١٢٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو عاصم، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَـيْهِنّ بـالـمَعْرُوف قال: إذا أطعن اللّه وأطعن أزواجهنّ، فعلـيه أن يحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، وينفق علـيها من سعته. ٤١٢١ـ حدثنـي يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ولَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَـيْهِنّ بـالـمَعْرُوفِ قال: يتقون اللّه فـيهنّ كما علـيهنّ أن يتقـين اللّه فـيهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ علـى أزواجهن من التصنع والـمواتاة مثل الذي علـيهنّ لهم فـي ذلك. ذكر من قال ذلك: ٤١٢٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن بشير بن سلـمان، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: إنـي أحبّ أن أتزين للـمرأة، كما أحبّ أن تتزين لـي لأن اللّه تعالـى ذكره بقول: وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَـيْهِن بـالـمَعْرُوفِ. والذي هو أولـى بتأويـل الآية عندي: وللـمطلقات واحدة أو ثنتـين بعد الإفضاء إلـيهنّ علـى بعولتهن أن لا يراجعوهنّ ضرارا فـي أقرائهن الثلاثة إذا أرادوا رجعتهن فـيه إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم فلا يراجعوهن ضرارا، كما علـيهنّ لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فـيهنّ أن لا يكتـمن ما خـلق اللّه فـي أرحامهن من الولد ودم الـحيض ضرارا منهنّ لهم لَـيُفْتنَهُم بأنفسهنّ، ذلك أن اللّه تعالـى ذكره نهى الـمطلقات عن كتـمان أزواجهن فـي أقرائهنّ ما خـلق اللّه فـي أرحامهنّ إن كنّ يؤمنّ بـاللّه والـيوم الاَخر، وجعل أزواجهنّ أحقّ بردّهنّ فـي ذلك إن أرادوا إصلاحا، فحرّم اللّه علـى كل واحد منهما مضارّة صاحبه، وعرّف كل واحد منهما ما له وما علـيه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله: ولَهُنّ مِثْلَ الّذِي عَلَـيْهِنّ بـالـمَعْرُوفِ فبـين أن الذي علـى كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته مثل الذي له علـى صاحبه من ذلك. فهذا التأويـل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيـل من غيره، وقد يحتـمل أن يكون كل ما علـى كل واحد منها لصاحبه داخلاً فـي ذلك، وإن كانت الآية نزلت فـيـما وصفنا، لأن اللّه تعالـى ذكره قد جعل لكل واحد منهما علـى الاَخر حقا، فلكل واحد منهما علـى الاَخر من أداء حقه إلـيه مثل الذي علـيه له، فـيدخـل حينئذ فـي الآية ما قاله الضحاك وابن عبـاس وغير ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَللِرّجال عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى الدرجة التـي جعل اللّه للرجال علـى النساء الفضل الذي فضلهم اللّه علـيهن فـي الـميراث والـجهاد وما أشبه ذلك. ذكر من قال ذلك: ٤١٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَللِرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: فضل ما فضله اللّه به علـيها من الـجهاد، وفضل ميراثه، وكل ما فُضّل به علـيها. ٤١٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤١٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر: عن قتادة: وَللِرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: للرجال درجة فـي الفضل علـى النساء. وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمرة والطاعة. ذكر من قال ذلك: ٤١٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن زيد بن أسلـم فـي قوله: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: إمارة. ٤١٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: طاعة قال: يطعن الأزواج الرجال، ولـيس الرجال يطيعونهنّ. ٣حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن مـحمد فـي قوله: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: لا أعلـم إلا أن لهنّ مثل الذي علـيهنّ إذا عرفن تلك الدرجة. وقال آخرون: تلك الدرجة له علـيها بـما ساق إلـيها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدّت، وإذا قذفها لاعن. ذكر من قال ذلك: ٤١٢٨ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبـيدة، عن الشعبـي فـي قوله: وَللرّجال عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: بـما أعطاها من صداقها، وأنه إذا قذفها لاعنها، وإذا قذفته جلدت وأقرّت عنده. وقال آخرون: تلك الدرجة التـي له علـيها إفضاله علـيها وأداء حقها إلـيها، وصفحه عن الواجب له علـيها، أو عن بعضه. ذكر من قال ذلك: ٤١٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن بشير بن سلـمان، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: ما أحبّ أن أستنظف جميع حقـي علـيها، لأن اللّه تعالـى ذكره يقول: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ. وقال آخرون: بل تلك الدرجة التـي له علـيها أن جعل له لـحية وحرمها ذلك. ذكر من قال ذلك: ٤١٣٠ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا عبـيد بن الصبـاح، قال: حدثنا حميد، قال: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ قال: لـحية. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية ما قاله ابن عبـاس ، وهو أن الدرجة التـي ذكر اللّه تعالـى ذكره فـي هذا الـموضع الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب علـيها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها علـيه، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قال: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ عقـيب قوله: وَلَهُنّ مِثْلُ الّذِي عَلَـيْهُنّ بـالـمَعْرُوف فأخبر تعالـى ذكره أن علـى الرجل من ترك ضرارها فـي مراجعته إياها فـي أقرائها الثلاثة وفـي غير ذلك من أمورها وحقوقها، مثل الذي له علـيها من ترك ضراره فـي كتـمانها إياه ما خـلق اللّه فـي أرحامهن وغير ذلك من حقوقه. ثم ندب الرجال إلـى الأخذ علـيهنّ بـالفضل إذا تركن أداء بعض ما أوجب اللّه لهم علـيهنّ، فقال تعالـى ذكره: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ بتفضلهم علـيهن، وصفحهم لهنّ عن بعض الواجب لهم علـيهنّ، وهذا هو الـمعنى الذي قصده ابن عبـاس بقوله: ما أحبّ أن أستنظف جميع حقـي علـيها لأن اللّه تعالـى ذكره يقول: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ. ومعنى الدرجة: الرتبة والـمنزلة، وهذا القول من اللّه تعالـى ذكره، وإن كان ظاهره ظاهر الـخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلـى الأخذ علـى النساء بـالفضل لـيكون لهم علـيهنّ فضل درجة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه عَزيزٌ حَكِيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واللّه عزيز فـي انتقامه مـمن خالف أمره، وتعدّى حدوده، فأتـى النساء فـي الـمـحيض، وجعل اللّه عرضة لأيـمانه أن يبرّ ويتقـي، ويصلـح بـين الناس، وعضل امرأته بإيلائه، وضارّها فـي مراجعته بعد طلاقه، ولـمن كتـم من النساء ما خـلق اللّه فـي أرحامهنّ أزواجهنّ، ونكحن فـي عددهنّ، وتركن التربص بأنفسهنّ إلـى الوقت الذي حدّه اللّه لهنّ، وركبن غير ذلك من معاصيه، حكيـم فـيـما دبر فـي خـلقه، وفـيـما حكم وقضى بـينهم من أحكامه. كما: ٤١٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَاللّه عَزيزٌ حَكِيـمٌ يقول: عزيز فـي نقمته، حكيـم فـي أمره. وإنـما توعد اللّه تعالـى ذكره بهذا القول عبـاده لتقديـمه قبل ذلك بـيان ما حرم علـيهم أو نهاهم عنه من ابتداء قوله: وَلاَ تَنْكِحُوا الـمُشْرِكاتِ حتـى يُؤْمِنّ إلـى قوله: وَللرّجالِ عَلَـيْهِنّ دَرَجَةٌ ثم أتبع ذلك بـالوعيد لـيزدجر أولو النهي، ولـيذكر أولو الـحجا، فـيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه. ٢٢٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ... } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: هو دلالة علـى عدد الطلاق الذي يكون للرجل فـيه الرجعة علـى زوجته، والعدد الذي تبـين به زوجته منه. ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الـجاهلـية وأهل الإسلام قبل نزولها لـم يكن لطلاقهم نهاية تبـين بـالانتهاء إلـيها امرأته منه ما راجعها فـي عدتها منه، فجعل اللّه تعالـى ذكره لذلك حدا حرم بـانتهاء الطلاق إلـيه علـى الرجل امرأته الـمطلقة إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه. ذكر الأخبـار الواردة بـما قلنا فـي ذلك: ٤١٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدّتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار علـى امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تـحلـين منـي قالت له: كيف؟ قال: أطلقك، حتـى إذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك قال: فشكت ذلك إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْسَاكٌ بِـمَعْرُوفٍ... الآية. ٤١٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن أبـيه، قال رجل لامرأته علـى عهد النبـي صلى اللّه عليه وسلم: لا آويك، ولا أدعك تـحلـين فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فمتـى تـحلـين؟ فأتت النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانِ فـاستقبله الناس جديدا من كان طلق ومن لـم يكن طلق. ٤١٣٤ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان أهل الـجاهلـية كان الرجل يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجع ما كانت فـي العدة، فجعل اللّه حدّ الطلاق ثلاث تطلـيقات. ٤١٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان أهل الـجاهلـية يطلق أحدهم امرأته ثم يراجعها لا حدّ فـي ذلك، هي امرأته ما راجعها فـي عدتها، فجعل اللّه حدّ ذلك يصير إلـى ثلاثة قروء، وجعل حدّ الطلاق ثلاث تطلـيقات. ٤١٣٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ قال كان الطلاق قبل أن يجعل اللّه الطلاق ثلاث لـيس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تـحلّ كان ذلك له، وطلق رجل امرأته حتـى إذا كادت أن تـحلّ ارتـجعها، ثم استأنف بها طلاقا بعد ذلك لـيضارّها بتركها، حتـى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارا. فلـما علـم اللّه ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثا، مرتـين، ثم بعد الـمرتـين إمساك بـمعروف، أو تسريح بإحسان. ٣حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ أما قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فهو الـميقات الذي يكون علـيها فـيه الرجعة. ٣حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة فـي قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فَإِمْسَاكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فـيطلقها تطلـيقتـين، فإن أراد أن يراجعها كانت له علـيها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلـم تـحلّ له حتـى تنكح زوجا غيره. فتأويـل الآية علـى هذا الـخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فـيه علـى أزواجكم الرجعة إذا كنّ كدخولاً بهنّ: تطلـيقتان، ثم الواجب علـى من راجع منكم بعد التطلـيقتـين إمساك بـمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطلـيقتـين إن سرحها فطلقها الثالثة. وقال آخرون إنـما أنزلت هذه الآية علـى نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعريفـا من اللّه تعالـى ذكره عبـاده سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن، لا دلالة علـى القدر الذي تبـين به الـمرأة من زوجها. ذكر من قال ذلك: ٣حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبـي إسحاق، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه فـي قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتـى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتـى تتـمّ ثلاث حيض وتبـين منه به. ٤١٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فَإِمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: إذا طلق الرجل امرأته تطلـيقتـين، فلـيتق اللّه فـي التطلـيقة الثالثة، فإما أن يـمسكها بـمعروف فـيحسن صحابتها، أو يسرّحها بإحسان فلا يظلـمها من حقها شيئا. ٤١٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح،، عن مـجاهد فـي قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فَإِمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: يطلق الرجل امرأته طاهرا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تـمّ القرء، ثم يطلق الثانـية كما يطلق الأولـى، إن أحبّ أن يفعل، فإن طلق الثانـية ثم حاضت الـحيضة الثانـية فهما تطلـيقتان وقرءان، ثم قال اللّه تعالـى ذكره فـي الثالثة: فَإِمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ فـيطلقها فـي ذلك القرء كله إن شاء حين تـجمع علـيها ثـيابها. ٤١٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه، إلا أنه قال: فحاضت الـحيضة الثانـية، كما طلق الأولـى، فهذان تطلـيقتان وقرءان، ثم قال: الثالثة، وسائر الـحديث مثل حديث مـحمد بن عمرو، عن أبـي عاصم. وتأويـل الآية علـى قول هؤلاء: سنة الطلاق التـي سننتها وأبحتها لكم إن أردتـم طلاق نسائِكم، أن تطلقوهنّ ثنتـين فـي كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك علـيكم: إما أن تـمسكوهنّ بـمعروف، أو تسرّحوهنّ بإحسان. والذي هو أولـى بظاهر التنزيـل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنـما هي دلـيـل علـى عدد الطلاق الذي يكون به التـحريـم، وبُطولُ الرجعة فـيه، والذي يكون فـيه الرجعة منه. وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قال فـي الآية التـي تتلوها: فإنْ طَلّقَها فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ فعرّف عبـاده القدر الذي به تـحرم الـمرأة علـى زوجها إلا بعد زوج، ولـم يبـين فـيها الوقت الذي يجوز الطلاق فـيه والوقت الذي لا يجوز ذلك فـيه، فـيكون موجها تأويـل الآية إلـى ما رُوي عن ابن مسعود ومـجاهد ومن قال بـمثل قولهما فـيه. وأما قوله: فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ فإن فـي تأويـله وفـيـما عنـي به اختلافـا بـين أهل التأويـل، فقال بعضهم: عنى اللّه تعالـى ذكره بذلك الدلالة علـى اللازم للأزواج الـمطلقات اثنتـين بعد مراجعتهم إياهنّ من التطلـيقة الثانـية من عشرتهن بـالـمعروف، أو فراقهن بطلاق. ذكر من قال ذلك: ٤١٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: الطلاق مرتان؟ قال: يقول عند الثالثة: إما أن يـمسك بـمعروف، وإما أن يسرّح بإحسان. وغيره قالها قال: وقال مـجاهد: الرجل أملك بـامرأته فـي تطلـيقتـين من غيره، فإذا تكلـم الثالثة فلـيست منه بسبـيـل، وتعتدّ لغيره. ٤١٤١ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيـل بن سميع، عن أبـي رزين، قال: أتَـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم رجل فقال: يا رسول اللّه أرأيت قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بإحْسانٍ فأين الثالثة؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ، أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ هي الثالثة). ٤١٤٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل بن سميع، عن أبـي رزين، قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ، الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: (إمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ، أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ). ٤١٤٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن إسماعيـل، عن أبـي رزين، قال: قال رجل: يا رسول اللّه ، يقول اللّه : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمُعْرُوفٍ فأين الثالثة؟ قال: (التّسْريحُ بإحْسانٍ). ٤١٤٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن مـجاهد: أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال فـي الثالثة. ٤١٤٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق،قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: كان الطلاق لـيس له وقت حتـى أنزل اللّه : الطّلاقُ مَرّتانِ قال: الثالثة: إمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. وقال آخرون منهم: بل عنى اللّه بذلك الدلالة علـى ما يـلزمهم لهن بعد التطلـيقة الثانـية من مراجعة بـمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتـى تنقضي عدتهن، فـيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولـين الذين قالوا: إنه دلـيـل علـى التطلـيقة الثالثة. ذكر من قال ذلك: ٤١٤٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ إذا طلق واحدة أو اثنتـين، إما أن يـمسك ويـمسك: يراجع بـمعروف وإما سكت عنها حتـى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها. ٤١٤٧ـ حدثنا علـيّ بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن جويبر، عن الضحاك : أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ والتسريح: أن يدعها حتـى تـمضي عدتها. ٣حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: يعنـي تطلـيقتـين بـينهما مراجعة، فأمر أن يـمسك أو يسرّح بإحسان قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تـحل له حتـى تنكح زوجا غيره. وكأن قائلـي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلـى أن معنى الكلام: الطلاق مرّتان، فإمساك فـي كل واحدة منهما لهنّ بـمعروف، أو تسريح لهنّ بإحسان. وهذا مذهب مـما يحتـمله ظاهر التنزيـل لولا الـخبر الذي ذكرته عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، الذي رواه إسماعيـل بن سميع، عن أبـي رزين فإن اتبـاع الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولـى بنا من غيره. فإذ كان ذلك هو الواجب، فبـين أن تأويـل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء علـى نسائهم فـيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن فـي الثانـية، إما إمساك بـمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بـالتطلـيقة الثالثة حتـى تبـين منهم، فتبطل ما كان لهن علـيهن من الرجعة ويصرن أملك لأنفسهن منهن. فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بـمعروف؟ قـيـل: هو ما: حدثنا به علـيّ بن عبد الأعلـى الـمـحاربـي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ قال: الـمعروف: أن يحسن صحبتها. ٤١٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ قال: لـيتق اللّه فـي التطلـيقة الثالثة، فإما أن يـمسكها بـمعروف فـيحسن صحابتها. فإن قال: فما التسريح بإحسان؟ قـيـل: هو ما: ٤١٤٩ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قـيـل: يسرحها، ولا يظلـمها من حقها شيئا. ٤١٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنى أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: هو الـميثاق الغلـيظ. ٤١٥١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: الإحسان: أن يوفـيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتـمها. ٤١٥٢ـ حدثنا علـيّ بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن جويبر، عن الضحاك : أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ قال: التسريح بإحسان: أن يدعها حتـى تـمضي عدتها، ويعطيها مهرا إن كان لها علـيه إذا طلقها. فذلك التسريح بإحسان، والـمتعة علـى قدر الـميسرة. ٤١٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس فـي قوله: وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غلِـيظا قال قوله: فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوَ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟ قـيـل: مـحذوف اكتفـي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه: الطلاق مرتان، فـالأمر الواجب حينئذ به إمساك بـمعروف، أو تسريح بإحسان. وقد بـيّنا ذلك مفسرا فـي قوله: فـاتّبـاعٌ بـالـمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَـيْهِ بإحْسانٍ فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه . يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا ولا يحلّ لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتـم أردتـم طلاقهن بطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مـما أعطيتـموهنّ من الصداق، وسقتـم إلـيهنّ، بل الواجب علـيكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفـاؤهنّ حقوقهنّ من الصداق والـمتعة وغير ذلك مـما يجب لهن علـيكم إلا أن يخافـا ألا يقـيـما حدود اللّه . واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُود اللّه وذلك قراءة عُظْم أهل الـحجاز والبصرة بـمعنى إلا أن يخاف الرجل والـمرأة أن لا يقـيـما حدود اللّه ، وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب: (إلاّ أنْ يَظُنّا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه ). ٤١٥٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنـي ثور، عن ميـمون بن مهران، قال: فـي حرف أبـيّ بن كعب إن الفداء تطلـيقة قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتـينا رجلاً عنده مصحف قديـم لأبـيّ خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فـيه: (إلاّ أنْ يَظُنّا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه ، فإنْ ظَنّا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا فِـيـمَا افْتَدَتْ بِهِ): لا تـحلّ له من بعد حتـى تنكح زوجا غيره. والعرب قد تضع الظن موضع الـخوف والـخوف موضع الظن فـي كلامها لتقارب معنـيـيهما، كما قال الشاعر: أتانِـي كَلامٌ عنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُوَما خِفْتُ يا سَلاّمُ أنّكَ عائِبـي بـمعنى: ما ظننت. وقرأه آخرون من أهل الـمدينة والكوفة: (إلاّ أنْ يُخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه ) فأما قارىء ذلك كذلك من أهل الكوفة، فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك اعتبـارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه فـي قراءة ابن مسعود: (إلاّ أنْ تـخافُوا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه ) وقراءة ذلك كذلك اعتبـارا بقراءة ابن مسعود التـي ذكرت عنه خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنـما أعمل الـخوف فـي (أن) وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر: إذَا مِتّ فـادْفِنّـي إلـى جَنْب كَرْمَةٍتُرَوّي عِظامي بَعْدَ مَوتـي عُرُوقُها وَلا تَدْفِنَـيّ بـالفَلاةِ فإنّنِـيأخافُ إذَا ما متّ أنْ لا أذُوقُها فأما قارئه إلا أن يخافـا بذلك الـمعنى، فقد أعمل فـي متروكةٍ تسميته وفـي (أن)، فأعمله فـي ثلاثة أشياء: الـمتروك الذي هو اسم ما لـم يسمّ فـاعله، وفـي أن التـي تنوب عن شيئين، ولا تقول العرب فـي كلامها ظُنّا أن يقوما، لكن قراءة ذلك كذلك صحيحة علـى غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك اعتبـارا بقراءة عبد اللّه الذي وصفنا، ولكن علـى أن يكون مرادا به إذا قرىء كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقـيـما حدود اللّه ، أو علـى أن لا يقـيـما حدود اللّه ، فـيكون العامل فـي أن غير الـخوف، ويكون الـخوف عاملاً فـيـما لـم يسمّ فـاعله. وذلك هو الصواب عندنا فـي القراءة لدلالة ما بعده علـى صحته، وهوقوله: فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فكان بـينا أن الأول بـمعنى: إلا أن تـخافوا أن لا يقـيـما حدود اللّه . فإن قال قائل: وأية حال الـحال التـي يخاف علـيهما أن لا يقـيـما حدود اللّه حتـى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟ قـيـل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتـى يخاف علـيها ترك طاعة اللّه فـيـما لزمها لزوجها من الـحقّ، ويخاف علـى زوجها بتقصيرها فـي أداء حقوقه التـي ألزمها اللّه له تركه أداء الواجب لها علـيه، فذلك حين الـخوف علـيهما أن لا يقـيـما حدود اللّه فـيطيعاه فـيـما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والـحال التـي أبـاح النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لثابت بن قـيس بن شماس أخذ ما كان أتـى زوجته إذ نشزت علـيه بغضا منها له. كما: ٤١٥٥ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: قرأت علـى فضيـل، عن أبـي جرير أنه سأل عكرمة، هل كان للـخـلع أصل؟ قال: كان ابن عبـاس يقول: إن أول خـلع كان فـي الإسلام أخت عبد اللّه بن أبـيّ، أنها أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إنـي رفعت جانب الـخبـاء فرأيته أقبل فـي عِدّة، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها. قال زوجها: يا رسول اللّه إنـي أعطيتها أفضل مالـي حديقة فلتردد علـيّ حديقتـي قال: (ما تقولـين؟) قالت: نعم، وإن شاء زدته قال: ففرّق بـينهما. ٤١٥٦ـ حدثنـي مـحمد بن معمر، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد اللّه ، يعنـي ابن أبـي بكر، عن عمرة، عن عائشة: أن حبـيبة بنت سهل كانت تـحت ثابت بن قـيس بن شماس، فضربها فكسر بعضها، فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الصبح، فـاشتكته، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثابتا، فقال: (خُذْ بَعْضَ مَالها وفَـارِقَهَا) قال: ويصلـح ذلك يا رسول اللّه ؟ قال: (نعم)، قال: فإنـي أصدقتها حديقتـين وهما بـيدها. فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (خُذْهُما وَفـارقْها) ففعل. ٤١٥٧ـ حدثنا أبو يسار، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبـيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تـحت ثابت بن قـيس بن شماس، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رآها عند بـابه بـالغلس، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(مَنْ هَذِه؟) قالت: أنا حبـيبة بنت سهل، لا أنا ولا ثابت بن قـيس لزوجها. فلـما جاء ثابت قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَذِهِ حَبِـيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ تَذْكُرُ ما شاءَ اللّه أنْ تَذْكُرَ). فقالت حبـيبة: يا رسول اللّه كلّ ما أعطانـيه عندي. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (خُذْ مِنْها) فأخذ منها وجلست فـي بـيتها. ٤١٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد اللّه بن ربـاح، عن جميـلة بنت أبـيّ ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قـيس فنشزت علـيه، فأرسل إلـيها النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (يا جَمِيـلَةُ ما كَرِهْتِ مِنْ ثابِتٍ؟) قالت: واللّه ما كرهت منه دينا ولا خـلقا، إلا إنـي كرهت دمامته. فقال لها: (أتَرُدّينَ الـحَدِيقَةَ؟) قالت: نعم فردّت الـحديقة وفرّق بـينهما. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت فـي شأنهما، أعنـي فـي شأن ثابت بن قـيس وزوجته هذه. ٤١٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: نزلت هذه الآية فـي ثابت بن قـيس وفـي حبـيبة، قال: وكانت اشتكته إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (تَرُدّينَ عَلَـيْهِ حَدِيقَتَهُ؟) فقالت: نعم فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لـي ذلك؟ قال: (نعم)، قال ثابت: وقد فعلت فنزلت: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَعْتَدُوها. وأما أهل التأويـل فإنهم اختلفوا فـي معنى الـخوف منهما أن لا يقـيـما حدود اللّه ، فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من الـمرأة سوء الـخـلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حلّ له أن يأخذ ما أعطته من فدية علـى فراقها. ذكر من قال ذلك: ٤١٦٠ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلا أن يكون النشوز وسوء الـخـلق من قـيـلها، فتدعوك إلـى أن تفتدي منك، فلا جناح علـيك فـيـما افتدت به. ٤١٦١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحلّ الفداء حتـى يكون الفساد من قبلها، ولـم يكن يقول: لا يحلّ له حتـى تقول: لا أبرّ لك قسما، ولا أغتسل لك من جنابة. ٤١٦٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عمرو بن دينار، قال: قال جابر بن زيد: إذا كان النشز من قبلها حلّ الفداء. ٤١٦٣ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي ابن أبـي الزناد، عن هشام بن عروة أن أبـاه كان يقول: إذا كان سوء الـخـلق وسوء العشرة من قبل الـمرأة فذاك يحلّ خـلعها. ٤١٦٤ـ حدثنـي علـي بن سهل، قال: حدثنا مـحمد بن كثـير، عن حماد، عن هشام، عن أبـيه أنه قال: لا يصلـح الـخـلع، حتـى يكون الفساد من قبل الـمرأة. ٤١٦٥ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان القناد، قال: حدثنا مـحمد بن يزيد، عن إسماعيـل، عن عامر فـي امرأة قالت لزوجها: لا أبرّ لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة قال: ما هذا؟ وحرّك يده، لا أبرّ لك قسما، ولا أطيع لك أمرا إذا كرهت الـمرأة زوجها فلـيأخذه ولـيتركها. ٤١٦٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبـير أنه قال فـي الـمختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلـى السلطان، فـيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فـيقول الـحكم الذي من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا، ويقول الـحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا، فأيهما كان أظلـم رده السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخـلع. ٤١٦٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: الطّلاقُ مَرّتان فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ إلـى قوله: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ قال: إذا كانت الـمرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتـى تفتدي منه، فإن أخذ منها شيئا علـى ذلك، فما أخذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلـم من قِبَلها، فقد حلّ له أن يأخذ منها ما افتدت به. ٤١٦٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه قال: لا يحلّ للرجل أن يخـلع امرأته إلا أن يرى ذلك منها، فأما أن يكون يضارّها حتـى تـختلع، فإن ذلك لا يصلـح، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حلّ له خـلعها. ٤١٦٩ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا قال: الصداق إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه وحدود اللّه أن تكون الـمرأة ناشزة، فإن اللّه أمر الزوج أن يعظها بكتاب اللّه ، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها علـى فراش واحد ويولـيها ظهره ولا يكلـمها، فإن أبت غلظ علـيها القول بـالشتـيـمة لترجع إلـى طاعته، فإن أبت فـالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حلّ له منها الفدية. وقال آخرون: بل الـخوف من ذلك أن لا تبرّ له قسما ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا، فحينئذ يحلّ له عندهم أخذ ما آتاها علـى فراقه إياها. ذكر من قال ذلك: ٤١٧٠ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: قال الـحسن: إذا قالت: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبرّ لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، فحينئذ حلّ الـخـلع. ٤١٧١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، قال: إذا قالت الـمرأة لزوجها: لا أبرّ لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقـيـم حدّا من حدود اللّه ، فقد حلّ له مالها. ٤١٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة، عن عنبسة، عن مـحمد بن سالـم، قال: سألت الشعبـي، قلت: متـى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت: لا أبرّ لك قسما ولا أطيع لك أمرا. ٤١٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تـحل الفدية حتـى تقول: لا أغتسل لك من جنابة وقال: إن الزانـي يزنـي ثم يغتسل. ٤١٧٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيـم فـي الناشز، قال: إن الـمرأة ربـما عصت زوجها، ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلـم تبرّ قسمه، فعند ذلك تـحلّ الفدية. ٤١٧٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا لا يحلّ له أن يأخذ من مهرها شيئا إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فإذا لـم يقـيـما حدود اللّه ، فقد حل له الفداء، وذلك أن تقول: واللّه لا أبرّ لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة. فهو حدود اللّه ، فإذا قالت الـمرأة ذلك فقد حلّ الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها. ٤١٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن علـيّ بن بذيـمة، عن مقسم فـي قوله: وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ يقول: (إلا أن يفحشن) فـي قراءة ابن مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حلّ لك ما أخذت منها. ٤١٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا قال: الـخـلع، قال: ولا يحلّ له إلا أن تقول الـمرأة لا أبرّ قسمه ولا أطيع أمره، فـيقبله خيفة أن يسيء إلـيها إن أمسكها، ويتعدّى الـحق. وقال آخرون: بل الـخوف من ذلك أن تبتدىء له بلسانها قولاً أنها له كارهة. ذكر من قال ذلك: ٤١٧٨ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قال: حدثنا أبـي وشعيب بن اللـيث، عن اللـيث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبـي ربـاح، قال: يحل الـخـلع أن تقول الـمرأة لزوجها: إنـي لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام فـي جنبك ولا أؤدي حقك. وتطيب نفسك بـالـخـلع. وقال آخرون: بل الذي يبـيح له أخذ الفدية أن يكون خوف أن لا يقـيـما حدود اللّه منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الاَخر. ذكر من قال ذلك: ٤١٧٩ـ حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن الـمفضل قال: حدثنا داود، عن عامر، حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، قال: قال عامر: أحلّ له مالها بنشوزه ونشوزها. ٤١٨٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: قال ابن جريج، قال: طاوس: يحل له الفداء ما قال اللّه تعالـى ذكره، ولـم يكن يقول قول السفهاء: لا أبرّ لك قسما، ولكن يحلّ له الفداء ما قال اللّه تعالـى ذكره: إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فـيـما افترض لكل واحد منهما علـى صاحبه فـي العشرة والصحبة. ٤١٨١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن مـحمد بن إسحاق، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يقول: إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه قال: فـيـما افترض اللّه علـيهما فـي العشرة والصحبة. ٤١٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي ابن شهاب، قال: أخبرنـي سعيد بن الـمسيب، قال: لا يحلّ الـخـلع حتـى يخافـا أن لا يقـيـما حدود اللّه فـي العشرة التـي بـينهما. وأولـى هذه الأقوال بـالصحة قول من قال: لا يحلّ للرجل أخذ الفدية من امرأته علـى فراقه إياها، حتـى يكون خوف معصية اللّه من كل واحد منهما علـى نفسه فـي تفريطه فـي الواجب علـيه لصاحبه منهما جميعا، علـى ما ذكرناه عن طاوس والـحسن ومن قال فـي ذلك قولهما لأن اللّه تعالـى ذكره إنـما أبـاح للزوج أخذ الفدية من امرأته عند خوف الـمسلـمين علـيهما أن لا يقـيـما حدود اللّه . فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت فـالواجب أن يكون حراما علـى الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتـى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها له؟ قـيـل له: إن الأمر فـي ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن فـي نشوزها علـيه داعية له إلـى التقصير فـي واجبها ومـجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو الـمعنى الذي يوجب للـمسلـمين الـخوف علـيهما أن لا يقـيـما حدود اللّه . فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما فـي واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للـمسلـمين، فلـيس هناك للـخوف موضع، إذ كان الـمخوف قد وجد، وإنـما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للـخوف منه ولا الزيادة فـي مكروهه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه . اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه التـي إذا خيف من الزوج والـمرأة أن لا يقـيـماها حلت له الفدية من أجل الـخوف علـيهما بصنـيعها، فقال بعضهم: هو استـخفـاف الـمرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بـالكلام. ذكر من قال ذلك: ٤١٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ قال: هو تركها إقامة حدود اللّه ، واستـخفـافها بحق زوجها، وسوء خـلقها، فتقول له: واللّه لا أبرّ لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا فإن فعلت ذلك فقد حلّ له منها الفدية. ٤١٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن أبـي زائدة، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن فـي قوله: فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ قال: إذا قالت: لا أغتسل لك من جنابة حلّ له أن يأخذ منها. ٤١٨٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحلّ الـخـلع حين يخافـا أن لا يقـيـما حدود اللّه ، وأداء حدود اللّه فـي العشرة التـي بـينهما. وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتـم أن لا يطيعا اللّه . ذكر من قال ذلك: ٤١٨٦ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن عامر: فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه قال: أن لا يطيعا اللّه . ٤١٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: الـحدود: الطاعة. والصواب من القول فـي ذلك: فإن خفتـم ألا يقـيـما حدود اللّه ما أوجب اللّه علـيهما من الفرائض فـيـما ألزم كل واحد منهما من الـحق لصاحبه من العشرة بـالـمعروف، والصحبة بـالـجميـل، فلا جناح علـيهما فـيـما افتدت به. وقد يدخـل فـي ذلك ما رويناه عن ابن عبـاس والشعبـي، وما رويناه عن الـحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج علـى الـمرأة إطاعته فـيـما أوجب اللّه طاعته فـيه، وأن لا تؤذيه بقول، ولا تـمتنع علـيه إذا دعاها لـحاجته، فإذا خالفت ما أمرها اللّه به من ذلك كانت قد ضيعت حدود اللّه التـي أمرها بإقامتها. وأما معنى إقامة حدود اللّه ، فإنه العمل بها، والـمـحافظة علـيها، وترك تضيـيعها، وقد بـينا ذلك فـيـما مضى قبل من كتابنا هذا بـما يدل علـى صحته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ. يعنـي قوله تعالـى ذكره بذلك: فإن خفتـم أيها الـمؤمنون ألا يقـيـم الزوجان ما حد اللّه لكل واحد منهما علـى صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتـم علـيهما تضيـيع فرض اللّه وتعدّي حدوده فـي ذلك فلا جناح حينئذ علـيهما فـيـما افتدت به الـمرأة نفسها من زوجها، ولا حرج علـيهما فـيـما أعطت هذه علـى فراق زوجها إياها ولا علـى هذا فـيـما أخذ منها من الـجُعُل والعوض علـيه. فإن قال قائل: وهل كانت الـمرأة حَرِجة لو كان الضّرارُ من الرجل بها فـيـما افتدت به نفسها، فـيكون لا جناح علـيهما فـيـما أعطته من الفدية علـى فراقها إذا كان النشوز من قبلها؟ قـيـل: لو علـمت فـي حال ضراره بها لـيأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنـما هو لـيأخذ منها ما حرم اللّه علـيه أخذه علـى الوجه الذي نهاه اللّه عن أخذه منها، ثم قدرت أن تـمتنع من إعطائه بـما لا ضرر علـيها فـي نفس، ولا دين، ولا حق علـيها فـي ذهاب حقّ لها لـما حلّ لها إعطاؤه ذلك، إلا علـى وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه علـى ما يحلّ له أخذه منها لأنها متـى أعطته ما لا يحل له أخذه منها وهي قادرة علـى منعه ذلك بـما لا ضرر علـيها فـي نفس، ولا دين، ولا فـي حقّ لها تـخاف ذهابه، فقد شاركته فـي الإثم بإعطائه ما لا يحلّ له أخذه منها علـى الوجه الذي أعطته علـيه، فلذلك وضع عنها الـجناح إذا كان النشوز من قبلها، وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والـمأثم، وهي إذا أعطته علـى هذا الوجه بـاستـحقاق الأجر والثواب من اللّه تعالـى أولـى إن شاء اللّه من الـجناح والـحرج، ولذلك قال تعالـى ذكره: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فوضع الـحرج عنها فـيـما أعطته علـى هذا الوجه من الفدية علـى فراقه إياها، وعنه فـيـما قبض منها إذا كانت معطية علـى الـمعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها فـي أديانهما وحذار الأوزار والـمأثم. وقد يتـجه قوله: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما وجها آخر من التأويـل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية علـى غير الوجه الذي أذن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لامرأة ثابت بن قـيس بن شماس، وذلك لكراهتها أخلاق زوجها أو دمامة خَـلْقه، وما أشبه ذلك من الأمور التـي يكرهها الناس بعضهم من بعض، ولكن علـى الانصراف منها بوجهها إلـى آخر غيره علـى وجه الفساد وما لا يحلّ لها كان حراما علـيها أن تعطى علـى مسألتها إياه فراقها علـى ذلك الوجه شيئا لأن مسألتها إياه الفرقة علـى ذلك الوجه معصية منها للّه، وتلك هي الـمختلعة إن خولعت علـى ذلك الوجه التـي روي عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم أنه سماها منافقة. كما: ٤١٨٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنـي الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن لـيث، عن أبـي إدريس، عن ثوبـان مولـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (أيّـمَا امرأةٍ سألَتْ زوْجَها الطّلاقَ مِنْ غيرِ بأْسٍ حِرّمَ اللّه عَلَـيْها رَائحَةَ الـجَنّةِ) وقال: (الـمُخْتَلِعاتُ هُنّ الـمُنافِقاتُ). ٤١٨٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علـية، عن أبـيه، عن لـيث بن أبـي سلـيـم، عن أبـي الـخطاب عن أبـي زرعة، عن أبـي إدريس، عن ثوبـان مولـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (الـمُخْتَلِعاتُ هُنّ الـمُنافِقاتُ). ٤١٩٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قـيس بن الربـيع، عن أشعث بن سوار، عن الـحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر الـجهنـي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الـمُخْتَلِعاتِ الـمُنْتَزَعاتِ هُنّ الـمُنافِقاتُ). ٤١٩١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبـي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبـان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أيّـمَا امْرأةٍ سألَتْ زَوْجَها طَلاقا مِنْ غَيْرِ بَأسٍ فَحَرَامٌ عَلَـيْها رَائحَةُ الـجَنّة). ٤١٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبـي قلابة، عن أبـي أسماء الرحبـي، عن ثوبـان، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نـحوه. فإذا كان من وجوه افتداء الـمرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعلـيها فـي افتدائها نفسها علـى ذلك الـحرج والـجناح، وكان من وجوهه ما يكون الـحرج والـجناح فـيه علـى الرجل دون الـمرأة، ومنه ما يكون علـيهما، ومنه ما لا يكون علـيهما فـيه حرج ولا جناح. قـيـل فـي الوجه: الذي لا حرج علـيهما فـيه لا جناح إذ كان فـيـما حاولا وقصدا من افتراقهما بـالـجعل الذي بذلته الـمرأة لزوجها لا جناح علـيهما فـيـما افتدت به من الوجه الذي أبـيح لهما، وذلك أن يخافـا أن لا يقـيـما حدود اللّه بـمقام كل واحد منهما علـى صاحبه. وقد زعم بعض أهل العربـية أن فـي ذلك وجهين: أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح علـى الرجل فـيـما افتدت به الـمرأة دون الـمرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال فـي سورة الرحمن: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالـمَرْجان وهما من الـملـح لا من العذب، قال: ومثله: فَلَـمّا بَلَغا مَـجْمَعَ بَـيْنِهِما نَسِيا حُوَتهُما وإنـما الناسي صاحب موسى وحده قال: ومثله فـي الكلام أن تقول: عندي دابتان أركبهما وأسقـي علـيهما وإنـما تركب إحداهما وتسقـي علـى الأخرى، وهذا من سعة العربـية التـي يحتـجّ بسعتها فـي الكلام. قال: والوجه الاَخر أن يشتركا جميعا فـي أن لا يكون علـيهما جناح، إذ كانت تُعطي ما قد نُفـي عن الزوج فـيه الإثم. اشتركت فـيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فـيه الـمأثم احتاجت إلـى مثل ذلك. قال أبو جعفر: فلـم يصب الصواب فـي واحد من الوجهين، ولا فـي احتـجاجه فـيـما احتـجّ به قوله: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالـمَرْجانُ. فأما قوله: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فقد بـينا وجه صوابه، وسنبـين وجه قوله: يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالـمَرْجانُ فـي موضعه إذا أتـينا علـيه إن شاء اللّه تعالـى. وإنـما خطّأنا قوله ذلك لأن اللّه تعالـى ذكره قد أخبر عن وضعه الـحرج عن الزوجين إذا افتدت الـمرأة من زوجها علـى ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والـمرجان، فأضاف إلـى اثنـين، فلو جاز لقائل أن يقول: إنـما أريد به الـخبر عن أحدهما فـيـما لـم يكن مستـحيلاً أن يكون عنهما جاز فـي كل خبر كان عن اثنـين غير مستـحيـلة صحته أن يكون عنهما أن يقال: إنـما هو خبر عن أحدهما، وذلك قلب الـمفهوم من كلام الناس والـمعروف من استعمالهم فـي مخاطبـاتهم، وغير جائز حمل كتاب اللّه تعالـى ووحيه جل ذكره علـى الشواذ من الكلام وله فـي الـمفهوم الـجاري بـين الناس وجه صحيح موجود. ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ أمعنـيّ به: أنهما موضوع عنهما الـجناح فـي كل ما افتدت به الـمرأة نفسها من شيء أم فـي بعضه؟ فقال بعضهم: عنى بذلك فلا جناح علـيهما فـيـما افتدت به من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تـختلع منه واحتـجوا فـي قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود علـى أولها، وأن معنى الكلام: وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ مـما آتـيتـموهن. قالوا: فـالذي أحله اللّه لهما من ذلك عند الـخوف علـيهما أن لا يقـيـما حدود اللّه هو الذي كان حظر علـيهما قبل حال الـخوف علـيهما من ذلك. واحتـجوا فـي ذلك بقصة ثابت بن قـيس بن شماس، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنـما أمر امرأته إذ نشزت علـيه أن تردّ ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلـم يقبلها النبـي صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ٤١٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع أنه كان يقول: لا يصلـح له أن يأخذ منها أكثر مـما ساق إلـيها، و يقول: إن اللّه يقول: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ منه، يقول: من الـمهر. وكذلك كان يقرؤها: (فـيـما افتدت به منه). ٤١٩٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبـي ربـاح والزهري يقولون فـي الناشز: لا يأخذ منها إلا ما ساق إلـيها. ٤١٩٥ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد، حدثنا أبو عمرو، عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إلـيها. ٤١٩٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ فـي الـخـلع أكثر مـما أعطاها. ٤١٩٧ـ حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن الشعبـي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من الـمختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك. ٤١٩٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن الشعبـي، قال: لا يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. ٤١٩٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، عن الشعبـي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مـما أعطاها، يعنـي الـمختلعة. ٤٢٠٠ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا عن الـحكم بن عتـيبة، قال: كان علـيّ رضي اللّه عنه يقول: لا يأخذ من الـمختلعة فوق ما أعطاها. ٤٢٠١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن الـحكم أنه قال فـي الـمختلعة: أحبّ إلـيّ أن لا يزداد. ٤٢٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد أن الـحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. ٤٢٠٣ـ حدثنا مـحمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر أنه سأل الـحسن، أو أن الـحسن سئل عن رجل تزوّج امرأة علـى مائتـي درهم، فأراد أن يخـلعها، هل له أن يأخذ أربعمائة؟ فقال: لا واللّه ، ذاك أن يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. ٤٢٠٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الـحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. قال معمر: وبلغنـي عن علـيّ أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. ٤٢٠٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريـم الـجزري، عن ابن الـمسيب، قال: ما أحبّ أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتـى يدع لها منه ما يعيشها. ٤٢٠٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أبـاه كان يقول فـي الـمفتدية: لا يحلّ له أن يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. ٤٢٠٧ـ حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: لا يحلّ للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مـما أعطاها. وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح علـيهما فـيـما افتدت به من قلـيـل ما تـملكه وكثـيره. واحتـجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائز إحالة ظاهر عام إلـى بـاطن خاص إلا بحجة يجب التسلـيـم لها قالوا: ولا حجة يجب التسلـيـم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية دون بعض من أصل أو قـياس، فهي علـى ظاهرها وعمومها. ذكر من قال ذلك: ٤٢٠٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أيوب عن كثـير مولـى سمرة: أن عمر أتـي بـامرأة ناشز، فأمر بها إلـى بـيت كثـير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه اللـيالـي التـي حبستنـي. فقال لزوجها: اخـلعها ولو من قرطها. ٤٢٠٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثـير مولـى سمرة، قال: أخذ عمر بن الـخطاب امرأة ناشزة فوعظها، فلـم تقبل بخير، فحبسها فـي بـيت كثـير الزبل ثلاثة أيام وذكر نـحو حديث ابن علـية. ٤٢١٠ـ حدثنا ابن بشار ومـحمد بن يحيى، قالا: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز. فأبـاتها فـي بـيت الزبل، فلـما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما كنت عنده لـيـلة أقرّ لعينـي من هذه اللـيـلة. فقال: خذ ولو عقاصها. ٤٢١١ـ حدثنا نصر بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن نافع: أن مولاة لصفـية اختلعت من زوجها بكل شيء تـملكه إلا من ثـيابها، فلـم يعب ذلك ابن عمر. ٤٢١٢ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى ومـحمد بن الـمثنى، قالا: حدثنا معتـمر، قال: سمعت عبـيد اللّه يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلـم يعب ذلك علـيها ولـم ينكره. ٤٢١٣ـ حدثنـي يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا هشيـم، عن حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبـيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مـما أعطاها. ثم تلا هذه الآية: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ. ٤٢١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم، قال فـي الـخـلع: خذ ما دون عقاص شعرها، وإن كانت الـمرأة لتفتدي ببعض مالها. ٤٢١٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: الـخـلع بـما دون عقاص الرأس. ٤٢١٦ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن إبراهيـم أنه قال فـي الـمختلعة: خذ منها ولو عقاصها. ٤٢١٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، قال: الـخـلع بـما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي الـمرأة ببعض مالها. ٤٢١٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد اللّه بن مـحمد بن عقـيـل أن الرّبَـيّع ابنة معوّذ بن عفراء حدثته قالت: كان لـي زوج يقل علـيّ الـخير إذا حضرنـي، ويحرمنـي إذا غاب. قالت: فكانت منـي زلة يوما، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه قال: نعم قال: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلـى عثمان بن عفـان، فأجاز الـخـلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه. أو قالت: ما دون عقاص الرأس. ٤٢١٩ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا الـحسن بن يحيى، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، قال: لا بأس بـما خـلعها به من قلـيـل أو كثـير، ولو عُقُصها. ٤٢٢٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مـما أعطاها. ٤٢٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنـي عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عبـاس : لـيأخذ منها حتـى قرطها. يعنـي فـي الـخـلع. ٤٢٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد اللّه ، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفـية ابنة أبـي عبـيد: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلـم ينكر ذلك عبد اللّه بن عمر. ٤٢٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبـيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ قال: يأخذ أكثر مـما أعطاها. ٤٢٢٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبـي عديّ، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوة: إن الـحسن يقول فـي الـمختلعة: لا يأخذ أكثر مـما أعطاها، ويتأوّل: وَلا تَأخُذُوا مِـما آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا قال رجاء: فإن قبـيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مـما أعطاها، ويتأوّل: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ. وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: وَإنْ أرَدْتُـمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيئَا. ذكر من قال ذلك: ٤٢٢٥ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبـي الصهبـاء قال: سألت بكرا عن الـمختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا وقرأ: وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا. ٤٢٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا عقبة بن أبـي الصهبـاء، قال: سألت بكر بن عبد اللّه عن رجل تريد امرأته منه الـخـلع، قال: لا يحلّ له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول اللّه تعالـى ذكره فـي كتابه: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ قال: هذه نسخت. قلت: فإنـي حفظت؟ قال: حفظت فـي سورة النساء قول اللّه تعالـى ذكره: وَإنْ أرَدْتُـمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوجٍ وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخُذُونَهُ بُهْتانا وإثْما مُبِـينا. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والـمرأة أن لا يقـيـما حدود اللّه علـى سبـيـل ما قدمنا البـيان عنه، فلا حرج علـيهما فـيـما افتدت به الـمرأة نفسها من زوجها من قلـيـل ما تـملكه وكثـيره مـما يجوز للـمسلـمين أن يـملكوه، وإن أتـى ذلك علـى جميع ملكها لأن اللّه تعالـى ذكره لـم يخص ما أبـاح لهما من ذلك علـى حدّ لا يجاوَز، بل أطلق ذلك فـي كل ما افتدت به غير أنـي أختار للرجل استـحبـابـا لا تـحتـيـما إذا تبـين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصيةٍ للّه، بل خوفـا منها علـى دينها أن يفـارقها بغير فدية ولا جُعْل فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بـما يأخذ منها جميع ما آتاها. فأما ما قاله بكر بن عبد اللّه من أن هذا الـحكم فـي جميع الآية منسوخ بقوله: وَإنْ أرَدْتُـمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوجٍ وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا فقول لا معنى له، فنتشاغل بـالإنابة عن خطئه لـمعنـيـين. أحدهما: إجماع الـجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الـمسلـمين، علـى تـخطئته وإجازة أخذ الفدية من الـمفتدية نفسها لزوجها، وفـي ذلك الكفـاية عن الاستشهاد علـى خطئه بغيره. والاَخر: أن الآية التـي فـي سورة النساء إنـما حرّم اللّه فـيها علـى زوج الـمرأة أن يأخذ منها شيئا مـما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من الـمسلـمين علـيهما بـمقام أحدهما علـى صاحبه أن لا يقـيـما حدود اللّه ، ولا نشوز من الـمرأة علـى الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالاً علـى وجه الإكراه لها والإضرار بها حتـى تعطيه شيئا من مالها علـى فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعداوأما الآية التـي فـي سورة البقرة، فإنها إنـما دلت علـى إبـاحة اللّه تعالـى ذكره له أخذ الفدية منها فـي حال الـخوف علـيهما أن لا يقـيـما حدود اللّه بنشوز الـمرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فـيها. فـالأمر الذي أذن به للزوج فـي أخذ الفدية من الـمرأة فـي سورة البقرة ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية فـي سورة النساء، كما الـحظر فـي سورة النساء غير الطلاق والإبـاحة فـي سورة البقرة. فإنـما يجوز فـي الـحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معانـي الـمـحكوم فـيه، ثم خولف بـين الأحكام فـيه بـاختلاف الأوقات والأزمنةوأما اختلاف الأحكام بـاختلاف معانـي الـمـحكوم فـيه فـي حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الـحكمة البـالغة، والـمفهوم فـي العقل والفطرة، وهو من الناسخ والـمنسوخ بـمعزل. وأما الذي قاله الربـيع بن أنس من أن معنى الآية: فلا جناح علـيهما فـيـما افتدت به منه، يعنـي بذلك: مـما آتـيتـموهن، فنظير قول بكر فـي دعواه نسخ قوله: فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ بقوله: وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُن قِنْطارا فَلا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئا لادّعائه فـي كتاب اللّه ما لـيس موجودا فـي مصاحف الـمسلـمين رسمه. ويقال لـمن قال بقوله: قد قال من قد علـمت من أئمة الدين: إنـما معنى ذلك: فلا جناح علـيهما فـيـما افتدت به من ملكها، فهل من حجة تبـين تهافتهم غير الدعوى، فقد احتـجوا بظاهر التنزيـل، وادّعيت فـيه خصوصا. ثم يعكس علـيه القول فـي ذلك، فلن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله. وقد بـينا الأدلة بـالشواهد علـى صحة قول من قال للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته الـمفتدية التـي أبـاح اللّه لها الافتداء فـي كتابنا كتاب (اللطيف) فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدّ حُدُودَ اللّه فَأوُلَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: تلك معالـم فصوله، بـين ما أحلّ لكم، وما حرّم علـيكم أيها الناس، فلا تعتدوا ما أحلّ لكم من الأمور التـي بـينها وفصلها لكم من الـحلال، إلـى ما حرّم علـيكم، فتـجاوزوا طاعته إلـى معصيته. وإنـما عنى تعالـى ذكره بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَعْتَدُوها هذه الأشياء التـي بـينت لكم فـي هذه الاَيات التـي مضت من نكاح الـمشركات الوثنـيات، وإنكاح الـمشركين الـمسلـمات، وإتـيان النساء فـي الـمـحيض، وما قد بـين فـي الاَيات الـماضية قبل قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللّه مـما أحلّ لعبـاده وحرّم علـيهم، وما أمر ونهى. ثم قال لهم تعالـى ذكره: هذه الأشياء التـي بـينت لكم حلالها من حرامها حدودي، يعنـي به: معالـم فصول ما بـين طاعتـي ومعصيتـي فلا تعتدوها يقول: فلا تتـجاوزوا ما أحللته لكم إلـى ما حرّمته علـيكم، وما أمرتكم به إلـى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتـي إلـى معصيتـي، فإن من تعدّى ذلك يعنـي من تـخطاه وتـجاوزه إلـى ما حرّمت علـيه أو نهيته، فإنه هو الظالـم، وهو الذي فعل ما لـيس له فعله، ووضع الشيء فـي غير موضعه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الظلـم وأصله بشواهده الدالة علـى معناه، فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل وإن خالفت ألفـاظ تأويـلهم ألفـاظ تأويـلنا، غير أن معنى ما قالوا فـي ذلك (يرجع) إلـى معنى ما قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك: ٤٢٢٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَعْتَدُوها يعنـي بـالـحدود: الطاعة. ٤٢٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللّه فَلا تَعْتَدُوها يقول: من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلـم نفسه، ومن يتعد حدود اللّه ، فأولئك هم الظالـمون. قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له فـي هذا الـموضع، لأنه لـم يجر للطلاق فـي العدّة ذكر، فـيقال: تلك حدود اللّه ، وإنـما جرى ذكر العدد الذي يكون للـمطلق فـيه الرجعة، والذي لا يكون له فـيه الرجعة دون ذكر البـيان عن الطلاق للعدة. ٢٣٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ...} اختلف أهل التأويـل فـيـما دلّ علـيه هذا القول من اللّه تعالـى ذكره فقال بعضهم: دلّ علـى أنه إن طلق الرجل امرأته التطلـيقة الثالثة بعد التطلـيقتـين اللتـين قال اللّه تعالـى ذكره فـيهما: الطّلاقُ مَرّتانِ فإن امرأته تلك لا تـحلّ له بعد التطلـيقة الثالثة حتـى تنكح زوجا غيره، يعنـي به غير الـمطلق. ذكر من قال ذلك: ٤٢٢٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل اللّه الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحقّ بها ما لـم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها فقد بـانت منه، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبـا من الـخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتـى إذا طهرت طلقها تطلـيقة فـي قُبْل عدتها عند شاهدي عدل، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت فـي عدتها، وإن تركها حتـى تنقضي عدتها فقد بـانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي فـي عدتها نظر حيضتها، حتـى إذا طهرت طلقها تطلـيقة أخرى فـي قُبْل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده علـى واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التـي قال اللّه تعالـى ذكره: فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ. ٤٢٣٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: فإنْ طَلّقَها فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ يقول: إن طلقها ثلاثا، فلا تـحلّ حتـى تنكح زوجا غيره. ٤٢٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتـين فله الرجعة ما لـم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله: فإنْ طَلّقَها يعنـي بـالثالثة فلا رجعة له علـيها حتـى تنكح زوجا غيره. ٤٢٣٢ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، بنـحوه. ٤٢٣٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فإنْ طَلّقَها بعد التطلـيقتـين فلا تـحلّ له من بعد حتـى تنكح زوجا غيره، وهذه الثالثة. وقال آخرون: بل دلّ هذا القول علـى ما يـلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطلـيقتـين اللتـين قال اللّه تعالـى ذكره فـيهما: الطّلاقُ مَرّتانِ. قالوا: وإنـما بـين اللّه تعالـى ذكره بهذا القول عن حكم قوله: أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ وأعْلَـمَ أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطلـيقتـين فلا تـحلّ له الـمسرّحة كذلك إلا بعد زوج. ذكر من قال ذلك: ٤٢٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإنْ طَلّقَها فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ قال: عاد إلـى قوله: فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. ٤٢٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. قال أبو جعفر: والذي قاله مـجاهد فـي ذلك عندنا أولـى بـالصواب للذي ذكرنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الـخبر الذي رويناه عنه أنه قال: أو سئل فقـيـل: هذا قول اللّه تعالـى ذكره: الطّلاقُ مرّتانِ فأين الثالثة؟ قال: (فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ). فأخبر صلى اللّه عليه وسلم، أن الثالثة إنـما هي قوله: أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. فإذ كان التسريح بـالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله: فإنْ طَلّقَها فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ من الدلالة علـى التطلـيقة الثالثة بـمعزل، وأنه إنـما هو بـيان عن الذي يحلّ للـمسرح بـالإحسان إن سرّح زوجته بعد التطلـيقتـين، والذي يحرم علـيه منها، والـحال التـي يجوز له نكاحها فـيها، وإعلام عبـاده أن بعد التسريح علـى ما وصفت لا رجعة للرجل علـى امرأته. فإن قال قائل: فأيّ النكاحين عنى اللّه بقوله: فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ ألنكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قـيـل: كلاهما، وذلك أن الـمرأة إذا نكحت رجلاً نكاح تزويج لـم يطأها فـي ذلك النكاح ناكحها ولـم يجامعها حتـى يطلقها لـم تـحلّ للأول، وكذلك إن وطئها واطىء بغير نكاح لـم تـحلّ للأول بإجماع الأمة جميعا. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويـل قوله: فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فـيه، ثم يطلقها. فإن قال: فإن ذكر الـجماع غير موجود فـي كتاب اللّه تعالـى ذكره، فما الدلالة علـى أن معناه ما قلت؟ قـيـل: الدلالة علـى ذلك إجماع الأمة جميعا علـى أن ذلك معناه. وبعد، فإن اللّه تعالـى ذكره قال: فإنْ طَلّقَها فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير الـمعنى الذي أبـاح اللّه تعالـى ذكره لها ذلك به، وإن لـم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله: فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ لدلالته علـى أن ذلك كذلك بقوله: وَالـمُطَلّقاتُ يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وكذلك قوله: فَإنْ طَلّقَها فَلا تَـحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ وإن لـم يكن مقرونا به ذكر الـجماع والـمبـاشرة والإفضاء فقد دلّ علـى أن ذلك كذلك بوحيه إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبـيانه ذلك علـى لسانه لعبـاده. ذكر الأخبـار الـمروية بذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ٤٢٣٦ـ حدثنـي عبـيد اللّه بن إسماعيـل الهبـاري، وسفـيان بن وكيع، وأبو هشام الرفـاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوّجت رجلاً غيره فدخـل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتـحلّ لزوجها الأول؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَـحِلّ لِزَوْجِها الأوّلِ حتـى يَذُوقَ الاَخَرُ عُسَيْـلَتها وتَذُوقَ عُسْيَـلَتَهُ). ٤٢٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، نـحوه. ٤٢٣٨ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفـاعة القرظي إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفـاعة فطلقنـي، فبتّ طلاقـي، فتزوّجت عبد الرحمن بن الزّبـير، وإن ما معه مثل هُدْبة الثوب، فقال لها: (تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلـى رِفـاعَةَ؟ لا، حتـى تَذُوقـي عُسَيْـلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْـلَتَك). ٤٢٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نـحوه. ٤٢٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، قال: ثنـي عروة بن الزبـير، أن عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفـاعة القرظي جاءت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللّه ، فذكر مثله. ٤٢٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن رفـاعة القرظي طلق امرأته، فبتّ طلاقها، فتزوجها بعدُ عبد الرحمن بن الزّبـير، فجاءت النبـي صلى اللّه عليه وسلم فقالت: يا نبـي اللّه إنها كانت عند رفـاعة، فطلقها آخر ثلاث تطلـيقات، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزّبـير، وإنه واللّه ما معه يا رسول اللّه إلا مثل الهدبة. فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال لها: (لَعلّكِ تُرِيدِينَ أنْ تَرْجِعِي إلـى رِفـاعَةَ؟ لا، حتـى تذُوِقـي عُسَيْـلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْـلَتَكِ) قالت: وأبو بكر جالس عند النبـي صلى اللّه عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص ببـاب الـحجرة لـم يؤذن له، فطفق خالد ينادي يا أبـا بكر يقول: يا أبـا بكر ألا تزجر هذه عما تـجهر به عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟. ٤٢٤٢ـ حدثنا مـحمد بن يزيد الأودي، قال: حدثنا يحيى بن سلـيـم، عن عبـيد اللّه ، عن القاسم، عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لاَ حّتـى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْـلَتِها ما ذَاقَ الأوّلُ). ٤٢٤٣ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت عبـيد اللّه ، قال: سمعت القاسم يحدّث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لاَ حتـى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْـلَتِها ما ذَاقَ صَاحِبُهُ). ٤٢٤٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبـيد اللّه ، قال: حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلاً طلق امرأته ثلاثا، فتزوّجت زوجا، فطلقها قبل أن يـمسها، فسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أتـحلّ للأوّل؟ قال: (لاَ حّتـى يَذُوقَ عُسَيْـلَتَها كمَا ذَاقَ الأوّلُ). ٤٢٤٥ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى اللـيثـي، عن زائدة، عن علـيّ بن زيد، عن أم مـحمد، عن عائشة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إذَا طَلّقَ الرّجُلُ امْرأتَه ثَلاثا لَـمْ تَـحِلّ لَهُ حتـى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ، فَـيَذُوقَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما عُسَيْـلَةَ صَاحِبِهِ). ٤٢٤٦ـ حدثنـي العبـاس بن أبـي طالب، قال: أخبرنا سعيد بن حفص الطلـحي، قال: أخبرنا شيبـان، عن يحيى، عن أبـي الـحارث الغفـاري، عن أبـي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (حتـى يَذُوقَ عُسَيْـلَتَها). ٤٢٤٧ـ حدثنـي عبـيد بن آدم بن أبـي إياس العسقلانـي، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا شيبـان، قال: حدثنا يحيى بن أبـي كثـير، عن أبـي الـحارث الغفـاري، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الـمرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوّج غيره، فـيطلقها قبل أن يدخـل بها، فـيريد الأول أن يراجعها، قال: (لا، حتـى يَذُوقَ عُسَيْـلَتَها). ٤٢٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن إبراهيـم الأنـماطي، قال: حدثنا هشام بن عبد الـملك، قال: حدثنا مـحمد بن دينار، قال: حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخـل بها، أترجع إلـى زوجها الأول؟ قال: (لا، حتـى يَذُوقَ عُسَيْـلَتَها وَتَذُوقَ عُسَيْـلَتَهُ). ٤٢٤٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، ويعقوب بن ماهان، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يحيى بن أبـي إسحاق، عن سلـيـمان بن يسار، عن عبـيد اللّه بن العبـاس: أن الغميصاء أو الرميصاء جاءت إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إلـيها، قال: فما كان إلا يسيرا حتـى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلـى زوجها الأول، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَـيْسَ لَكِ حتـى يَذُوقَ عُسَيْـلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ). ٤٢٥٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالـم بن رزين الأحمري، عن سالـم بن عبد اللّه ، عن سعيد بن الـمسيب، عن ابن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي رجل يتزوّج الـمرأة فـيطلقها قبل أن يدخـل بها البتة، فتتزوّج زوجا آخر، فـيطلقها قبل أن يدخـل بها، أترجع إلـى الأوّل؟ قال: (لا حتـى تَذُوقَ عُسَيْـلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْـلَتَها). ٤٢٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فـيتزوّجها رجل، فأغلق البـاب، فطلقها قبل أن يدخـل بها، أترجع إلـى زوجها الاَخر؟ قال: (لا حتـى يَذُوقَ عُسَيْـلَتَها). ٤٢٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن علقمة بن مرثد، عن سلـيـمان بن رزين، عن ابن عمر أنه سأل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته، فتزوّجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوّجها الأول؟ قال: (لا حتـى تَذُوقَ عُسَيْـلَتَهُ). القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنْ طَلّقَها فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما أنْ يَتَرَاجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقـيِـما حُدُودَ اللّه . يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإنْ طَلّقَها فإن طلق الـمرأة التـي بـانت من زوجها بآخر التطلـيقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثانـي، زوجها الذي نكحها بعد بـينونتها من الأوّل فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما يقول تعالـى ذكره: فلا حرج علـى الـمرأة التـي طلقها هذا الثانـي من بعد بـينونتها من الأوّل، وبعد نكاحه إياها، وعلـى الزوج الأول الذي كانت حرمت علـيه ببـينونتها منه بآخر التطلـيقات أن يتراجعا بنكاح جديد. كما: ٤٢٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس : فإنْ طَلّقَها فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما أنْ يَتَرَاجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقـيِـما حُدُودَ اللّه يقول: إذا تزوّجت بعد الأول، فدخـل الاَخر بها، فلا حرج علـى الأول أن يتزوّجها إذا طلق الاَخر أو مات عنها، فقد حلت له. ٤٢٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتـين، فله الرجعة ما لـم تنقض العدة قال: والثالثة قوله: فإنْ طَلّقَها يعنـي الثالثة فلا رجعة له علـيها حتـى تنكح زوجا غيره، فـيدخـل بها، فإن طلقها هذا الأخير بعد ما يدخـل بها، فلا جناح علـيهما أن يتراجعا يعنـي الأوّل إن ظنا أن يقـيـما حدود اللّه . وأما قوله: إنْ ظَنّا أنْ يُقـيِـما حُدُودَ اللّه فإن معناه: إن رجوا مطمعا أن يقـيـما حدود اللّه . وإقامتهما حدود اللّه : العمل بها، وحدود اللّه : ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما علـى صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بـينهما. وقد بـينا معنى الـحدود ومعنى إقامة ذلك بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وكان مـجاهد يقول فـي تأويـل قوله: إنْ ظَنّا أنْ يُقـيِـما حُدُودَ اللّه ما: ٤٢٥٥ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: إنْ ظَنّا أنْ يُقـيِـما حُدُودَ اللّه إن ظنا أن نكاحهما علـى غير دُلْسَة. ٤٢٥٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وقد وجه بعض أهل التأويـل قوله إنْ ظَنّا إلـى أنه بـمعنى: إن أيقنا. وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلـم ما هو كائن إلا اللّه تعالـى ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما الـمعنى الذي به يوقن الرجل والـمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود اللّه ؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالـى ذكره: إنْ ظَنّا بـمعنى طمعا بذلك ورجواه (وأن) التـي فـي قوله أنْ يُقِـيـما فـي موضع نصب ب (ظَنّا)، و(أن) التـي فـي أن يتراجعا جعلها بعض أهل العربـية فـي موضع نصب بفقد الـخافض، لأن معنى الكلام: فلا جناح علـيهما فـي أن يتراجعا، فلـما حذفت (فـي) التـي كانت تـخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح علـيهما تراجعهما. وكان بعضهم يقول: موضعه خفض، وإن لـم يكن معها خافضها، وإن كان مـحذوفـا فمعروف موضعه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتِلْكَ حُدودُ اللّه يُبَـيّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَـمُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه هذه الأمور التـي بـينها لعبـاده فـي الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مـما يبـينه لهم فـي هذه الاَيات، حدود اللّه معالـم فصول حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، يُبَـيّنُها: يفصلها، فـيـميز بـينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلـمونها إذا بـينها اللّه لهم، فـيعرفون أنها من عند اللّه ، فـيصدقون بها، ويعملون بـما أودعهم اللّه من علـمه، دون الذين قد طبع اللّه علـى قلوبهم، وقضى علـيهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدّقون بأنها من عند اللّه ، فهم يجهلون أنها من اللّه ، وأنها تنزيـل من حكيـم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلـمون بـالبـيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم من تصديق كثـير منهم بها، وإن كان بـينها لهم من وجه الـحجة علـيهم ولزوم العمل لهم بها، وإنـما أخرجها من أن تكون بـيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به. ٢٣١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وإذا طلقتـم أيها الرجال نساءكم فبلغن أجلهن، يعنـي ميقاتهن الذي وقته لهن من انقضاء الأقراء الثلاثة إن كانت من أهل الأقراء وانقضاء الأشهر، إن كانت من أهل الشهور، فأَمْسِكُوهُنّ يقول: فراجعوهن إن أردتـم رجعتهن فـي الطلقة التـي فـيها رجعة، وذلك إما فـي التطلـيقة الواحدة أو التطلـيقتـين كما قال تعالـى ذكره: الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِـمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. وأما قوله: بِـمَعْرُوفٍ فإنه عنى بـما أذن به من الرجعة من الإشهاد علـى الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بـالوطء والـجماع، لأن ذلك إنـما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلـى الصحبة مع ذلك والعشرة بـما أمر اللّه به وبـينه لكم أيها الناس. أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ يقول: أو خـلّوهن يقضين تـمام عدتهنّ وينقضي بقـية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن بـمعروف، يقول: بإيفـائهن تـمام حقوقهن علـيكم علـى ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم. وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا يقول: ولا تراجعوهنّ إن راجعتـموهنّ فـي عددهنّ مضارة لهنّ لتطوّلوا علـيهنّ مدة انقضاء عددهنّ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتـيتـموهنّ بطلبهنّ الـخـلع منكم لـمضارّتكم إياهنّ بإمساككم إياهنّ، ومراجعتكموهنّ ضرارا واعتداء. وقوله: لِتَعْتَدُوا يقول: لتظلـموهنّ بـمـجاوزتكم فـي أمرهنّ حدودي التـي بـينتها لكم. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٢٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبـي الضحى، عن مسروق: وَلا تُـمْسِكوهُن ضِرَارا قال: يطلقها حتـى إذا كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فـيدعها، حتـى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها، فذلك الذي يضارّ ويتـخذ آيات اللّه هزوا. ٤٢٥٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: سئل الـحسن عن قوله تعالـى: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال: كان الرجل يطلق الـمرأة، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ثم يراجعها يضارّها فنهاهم اللّه عن ذلك. ٤٢٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ قال نهى اللّه عن الضرار ضرارا أن يطلق الرجل امرأته، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقـى من الأجل حتـى يفـي لها تسعة أشهر لـيضارّها به. ٤٢٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه، إلا أنه قال: نهى عن الضرار، والضرارُ فـي الطلاق: أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها. وسائر الـحديث مثل حديث مـحمد بن عمرو. ٤٢٦١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها، فأنزل اللّه هذه الآية. ٤٢٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال: كان الرجل يطلق امرأته تطلـيقة واحدة ثم يدعها، حتـى إذا ما تكاد تـخـلو عدتها راجعها، ثم يطلقها، حتـى إذا ما كاد تـخـلو عدتها راجعها، ولا حاجة له فـيها، إنـما يريد أن يضارّها بذلك، فنهى اللّه عن ذلك وتقدم فـيه، وقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَـمَ نَفْسَه. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: قال اللّه تعالـى ذكره: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا فإذا طلق الرجل الـمرأة وبلغت أجلها فلـيراجعها بـمعروف أو لـيسرحها بإحسان، ولا يحلّ له أن يراجعها ضرارا، ولـيست له فـيها رغبة إلا أن يضارّها. ٤٢٦٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة فـي قوله: وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال: هو فـي الرجل يحلف بطلاق امرأته، فإذا بقـي من عدتها شيء راجعها يضارّها بذلك، ويطوّل علـيها فنهاهم اللّه عن ذلك. ٤٢٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـي أويس، عن مالك بن أنس، عن ثور بن زيد الديـلـي: أن رجلاً كان يطلق امرأته ثم يراجعها، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيـما يطوّل علـيها بذلك العدّة لـيضارّها فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَـمَ نَفْسَهُ يعظّم ذلك. ٤٢٦٥ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ولا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرارا: هو الرجل يطلق امرأته واحدة، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ثم يراجعها، ثم يطلقها لـيضارّها بذلك لتـختلع منه. ٤٢٦٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِـمَعْرُوفٍ وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَـمَ نَفْسَهُ وَلا تَتّـخِذُوا آياتِ اللّه هُزُوا قال: نزلت فـي رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتـى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها، ففعل ذلك بها، حتـى مضت لها تسعة أشهر مضارّة يضارّها، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا. ٤٢٦٧ـ حدثنـي العبـاس بن الولـيد، قال: أخبرنـي أبـي، قال: سمعت عبد العزيز يسأل عن طلاق الضرار، فقال: يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، ثم يراجع، فهذا الضرار الذي قال اللّه : وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا. ٤٢٦٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فضيـل بن مرزوق، عن عطية: وَلا تُـمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال: الرجل يطلق امرأته تطلـيقة، ثم يتركها حتـى تـحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها، ثم يطلقها تطلـيقة، ثم يـمسك عنها حتـى تـحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها لتعتدوا قال: لا يطاول علـيهن. وأصل التسريح من سَرْحِ القوم، وهو ما أطلق من نعمهم للرعي، يقال للـمواشي الـمرسلة للرعي: هذا سَرْح القوم، يراد به مواشيهم الـمرسلة للرعي، ومنه قول اللّه تعالـى ذكره: والأنْعامَ خَـلَقَها لَكُمْ فِـيها دِفْءٌ وَمَناِفعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِـيها جمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون يعنـي بقوله حين تسرحون: حين ترسلونها للرعي فقـيـل للـمرأة إذا خلاها زوجها فأبـانها منه: سَرّحها، تـمثـيلاً لذلك بتسريح الـمسرّح ماشيته للرعي وتشبـيها به. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَـمَ نَفْسَهُ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها فـي الطلاق الذي له فـيه علـيها الرجعة ضرارا بها لـيعتدي حدّ اللّه فـي أمرها، فقد ظلـم نفسه، يعنـي فأكسبها بذلك إثما، وأوجب لها من اللّه عقوبة بذلك. وقد بـينا معنى الظلـم فـيـما مضى، وأنه وضع الشيء فـي غير موضعه وفعل ما لـيس للفـاعل فعله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَتّـخِذُوا آياتِ اللّه هُزُوا. يعنـي تعالـى ذكره: ولا تتـخذوا أعلام اللّه وفصوله بـين حلاله وحرامه وأمره ونهيه فـي وحيه وتنزيـله استهزاءً ولعبـا، فإنه قد بـين لكم فـي تنزيـله وآي كتابه ما لكم من الرجعة علـى نسائكم فـي الطلاق الذي جعل لكم علـيهن فـيه الرجعة، وما لـيس لكم منها، وما الوجه الـجائز لكم منها وما الذي لا يجوز، وما الطلاق الذي لكم علـيهن فـيه الرجعة وما لـيس لكم ذلك فـيه، وكيف وجوه ذلك رحمة منه بكم ونعمة منه علـيكم، لـيجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فـيه من صاحبه مـما هو فـيه الـمخرج والـمخـلص بـالطلاق والفراق، وجعل ما جعل لكم علـيهنّ من الرجعة سبـيلاً لكم إلـى الوصول إلـى ما نازعه إلـيه ودعاه إلـيه هواه بعد فراقه إياهن منهن، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن، إنعاما منه بذلك علـيكم، لا لتتـخذوا ما بـينت لكم من ذلك فـي آي كتابـي وتنزيـلـي تفضلاً منـي ببـيانه علـيكم، وإنعاما ورحمة منـي بكم لعبـا وسخريا. وبـمعنى ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٢٦٩ـ حدثنـي عبد اللّه بن أحمد بن شبّوبَةَ، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أيوب بن سلـيـمان، قال: حدثنا أبو بكر بن أبـي أويس، عن سلـيـمان بن بلال، عن مـحمد بن أبـي عتـيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سلـيـمان بن أرقم، أن الـحسن حدثهم: أن الناس كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطّلق الرجل أو يعتق، فـيقال: ما صنعت؟ فـ يقول: إنـما كنت لاعبـا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ طَلّق لاعِبـا أوْ أعْتَق لاعِبـا فَقَدْ جاز عَلَـيْهِ) قال الـحسن: وفـيه نزلت: وَلا تَتّـخِذُوا آياتِ اللّه هُزُوا. ٣حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَلا تَتّـخِذُوا آياتِ اللّه هُزُوا قال: كان الرجل يطلق امرأته، فـ يقول: إنـما طلقت لاعبـا، ويتزوّج أو يعتق أو يتصدّق فـ يقول: إنـما فعلت لاعبـا، فنهوا عن ذلك، فقال تعالـى ذكره: وَلا تَتّـخِذُوا آياتِ اللّه هُزُوا. ٣حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبـي العلاء، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبـي موسى: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غضب علـى الأشعريـين فأتاه أبو موسى، فقال: يا رسول اللّه غضبت علـى الأشعريـين فقال: (يَقُولُ أحَدُكُمْ قَدْ طَلّقْتُ قَد راجَعْتُ لَـيْسَ هَذا طَلاقَ الـمُسْلِـمِين، طَلّقُوا الـمَرأةَ فـي قُبْلِ عِدّتِها). ٤٢٧٠ـ حدثنا أبو زيد، عن ابن شبة، قال: حدثنا أبو غسان النهدي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن أبـي خالد، يعنـي الدالانـي، عن أبـي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبـي موسى الأشعري، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لهم: (يَقُولُ أحَدُكُمْ لاِمْرأتِهِ: قَدْ طَلّقْتُكِ، قَدْ راجَعْتُكِ لَـيْس هَذَا بِطَلاق الـمُسْلِـمِين، طَلّقُوا الـمَرأةَ فـي قُبْلِ عِدّتِها). القول فـي تأويـل قوله تعالـى: واذْكُرُوا نِعْمَة اللّه عَلَـيْكُمْ وَما أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنَ الكِتابِ والـحِكْمَةِ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واذكروا نعمة اللّه علـيكم بـالإسلام، الذي أنعم علـيكم به، فهداكم له، وسائر نعمه التـي خصكم بها دون غيركم من سائر خـلقه، فـاشكروه علـى ذلك بطاعته فـيـما أمركم به ونهاكم عنه، واذكروا أيضا مع ذلك، ما أنزل علـيكم من كتابه ذلك، القرآن الذي أنزله علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، واذكروا ذلك فـاعلـموا به، واحفظوا حدوده فـيه. والـحكمة: يعنـي: وما أنزل علـيكم من الـحكمة، وهي السنن التـي علـمكموها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسنها لكم. وقد ذكرت اختلاف الـمختلفـين فـي معنى الـحكمة فـيـما مضى قبل فـي قوله: ويُعَلّـمُهُمُ الكِتابَ وَالـحَكْمَةَ فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُوا اللّه وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: يَعِظُكُمْ بِهِ يعظكم بـالكتاب الذي أنزل علـيكم. والهاء التـي فـي قوله (به) عائدة علـى الكتاب. وَاتّقُوا اللّه يقول: وخافوا اللّه فـيـما أمركم به، وفـيـما نهاكم عنه فـي كتابه الذي أنزله علـيكم، وفـيـما أنزله فبـينه علـى لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من ألـيـم عقابه، ونكال عذابهوقوله: وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ يقول: واعلـموا أيها الناس أن ربكم الذي حدّ لكم هذه الـحدود، وشرع لكم هذه الشرائع، وفرَض علـيكم هذه الفرائض فـي كتابه وفـي تنزيـله، علـى رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بكل ما أنتـم عاملوه من خير وشرّ، وحسن وسيىء، وطاعة ومعصية، عالـم لا يخفـى علـيه من ظاهر ذلك وخفـيه وسره وجهره شيء، وهو مـجازيكم بـالإحسان إحسانا، وبـالسيىء سيئا، إلا أن يعفو ويصفح فلا تتعرّضوا لعقابه، ولا تظلـموا أنفسكم. ٢٣٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ ... } ذكر أن هذه الآية نزلت فـي رجل كانت له أخت كان زوّجها من ابن عم لها، فطلقها وتركها فلـم يراجعها حتـى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوّجها إياه ومنعها منه وهي فـيه راغبة. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الرجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فـيه هذه الآية، فقال بعضهم: كان ذلك الرجل معقل بن يسار الـمُزَنـي. ذكر من قال ذلك: ٤٢٧١ـحدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، عن معقل بن يسار، قال: كانت أخته تـحت رجل فطلقها ثم خلا عنها حتـى إذا انقضت عدتها خطبها، فحَمِيَ معقل من ذلك أَنَفـا وقال: خلا عنها وهو يقدر علـيها فحال بـينه وبـينها. فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ. ٤٢٧٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الـحسن، عن معقل بن يسار: أن أخته طلقها زوجها، فأراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ... إلـى آخر الآية. ٤٢٧٣ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه الـمخزومي، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا عبـاد بن راشد، قال: حدثنا الـحسن، قال: ثنـي معقل بن يسار، قال: كانت لـي أخت تُـخطَب وأمنعها الناس، حتـى خطب إلـيّ ابن عم لـي فأنكحتها، فـاصطحبـا ما شاء اللّه ، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتـى انقضت عدتها، ثم خطبت إلـيّ فأتانـي يخطبها مع الـخطاب، فقلت له: خطبت إلـيّ فمنعتها الناس، فآثرتك بها، ثم طلقت طلاقا لك فـيه رجعة، فلـما خطبت إلـيّ آتـيتنـي تـخطبها مع الـخطاب؟ واللّه لا أنكحها أبدا قال: ففـيّ نزلت هذه الآية: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ قال: فكفرت عن يـمينـي وأنكحتها إياه. ٤٢٧٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ ذكر لنا أن رجلاً طلق امرأته تطلـيقة، ثم خلا عنها حتـى انقضت عدتها، ثم قرّب بعد ذلك يخطبها والـمرأة أخت معقل بن يسار فأنف من ذلك معقل بن يسار، وقال: خلا عنها وهي فـي عدتها ولو شاء راجعها، ثم يريد أن يراجعها وقد بـانت منه؟ فأبى علـيها أن يزوّجها إياه. وذكر لنا أن نبـيّ للّه لـما نزلت هذه الآية دعاه فتلاها علـيه، فترك الـحمية واستقاد لأمر اللّه . ٤٢٧٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن يونس، عن الـحسن قوله تعالـى: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ إلـى آخر الآية، قال: نزلت هذه الآية فـي معقل بن يسار. قال الـحسن: حدثنـي معقل بن يسار أنها نزلت فـيه، قال: زوّجت أختا لـي من رجل فطلقها، حتـى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوّجتك وفرشتك أختـي وأكرمتك، ثم طلقتها، ثم جئت تـخطبها؟ لا تعود إلـيك أبدا قال: وكان رجل صدق لا بأس به، وكانت الـمرأة تـحبّ أن ترجع إلـيه، قال اللّه تعالـى ذكره: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ قال: فقلت الاَن أفعل يا رسول اللّه فزوّجها منه. ٤٢٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن بكر بن عبد اللّه الـمزنـي، قال: كانت أخت معقل بن يسار تـحت رجل فطلقها، فخطب إلـيه، فمنعها أخوها، فنزلت: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ... إلـى آخر الآية. ٤٢٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ الآية، قال: نزلت فـي امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبـينت منه، فنكحها آخر، فعضلها أخوها معقل بن يسار يضارّها خيفة أن ترجع إلـى زوجها الأوّل. قال ابن جريج: وقال عكرمة: نزلت فـي معقل بن يسار، قال ابن جريج أختهُ جميَـل ابنة يسار كانت تـحت أبـي البداح طلّقها، فـانقضت عدتها، فخطبها، فعضلها معقل بن يسار. ٤٢٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ نزلت فـي امرأة من مزينة طلقها زوجها فعضلها أخوها أن ترجع إلـى زوجها الأول وهو معقل بن يسار أخوها. ٤٢٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله، إلا أنه لـم يقل فـيه: وهو معقل بن يسار. ٤٢٨٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا سفـيان، عن أبـي إسحاق الهمدانـي: أن فـاطمة بنت يسار طلقها زوجها، ثم بدا له فخطبها، فأبى معقل، فقال: زوّجناك فطلقتها وفعلت فأنزل اللّه تعالـى ذكره: فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ. ٤٢٨١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن وقتادة فـي قوله: فَلا تَعْضُلُوهُنّ قال: نزلت فـي معقل بن يسار، كانت أخته تـحت رجل، فطلقها، حتـى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها، فعضلها معقل، فأبى أن ينكحها إياه، فنزلت فـيها هذه الآية يعنـي به الأولـياء يقول: فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ. ٤٢٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن رجل، عن معقل بن يسار قال: كانت أختـي عند رجل فطلقها تطلـيقة بـائنة، فخطبها، فأبـيت أن أزوّجها منه، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُن... الآية. وقال آخرون: كان الرجل جابر بن عبد اللّه الأنصاري. ذكر من قال ذلك: ٤٢٨٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْواجَهُنّ إذَا تَراضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ قال: نزلت فـي جابر بن عبد اللّه الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطلـيقة، فـانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها، فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانـية وكانت الـمرأة تريد زوجها قد راضته، فنزلت هذه الآية. وقال آخرون: نزلت هذه الآية دلالة علـى نهي الرجل عن مضارّة ولـيته من النساء، يعضلها عن النكاح. ذكر من قال ذلك: حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ فهذا فـي الرجل يطلق امرأته تطلـيقة أو تطلـيقتـين فتنقضي عدّتها، يبدو له فـي تزويجها وأن يراجعها، وتريد الـمرأة، فـيـمنعها أولـياؤها من ذلك، فنهى اللّه سبحانه أن يـمنعوها. ٤٢٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلُهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضُوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوفِ كان الرجل يطلق امرأته تبـين منه، وينقضي أجلها، ويريد أن يراجعها، وترضى بذلك، فـيأبى أهلها، قال اللّه تعالـى ذكره: فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضَوْا بَـيْنُهُمْ بـالـمَعْرُوفِ. ٤٢٨٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن منصور، عن أبـي الضحى، عن مسروق فـي قوله: فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يبدو له أن يتزوّجها، فـيأبى أولـياء الـمرأة أن يزوجوها، فقال اللّه تعالـى ذكره: فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ إذَا تَرَاضَوْا بَـيْنَهُمْ بِـالـمَعْرُوف. ٤٢٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيـم فـي قوله: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ قال: الـمرأة تكون عند الرجل فـيطلقها، ثم يريد أن يعود إلـيها فلا يعضلها ولـيها أن ينكحها إياه. ٤٢٨٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، عن يونس، عن ابن شهاب: قال اللّه تعالـى ذكره: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ... الآية، فإذا طلق الرجل الـمرأة وهو ولـيها، فـانقضت عدّتها، فلـيس له أن يعضلها حتـى يرثها ويـمنعها أن تستعف بزوج. ٤٢٨٨ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال أخبرنا عبـيد بن سلـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وإذَا طَلّقْتُـمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ هو الرجل يطلق امرأته تطلـيقة ثم يسكت عنها، فـيكون خاطبـا من الـخطاب، فقال اللّه لأولـياء الـمرأة: لا تعضلوهن، يقول: لا تـمنعوهنّ أن يرجعن إلـى أزواجهن بنكاح جديد إذا تراضوا بـينهم بـالـمعروف إذا رضيت الـمرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد. والصواب من القول فـي هذه الآية أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره أنزلها دلالة علـى تـحريـمه علـى أولـياء النساء مضارة من كانوا له أولـياء من النساء بعضلهنّ عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهنّ، فبنّ منهنّ بـما تبـين به الـمرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت فـي أمر معقل بن يسار وأمر أخته أو فـي أمر جابر بن عبد اللّه وأمر ابنة عمه، وأي ذلك كان فـالآية دالة علـى ما ذكرت. ويعنـي بقوله تعالـى: فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لا تضيقوا علـيهن بـمنعكم إياهنّ أيها الأولـياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارتهن، يقال منه: عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلاً. وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها: عَضِلَ يَعْضَلُ، فمن كان من لغته عضِل، فإنه إن صار إلـى يَفْعَلِ، قال: يَعْضَل بفتـح الضاد، والقراءة علـى ضم الضاد دون كسرها، والضم من لغة من قال عَضَل. وأصل العَضْل: الضيق، ومنه قول عمر رحمة اللّه علـيه: (وقد أعضل به أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال)، يعنـي بذلك حملونـي علـى أمر ضيق شديد لا أطيق القـيام به، ومنه أيضا: الداء العُضال، وهو الداء الذي لا يطاق علاجه لضيقه عن العلاج، وتـجاوزه حدّ الأدواء التـي يكون لها علاج، ومنه قول ذي الرمة: ولَـمْ أقْذِفْ لـمُؤْمِنَةٍ حَصَانٍبإذْنِ اللّه مُوجِبَةً عُضَالا ومن قـيـل: عضل الفضاء بـالـجيش لكثرتـم: إذا ضاق عنهم من كثرتهم. وقـيـل: عضلت الـمرأة: إذا نشب الولد فـي رحمها فضاق علـيه الـخروج منها، ومنه قول أوس بن حجر: وَلَـيْسَ أخُوكَ الدّائِمُ العَهْدِ بـالّذِييَذُمّكَ إنْ ولّـى وَيُرْضيكَ مُقْبِلاَ ولَكِنّهُ النّائي إذَا كُنْتُ آمِناوَصَاحِبُكَ الأدْنَى إذَا الأمْرُ أعْضَلا و (أن) التـي فـي قوله أنْ يَنْكِحْنَ فـي موضع نصب قوله: تَعْضُلُوهُنّ. ومعنى قوله: إذَا تَرَاضَوْا بَـيْنَهُمْ بـالـمَعْرُوف إذا تَرَاضى الأزواج والنساء بـما يحلّ، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهنّ من الـمهور ونكاح جديد مستأنف. كما: ٤٢٨٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عمير بن عبد اللّه ، عن عبد الـملك بن الـمغيرة، عن عبد الرحمن بن البـيـلـمانـي، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أنْكحُوا الأيامَى) فقال رجل يا رسول اللّه ما العلائق بـينهم، قال: (ما تَرَاضَى عَلَـيْهِ أهْلُوهُمْ). ٤٢٩٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن الـحارث، قال: حدثنا مـحمد بن عبد الرحمن بن البـيـلـمانـي، عن أبـيه، عن ابن عمر، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم بنـحو منه. وفـي هذه الآية الدلالة الواضحة علـى صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولـيّ من العصبة. وذلك أن اللّه تعالـى ذكره منع الولـيّ من عضل الـمرأة إن أرادت النكاح، ونهاه عن ذلك، فلو كان للـمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح ولـيها إياها، أو كان لها تولـية من أرادت تولـيته فـي إنكاحها لـم يكن لنهي ولـيها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبـيـل له إلـى عضلها، وذلك أنها إن كانت متـى أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها، فلا عضل هنالك لها من أحد، فـينهى عاضلها عن عضلها. وفـي فساد القول بأن لا معنى لنهي اللّه عما نهى عنه صحة القول بأن لولّـي الـمرأة فـي تزويجها حقا لا يصحّ عقده إلا به، وهو الـمعنى الذي أمر اللّه به الولّـي من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به، وكان رضى عند أولـيائها جائزا فـي حكم الـمسلـمين لـمثلها أن تنكح مثله، ونهاه عن خلافه من عضلها، ومنعها عما أرادت من ذلك وتراضت هي والـخاطب به. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِر. يعنـي تعالـى ذكره بقوله ذلك ما ذكر فـي هذه الآية: من نهي أولـياء الـمرأة عن عضلها عن النكاح يقول: فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح عظة منـي من كان منكم أيها الناس يؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر، يعنـي يصدّق بـاللّه فـيوحده، ويقرّ بربوبـيته، والـيَوْمِ الأخِر يقول: ومن يؤمن بـالـيوم الاَخر فـيصدق بـالبعث للـجزاء والثواب والعقاب، لـيتقـي اللّه فـي نفسه، فلا يظلـمها بضرار ولـيته، ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها مـمن أذنت لها فـي نكاحه. فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ وهو خطاب للـجميع، وقد قال من قبل: فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ وإذا جاز أن يقال فـي خطاب الـجميع ذلك أفـيجوز أن تقول لـجماعة من الناس وأنت تـخاطبهم أيها القوم: هذا غلامك وهذا خادمك، وأنت تريد: هذا خادمكم وهذا غلامكم؟ قـيـل لا، إن ذلك غير جائز مع الأسماء الـموضوعات، لأن ما أضيف له الأسماء غيرها، فلا يفهم سامع سمع قول قائل لـجماعة أيها القوم هذا غلامك، أنه عنى بذلك: هذا غلامكم، إلا علـى استـخطاء الناطق فـي منطقه ذلك، فإن طلب لـمنطقه ذلك وجها، فـالصواب صرف كلامه ذلك إلـى إنه انصرف عن خطاب القوم بـما أراد خطابهم به إلـى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم، وترك مـجاوزة القوم بـما أراد مـجاوزتهم به من الكلام، ولـيس ذلك كذلك فـي ذلك لكثرة جري ذلك علـى ألسن العرب فـي منطقها وكلامها، حتـى صارت الكاف التـي هي كناية اسم الـمخاطب فـيها كهيئة حرف من حروف الكلـمة التـي هي متصلة بها، وصارت الكلـمة بها كقول القائل هذا، كأنها لـيس معها اسم مخاطب، فمن قال: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كان مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بـاللّه والـيَوْمِ الاَخِر أقر الكاف من ذلك موحدة مفتوحة فـي خطاب الواحدة من النساء والواحد من الرجال، والتثنـية والـجمع، ومن قال: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ كسر فـي خطاب الواحدة من النساء، وفتـح فـي خطاب الواحد من الرجال فقال فـي خطاب الاثنـين منهم ذلكما، وفـي خطاب الـجمع ذلكم. إن قوله: ذلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بـاللّه خطاب للنبـي صلى اللّه عليه وسلم، ولذلك وحّد ثم رجع إلـى خطاب الـمؤمنـين بقوله: مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بـاللّه وإذا جاء التأويـل إلـى هذا الوجه لـم يكن فـيه مؤنة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: ذَلِكُمْ أزْكَى لَكُمْ وأطْهَرُ وَاللّه يَعْلَـمُ وأنْتُـم لا تَعْلَـمُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذَلِكُمْ نكاح أزواجهنّ لهنّ، ومراجعة أزواجهنّ أياهنّ بـما أبـاح لهنّ من نكاح ومهر جديد، أزكى لكم أيها الأولـياء والأزواج والزوجات. ويعنـي بقوله: أزْكَى لَكُمْ أفضل وخير عند اللّه من فرقتهن أزواجهن. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الزكاة، فأغنى ذلك عن إعادته. وأما قوله وأطْهَرَ فإنه يعنـي بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة، وذلك أنهما إذا كان فـي نفس كل واحد منهما أعنـي الزوج والـمرأة علاقة حب، لـم يؤمن أن يتـجاوزا ذلك إلـى غير ما أحله اللّه لهما، ولـم يؤمن من أولـيائهما أن يسبق إلـى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر اللّه تعالـى ذكره الأولـياء إذا أراد الأزواج التراجع بعد البـينونة بنكاح مستأنف فـي الـحال التـي أذن اللّه لهما بـالتراجع أن لا يعضل ولـيته عما أرادت من ذلك، وأن يزوّجها، لأن ذلك أفضل لـجميعهم، وأطهر لقلوبهم مـما يخاف سبوقه إلـيها من الـمعانـي الـمكروهة. ثم أخبر تعالـى ذكره عبـاده أنه يعلـم من سرائرهم وخفـيات أمورهم، ما لا يعلـمه بعضهم من بعض، ودلّهم بقوله لهم ذلك فـي الـموضع أنه إنـما أمر أولـياء النساء بإنكاح من كانوا أولـياءه من النساء إذا تراضت الـمرأة والزوج الـخاطب بـينهم بـالـمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك لـما علـم مـما فـي قلب الـخاطب والـمخطوب من غلبة الهوى والـميـل من كل واحد منهما إلـى صاحبه بـالـمودة والـمـحبة، فقال لهم تعالـى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به إن كنتـم تؤمنون بـي وبثوابـي وبعقابـي فـي معادكم فـي الاَخرة، فإنـي أعلـم من قلب الـخاطب والـمخطوبة ما لا تعلـمونه من الهوى والـمـحبة، وفعلكم ذلك أفضل لكم عند اللّه ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن فـي العاجل. ٢٣٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والنساء اللواتـي بنّ من أزواجهنّ ولهن وأولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بـينونتهن منهم بطلاق أو ولدنهم منهم بعد فراقهم إياهن من وطء كان منهم لهن قبل البـينونة يرضعن أولادهن، يعنـي بذلك أنهن أحقّ برضاعهم من غيرهن. ولـيس ذلك بإيجاب من اللّه تعالـى ذكره علـيهن رضاعهم، إذا كان الـمولود له والدا حيا موسرا لأن اللّه تعالـى ذكره قال فـي سورة النساء القصرى: وإنْ تعَاسَرْتُـمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى وأخبر تعالـى أن الوالدة والـمولود له إن تعاسرا فـي الأجرة التـي ترضع بها الـمرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلـم يوجب علـيها فرضا رضاع ولدها، فكان معلوما بذلك أن قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ دلالة علـى مبلغ غاية الرضاع التـي متـى اختلف الولدان فـي رضاع الـمولود بعدها، جعل حدّا يفصل به بـينهما، لا دلالة علـى أن فرضا علـى الوالدات رضاع أولادهن. وأما قوله حَوْلَـيْن فإنه يعنـي به سنتـين، كما: ٤٢٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ سنتـين. ٤٢٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وأصل الـحول من قول القائل: حال هذا الشيء: إذا انتقل، ومنه قـيـل: تـحوّل فلان من مكان كذا: إذا انتقل عنه. فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر كاملـين فـي قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ بعد قوله يرضعن حولـين وفـي ذكر الـحولـين مستغنى عن ذكر الكاملـين؟ إذ كان غير مشكل علـى سامع سمع قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ ما يراد به، فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملـين؟ قـيـل: إن العرب قد تقول: أقام فلان بـمكان كذا حولـين أو يومين أو شهرين، وإنـما أقام به يوما وبعض آخر أو شهرا وبعض آخر، أو حولاً وبعض آخر فقـيـل حولـين كاملـين لـيعرف سامع ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، لا حول وبعض آخر، وذلك كما قال اللّه تعالـى ذكره: وَاذْكُروا اللّه فِـي أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجّلَ فِـي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَـيْهِ. ومعلوم أن الـمتعجل إنـما يتعجل فـي يوم ونصف، فكذلك ذلك فـي الـيوم الثالث من أيام التشريق، وأنه لـيس منه شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك فـي الأوقات خاصة، فتقول: الـيوم يومان منذ لـم أره، وإنـما تعنـي بذلك يوما وبعض آخر، وقد توقع الفعل الذي تفعله فـي الساعة أو اللـحظة علـى العام والزمان والـيوم، فتقول زرته عام كذا، وقتل فلان فلانا زمان صفّـين، وإنـما تفعل ذلك لأنها لا تقصد بذلك الـخبر عن عدد الأيام والسنـين، وإنـما تعنـي بذلك الأخبـار عن الوقت الذي كان فـيه الـمخبر عنه، فجاز أن ينطق بـالـحولـين والـيومين علـى ما وصفت قبل، لأن معنى الكلام فـي ذلك: فعلته إذ ذاك، وفـي ذلك الوقت. فكذلك قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ لـما جاز الرضاع فـي الـحولـين ولـيسا بـالـحولـين، فكان الكلام لو أطلق فـي ذلك بغير تضمين الـحولـين بـالكمال، وقـيـل: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ مـحتـملاً أن يكون معنـيا به حول وبعض آخر نفـي اللبس عن سامعيه بقوله: كامِلَـيْنِ أن يكون مرادا به حول وبعض آخر، وأُبـين بقوله: كامِلَـيْنِ عن وقت تـمام حدّ الرضاع، وأنه تـمام الـحولـين بـانقضائهما دون انقضاء أحدهما وبعض الاَخر. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذي دلت علـيه هذه الآية من مبلغ غاية رضاع الـمولودين، أهو حدّ لكل مولود، أو هو حدّ لبعض دون بعض؟ فقال بعضهم: هو حدّ لبعض دون بعض. ذكر من قال ذلك: ٤٢٩٣ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي التـي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولـين كاملـين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتـمام ثلاثـين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا. ٤٢٩٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة بـمثله، ولـم يرفعه إلـى ابن عبـاس . ٤٢٩٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبـي عبـيدٍ قال: رفع إلـى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رفعت لا أراها إلا قد جاءت بشرّ أو نـحو هذا ولدت لستة أشهر، فقال ابن عبـاس : إذا أتـمت الرضاع كان الـحمل لستة أشهر قال: وتلا ابن عبـاس : وحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرا، فإذا أتـمت الرّضاع كان الـحمل لستة أشهر. فخـلّـى عثمان سبـيـلها. وقال آخرون: بل ذلك حدّ رضاع كل مولود اختلف والداه فـي رضاعه، فأراد أحدهما البلوغ إلـيه، والاَخر التقصير عنه. ذكر من قال ذلك: ٤٢٩٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ فجعل اللّه سبحانه الرضاع حولـين لـمن أراد أن يتـمّ الرضاعة، ثم قال: فإنْ أرَادَ فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما إن أرادا أن يفطماه قبل الـحولـين وبعده. ٤٢٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنِ كامِلَـيْنِ قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولـين كان علـيها حقا أن تبلغه لا أن تزيد علـيه إلا أن يشاء. ٤٢٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا زيد بن أبـي الزرقاء جميعا، عن الثوري فـي قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ لِـمَنْ أرَادَ أنْ يُتِـمّ الرّضَاعَةَ والتـمام: الـحولان، قال: فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الـحولـين ولـم ترض الـمرأة فلـيس له ذلك، وإذا قالت الـمرأة أنا أفطمه قبل الـحولـين وقال الأب لا. فلـيس لها أن تفطمه حتـى يرضى الأب حتـى يجتـمعا، فإن اجتـمعا قبل الـحولـين فطماه، وإذا اختلفـا لـم يفطماه قبل الـحولـين، وذلك قوله: فإنْ أرَادَ فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ. وقال آخرون: بل دل اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ علـى أن لا رضاع بعد الـحولـين، فإن الرضاع إنـما هو. كان فـي الـحولـين. ذكر من قال ذلك: ٤٢٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا ابن أبـي ذئب، قال: حدثنا الزهري، عن ابن عبـاس وابن عمر أنهما قالا: إن اللّه تعالـى ذكره يقول: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كَامِلَـيْنِ ولا نرى رضاعا بعد الـحولـين يحرّم شيئا. ٤٣٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: كان ابن عمر وابن عبـاس يقولان: لا رضاع بعد الـحولـين. ٤٣٠١ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا حفص، عن الشيبـانـي، عن أبـي الضحى، عن أبـي عبد الرحمن، عن عبد اللّه قال: ما كان من رضاع بعد سنتـين أو فـي الـحولـين بعد الفطام فلا رضاع. ٤٣٠٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم عن علقمة: أنه رأى امرأة ترضع بعد حولـين، فقال لا ترضعيه. ٤٣٠٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الشيبـانـي، قال: سمعت الشعبـي، يقول: ما كان من وَجُور أو سَعُوط أو رضاع فـي الـحولـين فإنه يحرّم، وما كان بعد الـحولـين لـم يحرّم شيئا. ٤٣٠٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم أنه كان يحدّث عن عبد اللّه أنه قال: لا رضاع بعد فصال أو بعد حولـين. ٤٣٠٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيـل، عن عبد الأعلـى، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: لـيس يحرم من الرضاع بعد التـمام، إنـما يحرّم ما أنبت اللـحم وأنشأ العظم. ٤٣٠٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار، أن ابن عبـاس قال: لا رضاع بعد فصال السنتـين. ٤٣٠٧ـ حدثنا هلال بن العلاء الرقـي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبـي الضحى، قال: سمعت ابن عبـاس يقول: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ قال: لا رضاع إلا فـي هذين الـحولـين. وقال آخرون: بل كان قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كَامِلَـيْنِ دلالة من اللّه تعالـى ذكره عبـاده علـى أن فرضا علـى والدات الـمولودين أن يرضعنهم حولـين كاملـين، ثم خفف تعالـى ذكره ذلك بقوله: لِـمَنْ أرَادَ أنْ يُتِـمّ الرّضَاعَةَ فجعل الـخيار فـي ذلك إلـى الاَبـاء والأمهات إذا أرادوا الإتـمام أكملوا حولـين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم الـمولود كان ذلك إلـيهم علـى النظر منهم للـمولود. ذكر من قال ذلك: ٤٣٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ ثم أنزل اللّه الـيسر والتـخفـيف بعد ذلك، فقال تعالـى ذكره: لِـمَنْ أرَادَ أنْ يُتِـمّ الرّضَاعَةَ. ٤٣٠٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ يعنـي الـمطلقات يرضعن أولادهن حولـين كاملـين، ثم أنزل الرخصة والتـخفـيف بعد ذلك، فقال: لِـمَنْ أرَادَ أنْ يُتِـمّ الرّضَاعَةَ. ذكر من قال: إن الوالدات اللواتـي ذكرهنّ اللّه فـي هذا الـموضع البـائنات من أزواجهن علـى ما وصفنا قبل. ٤٣١٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قال: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ إلـى: إذا سَلّـمْتُـمْ ما آتـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ أما الوالدات يرضعن أولادهن حولـين كاملـين، فـالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بـما يرضع له غيرها. ٤٣١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا. ٤٣١٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، بنـحوه. وأولـى الأقوال بـالصواب فـي قوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ لِـمَنْ أرَادَ أنْ يُتِـمّ الرّضَاعَةَ القول الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، ووافقه علـى القول به عطاء والثوري، والقول الذي رُوي عن عبد اللّه بن مسعود وابن عبـاس وابن عمر، وهو أنه دلالة علـى الغاية التـي ينتهي إلـيها فـي الرضاع الـمولود إذا اختلف والده، وأن لا رضاع بعد الـحولـين يحرّم شيئا، وأنه معنـي به كل مولود لستة أشهر كان وِلادُه، أو لسبعة أو لتسعة. فأما قولنا: إنه دلالة علـى الغاية التـي ينتهي إلـيها فـي الرضاع عند اختلاف الوالدين فـيه فلأن اللّه تعالـى ذكره لـما حدّ فـي ذلك حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حدّه موافقا فـي الـحكم ما دونه، لأن ذلك لو كان كذلك، لـم يكن للـحدّ معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الـحولـين من الأجل لـما كان وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع، وأن تـمام الرضاع لـما كان تـمام الـحولـين، وكان التامّ من الأشياء لا معنى إلـى الزيادة فـيه، كان لا معنى للزيادة فـي الرضاع علـى الـحولـين، وأن ما دون الـحولـين من الرضاع لـما كان مـحرّما، كان ما وراءه غير مـحرّم. وإنـما قلنا هو دلالة علـى أنه معنـي به كل مولود لأيّ وقت كان ولاده، لستة أشهر، أوسبعة، أو تسعة، لأن اللّه تعالـى ذكره عم بقوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كامِلَـيْنِ ولـم يخصص به بعض الـمولودين دون بعض. وقد دللنا علـى فساد القول بـالـخصوص بغير بـيان اللّه تعالـى ذكره ذلك فـي كتابه، أو علـى لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابنا (كتاب البـيان عن أصول الأحكام) بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. فإن قال لنا قائل: فإن اللّه تعالـى ذكره قد بـين ذلك بقوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرا فجعل ذلك حدا للـمعنـيـين كلـيهما، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الـحد الذي حدّه اللّه تعالـى ذكره، فما نقص من مدة الـحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد فـي مدة الرضاع، وما زيد فـي مدة الـحمل نقص من مدة الرضاع، وغير جائز أن يجاوز بهما كلـيهما مدة ثلاثـين شهرا، كما حدّه اللّه تعالـى ذكره؟ قـيـل له: فقد يجب أن يكون مدة الـحمل علـى هذه الـمقالة إن بلغت حولـين كاملـين، ألاّ يرضع الـمولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع سنـين أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الـحمل قد استغرق الثلاثـين شهرا وجاوز غايته. أو يزعم قائل هذه الـمقالة أن مدة الـحمل لن تـجاوز تسعة أشهر، فـيخرج من قول جميع الـحجة، ويكابر الـموجود والـمشاهد، وكفـى بهما حجة علـى خطأ دعواه إن ادّعى ذلك، فإلـى أيّ الأمرين لـجأ قائل هذه الـمقالة وضح لذوي الفهم فساد قوله. فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله إن كان الأمر علـى ما وصفت: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا وقد ذكرت آنفـا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حدّ اللّه تعالـى ذكره نظير ما دون حدّه فـي الـحكم، وقد قلت: إن الـحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثـين شهرا؟ قـيـل: إن اللّه تعالـى ذكره لـم يجعل قوله: وحَمْلُهُ ٤٣١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا لا تضار أم بولدها، ولا أب بولده. يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إلـيه إذا كان الأب حيا أو إلـى عصبته إذا كان الأب ميتا، ولا يضارّ الأب الـمرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه. ٤٣١٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا يقول: لا ينزع الرجل ولده من امرأته فـيعطيه غيرها بـمثل الأجر الذي تقبله هي به، ولا تضارّ والدة بولدها فتطرح الأم إلـيه ولده تقول لا ألـيه ساعة تضعه، ولكن علـيها من الـحقّ أن ترضعه حتـى يطلب مرضعا. ٤٣١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، وسئل عن قول اللّه تعالـى ذكره: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ كَامِلَـيْنِ إلـى لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدَهِ. قال ابن شهاب: والوالدات أحقّ برضاع أولادهنّ ما قبلن رضاعهنّ بـما يعطى غيرهنّ من الأجر ولـيس للوالدة أن تضارّ بولدها فتأبى رضاعة مضارّة وهي تُعْطَى علـيه ما يعطى غيرها من الأجر، ولـيس للـمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها. ٤٣١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـي، قال حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان فـي قوله: لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا لا ترم بولدها إلـى الأب إذا فـارقها تضاره بذلك، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدَهِ ولا ينزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك. ٤٣١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدَهِ قال: لا ينزعه منها وهي تـحب أن ترضعه فـيضارها، ولا تطرحه علـيه وهو لا يجد من ترضعه ولا يجد ما يسترضعه به. ٤٣١٨ـ حدثنا عمرو بن علـي البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنـي ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا قال: لا تدعنه ورضاعه من شأنها مضارة لأبـيه، ولا يـمنعها الذي عنده مضارة لها. وقال بعضهم: الوالدة التـي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبـي. ذكر من قال ذلك: ٤٣١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا هارون النـحوي، قال: حدثنا الزبـير بن الـحارث عن عكرمة فـي قوله: لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا قال: هي الظئر. فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بـمولوده منها، ولا والدة مولود والده بـمولودها منه، ثم ترك ذكر الفـاعل فـي يضار، فقـيـل: لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده، كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فـيـما لـم يسم فـاعله ولـم يقصد بـالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه: لا يكرم عمرو ولا يجلس إلـى أخيه، ثم ترك التضعيف فقـيـل: لا يضار، فحرّكت الراء الثانـية التـي كانت مـجزومة لو أظهر التضعيف بحركة الراء الأولـى. وقد زعم بعض أهل العربـية أنها إنـما حركت إلـى الفتـح فـي هذا الـموضع لأنه أحد الـحركات. ولـيس للذي قال من ذلك معنى، لأن ذلك إنـما كان جائزا أن يكون كذلك لو كان معنى الكلام: لا تضارون والدة بولدها، وكان الـمنهي عن الضرار هي الوالدة. علـى أن معنى الكلام لو كان كذلك لكان الكسر فـي تضارّ أفصح من الفتـح، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بـالفتـح، كما أن مَدّ بـالثوب أفصح من مدّ به. وفـي إجماع القراء علـى قراءة: لا تُضَارّ بـالفتـح دون الكسر دلـيـل واضح علـى إغفـال من حكيت قوله من أهل العربـية فـي ذلك. فإن قال قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تُضَارِرْ والدة، وأن الوالدة مرفوعة بفعلها، وأن الراء الأولـى حظها الكسر فقد أغفل تأويـل الكلام، وخالف قول جميع من حكينا قول من أهل التأويـل. وذلك أن اللّه تعالـى ذكره تقدم إلـى كل واحد من أبوي الـمولود بـالنهي عن ضرار صاحبه بـمولودها، لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضارّ الـمولود، وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارّة الصبـيّ، والصبـيّ فـي حال ما هو رضيع غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد، فلو كان ذلك معناه، لكل التنزيـل: لا تضرّ والدة بولدها. وقد زعم آخرون من أهل العربـية أن الكسر فـي (تضار) جائز، والكسر فـي ذلك عندي غير جائز فـي هذا الـموضع، لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى (لا تُضَارِرْ) الذي هو فـي مذهب ما لـم يسم فـاعله، إلـى معنى (لا تُضَارِرْ) الذي هو فـي مذهب ما قد سمي فـاعله. فإذا كان اللّه تعالـى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي الـمولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحقّ علـى إمام الـمسلـمين إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بـينونتها منه، وهي تـحضنه وتكلفه وترضعه بـما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة، أن يأخذ الوالد بتسلـيـم ولدها ما دام مـحتاجا الصبـي إلـيها فـي ذلك بـالأجرة التـي يعطاها غيرها. وحقّ إذا كان الصبـيّ لا يقبل ثدي غير والدته، أو كان الـمولود له لا يجد من يرضع ولده، وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا ولا يجد ما يتبرّع علـيه برضاع مولوده، أن يأخذ والدته البـائنة من والده برضاعه وحضانته لأن اللّه تعالـى ذكره حرم علـى كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، فـالإضرار به أحرى أن يكون مـحرّما مع ما فـي الإضرار به من مضارّة صاحبه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَعَلـى الوَارثِ مِثْلُ ذَلِكَ. اختلف أهل التأويـل فـي الوارث الذي عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَعَلـى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ وأي وارث هو؟ ووارث من هو؟ فقال بعضهم: هو وارث الصبـي و قالوا: معنى الآية: وعلـى وارث الصبـي إذا كان (أبوه) ميتا الذي كان علـى أبـيه فـي حياته. ذكر من قال ذلك: ٤٣٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قالا: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ علـى وارث الولد. ٤٣٢١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ علـى وارث الولد. ٤٣٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن قتادة: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: وعلـى وارث الصبـي مثل ما علـى أبـيه. ثم اختلف قائلو هذه الـمقالة فـي وارث الـمولود الذي ألزمه اللّه تعالـى مثل الذي وصف، فقال بعضهم: هم وارث الصبـيّ من قبل أبـيه من عصبته كائنا من كان أخا كان أو عمّا أو ابن عم أو ابن أخ. ذكر من قال ذلك: ٤٣٢٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج أن عمرو بن شعيب أخبره أن سعيد بن الـمسيب أخبره أن عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه (قال فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال) حبس بنـي عم علـى منفوس كلالة بـالنفقة علـيه مثل العاقلة. ٤٣٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن الـحسن كان يقول: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ علـى العصبة. ٤٣٢٥ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس وأبو عاصم، قالا: حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن الـمسيب قال: وقـف عمر ابن عم علـى منفوس كلالة برضاعه. ٤٣٢٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس أن الـحسن كان يقول: إذا توفـي الرجل وامرأته حامل، فنففتها من نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له، فإن لـم يكن له مال فنفقته علـى عصبته قال: وكان يتأول قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ علـى الرجال. ٤٣٢٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن، قال: علـى العصبة الرجال دون النساء. ٤٣٢٨ـ حدثنا أبو كريب وعمرو بن علـيّ قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا هشام عن ابن سيرين أنه أتـى عبد اللّه بن عتبة مع الـيتـيـم ولـيه، ومع الـيتـيـم من يتكلـم فـي نفقته، فقال لولـيّ الـيتـيـم: لو لـم يكن له مال لقضيت علـيك بنفقته، لأن اللّه تعالـى يقول: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ. ٤٣٢٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أيوب، عن مـحمد بن سيرين، قال: أتـى عبد اللّه بن عتبة فـي رضاع صبـيّ، فجعل رضاعه فـي ماله، وقال لولـيه: لو لـم يكن له مال جعلنا رضاعه فـي مالك، ألا تراه يقول: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ؟ ٤٣٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: علـى الوارث ما علـى الأب إذا لـم يكن للصبـي مال، وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه فعلـيه النفقة. ٤٣٣١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: الولّـي من كان. ٤٣٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن أبـي بشر ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٣٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٣٣٤ـ حدثنا عبد اللّه بن مـحمد الـحنفـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا يعقوب، يعنـي ابن القاسم، عن عطاء وقتادة فـي يتـيـم لـيس له شيء: أتـجبر أولـياؤه علـى نفقته؟ قالا: نعم، ينفق علـيه حتـى يدرك. ٤٣٣٥ـ حدثت عن يعلـى بن عبـيد، عن جويبر، عن الضحاك قال: إن مات أبو الصبـيّ وللصبـيّ مال أخذ رضاعه من الـمال، وإن لـم يكن له مال أخذ من العصبة، فإن لـم يكن للعصبة مال أجبرت علـيه أمه. وقال آخرون منهم: بل ذلك علـى وارث الـمولود من كان من الرجال والنساء. ذكر من قال ذلك: ٤٣٣٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أنه كان يقول: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ علـى وارث الـمولود ما كان علـى الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له علـى الرجال والنساء علـى قدر ما يرثون. ٤٣٣٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري: أن عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه أغرم ثلاثة كلهم يرث الصبـيّ أجر رضاعه. ٤٣٣٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عبد اللّه بن عتبة جعل نفقة صبـيّ من ماله، وقال لوارثه: أما إنه لو لـم يكن له مال أخذناك بنفقته، ألا ترى أنه يقول: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ؟. وقال آخرون منهم: هو من ورثته من كان منهم ذا رحم مـحرم للـمولود، فأما من كان ذا رحم منه ولـيس بـمـحرم كابن العم والـمولـى ومن أشبههما فلـيس من عناه اللّه بقوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ. والذين قالوا هذه الـمقالة: أبو حنـيفة، وأبو يوسف، مـحمد. وقالت فرقة أخرى: بل الذي عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ الـمولود نفسه. ذكر من قال ذلك: ٤٣٣٩ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم الـمصري، قال: حدثنا أبو زرعة وهب اللّه بن راشد، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنا جعفر بن ربـيعة أن بشر بن نصر الـمزنـي وكان قاضيا قـيـل ابن حجيرة فـي زمان عبد العزيز كان يقول: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: الوارث: هو الصبـي. ٤٣٤٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عبد اللّه بن يزيد الـمقرىء، قال: أخبرنا حيوة: قال: أخبرنا جعفر بن ربـيعة، عن قبـيصة بن ذؤيب: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: هو الصبـي. ٤٣٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن حيوة بن شريح، قال: أخبرنـي جعفر بن ربـيعة، أن قبـيصة بن ذؤيب كان يقول: الوارث: هو الصبـي، يعنـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ. ٤٣٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن جويبر، عن الضحاك : وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: يعنـي بـالوارث: الولد الذي يرضع. قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك علـى ما تأوّله هؤلاء: وعلـى الوارث الـمولود مثل ما كان علـى الـمولود له. وقال آخرون: بل هو البـاقـي من والدي الـمولود بعد وفـاة الاَخر منهما. ذكر من قال ذلك: ٤٣٤٣ـ حدثنـي عبد اللّه بن مـحمد الـحنفـي، قال: أخبرنا عبد اللّه بن عثمان، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: سمعت سفـيان يقول فـي صبـيّ له عم وأم وهي ترضعه، قال: يكون رضاعه بـينهما، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم، لأن الأم تـجبر علـى النفقة علـى ولدها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: مِثْلُ ذَلِكَ. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: مِثْلُ ذَلِكَ فقال بعضهم: تأويـله: وعلـى الوارث للصبـيّ بعد وفـاة أبويه مثل الذي كان علـى والده من أجر رضاعه ونفقته إذا لـم يكن للـمولود مال. ذكر من قال ذلك: ٤٣٤٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: علـى الوارث رضاع الصبـي. ٤٣٤٥ـ حدثنا عمرو بن علـيّ ومـحمد بن بشار قالا: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيـم: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: أجر الرضاع. ٤٣٤٦ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: الرضاع. ٤٣٤٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: أجر الرضاع. ٤٣٤٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن أيوب، عن مـحمد بن سيرين، عن عبد اللّه بن عتبة: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: الرضاع. ٤٣٤٩ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن أيوب، عن مـحمد، عن عبد اللّه بن عتبة فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: النفقة بـالـمعروف. ٤٣٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: علـى الوارث ما علـى الأب من الرضاع إذا لـم يكن للصبـيّ مال. ٤٣٥١ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: الرضاع والنفقة. ٤٣٥٢ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن إبراهيـم: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: الرضاع. ٤٣٥٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبـي، قال: الرضاع. ٤٣٥٤ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا أبو عوانة عن مطرّف، عن الشعبـي: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: أجر الرضاع. ٤٣٥٥ـ حدثنا عمرو، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيـم، والشعبـي مثله. ٤٣٥٦ـ حدثنا أبو كريب وعمرو بن علـيّ، قالا: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، قال سمعت هشاما عن الـحسن فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: الرضاع. ٤٣٥٧ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام وأشعث، عن الـحسن، مثله. ٤٣٥٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن يونس، عن الـحسن: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ يقول: فـي النفقة علـى الوارث إذا لـم يكن له مال. ٤٣٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن قـيس بن سعد، عن مـجاهد مثله. ٤٣٦٠ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن قـيس بن سعد، عن مـجاهد: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: النفقة بـالـمعروف. ٤٣٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ علـى الولّـي كفله ورضاعه إن لـم يكن للـمولود مال. ٤٣٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي الـحجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: وعلـى الوارث من كان مثل ما وصف من الرضاع. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير عن مـجاهد مثل ذلك فـي الرضاعة، قال: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: وعلـى الوارث أيضا كَفْله ورضاعه إن لـم يكن له مال، وأن لا يضار أمه. ٤٣٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي الـحجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس : وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: نفقته حتـى يفطم إن كان أبوه لـم يترك له مالاً. ٤٣٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: وعلـى وارث الولد ما كان علـى الولد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له. ٤٣٦٥ـ حدثنـي عبد اللّه بن مـحمد الـحنفـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن قتادة: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: علـى وارث الصبـيّ مثل ما علـى أبـيه، إذا كان قد هلك أبوه ولـم يكن له مال، فإن علـى الوارث أجر الرضاع. ٤٣٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: إذا مات ولـيس له مال كان علـى الوارث رضاع الصبـي. وقال آخرون: بل تأويـل ذلك: وعلـى الوارث مثل ذلك أن لا يضارّ. ذكر من قال ذلك: ٤٣٦٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ ومـحمد بن بشار، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن علـيّ بن الـحكم، عن الضحاك بن مزاحم: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: أن لا يضارّ. ٤٣٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن الشعبـي فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: لا يضارّ، ولا غرم علـيه. ٤٣٦٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد فـي قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ أن لا يضارّ. ٤٣٧٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَـيْنَ قال: الوالدات أحق برضاع أولادهنّ ما قبلن رضاعهنّ بـما يعطى غيرهنّ من الأجر. ولـيس لوالدة أن تضارّ بولدها فتأبى رضاعه مضارّة، وهي تُعْطَى علـيه ما يعطى غيرها. ولـيس للـمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطى غيرها وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ مثل الذي علـى الوالد فـي ذلك. ٤٣٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنا علـيّ، قال: حدثنا زيد، عن سفـيان: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: أن لا يضارّ وعلـيه مثل ما علـى الأب من النفقة والكسوة. وقال آخرون: بل تأويـل ذلك: وعلـى وارث الـمولود مثل الذي كان علـى الـمولود له من رزق والدته وكسوتها بـالـمعروف. ذكر من قال ذلك: ٤٣٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن جويبر، عن الضحاك : وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: علـى الوارث عند الـموت، مثل ما علـى الأب للـمرضع من النفقة والكسوة، قال: ويعنـي بـالوارث: الولد الذي يرضع أن يؤخذ من ماله إن كان له مال أجر ما أرضعته أمه، فإن لـم يكن للـمولود مال ولا لعصبته فلـيس لأمه أجر، وتـجبر علـى أن ترضع ولدها بغير أجر. ٤٣٧٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: علـى وارث الولد مثل ما علـى الوالد من النفقة والكسوة. وقال آخرون: معنى ذلك: وعلـى الوارث مثل ما ذكره اللّه تعالـى ذكره. ذكر من قال ذلك: ٤٣٧٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قوله تعالـى ذكره: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال: مثل ما ذكره اللّه تعالـى ذكره. قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ أن يكون الـمعنى بـالوارث ما قاله قبـيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم ومن ذكرنا قوله آنفـا من أنه معنّـي بـالوارث الـمولود، وفـي قوله: مِثْلُ ذَلِكَ أن يكون معنـيا به مثل الذي كان علـى والده من رزق والدته وكسوتها بـالـمعروف إن كانت من أهل الـحاجة، وهي ذات زمانة وعاهة، ومن لا احتراف فـيها ولا زوج لها تستغنـي به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة فمثل الذي كان علـى والده لها من أجر رضاعة. وإنـما قلنا هذا التأويـل أولـى بـالصواب مـما عداه من سائر التأويلات التـي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال فـي تأويـل كتاب اللّه تعالـى ذكره قول إلا بحجة واضحة علـى ما قد بـينا فـي أول كتابنا هذا وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: وَعَلـى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مـحتـملاً ظاهره: وعلـى الوارث الصبـي الـمولود مثل الذي كان علـى الـمولود له، ومـحتـملاً.وعلـى وارث الـمولود له مثل الذي كان علـيه فـي حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة الـمولود، وغير ذلك من التأويلات علـى نـحو ما قد قدمنا ذكره، وكان الـجميع من الـحجة قد أجمعوا علـى أن من ورثة الـمولود من لا شيء علـيه من نفقته وأجر رضاعه، وصحّ بذلك من الدلالة علـى أن سائر ورثته غير آبـائه وأمهاته وأجداده وجداته من قِبَل أبـيه أو أمه فـي حكمه، فـي أنهم لا يـلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع، إذ كان مولـى النعمة من ورثته، وهو مـمن لا يـلزمه له نفقة ولا أجر رضاع فوجب بإجماعهم علـى ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثنـي حكمه وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا من أنه معنّـي به ورثة الـمولود، فبطول القول الاَخر وهو أنه معنّـي به ورثة الـمولود له سوى الـمولود أحرى، لأن الذي هو أقرب بـالـمولود قرابة مـمن هو أبعد منه إذا لـم يصحّ وجوب نفقته وأجر رضاعه علـيه، فـالذي هو أبعد منه قرابة أحرى أن لا يصحّ وجوب ذلك علـيه. وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بـالـمعروف علـى ولدها إذا كانت الوالدة بـالصفة التـي وصفنا علـى مثل الذي كان يجب لها من ذلك علـى الـمولود له، فما لا خلاف فـيه من أهل العلـم جميعا، فصح ما قلنا فـي الآية من التأويـل بـالنقل الـمستفـيض وراثة عمن لا يجوز خلافه، وما عدا ذلك من التأويلات فمتنازع فـيه، وقد دللنا علـى فساده. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإنْ أرَادَا إن أراد والد الـمولود ووالدته فصالاً، يعنـي فصال ولدهما من اللبن. ويعنـي بـالفصال: الفطِام، وهو مصدر من قول القائل: فـاصلت فلانا أفـاصله مفـاصلة وفِصالاً: إذا فـارقه من خـلطة كانت بـينهما، فكذلك فصال الفطيـم، إنـما هو منعه اللبن وقطعه شربه، وفراقه ثدي أمّه إلا الاغتذاء بـالأقوات التـي يغتذي بها البـالغ من الرجال. وبـما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٣٧٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: فإنْ أرَادَا فِصَالاً يقول إن أرادا أن يفطماه قبل الـحولـين. ٤٣٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فإنْ أرَادَا فِصَالاً فإن أرادا أن يفطماه قبل الـحولـين وبعده. ٤٣٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما قال: الفطام. وأما قوله: عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فإنه يعنـي بذلك: عن تراض من والدي الـمولود وتشاور منهما. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الوقت الذي أسقط اللّه الـجناح عنها إن فطماه عن تراض منهما وتشاور، وأيّ الأوقات الذي عناه اللّه تعالـى ذكره بقوله: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فقال بعضهم: عنى بذلك: فإن أرادا فصالاً فـي الـحولـين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح علـيهما. ذكر من قال ذلك: ٤٣٧٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ يقول: إذا أرادا أن يفطماه قبل الـحولـين فتراضيا بذلك، فلـيفطماه. ٤٣٧٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الـحولـين، فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور، فلا بأس به. ٤٣٨٠ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ قال: التشاور فـيـما دون الـحولـين لـيس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، ولـيس له أن يفطمه إلا أن ترضى. ٤٣٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: التشاور: ما دون الـحولـين، فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور دون الـحولـين، فلا جناح علـيهما، فإن لـم يجتـمعا فلـيس لها أن تفطمه دون الـحولـين. ٤٣٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: التشاور: ما دون الـحولـين، لـيس لها حتـى يجتـمعا. ٤٣٨٣ـ حدثنـي الـمثنى،، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي اللـيث، قال: أخبرنا عقـيـل، عن ابن شهاب: فإنْ أرَادَا فِصَالاً يفصلان ولدهما، عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ دون الـحولـين الكاملـين، فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا. ٤٣٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان، قال: التشاور ما دون الـحولـين إذا اصطلـحا دون ذلك، وذلك قوله: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ. فإن قالت الـمرأة: أنا أفطمه قبل الـحولـين، وقال الأب لا، فلـيس لها أن تفطمه قبل الـحولـين. وإن لـم ترض الأم فلـيس له ذلك حتـى يجتـمعا فإن اجتـمعا قبل الـحولـين فطماه، وإذا اختلفـا لـم يفطماه قبل الـحولـين، وذلك قوله: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا. ٤٣٨٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ قال: قبل السنتـين، فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا. وقال آخرون: معنى ذلك: فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح علـيهما فـي أيّ وقت أرادا ذلك، قبل الـحولـين أراد ذلك أم بعد الـحولـين. ذكر من قال ذلك: ٤٣٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا أن يفطماه قبل الـحولـين وبعده. وأما قوله: عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فإنه يعنـي: عن تراض منهما وتشاور فـيـما فـيه مصلـحة الـمولود لفطمه. كما: ٤٣٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ قال: غير مسيئين فـي ظلـم أنفسهما ولا إلـى صبـيهما، فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما. ٤٣٨٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وأولـى التأويـلـين بـالصواب، تأويـل من قال: فإن أراد فصالاً فـي الـحولـين عن تراض منهما وتشاور، لأن تـمام الـحولـين غاية لتـمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه وإنـما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته. فإن ظنّ ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الـحولـين معنى صحيحا، إذا كان من الصبـيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلـى تركه والاغتذاء بلبن أمه، فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنـما هو علاج كالعلاج بشرب بعض الأدوية لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون فـي الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط اللّه تعالـى ذكره لفطمهما إياه الـجناح عنهما قبل انقضاء آخر مدته، فإنـما الـحدّ الذي حدّه اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلاَدَهُنّ حَوْلَـيْن كامِلَـيْنِ لـمَنْ أرَادَ أنْ يُتِـمّ الرّضاعَةَ علـى ما قد أتـينا علـى البـيان عنه فـيـما مضى قبلوأما الـجناح: فـالـحرج. كما: ٤٣٨٩ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : فَلا جُناحَ عَلَـيْهِمَا فلا حرج علـيهما. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَـيْكَمْ إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وإن أردتـم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بـالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيعة منكم علـى أولادكم بـانقطاع ألبـان أمهاتهم أو غير ذلك من الأسبـاب، فلا حرج علـيكم فـي استرضاعهن إذا سلـمتـم ما آتـيتـم بـالـمعروف. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٣٩٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ خيفة الضيعة علـى الصبـيّ فلا جناح علـيكم. ٤٣٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٣٩٢ـ حدثنـي عبد اللّه بن مـحمد الـحنفـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا أبو بشر ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٣٩٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ إن قالت الـمرأة: لا طاقة لـي به فقد ذهب لبنـي، فتسترضع له أخرى. ٤٣٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: لـيس للـمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلـحا علـى أن ترضع، ويسلـمان ويجبران علـى ذلك قال: فإن تعاسروا عند طلاق أو موت فـي الرضاع فإنه يعرض علـى الصبـيّ الـمراضع، فإن قبل مرضعا صار ذلك وأرضعته، وإن لـم يقبل مرضعا فعلـى أمه أن ترضعه بـالأجر إن كان له مال أو لعصبته، فإن لـم يكن له مال ولا لعصبته أكرهت علـى رضاعه. ٣حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ إذا أبت الأم أن ترضعه فلا جناح علـى الأب أن يسترضِع له غيرها. ٤٣٩٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ إذَا سَلّـمْتُـمْ مَا آتَـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ قال: إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها ورضي الأب أن يسترضع ولده، فلـيس علـيهما جناح. واختلفوا فـي قوله: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ فقال بعضهم: معناه: إذا سلـمتـم لأمهاتهم ما فـارقتـموهنّ علـيه من الأجرة علـى رضاعهن بحساب ما استـحقته إلـى انقطاع لبنها، أو الـحال التـي عذر أبو الصبّـي بطلب مرضع لولده غير أمه واسترضاعه له. ذكر من قال ذلك: ٤٣٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتـمْ بـالـمَعْرُوفِ قال: حساب ما أرضع به الصبـي. ٤٣٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ حساب ما يرضع به الصبـيّ. ٤٣٩٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ إن قالت يعنـي الأم: لا طاقة لـي به فقد ذهب لبنـي، فسترضع له أخرى، ولـيسلـم لها أجرها بقدر ما أرضعت. ٤٣٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: قلت، يعنـي لعطاء: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ قال: أمه وغيرها، فَلا جُنَاحَ عَلَـيْكُمْ إذَا سَلّـمْتُـمْ قال: إذا سلـمت لها أجرها، ما آتَـيْتُـمْ قال: ما أعطيتـم. وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلـمتـم للاسترضاع عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم، وتراض منكم ومنهن بـاسترضاعهم. ذكر من قال ذلك: ٤٤٠٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـم بـالـمَعْروفِ يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم. ٤٤٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: أخبرنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب: لا جناح علـيهما أن يسترضعا أولادهما، يعنـي أبوي الـمولود إذا سلـما ولـم يتضارّا. ٤٤٠٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتـمْ بـالـمَعْرُوفِ يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلـمتـم ما آتـيتـم بـالـمعروف إلـى التـي استرضعتـموها بعد إبـاء أم الـمرضع من الأجرة بـالـمعروف. ذكر من قال ذلك: ٤٤٠٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان فـي قوله: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـمْ بـالـمَعرُوفِ قال: إذا سلـمتـم إلـى هذه التـي تستأجرون أجرها بـالـمعروف، يعنـي إلـى من استرضع للـمولود إذا أبت الأم رضاعه. وأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك قول من قال تأويـله: وإن أردتـم أن تسترضعوا أولادكم إلـى تـمام رضاعهن، ولـم تتفقوا أنتـم ووالدتهم علـى فصالهم، ولـم تروا ذلك من صلاحهم، فلا جناح علـيكم أن تسترضعوهم ظؤورة إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهنّ أو لغير علة إذا سلـمتـم إلـى أمهاتهم وإلـى الـمسترضعة الاَخرة حقوقهنّ التـي آتـيتـموهنّ بـالـمعروف. يعنـي بذلك الـمعنى الذي أوجبه اللّه لهنّ علـيكم، وهو أن يوفـيهنّ أجورهنّ علـى ما فـارقهنّ علـيه فـي حال الاسترضاع ووقت عقد الإجارة. وهذا هو الـمعنى الذي قاله ابن جريج، ووافقه علـى بعضه مـجاهد والسدي ومن قال بقولهم فـي ذلك. وإنـما قضينا لهذا التأويـل أنه أولـى بتأويـل الآية من غيره، لأن اللّه تعالـى ذكره ذكر قبل قوله: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ أمر فصالهم، وبـين الـحكم فـي فطامهم قبل تـمام الـحولـين الكاملـين، فقال: فإنْ أرَادَا فصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما فـي الـحولـين الكاملـين، فلا جناح علـيها. فـالذي هو أولـى بحكم الآية، إذ كان قد بـين فـيها وجه الفصال قبل الـحولـين أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتـمام الرضاع إلـى غاية نهايته، وأن يكون إذ كان قد بـين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بـما يرضع به غيرها من الأجرة، أن يكون الذي يتلو ذلك من الـحكم بـيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه كما كان ذلك كذلك فـي غير هذا الـموضع من كتاب اللّه تعالـى، وذلك فـي قوله: فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أجُورُهَنّ وأتْـمِرُوا بَـيْنَكُمْ بِـمَعْرُوفٍ وَإنْ تَعاسَرْتُـمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، فأتبع ذكر بـيان رضا الوالدات برضاع أولادهن، ذكر بـيان امتناعهنّ من رضاعهن، فكذلك ذلك فـي قوله: وَإنْ أرَدْتُـمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ. وإنـما اخترنا فـي قوله: إذَا سَلّـمْتُـمْ ما آتَـيْتُـمْ بـالـمَعْرُوفِ ما اخترنا من التأويـل لأن اللّه تعالـى ذكره فرض علـى أبـي الـمولود تسلـيـم حقّ والدته إلـيها مـما آتاها من الأجرة علـى رضاعها له بعد بـينونتها منه، كما فرض علـيه ذلك لـمن استأجره لذلك مـمن لـيس من مولده بسبـيـل وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بـالـمعروف علـى رضاع ولده فلـم يكن قوله: (إذا سلـمتـم) بأن يكون معنـيا به إذا سلـمتـم إلـى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن بأولـى منه بأن يكون معنـيا به إذا سلـمتـم ذلك إلـى الـمراضع سواهن ولا الغرائب من الـمولود بأولـى أن يكنّ معنـيات بذلك من الأمهات، إذ كان اللّه تعالـى ذكره قد أوجب علـى أبـي الـمولود لكل من استأجره لرضاع ولده من تسلـيـم أجرتها إلـيها مثل الذي أوجب علـيه من ذلك للأخرى، فلـم يكن لنا أن نـحيـل ظاهر تنزيـل إلـى بـاطن ولا نقل عام إلـى خاص إلا بحجة يجب التسلـيـم لها فصح بذلك ما قلنا. وأما معنى قوله: بـالـمَعْرُوفِ فإن معناه: بـالإجمال والإحسان وترك البخس والظلـم فـيـما وجب للـمراضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاتّقُوا اللّه وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَاتّقُوا اللّه وخافوا اللّه فـيـما فرض لبعضكم علـى بعض من الـحقوق، وفـيـما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم، وفـيـما أوجب علـيكم لأولادكم فـاحذروه أن تـخالفوه فتعتدوا فـي ذلك وفـي غيره من فرائضه وحقوقه حدوده، فتستوجبوا بذلك عقوبته، واعلـموا أن اللّه بـما تعملون من الأعمال أيها الناس سرّها وعلانـيتها، وخفـيها وظاهرها، وخيرها وشرّها، بصير يراه ويعلـمه، فلا يخفـى علـيه شيء، ولا يغيب عنه منه شيء، فهو يحصي ذلك كله علـيكم حتـى يجازيكم بخير ذلك وشرّه. ومعنى بصير ذو إبصار، وهو فـي معنى مبصر. ٢٣٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً ... } يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم من الرجال أيها الناس، فـيـموتون ويذرون أزواجا يتربص أزواجهن بأنفسهن. فإن قال قائل: فأين الـخبر عن الذين يتوفون؟ قـيـل: متروك لأنه لـم يقصد قصد الـخبر عنهم، وإنـما قصد قصد الـخبر عن الواجب علـى الـمعتدات من العدة فـي وفـاة أزواجهنّ، فصرف الـخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات إلـى الـخبر عن أزواجهم والواجب علـيهن من العدة، إذ كان معروفـا مفهوما معنى ما أريد بـالكلام، وهو نظير قول القائل فـي الكلام: بعض جبّتك متـخرقة، فـي ترك الـخبر عما ابتدىء به الكلام إلـى الـخبر عن بعض أسبـابه. وكذلك الأزواج اللواتـي علـيهنّ التربص لـما كان إنـما ألزمهنّ التبرص بأسبـاب أزواجهن صرف الكلام عن خبر من ابتدىء بذكره إلـى الـخبر عمن قصد قصد الـخبر عنه، كما قال الشاعر: لَعلّـيَ إنْ مالَتْ بِـيَ الرّيحُ مَيْـلَةًعلـى ابْنِ أبـي ذِبّـانَ أنْ يَتَنَدّمَا فقال (لعلّـي)، ثم قال (أن يتندما)، لأن معنى الكلام: لعلّ ابن أبـي ذبّـان أن يتندم إن مالت بـي الريح ميـلة علـيه. فرجع بـالـخبر إلـى الذي أراد به، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر: ألـمْ تَعْلَـمُوا أنّ ابْنَ قَـيْسٍ وقَتْلَهُبغيرِ دَمٍ دَارُ الـمَذَلّةِ حُلّتِ فألغى (ابن قـيس) وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذُلّ. وقد زعم بعض أهل العربـية أن خبر الذين يتوفون متروك، وأن معنى الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ينبغي لهنّ أن يتربصن بعد موتهم وزعم أنه لـم يذكر موتهم كما يحذف بعض الكلام، وأنّ (يتربصن) رفع إذ وقع موقع ينبغي، وينبغي رفع. وقد دللنا علـى فساد قول من قال فـي رفع يتربصن بوقوعه موقع ينبغي فـيـما مضى، فأغنى عن إعادته. وقال آخرون منهم: إنـما لـم يذكر (الذين) بشيء، لأنه صار الذين فـي خبرهم مثل تأويـل الـجزاء: مَنْ يـلقك منا تُصِبْ خيرا، الذي يـلقاك منا تصيب خيرا قال: ولا يجوز هذا إلا علـى معنى الـجزاء، وفـي البـيتـين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة علـى القول فـي ذلك بخلاف ما قالا. وأما قوله: يَتَرَبصْنَ بأنْفُسِهِنّ فإنه يعنـي به: يحتبسن بأنفسهن معتدّات عن الإزواج والطيب والزينة والنقلة عن الـمسكن الذي كن يسكنه فـي حياة أزواجهن أربعة أشهر وعشرا إلا أن يكن حوامل، فـيكون علـيهن من التربص كذلك إلـى حين وضع حملهن، فإذا وضعن حملهن انقضت عددهن حينئذٍ. وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم مثل ما قلنا فـيه. ٤٤٠٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس : وَالّذينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَترَبّصْنَ بأنْفُسَهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرا فهذه عدة الـمتوفـى عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً، فعدتها أن تضع ما فـي بطنها. ٤٤٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب، فـي قول اللّه : وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا قال ابن شهاب: جعل اللّه هذه العدة للـمتوفـى عنها زوجها، فإن كانت حاملاً فـيحلها من عدتها أن تضع حملها، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشر فما استأخر، لا يحلها إلا أن تضع حملها. وإنـما قلنا: عنى بـالتربص ما وصفنا لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـما: ٤٤٠٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة، وحدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن حميد بن نافع، قال: سمعت زينب ابنة أم سلـمة تـحدّث قال أبو كريب: قال أبو أسامة، عن أم سلـمة أن امرأة توفـي عنها زوجها، واشتكت عينها، فأتت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم تستفتـيه فـي الكحل، فقال: (لَقَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَكُونَ فِـي الـجاهِلِـيّةِ فِـي شَرّ أحْلاسِها، فَتَـمْكُثُ فِـي بَـيْتِها حَوْلاً إذَا تُوُفـي عَنْها زَوْجُها، فَـيَـمُرّ عَلَـيْها الكَلبُ فَترْمِيهِ بـالبَعْرَةِ أفَلا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا). ٤٤٠٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت نافعا، عن صفـية ابنة أبـي عبـيد أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم تـحدّث عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (لاَ يَحِلّ لامْرأةٍ تُؤْمِنُ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ أنْ تُـحِدّ فَوْقَ ثَلاثٍ إلاّ علـى زَوْجٍ فإنها تُـحِدّ عَلَـيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا). قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبـا مصبوغا بورس ولا زعفران، ولا تكتـحل ولا تزّيّن. ٤٤٠٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى، عن نافع، عن صفـية ابنة أبـي عبـيد، عن حفصة بنة عمر، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا يَحِلّ لاِمْرأةٍ تُؤْمِنُ بـاللّه وَالـيَوْم الاَخِر أنْ تُـحِدّ علـى مَيتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلا علـى زَوْج). ٤٤٠٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرنـي حميد بن نافع أن زينب ابنة أم سلـمة أخبرته عن أم سلـمة، أو أم حبـيبة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أن امرأة أتت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفـي عنها زوجها، وأنها قد خافت علـى عينها. فزعم حميد عن زينب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (قَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَرْمي بـالبَعْرَةِ علـى رأسِ الـحَوْلِ، وإنّـمَا هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ). ٤٤١٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع: أنه سمع زينب ابنة أم سلـمة تـحدّث عن أم حبـيبة أو أمّ سلـمة أنها ذكرت أن امرأة أتت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قد توفـي عنها زوجها وقد اشتكت عينها وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَرْمي بـالبَعْرَةِ بَعْدَ الـحَوْلِ، وإنّـمَا هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ) قال ابن بشار: قال يزيد، قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بـالبعرة، قال: كانت الـمرأة فـي الـجاهلـية إذا توفـي عنها زوجها عمدت إلـى شرّ بـيتها، فقعدت فـيه حولاً، فإذا مرّت بها سنة ألقت بعرة وراءها. ٤٤١١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا شعبة، عن يحيى، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد، مثله. ٤٤١٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلـمة، عن أم سلـمة: أن امرأة أتت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فقالت: إن ابنتـي مات زوجها فـاشتكت عينها، أفتكتـحل؟ فقال: (قَدْ كانَتْ إحْداكُنّ تَرْمي بـالبَعْرَةِ علـى رأسِ الـحَوْلِ، وإنـمَا هِيَ الاَنَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ) قال: قلت: وما ترمي بـالبعرة علـى رأس الـحول؟ قال: كان نساء الـجاهلـية إذا مات زوج إحداهنّ لبست أطمار ثـيابها، وجلست فـي أخسّ بـيوتها، فإذا حال علـيها الـحول أخذت بعرة فدحرجتها علـى ظهر حمار، وقالت: قد حللت. ٤٤١٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع عن زينب ابنة أم سلـمة، عن أمها أم سلـمة، وأم حبـيبة زوجي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أن امرأة من قريش جاءت إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: إن ابنتـي توفـي عنها زوجها، وقد خفت علـى عينها، وهي تريد الكحل قال: (قَدْ كانَتْ إحْدَاكُنّ تَرْمي بـالبَعْرَةِ علـى رأسِ الـحَوْلِ وإنّـمَا هِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْرٌ)، قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الـحول؟ قالت زينب: كانت الـمرأة فـي الـجاهلـية إذا هلك زوجها عمدت إلـى أشرّ بـيت لها فجلست فـيه، حتـى إذا مرّت بها سنة خرجت، ثم رمت ببعرة وراءها. ٤٤١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تفتـي الـمتوفـى عنها زوجها أن تـحد علـى زوجها حتـى تنقضي عدتها، ولا تلبس ثوبـا مصبوغا، ولا معصفرا، ولا تكتـحل بـالإثمد، ولا بكحل فـيه طيب وإن وجعت عينها، ولكن تكتـحل بـالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مـما لـيس فـيه طيب، ولا تلبس حلـيا وتلبس البـياض ولا تلبس السواد. ٤٤١٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر فـي الـمتوفـى عنها زوجها: لا تكتـحل، ولا تطّيّب، ولا تبـيت عن بـيتها، ولا تلبس ثوبـا مصبوغا إلا ثوب عصب تَـجلبَبُ به. ٤٤١٦ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفـيان، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، قال: بلغنـي عن ابن عبـاس ، قال: تنهى الـمتوفـى عنها زوجها أن تزيّن وتطيب. ٤حدثنا نصر بن علـي، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن الـمتوفـى عنها زوجها لا تلبس ثوبـا مصبوغا، ولا تـمسّ طيبـا، ولا تكتـحل، ولا تـمتشط. وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد. وقال آخرون: إنـما أمرت الـمتوفـى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والـمبـيت عن الـمنزل فلـم تنه عن ذلك، ولـم تؤمر بـالتربص بنفسها عنه. ذكر من قال ذلك: ٤٤١٧ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، عن الـحسن: أنه كان يرخص فـي التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد شيئا. ٤حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبـاس : وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا لـم يقل تعتدّ فـي بـيتها، تعتدّ حيث شاءت. ٤٤١٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسماعيـل، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، قال: قال ابن عبـاس : إنـما قال اللّه : وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُم وَيَذْرَوُنَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرا ولـم يقل تعتدّ فـي بـيتها، فلتعتد حيث شاءت. واعتلّ قائلو هذه الـمقالة بأن اللّه تعالـى ذكره إنـما أمر الـمتوفـى عنها بـالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية علـى الـخصوص. وبـما: ٤حدثنـي به مـحمد بن إبراهيـم السلـمي، قال: حدثنا أبو عاصم، وحدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي، قال: حدثنا أبو عامر، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن طلـحة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن عبد اللّه بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس، قالت: لـما أصيب جعفر قال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (تَسَلّبِـي ثَلاثا ثُم اصْنَعِي ما شِئْتِ). ٤٤١٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيـم وابن الصلت، عن مـحمد بن طلـحة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن عبد اللّه بن شداد، عن أسماء، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـمثله. قالوا: فقد بـين هذا الـخبر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن لا إحداد علـى الـمتوفـى عنها زوجها، وأن القول فـي تأويـل قوله: يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا إنـما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره. وأما الذين أوجبوا الإحداد علـى الـمتوفـى عنها زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفـي عنها زوجها، فـانهم اعتلوا بظاهر التنزيـل و قالوا: أمر اللّه الـمتوفـى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلـم يأمرها بـالتربص بشيء مسمى فـي التنزيـل بعينه، بل عمّ بذلك معانـي التربص. قالوا: فـالواجب علـيها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسلـيـم لها. قالوا: فـالتربص عن الطيب والزينة والنقلة مـما هو داخـل فـي عموم الآية كما التربص عن الأزواج داخـل فـيها. قالوا: وقد صحّ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـخبر بـالذي قلنا فـي الزينة والطيب. أما فـي النقلة، فإن: ٤أبـا كريب حدثنا ، قال: حدثنا يونس بن مـحمد، عن فلـيح بن سلـيـمان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته الفريعة ابنة مالك أخت أبـي سعيد الـخدري قالت: قتل زوجي وأنا فـي دار، فـاستأذنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي النقلة، فأذن لـي. ثم نادانـي بعد أن تولـيت، فرجعت إلـيه، فقال: (يا فُرَيْعَةُ حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ). قالوا: فبـين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صحة ما قلنا فـي معنى تربص الـمتوفـى عنها زوجها ما خالفه. قالوا: وأما ما روى عن ابن عبـاس فإنه لا معنى له بخروجه عن ظاهر التنزيـل والثابت من الـخبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم. قالوا: وأما الـخبر الذي روى عن أسماء ابنة عميس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أمره إياها بـالتسلّب ثلاثا، ثم أن تصنع ما بدا لها، فإنه غير دالّ علـى أن لا إحداد علـى الـمرأة، بل إنـما دلّ علـى أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إياها بـالتسلب ثلاثا، ثم العمل بـما بدا لها من لبس ما شاءت من الثـياب مـما يجوز للـمعتدة لبسه مـما لـم يكن زينة ولا تطيبـا لأنه قد يكون من الثـياب ما لـيس بزينة ولا ثـياب تسلب. وذلك كالذي أذن صلى اللّه عليه وسلم للـمتوفـى عنها أن تلبس من ثـياب العَصْب وبرود الـيـمن، فإن ذلك لا من ثـياب زينة ولا من ثـياب تسلّب، وكذلك كل ثوب لـم يدخـل علـيه صبغ بعد نسجه مـما يصبغه الناس لتزيـينه، فإن لها لبسه، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التـي يعرفها الناس. فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ولـم يقل وعشرة؟ وإذ كان التنزيـل كذلك، أفبـاللـيالـي تعتدّ الـمتوفـى عنها العشر أم بـالأيام؟ قـيـل: بل تعتدّ بـالأيام بلـيالـيها. فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك فكيف قـيـل وعشرا ولـم يقل وعشرة، والعشر بغير الهاء من عدد اللـيالـي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك الـمعنى فـيه ما قلت، فهل تـجيز عندي عشر وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟ قلت: ذلك جائز فـي عدد اللـيالـي والأيام، وغير جائز مثله فـي عدد بنـي آدم من الرجال النساء وذلك أن العرب فـي الأيام واللـيالـي خاصة إذا أبهمت العدد غلبت فـيه اللـيالـي، حتـى إنهم فـيـما رُوي لنا عنهم لـيقولون: صمنا عشرا من شهر رمضان، لتغلـيبهم اللـيالـي علـى الأيام وذلك أن العدد عندهم قد جرى فـي ذلك بـاللـيالـي دون الأيام، فإذا أظهروا مع العدد مفسره أسقطوا من عدد الـمؤنث الهاء، وأثبتوها فـي عدد الـمذكر، كما قال تعالـى ذكره: سَخّرَها عَلَـيْهِمْ سَبْعَ لَـيالٍ وَثمانِـيَةَ أيَامٍ حُسُوما فأسقط الهاء من سبع، وأثبتها فـي الثمانـيةوأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتـمعت الرجال والنساء ثم أبهمت عددها أن تـخرجه علـى عدد الذكران دون الإناث، وذلك أن الذكران من بنـي آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، ولـيس كذلك سائر الأشياء غيرهم، وذلك أن الذكور من غيرهم ربـما وسم بسمة الأنثى، كما قـيـل للذكر والأثنى شاة، وقـيـل للذكور والإناث من البقر بقر، ولـيس كذلك فـي بنـي آدم. فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام علـى الأشهر؟ قـيـل: قد قـيـل فـي ذلك فـيـما: ٤حدثنا به ابن وكيع قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجَا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرا قال: قلت: لـم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فـيه الروح فـي العشر. ٤حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو عاصم، عن سعيد، عن قتادة، قال: سألت سعيد بن الـمسيب: ما بـال العشر؟ قال: فـيه ينفخ الروح. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فإذَا بَلَغْنَ أجَلَهُنّ فَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما فَعَلْنَ فـي أنْفُسِهِنّ بـالـمَعْرُوفِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فإذا بلغن الأجل الذي أبـيح لهنّ فـيه ما كان حظر علـيهن فـي عددهن من وفـاة أزواجهنّ، وذلك بعد انقضاء عددهن، ومضيّ الأشهر الأربعة والأيام العشرة، فلا جناح علـيكم فـيـما فعلن فـي أنفسهنّ بـالـمعروف. يقول: فلا حرج علـيكم أيها الأولـياء أولـياء الـمرأة فـيـما فعل الـمتوفـي عنهنّ حينئذٍ فـي أنفسهن من تطيب وتزين ونقلة من الـمسكن الذي كنّ يعتددن فـيه ونكاح من يجوز لهن نكاحه بـالـمعروف يعنـي بذلك: علـى ما أذن اللّه لهنّ فـيه وأبـاحه لهن. وقد قـيـل: إنـما عنى بذلك النكاح خاصة. وقـيـل: إن معنى قوله بـالـمَعْرُوفِ إنـما هو النكاح الـحلال. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: فَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـمَا فَعَلْنَ فِـي أنْفُسِهِنّ بـالـمَعْرُوفِقال: الـحلال الطيب. ٤٤٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد: فَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما فَعَلْنَ فِـي أنْفُسِهِنّ بـالـمَعْرُوفِ قال: الـمعروف: النكاح الـحلال الطيب. ٤٤٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: قوله: فِـيـما فَعَلْنَ فِـي أنْفُسِهنّ بـالـمَعْرُوفِ قال: هو النكاح الـحلال الطيب. ٤حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: هو النكاح. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب: فِـيـما فَعَلْنَ فِـي أنْفُسِهِنّ بـالـمَعْرُوفِ قال: فـي نكاح من هوينه إذا كان معروفـا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واللّه بـما تعملون أيها الأولـياء فـي أمر من أنتـم ولـيه من نسائكم من عضلهن وإنكاحهنّ مـمن أردن نكاحه بـالـمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، خبـير يعنـي ذو خبرة وعلـم، لا يخفـى علـيه منه شيء. ٢٣٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ ... } يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولا جناح علـيكم أيها الرجال فـيـما عرّضتـم به من خطبة النساء للنساء الـمعتدات، من وفـاة أزواجهن فـي عددهن، ولـم تصرّحوا بعقد نكاح. والتعريض الذي أبـيح فـي ذلك، هو ما: ٤حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد عن ابن عبـاس قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: التعريض أن يقول: إنى أريد التزويج، وإنـي لأحبّ امرأة من أمرها أمرها، يعرّض لها بـالقول بـالـمعروف. ٤٤٢٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: إنـي أريد أن أتزوّج. ٤٤٢٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس قال: التعريض ما لـم ينصِب للـخطبة. قال مـجاهد: قال رجل لامرأة فـي جنازة زوجها لا تسبقـينـي بنفسك، قالت: قد سبقت. ٤٤٢٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال فـي هذه الآية: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: التعريض ما لـم ينصب للـخطبة. ٤٤٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: التعريض أن يقول للـمرأة فـي عدتها: إنـي لا أريد أن أتزوّج غيرك إن شاء اللّه ، ولوددت أنـي وجدت امرأة صالـحة، ولا ينصب لها ما دامت فـي عدتها. ٤٤٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ يقول: يعرّض لها فـي عدتها، يقول لها: إن رأيت أن لا تسبقـينـي بنفسك، ولوددت أن اللّه قد هيأ بـينـي وبـينك ونـحو هذا من الكلام فلا حرج. ٤٤٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: هو أن يقول لها فـي عدتها: إنـي أريد التزويج، ووددت أن اللّه رزقنـي امرأة ونـحو هذا، ولا ينصب للـخطبة. ٤حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن عون، عن مـحمد، عن عبـيدة فـي هذه الآية، قال: يذكرها إلـى ولـيها يقول: لا تسبقنـي بها. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: يقول: إنك لـجميـلة، وإنك لنافقة، وإنك إلـى خير. ٤حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد أنه كره أن يقول: لا تسبقـينـي بنفسك. ٤٤٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قل: هو قول الرجل للـمرأة: إنك لـجميـلة وإنك لنافقة وإنك لإلـى خير. ٤٤٢٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: يعرّض للـمرأة فـي عدتها فـ يقول: واللّه إنك لـجميـلة، وإن النساء لـمن حاجتـي، وإنك إلـى خير إن شاء اللّه . ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن سلـمة بن كهيـل، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جبـير، قال: هو قول الرجل: إنـي أريد أن أتزوّج، وإنـي إن تزوّجت أحسنت إلـى امرأتـي، هذا التعريض. ٤٤٣٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا شعبة، عن سلـمة بن كهيـل، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: يقول: لأعطينك، لأحسنن إلـيك، لأفعلنّ بك كذا وكذا. ٤حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن القاسم، فـي قوله: فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: قول الرجل للـمرأة فـي عدتها يعرّض بـالـخطبة: واللّه إنـي فـيك لراغب، وإنى علـيك لـحريص، ونـحو هذا. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقـفـي، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرنـي عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع القاسم بن مـحمد يقول: فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ هو قول الرجل للـمرأة: إنك لـجميـلة، وإنك لنافقة، وإنك إلـى خير. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: كيف يقول الـخاطب؟ قال: يعرّض تعريضا ولا يبوح بشيء، يقول: إن لـي حاجة وأبشري، وأنت بحمد اللّه نافقة، ولا يبوح بشيء. قال عطاء: وتقول هي: قد أسمع ما تقول. ولا تعده شيئا، ولا تقول: لعل ذاك. ٤٤٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يحيى بن سعيد، قال: ثنـي عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم يقول فـي الـمرأة يتوفـى عنها زوجها، والرجل يريد خطبتها، ويريد كلامها ما الذي يجمل به من القول؟ قال: يقول: إنـي فـيك لراغب، وإنـي علـيك لـحريص، وإنـي بك لـمعجب، وأشبـاه هذا من القول. ٤حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيـم فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: لا بأس بـالهدية فـي تعريض النكاح. ٤٤٣٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، قال: كان إبراهيـم لا يرى بأسا أن يهدي لها فـي العدة إذا كانت من شأنه. ٤٤٣٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: يقول: إنك لنافقة، وإنك لـمعجبة، وإنك لـجميـلة، وإن قضى اللّه شيئا كان. ٤٤٣٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: كان إبراهيـم النـخعي يقول: إنك لـمعجبة، وإنـي فـيك لراغب. ٤٤٣٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: وأخبرنـي يعنـي شبـيبـا عن سعيد، عن شعبة، عن منصور، عن الشعبـي أنه قال فـي هذه الآية: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: لا يأخذ ميثاقها ألا تنكح غيره. ٤حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: كان أبـي يقول: كل شيء كان دون أن يعزم عقدة النكاح، فهو كما قال اللّه تعالـى ذكره: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ. ٤حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ. والتعريض فـيـما سمعنا: أن يقول الرجل وهي فـي عدتها: إنك لـجميـلة، إنك إلـى خير، إنك لنافقة، إنك لتعجبـينـي، ونـحو هذا، فهذا التعريض. ٤حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن عبد الرحمن بن سلـيـمان، عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد اللّه بن حنظلة، قالت: دخـل علـيّ أبو جعفر مـحمد بن علـيّ وأنا فـي عدتـي، فقال: يا ابنة حنظلة أنا من علـمت قرابتـي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وحقّ جدّي علـيّ وقَدَمي فـي الإسلام. فقلت: غفر اللّه لك يا أبـا جعفر أتـخطبنـي فـي عدتـي، وأنت يؤخذ عنك فقال: أو قد فعلت؟ إنـما أخبرك بقرابتـي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وموضعي، قد دخـل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى أم سلـمة وكانت عند ابن عمها أبـي سلـمة، فتوفـي عنها، فلـم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر لها منزلته من اللّه وهو متـحامل علـى يده حتـى أثر الـحصير فـي يده من شدة تـحامله علـى يده، فما كانت تلك خطبة. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي عقـيـل، عن ابن شهاب: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: لا جناح علـى من عرّض لهنّ بـالـخطبة قبل أن يحللن إذا كنوا فـي أنفسهن من ذلك. ٤٤٣٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبـيه أنه كان يقول فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ أن يقول الرجل للـمرأة وهي فـي عدة من وفـاة زوجها: إنك علـيّ لكريـمة، وإنـي فـيك لراغب، وإن اللّه سائق إلـيك خيرا ورزقا، ونـحو هذا من الكلام. واختلف أهل العربـية فـي معنى الـخطبة. فقال بعضهم: الـخطبة: الذكر، والـخطبة: التشهد. وكأن قائل هذا القول تأول الكلام: ولا جناح علـيكم فـيـما عرضتـم به من ذكر النساء عندهم وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال: (لا تواعدوهنّ سرّا)، لأنه لـما قال: (لا جناح علـيكم)، كأنه قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهنّ سرّا. وقال آخرون منهم: الـخِطْبَةُ أخطِب خِطْبَة وخَطْبـا، قال: وقول اللّه تعالـى ذكره: قالَ فَمَا خَطْبُكَ يا سامِرِيّ يقال إنه من هذا قال: وأما الـخُطبة، فهو الـمخطوب من قولهم: خطب علـى الـمنبر واختطب. قال أبو جعفر: والـخطبة عندي هي (الفِعْلة) من قول القائل: خطبت فلانة، كالـجلسة من قوله: جلس، أو القعدة من قوله: قعد. ومعنى قولهم: خطب فلان فلانة سألها خَطْبَهُ إلـيها فـي نفسها، وذلك حاجته، من قولهم: ما خطبك؟ بـمعنى: ما حاجتك وما أمرك؟. وأما التعريض فهو ما كان من لـحن الكلام الذي يفهم به السامع الفَهِمُ ما يفهم بصريحه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفُسِكُمْ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفُسِكُمْ أو أخفـيتـم فـي أنفسكم، فأسررتـموه من خطبتهن وعزم نكاحهن وهن فـي عددهن، فلا جناح علـيكم أيضا فـي ذلك إذا لـم تعزموا عقدة النكاح حتـى يبلغ الكتاب أجله. يقال منه: أكنّ فلان هذا الأمر فـي نفسه، فهو يُكِنّه إكنانا وَكَنّه: إذا ستره، يَكُنّهُ كَنّا وكُنونا، وجلس فـي الكِنّ. ولـم يسمع: كننتُه فـي نفسي، وإنـما يقال: كننته فـي البـيت أو فـي الأرض: إذا خبأته فـيه، ومنه قوله تعالـى ذكره: كأنّهُنّ بَـيْضٌ مَكْنُونٌ أي مخبوء، ومنه قول الشاعر: ثَلاثٌ مِنْ ثَلاَثٍ قُدامَيَاتٍمِنَ اللاّئي تَكُنّ مِنَ الصّقِـيع وتكنّ بـالتاء هو أجود ويكنّ، ويقال: أكنته ثـيابه من البرد، وأكنّه البـيت من الريح. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفُسِكُمْ قال: الإكنان: ذكر خطبتها فـي نفسه لا يبديه لها، هذا كله حِلٌ معروف. ٤٤٣٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله. ٤حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفُسِكُمْ قال: أن يدخـل فـيسلّـم ويهدي إن شاء ولا يتكلـم بشيء. ٤٤٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقـفـي، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرنـي عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع القاسم بن مـحمد يقول، فذكر نـحوه. ٤٤٣٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفُسِكُمْ قال: جعلت فـي نفسك نكاحها وأضمرت ذلك. ٤٤٤٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفُسِكُمْ أن يسرّ فـي نفسه أن يتزوّجها. ٤٤٤١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: أوْ أكْنَنْتُـمْ فِـي أنْفِسِكُمْ قال: أسررتـم. قال أبو جعفر: وفـي إبـاحة اللّه تعالـى ذكره ما أبـاح من التعريض بنكاح الـمعتدة لها فـي حال عدتها وحظره التصريح، ما أبـان عن افتراق حكم التعريض فـي كل معانـي الكلام وحكم التصريح منه. وإذا كان ذلك كذلك تبـين أن التعريض بـالقذف غير التصريح به، وأن الـحدّ بـالتعريض بـالقذف لو كان واجبـا وجوبه بـالتصريح به لوجب من الـجناح بـالتعريض بـالـخطبة فـي العدة نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فـيها، وفـي تفريق اللّه تعالـى ذكره بـين حكميها فـي ذلك الدلالة الواضحة علـى افتراق أحكام ذلك فـي القذف. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: عَلِـم اللّه أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنَهُنّ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: علـم اللّه أنكم ستذكرون الـمعتدات فـي عددهن بـالـخطبة فـي أنفسكم وبألسنتكم. كما: ٤حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن: عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنهُنّ قال: الـخطبة. ٤حدثنـي أبو السائب سلـم بن جنادة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ قال: ذكرك إياها فـي نفسك قال: فهو قول اللّه : عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنّ. ٤٤٤٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن فـي قوله: عَلِـمَ اللّه أنّكُمْ سَتَذْكُرُوَنهُنّ قال: هي الـخطبة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا. اختلف أهل التأويـل فـي معنى السرّ الذي نهى اللّه تعالـى عبـاده عن مواعدة الـمعتدات به، فقال بعضهم: هو الزنا. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا همام، عن صالـح الدهان، عن جابر بن زيد: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: الزنا. ٤حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، عن أبـي مُـجلّز قوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: الزنا. ٤٤٤٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سلـيـمان التـيـمي، عن أبـي مـجلز، مثله. ٤٤٤٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن سلـيـمان التـيـمي، عن أبـي مـجلز، مثله. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي مـجلز: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: الزنا. قـيـل لسفـيان التـيـمي: ذكره؟ قال: نعم. ٤حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، عن رجل، عن الـحسن فـي الـمواعدة مثل قول أبـي مـجلز. ٤٤٤٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن، قال: الزنا. ٤٤٤٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أشعث وعمران، عن الـحسن، مثله. ٤٤٤٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا: حدثنا سفـيان، عن السدي، قال: سمعت إبراهيـم يقول: لا تُوَاعِدُوهُنّ سرّا قال: الزنا. ٤٤٤٨ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن إبراهيـم، مثله. ٤٤٤٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: الزنا. ٤٤٥٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدوهُنّ سرّا قال: الزنا. ٤٤٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن قتادة، عن الـحسن فـي قوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: الفـاحشة. ٤٤٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، وحدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : لا تُوَاعِدُهُنّ سِرّا قال: السرّ: الزنا. ٤٤٥٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : لا تُواعِدُوهُنّ سِرّا قال: فذلك السرّ: الزّنـية، كان الرجل يدخـل من أجل الزنـية وهو يعرّض بـالنكاح، فنهى اللّه عن ذلك، إلا من قال معروفـا. ٤٤٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا منصور، عن الـحسن وجويبر، عن الضحاك وسلـيـمان التـيـمي، عن أبـي مـجلز أنهم قالوا: الزنا. ٤حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا للفحش، والـخَضْع من القول. ٤٤٥٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الـحسن: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: هو الفـاحشة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تأخذوا ميثاقهنّ وعهودهنّ فـي عِددهن أن لا ينكحن غيركم. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا يقول: لا تقل لها إنـي عاشق، وعاهدينـي أن لا تتزوّجي غيري، ونـحو هذا. ٤حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: لا يقاضِها علـى كذا وكذا أن لا تتزوّج غيره. ٤حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن إسرائيـل، عن جابر عن عامر ومـجاهد وعكرمة، قالوا: لا يأخذ ميثاقها فـي عدتها أن لا تتزوّج غيره. ٤حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، قال: ذكر لـي عن الشعبـي أنه قال فـي هذه الآية: لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك. ٤٤٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الشعبـي: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: لا يأخذ ميثاقها فـي أن لا تتزوّج غيره. ٤٤٥٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم عن الشعبـي، قال: سمعته يقول فـي قوله: لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك، ولا يوجب العقدة حتـى تنقضي العدة. ٤٤٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الشعبـي: لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: لا يأخذ علـيها ميثاقا أن لا تتزوّج غيره. ٤٤٥٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُهُنّ سرّا يقول: أمسكي علـي نفسك، فأنا أتزوّج، ويأخذ علـيها عهدا أن لا تنكحي غيري. ٤٤٦٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: هذا فـي الرجل يأخذ عهد الـمرأة وهي فـي عدتها أن لا تنكح غيره، فنهى اللّه عن ذلك، وقدم فـيه وأحلّ الـخطبة والقول بـالـمعروف، ونهى عن الفـاحشة، والـخَضْع من القول. ٤٤٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: أن تواعدها سرّا علـى كذا وكذا علـى أن لا تنكحي غيري. ٤٤٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: موعدة السرّ: أن يأخذ علـيها عهدا وميثاقا أن تـحبس نفسها علـيه، ولا تنكح غيره. ٤٤٦٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، بنـحوه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل: لا تسبقـينـي بنفسك. ذكر من قال ذلك: ٤٤٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: قول الرجل للـمرأة: لا تفوتـينـي بنفسك، فإنـي ناكحك. هذا لا يحلّ. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هو قول الرجل للـمرأة: لا تفوتـينـي. ٤٤٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: الـمواعدة أن يقول: لا تفوتـينـي بنفسك. ٤٤٦٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا أن يقول: لا تفوتـينـي بنفسك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهنّ فـي عدتهنّ سرّا. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا يقول: لا تنكحوهنّ سرّا، ثم تـمسكها حتـى إذا حلت أظهرتَ ذلك وأدخـلتها. ٤٤٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا قال: كان أبـي يقول: لا تواعدوهنّ سرّا، ثم تـمسكها، وقد ملكت عقدة نكاحها، فإذا حلت أظهرت ذلك وأدخـلتها. قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك، تأويـل من قال: السرّ فـي هذا الـموضع: الزنا وذلك أن العرب تسمي الـجماع وغشيان الرجل الـمرأة سرّا، لأن ذلك مـما يكون بـين الرجال والنساء فـي خفـاء غير ظاهر مطلع علـيه، فـيسمى لـخفـائه سرّا. من ذلك قول رؤبة بن العجاج: فَعَفّ عَنْ أسْرَارِها بَعْدَ العَسَقْوَلْـم يُضِعْها بـينَ فِرْكٍ وَعشَقْ يعنـي بذلك: عفّ عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك. ومنه قول الـحطيئة: وَيحْرُمُ سِرّ جاَرتِهمْ عَلَـيْهِمْويأكُلُ جارُهُمْ أنفَ القِصَاع وكذلك يقال لكل ما أخفـاه الـمرء فـي نفسه سرّ، ويقال: هو فـي سرّ قومه، يعنـي فـي خيارهم وشرفهم. فلـما كان السرّ إنـما يوجه فـي كلامها إلـى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معنّـي به قوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا وهو السرّ الذي هو معنى الـخيار والشرف، فلـم يبق إلا الوجهان الاَخران وهو السرّ الذي بـمعنى ما أخفته نفس الـمواعدين الـمتواعدين، والسرّ الذي بـمعنى الغشيان والـجماع. فلـما لـم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة علـى أن أحدهما غير معنّـي به صحّ أن الاَخر هو الـمعنـيّ به. فإن قال (قائل): فما الدلالة علـى أن مواعدة القول سرّا غير معنّـي به علـى ما قال من قال: إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق الـمرأة أن لا تنكح غيره، أو علـى ماقال من قال: قول الرجل لها: لا تسبقـينـي بنفسك؟ قـيـل: لأن السرّ إذا كان بـالـمعنى الذي تأوّله قائلو ذلك، فلن يخـلو ذلك السرّ من أن يكون هو مواعدة الرجل الـمرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره، أو يكون هو النكاح الذي سألها أن تـجيبه إلـيه بعد انقضاء عدتها وبعد عقده له دون الناس غيره. فإن كان السرّ الذي نهى اللّه الرجل أن يواعد الـمعتدات هو أخذ العهد علـيهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون السرّ معناه ما أخفـى من الأمور فـي النفوس، أو نطق به فلـم يطلع علـيه، وصارت العلانـية من الأمر سرّا، وذلك خلاف الـمعقول فـي لغة من نزل القرآن بلسانه، إلا أن يقول قائل هذه الـمقالة: إنـما نهى اللّه الرجال عن مواعدتهنّ ذلك سرّا بـينهم وبـينهن، لا أن نفس الكلام بذلك وإن كان قد أعلن سر. فـيقال له: إن قال ذلك فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والـخطبة صريحا علانـية، إذ كان الـمنهيّ عنه من الـمواعدة إنـما هو ما كان منها سرّا. فإن قال إن ذلك كذلك خرج من قول جميع الأمة علـى أن ذلك لـيس من قـيـل أحد مـمن تأوّل الآية أن السرّ ها هنا بـمعنى الـمعاهدة أن لا تنكح غير الـمعاهد. وإن قال: ذلك غير جائز. قـيـل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلـى الـمرأة بـالـمواعدة، لأن معنى ذلك لو كان كذلك لـم يحرم علـيه مواعدتها مـجاهرة وعلانـية، وفـي كون ذلك علـيه مـحرّما سرّا وعلانـية ما أبـان أن معنى السرّ فـي هذا الـموضع غير معنى إسرار الرجل إلـى الـمرأة بـالـمعاهدة، أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها أو يكون إذا بطل هذا الوجه معنى ذلك: الـخطبة والنكاح الذي وعدت الـمرأة الرجل أن لا تعدوه إلـى غيره، فذلك إذا كان، فإنـما يكون بولـيّ وشهود علانـية غير سرّ، وكيف يجوز أن يسمى سرّا وهو علانـية لا يجوز إسراره؟ وفـي بطول هذه الأوجه أن تكون تأويلاً لقوله: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بـما علـيه دللنا من الأدلة وضوح صحة تأويـل ذلك أنه بـمعنى الغشيان والـجماع. وإذا كان ذلك صحيحا، فتأويـل الآية: ولا جناح علـيكم أيها الناس فـيـما عرضتـم به للـمعتدات من وفـاة أزواجهن من خطبة النساء وذلك حاجتكم إلـيهن، فلـم تسرحوا لهن بـالنكاح والـحاجة إلـيهن إذا أكننتـم فـي أنفسكم، فأسررتـم حاجتكم إلـيهن وخطبتكن إياهن فـي أنفسكم ما دمن فـي عددهن، علـم اللّه أنكم ستذكرون خطبتهن وهن فـي عددهن. فأبـاح لكم التعريض بذلك لهنّ، وأسقط الـحرج عما أضمرته نفوسكم حلـما منه، ولكن حرم علـيكم أن تواعدوهنّ جماعا فـي عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهنّ فـي عدتها: قد تزوّجتك فـي نفسي، وإنـما أنتظر انقضاء عدتك، فـيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الـجماع والـمبـاضعة، فحرّم اللّه تعالـى ذكره ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا. قال أبو جعفر: ثم قال تعالـى ذكره: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا فـاستثنى القول الـمعروف مـما نهى عنه، من مواعدة الرجل الـمرأة السرّ، وهو من غير جنسه ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل أنه يأتـي بـمعنى خلاف الذي قبله فـي الصفة خاصة، وتكون (إلا) فـيه بـمعنى (لكن)، فقوله: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا منه، ومعناه: ولكن قولوا قولاً معروفـا. فأبـاح اللّه تعالـى ذكره أن يقول لها الـمعروف من القول فـي عدّتها، وذلك هو ما أذن له بقوله: وَلاَ جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـما عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ. كما: ٤حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن سلـمة بن كهيـل، عن مسلـم البطين، عن سعيد بن جبـير: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: يقول: إنـي فـيك لراغب، وإنـي لأرجو أن نـجتـمع. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس : إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: هوقوله: إن رأيت أن لا تسبقـينـي بنفسك. ٤٤٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال حدثنا: سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: يعنـي التعريض. ٤٤٦٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: يعنـي التعريض. ٤٤٧٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَلا جُناحَ عَلَـيْكُمْ فِـيـمَا عَرّضْتُـمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّساءِ إلـى حتّـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ قال: هو الرجل يدخـل علـى الـمرأة وهي فـي عدتها، فـ يقول: واللّه إنكم لأكفـاء كرام، وإنكم لرعة، وإنك لتعجبـينـي، وإن يقدّر شيء يكن. فهذا القول الـمعروف. ٤٤٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد، قالا جميعا: قال سفـيان: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: يقول: إنـي فـيك لراغب، وإنـي أرجو إن شاء اللّه أن نـجتـمع. ٤٤٧٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: يقول: إن لك عندي كذا، ولك عندي كذا، وأنا معطيك كذا وكذا قال: هذا كله وما كان قبل أن يعقد عقدة النكاح، فهذا كله نسخه قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاحِ حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ. ٤٤٧٣ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : إلاّ أنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفـا قال: الـمرأة تطلق، أو يـموت عنها زوجها، فـيأتـيها الرجل فـ يقول: احبس علـيّ نفسك، فإن لـي بك رغبة، فتقول: وأنا مثل ذلك. فتتوق نفسه لها، فذلك القول الـمعروف. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاح حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاحِ ولا تصححوا عقدة النكاح فـي عدة الـمرأة الـمعتدة، فتوجبوها بـينكم وبـينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة حَتّـى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ يعنـي: يبلغن أجل الكتاب الذي بـينه اللّه تعالـى ذكره بقوله: وَالّذِينَ يُتَوَفّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزْوَاجا يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا فجعل بلوغ الأجل للكتاب. والـمعنى: للـمتناكحين أن لا ينكح الرجل الـمرأة الـمعتدة فـيعزم عقدة النكاح علـيها حتـى تنقضي عدتها، فـيبلغ الأجل الذي أجله اللّه فـي كتابه لانقضائها. كما: ٤٤٧٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار وعمرو بن علـيّ، قالا: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن لـيث، عن مـجاهد: حَتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ قال: حتـى تنقضي العدة. ٤٤٧٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: حتـى يَبْلُغَ الْكِتابُ أجَلَهُ قال: حتـى تنقضي أربعة أشهر وعشر. ٤حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: حتّـى يَبْلُغَ الْكِتابُ أجَلَهُ قال: حتـى تنقضي العدة. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٤حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ قال: تنقضي العدة. ٤٤٧٦ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي عن ابن عبـاس قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاحِ حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ قال: حتـى تنقضي العدة. ٤٤٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ قال: لا يتزوّجها حتـى يخـلو أجلها. ٤٤٧٨ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو قتـيبة، قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق، عن الشعبـي فـي قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاحِ حتـى يَبْلُغَ الْكِتابُ أجَلَهُ قال: مخافة أن تتزوّج الـمرأة قبل انقضاء العدة. ٤٤٧٩ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكاحِ حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ حتـى تنقضي العدة. ٤٤٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثنـي علـيّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفـيان قوله: حتـى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ قال: حتـى تنقضي العدة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه يَعْلَـمُ ما فِـي أنْفُسِكُمْ فـاحْذَرُوهُ وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه غَفُورٌ حَلِـيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واعلـموا أيها الناس أن اللّه يعلـم ما فـي أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم. فـاحْذَرُوهُ يقول: فـاحذروا اللّه واتقوه فـي أنفسكم أن تأتوا شيئا مـما نهاكم عنه من عزم عقدة نكاحهنّ أو مواعدتهنّ السرّ فـي عددهن، وغير ذلك مـما نهاكم عنه فـي شأنهن فـي حال ما هنّ معتدات، وفـي غير ذلك. وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه غَفُورٌ يعنـي أنه ذو ستر لذنوب عبـاده وتغطية علـيها فـيـما تكنّه نفوس الرجال من خطبة الـمعتدات وذكرهم إياهن فـي حال عددهن، وفـي غير ذلك من خطاياهموقوله: حَلِـيـمٌ يعنـي أنه ذو أناة لا يعجل علـى عبـاده بعقوبتهم علـى ذنوبهم. ٢٣٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلّقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ لا حرج علـيكم إن طلقتـم النساء، يقول: لا حرج علـيكم فـي طلاقكم نساءكم وأزواجكم ما لـم تـماسوهن، يعنـي بذلك: ما لـم تـجامعوهن. والـمـماسة فـي هذا الـموضع كناية عن اسم الـجماع. كما: ٤٤٨١ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قالا جميعا: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، قال: قال ابن عبـاس : الـمس: الـجماع، ولكن اللّه يكنـي ما يشاء بـما شاء. ٤٤٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال حدثنـي معاوية، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قال: الـمس: النكاح. وقد اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الـحجاز والبصرة: ما لَـم تَـمَسّوهُنّ بفتـح التاء من تـمسوهن، وبغير ألف من قولك: مَسِسْتُه أمَسّه مَسّا وَمَسِيسا ومِسّيسَى مقصور مشدّد غير مـجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك إلـحاقا منهم له بـالقراءة الـمـجتـمع علـيها فـي قوله: ولَـمْ يَـمْسَسْنِـي بَشَرٌ. وقرأ ذلك آخرون: (ما لَـمْ تُـمَاسّوهُنّ) بضم التاء والألف بعد الـميـم إلـحاقا منهم ذلك بـالقراءة الـمـجمع علـيها فـي قوله: فَتَـحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَـمَاسّا وجعلوا ذلك بـمعنى فعل كل واحد من الرجل والـمرأة بصاحبه من قولك: ماسست الشيء مـماسة ومِسَاسا. والذي نرى فـي ذلك أنهما قراءتان صحيحتا الـمعنى متفقتا التأويـل، وإن كان فـي إحداهما زيادة معنى غير موجبة اختلافـا فـي الـحكم والـمفهوم. وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قـيـل له: مسِست زوجتـي أن الـمـمسوسة قد لاقـى من بدنها بدن الـماسّ ما لاقاه مثله من بدن الـماسّ، فكل واحد منهما وإن أفرد الـخبر عنه بأنه الذي مسّ صاحبه معقول، كذلك الـخبر نفسه أن صاحبه الـمسوس قد ماسه، فلا وجه للـحكم لإحدى القراءتـين مع اتفـاق معانـيهما، وكثرة القراءة بكل واحدة منهما بأنها أولـى بـالصواب من الأخرى، بل الواجب أن يكون القارىء بأيتهما قرأ مصيب الـحقّ فـي قراءته. وإنـما عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ إنْ طَلّقْتُـمُ النّساءَ ما لَـمْ تَـمَسّوهُنّ الـمطلقات قبل الإفضاء إلـيهنّ فـي نكاح قد سمي لهن فـيه الصداق. وإنـما قلنا إن ذلك كذلك، لأن كل منكوحة فإنـما هي إحدى اثنتـين إما مسمى لها الصداق، أو غير مسمى لها ذلك، فعلـمنا بـالذي يتلو ذلك من قوله تعالـى ذكره أن الـمعنـية بقوله: لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ إنْ طَلّقْتُـمْ النّساءَ مَا لَـمْ تَـمَسّوهُنّ إنـما هي الـمسمى له، لأن الـمعنـية بذلك لو كانت غير الـمفروض لها الصداق لـما كان لقوله: أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً معنى معقول، إذ كان لا معنى لقول قائل: لا جناح علـيكم إذا طلقتـم النساء ما لـم تفرضوا لهنّ فرِيضة فـي نكاح لـم تـماسوهنّ فـيه أو ما لـم تفرضوا لهنّ فريضة. فإذ كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويـل فـي ذلك: لا جناح علـيكم إن طلقتـم الـمفروض لهن من نسائكم الصداقُ قبل أن تـماسوهن، وغير الـمفروض لهن قبل الفرض. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً. يعنـي تعالـى ذكره بقوله أو تَفْرِضُوا لَهُنّ أو توجبوا لهنّ، وبقوله: فَرِيضةً صداقا واجبـا. كما: ٤٤٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضةً قال: الفريضة: الصداق. وأصل الفرض: الواجب، كما قال الشاعر: كانَتْ فَريضَةَ ما أتَـيْتَ كمَاكانَ الزّناءُ فَرِيضَةَ الرّجْمِ يعنـي كما كان الرجم الواجب من حدّ الزنا، لذلك قـيـل: فرض السلطان لفلان ألفـين، يعنـي بذلك أوجب له ذلك ورزقه من الديوان. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَتّعُوهُنّ علـى الـمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلـى الـمُقْتِرِ قَدَرُهُ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَمَتّعُوهُنّ وأعطوهنّ ما يتـمتعن به من أموالكم علـى أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار. ثم اختلف أهل التأويـل فـي مبلغ ما أمر اللّه به الرجال من ذلك، فقال بعضهم: أعلاه الـخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودونه الكسوة. ذكر من قال ذلك: ٤٤٨٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: متعة الطلاق أعلاه الـخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودون ذلك الكسوة. ٤٤٨٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل بن أمية، عن عكرمة، ابن عبـاس بنـحوه. ٤٤٨٦ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن داود، عن الشعبـي قوله: وَمَتّعُوهُنّ علـى الـمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلـى الـمُقْتِرِ قَدَرُهُ قلت له: ما أوسط متعة الـمطلقة؟ قال: خمارها ودرعها وجلبـابها وملـحفتها. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: وَمَتّعوهُنّ عَلـى الـمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلـى الـمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعا بـالـمَعْرُوفِ حَقّا علـى الـمُـحْسِنـينَ فهذا الرجل يتزوّج الـمرأة ولـم يسمّ لها صداقا ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر اللّه سبحانه أن يـمتعها علـى قدر عسره ويسره، فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نـحو ذلك. ٤حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، عن الشعبـي فـي قوله: وَمَتّعُوهُنّ عَلـى الـمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلـى الـمُقْتِرِ قَدَرُهُ قال: قلت للشعبـي: ما وسط ذلك؟ قال: كسوتها فـي بـيتها ودرعها وخمارها وملـحفتها وجلبـابها. قال الشعبـي: فكان شريح يـمتع بخمسمائة. ٤٤٨٧ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا كان يـمتع بخمسائة. قلت لعامر: ما وسط ذلك؟ قال: ثـيابها فـي بـيتها درع وخمار وملـحفة وجلبـاب. ٤٤٨٨ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن عمار الشعبـي أنه قال: وسط من الـمتعة ثـياب الـمرأة فـي بـيتها درع وخمار وملـحفة وجلبـاب. ٤٤٨٩ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي: أن شريحا متع بخمسمائة وقال الشعبـي: وسط من الـمتعة درع وخمار وجلبـاب وملـحفة. ٤٤٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس فـي قوله: لاَ جُناحَ عَلَـيْكُمْ إنْ طَلّقْتُـمُ النّساءَ ما لَـمْ تَـمَسّوهُنّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهّنّ عَلـى الـمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلـى الـمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بـالـمَعْروفِ حَقّا علـى الـمُـحْسِنـينَ قال: هو الرجل يتزوّج الـمرأة ولا يسمي لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخـل بها، فلها متاع بـالـمعروف ولا صداق لها قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب درع وخمار وجلبـاب وإزار. ٢٣٨حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: قانِتِـينَ يقول: مطيعين. ٤٤٩١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: مطيعين. ٤٤٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: ثنـي شريك، عن سالـم، عن سعيد: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ يقول: مطيعين. ٤٤٩٣ـ حدثنـي عمران بن بكار الكُلاعيّ، قال: حدثنا خطاب بن عثمان، قال: حدثنا أبو روح عبد الرحمن بن سنان السكونـي حمصي لقـيته بأرمينـية، قال: سمعت الـحسن بن أبـي الـحسن يقول فـي قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: طائعين. ٤٤٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: مطيعين. ٤٤٩٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٤٩٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ يقول: مطيعين. ٤٤٩٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا فضيـل بن مرزوق، عن عطية، قال: كانوا يأمرون فـي الصلاة بحوائجهم، حتـى أنزلت: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ فتركوا الكلام قال: قانتـين: مطيعين. ٤٤٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا فضيـل، عن عطية فـي قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: كانوا يتكلـمون فـي الصلاة بحائجهم، حتـى نزلت: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ فتركوا الكلام فـي الصلاة. ٤٤٩٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس فـي قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: كان أهل دين يقومون فـيها عاصين، فقوموا أنتـم للّه مطيعين. ٤٥٠٠ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا دراج، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (كُلّ حَرْفٍ فِـي القُرآنِ فِـيهِ القُنُوتُ، فإنّـمَا هُوَ الطّاعَةُ). ٤٥٠١ـ حدثنا العبـاس بن الولـيد، قال: أخبرنـي أبـي، قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: القنوت: طاعة اللّه ، يقول اللّه تعالـى ذكره: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ مطيعين. ٤٥٠٢ـ حدثنا سعيد بن الربـيع، قال: حدثنا سفـيان، قال: قال ابن طاوس، كان أبـي يقول: القنوت: طاعة اللّه . وقال آخرون: القنوت فـي هذه الآية: السكوت. و قالوا: تأويـل الآية: وقوموا للّه ساكتـين عما نهاكم اللّه أن تتكلـموا به فـي صلاتكم. ذكر من قال ذلك: ٤٥٠٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ القنوت فـي هذه الآية: السكوت. ٤٥٠٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن مرة، عن ابن مسعود، قال: كنا نقوم فـي الصلاة، فنتكلـم، ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته، ويخبره، ويردون علـيه إذا سلـم. حتـى أتـيت أنا فسلـمت، فلـم يردوا علـيّ السلام، فـاشتدّ ذلك علـيّ. فلـما قضى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم صلاته، قال: (إنّهُ لَـمْ يَـمْنعْنِـي أنْ أرُدّ عَلَـيْكَ السّلامَ إلاّ أنّا أُمِرْنا أنْ نَقُومَ قانِتِـينَ لا نَتَكَلّـمُ فِـي الصلاةِ) وَالقُنُوتُ: السّكُوتُ. ٤٥٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا الـحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه ، قال: كنا نتكلـم فـي الصلاة، فسلـمت علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلـم يردّ علـيّ، فلـما انصرف قال: (قَدْ أحْدَثَ اللّه أنْ لا تَكَلّـموا فِـي الصّلاةِ) ونزلت هذه الآية: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ. ٤٥٠٦ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان السكري، قال: أخبرنا مـحمد بن يزيد، وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة وابن نـمير ووكيع ويعلـى بن عبـيد جميعا، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الـحارث بن شبل، عن أبـي عمرو الشيبـانـي، عن زيد بن أرقم، قال: كنا نتكلـم فـي الصلاة علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكلـم أحدنا صاحبه فـي الـحاجة، حتـى نزلت هذه الآية: حافِظُوا علـى الصّلَوَاتِ وَالصّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ فأمرنا بـالسكوت. ٤٥٠٧ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة فـي قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: كانوا يتكلـمون فـي الصلاة يجيء خادم الرجل إلـيه وهو فـي الصلاة فـيكلـمه بحاجته، فنهوا عن الكلام. ٤٥٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة عن عنبسة، عن الزبـير بن عديّ، عن كلثوم بن الـمصطلق، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: إن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان عوّدنـي أن يردّ علـيّ السلام فـي الصلاة، فأتـيته ذات يوم فسلـمت، فلـم يردّ علـيّ وقال: (إنّ اللّه يُحْدِثُ فِـي أمْرِهِ ما يَشاءُ، وَإنّهُ قَدْ أحْدَثَ لَكُمَ فِـي الصّلاةِ أنْ لا يَتَكَلّـمُ أحَدٌ إلاّ بِذِكْرِ اللّه ، وَما يَنْبَغِي مِنْ تَسْبِـيحٍ وَتْـمـجِيدٍ، وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ). ٤٥٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: إذا قمتـم فـي الصلاة فـاسكتوا، لا تكلـموا أحدا حتـى تفرغوا منها قال: والقانت: الـمصلـي الذي لا يتكلـم. وقال آخرون: القنوت فـي هذه الآية: الركوع فـي الصلاة والـخشوع فـيها وقالوا فـي تأويـل الآية: وقوموا للّه فـي صلاتكم خاشعين، خافضي الأجنـحة، غير عابثـين ولا لاعبـين. ذكر من قال ذلك: ٤٥١٠ـ حدثنـي سلـم بن جنادة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: فمن القنوت طول الركوع، وغضّ البصر، وخفض الـجناح، والـخشوع من رهبة اللّه ، كان العلـماء إذا قام أحدهم يصلـي، يهاب الرحمن أن يـلتفت، أو أن يقلب الـحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنـيا إلا ناسيا. ٤٥١١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن لـيث، عن مـجاهد نـحوه، إلا أنه قال: فمن القنوت: الركود والـخشوع. ٤٥١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن لـيث، عن مـجاهد: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: من القنوت الـخشوع، وخفض الـجناح من رهبة اللّه . وكان الفقهاء من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا قام أحدهم إلـى الصلاة لـم يـلتفت ولـم يقلب الـحصا، ولـم يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنـيا إلا ناسيا حتـى ينصرف. ٤٥١٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: إن من القنوت الركود، ثم ذكر نـحوه. ٤٥١٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: القنوت: الركود، يعنـي: القـيام فـي الصلاة والانتصاب له. وقال آخرون: بل القنوت فـي هذا الـموضع: الدعاء. قالوا: تأويـل الآية: وقوموا للّه راغبـين فـي صلاتكم. ذكر من قال ذلك: حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، وثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عدي وعبد الوهاب ومـحمد بن جعفر جميعا، عن عوف، عن أبـي رجاء، قال: صلـيت مع ابن عبـاس الغداة فـي مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التـي قال اللّه : وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ. وقال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قول من قال: تأويـله مطيعين، وذلك أن أصل القنوت: الطاعة، وقد تكون الطاعة للّه فـي الصلاة بـالسكوت عما نهى اللّه من الكلام فـيها، ولذلك وجه من وجه تأويـل القنوت فـي هذا الـموضع إلـى السكوت فـي الصلاة أحد الـمعانـي التـي فرضها اللّه علـى عبـاده فـيها. إلا عن قراءة قرآن، أو ذكر له بـما هو أهله. ومـما يدلّ علـى أنهم قالوا ذلك كما وصفنا، قول النـخعي ومـجاهد، الذي: ٤٥١٥ـ حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم ومـجاهد قالا: كانوا يتكلـمون فـي الصلاة، يأمر أحدهم أخاه بـالـحاجة فنزلت وَقُومُوا للّه قانِتِـينَ قال: فقطعوا الكلام، والقنوت: السكوت، والقنوت: الطاعة. فجعل إبراهيـم ومـجاهد القنوت سكوتا فـي طاعة اللّه علـى ما قلنا فـي ذلك من التأويـل، وقد تكون الطاعة للّه فـيها بـالـخشوع وخفض الـجناح، وإطالة القـيام، وبـالدعاء، لأن كلاً غير خارج من أحد معنـيـين، من أن يكون مـما أمر به الـمصلـي، أو مـما ندب إلـيه، والعبد بكل ذلك للّه مطيع، وهو لربه فـيه قانت، والقنوت: أصله الطاعة للّه، ثم يستعمل فـي كل ما أطاع اللّه به العبد. فتأويـل الآية إذا: حافظوا علـى الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا للّه فـيها مطيعين بترك بعضكم فـيها كلام بعض، وغير ذلك من معانـي الكلام، سوى قراءة القرآن فـيها، أو ذكر اللّه بـالذي هو أهله أو دعائه فـيها، غير عاصين للّه فـيها بتضيـيع حدودها، والتفريط فـي الواجب للّه علـيكم فـيها، وفـي غيرها من فرائض اللّه . ٢٣٩انظر تفسير الآية: ٢٤٥ ٢٤٠انظر تفسير الآية: ٢٤٥ ٢٤١انظر تفسير الآية: ٢٤٥ ٢٤٢انظر تفسير الآية: ٢٤٥ ٢٤٣انظر تفسير الآية: ٢٤٥ ٢٤٤انظر تفسير الآية: ٢٤٥ ٢٤٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً ... } يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وقوموا للّه فـي صلاتكم مطيعين له، لـما قد بـيناه من معناه، فإن خفتـم من عدوّ لكم أيها الناس، تـخشونهم علـى أنفسكم فـي حال التقائكم معهم، أن تصلوا قـياما علـى أرجلكم بـالأرض، قانتـين للّه، فصلوا رجالاً مشاة علـى أرجلكم، وأنتـم فـي حربكم وقتالكم وجهاد عدوّكم، أو ركبـانا علـى ظهور دوابكم، فإن ذلك يجزيكم حينئذٍ من القـيام منكم قانتـين. ولـما قلنا من أن معنى ذلك كذلك، جاز نصب الرجال بـالـمعنى الـمـحذوف، وذلك أن العرب تفعل ذلك فـي الـجزاء خاصة لأن ثانـيه شبـيه بـالـمعطوف علـى أوله، ويبـين ذلك أنهم يقولون إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا، بـمعنى: إن تفعل خيرا تصب خيرا، وإن تفعل شرّا تصب شرّا، فـيعطفون الـجواب علـى الأول لا نـجزام الثانـي بجزم الأول، فكذلك قوله: فإن خِفْتُـمْ فَرجالاً أوْ رُكبْـانا بـمعنى: إن خفتـم أن تصلوا قـياما بـالأرض فصلوا رجالاً والرجال جمع راجل ورَجِل وأما أهل الـحجاز فإنهم يقولون لواحد الرجال رَجُل، مسموع منهم: مشى فلان إلـى بـيت اللّه حافـيا رَجُلاً، وقد سمع من بعض أحياء العرب فـي واحدهم رَجْلان، كما قال بعض بنـي عقـيـل: علـيّ إذَا أبْصَرْتُ لَـيْـلَـى بِخَـلْوَةٍأنَ ازْدَارَ بَـيْتَ اللّه رَجْلانَ حافِـيا فمن قال رَجْلان للذكر، قال للأنثى رَجْلَـى، وجاز فـي جمع الـمذكر والـمؤنث فـيه أن يقال: أتـى القوم رُجَالَـى، ورَجَالـى مثل كُسالـى وكَسالـى. وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: (فإنْ خِفْتُـمْ فَرُجّالاً) مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ: (فُرجَالاً)، وكلتا القراءتـين غير جائزة القراءة بها عندنا بخلاف القراءة الـموروثة الـمستفـيضة فـي أمصار الـمسلـمينوأما الركبـان، فجمع راكب، يقال: هو راكب وهو رُكْبـان ورَكْب وَرَكَبة وُركّاب وأَركُب وأَرْكُوب، يقال: جاءنا أُرْكُوبٌ من الناس وأراكيب. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٥١٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، قال: سألته عن قوله: فَرِجالاً أو رُكْبـانا قال: عند الـمطاردة يصلـي حيث كان وجهه، راكبـا أو راجلاًف، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلـي ركعتـين يومىء إيـماء. ٤٥١٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن مغيرة عن إبراهيـم فـي قوله: فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا قال: صلاة الضّراب ركعتـين يومىء إيـماء. ٤٥١٨ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، عن سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم قوله: فَرجالاً أوْ رُكْبـانا قال: يصلـي ركعتـين حيث كان وجهه يومىء إيـماء. ٤٥١٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير: فَرِجالاً أوْ ركْبـانا قال: إذا طردت الـخيـل فأومىء إيـماء. تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيّةً لأزْوَاجِهِمْ مّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ .....} حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن مالك، عن سعيد، قال: يومىء إيـماء. ٤٥٢٠ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن: فَرجالاً أوْ رُكْبـانا قال: إذا كان عند القتال صلـى راكبـا أو ماشيا حيث كان وجهه يومىء إيـماء. ٤٥٢١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبَـانا أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي القتال علـى الـخيـل، فإذا وقع الـخوفُ فلـيصل الرجل علـى كل جهة قائما أو راكبـا، أو كما قدر، علـى أن يومىء برأسه أو يتكلـم بلسانه. ٤٥٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه، إلا أنه قال: أو راكبـا لأصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال أيضا: أو راكبـا، أو ما قدر أن يومىء برأسه، وسائر الـحديث مثله. ٤٥٢٣ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: فإنْ خِفْتُـمْ فَرجّالاً أوْ رُكْبـانا قال: إذا التقوا عند القتال وطَلَبوا، أو طُلِبوا، أو طلبهم سَبُع، فصلاتهم تكبـيرتان إيـماء أيّ جهة كانت. ٤٥٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا قال: ذلك عند القتال يصلـي حيث كان وجهه راكبـا أو راجلاً إذا كان يطلب أو يطلبه سبع، فلـيصلّ ركعة يومىء إيـماء، فإن لـم يستطع فلـيكبر تكبـيرتـين. ٤٥٢٥ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن الفضل بن دَلْهم، عن الـحسن: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا قال: ركعة وأنت تـمشي، وأنت يُوضِع بك بعيرك، ويركض بك فرسك علـى أيّ جهة كان. ٤٥٢٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبـانا أما رجالاً: فعلـى أرجلكم إذا قاتلتـم، يصلـي الرجل يومىء برأسه أينـما توجه، والراكب علـى دابته يومىء برأسه أينـما توجه. ٤٥٢٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أو رُكبْـانا الآية. أحلّ اللّه لك إذا كنت خائفـا عند القتال أن تصلـي وأنت راكب وأنت تسعى، تومىء برأسك من حيث كان وجهك إن قدرت علـى ركعتـين، وإلا فواحدة. ٤٥٢٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه: فإنْ خِفْتُـمْ فَرجّالاً أوْ رُكْبـانا قال: ذاك عند الـمسايفة. ٤٥٢٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الزهري فـي قوله: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْـانا قال: إذا طلب الأعداء فقد حلّ لهم أن يصلوا قبل أيّ جهة كانوا رجالاً أو ركبـانا يومئون إيـماء ركعتـين وقال قتادة: تـجزي ركعة. ٤٥٣٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبـاناقال: كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتـين راكبـا كان أو راجلاً. ٤٥٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْـانا قال: يصلـي الرجل فـي القتال الـمكتوبة علـى دابته، وعلـى راحلته حيث كان وجهه، يومىء إيـماء عند كل ركوع وسجود، ولكن السجود أخفض من الركوع، فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا هذا فـي الـمطاردة. ٤٥٣٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، قال: كان قتادة يقول: إن استطاع ركعتـين وإلا فواحدة يومىء إيـماء، إن شاء راكبـا أو راجلاً، قال اللّه تعالـى ذكره: فإنْ خِفْتُـمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْـانا. ٤٥٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة، عن الـحسن، قال فـي الـخائف الذي يطلبه العدوّ، قال: إن استطاع أن يصلـي ركعتـين، وإلا صلـى ركعة. ٤٥٣٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن يونس، عن الـحسن، قال: ركعة. وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبـيهم ذلك، ما: ١٤٦٤٥٣٥ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ألَـمْ تَرَ إلـى الـمَلإِ مِنْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إذْ قالُوا لِنَبِـيّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكا نُقاتِلْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه قال: كانت بنو إسرائيـل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت. وإنهم ظهروا علـى بنـي إسرائيـل، فضربوا علـيهم الـجزية، وأخذوا توراتهم وكانت بنو إسرائيـل يسألون اللّه أن يبعث لهم نبـيا يقاتلون معه وكان سبط النبوّة قد هلكوا، فلـم يبق منهم إلا امرأة حبلـى، فأخذوها فحبسوها فـي بـيتٍ رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام، لـما ترى من رغبة بنـي إسرائيـل فـي ولدها. فجعلت الـمرأة تدعو اللّه أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته شمعون. فكبر الغلام فأرسلته يتعلـم التوراة فـي بـيت الـمقدس، وكفله شيخ من علـمائهم وتبناه. فلـما بلغ الغلام أن يبعثه اللّه نبـيا أتاه جبريـل والغلام نائم إلـى جنب الشيخ، وكان لا يأتـمن علـيه أحدا غيره، فدعاه بلـحن الشيخ: يا شماول فقام الغلام فزعا إلـى الشيخ، فقال: يا أبتاه دعوتنـي؟ فكره الشيخ أن يقول لا فـيفزع الغلام، فقال: يا بنـيّ ارجع فنـم فرجع فنام ثم دعاه الثانـية، فأتاه الغلام أيضا، فقال: دعوتنـي؟ فقال: ارجع فنـم، فإن دعوتك الثالثة فلا تـجبنـي فلـما كانت الثالثة ظهر له جبريـل، فقال: اذهب إلـى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن اللّه قد بعثك فـيهم نبـيا فلـما أتاهم كذبوه و قالوا: استعجلت بـالنبوّة ولـم يأنِ لك و قالوا: إن كنت صادقا فـابعث لنا ملكا نقاتل فـي سبـيـل اللّه آية من نبوّتك فقال لهم شمعون: عسى أن كتب علـيكم القتال ألا تقاتلوا واللّه أعلـم. قال أبو جعفر: وغير جائز فـي قول اللّه تعالـى ذكره: نُقاتِلْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه إذا قرىء بـالنون غير الـجزم علـى معنى الـمـجازاة وشرط الأمر. فإن ظنّ ظانّ أن الرفع فـيه جائز وقد قرىء بـالنون بـمعنى الذي نقاتل فـي سبـيـل اللّه ، فإن ذلك غير جائز لأن العرب لا تضمر حرفـين. ولكن لو كان قرىء ذلك بـالـياء لـجاز رفعه، لأنه يكون لو قرىء كذلك صلة للـملك، فـيصير تأويـل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل فـي سبـيـل اللّه ، كما قال تعالـى ذكره: وَابعَثْ فِـيهمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَـيْهمْ آياتِك لأن قوله (يتلو) من صلة (الرسول). القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالَ هَلْ عَسَيْتُـمْ إنْ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِتالُ .... يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قال النبـيّ الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا فـي سبـيـل اللّه : هَلْ عَسَيْتُـمْ هل تعدون إن كتب، يعنـي إن فرض علـيكم القتال ألا تقاتلوا؟ يعنـي أن لا تفوا بـما تعدون اللّه من أنفسكم من الـجهاد فـي سبـيـله؟ فإنكم أهل نكث وغدر، وقلة وفـاء بـما تعدون قالُوا وَما لَنا ألاّ نُقاتِل فـي سَبِـيـلِ اللّه يعنـي قال الـملأ من بنـي إسرائيـل لنبـيهم ذلك: وأيّ شيء يـمنعنا أن نقاتل فـي سبـيـل اللّه عدوّنا وعدوّ اللّه ، وَقَدْ أخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأبْنائِنَا بـالقهر والغلبة؟ فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول (أن) فـي قوله: وما لَنا ألاّ نُقاتِلَ فـي سَبِـيـلِ اللّه وحذفه من قوله: وما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بـاللّه والرّسُولُ يَدْعُوكُمْ؟ قـيـل: هما لغتان فصيحتان للعرب، تـحذف (أن) مرة مع قولنا (ما لك)، فتقول: ما لك لا تفعل كذا؟ بـمعنى: ما لك غير فـاعله، كما قال الشاعر: ما لَكِ تَرْغِينَ ولا تَرْغُو الـخَـلِفْ وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بـالـمتكلـم به إلـى الاستشهاد علـى صحته لفشوّ ذلك علـى ألسن العرب. وتثبت (أن) فـيه أخرى، توجيها لقولها ما لك إلـى معناه، إذ كان معناه: ما منعك، كما قال تعالـى ذكره: ما مَنَعَك ألاّ تَسجُدَ إذْ أمَرْتُكَ ثم قال فـي سورة أخرى فـي نظيره: مَا لَكَ ألاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ فوضع (ما منعك) موضع (ما لك)، و(ما لك) موضع (ما منعك) لاتفـاق معنـيـيهما وإن اختلفت ألفـاظهما، كما تفعل العرب ذلك فـي نظائره مـما تتفق معانـيه وتـختلف ألفـاظه، كما قال الشاعر: يقُولُ إذا اقلَوْلَـى عَلَـيَها وأقْرَدَتْألا هَلْ أخُو عَيشٍ لَذِيذٍ بِدَائمِ فأدخـل فـي (دائم) (البـاء) مع (هل) وهي استفهام، وإنـما تدخـل فـي خبر (ما) التـي فـي معنى الـجحد لتقارب معنى الاستفهام والـجحد. وكان بعض أهل العربـية يقول: أدخـلت (أن) فـي: ألاّ تُقاتِلُوا لأنه بـمعنى قول القائل: ما لك فـي ألا تقاتل؟ ولو كان ذلك جائزا لـجاز أن يقال: ما لك أن قمت؟ وما لك أنك قائم؟ وذلك غير جائز لأن الـمنع إنـما يكون للـمستقبل من الأفعال، كما يقال: منعتك أن تقوم، ولا يقال: منعتك أن قمت فلذك قـيـل فـي (ما لك): ما لك ألا تقوم، ولـم يقل: ما لك أن قمت. وقال آخرون منهم: (أن) ههنا زائدة بعد (ما) (فلـما) (ولـما) (ولو) وهي تزاد فـي هذا الـمعنى كثـيرا قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل فـي سبـيـل اللّه فأعمل (أن) وهي زائدة وقال الفرزدق: لَو لَـمْ تَكُنْ غَطَفـانُ لا ذُنوبَ لهَاإذَنْ لَلامَ ذَوُو أحْسابِها عُمَرَا والـمعنى: لو لـم تكن غطفـان لها ذنوب. (ولا) زائدة فأعملها وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه آخرون، و قالوا: غير جائز أن تـجعل (أن) زائدة فـي الكلام وهو صحيح فـي الـمعنى وبـالكلام إلـيه الـحاجة قالوا: والـمعنى: ما يـمنعنا ألا نقاتل؟ فلا وجه لدعوى مدّع أنّ (أن) زائدة، وله معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله: (لو لـم تكن غطفـان لا ذنوب لها)، فإن (لا) غير زائدة فـي هذا الـموضع، لأنه جحد، والـجحد إذا جحد صار إثبـاتا. قالوا: فقوله: (لو لـم تكن غطفـان لا ذنوب لها) إثبـات الذنوب لها، كما يقال: ما أخوك لـيس يقوم، بـمعنى: هو يقوم. وقال آخرون: معنى قوله: ما لَنا ألاّ نُقاتِلَ ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت الواو فتركت، كما يقال فـي الكلام: ما لك ولأن تذهب إلـى فلان؟ فألقـي منها الواو، لأن (أن) حرف غير متـمكن فـي الأسماء و قالوا: نـجيز أن يقال: ما لك أن تقوم؟ ولا نـجيز: ما لك القـيام؟ لأن القـيام اسم صحيح، و(أن) اسم غير صحيح و قالوا: قد تقول العرب: إياك أن تتكلـم، بـمعنى إياك وأن تتكلـم. وأنكر ذلك من قولهم آخرون، و قالوا: لو جاز أن يقال ذلك علـى التأويـل الذي تأوّله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا: (ضربتك بـالـجارية وأنت كفـيـل)، بـمعنى: وأنت كفـيـل بـالـجارية، وأن تقول: (رأيتك أبـانا ويزيد)، بـمعنى: رأيتك وأبـانا يزيد لأن العرب تقول: إياك بـالبـاطل أن تنطق قالوا: فلو كانت الواو مضمرة فـي أن لـجاز جميع ما ذكرنا ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد الواو من الأفـاعيـل غير جائز له أن يقع علـى ما قبلها. واستشهدوا علـى فساد قول من زعم أن الواو مضمرة مع (أن) بقول الشاعر: فَبُحْ بـالسّرَائِرِ فـي أهْلِهاوإيّاكَ فـي غَيْرِهِمْ أنْ تَبُوحا وأنّ (أن تبوحا) لو كان فـيها واو مضمرة لـم يجز تقديـم غيرهم علـيها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنَا وأبْنائِنا. فإنه يعنـي: وقد أخرج من غلب علـيه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم ومن سبـي. وهذا الكلام ظاهره العموم، وبـاطنه الـخصوص لأن الذين قالوا لنبـيهم: ابْعَثْ لَنا مَلِكا نُقاتِلْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كانوا فـي ديارهم وأوطانهم، وإنـما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم. وأما قوله: فَلَـمّا كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القِتَالُ تَوَلّوْا إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ يقول: فلـما فرض علـيهم قتال عدوّهم والـجهاد فـي سبـيـله، تولّوا إلا قَلـيلاً مِنْهُم يقول: أدبروا مولـين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبـيهم من فرض الـجهاد. والقلـيـل الذي استثناهم اللّه منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت وسنذكر سبب تولّـي من تولّـى منهم وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء اللّه إذا أتـينا علـيه. يقول اللّه تعالـى ذكره: وَاللّه عَلِـيـمٌ بـالظّالِـمِينَ يعنـي: واللّه ذو علـم بـمن ظلـم منهم نفسه، فأخـلف اللّه ما وعده من نفسه وخالف أمر ربه فـيـما سأله ابتداء أن يوجبه علـيه. وهذا من اللّه تعالـى ذكره تقريعٌ للـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجَر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي تكذيبهم نبـينا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ومخالفتهم أمر ربهم. يقول اللّه تعالـى ذكره لهم: إنكم يا معشر الـيهود عصيتـم اللّه وخالفتـم أمره فـيـما سألتـموه أن يفرضه علـيكم ابتداء من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتـموه فـيه، فأنتـم بـمعصيته فـيـما ابتدأكم به من إلزام فرضه أَحْرَى. وفـي هذا الكلام متروك قد استغنـي بذكر ما ذكر عما ترك منه وذلك أن معنى الكلام: قالوا: وما لنا ألا نقاتل فـي سبـيـل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فسأل نبـيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه فـي سبـيـل اللّه . فبعث لهم ملكا، وكتب علـيهم القتال فَلَـمّا كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القِتَالُ تَوَلّوْا إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ واللّه عَلِـيـمٌ بـالظّالِـمِينَ. ٢٤٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وقال للـملأ من بنـي إسرائيـل نبـيّهم شمويـل: إن اللّه قد أعطاكم ما سألتـم، وبعث لكم طالوت ملكا. فلـما قال لهم نبـيهم شمويـل ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الـملك علـينا، وهو من سبط بنـيامين بن يعقوب، وسبط بنـيامين سبط لا ملك فـيهم ولا نبوّة، ونـحن أحقّ بـالـملك منه، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب، وَلـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ يعنـي: ولـم يؤت طالوت كثـيرا من الـمال، لأنه سَقّاء، وقـيـل كان دبـاغا. وكان سبب تـملـيك اللّه طالوت علـى بنـي إسرائيـل وقولهم ما قالوا لنبـيهم شمويـل: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنا ونَـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولَـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ ما: ٤٥٣٦ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه قال: لـما قال الـملأ من بنـي إسرائيـل لشمويـل بن بـالـي ما قالوا له، سأل اللّه نبـيهم شمويـل أن يبعث لهم ملكا، فقال اللّه له: انظر القرن الذي فـيه الدهن فـي بـيتك، فإذا دخـل علـيك رجل فنشّ الدهن الذي فـي القرن، فهو ملك بنـي إسرائيـل، فـادهن رأسه منه، وملّكه علـيهم وأخبره بـالذي جاءه. فأقام ينتظر متـى ذلك الرجل داخلاً علـيه. وكان طالوت رجلاً دبـاغا يعمل الأدم، وكان من سبط بنـيامين بن يعقوب، وكان سبط بنـيامين سبطا لـم يكن فـيه نبوّة ولا ملك. فخرج طالوت فـي طلب دابة له أضلته ومعه غلام له، فمرّا ببـيت النبـيّ علـيه السلام، فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخـلت بنا علـى هذا النبـيّ فسألناه عن أمر دابتنا فـيرشدنا ويدعو لنا فـيها بخير؟ فقال طالوت: ما بـما قلت من بأس فدخلا علـيه، فبـينـما هما عنده يذكران له شأن دابتهما، ويسألانه أن يدعو لهما فـيها، إذ نش الدهن الذي فـي القرن، فقام إلـيه النبـيّ علـيه السلام فأخذه، ثم قال لطالوت: قرّب رأسك فقرّبه، فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بنـي إسرائيـل الذي أمرنـي اللّه أن أملكك علـيهم. وكان اسم طالوت بـالسريانـية: شاؤل بن قـيس بن أبـيال بن صرار بن يحرب بن أفِـيّح بن آيس بن بنـيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيـم. فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت. فأتت عظماء بنـي إسرائيـل نبـيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يـملك علـينا ولـيس فـي بـيت النبوّة ولا الـمـملكة؟ قد عرفت أن النبوّة والـملك فـي آل لاوي وآل يهوذا فقال لهم: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ. ٤٥٣٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل، عن عبد الكريـم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، قال: قالت بنو إسرائيـل لشمويـل: ابعث لنا ملكا نقاتل فـي سبـيـل اللّه قال: قد كفـاكم اللّه القتال قالوا: إنا نتـخّوف من حولنا فـيكون لنا ملك نفزع إلـيه فأوحى اللّه إلـى شمويـل أن ابعث لهم طالوت ملكا، وادهنه بدهن القدس. وضلت حُمُرٌ لأبـي طالوت، فأرسله وغلاما له يطلبـانها، فجاءوا إلـى شمويـل يسألونه عنها، فقال: إن اللّه قد بعثك ملكا علـى بنـي إسرائيـل قال: أنا؟ قال: نعم قال: وما علـمت أن سبطي أدنى أسبـاط بنـي إسرائيـل؟ قال: بلـى قال: أفما علـمت أن قبـيـلتـي أدنى قبـائل سبطي؟ قال: بلـى قال: أما علـمت أن بـيتـي أدنى بـيوت قبـيـلتـي؟ قال: بلـى قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت بـمكان كذا وكذا نزل علـيك الوحي. فدهنه بدهن القدس، فقال لبنـي إسرائيـل: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنا ونـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولَـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ قالَ إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِـي العِلْـمِ وَالـجِسْمِ. ٤٥٣٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما كذبت بنو إسرائيـل شمعون، وقالوا له: إن كنت صادقا فـابعث لنا ملكا نقاتل فـي سبـيـل اللّه آية من نبوّتك قال لهم شمعون: عسى أن كتب علـيكم القتال ألا تقاتلوا. قالُوا وَما لَنا إلاّ نُقاتِلَ فِـي سَبِـيـلِ اللّه ... الآية. دعا اللّه فأتـى بعصا تكون مقدارا علـى طول الرجل الذي يبعث فـيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلـم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلاً سقاءً يسقـي علـى حمار له، فضلّ حماره، فـانطلق يطلبه فـي الطريق، فلـما رأوه دعوه فقاسوه بها، فكان مثلها، فقال لهم نبـيهم: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة، ونـحن من سبط الـمـملكة ولـيس هو من سبط الـمـملكة، ولـم يؤت سعة من الـمال فنتبعه لذلك فقال النبـيّ: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ. ٤٥٣٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، قال: كان طالوت سقاء يبـيع الـماء. ٤٥٤٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قال: بعث اللّه طالوت ملكا، وكان من سبط بنـيامين سبط لـم يكن فـيهم مـملكة ولا نبوة. وكان فـي بنـي إسرائيـل سبطان: سبط نبوة، وسبط مـملكة، وكان سبط النبوة لاوي إلـيه موسى وسبط الـمـملكة يهوذا إلـيه داود وسلـيـمان. فلـما بعث من غير سبط النبوة والـمـملكة أنكروا ذلك وعجبوا منه و قالوا: أنّى يَكونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنا ونـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ قالوا: وكيف يكون له الـملك علـينا، ولـيس من سبط النبوة، ولا من سبط الـمـملكة فقال اللّه تعالـى ذكره: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ. ٤٥٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: ابْعَثْ لَنا مَلِكا قال لهم نبـيهم: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنا قال: وكان من سبط لـم يكن فـيهم ملك ولا نبوة، فقال: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ. ٤٥٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: وَقالَ لَهُمْ نَبِـيّهُمْ إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا وكان فـي بنـي إسرائيـل سبطان: سبط نبوّة، وسبط خلافة. فلذلك قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا يقولون: ومن أين يكون له الـملك علـينا، ولـيس من سبط النبوّة، ولا سبط الـخلافة قالَ إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ. ٤٥٤٣ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا فذكر نـحوه. ٤٥٤٤ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: لـما قالت بنو إسرائيـل لنبـيهم: سل ربك أن يكتب علـينا القتال فقال لهم ذلك النبـيّ: هَلْ عَسَيْتُـمْ إنْ كُتِبَ عَلَـيْكُمُ القِتالُ... الآية قال: فبعث اللّه طالوت ملكا قال: وكان فـي بنـي إسرائيـل سبطان: سبط نبّوة، وسبط مـملكة، ولـم يكن طالوت من سبط النبوّة ولا من سبط الـمـملكة. فلـما بعث لهم ملكا أنكروا ذلك، وعجبوا و قالوا: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولَـمْ يُؤتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ قالوا: وكيف يكون له الـملك علـينا ولـيس من سبط النبوّة ولا من سبط الـمـملكة فقال: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ... الآية. ٤٥٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: أما ذكر طالوت إذ قالوا: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ وَلْـم يُؤتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ فإنهم لـم يقولوا ذلك إلا أنه كان فـي بنـي إسرائيـل سبطان، كان فـي أحدهما النبوّة، وكان فـي الاَخر الـملك، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوّة، ولا يـملك علـى الأرض أحد إلا من كان من سبط الـملك. وإنه ابتعث طالوت حين ابتعثه ولـيس من أحد السبطين، واختاره علـيهم وزاده بسطة فـي العلـم والـجسم ومن أجل ذلك قالوا: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولـيس من واحد من السبطين، قال: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ إلـى: وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ. ٤٥٤٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس قوله: ألَـمْ تَرَ إلـى الـمَلإِ مِنْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ مِنْ بَعْدِ موسَى... الآية. هذا حين رفعت التوراة واسْتـخرِج أهل الإيـمان، وكانت الـجبـابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم فلـما كتب علـيهم القتال وذلك حين أتاهم التابوت قال: وكان من بنـي إسرائيـل سبطان: سبط نبوّة وسبط خلافة، فلا تكون الـخلافة إلا فـي سبط الـخلافة، ولا تكون النبوّة إلا فـي سبط النبوّة، فقال لهم نبـيهم: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولـيس من أحد السبطين، لا من سبط النبوّة ولا سبط الـخلافة. قال إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ... الآية. إن معنى الـملك فـي هذا الـموضع: الإمرة علـى الـجيش. ذكر من قال ذلك: ٤٥٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد قوله: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا قال: كان أمير الـجيش. ٤٥٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بـمثله، إلا أنه قال: كان أميرا علـى الـجيش. وقد بـينا معنى (أنّى)، ومعنى الـملك فـيـما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قال: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ قال نبـيهم شمويـل لهم: إن اللّه اصطفـاه علـيكم يعنـي اختاره علـيكم. كما: ٤٥٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ اختاره. ٤٥٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ قال: اختاره علـيكم. ٤٥٥١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ اختاره. وأما قوله: وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ فإنه يعنـي بذلك: إن اللّه بسط له فـي العلـم والـجسم، وآتاه من العلـم فضلاً علـى ما أتـى غيره من الذين خوطبوا بهذا الـخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من اللّه وأما فـي الـجسم، فإنه أوتـي من الزيادة فـي طوله علـيهم ما لـم يؤته غيره منهم. كما: ٤٥٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: حدثنـي عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، قال: لـما قالت بنو إسرائيـل: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنَا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولَـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ قالَ إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ قال: واجتـمع بنو إسرائيـل، فكان طالوت فوقهم من منكبـيه فصاعدا. وقال السدي: أتـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بعصا تكون مقدارا علـى طول الرجل الذي يبعث فـيهم ملكا فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها فلـم يكونوا مثلها، فقاسوا طالوت بها فكان مثلها. ٤٥٥٣ـ حدثنـي بذلك موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن اللّه اصطفـاه علـيكم وزاده مع اصطفـائه إياه بسطة فـي العلـم والـجسم يعنـي بذلك: بسط له مع ذلك فـي العلـم والـجسم. ذكر من قال ذلك: ٤٥٥٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ بعد هذا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه يُؤْتِـي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن الـملك للّه وبـيده دون غيره يؤتـيه. يقول: يؤتـي ذلك من يشار فـيضعه عنده، ويخصه به، ويـمنـحه من أحبّ من خـلقه. يقول: فلا تستنكروا يا معشر الـملإ من بنـي إسرائيـل أن يبعث اللّه طالوت ملكا علـيكم وإن لـم يكن من أهل بـيت الـمـملكة، فإن الـملك لـيس بـميراث عن الاَبـاء والأسلاف، ولكنه بـيد اللّه يعطيه من يشاء من خـلقه، فلا تتـخيروا علـى اللّه . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٥٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنـي بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه: وَاللّه يُؤْتِـي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ الـملك بـيد اللّه يضعه حيث شاء، لـيس لكم أن تـختاروا فـيه. ٤٥٥٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: ملكه: سلطانه. ٤٥٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَاللّه يُؤْتِـي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ سلطانه. وأما قوله: وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ فإنه يعنـي بذلك واللّه واسع بفضله، فـينعم به علـى من أحبّ، ويريد به من يشاء عَلِـيـمٌ بـمن هو أهل لـملكه الذي يؤتـيه، وفضله الذي يعطيه، فـيعطيه ذلك لعلـمه به، وبأنه لـما أعطاه أهل إما للإصلاح به وإما لأن ينتفع هو به. ٢٤٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيّهُمْ إِنّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ ...} وهذا الـخبر من اللّه تعالـى ذكره عن نبـيه الذي أخبر عنه دلـيـل علـى أن الـملأ من بنـي إسرائيـل الذين قـيـل لهم هذا القول لـم يقروا ببعثة اللّه طالوت علـيهم ملكا، إذ أخبرهم نبـيهم بذلك وعرّفهم فضيـلته التـي فضله اللّه بها ولكنهم سألوه الدلالة علـى صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويـل الكلام إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: وَاللّه يُؤْتِـي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ فقالوا له: ائت بآية علـى ذلك إن كنت من الصادقـين قال لهم نبـيهم: إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيَكُمُ التّابُوتُ. هذه القصة وإن كانت خبرا من اللّه تعالـى ذكره عن الـملإ من بنـي إسرائيـل ونبـيهم وما كان من ابتدائهم نبـيهم بـما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل اللّه لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه فـي سبـيـله، بناء عما كان منهم من تكذيبهم نبـيهم بعد علـمهم بنبوّته ثم إخلافهم الـموعد الذي وعدوا اللّه ووعدوا رسوله من الـجهاد فـي سبـيـل اللّه بـالتـخـلف عنه حين استنهضوا الـحرب من استنهضوا لـحربه، وفتـح اللّه علـى القلـيـل من الفئة مع تـخذيـل الكثـير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الـجهاد معه فإنه تأديب لـمن كان بـين ظهرانـي مهاجَر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن يعدوا فـي تكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـيـما أمرهم به ونهاهم عنه، مع علـمهم بصدقه ومعرفتهم بحقـيقة نبوّته، بعد ما كانوا يستنصرون اللّه به علـى أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة اللّه إياه إلـيهم وإلـى غيرهم أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبـيهم شمويـل بن بـالـي، مع علـمهم بصدقه ومعرفتهم بحقـيقة نبوّته، وامتناعهم من الـجهاد مع طالوت لـما ابتعثه اللّه ملكا علـيهم بعد مسألتهم نبـيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوّهم، ويجاهدون معه فـي سبـيـل ربهم ابتداء منهم بذلك نبـيهم، وبعد مراجعة نبـيهم شمويـل إياهم فـي ذلك وحضّ لأهل الإيـمان بـاللّه وبرسوله من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى الـجهاد فـي سبـيـله، وتـحذير منه لهم أن يكونوا فـي التـخـلف عن نبـيهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم عند لقائه العدوّ ومناهضته أهل الكفر بـاللّه وبه علـى مثل الذي كان علـيه الـملأ من بنـي إسرائيـل فـي تـخـلفهم عن ملكهم طالوت، إذ زحف لـحرب عدوّ اللّه جالوت، وإيثارهم الدعة والـخفض علـى مبـاشرة حرّ الـجهاد، والقتال فـي سبـيـل اللّه ، وشحذ منه لهم علـى الإقدام علـى مناجزة أهل الكفر به الـحرب، وترك تهيب قتالهم إن قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم، بقوله: قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه وَاللّه مَعَ الصّابِرِينَ، وإعلام منه تعالـى ذكره عبـاده الـمؤمنـين به أن بـيده النصر والظفر والـخير والشرّ. وأما تأويـل قوله: قاَل لَهُمْ نَبـيّهُمْ فإنه يعنـي للـملأ من بنـي إسرائيـل الذين قالوا لنبـيهم: ابْعَثْ لَنا مَلِكا نُقاتِلْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وقوله: إنّ آيَةَ مُلْكِهِ: إن علامة ملك طالوت التـي سألتـمونـيها دلالة علـى صدقـي فـي قولـي: إن اللّه بعثه علـيكم ملكا، وإن كان من غير سبط الـمـملكة، أنْ يَأتِـيكُمُ التّابُوتُ فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيـل إذا لقوا عدوّا لهم قدموه أمامهم وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدوّ ولا يظهر علـيهم أحد ناوأهم، حتـى منعوا أمر اللّه وكثر اختلافهم علـى أنبـيائهم، فسلبهم اللّه إياه مرّة بعد مرّة يرده إلـيهم فـي كل ذلك، حتـى سلبهم آخر مرة فلـم يردّه علـيهم ولن يردّ إلـيهم آخر الأبد. ثم اختلف أهل التأويـل فـي سبب مـجيء التابوت الذي جعل اللّه مـجيئه إلـى بنـي إسرائيـل آية لصدق نبـيهم شمويـل علـى قوله: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا وهل كانت بنو إسرائيـل سُلبوه قبل ذلك فردّه اللّه علـيهم حين جعل مـجيئه آية لـملك طالوت، أو لـم يكونوا سلبوه قبل ذلك ولكن اللّه ابتدأهم به ابتداء؟ فقال بعضهم: كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه حتـى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم ردّه اللّه علـيهم آية لـملك طالوت. وقال فـي سبب ردّه علـيهم ما أنا ذاكره، وهو ما: ٤٥٥٨ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: كان لعيـلـي الذي ربى شمويـل ابنان شابـان أحدثا فـي القربـان شيئا لـم يكن فـيه، كان شرط القربـان الذي كانوا يشرطونه به كُلاّ بـين فما أخرجا كان للكاهن الذي يستوطنه، فجعل ابناه كلالـيب، وكانا إذا جاء النساء يصلـين فـي القدس يتشبثان بهنّ. فبـينا شمويـل نائم قبل البـيت الذي كان ينام فـيه عيـلـي، إذ سمع صوتا يقول: أشمويـل فوثب إلـى عيـلـي، فقال: لبـيك ما لك دعوتنـي؟ فقال: لا، ارجع فنـم فرجع فنام ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويـل فوثب إلـى عيـلـي أيضا، فقال: لبـيك ما لك دعوتنـي؟ فقال: لـم أفعل ارجع فنـم، فإن سمعت شيئا فقل لبـيك مكانك مرنـي فأفعل فرجع فنام، فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويـل فقال: لبـيك أنا هذا مرنـي أفعل قال: انطلق إلـى عيـلـي، فقل له: منعه حب الولد أن يزجر ابنـيه أن يحدثا فـي قدسي وقربـانـي وأن يعصيانـي، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما فلـما أصبح سأله عيـلـي، فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا، فسار إلـيهم عدوّ مـمن حولهم، فأمر ابنـيه أن يخرجا بـالناس فـيقاتلا ذلك العدوّ فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فـيه اللوحان وعصا موسى لـينصروا به. فلـما تهيئوا للقتال هم وعدوّهم، جعل عيـلـي يتوقع الـخبر ماذا صنعوا، فجاءه رجل يخبره وهو قاعد علـى كرسيه أن ابنـيك قد قتلا، وأن الناس قد انهزموا قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدوّ قال: فشهق ووقع علـى قـفـاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سَبُوا التابوت حتـى وضعوه فـي بـيت آلهتهم ولهم صنـم يعبدونه، فوضعوه تـحت الصنـم والصنـم من فوقه، فأصبح من الغد والصنـم تـحته وهو فوق الصنـم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه فـي التابوت، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنـم ورجلاه، وأصبح ملقـى تـحت التابوت فقال بعضهم لبعض: قد علـمتـم أن إله بنـي إسرائيـل لا يقوم له شيء، فأخرجوه من بـيت آلهتكم فأخرجوا التابوت فوضعوه فـي ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التـي وضعوا فـيها التابوت وجع فـي أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟ فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبـي بنـي إسرائيـل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فـيكم، فأخرجوه من قريتكم قالوا: كذبت قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتـين لهما أولاد لـم يوضع علـيهما نـير قط، ثم تضعوا وراءهم العجل، ثم تضعوا التابوت علـى العجل، وتسيروهما، وتـحبسوا أولادهما فإنهما تنطلقان به مذعنتـين، حتـى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا فـي أرض بنـي إسرائيـل، كسرتا نـيرهما، وأقبلتا إلـى أولادهما ففعلوا ذلك فلـما خرجتا من أرضهم ووقعتا فـي أدنى أرض بنـي إسرائيـل، كسرتا نـيرهما، وأقبلتا إلـى أولادهما، ووضعتاه فـي خربة فـيها حضار من بنـي إسرائيـل. ففزع إلـيه بنو إسرائيـل وأقبلوا إلـيه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات، فقال لهم نبـيهم شمويـل: اعترضوا، فمن آنس من نفسه قوّة فلـيدن منه فعرضوا علـيه الناس، فلـم يقدر أحد يدنو منه، إلا رجلان من بنـي إسرائيـل أذن لهما بأن يحملاه إلـى بـيت أمهما، وهي أرملة، فكان فـي بـيت أمهما حتـى ملك طالوت، فصلـح أمر بنـي إسرائيـل مع شمويـل. ٤٥٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه، قال: قال شمويـل لبنـي إسرائيـل لـما قالوا له: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ ولَـمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الـمَالِ قالَ إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِـي العِلْـمِ والـجِسْمِ وإن آية ملكه: وإن تـملـيكه من قِبَل اللّه أن يأتـيكم التابوت، فـيرد علـيكم الذي فـيه من السكينة، وبقـية مـما ترك آل موسى وآل هارون، وهو الذي كنتـم تهزمون به من لقـيكم من العدو، وتظهرون به علـيه قالوا: فإن جاءنا التابوت، فقد رضينا وسلـمنا. وكان العدوّ الذين أصابوا التابوت أسفل من الـجبل، جبل إيـلـيا، فـيـما بـينهم وبـين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فـيهم جالوت، وكان جالوت رجلاً قد أعطي بسطة فـي الـجسم وقوّة فـي البطش وشدّة فـي الـحرب، مذكورا بذلك فـي الناس. وكان التابوت حين استبـي قد جعل فـي قرية من قرى فلسطين، يقال لها: أُرُدُنّ، فكانوا قد جعلوا التابوت فـي كنـيسة فـيها أصنامهم. فلـما كان من أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ما كان من وعد بنـي إسرائيـل أن التابوت سيأتـيهم، جعلت أصنامهم تصبح فـي الكنـيسة منكسة علـى رءوسها، وبعث اللّه علـى أهل تلك القرية فأرا، تثبت الفأرة الرجل فـيصبح ميتا قد أكلت ما فـي جوفه من دبره. قالوا: تعلـمون واللّه لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمـم قبلكم، وما نعلـمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بـين أظهرنا، مع أنكم قد رأيتـم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة شيء لـم يكن يصنع بها حتـى كان هذا التابوت معها، فأخرجوه من بـين أظهركم فدعوا بعجلة فحملوا علـيها التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا علـى جنوبهما، وخرجت الـملائكة بـالثورين تسوقهما، فلـم يـمرّ التابوت بشيء من الأرض إلا كان قُدْسا، فلـم يرعهم إلا التابوت علـى عجلة يجرّها الثوران، حتـى وقـف علـى بنـي إسرائيـل، فكبروا وحمدوا اللّه ، وجدّوا فـي حربهم واستوثقوا علـى طالوت. ٤٥٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : لـما قال لهم نبـيهم: إن اللّه اصطفـى طالوت علـيكم وزاده بسطة فـي العلـم والـجسم، أبوا أن يسلـموا له الرياسة حتـى قال لهم: إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيَكُمُ التّابُوتُ فِـيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ فقال لهم: أرأيتـم إن جاءكم التابوت فـيه سكينة من ربكم وبقـية مـما ترك آل موسى وآل هارون تـحمله الـملائكة. وكان موسى حين ألقـى الألواح تكسرت، ورفع منها، فنزل، فجمع ما بقـي، فجعله فـي ذلك التابوت. قال ابن جريج: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، أنه لـم يبق من الألواح إلا سدسها قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت، والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحاء فجاءت الـملائكة بـالتابوت تـحمله بـين السماء والأرض، وهم ينظرون إلـى التابوت حتـى وضعته عند طالوت، فلـما رأوا ذلك قالوا: نعم فسلـموا له وملكوه قال: وكان الأنبـياء إذا حضروا قتالاً قدّموا التابوت بـين يديهم ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبـالركن. وبلغنـي أن التابوت وعصا موسى فـي بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القـيامة. ٤٥٦١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لـما خرّب بـيت الـمقدس وحرق الكتب، وقـف فـي ناحية الـجبل، فقال: أنّى يُحْيِى هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّه مِائَةَ عامٍ ثم ردّ اللّه من ردّ من بنـي إسرائيـل علـى رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثـين سنة تـمام الـمائة فلـما ذهبت الـمائة ردّ اللّه إلـيه روحه وقد عمرت، فهي علـى حالتها الأولـى فلـما أراد أن يردّ علـيهم التابوت، أوحى اللّه إلـى نبـيّ من أنبـيائهم، إما دانـيال وإما غيره، إن كنتـم تريدون أن يرفع عنكم الـمرض، فأخرجوا عنكم هذا التابوت قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية أنكم تأتون ببقرتـين صعبتـين لـم تعملا عملاً قط، فإذا نظرتا إلـيه وضعتا أعناقهم للنـير حتـى يشدّ علـيهما، ثم يشدّ التابوت علـى عجل، ثم يعلق علـى البقرتـين، ثم تـخـلـيان فتسيران حيث يريد اللّه أن يبلغهما ففعلوا ذلك. ووكل اللّه بهما أربعة من الـملائكة يسوقونهما. فسارت البقرتان سيرا سريعا، حتـى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نـيرهما، وقطعتا حبـالهما، وذهبتا، فنزل إلـيهما داود ومن معه. فلـما رأى داود التابوت، حجل إلـيه فرحا به فقلنا لوهب: ما حَجَل إلـيه؟ قال: شبـيه بـالرقص فقالت له امرأته: لقد خففت حتـى كاد الناس يـمقتونك لـما صنعت، قال: أتبطئينـي عن طاعة ربـي؟ لا تكونـين لـي زوجة بعد هذا ففـارقها. وقال آخرون: بل التابوت الذي جعله اللّه آية لـملك طالوت كان فـي البرية، وكان موسى صلى اللّه عليه وسلم خـلفه عند فتاه يوشع، فحملته الـملائكة حتـى وضعته فـي دار طالوت. ذكر من قال ذلك: ٤٥٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيكُمُ التّابُوتَ فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ... الآية. كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بـالبرية، وأقبلت به الـملائكة تـحمله حتـى وضعته فـي دار طالوت، فأصبح فـي داره. ٤٥٦٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيكُمُ التّابُوتَ... الآية، قال: كان موسى فـيـما ذكر لنا ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو فـي البرية، فذكر لنا أن الـملائكة حملته من البرية حتـى وضعته فـي دار طالوت، فأصبح التابوت فـي داره. وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، ما قاله ابن عبـاس ووهب بن منبه من أن التابوت كان عند عدوّ لبنـي إسرائيـل كان سلبهموه، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قال مخبرا عن نبـيه فـي ذلك الزمان قوله لقومه من بنـي إسرائيـل: إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيكُمُ التّابُوتَ والألف واللام لا تدخلان فـي مثل هذا من الأسماء إلا فـي معروف عند الـمتـخاطبـين به، وقد عرفه الـمخِبر والـمخبرَ. فقد علـم بذلك أن معنى الكلام: أن آية ملكه أن يأتـيكم التابوت الذي قد عرفتـموه الذي كنتـم تستنصرون به، فـيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابـيت غير معلوم عندهم قدره ومبلغ نفعه قبل ذلك لقـيـل: إن آية ملكه أن يأتـيكم تابوت فـيه سكينة من ربكم. فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فـيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفـى خطؤه وذلك أنه لـم يبلغنا أن موسى لاقـى عدوا قط بـالتابوت، ولا فتاه يوشع، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قصّ اللّه من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الـجبـارينوأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه الـمقالة زعموا أن يوشع خـلفه فـي التـيه حتـى ردّ علـيهم حين ملك طالوت، فإن كان الأمر علـى ما وصفوه، فأيّ الأحوال للتابوت الـحال التـي عرفوه فـيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتـيكم التابوت الذي قد عرفتـموه، وعرفتـم أمره؟ ففـي فساد هذا القول بـالذي ذكرنا أبـين الدلالة علـى صحة القول الاَخر، إذ لا قول فـي ذلك لأهل التأويـل غيرهما. وكانت صفة التابوت فـيـما بلغنا كما: ٤٥٦٤ـ حدثنا مـحمد بن عسكر والـحسن بن يحيى، قالا: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا بكار بن عبد اللّه ، قال: سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى ما كان؟ قال: كان نـحوا من ثلاثة أذرع فـي ذراعين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فِـيهِ فـي التابوت سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ. واختلف أهل التأويـل فـي معنى السكينة، فقال بعضهم: هي ريح هفـافة لها وجه كوجه الإنسان. ذكر من قال ذلك: ٤٥٦٥ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا مـحمد بن جحادة، عن سلـمة بن كهيـل، عن أبـي وائل، عن علـيّ بن أبـي طالب، قال: السكينة: ريح هفـافة لها وجه كوجه الإنسان. ٤٥٦٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفـيان، عن سلـمة بن كهيـل، عن أبـي الأحوص، عن علـيّ، السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي ريح هفـافة. ٤٥٦٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن العوّام بن حوشب، عن سلـمة بن كهيـل، عن علـيّ بن أبـي طالب فـي قوله: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ قال: ريحٌ هفـافة لها صورة وقال يعقوب فـي حديثه: لها وجه، وقال ابن الـمثنى: كوجه الإنسان. ٤٥٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن سلـمة بن كهيـل، قال: قال علـي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفـافة. ٤٥٦٩ـ حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، قال: قال علـي: السكينة: ريح خجوج، ولها رأسان. ٤٥٧٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت خالد بن عُرعرة يحدّث عن علـيّ، نـحوه. ٤٥٧١ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، وحماد بن سلـمة، وأبو الأحوص، كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علـيّ، نـحوه. وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرّة وجناحان. ذكر من قال ذلك: ٤٥٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ قال: أقبلت السكينة... وجبريـل مع إبراهيـم من الشام قال ابن أبـي نـجيح: سمعت مـجاهدا يقول: السكينة لها رأس كرأس الهرّة وجناحان. ٤٥٧٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه. ٤٥٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: السكينة لها جناحان وذنب. ٤٥٧٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: لها جناحان وذنب مثل ذنب الهرّة. وقال آخرون: بل هي رأس هرّة ميتة. ذكر من قال ذلك: ٤٥٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه، عن بعض أهل العلـم من بنـي إسرائيـل، قال: السكينة رأس هرّة ميتة كانت إذا صرخت فـي التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بـالنصر وجاءهم الفتـح. وقال آخرون: إنـما هي طست من ذهب من الـجنة كان يغسل فـيه قلوب الأنبـياء. ذكر من قال ذلك: ٤٥٧٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا الـحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبـي مالك، عن ابن عبـاس : فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ قال: طست من ذهب من الـجنة، كان يغسل فـيه قلوب الأنبـياء. ٤٥٧٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ السكينة: طست من ذهب يغسل فـيها قلوب الأنبـياء، أعطاها اللّه موسى، وفـيها وضع الألواح وكانت الألواح فـيـما بلغنا من درّ وياقوت وزبرجد. وقال آخرون: السكينة: روح من اللّه يتكلـم. ذكر من قال ذلك: ٤٥٧٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا بكار بن عبد اللّه ، قال: سألنا وهب بن منبه، فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من اللّه يتكلـم إذا اختلفوا فـي شيء تكلـم، فأخبرهم ببـيان ما يريدون. ٤٥٨٠ـ حدثنا مـحمد بن عسكر، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا بكار بن عبد اللّه أنه سمع وهب بن منبه فذكر نـحوه. وقال آخرون: السكينة: ما يعرفون من الاَيات فـيسكنون إلـيه. ذكر من قال ذلك: ٤٥٨١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح عن قوله: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ... الآية قال: أما السكينة: فما تعرفون من الاَيات تسكنون إلـيها. وقال آخرون: السكينة: الرحمة. ذكر من قال ذلك: ٤٥٨٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ أي رحمة من ربكم. وقال آخرون: السكينة: هي الوقار. ذكر من قال ذلك: ٤٥٨٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: فِـيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ أي وقار. وأولـى هذه الأقوال بـالـحقّ فـي معنى السكينة، ما قاله عطاء بن أبـي ربـاح من الشيء تسكن إلـيه النفوس من الاَيات التـي تعرفونها. وذلك أن السكينة فـي كلام العرب الفعيـلة من قول القائل: سكن فلان إلـى كذا وكذا: إذا اطمأنّ إلـيه وهدأت عنده نفسه، فهو يسكن سكونا وسكينة، مثل قولك: عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيـمة، وقضى الـحاكم بـين القوم قضاء وقضية، ومنه قول الشاعر: للّه قَبْرٌ غالَهَا ماذَا يُجِذْنُ لَقَدْ أجَنّ سَكِينَةً ووَقَارَا وإذا كان معنى السكينة ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك علـى ما قاله علـيّ بن أبـي طالب علـى ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك علـى ما قاله مـجاهد علـى ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه، وما قاله السدي لأن كل ذلك آيات كافـيات تسكن إلـيهنّ النّفوس وتثلـج بهنّ الصدور. وإذا كان معنى السكينة ما وصفنا، فقد اتضح أن الآية التـي كانت فـي التابوت التـي كانت النفوس تسكن إلـيها لـمعرفتها بصحة أمرها إنـما هي مسماة بـالفعل، وهي غيره لدلالة الكلام علـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَبَقِـيّةٌالشيء البـاقـي من قول القائل: قد بقـي من هذا الأمر بقـية، وهي فعلـية منه، نظير السكينة من سكنوقوله: مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ يعنـي به: من تركة آل موسى، وآل هارون. واختلف أهل التأويـل فـي البقـية التـي كانت بقـيت من تركتهم، فقال بعضهم: كانت تلك البقـية عصا موسى، ورضاض الألواح. ذكر من قال ذلك: ٤٥٨٤ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: أحسبه عن ابن عبـاس أنه قال فـي هذه الآية: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: رضاض الألواح. ٤٥٨٥ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال داود: وأحسبه عن ابن عبـاس ، مثله. ٤٥٨٦ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو الولـيد، قال: حدثنا حماد، عن داود بن أبـي هند، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي هذه الآية: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: عصا موسى ورضاض الألواح. ٤٥٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: فكان فـي التابوت عصا موسى ورضاض الألواح، فـيـما ذكر لنا. ٤٥٨٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: البقـية: عصا موسى ورضاض الألواح. ٤٥٨٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ أما البقـية فإنها عصا موسى ورضاضة الألواح. ٤٥٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ عصا موسى، وأمور من التوراة. ٤٥٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقـفـي، عن خالد الـحذاء، عن عكرمة فـي هذه الآية: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: التوراة، ورضاض الألواح، والعصا. قال إسحاق: قال وكيع: ورضاضه: كِسَرُه. ٤٥٩٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن خالد، عن عكرمة فـي قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: رضاض الألواح. وقال آخرون: بل تلك البقـية: عصا موسى، وعصا هارون، وشيء من الألواح. ذكر من قال ذلك: ٤٥٩٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيـل، عن ابن أبـي خالد، عن أبـي صالـح: أنْ يَأتِـيَكُمُ التّابُوتُ فِـيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: كان فـيه عصا موسى، وعصا هارون، ولوحان من التوراة، والـمن. ٤٥٩٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبـي، عن عطية بن سعد فـي قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثـياب موسى، وثـياب هارون، ورضاض الألواح. وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان. ذكر من قال ذلك: ٤٥٩٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: سألت الثوري عن قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: منهم من يقول: البقـية: قـفـيز من منّ ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها. ذكر من قال ذلك: ٤٥٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا بكار بن عبد اللّه ، قال: قلنا لوهب بن منبه: ما كان فـيه؟ يعنـي فـي التابوت قال: كان فـيه عصا موسى والسكينة. وقال آخرون: بل كان ذلك رضاض الألواح وما تكسر منها. ذكر من قال ذلك: ٤٥٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس فـي قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ قال: كان موسى حين ألقـى الألواح تكسرت ورفع منها، فجعل البـاقـي فـي ذلك التابوت. ٤٥٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح عن قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ العلـم والتوراة. وقال آخرون: بل ذلك الـجهاد فـي سبـيـل اللّه . ذكر من قال ذلك: ٤٥٩٩ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد اللّه بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ يعنـي بـالبقـية: القتال فـي سبـيـل اللّه ، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبـيه صلى اللّه عليه وسلم لأمته: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا أن فـيه سكينة منه، وبقـية مـما تركه آل موسى وآل هارون. وجائز أن يكون تلك البقـية: العصا، وكسر الألواح والتوراة، أو بعضها والنعلـين، والثـياب، والـجهاد فـي سبـيـل اللّه وجائز أن يكون بعض ذلك. وذلك أمر لا يدرك علـمه من جهة الاستـخراج، ولا اللغة، ولا يدرك علـم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلـم، ولا خبر عند أهل الإسلام فـي ذلك للصفة التـي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فـيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فـيه ما قلنا من القول. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: تَـحْمِلُهُ الـمَلائِكَةُ. اختلف أهل التأويـل فـي صفة حمل الـملائكة ذلك التابوت، فقال بعضهم: معنى ذلك: تـحمله بـين السماء والأرض حتـى تضعه بـين أظهرهم. ذكر من قال ذلك: ٤٦٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : جاءت الـملائكة بـالتابوت تـحمله بـين السماء والأرض وهم ينظرون إلـيه، حتـى وضعته عند طالوت. ٤٦٠١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لـما قال لهم: يعنـي النبـيّ لبنـي إسرائيـل: واللّه يُؤْتِـي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ قالوا: فمن لنا بأن اللّه هو آتاه هذا، ما هو إلا لهواك فـيه؟ قال: إن كنتـم قد كذبتـمونـي واتهمتـمونـي فإنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيَكُمُ التّابُوتُ فِـيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ الآية قال: فنزلت الـملائكة بـالتابوت نهارا ينظرون إلـيه عيانا، حتـى وضعوه بـين أظهرهم، فأقرّوا غير راضين، وخرجوا ساخطين. وقرأ حتـى بلغ: واللّه مَع الصّابِرِينَ. ٤٦٠٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما قال لهم نبـيهم: إنّ اللّه اصْطَفـاهُ عَلَـيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فـي العِلْـمِ والـجِسْمِ قالوا: فإن كنت صادقا، فأتنا بآية أن هذا ملك قالَ إنّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِـيَكُمُ التّابُوتُ فِـيِه سَكِينَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَبَقِـيّةٌ مِـمّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هارُونَ تَـحْمِلُهِ الـمَلائِكَةُ وأصبح التابوت وما فـيه فـي دار طالوت، فآمنوا بنبوّة شمعون، وسلـموا ملك طالوت. ٤٦٠٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: تَـحْمِلُهُ الـمَلائِكَةُ قال: تـحمله حتـى تضعه فـي بـيت طالوت. وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الـملائكة الدوابّ التـي تـحمله. ذكر من قال ذلك: ٤٦٠٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن بعض أشياخه، قال: تـحمله الـملائكة علـى عجلة، علـى بقرة. ٤حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بـالبقرتـين اللتـين سارتا بـالتابوت أربعة من الـملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا حتـى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا. وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: حملت التابوت الـملائكة حتـى وضعته فـي دار طالوت بـين أظهر بنـي إسرائيـل وذلك أن اللّه تعالـى ذكره قال: تَـحْمِلُهُ الـمَلائِكَةُ ولـم يقل: تأتـي به الـملائكة وما جرّته البقر علـى عجل. وإن كانت الـملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته، لأن الـحمل الـمعروف هو مبـاشرة الـحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله علـى غيره وإن كان جائزا فـي اللغة أن يقال فـي حمله بـمعنى معونته الـحامل، أو بأن حمله كان عن سببه، فلـيس سبـيـله سبـيـل ما بـاشر حمله بنفسه فـي تعارف الناس إياه بـينهم وتوجيه تأويـل القرآن إلـى الأشهر من اللغات أولـى من توجيهه إلـى أن لا يكون الأشهر ما وجد إلـى ذلك سبـيـل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّ فـي ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إنْ كنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك أن نبـيه أشمويـل قال لبنـي إسرائيـل: إن فـي مـجيئكم التابوت فـيه سكينة من ربكم وبقـية مـما ترك آل موسى وآل هارون، حاملته الـملائكة، لاَيَةً لَكُمْ يعنـي لعلامة لكم ودلالة أيها الناس علـى صدقـي فـيـما أخبرتكم أن اللّه بعث لكم طالوت ملكا إن كنتـم قد كذبتـمونـي فـيـما أخبرتكم به من تـملـيك اللّه إياه علـيكم واتهمتـمونـي فـي خبري إياكم بذلك إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ يعنـي بذلك: إن كنتـم مصدقـيّ عند مـجيء الآية التـي سألتـمونـيها علـى صدقـي فـيـما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه. وإنـما قلنا ذلك معناه لأن القوم قد كانوا كفروا بـاللّه فـي تكذيبهم نبـيهم، وردّهم علـيه قوله: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا بقولهم: أنّى يَكُونُ لَهُ الـمُلْكُ عَلَـيْنا وَنـحْنُ أحَقّ بـالـمُلْكِ مِنْهُ وفـي مسألتهم إياه الآية علـى صدقه. فإن كان ذلك منهم كفرا، فغير جائز أن يقال لهم وهم كفـار لكم فـي مـجيء التابوت آية إن كنتـم من أهل الإيـمان بـاللّه ورسوله ولـيسوا من أهل الإيـمان بـاللّه ولا برسوله، ولكن الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية علـى صدق خبره إياهم لـيقرّوا بصدقه، فقال لهم فـي مـجيء التابوت علـى ما وصفه لهم آية لكم إن كنتـم عند مـجيئه كذلك مصدقـيّ بـما قلت لكم وأخبرتكم به. ٢٤٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّه مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ... } وفـي هذا الـخبر من اللّه تعالـى ذكره متروك قد استغنـي بدلالة ما ذكر علـيه عن ذكره. ومعنى الكلام: إن فـي ذلك لاَية لكم إن كنتـم مؤمنـين، فأتاهم التابوت فـيه سكينة من ربهم، وبقـية مـما ترك آل موسى وآل هارون تـحمله الـملائكة، فصدقوا عند ذلك نبـيهم، وأقروا بأن اللّه قد بعث طالوت ملكا علـيهم، وأذعنوا له بذلك. يدل علـى ذلك قوله: فَلَـمّا فَصلَ طالُوتُ بـالـجُنُودِ وما كان لـيفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسلـيـمهم الـملك له، لأنه لـم يكن مـمن يقدرون علـى إكراههم علـى ذلك فـيظنّ به أنه حملهم علـى ذلك كرها. وأما قوله: فَصَلَ فإنه يعنـي به شخص بـالـجند ورحل بهم. وأصل الفصل: القطع، يقال منه: فصل الرجل من موضع كذا وكذا، يعنـي به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلـى غيره، يفصل فصولاً وفصل العظم والقول من غيره فهو يفصله فصلاً: إذا قطعه فأبـانه وفصل الصبـيّ فصالاً: إذا قطعه عن اللبن وقول فصل: يقطع فـيفرق بـين الـحقّ والبـاطل لا يردّ. وقـيـل: إن طالوت فصل بـالـجنود يومئذ من بـيت الـمقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لـم يتـخـلف من بنـي إسرائيـل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبـير لهرمه، أو معذور لا طاقة له بـالنهوض معه. ذكر من قال ذلك: ٤٦٠٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه، قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولـم يتـخـلف عنه إلا كبـير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل فـي ضيعة لا بدّ له من تـخـلف فـيها. ٤٦٠٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما جاءهم التابوت آمنوا بنبوّة شمعون، وسلـموا ملك طالوت، فخرجوا معه، وهم ثمانون ألفـا. قال أبو جعفر: فلـما فصل بهم طالوت علـى ما وصفنا قال: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ يقول: إن اللّه مختبركم بنهر، لـيعلـم كيف طاعتكم له. وقد دللنا علـى أن معنى الابتلاء: الاختبـار فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. وبـما قلنا فـي ذلك كان قتادة يقول. ٤٦٠٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قول اللّه تعالـى: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ قال: إن اللّه يبتلـي خـلقه بـما يشاء لـيعلـم من يطيعه مـمن يعصيه. وقـيـل: إن طالوت قال: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ لأنهم شكوا إلـى طالوت قلة الـمياه بـينهم وبـين عدوّهم، وسألوه أن يدعو اللّه لهم أن يجري بـينهم وبـين عدوّهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ. ذكر من قال ذلك: ٤٦٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه، قال: لـما فصل طالوت بـالـجنود، قالوا: إن الـمياه لا تـحملنا، فـادع اللّه لنا يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ... الآية. والنهر الذي أخبرهم طالوت أن اللّه مبتلـيهم به قـيـل: هو نهر بـين الأردنّ وفلسطين. ذكر من قال ذلك: ٤٦٠٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ قال الربـيع: ذكر لنا واللّه أعلـم أنه نهر بـين الأردنّ وفلسطين. ٤حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ قال: ذكر لنا أنه نهر بـين الأردنّ وفلسطين. ٤٦١٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ قال: هو نهر بـين الأردنّ وفلسطين. ٤حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عبـاس : فَلَـمّا فَصَل طَالُوتَ بِـالـجُنُودِ غازيا إلـى جالوت، قال طالوت لبنـي إسرائيـل: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ قال: نهر بـين فلسطين والأردنّ، نهر عذب الـماء طيبه. وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ فـالنهر الذي ابتلـي به بنو إسرائيـل نهر فلسطين. ٤حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ هو نهر فلسطين. وأما قوله: فمَنْ شَربَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي وَمَنْ لَـمْ يَطْعَمْه فإنّهُ مِنّـي إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ فإنه خبر من اللّه تعالـى ذكره عن طالوت أنه قال لـجنوده إذ شكوا إلـيه العطش، فأخبر أن اللّه مبتلـيهم بنهر، ثم أعلـمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن اللّه به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فلـيس هو منه، يعنـي بذلك أنه لـيس من أهل ولايته وطاعته، ولا من الـمؤمنـين بـاللّه وبلقائه. ويدلّ علـى أن ذلك كذلك قول اللّه تعالـى ذكره: فَلَـمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فأخرج من لـم يجاوز النهر من الذين آمنوا. ثم أخـلص ذكر الـمؤمنـين بـاللّه ولقائه عند دنوّهم من جالوت وجنوده بقوله: قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه وأخبرهم أنه من لـم يطعمه، يعنـي من لـم يطعم الـماء من ذلك النهر والهاء فـي قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ وفـي قوله: وَمَنْ لَـمْ يَطْعَمْهُ عائدة علـى النهر، والـمعنى لـمائه. وإنـما ترك ذكر الـماء اكتفـاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك أن الـمراد به الـماء الذي فـيه ومعنى قوله: لَـمْ يَطْعَمْهُ لـم يذقه، يعنـي: ومن لـم يذق ماء ذلك النهر فهو منـي، يقول: هو من أهل ولايتـي وطاعتـي والـمؤمنـين بـاللّه وبلقائه. ثم استثنى من قوله: ومَنْ لَـمْ يَطْعَمْهُ الـمغترفـين بأيديهم غرفة، فقال: ومن لـم يطعم ماء ذلك النهر إلا غرفة يغترفها بـيده فإنه منـي. ثم اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ فقرأه عامة قراء أهل الـمدينة والبصرة: (غَرْفَةً) بنصب الغين من الغرفة، بـمعنى الغرفة الواحدة، من قولك: اغترفت غَرفة، والغَرْفَة هي الفعل بعينه من الاغتراف. وقرأه آخرون بـالضم، بـمعنى: الـماء الذي يصير فـي كفّ الـمغترف، فـالغُرْفة الاسم، والغَرْفة الـمصدر. وأعجب القراءتـين فـي ذلك إلـيّ ضمّ الغين فـي الغرفة بـمعنى: إلا من اغترف كفـا من ماء، لاختلاف غرفة إذا فتـحت غينها، وما هي له مصدر وذلك أن مصدر اغترف اغترافة، وإنـما غَرْفة مصدر غَرَفْت، فلـما كانت غَرفة مخالفة مصدر اغترف، كانت الغُرفة التـي بـمعنى الاسم علـى ما قد وصفنا أشبه منها بـالغَرفة التـي هي بـمعنى الفعل وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الـماء، فكان من شرب منه عطش، ومن اغترف غُرفة روي. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي ومَنْ لـمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّـي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ فشرب القوم علـى قدر يقـينهم. أما الكفـار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما الـمؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بـيده فتَـجزيه وتُرويه. ٤٦١١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي ومَنْ لـمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّـي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ قال: كان الكفـار يشربون فلا يروون، وكان الـمسلـمون يغترفون غُرفة، فـيجزيهم ذلك. ٤٦١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي ومَنْ لـمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّـي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ يعنـي الـمؤمنـين منهم، وكان القوم كثـيرا فشربوا منه إلا قلـيلاً منهم، يعنـي الـمؤمنـين منهم كان أحدهم يغترف الغرفة فـيجزيه ذلك ويرويه. ٤٦١٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما أصبح التابوت وما فـيه فـي دار طالوت، آمنوا بنبوّة شمعون، وسلـموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفـا. وكان جالوت من أعظم الناس، وأشدّهم بأسا، فخرج يسير بـين يدي الـجند، ولا تـجتـمع إلـيه أصحابه حتـى يهزم هو من لقـي. فلـما خرجوا قال لهم طالوت: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي ومَنْ لـمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّـي فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر منهم أربعة آلاف، ورجع ستة وسبعون ألفـا. فمن شرب منه عطش، ومن لـم يشرب منه إلا غُرفة روي. ٤٦١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ألقـى اللّه علـى لسان طالوت حين فصل بـالـجنود، فقال: لا يصحبنـي أحد إلا أحد له نـية فـي الـجهاد فلـم يتـخـلف عنه مؤمن، ولـم يتبعه منافق فلـما رأى قلتهم، قالوا: لن نـمسّ من هذا الـماء غرفة ولا غيرها وذلك أنه قال لهم: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بِنَهَرٍ... الآية. فقالوا: لن نـمسّ من هذا غرفة ولا غير غرفة قال: وأخذ البقـية الغرفة، فشربوا منها حتـى كفتهم، وفضل منهم قال: والذين لـم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها. ٤٦١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس فـي قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي ومَنْ لـمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّـي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ فشرب كل إنسان كقدر الذي فـي قلبه، فمن اغترف غرفة وأطاعه روي بطاعته، ومن شرب فأكثر عصى فلـم يَرْو لـمعصيته. ٤٦١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـي حديث ذكره، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه فـي قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَـيْسَ مِنّـي ومَنْ لـمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنّـي إلاّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِـيَدِهِ يقول اللّه تعالـى ذكره: فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ. وكان فـيـما يزعمون من تتابع منهم فـي الشرب الذي نهي عنه لـم يروه، ومن لـم يطعمه إلا كما أمر غرفة بـيده أجزأه وكفـاه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَلَـمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، قالُوا لا طاقَةَ لَنا الـيَوْم بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فَلَـمّا جاوَزَهُ هُوَ فلـما جاوز النهر طالوت. والهاء فـي (جاوزه) عائدة علـى النهر، وهو كناية اسم طالوتوقوله: وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعنـي: وجاوز النهر معه الذين آمنوا. قالُوا لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ. ثم اختلف فـي عدّة من جاوز النهر معه يومئذ ومن قال منهم لا طاقة لنا الـيوم بجالوت وجنوده، فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً. ذكر من قال ذلك: ٤٦١٧ـ حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانـي، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قالا جميعا: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كنا نتـحدّث أن عدة أصحاب بدر علـى عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه، ولـم يجز معه إلا مؤمن، ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً. ٤٦١٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتـحدّث أن أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت ثلثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً الذين جاوزوا النهر. ٤٦١٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتـحدث أن أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً علـى عدة أصحاب طالوت من جاز معه، وما جاز معه إلا مؤمن. ٤٦٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن البراء بنـحوه. ٤٦٢١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن البراء، قال: كنا نتـحدّث أن أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كانوا يوم بدر علـى عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر، وما جاوز معه إلا مسلـم. ٤٦٢٢ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبـي إسحاق، عن البراء مثله. ٤حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: (أنْتُـمْ بِعَدّةِ أصَحابِ طالُوتَ يَوْم لَقـي)، وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً. ٤حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: مـحّص اللّه الذين آمنوا عند النهر وكانوا ثلثمائة، وفوق العشرة، ودون العشرين، فجاء داود صلى اللّه عليه وسلم فأكمل به العدّة. وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنـما خـلص أهل الإيـمان منهم من أهل الكفر والنفـاق حين لقوا جالوت. ذكر من قال ذلك: ٤حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: عبر مع طالوت النهر من بنـي إسرائيـل أربعة آلاف، فلـما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلـى جالوت رجعوا أيضا و قالوا: لا طاقة لنا الـيوم بجالوت وجنوده فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستـمائة وبضعة وثمانون، وخـلص فـي ثلثمائة وبضعة عشر عدّة أهل بدر. ٤حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : لـما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شربوا: لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ. وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، ما روي عن ابن عبـاس وقاله السدي وهو أنه جاوز النهر مع طالوت الـمؤمن الذي لـم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثـير. ثم وقع التـميـيز بـينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه، وانـخزل عنه أهل الشرك والنفـاق، وهم الذين قالوا: لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ومضى أهل البصيرة بأمر اللّه علـى بصائرهم، وهم أهل الثبـات علـى الإيـمان، فقالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه واللّه مَعَ الصّابِرِينَ. فإن ظنّ ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيـمان الذين ثبتوا معه علـى إيـمانهم، ومن لـم يشرب من النهر إلا الغرفة، لأن اللّه تعالـى ذكره قال: فَلَـمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فكان معلوما أنه لـم يجاوز معه إلا أهل الإيـمان، علـى ما رُوي به الـخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيـمان لـما خصّ اللّه بـالذكر فـي ذلك أهل الإيـمان فإن الأمر فـي ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان، أعنى فريق الإيـمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، عن الـمؤمنـين بـالـمـجاوزة، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع الـمؤمنـين. والذي يدلّ علـى صحة ما قلنا فـي ذلك قول اللّه تعالـى ذكره: فَلَـمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنا الـيَوْم بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الّذِين يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه فأوجب اللّه تعالـى ذكره أن الذين يظنون أنهم ملاقو اللّه هم الذين قالوا عند مـجاوزة النهر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو اللّه ، وأن الذين لا يظنون أنهم ملاقو اللّه هم الذين قالوا: لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وغير جائز أن يضاف الإيـمان إلـى من جحد أنه ملاقـي اللّه أو شكّ فـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: قالُوا لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ .... اختلف أهل التأويـل فـي أمر هذين الفريقـين، أعنـي القائلـين: لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ والقائلـين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه من هما. فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا: لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ هم أهل كفر بـاللّه ونفـاق، ولـيسوا مـمن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت، ومن ثبت معه لقتال عدوّ اللّه جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر اللّه لشربهم من النهر. ذكر من قال ذلك: ٤٦٢٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي بذلك وهو قول ابن عبـاس . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفـا. ٤٦٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه الذين اغترفوا وأطاعوا الذين مضوا مع طالوت الـمؤمنون، وجلس الذين شكوا. وقال آخرون: كلا الفريقـين كان أهل إيـمان، ولـم يكن منهم أحد شرب من الـمَاء إلا غُرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان أصحّ يقـينا من بعض، وهم الذين أخبر اللّه عنهم أنهم قالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه والاَخرون كانوا أضعف يقـينا، وهم الذين قالُوا: لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ. ذكر من قال ذلك: ٤٦٢٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَلَـمّا جاوَزَهُ هُوَ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنا الـيَوْمَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةِ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه وَاللّه مَعَ الصّابِرِينَ ويكون الـمؤمنون بعضهم أفضل جدّا وعزما من بعض، وهم مؤمنون كلهم. ٤٦٢٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه أن النبـيّ قال لأصحابه يوم بدر: (أنتـم بعدّة أصحاب طالوت ثلثمائة) قال قتادة: وكان مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر ثلثمائة وبضعة عشر. ٤٦٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الذين لـم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِـيـلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بإذْنِ اللّه واللّه مَعَ الصّابِرِينَ. ويجب علـى القول الذي روي عن البراء بن عازب أنه لـم يجاوز النهر مع طالوت إلا عدة أصحاب بدر أن يكون كلا الفريقـين اللذين وصفهما اللّه بـما وصفهما به أمرهما علـى نـحو ما قال فـيهما قتادة وابن زيد. وأولـى القولـين فـي تأويـل الآية ما قاله ابن عبـاس والسدي وابن جريج. وقد ذكرنا الـحجة فـي ذلك فـيـما مضى قبل آنفـا. وأما تأويـل قوله: قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه فإنه يعنـي: قال الذين يعلـمون ويستـيقنون أنهم ملاقوا اللّه . ٤٦٢٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: قالَ الّذِينَ يَظُنّونَ أنّهُمْ مُلاقُوا اللّه الذين يستـيقنون. فتأويـل الكلام: قال الذين يوقنون بـالـمعاد ويصدّقون بـالـمرجع إلـى اللّه للذين قالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الـيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ كَمْ مِنْ فِئَةِ قَلِـيـلَةٍ يعنـي بكَمْ كثـيرا غلبت فئة قلـيـلة فئة كثـيرة بإذن اللّه ، يعنـي: بقضاء اللّه وقدره. وَاللّه مَعَ الصّابِرِين يقول: مع الـحابسين أنفسهم علـى رضاه وطاعته. وقد أتـينا علـى البـيان عن وجوه الظنّ وأن أحد معانـيه العلـم الـيقـين بـما يدلّ علـى صحة ذلك فـيـما مضى، فكرهنا إعادته. وأما الفئة فإنهم الـجماعة من الناس لا واحد له من لفظه، وهو مثل الرهط والنفر جمعه فئات وفئون فـي الرفع، وفئين فـي النصب والـخفض بفتـح نونها فـي كل حال، وفئينٌ بـالرفع بإعراب نونها بـالرفع، وترك الـياء فـيها، وفـي النصب فئينا، وفـي الـخفض فئينٍ، فـيكون الإعراب فـي الـخفض والنصب فـي نونها، وفـي كل ذلك مقرّة فـيها الـياء علـى حالها، فإن أضيفت، قـيـل: هؤلاء فَئِينُكَ بإقرار النون وحذف التنوين، كما قال الذين لغتهم هذه سنـينٌ فـي جمع السنة هذه سنـينك بإثبـات النون وإعرابها، وحذف التنوين منها للإضافة، وكذلك العمل فـي كل منقوص، مثل مائة وثبة وقلة وعزة، فأما ما كان نقصه من أوله فإن جمعه بـالتاء مثل عدة وعدات وصلة وصلات. وأما قوله: وَاللّه مَعَ الصّابِرِينَ فإنه يعنـي: واللّه معين الصابرين علـى الـجهاد فـي سبـيـله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم علـى أعدائه الصادّين عن سبـيـله، الـمخالفـين منهاج دينه. وكذلك يقال لكل معين رجلاً علـى غيره هو معه بـمعنى هو معه بـالعون له والنصرة. ٢٥٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَمّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ ... } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَلـمّا بَرَزُوا لـجالُوتَ وجُنُودِهِ ولـما برز طالوت وجنوده لـجالوت وجنوده. ومعنى قوله: بَرَزُوا صاروا بـالبراز من الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى، ولذلك قـيـل للرجل القاضي حاجته: تبْرز لأن الناس قديـما فـي الـجاهلـية إنـما كانوا يقضون حاجتهم فـي البراز من الأرض، فقـيـل: قد تبرز فلان: إذا خرج إلـى البراز من الأرض لذلك، كما قـيـل تغوّط لأنهم كانوا يقضون حاجتهم فـي الغائط من الأرض وهو الـمطمئنّ منها، فقـيـل للرجال: تغوّط، أي صار إلـى الغائط من الأرضوأما قوله: رَبّنا أفْرِغْ عَلَـيْنا صَبْرا فإنه يعنـي أن طالوت وأصحابه قالوا: رَبّنا أفْرغْ عَلَـيْنا صَبْرا يعنـي أنزل علـينا صبراوقوله: وَثَبّتْ أقْدَامَنا يعنـي: وقوّ قلوبنا علـى جهادهم لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم، وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ: الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك واتـخذوا الأوثان أربـابـا. الآيات ٢٥١ – نهاية السورة ٢٥١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّه وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت. وفـي هذا الكلام متروك ترك ذكره اكتفـاء بدلالة ما ظهر منه علـيه. وذلك أن معنى الكلام: ولـما برزوا لـجالوت وجنوده، قالوا: ربنا أفرغ علـينا صبرا، وثبت أقدامنا وانصرنا علـى القوم الكافرين فـاستـجاب لهم ربهم، فأفرغ علـيهم صبره، وثبت أقدامهم ونصرهم علـى القوم الكافرين، فهزموهم بإذن اللّه . ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفـاء بدلالة قوله: فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّه علـى أن اللّه قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به. ومعنى قوله: فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّه قتلوهم بقضاء اللّه وقدره، يقال منه: هزم القوم الـجيش هزيـمة وهِزّيـمَى. وَقَتَل دَاوُدُ جالُوتَ وداود هذا هو داود بن إيشَا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه كما: ٤٦٢٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا بكار بن عبد اللّه ، قال: سمعت وهب بن منبه يحدّث، قال: لـما خرج، أو قال: لـما برز طالوت لـجالوت، قال جالوت: أبرزوا لـي من يقاتلنـي، فإن قتلنـي، فلكم ملكي، وإن قتلته فلـي ملككم فأتـي بداود إلـى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكّمه فـي ماله. فألبسه طالوت سلاحا، فكره داود أن يقاتله، وقال: إن اللّه لـم ينصرنـي علـيه لـم يغن السلاح. فخرج إلـيه بـالـمقلاع وبـمخلاة فـيها أحجار، ثم برز له، قال له جالوت: أنت تقاتلنـي؟ قال داود: نعم قال: ويـلك أما تـخرج إلـيّ إلا كما يخرج إلـى الكلب بـالـمقلاع والـحجارة؟ لأبددنّ لـحمك، ولأطعمنه الـيوم الطير والسبـاع فقال له داود: بل أنت عدوّ اللّه شرّ من الكلب. فأخذ داود حجرا ورماه بـالـمقلاع، فأصابت بـين عينـيه حتـى نفذت فـي دماغه، فصرع جالوت، وانهزم من معه، واحتزّ داود رأسه. فلـما رجعوا إلـى طالوت ادّعى الناس قتل جالوت، فمنهم من يأتـي بـالسيف وبـالشيء من سلاحه أو جسده، وخبأ داود رأسه، فقال طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله. فجاء به داود. ثم قال لطالوت: أعطنـي ما وعدتنـي فندم طالوت علـى ما كان شرط له، وقال: إن بنات الـملوك لا بد لهنّ من صداق، وأنت رجل جريء شجاع، فـاحتـمل صداقها ثلثمائة غلْفة من أعدائنا وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمائة، وقطع غُلَفهم وجاء بها، فلـم يجد طالوت بدّا من أن يزوّجه. ثم أدركته الندامة، فأراد قتل داود حتـى هرب منه إلـى الـجبل، فنهض إلـيه طالوت فحاصره. فلـما كان ذات لـيـلة سلط النوم علـى طالوت وحرسه، فهبط إلـيهم داود، فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ، وقطع شعرات من لـحيته وشيئا من هُدْب ثـيابه، ثم رجع داود إلـى مكانه، فناده أن... حرسك، فإنـي لو شئت أقتلك البـارحة فعلت، فإنه هذا إبريقك وشيء من شعر لـحيتك وهدب ثـيابك، وبعث إلـيه. فعلـم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك علـيه فأمنه، وعاهده بـاللّه لا ير ى منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان فـي آخر أمر طالوت أنه كان يدسّ لقتله، وكان طالوت لا يقاتل عدوّا إلا هزم، حتـى مات. قال بكار: وسئل وهب وأنا أسمع: أنبـيا كان طالوت يُوحَى إلـيه؟ فقال: لـم يأته وحي، ولكن كان معه نبـيّ يقال له أشمويـل، يُوحَى إلـيه، وهو الذي مَلّك طالوت. ٤حدثنا ابن حميد، قل: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: كان داود النبـيّ وإخوة له أربعة، معهم أبوهم شيخ كبـير، فتـخـلف أبوهم وتـخـلف معه داود من بـين إخوته فـي غنـم أبـيه يرعاها له، وكان من أصغرهم وخرج إخوته الأربعة مع طالوت، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بضع. قال ابن إسحاق: وكان داود فـيـما ذكر لـي بعض أهل العلـم عن وهب بن منبه رجلاً قصيرا أزرق قلـيـل شعر الرأس، وكان طاهر القلب نقـيه، فقال له أبوه: يا بنـيّ إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوّون به علـى عدوّهم، فـاخرج به إلـيهم، فإذا دفعته إلـيهم فأقبل إلـيّ سريعا فقال: أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته، ومعه مخلاته التـي يحمل فـيها الـحجارة ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنـمه. حتـى إذا فصل من عند أبـيه، فمرّ بحجر، فقال: يا داود خذنـي فـاجعلنـي فـي مخلاتك تقتل بـي جالوت، فإنـي حجر يعقوب فأخذه فجعله فـي مخلاته، ومشى. فبـينا هو يـمشي إذ مرّ بحجر آخر، فقال: يا داود خذنـي فـاجعلنـي فـي مخلاتك تقتل بـي جالوت، فإنـي حجر إسحاق فأخذه فجعله فـي مخلاته، ثم مضى. فبـينا هو يـمشي إذ مرّ بحجر، فقال: يا داود خذنـي فـاجعلنـي فـي مخلاتك تقتل بـي جالوت، فإنـي حجر إبراهيـم فأخذه فجعله فـي مخلاته. ثم مضى بـما معه حتـى انتهى إلـى القوم، فأعطى إخوته ما بعث إلـيهم معه. وسمع فـي العسكر خوض الناس بذكر جالوت، وعظم شأنه فـيهم، وبهيبة الناس إياه، ومـما يعظمون من أمره، فقال لهم: واللّه إنكم لتعظمون من أمر هذا العدوّ شيئا ما أدري ما هو، واللّه إنـي لو أراه لقتله، فأدخـلونـي علـى الـملك فأدخـل علـى الـملك طالوت، فقال: أيها الـملك إنى أراكم تعظمون شأن هذا العدوّ، واللّه إنى لو أراه لقتله فقال: يا بنـيّ ما عندك من القوّة علـى ذلك؟ وما جرّبت من نفسك؟ قال: قد كان الأسد يعدو علـى الشاة من غنـمي، فأدركه فآخذ برأسه، فأُفكّ لـحيـيه عنها، فآخذها من فـيه، فـادع لـي بدرع حتـى ألقـيها علـيّ فأتـي بدرع، فقذفها فـي عنقه ومثل فـيها فملأ عين طالوت ونفسه ومن حضر من بنـي إسرائيـل، فقال طالوت: واللّه لعسى اللّه أن يهلكه به فلـما أصبحوا رجعوا إلـى جالوت، فلـما التقـى الناس قال داود: أرونـي جالوت فأروه إياه علـى فرس علـيه لأمته فلـما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته، فـيقول هذا: خذنـي ويقول هذا: خذنـي ويقول هذا: خذنـي فأخذ أحدها فجعله فـي مقذافه، ثم قتله به، ثم أرسله فصَكّ بـين عينـي جالوت فدمغه، وتنكس عن دابته فقتله. ثم انهزم جنده، وقال الناس: قتل داود جالوت، وخـلع طالوت. وأقبل الناس علـى داود مكانه، حتـى لـم يسمع لطالوت بذكر إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لـما رأى انصراف بنـي إسرائيـل عنه إلـى داود، همّ بأن يغتال داود وأراد قتله فصرف اللّه ذلك عنه وعن داود وعرف خطيئته، والتـمس التوبة منها إلـى اللّه . وقد روى عن وهب بن منبه فـي أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتـين اللتـين ذكرنا قبل، وهو ما: ٤حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: لـما سلـمت بنو إسرائيـل الـملك لطالوت أوحى إلـى نبـيّ بنـي إسرائيـل أن قل لطالوت: فلـيغز أهل مدين، فلا يترك فـيها حيا إلا قتله، فإنـي سأظهره علـيهم فخرج بـالناس حتـى أتـى مدين، فقتل من كان فـيها إلا ملكهم، فإنه أسره، وساق مواشيهم. فأوحى اللّه إلـى أشمويـل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته فـاختان فـيه، فجاء بـملكهم أسيرا، وساق مواشيهم، فـالقه فقل له: لأنزعنّ الـملك من بـيته، ثم لا يعود فـيه إلـى يوم القـيامة، فإنى إنـما أكرم من أطاعنـي، وأهين من هان علـيه أمري فلقـيه، فقال ما صنعت؟ لـم جئت بـملكهم أسيرا، ولـم سقت مواشيهم؟ قال: إنـما سقت الـمواشي لأقرّبها. قال له أشمويـل: إن اللّه قد نزع من بـيتك الـملك، ثم لا يعود فـيه إلـى يوم القـيامة. فأوحى اللّه إلـى أشمويـل أن انطلق إلـى إيشا، فـيعرض علـيك بنـيه، فـادهن الذي آمرك بدهن القدس يكن ملكا علـى بنـي إسرائيـل فـانطلق حتـى أتـى إيشا، فقال: اعرض علـيّ بنـيك فدعا إيشا أكبر ولده، فأقبل رجل جسيـم حسن الـمنظر، فلـما نظر إلـيه أشمويـل أعجبه، فقال: الـحمد للّه إن اللّه لبصير بـالعبـاد فأوحى اللّه إلـيه: إن عينـيك تبصران ما ظهر، وإنـي أطلع علـى ما فـي القلوب لـيس بهذا، اعرض علـيّ غيره، فعرض علـيه ستة فـي كل ذلك يقول: لـيس بهذا، فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بنـيّ لـي غلام وهو راع فـي الغنـم. فقال: أرسل إلـيه فلـما أن جاء داود جاء غلام أمعر، فدهنه بدهن القدس، وقال لأبـيه: اكتـم هذا، فإن طالوت لو يطلع علـيه قتله فسار جالوت فـي قومه إلـى بنـي إسرائيـل، فعسكر وسار طالوت ببنـي إسرائيـل وعسكر، وتهيئوا للقتال، فأرسل جالوت إلـى طالوت: لـم تقتل قومي وأقتل قومك؟ ابرز لـي أو أبرز لـي من شئت، فإن قتلتك كان الـملك لـي، وإن قتلتنـي كان الـملك لك فأرسل طالوت فـي عسكر صائحا من يبرز لـجالوت، فإن قتله، فإن الـملك ينكحه ابنته، ويشركه فـي ملكه. فأرسل إيشا داود إلـى إخوته وكانوا فـي العسكر، فقال: اذهب فردّ إخوتك، وأخبرنـي خبر الناس ماذا صنعوا. فجاء إلـى إخوته، وسمع صوتا: إن الـملك يقول: من يبرز لـجالوت فإن قتله أنكحه الـملك ابنته. فقال داود لإخوته: ما منكم رجل يبرز لـجالوت فـيقتله، وينكح ابنة الـملك؟ فقالوا: إنك غلام أحمق، ومن يطيق جالوت وهو من بقـية الـجبـارين؟ فلـما لـم يرهم رغبوا فـي ذلك، قال: فأنا أذهب فأقتله فـانتهروه وغضبوا علـيه. فلـما غفلوا عنه، ذهب حتـى جاء الصائح، فقال: أنا أبرز لـجالوت. فذهب به إلـى الـملك، فقال له: لـم يجبنـي أحد إلا غلام من بنـي إسرائيـل هو هذا؟ قال: يا بنـيّ أنت تبرز لـجالوت فتقاتله؟ قال: نعم قال: وهل آنست من نفسك شيئا؟ قال: نعم، كنت راعيا فـي الغنـم، فأغار علـيّ الأسد، فأخذت بلَـحيـيه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة، فلبسها وركب الفرس، ثم سار منهم قريبـا. ثم صرف فرسه، فرجع إلـى الـملك، فقال الـملك ومن حوله: جبن الغلام فجاء فوقـف علـى الـملك، فقال: ما شأنك؟ قال داود: إن لـم يقتله اللّه لـي لـم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح، فدعنـي فأقاتل كما أريد. فقال: نعم يا بنـيّ. فأخذ داود مخلاته، فتقلدها وألقـى فـيها أحجارا، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به. ثم مضى نـحو جالوت فلـما دنا من عسكره، قال: أين جالوت يبرز لـي؟ فبرز له علـى فرس علـيه السلاح كله، فلـما رآه جالوت قال: إلـيك أبرز؟ قال نعم قال: فأتـيتنـي بـالـمقلاع والـحجر كما يؤتـى إلـى الكلب؟ قال: هو ذاك قال: لا جرم أنـي سوف أقسم لـحمك بـين طير السماء وسبـاع الأرض. قال داود: أو يقسم اللّه لـحمك. فوضع داود حجرا فـي مقلاعه، ثم دوّره فأرسله نـحو جالوت، فأصاب أنف البـيضة التـي علـى جالوت حتـى خالط دماغه، فوقع من فرسه، فمضى داود إلـيه، فقطع رأسه بسيفه، فأقبل به فـي مخلاته، وبسلبه يجرّه، حتـى ألقاه بـين يدي طالوت، ففرحوا فرحا شديدا، وانصرف طالوت. فلـما كان داخـل الـمدينة، سمع الناس يذكرون داود، فوجد فـي نفسه، فجاءه داود، فقال: أعطنـي امرأتـي فقال: أتريد ابنة الـملك بغير صداق؟ فقال داود: ما اشترطت علـيّ صداقا، ومالـي من شيء قال: لا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل جريء، وفـي جبـالنا هذه جراجمة يحتربون الناس وهم غلف، فإذا قتلت منهم مائتـي رجل، فأتنـي بغُلَفهم. فجعل كلـما قتل منهم رجلاً نظم غلفته فـي خيط، حتـى نظم مائتـي غلفة، ثم جاء بهم إلـى طالوت، فألقـى إلـيه، فقال: ادفع لـي امرأتـي قد جئت بـما اشترطت فزوّجه ابنته. وأكثر الناس ذكر داود، وزاده عند الناس عجبـا، فقال طالوت لابنه: لتقتلنّ داود قال: سبحان اللّه لـيس بأهل ذلك منك قال: إنك غلام أحمق، ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بـيتك من الـملك. فلـما سمع ذلك من أبـيه، انطلق إلـى أخته، فقال لها: إنـي قد خفت أبـاك أن يقتل زوجك داود، فمريه أن يأخذ حذره، ويتغيب منه. فقالت له امرأته ذلك فتغيب. فلـما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود، وقد صنعت امرأته علـى فراشه كهيئة النائم ولـحفته. فلـما جاء رسول طالوت قال: أين داود؟ لـيجب الـملك فقالت له: بـات شاكيا ونام الاَن ترونه علـى الفراش. فرجعوا إلـى طالوت فأخبروه ذلك، فمكث ساعة ثم أرسل إلـيه، فقالت: هو نائم لـم يستـيقظ بعد. فرجعوا إلـى الـملك فقال: ائتونـي به وإن كان نائما فجاءوا إلـى الفراش، فلـم يجدوا علـيه أحدا. فجاءوا الـملك فأخبروه، فأرسل إلـى ابنته فقال: ما حملك علـى أن تكذبـينـي؟ قالت: هو أمرنـي بذلك، وخفت إن لـم أفعل أمره أن يقتلنـي. وكان داود فـارّا فـي الـجبل حتـى قتل طالوت، وملك داود بعده. ٤حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان طالوت أميرا علـى الـجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلـى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لـي فأقتل جالوت؟ قال: لك ثلث مالـي، وأنكحك ابنتـي. فأخذ مخلاته، فجعل فـيها ثلاث مروات، ثم سمى حجارته تلك إبراهيـم وإسحاق ويعقوب، ثم أدخـل يده فقال: بـاسم إلهي وإله آبـائي إبراهيـم وإسحاق ويعقوب فخرج علـى إبراهيـم، فجعله فـي مرجمته، فخرقت ثلاثا وثلاثـين بـيضة عن رأسه، وقتلت ثلاثـين ألفـا من ورائه. ٤٦٣٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: عبر يومئذٍ النهر مع طالوت أبو داود فـيـمن عبر مع ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنـيه. فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه ما أرمي بقذافتـي شيئا إلا صرعته. فقال: أبشر يا بنـيّ، فإن اللّه قد جعل رزقك فـي قذافتك ثم أتاه مرة أخرى قال: يا أبتاه لقد دخـلت بـين الـجبـال، فوجدت أسدا رابضا، فركبت علـيه، فأخذت بأذنـيه، فلـم يَهِجْنِـي قال: أبشر يا بنـيّ، فإن هذا خير يعطيكه اللّه ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إنـي لأمشي بـين الـجبـال، فأسبح، فما يبقـى جبل إلا سبح معي. فقال: أبشر يا بنـيّ، فإن هذا خير أعطاكه اللّه . وكان داود راعيا، وكان أبوه خـلفه يأتـي إلـيه وإلـى إخوته بـالطعام. فأتـى النبـيّ بقرن فـيه دهن وبثوب من حديد، فبعث به إلـى طالوت، فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن علـى رأسه فـيغلـي حتـى يدهن منه ولا يسيـل علـى وجهه، يكون علـى رأسه كهيئة الإكلـيـل، ويدخـل فـي هذا الثوب فـيـملؤه. فدعا طالوت بنـي إسرائيـل فجرّبهم، فلـم يوافقه منهم أحد. فلـما فرغوا، قال طالوت لأبـي داود: هل بقـي لك من ولد لـم يشهدنا؟ قال: نعم، بقـي ابنـي داود، وهو يأتـينا بطعامنا. فلـما أتاه داود مرّ فـي الطريق بثلاثة أحجار، فكلـمنه، وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت قال: فأخذهن فجعلهن فـي مخلاته. وكان طالوت قال: من قتل جالوت زوّجته ابنتـي، وأجريت خاتـمه فـي ملكي. فلـما جاء داود وضعوا القَرْن علـى رأسه، فغلـى حتـى ادهن منه، ولبس الثوب فملأه، وكان رجلاً مِسقاما مصفـارّا، ولـم يـلبسه أحد إلا تقلقل فـيه. فلـما لبسه داود تضايق الثوب علـيه حتـى تَنَقضّ. ثم مشى إلـى جالوت، وكان جالوت من أجسم الناس وأشدّهم فلـما نظر إلـى داود قُذِف فـي قلبه الرعبُ منه، فقال له: يا فتـى ارجع فإنـي أرحمك أن أقتلك قال داود: لا، بل أنا أقتلك. فأخرج الـحجارة فجعلها فـي القذافة، كلـما رفع حجرا سماه، فقال: هذا بـاسم أبـي إبراهيـم، والثانـي بـاسم أبـي إسحاق، والثالث بـاسم أبـي إسرائيـل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصكّ به بـين عينـي جالوت، فنقب رأسه فقتله. ثم لـم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ منه، حتـى لـم يكن بحيالها أحد. فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت. ورجع طالوت، فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتـمه فـي ملكه فمال الناس إلـى داود فأحبوه. فلـما رأى ذلك طالوت وجد فـي نفسه وحسده، فأراد قتله. فعلـم به داود أنه يريد به ذلك، فسَجّى له زقّ خمر فـي مضجعه، فدخـل طالوت إلـى منام داود، وقد هرب داود فضرب الزقّ ضربة فخرقه، فسالت الـخمر منه، فوقعت قطرة من خمر فـي فـيه، فقال: يرحم اللّه داود ما كان أكثر شربه للـخمر ثم إن داود أتاه من القابلة فـي بـيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه وعند رجلـيه وعن يـمينه وعن شماله سهمين فلـما استـيقظ طالوت بصر بـالسهام فعرفها، فقال: يرحم اللّه داود هو خير منـي، ظفرت به فقتلته، وظفر بـي فكفّ عنـي. ثم إنه ركب يوما فوجده يـمشي فـي البرية وطالوت علـى فرس، فقال طالوت: الـيوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك، فركض علـى أثره طالوت، ففزع داود، فـاشتدّ فدخـل غارا، وأوحى اللّه إلـى العنكبوت فضربت علـيه بـيتا فلـما انتهى طالوت إلـى الغار نظر إلـى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخـل ها هنا لـخرق بـيت العنبكوت، فُخيّـل إلـيه فتركه. ٤٦٣١ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فـيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم، فنادي: ألا رجل لرجل فقال طالوت: من يبرز له، وإلا برزت له. فقام داود فقال: أنا. فقام له طالوت فشدّ علـيه درعه، فجعل يراه يشخص فـيها ويرتفع. فعجب من ذلك طالوت، فشدّ علـيه أداته كلها. وإن داود رماهم بحجر من تلك الـحجارة فأصاب فـي القوم، ثم رمى الثانـية بحجر فأصاب فـيهم، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه اللّه الـملك والـحكمة، وعلـمه مـما يشاء، وصار هو الرئيس علـيهم، وأعطوه الطاعة. ٤٦٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي ابن زيد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: ألَـمْ تَرَ إلـى الـمَلإِ مِنْ بَنـي إسْرَائِيـلَ فقرأ حتـى بلغ: فَلَـمّا كُتِبَ عَلَـيْهِمْ القِتالُ تَوَلّوْا إلاّ قَلِـيلاً مِنْهُمْ وَاللّه عَلِـيـمٌ بـالظّالِـمِينَ قال: أوحى اللّه إلـى نبـيهم إن فـي ولد فلان رجلاً يقتل اللّه به جالوت، ومن علامته هذا القرن تضعه علـى رأسه، فـيفـيض ماء. فأتاه فقال: إن اللّه أوحى إلـيّ أن فـي ولد فلان رجلاً يقتل اللّه به جالوت، فقال: نعم يا نبـيّ اللّه ، قال: فأخرج له اثنـي عشر رجلاً أمثال السواري، وفـيهم رجل بـارع علـيهم، فجعل يعرضهم علـى القرن فلا يرى شيئا، فـيقول لذلك الـجسيـم: ارجع فـيرده علـيه، فأوحى اللّه إلـيه: إنا لا نأخذ الرجال علـى صورهم، ولكن نأخذهم علـى صلاح قلوبهم، قال: يا ربّ قد زعم أنه لـيس له ولد غيره، فقال: كذب، فقال: إن ربـي قد كذبك، وقال: إن لك ولدا غيرهم، فقال: صدق يا نبـيّ اللّه ، لـي ولد قصير استـحيـيت أن يراه الناس، فجعلته فـي الغنـم، قال: فإين هو؟ قال فـي شعب كذا وكذا من جبل كذا وكذا، فخرج إلـيه، فوجد الوادي قد سال بـينه وبـين التـي كان يريح إلـيها قال: ووجده يحمل شاتـين يجيز بهما، ولا يخوض بهما السيـل، فلـما رآه قال: هذا هو لا شك فـيه، هذا يرحم البهائم فهو بـالناس أرحم، قال: فوضع القرن علـى رأسه ففـاض، فقال له: ابن أخي هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك؟ قال: نعم إذا سبحت، سبحت معي الـجبـال، وإذا أتـى النـمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة قمت إلـيه، فأفتـح لَـحيـيه عنها فلا يهيجنـي، وألفـى معه صُفْنَه، قال: فمرّ بثلاثة أحجار يأثر بعضها علـى بعض: كل واحد منها يقول: أنا الذي يأخذ، ويقول هذا: لا بل إياي يأخذ، ويقول الاَخر مثل ذلك، قال: فأخذهنّ جميعا، فطرحهنْ فـي صفنه فلـما جاء مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وخرجوا قال لهم نبـيهم: إنّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا فكان من قصة نبـيهم وقصتهم ما ذكر اللّه فـي كتابه، وقرأ حتـى بلغ: وَاللّه مَعَ الصّابِرِينَ قال: واجتـمع أمرهم وكانوا جميعا، وقرأ: وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرينَ وبرز جالوت علـى برذون له أبلق، فـي يده قوس ونشاب، فقال: من يبرز؟ أبرزوا إلـيّ رأسكم، قال: ففظع به طالوت، قال: فـالتفت إلـى أصحابه فقال: من رجل يكفـينـي الـيوم جالوت، فقال داود أنا، فقال تعال، قال: فنزع درعا له، فألبسه إياها، قال: ونفخ اللّه من روحه فـيه حتـى ملأه، قال: فرمي بُنشابة، فوضعها فـي الدرع، قال: فكسرها داود ولـم تضرّه شيئا ثلاث مرات، ثم قال له: خذ الاَن، فقال داود: اللّه مّ اجعله حجرا واحدا، قال: وسمى واحدا إبراهيـم، وآخر إسحاق، وآخر يعقوب، قال: فجمعهنّ جميعا فكنّ حجرا واحدا، قال: فأخذهنّ وأخذ مقلاعا، فأدارها لـيرمي بها، فقال: أترمينـي كما ترمي السبع والذئب، ارمنـي بـالقوس، قال: لا أرميك الـيوم إلا بها، فقال له مثل ذلك أيضا، فقال نعم، وأنت أهون علـيّ من الذب، فأدارها وفـيها أمر اللّه وسلطان اللّه ، قال: فخـلـى سبـيـلها مأمورة، قال: فجاءت مظلة فضربت بـين عينـيه حتـى خرجت من قـفـاه، ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا، وهزمهم اللّه . ٤٦٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: لـما قطعوا ذلك، يعنـي النهر الذي قال اللّه فـيه مخبرا عن قـيـل طالت لـجنوده: إنّ اللّه مُبْتَلِـيكُمْ بَنَهَرٍ وجاء جالوت وشقّ علـى طالوت قتاله، فقال طالوت للناس: لو أن جالوت قتل أعطيت الذي يقتله نصف ملكي، وناصفته كل شيء أملكه، فبعث اللّه داود، وداود يومئذٍ فـي الـجبل راعي غنـم، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود، وهم أندّ منه وأعتـى منه، وأعرف فـي الناس منه، وأوجه عند طالوت منه، فغزا وتركوه فـي غنـمهم، فقال داود حين ألقـى اللّه فـي نفسه ما ألقـى وأكرمه: لأستودعنّ ربـي غنـمي الـيوم، ولاَتـين الناس، فلأنظرنّ ما الذي بلغنـي من قول الـملك لـمن قتل جالوت، فأتـى داود إخوته، فلاموه حين أتاهم، فقالوا: لـم جئت؟ قال: لأقتل جالوت، فإن اللّه أن أقتله، فسخروا منه. قال ابن جريج: قال مـجاهد: كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلـى آخوته، فأخذ مخلاة فجعل فـيها ثلاث مروات، ثم سماهن إبراهيـم وإسحاق ويعقوب. قال ابن جريج: قالوا: وهو ضعيف رثّ الـحال، فمرّ بثلاثة أحجار، فقلن له: خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت. فأخذهنّ داود وألقاهنّ فـي مخلاته، فلـما ألقاهنّ سمع حجرا منهنّ يقول لصاحبه: أنا حجر هارون الذي قتل بـي ملك كذا وكذا وقال الثانـي: أنا حجر موسى الذي قتل بـي ملك كذا وكذا وقال الثالث: أنا حجر داود الذي أقتل جالوت، فقال الـحجران: يا حجر دود نـحن أعوان لك، فصرن حجرا واحدا وقال الـحجر: يا داود اقذف بـي فإنـي سأستعين بـالريح، وكانت بـيضته فـيـما يقولون واللّه أعلـم فـيها ستـمائة رطل، فأقع فـي رأس جالوت فأقتله. قال ابن جريج: وقال مـجاهد: سمى واحدا إبراهيـم، والاَخر إسحاق، والاَخر يعقوب، وقال: بـاسم إلـيه وإله آبـائي إبراهيـم وإسحاق ويعقوب، وجعلهنّ فـي مِرْجمته. قال ابن جريج: فـانطلق حتـى نفذ إلـى طالوت، فقال: إنك قد جعلت لـمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تـملك. أفلـي ذلك إن قتلته؟ قال: نعم، والناس يستهزءون بداود، وإخوة داود أشدّ من هنالك علـيه، وكان طالوت لا ينتدب إلـيه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده، فإذا لـم تكن قَدَرا علـيه نزعها عنها، وكانت درعا سابغة من دروع طالوت، فألبسها داود فلـما رأى قدرها علـيه أمره أن يتقدم، فتقدم داود، فقام مقاما لا يقوم فـيه أحد وعلـيه الدرع، فقال له جالوت: ويحك من أنت إنـي أرحمك، لـيتقدم إلـيّ غيرك من هذه الـملوك، أنت إنسان ضعيف مسكين، فـارجع، فقال داود: أنا الذي أقتلك بإذن اللّه ، ولن أرجع حتـى أقتلك، فلـما أبى داود إلا قتاله، تقدم جالوت إلـيه لـيأخذه بـيده مقتدرا علـيه، فأخرج الـحجر من الـمخلاة، فدعا ربه، ورماه بـالـحجر، فألقت الريح بـيضته عن رأسه، فوقع الـحجر فـي رأس جالوت حتـى دخـل فـي جوفه، فقتله. قال ابن جريج: وقال مـجاهد: لـما رمى جالوت بـالـحجر خرق ثلاثا وثلاثـين بـيضة عن رأسه، وقتلت من ورائه ثلاثـين ألفـا، قال اللّه تعالـى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ فقال داود لطالوت: وفّ بـما جعلتَ، فأبى طالوت أن يعطيه ذلك، فـانطلق داود، فسكن مدينة من مدائن بنـي إسرائيـل، حتـى مات طالوت فلـما مات عمد بنو إسرائيـل إلـى داود، فجاءوه به، فملكوه، وأعطوه خزائن طالوت، و قالوا: لـم يقتل جالوت إلا نبـيّ، قال اللّه : وَقَتَلَ دَاوُدُ جالُوتَ وآتَاهُ اللّه الْـمُلْكَ وَالْـحِكْمَةَ وَعَلّـمَهُ مِـمّا يَشَاءُ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وآتَاهُ اللّه الْـمُلْكَ والْـحِكْمَةَ وَعَلّـمَهُ مِـمّا يَشَاءُ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وأعطى اللّه داود الـملك والـحكمة وعلـمه مـمّا يشاء. والهاء فـي قوله: وآتاهُ اللّه عائدة علـى داود والـملك السلطان والـحكمة النبوّةوقوله: وَعَلّـمَهُ مِـمّا يَشَاءُ يعنـي علـمه صنعة الدروع، والتقدير فـي السرد، كما قال اللّه تعالـى ذكره: وعَلّـمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُـحْصِنَكُمْ مِنْ بَأسِكُمْ. إن معنى قوله: وَآتَاهُ اللّه الْـمُلْكَ وَالْـحِكْمَةَ أن اللّه آتـى داود ملك طالوت ونبوّة أشمويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٣٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: ملك داود بعدما قتل طالوت، وجعله اللّه نبـيّا، وذلك قوله: وآتَاهُ اللّه الْـمُلْكَ والْـحِكْمَةَ قال: الـحكمة: هي النبوّة، آتاه نبوّة شمعون، وملك طالوت. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَـىَ الْعَالَـمِينَ. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولولا أن اللّه يدفع ببعض الناس، وهم أهل الطاعة له والإيـمان به، بعضا وهم أهل الـمعصية للّه، والشرك به، كما دفع عن الـمتـخـلفـين عن طالوت يوم جالوت من أهل الكفر بـاللّه والـمعصية له وقد أعطاهم ما سألوا ربهم ابتداء من بعثة ملك علـيهم لـيجاهدوا معه فـي سبـيـله بـمن جاهد معه من أهل الإيـمان بـاللّه والـيقـين والصبر، جالوت وجنوده، لفسدت الأرض، يعنـي لهلك أهلها بعقوبة اللّه إياهم، ففسدت بذلك الأرض، ولكن اللّه ذو منّ علـى خـلقه، وتطوّل علـيهم بدفعه بـالبرّ من خـلقه عن الفـاجر، وبـالـمطيع عن العاصي منهم، وبـالـمؤمن عن الكافر. وهذه الآية إعلام من اللّه تعالـى ذكره أهل النفـاق الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمتـخـلفـين عن مشاهده والـجهاد معه للشك الذي فـي نفوسهم ومرض قلوبهم والـمشركين وأهل الكفر منهم، وأنه إنـما يدفع عنهم معاجلتهم العقوبة، علـى كفرهم ونفـاقهم بإيـمان الـمؤمنـين به وبرسوله، الذين هم أهل البصائر، والـجدّ فـي أمر اللّه ، وذوو الـيقـين بإنـجاز اللّه إياهم وعده علـى جهاد أعدائه، وأعداء رسوله من النصر فـي العاجر، والفوز بجناته فـي الاَخرة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمر، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجحي، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ يقول: ولولا دفع اللّه بـالبـارّ عن الفـاجر، ودفعه ببقـية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها. ٤٦٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ يقول: ولولا دفـاع اللّه بـالبرّ عن الفـاجر، وببقـية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لهلك أهلها. ٤٦٣٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن حنظلة، عن أبـي مسلـم، قال: سمعت علـيّا يقول: لولا بقـية من الـمسلـمين فـيكم لهلكتـم. ٤٦٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: وَلَوْلاَ دَفْعَ اللّه النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ يقول: لهلك من فـي الأرض. ٤حدثنـي أبو حميد الـحمصي أحمد بن الـمغيرة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا حفص بن سلـيـمان، عن مـحمد بن سوقة، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه لَـيَدْفَعُ بِـالْـمُؤْمِنِ الصّالِـحِ عَنْ مائَةٍ أَهْلِ بَـيْتٍ مِنْ جِيرَانهِ الْبَلاَءَ) ثم قرأ ابن عمر: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ. ٤حدثنـي أحمد أبو حميد الـحمصي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن مـحمد بن الـمنكدر، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ اللّه لَـيُصْلِـحُ بِصَلاح الرّجُلِ الْـمُسْلِـمِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، وَلاَ يَزَالُونَ فِـي حِفْظِ اللّه مَا دَامَ فِـيهِمْ). وقد دللنا علـى قوله العالـمين، وذكرنا الرواية فـيه. وأما القراء فإنها اختلفت فـي قراءة قوله: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ. فقرأته جماعة من القراء: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه علـى وجه الـمصدر من قول القائل: دفع اللّه عن خـلقه، فهو يدفع دفعا. واحتـجت لاختـيارها ذلك بأن اللّه تعالـى ذكره، هو الـمتفرّد بـالدفع عن خـلقه، ولا أحد يدافعه فـيغالبه. وقرأت ذلك جماعة أخرى من القراء: (وَلَوْلاَ دِفَـاعُ اللّه النّاسَ) علـى وجه الـمصدر من قول القائل: دافع اللّه عن خـلقه، فهو يدافع مدافعة ودفـاعا. واحتـجت لاختـيارها ذلك بأن كثـيرا من خـلقه يعادون أهل دين اللّه ، وولايته والـمؤمنـين به، فهو بـمـحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم للّه مدافعون ببـاطلهم، ومغالبون بجهلهم، واللّه مدافعهم عن أولـيائه وأهل طاعته والإيـمان به. والقول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القراء وجاءت بهما جماعة الأمة، ولـيس فـي القراءة بأحد الـحرفـين إحالة معنى الاَخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء، فمدافعه عنه دافع، ومتـى امتنع الـمدفوع عن الاندفـاع، فهو لـمدافعه مدافع ولا شكّ أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده، مـحاولـين مغالبة حزب اللّه وجنده، وكان فـي مـحاولتهم ذلك مـحاولة مغالبة اللّه ودفـاعه، عما قد تضمن لهم من النصرة، وذلك هو معنى مدافعة اللّه عن الذين دافع اللّه عنهم بـمن قاتل جالوت وجنوده من أولـيائه. فتبـين إذا أن سواء قراءة من قرأ: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض وقراءة من قرأ: وَلَوْلا دِفـاعُ اللّه النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فـي التاويـل والـمعنى. ٢٥٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } يعنـي تعالـى ذكره بقوله: تِلْكَ آياتُ اللّه هذه الاَيات التـي اقتصّ اللّه فـيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الـموت، وأمر الـملأ من بنـي إسرائيـل من بعد موسى الذين سألوا نبـيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الاَيات إلـى قوله: وَاللّه ذُو فَضْلٍ علـى العالَـمِينَ. ويعنـي بقوله: آياتُ اللّه حججه وأعلامه وأدلته. يقول اللّه تعالـى ذكره: فهذه الـحجج التـي أخبرتك بها يا مـحمد، وأعلـمتك من قدرتـي علـى إماتة من هرب من الـموت فـي ساعة واحدة وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتـملـيكي طالوت أمر بنـي إسرائيـل، بعد إذ كان سقاء أو دبـاغا من غير أهل بـيت الـمـملكة، وسلبـي ذلك إياه بـمعصيته أمري، وصرفـي ملكه إلـى داود لطاعته إياي، ونصرتـي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم علـى جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم حُجَج علـى من حجد نعمتـي، وخالف أمري، وكفر برسولـي من أهل الكتابـين التوراة والإنـجيـل، العالـمين بـما اقتصصت علـيك من الأنبـاء الـخفـية، التـي يعلـمون أنها من عندي لـم تتـخرّصها ولـم تتقوّلها أنت يا مـحمد، لأنك أميّ، ولست مـمن قرأ الكتب، فـيـلتبس علـيهم أمرك، ويدّعوا أنك قرأت ذلك فعلـمته من بعض أسفـارهم، ولكنها حُجَجي علـيهم أتلوها علـيك يا مـحمد بـالـحقّ الـيقـين كما كان، لا زيادة فـيه، ولا تـحريف، ولا تغيـير شيء منه عما كان. وإنّكَ يا مـحمد لـمن الـمُرْسَلـين يقول: إنك لـمرسل متبع فـي طاعتـي، وإيثار مرضاتـي علـى هواك، فسالك فـي ذلك من أمرك سبـيـل من قَبْلك من رسلـي الذين أقاموا علـى أمري، وآثروا رضاي علـى هواهم، ولـم تغيرهم الأهواء، ومطامع الدنـيا كما غير طالوت هواه، وإيثاره ملكه، علـى ما عندي لأهل ولايتـي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره الـمرسلون الذين قبلك. ٢٥٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ ...} يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {تِلْكَ الرّسُلُ} الذين قصّ اللّه قصصهم فـي هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيـم وإسماعيـل وإسحاق ويعقوب وشمويـل وداود، وسائر من ذكر نبأهم فـي هذه السورة. يقول تعالـى ذكره: هؤلاء رسلـي فضلت بعضهم علـى بعض، فكلـمت بعضهم ـ والذي كلـمته منهم موسى صلى اللّه عليه وسلم ـ ورفعت بعضهم درجات علـى بعض بـالكرامة ورفعة الـمنزلة. كما: ٤٦٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول اللّه تعالـى ذكره: {تِلْكَ الرّسُلُ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ علـى بَعْضٍ} قال: يقول: منهم من كلّـم اللّه ورفع بعضهم علـى بعض درجات. يقول: كلـم اللّه موسى، وأرسل مـحمدا إلـى الناس كافة. ٤٦٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد بنـحوه. ومـما يدل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أُعْطِيتُ خَمْسا لَـمْ يُعْطَهُنّ أحَدٌ قَبْلِـي: بُعِثْتُ إلـى الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، وَنُصِرْتُ بـالرّعْبِ، فإنّ العَدُوّ لَـيُرْعَبُ مِنّـي علـى مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِـيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا، وأُحِلّتْ لِـيَ الغَنَائِمُ ولَـمْ تَـحِلّ لأحَدٍ كانَ قَبْلِـي، وَقِـيـلَ لـي: سَلْ تُعْطَهْ، فـاخْتَبأتُها شَفـاعَةً لأُمّتِـي، فَهِيَ نائِلَةٌ مِنْكُمْ إنْ شاءَ اللّه مَنْ لا يُشْرِكُ بـاللّه شَيْئا). القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وآتَـيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ وَأيّدْناهُ بُرُوحِ القُدُسِ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: {وآتَـيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ البَـيّنَاتِ} وآتـينا عيسى ابن مريـم الـحجج والأدلة علـى نبوّته: من إبراء الأكْمَهِ والأبرص، وإحياء الـموتـى، وما أشبه ذلك، مع الإنـجيـل الذي أنزلته إلـيه، فبـينت فـيه ما فرضت علـيه. ويعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وأيّدْناهُ} وقوّيناه وأعنّاه {بِرُوحِ القُدُسِ} يعنـي بروح اللّه ، وهو جبريـل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلـم فـي معنى روح القدس والذي هو أولـى بـالصواب من القول فـي ذلك فـيـما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ شاءَ اللّه ما اقْتَتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولو أراد اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البـينات، يعنـي من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم علـى بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريـم، وقد جاءهم من الاَيات بـما فـيه مُزْدَجَرٌ لـمن هداه اللّه ووفقه. ويعنـي بقوله: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ} يعنـي من بعد ما جاءهم من آيات اللّه ما أبـان لهم الـحق، وأوضح لهم السبـيـل. إن الهاء والـميـم فـي قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} من ذكر موسى وعيسى: ذكر من قال ذلك: ٤٦٤١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَوْ شَاءَ اللّه مَا اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ} يقول: من بعد موسى وعيسى. ٤٦٤٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {وَلَوْ شاءَ اللّه ما اقتتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بعدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ} يقول: من بعد موسى وعيسى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّه ما اقْتَتَلُوا وَلَكِنّ اللّه يَفْعَلُ ما يُرِيدُ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل لـما لـم يشأ اللّه منهم تعالـى ذكره أن لا يقتتلوا، فـاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البـينات من عند ربهم بتـحريـم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الـحجة علـيهم بوحدانـية اللّه ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بـاللّه وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالـى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والـمعاصي بعد علـمهم بقـيام الـحجة علـيهم بأنهم علـى خطأ، تعمدا منهم للكفر بـاللّه وآياته. ثم قال تعالـى ذكره لعبـاده: {وَلَوْ شاءَ اللّه ما اقْتَتَلُوا} يقول: ولو أراد اللّه أن يحجزهم بعصمته وتوفـيقه إياهم عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا، {وَلكِنّ اللّه يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} بأن يوفق هذا لطاعته والإيـمان به فـيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فـيكفر به ويعصيه. ٢٥٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِمّا رَزَقْنَاكُم ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا فـي سبـيـل اللّه مـما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الـحقوق التـي فرضناها علـيكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فـيـما بلغنا عنه. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِـمّا رَزَقْناكُمْ} قال: من الزكاة والتطوّع. {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لاَ بَـيْعٌ فِـيهِ وَلا خُـلّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ} يقول: ادّخروا لأنفسكم عند اللّه فـي دنـياكم من أموالكم بـالنفقة منها فـي سبـيـل اللّه ، والصدقة علـى أهل الـمسكنة والـحاجة، وإيتاء ما فرض اللّه علـيكم فـيها، وابتاعوا بها ما عنده مـما أعدّه لأولـيائه من الكرامة، بتقديـم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبـيـل إلـى ابتـياعه، بـما ندبتكم إلـيه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم. {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا بَـيْعٌ فِـيهِ} يعنـي من قبل مـجيء يوم لا بـيع فـيه، يقول: لا تقدرون فـيه علـى ابتـياع ما كنتـم علـى ابتـياعه بـالنفقة من أموالكم التـي أمرتكم به، أو ندبتكم إلـيه فـي الدنـيا قادرين، لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فـيكون لكم إلـى ابتـياع منازل أهل الكرامة بـالنفقة حينئذ، أو بـالعمل بطاعة اللّه ، سبـيـلٌ ثم أعلـمهم تعالـى ذكره أن ذلك الـيوم ـ مع ارتفـاع العمل الذي ينال به رضا اللّه ، أو الوصول إلـى كرامته بـالنفقة من الأموال، إذ كان لا مال هنالك يـمكن إدراك ذلك به ـ يومٌ لا مُخالّة فـيه نافعة كما كانت فـي الدنـيا، فإن خـلـيـل الرجل فـي الدنـيا قد كان ينفعه فـيها بـالنصرة له علـى من حاوله بـمكروه وأراده بسوء، والـمظاهرة له علـى ذلك. فآيسهم تعالـى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القـيامة ينصر أحدا من اللّه ، بل الأخلاّء بعضهم لبعض عدوّ إلا الـمتقـين، كما قال اللّه تعالـى ذكره. وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ مع فقدهم السبـيـل إلـى ابتـياع ما كان لهم إلـى ابتـياعه سبـيـل فـي الدنـيا بـالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الـخلان، والظهراء من الإخوان، لا شافع لهم يشفع عند اللّه كما كان ذلك لهم فـي الدنـيا، فقد كان بعضهم يشفع فـي الدنـيا لبعض بـالقرابة والـجوار والـخُـلّة، وغير ذلك من الأسبـاب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالـى ذكره ن قـيـل أعدائه من أهل الـجحيـم فـي الاَخرة إذا صاروا فـيها: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيـمٍ}. وهذه الآية مخرجها فـي الشفـاعة عام والـمراد بها خاص. وإنـما معناه: من قبل أن يأتـي يوم لا بـيع فـيه ولا خـلة ولا شفـاعة لأهل الكفر بـالله، لأن أهل ولاية اللّه والإيـمان به يشفع بعضهم لبعض. وقد بـينا صحة ذلك بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وكان قتادة يقول فـي ذلك بـما: ٤٦٤٣ـ حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِـمّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا بَـيْعٌ فِـيهِ وَلا خُـلّةٌ وَلا شَفـاعَةٌ} قد علـم اللّه أن ناسا يتـحابون فـي الدنـيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القـيامة فلا خُـلّة إلا خُـلّة الـمتقـين. وأما قوله: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والـجاحدون لله الـمكذبون به وبرسله هم الظالـمون. يقول: هم الواضعون جحودهم فـي غير موضعه، والفـاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما لـيس لهم قوله. وقد دللنا علـى معنى الظلـم بشواهده فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته. وفـي قوله تعالـى ذكره فـي هذا الـموضع: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} دلالة واضحة علـى صحة ما قلناه، وأن قوله: {وَلا خُـلّةٌ وَلا شَفَـاعَةٌ} إنـما هو مراد به أهل الكفر¹ فلذلك أتبع قوله ذلك: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} فدل بذلك علـى أن معنى ذلك: حرمنا الكفـار النصرة من الأخلاء، والشفـاعة من الأولـياء والأقربـاء، ولـم نكن لهم فـي فعلنا ذلك بهم ظالـمين، إذ كان ذلك جزاء منا لـما سلف منهم من الكفر بـاللّه فـي الدنـيا، بل الكافرون هم الظالـمون أنفسهم بـما أتَوْا من الأفعال التـي أوجبوا لها العقوبة من ربهم. فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلـى الكفـار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيـمان؟ قـيـل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفـين من الناس: أحدهما أهل كفر، والاَخر أهل إيـمان، وذلك قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ثم عقب اللّه تعالـى ذكره الصنفـين بـما ذكرهم به، فحض أهل الإيـمان به علـى ما يقرّبهم إلـيه من النفقة فـي طاعته وفـي جهاد أعدائه من أهل الكفر به قبل مـجيء الـيوم الذي وصف صفته وأخبر فـيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به فـي معصيته ونفقتهم فـي الصدّ عن سبـيـله، فقال تعالـى ذكره: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا} أنتـم {مِـمّا رَزَقْنَاكُمْ} فـي طاعتـي، إذ كان أهل الكفر بـي ينفقون فـي معصيتـي، {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِـيَ يَوْمٌ لا بَـيْعٌ فِـيهِ} فـيدرك أهل الكفر فـيه ابتـياع ما فرطوا فـي ابتـياعه فـي دنـياهم، {وَلاَ خُـلّةٌ} لهم يومئذ تنصرهم منـي، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنـجيهم شفـاعته لهم من عقابـي¹ وهذا يومئذ فعلـي بهم جزاء لهم علـى كفرهم، وهم الظالـمون أنفسهم دونـي، لأنـي غير ظلام لعبـيدي. وقد: ٤٦٤٤ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الرحيـم، قال: ثنـي عمرو بن أبـي سلـمة، قال: سمعت عمر بن سلـيـمان، يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال: الـحمد لله الذي قال: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِـمُونَ} ولـم يقل: (الظالـمون هم الكافرون). ٢٥٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّه لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ...} قد دللنا فـيـما مضى علـى تأويـل قوله: (اللّه ). وأما تأويـل قوله: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ} فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير اللّه الـحيّ القـيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالـى ذكره فـي هذه الآية. يقول: (اللّه ) الذي له عبـادة الـخـلق (الـحيّ القـيوم)، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعنـي: ولا تعبدوا شيئاف سوى الـحَيّ القَـيّوم الذي لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، والذي صفته ما وصف فـي هذه الآية. وهذه الآية إبـانة من اللّه تعالـى ذكره للـمؤمنـين به وبرسوله عما جاءت به أقوال الـمختلفـين فـي البـينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالـى ذكره أنه فضل بعضهم علـى بعض، واختلفوا فـيه، فـاقتتلوا فـيه كفرا به من بعض، وإيـمانا به من بعض. فـالـحمد لله الذي هدانا للتصديق به ووفقنا للإقرار به. وأما قوله: {الـحَيّ} فإنه يعنـي: الذي له الـحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أوّل له يحدّ، ولا آخر له يُؤْمَد، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلـحياته أول مـحدود وآخر مأمود، ينقطع بـانقطاع أمدها وينقضي بـانقضاء غايتها. وبـما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٤٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {الـحَيّ} حيّ لا يـموت. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. وقد اختلف أهل البحث فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: إنـما سمى اللّه نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حيّ بـالتدبـير لا بحياة. وقال آخرون: بل هو حيّ بحياة هي له صفة. وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به، فقلناه تسلـيـما لأمره. وأما قوله: {القَـيّومُ} فإنه (الفـيعول) من القـيام، وأصله (القـيووم): سبق عين الفعل وهي واو ياء ساكنة، فـاندغمتا فصارتا ياء مشددة¹ وكذلك تفعل العرب فـي كل واو كانت للفعل عينا سبقتها ياء ساكنة. ومعنى قوله: {القَـيّومُ}: القائم برزق ما خـلق وحفظه، كما قال أمية: لَـمْ يُخْـلَقِ السّماءُ والنّـجُومُوالشّمْسُ مَعْها قَمَرٌ يقومُ قَدّرَهُ الـمُهَيْـمِنُ القَـيّومُوالـحَشْرُ والـجَنّةُ والـجحيـمُ إلا لأمرٍ شأنُهُ عَظِيـمُ وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {القَـيّومُ} قال: القائم علـى كل شيء. ٤٦٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {القَـيّومُ} قـيـم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه. ٤٦٤٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {القَـيّومُ} وهو القائم. ٤٦٤٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {الـحَيّ الْقَـيّومُ} قال: القائم الدائم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ} لا يأخذه نعاس فـينعس، ولا نوم فـيستثقل نوما. والوسن: خثورة النوم، ومنه قول عديّ بن الرقاع: وَسْنانُ أقْصَدَهُ النّعاسَ فَرَنّقَتْفـي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَـيْسَ بِنائِمِ ومن الدلـيـل علـى ما قلنا من أنها خثورة النوم فـي عين الإنسان، قول الأعشى ميـمون بن قـيس: تُعاطِي الضّجِيعَ إذَا أقْبَلَتْبُعَيْدَ النّعاسِ وَقَبْلَ الوَسَنْ وقال آخر: بـاكَرَتْها الأغْرَابُ فـي سِنَةِ النّوْمِ فَتَـجْرِي خِلالَ شَوْكِ السّيالِ يعنـي عند هبوبها من النوم ووسن النوم فـي عينها، يقال منه: وسن فلان فهو يَوْسَنُ وَسَنا وسِنَةً وهو وسنان، إذا كان كذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله تعالـى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} السنة: النعاس. ٤٦٥١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن فـي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قالا: نعسة. ٤٦٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال. حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله سواء. ٤٦٥٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} أما سنة: فهو ريح النوم الذي يأخذ فـي الوجه فـينعس الإنسان. ٤٦٥٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} قال: السنة: الوسنان بـين النائم والـيقظان. ٤٦٥٥ـ حدثنـي عبـاس بن أبـي طالب، قال: حدثنا منـجاب بن الـحرث، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن إسماعيـل عن يحيـى بن رافع: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} قال: النعاس. ٤٦٥٦ـ حدثنـي يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا تأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} قال: الوسنان: الذي يقوم من النوم لا يعقل، حتـى ربـما أخذ السيف علـى أهله. وإنـما عنى تعالـى ذكره بقوله: {لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لا تـحله الاَفـات، ولا تناله العاهات. وذلك أن السنة والنوم معنـيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصابـاه عن الـحال التـي كان علـيها قبل أن يصيبـاه. فتأويـل الكلام إذ كان الأمر علـى ما وصفنا: اللّه لا إله إلا هو الـحيّ الذي لا يـموت، القـيوم علـى كل ما هو دونه بـالرزق والكلاءة والتدبـير والتصريف من حال إلـى حال، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيـله عما لـم يزل علـيه تنقل الأحوال وتصريف اللـيالـي والأيام، بل هو الدائم علـى حال، والقـيوم علـى جميع الأنام، لو نام كان مغلوبـا مقهورا، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فـيهما دكّا، لأن قـيام جميع ذلك بتدبـيره وقدرته، والنوم شاغل الـمدبر عن التدبـير، والنعاس مانعٌ الـمقدّر عن التقدير بوسنه. كما: ٤٦٥٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: وأخبرنـي الـحكم بن أبـان، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس فـي قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} أن موسى سأل الـملائكة: هل ينام اللّه ؟ فأوحى اللّه إلـى الـملائكة، وأمرهم أن يؤرّقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتـين فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما قال: فجعل ينعس وهما فـي يديه، فـي كل يد واحدة قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتـى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما. قال معمر: إنـما هو مثل ضربه اللّه ، يقول: فكذلك السموات والأرض فـي يديه. ٤٦٥٨ـ حدثنا إسحاق بن أبـي إسرائيـل، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، عن أبـي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحكي عن موسى صلى اللّه عليه وسلم علـى الـمنبر، قال: (وَقَعَ فِـي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنامُ اللّه تَعالـى ذِكْرُهُ؟ فأرْسَلَ اللّه إلَـيْهِ مَلَكا فَأرّقَهُ ثَلاثا، ثُمّ أعْطَاهُ قارُورَتَـيْنِ، فِـي كُلّ يَدٍ قارُورَةٌ، وأمَرَهُ أنْ يَحْتَفِظَ بِهما) قال: (فَجَعَلَ يَنامُ وَتَكادُ يَدَاهُ تَلْتَقِـيَانِ، ثُمّ يَسْتَـيْقِظُ فَـيَحْبِسُ إحْدَاهُمَا عَنِ الأُخْرَى، ثُمّ نَامَ نَوْمَةً فَـاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ القارُورَتَانِ) قال: ضرب اللّه مثلاً له، أن اللّه لو كان ينام لـم تستـمسك السماء والأرض. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهُ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بإذْنِهِ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {لَهُ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأَرْضِ} أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود. وإنـما يعنـي بذلك أنه لا تنبغي العبـادة لشيء سواه، لأن الـمـملوك إنا هو طوع يد مالكه، ولـيس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما فـي السموات والأرض ملكي وخـلقـي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خـلقـي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه. وأما قوله: {مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذْنِهِ} يعنـي بذلك: من ذا الذي يشفع لـمـمالـيكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخـلـيه، ويأذن له بـالشفـاعة لهم. وإنـما قال ذلك تعالـى ذكره لأن الـمشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا لـيقرّبونا إلـى اللّه زلفـى، فقال اللّه تعالـى ذكره لهم: لـي ما فـي السموات وما فـي الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبـادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التـي تزعمون أنها تقربكم منـي زلفـى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغنـي عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتـخـلـيتـي إياه والشفـاعة لـمن يشفع له، من رسلـي وأولـيائي وأهل طاعتـي. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَعْلَـمُ ما بَـيْنَ أيْدِيهِمْ وَما خَـلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْـمِهِ إلاّ بِـمَا شاءَ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك أنه الـمـحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علـما، لا يخفـى علـيه شيء منه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم: {وَيَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أَيْدِيهِمْ} الدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} الاَخرة. ٤٦٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {يَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أيْدِيهِمْ} ما مضى من الدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} من الاَخرة. ٤٦٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج قوله: {يَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أيْدِيهِمْ} ما مضى أمامهم من الدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} ما يكون بعدهم من الدنـيا والاَخرة. ٤٦٦٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {يَعْلَـمُ مَا بَـيْنَ أيْدِيهِمْ} قال: ما بـين أيديهم فـالدنـيا {وَما خَـلْفَهُمْ} فـالاَخرة. وأما قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْـمِهِ إِلاّ بِـمَا شاءَ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره أنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء مـحيط بذلك كله مـحص له دون سائر من دونه، وأنه لا يعلـم أحد سواه شيئا إلا بـما شاء هو أن يعلـمه فأراد فعلـمه. وإنـما يعنـي بذلك أن العبـادة لا تنبغي لـمن كان بـالأشياء جاهلاً فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنـم، يقول: أخـلصوا العبـادة لـمن هو مـحيط بـالأشياء كلها يعلـمها، لا يخفـى علـيه صغيرها وكبـيرها. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٦٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْـمِهِ} يقول: لا يعلـمون بشيء من علـمه إلا بـما شاء هو أن يعلـمهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}. اختلف أهل التأويـل فـي معنى الكرسي الذي أخبر اللّه تعالـى ذكره فـي هذه الآية أنه وسع السموات والأرض، فقال بعضهم: هو علـم اللّه تعالـى ذكره. ذكر من قال ذلك: ٤٦٦٤ـ حدثنا أبو كريب وسلـم بن جنادة، قالا: حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن جعفر بن أبـي الـمغيرة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {وَسِعَ كُرْسِيّهُ} قال: كرسيه: علـمه. ٤٦٦٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مطرّف، عن جعفر بن أبـي الـمغيرة، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، مثله، وزاد فـيه: ألا ترى إلـى قوله: {وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا}؟ وقال آخرون: الكرسي: موضع القدمين. ذكر من قال ذلك: ٤٦٦٦ـ حدثنـي علـيّ بن مسلـم الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي مـحمد بن جحادة، عن سلـمة بن كهيـل، عن عمارة بن عمير، عن أبـي موسى، قال: الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل. ٤٦٦٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} فإن السموات والأرض فـي جوف الكرسي، والكرسي بـين يدي العرش، وهو موضع قدميه. ٤٦٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} قال: كرسيه الذي يوضع تـحت العرش، الذي يجعل الـملوك علـيه أقدامهم. ٤٦٦٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، عن سفـيان، عن عمار الدهنـي، عن مسلـم البطين، قال: الكرسي: موضع القدمين. ٤٦٧٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} قال: لـما نزلت: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ} قال أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: يا رسول اللّه هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل اللّه تعالـى: {وَما قَدَرُوا اللّه حَقّ قَدْرِهِ} إلـى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالـى عَمّا يُشْرِكُونَ}. ٤٦٧١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ} قال ابن زيد: فحدثنـي أبـي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما السّمَوَاتُ السّبْعُ فِـي الكُرْسِيّ إلاّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِـيَتْ فِـي تُرْسٍ) قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما الكُرْسِيّ فـي العَرْشِ إلاّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِـيَتْ بَـيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الأرْضِ). وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه. ذكر من قال ذلك: ٤٦٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: كان الـحسن يقول: الكرسي: هو العرش. قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولـى بتأويـل الآية ما جاء به الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو ما: ٤٦٧٣ـ حدثنـي به عبد اللّه بن أبـي زياد القطوانـي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عبد اللّه بن خـلـيفة، قال: أتت امرأة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: ادع اللّه أن يدخـلنـي الـجنة! فعظم الربّ تعالـى ذكره، ثم قال: (إنّ كُرْسِيّهُ وَسِعَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَإنّهُ لَـيَقْعُدُ عَلَـيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أرْبَعِ أصَابِعَ) ثم قال بأصابعه فجمعها: (وَإنّ لَهُ أطيطا كأطِيطِ الرّحْلِ الـجَدِيدِ إذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِه). حدثنـي عبد اللّه بن أبـي زياد، قال: حدثنا يحيـى بن أبـي بكر، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عبد اللّه بن خـلـيفة، عن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، بنـحوه. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عبد اللّه بن خـلـيفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نـحوه. وأما الذي يدل علـى صحته ظاهر القرآن فقول ابن عبـاس الذي رواه جعفر بن أبـي الـمغيرة عن سعيد بن جبـير عنه أنه قال: هو علـمه، وذلك لدلالة قوله تعالـى ذكره: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُما} علـى أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حِفظ ما علـم، وأحاط به مـما فـي السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا فـي دعائهم: {رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْـما} فأخبر تعالـى ذكره أن علـمه وسع كل شيء، فكذلك قوله: {وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ}. وأصل الكرسي: العلـم، ومنه قـيـل للصحيفة يكون فـيها علـم مكتوب كُرّاسة، ومنه قول الراجز فـي صفة قانص: حتـى إذَا ما احْتازَها تَكَرّسا يعنـي علـم. ومنه يقال للعلـماء: الكراسي، لأنهم الـمعتـمد علـيهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعنـي بذلك أنهم العلـماء الذين تصلـح بهم الأرض¹ ومنه قول الشاعر: يَحُفّ بِهِمْ بِـيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌكَرَاسِيّ بـالأحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ يعنـي بذلك علـماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء: الكِرْس، يقال منه: فلان كريـم الكِرْس: أي كريـم الأرض، قال العجاج: قَدْ عَلِـمَ القُدّوسُ مَوْلَـى القُدْسِأنّ أبـا العَبّـاسِ أوْلَـى نَفْسِ بِـمَعْدن الـمُلْـكِ الكَرِيـمِ الكِـرْسِ يعنـي بذلك: الكريـم الأصل، ويُروى: فِـي مَعْـدِنِ العزّ الكَرِيـمِ الكِـرْسِ القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِـيّ العَظِيـمُ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَلا يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا} ولا يشقّ علـيه ولا يثقله، يقال منه: قد آنى هذا الأمر فهو يؤودنـي أَوْدا وإيادا، ويقال: ما آدك فهو لـي آئد، يعنـي بذلك: ما أثقلك فهو لـي مثقل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٦٧٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقول: لا يثقل علـيه. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُما} قال: لا يثقل علـيه حفظهما. ٤٦٧٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} لا يثقل علـيه لا يجهده حفظهما. ٤٦٧٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الـحسن وقتادة فـي قوله: {وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يثقل علـيه شيء. حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتـي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يثقل علـيه حفظهما. ٤٦٧٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، وحدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : {وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يثقل علـيه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، عن عبـيد، عن الضحاك ، مثله. ٤٦٧٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته ـ يعنـي خلادا ـ يقول: سمعت أبـا عبد الرحمن الـمدينـي يقول فـي هذه الآية: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يكثر علـيه. ٤٦٧٩ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يَكْرُثُهُ. ٤٦٨٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يثقل علـيه. ٤٦٨١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقول: لا يثقل علـيه حفظهما. ٤٦٨٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} قال: لا يعزّ علـيه حفظهما. قال أبو جعفر: والهاء والـميـم والألف فـي قوله: {حِفْظُهُمَا} من ذكر السموات والأرض¹ فتأويـل الكلام: وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يثقل علـيه حفظ السموات والأرض. وأما تأويـل قوله: {وَهُوَ العَلِـيّ} فإنه يعنـي: واللّه العلـيّ. والعلِـيّ: الفعيـل من قولك علا يعلو علوّا: إذا ارتفع، فهو عالٍ وعلـيّ، والعلـيّ: ذو العلوّ والارتفـاع علـى خـلقه بقدرته. وكذلك قوله: {العَظِيـمُ} ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. كما: ٤٦٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : العظيـم الذي قد كمل فـي عظمته. واختلف أهل البحث فـي معنى قوله: {وَهُوَ العَلِـيّ} فقال بعضهم: يعنـي بذلك¹ وهو العلـيّ عن النظير والأشبـاه. وأنكروا أن يكون معنى ذلك: وهو العلـيّ الـمكان، و قالوا: غير جائز أن يخـلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلوّ الـمكان¹ لأن ذلك وصفه بأنه فـي مكان دون مكان. وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلـيّ علـى خـلقه بـارتفـاع مكانه عن أماكن خـلقه، لأنه تعالـى ذكره فوق جميع خـلقه وخـلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه علـى العرش، فهو عالٍ بذلك علـيهم. وكذلك اختلفوا فـي معنى قوله: {العَظِيـمُ} فقال بعضهم: معنى العظيـم فـي هذا الـموضع: الـمعظم صرف الـمُفَعّل إلـى فعيـل، كما قـيـل للـخمر الـمعتقة: خمر عتـيق، كما قال الشاعر: وكأنّ الـخَمْرَ العَتِـيقَ مِنَ الإسْــفَنْطِ مَـمْزُوجَةً بِـمَاءٍ زُلالِ وإنـما هي معتقة. قالوا: فقوله (العظيـم) معناه: الـمعظم الذي يعظمه خـلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإما يحتـمل قول القائل: هو عظيـم أحد معنـيـين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم¹ والاَخر: أنه عظيـم فـي الـمساحة والوزن. قالوا: وفـي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيـم فـي الـمساحة والوزن صحة القول بـما قلنا. وقال آخرون: بل تأويـل قوله: {العَظِيـمُ} هو أن له عظمة هي له صفة. و قالوا: لا نصف عظمته بكيفـية، ولكنا نضيف ذلك إلـيه من جهة الإثبـات، وننفـي عنه أن يكون ذلك علـى معنى مشابهة العظم الـمعروف من العبـاد، لأن ذلك تشبـيه له بخـلقه، ولـيس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل الـمقالة التـي قدمنا ذكرها، و قالوا: لو كان معنى ذلك أنه معظم، لوجب أن يكون قد كان غير عظيـم قبل أن يخـلق الـخـلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الـخـلق، لأنه لا معظم له فـي هذه الأحوال. وقال آخرون: بل قوله: إنه العظيـم وصف منه نفسه بـالعظم. و قالوا: كل ما دونه من خـلقه فبـمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته. ٢٥٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ ...} اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية فـي قوم من الأنصار، أو فـي رجل منهم كان لهم أولاد قد هوّدوهم أو نصروهم¹ فلـما جاء اللّه بـالإسلام أرادوا إكراههم علـيه، فنهاهم اللّه عن ذلك، حتـى يكونوا هم يختارون الدخول فـي الإسلام. ذكر من قال ذلك: ٤٦٨٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: كانت الـمرأة تكون مِقْلاتا، فتـجعل علـى نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده¹ فلـما أجلـيت بنو النضير كان فـيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل اللّه تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}. ٤٦٨٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، قال: كانت الـمرأة تكون مِقْلـى ولا يعيش لها ولد ـ قال شعبة: وإنـما هو مقلات ـ، فتـجعل علـيها إن بقـي لها ولد لتهوّدنه قال: فلـما أجلـيت بنو النضير كان فـيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: من شاء أن يقـيـم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب. ٤٦٨٦ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، عن عامر، قال: كانت الـمرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تـجعله مع أهل الكتاب علـى دينهم. فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار علـى دينهم، فقالوا: إنـما جعلناهم علـى دينهم، ونـحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وإذ جاء اللّه بـالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} فكان فصل ما بـين من اختار الـيهودية والإسلام، فمن لـحق بهم اختار الـيهودية، ومن أقام اختار الإسلام. ولفظ الـحديث لـحميد. ٤٦٨٧ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت داود، عن عامر، بنـحو معناه، إلا أنه قال: فكان فصل ما بـينهم إجلاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـي النضير، فلـحق بهم من كان يهوديا ولـم يسلـم منهم، وبقـي من أسلـم. حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر بنـحوه، إلا أنه قال: إجلاء النضير إلـى خيبر، فمن اختار الإسلام أقام، ومن كره لـحق بخيبر. ٤٦٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن أبـي إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد الـحرشي مولـى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: نزلت فـي رجل من الأنصار من بنـي سالـم بن عوف يقال له الـحصين¹ كان له ابنان نصرانـيان، وكان هو رجلاً مسلـما، فقال للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبـيا إلا النصرانـية؟ فأنزل اللّه فـيه ذلك. ٤٦٨٩ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبـي بشر، قال: سألت سعيد بن جبـير عن قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: نزلت هذه فـي الأنصار قال: قلت خاصة؟ قال: خاصة قال: كانت الـمرأة فـي الـجاهلـية تنذر إن ولدت ولدا أن تـجعله فـي الـيهود تلتـمس بذلك طول بقائه قال: فجاء الإسلام وفـيهم منهم¹ فلـما أجلـيت النضير، قالوا: يا رسول اللّه ، أبناؤنا وإخواننا فـيهم، قال: فسكت عنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قَدْ خُيّرَ أصْحَابُكُمْ، فإن اخْتارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإنِ اخْتارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ) قال: فأجلوهم معهم. ٤٦٩٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} إلـى: {لاَ انْفِصَامَ لَهَا} قال: نزلت فـي رجل من الأنصار يقال له أبو الـحصين: كان له ابنان، فقدم تـجار من الشام إلـى الـمدينة يحملون الزيت¹ فلـما بـاعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبـي الـحصين، فدعوهما إلـى النصرانـية فتنصرا، فرجعا إلـى الشام معهم. فأتـى أبوهما إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إن ابنـيّ تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال: (لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ) ولـم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب وقال: (أبْعَدَهُما اللّه ! هما أوّل من كَفَرَ). فوجد أبو الـحصين فـي نفسه علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حين لـم يبعث فـي طلبهما، فنزلت: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّـى يُحَكّمُوكَ فِـيـمَا شَجَرَ بَـيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِـي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِـمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّـمُوا تَسْلِـيـما} ثم إنه نسخ: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} فأمر بقتال أهل الكتاب فـي سورة براءة. ٤٦٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كانت فـي الـيهود يهود أرضعوا رجالاً من الأوس، فلـما أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبنّ معهم، ولنديننّ بدينهم! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم علـى الإسلام، ففـيهم نزلت هذه الآية. ٤٦٩٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين فـي بنـي قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم علـى الإسلام، فنزلت: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي الـحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا. ثم ذكر نـحو حديث مـحمد بن عمرو، عن أبـي عاصم. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد الكريـم، عن مـجاهد أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناءُ الأوس، دانوا بدين النضير. ٤٦٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن داود بن أبـي هند، عن الشعبـي: أن الـمرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتـجعلّنه فـي أهل الكتاب فلـما جاء الإسلام قالت الأنصار: يا رسول اللّه ألا نُكره أولادنا الذين هم فـي يهود علـى الإسلام، فإنا إنـما جعلناهم فـيها ونـحن نرى أن الـيهودية أفضل الأديان؟ فلـما إذ جاء اللّه بـالإسلام، أفلا نكرههم علـى الإسلام؟ فأنزل اللّه تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}. حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن داود، عن الشعبـي مثله، وزاد: قال: كان فصل ما بـين من اختار الـيهود منهم وبـين من اختار الإسلام، إجلاء بنـي النضير¹ فمن خرج مع بنـي النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام. ٤٦٩٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} إلـى قوله: {العُرْوَةِ الوُثْقَـى} قال: هذا منسوخ. ٤٦٩٥ـ حدثنـي سعيد بن الربـيع الرازي، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، ووائل، عن الـحسن: أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضَعين فـي بنـي النضير، فلـما أجلوا، أراد أهلوهم أن يـلـحقوهم بدينهم، فنزلت: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ}. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يُكره أهلُ الكتاب علـى الدين إذا بذلوا الـجزية، ولكنهم يُقرّون علـى دينهم. و قالوا: الآية فـي خاصّ من الكفـار، ولـم ينسخ منها شيء. ذكر من قال ذلك: ٤٦٩٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: أكره علـيه هذا الـحيّ من العرب، لأنهم كانوا أمة أمية، لـيس لهم كتاب يعرفونه، فلـم يقبل منهم غير الإسلام، ولا يكره علـيه أهل الكتاب إذا أقرّوا بـالـجزية أو بـالـخراج، ولـم يفتنوا عن دينهم، فـيخـلّـى عنهم. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: هو هذا الـحيّ من العرب أكرهوا علـى الدين، لـم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت منهم الـجزية ولـم يقتلوا. ٤٦٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكم بن بشير، قال: حدثنا ، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: أُمِرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلـم يقبل منهم إلا (لا إلَه إلاّ اللّه )، أو السيف. ثم أُمِرَ فـيـمن سواهم بأن يقبل منهم الـجزية¹ فقال: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ}. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كانت العرب لـيس لها دين، فأكرهوا علـى الدين بـالسيف، قال: ولا يكره الـيهود ولا النصارى والـمـجوس إذا أعطوا الـجزية. ٤٦٩٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، قال: سمعت مـجاهدا يقول لغلام له نصرانـي: يا جرير أسلـم! ثم قال: هكذا كان يقال لهم. ٤٦٩٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ مِنَ الغَيّ} قال: وذلك لـما دخـل الناس فـي الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الـجزية. وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنـما نزلت قبل أن يفرض القتال. ذكر من قال ذلك: ٤٧٠٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلـم عن قول اللّه تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمكة عشر سنـين لا يُكره أحدا فـي الدين، فأبى الـمشركون إلا أن يقاتلوهم، فـاستأذن اللّه فـي قتالهم، فأذن له. وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية فـي خاص من الناس، وقال: عنى بقوله تعالـى ذكره: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} أهل الكتابـين والـمـجوس، وكل من جاء إقراره علـى دينه الـمخالف دين الـحق، وأخذ الـجزية منه. وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا. وإنـما قلنا هذا القول أولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب لـما قد دللنا علـيه فـي كتابنا كتاب (اللطيف من البـيان عن أصول الأحكام) من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفـى حكم الـمنسوخ، فلـم يجز اجتـماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وبـاطنه الـخصوص، فهو من الناسخ والـمنسوخ بـمعزل. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستـحيـل أن يقال: لا إكراه لأحد مـمن أخذت منه الـجزية فـي الدين، ولـم يكن فـي الآية دلـيـل علـى أن تأويـلها بخلاف ذلك، وكان الـمسلـمون جميعا قد نقلوا عن نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم أنه أكره علـى الإسلام قوما، فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالـمرتدّ عن دينه دين الـحقّ إلـى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين علـى الإسلام بقبوله الـجزية منه، وإقراره علـى دينه البـاطل، وذلك كأهل الكتابـين، ومن أشبههم¹ كان بـينا بذلك أن معنى قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} إنـما هو لا إكراه فـي الدين لأحد مـمن حل قبول الـجزية منه بأدائه الـجزية، ورضاه بحكم الإسلام. ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الـحكم بـالإذن بـالـمـحاربة. فإن قال قائل: فما أنت قائل فـيـما روي عن ابن عبـاس وعمن رُوي عنه: من أنها نزلت فـي قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم علـى الإسلام؟ قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل فـي خاصّ من الأمر، ثم يكون حكمها عاما فـي كل ما جانس الـمعنى الذي أنزلت فـيه. فـالذين أنزلت فـيهم هذه الآية علـى ما ذكر ابن عبـاس وغيره، إنـما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى اللّه تعالـى ذكره عن إكراههم علـى الإسلام، وأنزل بـالنهي عن ذلك آية يعمّ حكمها كل من كان فـي مثل معناهم مـمن كان علـى دين من الأديان التـي يجوز أخذ الـجزية من أهلها، وإقرارهم علـيها علـى النـحو الذي قلنا فـي ذلك. ومعنى قوله: {لا إكْرَاهَ فِـي الدّينِ} لا يكره أحد فـي دين الإسلام علـيه، وإنـما أدخـلت الألف واللام فـي الدين تعريفـا للدين الذي عنى اللّه بقوله: لا إكراه فـيه، وأنه هو الإسلام. وقد يحتـمل أن يكون أدخـلتا عقـيبـا من الهاء الـمنوية فـي الدين، فـيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلـيّ العظيـم لا إكراه فـي دينه، قد تبـين الرشد من الغيّ. وكأنّ هذا القول أشبه بتأويـل الآية عندي. وأما قوله: {قَدْ تَبَـيّنَ الرّشْدُ} فإنه مصدر من قول القائل: رَشِدتُ فأنا أرْشَدُ رَشَدا ورُشْدا وَرَشادا، وذلك إذا أصاب الـحقّ والصوابوأما الغيّ، فإنه مصدر من قول القائل: قد غَوَى فلان فهو يَغْوَى غَيّا وغَوَايَةً. وبعض العرب يقول: غَوَى فلان يَغْوَى. والذي علـيه قراءة القراء: {ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى} بـالفتـح، وهي أفصح اللغتـين، وذلك إذا عدا الـحقّ وتـجاوزه فضلّ. فتأويـل الكلام إذا: (قد وضح الـحقّ من البـاطل، واستبـان لطالب الـحق والرشاد وجه مطلبه، فتـميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابـين، ومن أبحت لكم أخذ الـجزية منه، علـى دينكم، دين الـحق¹ فإن من حاد عن الرشاد بعد استبـانته له، فإلـى ربه أمره، وهو ولـيّ عقوبته فـي معاده. ٢٥٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {اللّه وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ ...} اختلف أهل التأويـل فـي معنى الطاغوت، فقال بعضهم: هو الشيطان. ذكر من قال ذلك: ٤٧٠١ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن حسان بن فـائد العبسي قال: قال عمر بن الـخطاب: الطاغوت: الشيطان. حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن أبـي إسحاق، عن حسان بن فـائد، عن عمر، مثله. ٤٧٠٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عمن حدثه، عن مـجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان. ٤٧٠٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبـي، قال: الطاغوت: الشيطان. ٤٧٠٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بـالطّاغُوتِ} قال: الشيطان. ٤٧٠٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، الطاغوت: الشيطان. ٤٧٠٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بـالطّاغُوتِ} بـالشيطان. وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر. ذكر من قال ذلك: ٤٧٠٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى قال: حدثنا داود، عن أبـي العالـية، أنه قال: الطاغوت: الساحر. وقد خولف عبد الأعلـى فـي هذه الرواية، وأنا أذكر الـخلاف بعد. ٤٧٠٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن مـحمد، قال: الطاغوت: الساحر. وقال آخرون: بل الطاغوت: هو الكاهن. ذكر من قال ذلك: ٤٧٠٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، قال: الطاغوت: الكاهن. ٤٧١٠ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفـيع، قال: الطاغوت: الكاهن. ٤٧١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {فَمَنْ يَكْفُرْ بـالطّاغُوتِ} قال: كهان تنزل علـيها شياطين يـلقون علـى ألسنتهم وقلوبهم. أخبرنـي أبو الزبـير عن جابر بن عبد اللّه ، أنه سمعه يقول: وسئل عن الطواغيت التـي كانوا يتـحاكمون إلـيها، فقال: كان فـي جهينة واحد، وفـي أسلـم واحد، وفـي كل حيّ واحد، وهي كهان ينزل علـيها الشيطان. والصواب من القول عندي فـي الطاغوت: أنه كل ذي طغيان علـى اللّه فعبد من دونه، إما بقهر منه لـمن عبده، وإما بطاعة مـمن عبده له، إنسانا كان ذلك الـمعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنـما، أو كائنا ما كان من شيء. وأرى أن أصل الطاغوت: الطّغَوُوت، من قول القائل: طغا فلان يطغو: إذا عدا قدره فتـجاوز حدّه، كالـجبروت من التـجبر، والـخـلبوت من الـخَـلْب، ونـحو ذلك من الأسماء التـي تأتـي علـى تقدير فعلوت بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه أعنـي لام الطغووت، فجعلت له عينا، وحوّلت عينه فجعلت مكان لامه، كما قـيـل جذب وجبد وجابذ وجاذب وصاعقة وصاقعة، وما أشبه ذلك من الأسماء التـي علـى هذا الـمثال. فتأويـل الكلام إذا: فمن يجحد ربوبـية كل معبود من دون اللّه فـيكفر به {ويُؤْمِنْ بِـاللّه } يقول: ويصدق بـاللّه أنه إلهه وربه ومعبوده، {فَقَدِ اسْتَـمْسَكَ بـالعُرْوَةِ الوُثْقَـى} يقول: فقد تـمسك بأوثق ما يتـمسك به من طلب الـخلاص لنفسه من عذاب اللّه وعقابه. كما: ٤٧١٢ـ حدثنـي أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، قال: حدثنا ابن أبـي مريـم، عن حميد بن عقبة، عن أبـي الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته فوجده فـي السّوْق وهو يغرغر لا يفقهون ما يريد، فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم يريد أن يقول: آمنت بـاللّه وكفرت بـالطاغوت. قال أبو الدرداء: وما علـمكم بذلك؟ قالوا: لـم يزل يرددها حتـى انكسر لسانه، فنـحن نعلـم أنه إنـما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلـح صاحبكم، إن اللّه يقول: {فَمَنْ يَكْفُرُ بـالطّاغُوتِ وَيُؤمِنُ بِـاللّه فَقَدِ اسْتَـمْسَكَ بـالعُرْوَةِ الوُثْقَـى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ}. ٤٧١٣ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: هو نـمروذ بن كنعان. ٤٧١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نـمروذ. ٤٧١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، مثله. ٤٧١٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنـي زيد بن أسلـم، بـمثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: هو نـمروذ. قال ابن جريج: هو نـمروذ، ويقال إنه أول ملك فـي الأرض. ٢٥٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبّهِ ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ألـم تر يا مـحمد إلـى الذي حاجّ إبراهيـم فـي ربه حين قال له إبراهيـم: ربـيَ الذي يحيـي ويـميت، يعنـي بذلك: ربـي الذي بـيده الـحياة والـموت يحيـي من يشاء ويـميت من أراد بعد الإحياء، قال: أنا أفعل ذلك، فأحيـي وأميت، أستـحيـي من أردت قتله، فلا أقتله، فـيكون ذلك منـي إحياء له. وذلك عند العرب يسمى إحياء، كما قال تعالـى ذكره: {وَمَنْ أحْيَاها فَكأنّـمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا} وأقتل آخر فـيكون ذلك منـي إماتة له. قال إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم: فإن اللّه الذي هو ربـي يأتـي بـالشمس من مشرقها، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها! قال اللّه تعالـى ذكره: {فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ} يعنـي انقطع وبطلت حجته، يقال منه: بُهت يُبْهَتُ بَهْتا، وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا الـمعنى: بَهِتَ، ويقال: بَهَتّ الرجل إذا افتريت علـيه كذبـا بَهْتا وَبُهْتانا وبَهَاتةً. وقد روي عن بعض القرءة أنه قرأ: (فَبَهَتَ الّذِي كَفَرَ) بـمعنى: فبهت إبراهيـم الذي كفر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٧١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {إذْ قال إبْرَاهِيـمُ رَبـيَ الّذِي يُحْيـي ويُـمِيتُ، قال أنا أُحْيِـي وأُمِيتُ} وذكر لنا أنه دعا برجلـين، فقتل أحدهما، واستـحيا الاَخر، فقال: أنا أحيـي هذا، أنا أستـحيـي من شئت، وأقتل من شئت، قال إبراهيـم عند ذلك: {فإنّ اللّه يَأْتِـي بـالشّمْسِ مِنَ الـمَشْرِقِ فَـأْتِ بِها مِنَ الـمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ}. ٤٧١٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أنا أحيـي وأميت: أقتل من شئت، وأستـحيـي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله وقال: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان، وكافران، فـالـمؤمنان: سلـيـمان بن داود، وذو القرنـين والكافرون: بختنصر ونـمروذ بن كنعان، لـم يـملكها غيرهم. ٤٧١٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلـم: أول جبـار كان فـي الأرض نـمروذ، فكان الناس يخرجون فـيـمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيـم يـمتار مع من يـمتار، فإذا مرّ به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت. حتـى مرّ إبراهيـم، قال: من ربك؟ قال: الذي يحيـي ويـميت، قال: أنا أحيـي وأميت، {قالَ إبراهيـمُ فإنّ اللّه يَأتِـي بـالشّمْسِ مِنَ الـمَشْرِقِ فَـأْتِ بِهَا مِنَ الـمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ} قال: فردّه بغير طعام قال: فرجع إبراهيـم علـى أهله فمرّ علـى كثـيب من رمل أعفر، فقال: ألا آخذ من هذا فآتـي به أهلـي فتطيب أنفسهم حين أدخـل علـيهم؟ فأخذ منه فأتـى أهله، قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلـى متاعه، ففتـحته، فإذا هي بأجود طعام رأته، فصنعت له منه، فقرّبته إلـيه. وكان عهده بأهله أنه لـيس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به. فعلـم أن اللّه رزقه، فحمد اللّه . ثم بعث اللّه إلـى الـجبـار ملكا أن آمن بـي وأتركك علـى ملكك! قال: وهل ربّ غيري؟ فجاءه الثانـية، فقال له ذلك، فأبى علـيه. ثم أتاه الثالثة فأبى علـيه، فقال له الـملك: اجمع جموعك إلـى ثلاثة أيام! فجمع الـجبـار جموعه، فأمر اللّه الـملك، ففتـح علـيه بـابـا من البعوض، فطلعت الشمس، فلـم يروها من كثرتها، فبعثها اللّه علـيهم فأكلت لـحومهم، وشربت دماءهم، فلـم يبق إلـى العظام، والـمِلك كما هو لـم يصبه من ذلك شيء. فبعث اللّه علـيه بعوضة، فدخـلت فـي منـخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بـالـمطارق، وأرْحَمُ الناس به من جَمَعَ يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبـارا أربعمائة عام، فعذّبه اللّه أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته اللّه . وهو الذي بنى صرحا إلـى السماء فأتـى اللّه بنـيانه من القواعد، وهو الذي قال اللّه : {فَأتـى اللّه بُنْـيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ}. ٤٧٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم فـي قول اللّه : {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهِ} قال: هو نـمروذ كان بـالـموصل والناس يأتونه، فإذا دخـلوا علـيه، قال: من ربكم؟ فـيقولون: أنت، فـ يقول: ميروهم! فلـما دخـل إبراهيـم، ومعه بعير خرج يـمتار به لولده قال: فعرضهم كلهم، فـ يقول: من ربكم؟ فـيقولون: أنت، فـ يقول: ميروهم! حتـى عرض إبراهيـم مرّتـين، فقال: من ربك؟ قال: ربـي الذي يحيـي ويـميت، قال: أنا أحيـي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت استـحيـيتك. {قالَ إبرَاهِيـمُ فإنّ اللّه يَأْتِـي بـالشّمْسِ مِنَ الـمَشْرِقِ فَـأْتِ بِها مِنَ الـمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ} قال: أخرجوا هذا عنـي فلا تـميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا. وجُوَالِقا إبراهيـم يصطفقان، حتـى إذا نظر إلـى سواد جبـال أهله، قال: لـيحزننـي صبـياي إسماعيـل وإسحاق، لو أنـي ملأت هذين الـجوالقـين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرّت عينا صبـيّـيّ، حتـى إذا كان اللـيـل أهرقته قال: فملأهما ثم خيطهما، ثم جاء بهما، فترامى علـيهما الصبـيان فرحا، وألقـى رأسه فـي حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسنـي! قد جاء إبراهيـم تعبـا لغبـا، لو قمت صنعت له طعاما إلـى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخـلتها مكانها، وانسلت قلـيلاً قلـيلاً لئلا توقظه قال: فجاءت إلـى إحدى الغِرارتـين ففتقتها، فإذا حوّاري من النقـي لـم يروا مثله عند أحد قط، فأخذت منه فطحنته وعجنته. فلـما أتت توقظ إبراهيـم جاءته حتـى وضعته بـين يديه، فقال: أيّ شيء هذا يا سارة؟ قالت: من جُوالقك، لقد جئت وما عندنا قلـيـل ولا كثـير قال: فذهب ينظر إلـى الـجوالق الاَخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك. ٤٧٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: لـما قال له إبراهيـم: ربـي الذي يحيـي ويـميت، قال هو، يعنـي نـمروذ: فأنا أحيـي وأميت، فدعا برجلـين، فـاستـحياأحدهما، وقتل الاَخر، قال: أنا أحيـي وأميت، قال: أي أستـحيـي من شئت، فقال إبراهيـم: {فإنّ اللّه يَأْتِـي بـالشّمْسِ مِنَ الـمَشْرِقِ فـأْتِ بِها مِنَ الـمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ}. ٤٧٢٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما خرج إبراهيـم من النار، أدخـلوه علـى الـملك، ولـم يكن قبل ذلك دخـل علـيه فكلـمه، وقال له: من ربك؟ قال: ربـي الذي يحيـي ويـميت، قال نـمروذ: أنا أحيـي وأميت، أنا أدخـل أربعة نفر بـيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتـى إذا هلكوا من الـجوع أطعمت اثنـين وسقـيتهما فعاشا، وتركت اثنـين فماتا! فعرف إبراهيـم أن له قدرة بسلطانه وملكه علـى أن يفعل ذلك. قال له إبراهيـم: فإن ربـي الذي يأتـي بـالشمس من الـمشرق، فأت بها من الـمغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مـجنون، فأخرجوه! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ علـى آلهتكم فكسرها، وأن النار لـم تأكله؟ وخشي أن يفتضح فـي قومه ـ أعنـي نـمروذ ـ وهو قول اللّه تعالـى ذكره: {وَتِلكَ حُجّتُنَا آتَـيْنَاها إبْرَاهِيـمَ عَلَـى قَوْمِهِ} فكان يزعم أنه ربّ. وأمر بإبراهيـم فأخرج. ٤٧٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: قال: أنا أحيـي وأميت، أحيـي فلا أقتل، وأميت من قتلت. قال ابن جريج، كان أتـى برجلـين، فقتل أحدهما، وترك الاَخر، فقال: أنا أحيـي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيـي، قال: أستـحيـي فلا أقتل. ٤٧٢٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: ذكر لنا واللّه أعلـم. أن نـمروذ قال لإبراهيـم فـيـما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبده، وتدعو إلـى عبـادته، وتذكر من قدرته التـي تعظمه بها علـى غيره، ما هو؟ قال له إبراهيـم: ربـي الذي يحيـي ويـميت. قال نـمروذ: فأنا أحيـي وأميت. فقال له إبراهيـم: كيف تـحيـي وتـميت؟ قال: آخذ رجلـين قد استوجبـا القتل فـي حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمّته، وأعفو عن الاَخر فأتركه وأكون قد أحيـيته. فقال له إبراهيـم عند ذلك: فإن اللّه يأتـي بـالشمس من الـمشرق، فأت بها من الـمغرب، أعرفْ أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نـمروذ، ولـم يرجع إلـيه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالـى ذكره: {فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ} يعنـي وقعت علـيه الـحجة، يعنـي نـمروذ وقوله: {وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ} يقول: واللّه لا يهدي أهل الكفر إلـى حجة يدحضون بها حجة أهل الـحق عند الـمـحاجة والـمخاصمة، لأن أهل البـاطل حججهم داحضة. وقد بـينا أن معنى الظلـم: وضع الشيء فـي غير موضعه، والكافر: وضع جحوده ما جحد فـي غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالـم لنفسه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال ابن إسحاق. ٤٧٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق: {وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ} أي لا يهديهم فـي الـحجة عند الـخصومة لـما هم علـيه من الضلالة. ٢٥٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىَ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا ...} يعني تعالى ذكره بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} نظير الذي عنى بقوله: {ألَـمْ تَرَ الّذِي حاجّ إبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهَ} من تعجيب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم منهوقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} عطف علـى قوله: {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهِ}. وإنـما عطف قوله: {أوْ كالّذِي} علـى قوله: {إلـى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهِ} وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنـيـيهما، لأن قوله: {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهِ} بـمعنى: هل رأيت يا مـحمد كالذي حاجّ إبراهيـم فـي ربه، ثم عطف علـيه بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} لأن من شأن العرب العطف بـالكلام علـى معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن (الكاف) فـي قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} زائدة، وأن الـمعنى: ألـم ترى إلـى الذي حاجّ إبراهيـم، أو الذي مرّ علـى قرية. وقد بـينا قبل فـيـما مضى أنه غير جائز أن يكون فـي كتاب اللّه شيء لا معنى له بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضعت. واختلف أهل التأويـل فـي الذي مرّ علـى قرية وهي خاوية علـى عروشها، فقال بعضهم: هو عُزَيْر. ذكر من قال ذلك: ٤٧٢٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن ناجية بن كعب: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها} قال: عزير. ٤٧٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا أبو خزيـمة، قال: سمعت سلـيـمان بن بريدة فـي قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ عَلَـى قَرْيَةٍ} قال: هو عزير. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاويَةٌ علـى عُرُوشِها} قال: ذكر لنا أنه عزير. ٤٧٢٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة (مثله). ٤٧٢٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} قال: قال الربـيع: ذكر لنا واللّه أعلـم أن الذي أتـى علـى القرية هو عزير. ٤٧٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَـى عُرُوشِها} قال: عزير. ٤٧٣١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} قال: عزير. ٤٧٣٢ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {أوْ كالّذي مَرّ عَلَـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ علـى عُرُوشِهَا} إنه هو عزير. ٤٧٣٣ـ حدثنـي يونس، قال: قال لنا سلـم الـخواص: كان ابن عبـاس يقول: هو عزير. وقال آخرون: هو إرميا بن حلقـيّا وزعم مـحمد بن إسحاق أن إرميا هو الـخضر. ٤٧٣٤ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: اسم الـخضر فـيـما كان وهب بن منبه يزعم عن بنـي إسرائيـل، إرميا بن حلَقـيّا، وكان من سبط هارون بن عمران. ذكر من قال ذلك: ٤٧٣٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول فـي قوله: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} أن إرميا لـما خرِب بـيت الـمقدس وحرقت الكتب، وقـف فـي ناحية الـجبل، فقال: {أَنى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا}. ٤٧٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو إرميا. حدثنـي مـحمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله. ٤٧٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن قـيس بن سعد، عن عبد اللّه بن عبـيد بن عمير فـي قول اللّه : {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها} قال: كان نبـيا وكان اسمه إرميا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قـيس بن سعد، عن عبد اللّه بن عبـيد، مثله. ٤٧٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي بكر بن مضر قال: يقولون واللّه أعلـم: إنه إرميا. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره عجّب نبـيه صلى اللّه عليه وسلم مـمن قال إذ رأى قرية خاوية علـى عروشها: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} مع علـمه أنه ابتدأ خـلقها من غير شيء، فلـم يقنعه علـمه بقدرته علـى ابتدائها، حتـى قال: أنى يحيـيها اللّه بعد موتها! ولا بـيان عندنا من الوجه الذي يصحّ من قبله البـيان علـى اسم قائل ذلك، وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون إرميَا، ولا حاجة بنا إلـى معرفة اسمه، إذ لـم يكن الـمقصود بـالآية تعريف الـخـلق اسم قائل ذلك. وإنـما الـمقصود بها تعريف الـمنكرين قدرة اللّه علـى إحيائه خـلقه بعد مـماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بـيده الـحياة والـموت من قريش، ومن كان يكذّب بذلك من سائر العرب، وتثبـيت الـحجة بذلك علـى من كان بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل بإطلاعه نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى ما يزيـل شكهم فـي نبوّته، ويقطع عذرهم فـي رسالته، إذ كانت هذه الأنبـاء التـي أوحاها إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابه من الأنبـاء التـي لـم يكن يعلـمها مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وقومه، ولـم يكن علـم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولـم يكن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجره أن مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم لـم يعلـم ذلك إلا بوحي من اللّه إلـيه. ولو كان الـمقصود بذلك الـخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة علـيه نصبـا يقطع العذر ويزيـل الشك، ولكن القصد كان إلـى ذمّ قـيـله، فأبـان تعالـى ذكره ذلك لـخـلقه. واختلف أهل التأويـل فـي القرية التـي مرّ علـيها القائل: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} فقال بعضهم: هي بـيت الـمقدس. ذكر من قال ذلك: ٤٧٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر ومـحمد بن عبد الـملك، قالا: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: لـما رأى إرميا هدم بـيت الـمقدس كالـجبل العظيـم، قال: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها}. ثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بـيت الـمقدس. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك. ٤٧٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بـيت الـمقدس، أتـى عزير بعد ما خرّبه بختنصر البـابلـي. ٤٧٤١ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ عَلَـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها} أنه مرّ علـى الأرض الـمقدسة. ٤٧٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة فـي قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} قال: القرية: بـيت الـمقدس، مرّ بها عُزَيْر بعد إذ خرّبها بختنصر. ٤٧٤٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {أوْ كالّذِي مَرّ عَلـى قَرْيَةٍ} قال: القرية بـيت الـمقدس، مرّ علـيها عزير وقد خرّبها بختنصر. وقال آخرون: بل هي القرية التـي كان اللّه أهلك فـيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الـموت، فقال لهم (اللّه ) موتوا. ذكر من قال ذلك: ٤٧٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه تعالـى ذكره: {ألَـمْ تَرَى إلـى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} قال: قرية كان نزل بها الطاعون، ثم اقتصّ قصتهم التـي ذكرناها فـي موضعها عنه، إلـى أن بلغ فقال لهم اللّه موتوا فـي الـمكان الذي ذهبوا يبتغون فـيه الـحياة، فماتوا ثم أحياهم اللّه {إنّ اللّه لَذُو فَضْلٍ علـى النّاسِ ولكنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} قال: ومرّ بها رجل وهي عظام تلوح، فوقـف ينظر، فقال {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها، فَأماتَهُ اللّه مائَةَ عامٍ ثُمّ بَعَثَهُ} إلـى قوله {لَـمْ يَتَسَنّه}. والصواب من القول فـي ذلك كالقول فـي اسم القائل: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} سواء لا يختلفـان. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهِيَ خاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} وهي خالـية من أهلها وسكانها، يقال من ذلك: خوت الدار تَـخْوي خَواءً وخُوِيّا، وقد يقال للقرية: خَوِيَت، والأول أعرب وأفصحوأما فـي الـمرأة إذا كانت نفساء فإنه يقال: خَوِيَتْ تَـخْوَى خَوًى منقوصا، وقد يقال فـيها: خَوَتْ تَـخْوِي، كما يقال فـي الدار، وكذلك خَوِيَ الـجوف يَخْوَى خَواءً شَديدا، ولو قـيـل فـي الـجوف ما قـيـل فـي الدار وفـي الدار ما قـيـل فـي الـجوف كان صوابـا، غير أن الفصيح ما ذكرتوأما العروش: فإنها الأبنـية والبـيوت، واحدها عَرْش، وجمع قلـيـله أَعْرُش، وكل بناء فإنه عرش، ويقال: عرش فلان (دارا) يعرِش ويعرُش، وعرّش تعريشا، ومنه قول اللّه تعالـى ذكره: {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} يعنـي يبنون، ومنه قـيـل عريش مكة، يعنـي به: خيامها وأبنـيتها. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٧٤٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس : خاوية: خراب. قال ابن جريج: بلغنا أن عزيرا خرج فوقـف علـى بـيت الـمقدس وقد خرّبه بختنصر، فوقـف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والـمقاتِلة والـمال ما كان! فحزن. ٤٧٤٦ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها} قال: هي خراب. ٤٧٤٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: مرّ علـيها عزير وقد خرّبها بختنصر. ٤٧٤٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها} يقول: ساقطة علـى سقـفها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قالَ أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّه مِائَةَ عامٍ}. ومعنى ذلك فـيـما ذكرت: أن قائله لـما مرّ ببـيت الـمقدس، أو بـالـموضع الذي ذكر اللّه أنه مرّ به خرابـا بعد ما عهده عامرا، قال: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها}؟ فقال بعضهم: كان قـيـله ما قال من ذلك شكّا فـي قدرة اللّه علـى إحيائه. فأراه اللّه قدرته علـى ذلك بضربه الـمثل له فـي نفسه، ثم أراه الـموضع الذي أنكر قدرته علـى عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمر ما كان قبل خرابه. وذلك أن قائل ذلك كان فـيـما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويا علـى عروشه، قد بـاد أهله وشتتهم القتل والسبـاء، فلـم يبق منهم بذلك الـمكان أحد، وخربت منازلهم ودورهم، فلـم يبق إلا الأثر. فلـما رآه كذلك بعد الـحال التـي عهده علـيها، قال: علـى أيّ وجه يحيـي هذه اللّه بعد خرابها فـيعمرها! استنكارا فـيـما قاله بعض أهل التأويـل. فأراه كيفـية إحيائه ذلك بـما ضربه له فـي نفسه، وفـيـما كان من شرابه وطعامه، ثم عرّفه قدرته علـى ذلك وعلـى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبـا عنده فـي قدرة اللّه إحياؤه لرأي عينه حتـى أبصره ببصره، فلـما رأى ذلك قال: {أعْلَـمُ أنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وكان سبب قـيـله ذلك كالذي: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي أنه كان يقول: قال اللّه لإرميا حين بعثه نبـيا إلـى بنـي إسرائيـل: يا إرميا من قبل أن أخـلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فـي رحم أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيـم اجتبـيتك، فبعث اللّه تعالـى ذكره إرميا إلـى ملك بنـي إسرائيـل يسدّده ويرشده، ويأتـيه بـالـخبر من اللّه فـيـما بـينه وبـينه قال: ثم عظمت الأحداث فـي بنـي إسرائيـل، وركبوا الـمعاصي، واستـحلوا الـمـحارم، ونسوا ما كان اللّه صنع بهم، وما نـجاهم من عدوّهم سنـحاريب، فأوحى اللّه إلـى إرميا: أن ائت قومك من بنـي إسرائيـل، فـاقصص علـيهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتـي علـيهم وعرّفهم أحداثهم، ثم ذكر ما أرسل اللّه به إرميا إلـى قومه من بنـي إسرائيـل، قال: ثم أوحى اللّه إلـى إرميا: إنـي مهلك بنـي إسرائيـل بـيافث، ويافث أهل بـابل، وهم من ولد يافث بن نوح¹ فلـما سمع إرميا وحي ربه، صاح وبكى وشقّ ثـيابه، ونبذ الرماد علـى رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فـيه، ويوم لقـيت التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فـيه، فما أبقـيت آخر الأنبـياء إلا لـما هو شرّ علـيّ، لو أراد بـي خيرا ما جعلنـي آخر الأنبـياء من بنـي إسرائيـل، فمن أجلـي تصيبهم الشقوة والهلاك¹ فلـما سمع اللّه تضرّع الـخضر وبكاءه وكيف يقول: ناداه: إرميا أشقّ علـيك ما أوحيت إلـيك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكنـي فـي بنـي إسرائيـل ما لا أسرّ به، فقال اللّه : وعزتـي العزيزة لا أهلك بـيت الـمقدس وبنـي إسرائيـل حتـى يكون الأمر من قبلك فـي ذلك، ففرح عند ذلك إرميا لـما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبـياءه بـالـحقّ، لا آمر ربـي بهلاك بنـي إسرائيـل أبدا، ثم أتـى ملك بنـي إسرائيـل، وأخبره بـما أوحى اللّه إلـيه، ففرح واستبشر، وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثـيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفـا عنا فبقدرته¹ ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنـين لـم يزدادوا إلا معصية، وتـمادوا فـي الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحي، حتـى لـم يكونوا يتذكرون الاَخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنـيا وشأنها، فقال ملكهم: يا بنـي إسرائيـل انتهوا عما أنتـم علـيه قبل أن يـمسكم بأس من اللّه ، وقبل أن يبعث علـيكم ملوك لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط الـيدين بـالـخير، رحيـم من تاب إلـيه، فأبوا علـيه أن ينزعوا عن شيء مـما هم علـيه، وإن اللّه ألقـى فـي قلب بختنصر بن نعون بن زادان أن يسير إلـى بـيت الـمقدس، ثم يفعل فـيه ما كان جده سنـحاريب أراد أن يفعله، فخرج فـي ستـمائة ألف راية يريد أهل بـيت الـمقدس فلـما فصل سائرا أتـى ملك بنـي إسرائيـل الـخبر أن بختنصر أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الـملك إلـى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربنا أوحى إلـيك أن لا يهلك أهل بـيت الـمقدس حتـى يكون منك الأمر فـي ذلك، فقال إرميا للـملك: إن ربـي لا يخـلف الـميعاد، وأنا به واثق¹ فلـما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم اللّه علـى هلاكهم، بعث اللّه ملكا من عنده، فقال له: اذهب إلـى إرميا فـاستفته، وأمره بـالذي يستفتـيه فـيه، فأقبل الـمَلك إلـى إرميا، وقد تـمثل له رجلاً من بنـي إسرائيـل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بنـي إسرائيـل أستفتـيك فـي بعض أمري، فأذن له، فقال الـملك: يا نبـيّ اللّه أتـيتك أستفتـيك فـي أهل رحمي، وصلت أرحامهم بـما أمرنـي اللّه به، لـم آت إلـيهم إلا حسَنا، ولـم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتـي إياهم إلا إسخاطا لـي، فأفتنـي فـيهم يا نبـيّ اللّه ، فقال له: أحسن فـيـما بـينك وبـين اللّه ، وصل ما أمرك اللّه به أن تصل، وأبشر بخير، فـانصرف عنه الـملك¹ فمكث أياما ثم أقبل إلـيه فـي صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بـين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتـيتك فـي شأن أهلـي، فقال له نبـيّ اللّه ، أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولـم تر منهم الذي تـحب، فقال: يا نبـيّ اللّه ، والذي بعثك بـالـحقّ ما أعلـم كرامة يأتـيها أحد من الناس إلـى أهل رحمه إلا وقد أتـيتها إلـيهم وأفضل من ذلك، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: ارجع إلـى أهلك فأحسن إلـيهم، اسأل اللّه الذي يصلـح عبـاده الصالـحين أن يصلـح ذات بـينكم، وأن يجمعكم علـى مرضاته، ويجنبكم سخطه، فقال الـملك من عنده، فلبث أياما، وقد نزل بختنصر بجنوده حول بـيت الـمقدس أكثر من الـجراد، ففزع بنو إسرائيـل فزعا شديدا، وشقّ ذلك علـى ملك بنـي إسرائيـل، فدعا إرميا، فقال: يا نبـيّ اللّه ، أين ما وعدك اللّه ، إنـي بربـي واثق، ثم إن الـملك أقبل إلـى إرميا وهو قاعد علـى جدار بـيت الـمقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بـين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتـيك فـي شأن أهلـي مرتـين، فقال له النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أو لـم يأن لهم أن يفـيقوا من الذي هم فـيه؟ فقال الـملك: يا نبـيّ اللّه كل شيء كان يصيبنـي منهم قبل الـيوم كنت أصبر علـيه، وأعلـم أنـما قصدهم فـي ذلك سخطي، فلـما أتـيتهم الـيوم رأيتهم فـي عمل لا يرضي اللّه ، ولا يحبه اللّه ، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: علـى أيّ عمل رأيتهم؟ قال: يا نبـيّ اللّه رأيتهم علـى عمل عظيـم من سخط اللّه ، ولو كانوا علـى مثل ما كانوا علـيه قبل الـيوم لـم يشتدّ علـيهم غضبـي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت الـيوم لله ولك، فأتـيتك لأخبرك خبرهم، وإنـي أسألك بـاللّه الذي بعثك بـالـحقّ إلا ما دعوت علـيهم ربك أن يهلكهم، فقال إرميا: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا علـى حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا علـى سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم¹ فلـما خرجت الكلـمة من فـي إرميا أرسل اللّه صاعقة من السماء فـي بـيت الـمقدس، فـالتهب مكان القربـان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها¹ فلـما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثـيابه، ونبذ الرماد علـى رأسه، فقال: يا ملك السماء، ويا أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتنـي؟ فنودي إرميا إنه لـم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتـياك التـي أفتـيت بها رسولنا، فـاستـيقن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنها فتـياه التـي أفتـى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه، فطار إرميا حتـى خالط الوحوش، ودخـل بختنصر وجنوده بـيت الـمقدس، فوطىء الشام وقتل بنـي إسرائيـل حتـى أفناهم، وخرّب بـيت الـمقدس، ثم أمر جنوده أن يـملأ كل رجل منهم ترسه ترابـا ثم يقذفه فـي بـيت الـمقدس، فقذفوا فـيه التراب حتـى ملئوه، ثم انصرف راجعا إلـى أرض بـابل، واحتـمل معه سبـايا بنـي إسرائيـل، وأمرهم أن يجمعوا من كان فـي بـيت الـمقدس كلهم، فـاجتـمع عنده كل صغير وكبـير من بنـي إسرائيـل، فـاختار منهم تسعين ألف صبـيّ¹ فلـما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فـيهم، قالت له الـملوك الذي كانوا معه: أيها الـملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بـيننا هؤلاء الصبـيان الذين اخترتهم من بنـي إسرائيـل، ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعة غلـمة، وكان من أولئك الغلـمان: دانـيال، وعزاريا، ومسايـل، وحنانـيا. وجعلهم بختنصر ثلاث فرق: فثلثا أقرّ بـالشام، وثلثا سبـي، وثلثا قتل، وذهب بأسبـية بـيت الـمقدس حتـى أقدمها بـابل وبـالصبـيان التسعين الألف حتـى أقدمهم بـابل، فكانت هذه الواقعة الأولـى التـي ذكر اللّه تعالـى ذكره نبـيّ اللّه بأحداثهم وظلـمهم، فلـما ولـى بختنصر عنه راجعا إلـى بـابل بـمن معه من سبـايا بنـي إسرائيـل، أقبل إرميا علـى حمار له معه عصير من عنب فـي زكرة وسلة تـين، حتـى أتـى إيـلـيا، فلـما وقـف علـيها، ورأى ما بها من الـخراب دخـله شك، فقال: {أَنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّه مِائَةَ عامٍ} وحماره وعصيره وسلة تـينه عنده حيث أماته اللّه ، ومات حماره معه، فأعمى اللّه عنه العيون، فلـم يره أحد، ثم بعثه اللّه تعالـى، فقال له: {كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَـانْظُرْ إلـى طَعَامِكَ وَشرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّه} يقول: لـم يتغير {وَانْظُرْ إلـى حِمارِكَ وَلِنَـجْعَلَك آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَـحْما} فنظر إلـى حماره يتصل بعضه إلـى بعض، وقد مات معه بـالعروق والعصب، ثم كيف كسي ذلك منه اللـحم، حتـى استوى، ثم جرى فـيه الروح، فقام ينهق، ونظر إلـى عصيره وتـينه، فإذا هو علـى هيئته حين وضعه لـم يتغير. فلـما عاين من قدرة اللّه ما عاين قال: أعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير، ثم عمر اللّه إرميا بعد ذلك، فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان. ٤٧٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عسكر وابن زَنْـجُوَيْه، قالا: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى اللّه إلـى إرميا وهو بأرض مصر أن الـحق بأرض إيـلـيا، فإن هذه لـيست لك بأرض مقام، فركب حماره، حتـى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتـين، وكان معه سقاء جديد، فملأه ماء، فلـما بدا له شخص بـيت الـمقدس وما حوله من القرى والـمساجد، ونظر إلـى خراب لا يوصف، ورأى هَدم بـيت الـمقدس كالـجبل العظيـم، قال: {أَنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} وسار حتـى تبوأ منها منزلاً، فربط حماره بحبل جديد. وعلق سقاءه، وألقـى اللّه علـيه السبـات¹ فلـما نام نزع اللّه روحه مائة عام¹ فلـما مرّت من الـمائة سبعون عاما، أرسل اللّه ملكا إلـى ملك من ملوك فـارس عظيـم يقال له يوسك، فقال: إن اللّه يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بـيت الـمقدس وإيـلـياء وأرضها، حتـى تعود أعمر ما كانت، فقال الـملك: أنظرنـي ثلاثة أيام حتـى أتأهب لهذا العمل ولـما يصلـحه من أداء العمل، فأنظره ثلاثة أيام، فـانتدب ثلاثمائة قهرمان، ودفع إلـى كل قهرمان ألف عامل، وما يصلـحه من أداة العمل، فسار إلـيها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل¹ فلـما وقعوا فـي العمل ردّ اللّه روح الـحياة فـي عين إرميا، وأخر جسده ميتا، فنظر إلـى إيـلـيا وما حولها من القرى والـمساجد والأنهار والـحروث تعمل وتعمر وتـجدّد، حتـى صارتا كما كانت. وبعد ثلاثـين سنة تـمام الـمائة، ردّ إلـيه الروح، فنظر إلـى طعامه وشرابه لـم يتسنّه، ونظر إلـى حماره واقـفـا كهيئته يوم ربطه لـم يطعم ولـم يشرب، ونظر إلـى الرّمة فـي عنق الـحمار لـم تتغير جديدة، وقد أتـى علـى ذلك ريح مائة عام وبرد مائة عامر وحرّ مائة عام، لـم تتغير ولـم تنتقض شيئا، وقد نـحل جسم إرميا من البلـى، فأنبت اللّه له لـحما جديدا، ونشزَ عظامه وهو ينظر، فقال له اللّه : {انْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلـى حِمَارِكَ وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوها لَـحْما فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَه قالَ أعْلَـمُ أنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ٤٧٥٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول فـي قوله: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} إن إرميا لـما خرب بـيت الـمقدس وحرقت الكتب، وقـف فـي ناحية الـجبل، فقال: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّه مِائَةَ عامٍ} ثم ردّ اللّه من ردّ من بنـي إسرائيـل علـى رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثـين سنة تـمام الـمائة¹ فلـما ذهبت الـمائة ردّ اللّه روحه وقد عُمّرت علـى حالها الأولـى، فجعل ينظر إلـى العظام كيف تلتام بعضها إلـى بعض، ثم نظر إلـى العظام كيف تكسى عصبـا ولـحما. {فَلَـمّا تَبَـيّنَ} له ذلك {قالَ أعْلَـمُ أنّ اللّه عَلـى كلّ شيءٍ قَدِيرٌ} فقال اللّه تعالـى ذكره: {انْظُرْ إلـى طعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ} قال: فكان طعامه تـينا فـي مكتل، وقُلّة فـيها ماء. ٤٧٥١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {أوْ كالّذِي مَرّ عَلـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ علـى عُرُوشِها} وذلك أن عزيرا مرّ جائيا من الشام علـى حمار له معه عصير وعنب وتـين¹ فلـما مرّ بـالقرية فرآها، وقـف علـيها وقلب يده وقال: كيف يحيـي هذه اللّه بعد موتها؟ لـيس تكذيبـا منه وشكّا. فأماته اللّه وأمات حماره، فهلكا ومرّ علـيهما مائة سنة. ثم إن اللّه أحيا عزيرا فقال له: كم لبثت؟ قال له: لبثت يوما أو بعض. قـيـل له: بل لبثت مائة عام، فـانظر إلـى طعامك من التـين والعنب، وشرابك من العصير {لَـمْ يَتَسَنّهْ}.. الآية. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {ثُمّ بَعَثَهُ} ثم أثاره حيا من بعد مـماته. وقد دللنا علـى معنى البعث فـيـما مضى قبل. وأما معنى قوله: {كَمْ لَبِثْتَ} فإن كم استفهام فـي كلام العرب عن مبلغ العدد، وهو فـي هذا الـموضع نصب بـ(لبثت)، وتأويـله: قال اللّه له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مـماتك حيا؟ قال الـمبعوث بعد مـماته: لبثت ميتا إلـى أن بعثتنـي حيا يوما واحدا أو بعض يوم. وذكر أن الـمبعوث هو إرميا أو عزير، أو من كان مـمن أخبر اللّه عنه هذا الـخبر. وإنـما قال: {لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن اللّه تعالـى ذكره كان قبض روحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخر النهار بعد الـمائة عام فقـيـل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما¹ وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقـية من الشمس قد بقـيت لـم تغرب، فقال: أو بعض يوم، بـمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالـى ذكره: {وأرْسَلْنَاهُ إلـى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ} بـمعنى: بل يزيدون. فكان قوله: {أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} رجوعا منه عن قوله: {لَبِثْتُ يَوْما}. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٧٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال: ذكر لنا أنه مات ضحى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: لبثت يوما. ثم التفت فرأى بقـية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فقال: بل لبثت مائة عام. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا} قال: مرّ علـى قرية فتعجب، فقال: أنى يحيـي هذه اللّه بعد موتها! فأماته اللّه أوّل النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه فـي آخر النهار، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام. ٤٧٥٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: قال الربـيع: أماته اللّه مائة عام، ثم بعثه، قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم قال: بل لبثت مائة عام. ٤٧٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: لـما وقـف علـى بـيت الـمقدس وقد خرّبه بختنصر، قال: أنى يحيـي هذه اللّه بعد موتها! كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته اللّه قال: وذكر لنا أنه مات ضحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: كم لبثت؟ قال: يوما. فلـما رأى الشمس، قال: أو بعض يوم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {فـانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم تغيره السنون التـي أتت علـيه. وكان طعامه فـيـما ذكر بعضهم سلة تـين وعنب وشرابه قلة ماء. وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تـين وشرابه زقّ من عصير. وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تـين، وشرابه دن خمر أو زُكْرَة خمر. وقد ذكرنا فـيـما مضى قول بعضهم فـي ذلك ونذكر ما فـيه فـيـما يستقبل إن شاء اللّه . وأما قوله {لَـمْ يَتَسَنّهْ} ففـيه وجهان من القراءة: أحدهما: (لـم يتسنّ) بحذف الهاء فـي الوصل وإثبـاتها فـي الوقـف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء فـي يتسنه زائدة صلة كقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وجعل فعلت منه: تسنـيت تسنـيا، واعتلّ فـي ذلك بأن السنة تـجمع سنوات، فـيكون تفعلت علـى نهجه. ومن قال فـي السنة سنـينة فجائز علـى ذلك وإن كان قلـيلاً أن يكون تسننت تفعلت، أبدلت النون ياء لـما كثرت النونات كما قالوا: تظنـيت وأصله الظن¹ وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: {من حَمَإٍ مَسْنُونٍ} وهو الـمتغير. وذلك أيضا إذا كان كذلك، فهو أيضا مـما بدلت نونه ياء، وهو قراءة عامة قرّاء الكوفة. والاَخر منهما: إثبـات الهاء فـي الوصل والوقـف، ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء فـي يتسنه لام الفعل ويجعلها مـجزومة بلـم، ويجعل فعلت منه تسنّهت، ويفعل: أتسنّه تسنّها، وقال فـي تصغير السنة: سُنَـيْهة، ومنه: أسنهت عند القوم، وتسنهت عندهم: إذا أقمت سنة، هذه قراءة عامة قراء أهل الـمدينة والـحجاز. والصواب من القراءة عندي فـي ذلك، إثبـات الهاء فـي الوصل والوقـف، لأنها مثبتة فـي مصحف الـمسلـمين، ولإثبـاتها وجه صحيح فـي كلتا الـحالتـين فـي ذلك. ومعنى قوله: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم يأت علـيه السنون فـيتغير، علـى لغة من قال: أسنهتُ عندكم أَسْنِهُ: إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر: ولَـيْسَتْ بِسَنْهاءٍ وَلا رُجّبِـيّةٍولكنْ عَرايا فـي السّنِـينَ الـجوائِح فجعل الهاء فـي السنة أصلاً، وهي اللغة الفصحى، وغير جائز حذف حرف من كتاب اللّه فـي حال وقـف أو وصل لإثبـاته وجه معروف فـي كلامها. فإن اعتلّ معتلّ بأن الـمصحف قد ألـحقت فـيه حروف هنّ زوائد علـى نـية الوقـف، والوجه فـي الأصل عند القراءة حذفهن، وذلك كقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} وقوله: {يا لَـيْتَنِـي لَـمْ أُوتَ كِتابِـيَهْ} فإن ذلك هو مـما لـم يكن فـيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألـحق علـى نـية الوقـف. فأما ما كان مـحتـملاً أن يكون أصلاً للـحرف غير زائد فغير جائز، وهو فـي مصحف الـمسلـمين مثبت صرفه إلـى أنه من الزوائد والصلات. علـى أن ذلك وإن كان زائدا فـيـما لا شك أنه من الزوائد، فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق به علـى نـحو منطقها به فـي حال القطع، فـيكون وصلها إياه وقطعها سواء. وذلك من فعلها دلالة علـى صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبـات الهاء فـي الوصل والوقـف، غير أن ذلك وإن كان كذلك فلقوله: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} حكم مفـارق حكم ما كان هاؤه زائدا لا شك فـي زيادته فـيه. ومـما يدلّ علـى صحة ما قلنا، من أن الهاء فـي يتسنه من لغة من قال: (قد أسنهت) و(الـمسانهة)، ما: ٤٧٥٥ـ حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا ابن مهدي، عن أبـي الـجراح، عن سلـيـمان بن عمير، قال: ثنـي هانىء مولـى عثمان، قال: كنت الرسول بـين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله: لـم يتسنّ، أو لـم يتسنه؟ فقال عثمان: اجعلوا فـيها هاء. ٤٧٥٦ـ حدثت عن القاسم، وحدثنا مـحمد بن مـحمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار جميعا، عن القاسم، قال: حدثنا ابن مهدي، عن ابن الـمبـارك، قال: ثنـي أبو وائل شيخ من أهل الـيـمن عن هانىء البربري، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون الـمصاحف، فأرسلنـي بكتف شاة إلـى أبـيّ بن كعب فـيها: (لـم يَتَسَنّ) و(فَـأَمْهِل الكَافِرِينَ) و(لا تَبْدِيـلَ للـخَـلْقِ) قال: فدعا بـالدواة، فمـحا إحدى اللامين وكتب: {لا تبديـل لـخـلق اللّه } ومـحا (فـأَمهل) وكتب: {فمهل الكافرين} وكتب: (لـم يتسنه) ألـحق فـيها الهاء. ولو كان ذلك من (يتسنى) أو (يتسنن) لـما ألـحق فـيه أبـيّ هاء لا موضع لها فـيه، ولا أمر عثمان بإلـحاقها فـيها. وقد رُوي عن زيد بن ثابت فـي ذلك نـحوُ الذي رُوِي فـيه عن أبـيّ بن كعب. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله {لَـمْ يَتَسَنّهْ} فقال بعضهم بـمثل الذي قلنا فـيه من أن معناه لـم يتغير. ذكر من قال ذلك: ٤٧٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الـمفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم يتغير. ٤٧٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم يتغير. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. ٤٧٥٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فـانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ} يقول: فـانظر إلـى طعامك من التـين والعنب، وشرابك من العصير لـم يتسنه، يقول: لـم يتغير فـيـمـحض التـين والعنب، ولـم يختـمر العصير هما حلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيا من الشام علـى حمار له معه عصير وعنب وتـين، فأماته اللّه ، وأمات حماره، ومرّ علـيهما مائة سنة. حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {فـانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ} يقول: لـم يتغير، وقد أتـى علـيه مائة عام. حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، بنـحوه. ٤٧٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم يتغير. ٤٧٦١ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن النضر، عن عكرمة: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم يتغير. ٤٧٦٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم يتغير فـي مائة سنة. ٤٧٦٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي بكر بن مضر، قال: يزعمون فـي بعض الكتب أن إرميا كان بإيـلـيا حين خرّبها بختنصر، فخرج منها إلـى مصر فكان بها، فأوحى اللّه إلـيه أن اخرج منها إلـى بـيت الـمقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إلـيها فقال: أنى يحيـي هذه اللّه بعد موتها! فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه، فإذا حماره حيّ قائم علـى ربـاطه، وإذا طعامه سلّ عنب وسلّ تـين لـم يتغير عن حاله. قال يونس: قال لنا سلـم الـخواص: كان طعامه وشرابه سَلّ عنب وسَلّ تـين وزِقّ عصير. وقال آخرون: معنى ذلك: لـم ينتن. ذكر من قال ذلك: ٤٧٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} لـم ينتن. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٧٦٥ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد قوله: {إلـى طَعامِكَ} قال: سلّ تـين، {وَشَرَابِكَ} دنّ خمر، {لَـمْ يَتَسَنّهْ} يقول: لـم ينتن. وأحسب أن مـجاهدا والربـيع ومن قال فـي ذلك بقولهما رأوا أن قوله: {لَـمْ يَتَسَنّهْ} من قول اللّه تعالـى ذكره: {مِنْ حَمَإِ مَسْنُونٍ} بـمعنى الـمتغير الريح بـالنتن من قول القائل: تسنّن. وقد بـينت الدلالة فـيـما مضى علـى أن ذلك لـيس كذلك. فإن ظنّ ظانّ أنه من الأَسَن من قول القائل: أسن هذا الـماء يَأْسَنُ أَسَنّا، كما قال اللّه تعالـى ذكره: {فِـيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرَ آسِنٍ} فإن ذلك لو كان كذلك لكان الكلام: فـانظر إلـى طعامك وشرابك لـم يتأسن، ولـم يكن يتسنه. فإنه منه، غير أنه ترك همزه، قـيـل: فإنه وإن ترك همزه فغير جائز تشديد نونه، لأن النون غير مشددة، وهي فـي يتسنه مشددة، ولو نطق من يتأسن بترك الهمزة لقـيـل يَتَسّنْ بتـخفـيف نونه بغير هاء تلـحق فـيه، ففـي ذلك بـيان واضح أنه غير جائز أن يكون من الأَسَن. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَانْظُرْ إلـى حِمَارِكَ}. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {وَانْظُرْ إلـى حِمارِكَ} فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلـى إحيائي حمارك، وإلـى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لـحما. ثم اختلف متأوّلو ذلك فـي هذا التأويـل، فقال بعضهم: قال اللّه تعالـى ذكره ذلك له بعد أن أحياه خـلقا سويّا، ثم أراد أن يحيـي حماره¹ تعريفـا منه تعالـى ذكره له كيفـية إحيائه القرية التـي رآها خاوية علـى عروشها، فقال: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} مستنكرا إحياء اللّه إياها. ذكر من قال ذلك: ٤٧٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: بعثه اللّه فقال: {كَمْ لَبثتَ قالَ لبثتُ يوما أوْ بعضُ يومٍ} إلـى قوله: {ثُمّ نَكْسُوهَا لَـحْما} قال: فنظر إلـى حماره يتصل بعض إلـى بعض، وقد كان مات معه بـالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللـحم حتـى استوى ثم جرى فـيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلـى عصيره وتـينه، فإذا هو علـى هيئته حين وضعه لـم يتغير. فلـما عاين من قدرة اللّه ما عاين، قال: {أعْلَـمُ أنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ٤٧٦٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ثم إن اللّه أحيا عزيرا، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم قال: بل لبثت مائة عام، فـانظر إلـى طعامك وشرابك لـم يتسنه، وانظر إلـى حمارك قد هلك وبلـيت عظامه، وانظر إلـى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لـحما. فبعث اللّه ريحا، فجاءت بعظام الـحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسبـاع، فـاجتـمعت، فركب بعضها فـي بعض وهو ينظر، فصار حمارا من عظام لـيس له لـحم ولا دم. ثم إن اللّه كسا العظام لـحما ودما، فقام حمارا من لـحم ودم ولـيس فـيه روح. ثم أقبل ملك يـمشي حتـى أخذ بـمنـخر الـحمار، فنفخ فـيه فنهق الـحمار، فقال: أعلـم أنه اللّه علـى كل شيء قدير. فتأويـل الكلام علـى ما تأوله قائل هذا القول: وانظر إلـى إحيائنا حمارك، وإلـى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لـحما، ولنـجعلك آية للناس. فـيكون فـي قوله: {وَانْظُرْ إلـى حِمَارِكَ} متروك من الكلام، استغنـي بدلالة ظاهره علـيه من ذكره، وتكون الألف واللام فـي قوله: {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ} بدلاً من الهاء الـمرادة فـي الـمعنى، لأن معناه: وانظر إلـى عظامه: يعنـي إلـى عظام الـحمار. وقال آخرون منهم: بل قال اللّه تعالـى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فـيه الروح فـي عينه، قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ اللّه فـيه الروح، وذلك بعد أن سوّاه خـلقا سويا، وقبل أن يحيـى حماره. ذكر من قال ذلك: ٤٧٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان هذا رجلاً من بنـي إسرائيـل نفخ الروح فـي عينـيه، فنظر إلـى خـلقه كله حين يحيـيه اللّه ، وإلـى حماره حين يحيـيه اللّه . حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. ٤٧٦٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: بدأ بعينـيه فنفخ فـيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وصل بعضها إلـى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم اللـحم. ثم نظر إلـى حماره، فإذا حماره قد بلـي وابـيضت عظامه فـي الـمكان الذي ربطه فـيه، فنودي: يا عظام اجتـمعي، فإن اللّه منزل علـيك روحا! فسعى كل عظم إلـى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللـحم، ثم الـجلد، ثم الشعر، وكان حماره جَذَعا، فأحياه اللّه كبـيرا قد تشنن، فلـم يبق منه إلا الـجلد من طول الزمن، وكان طعامه سلّ عنب وشرابه دنّ خمر. قال ابن جريج عن مـجاهد: نفخ الروح فـي عينـيه، ثم نظر بهما إلـى خـلقه كله حين نشره اللّه ، وإلـى حماره حين يحيـيه اللّه . وقال آخرون: بل جعل اللّه الروح فـي رأسه وبصره وجسده ميتا، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حلّ البقعة، ثم قال اللّه له: انظر إلـى عظام نفسك كيف ننشزها. ذكر من قال ذلك: ٤٧٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ردّ اللّه روح الـحياة فـي عين إرمياء وآخر جسده ميت، فنظر إلـى طعامه وشرابه لـم يتسنه، ونظر إلـى حماره واقـفـا كهيئته يوم ربطه، لـم يطعم ولـم يشرب، ونظر إلـى الرمة فـي عنق الـحمار لـم تتغير جديدة. ٤٧٧١ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {فَأماتَهُ اللّه مِائَةَ عامٍ ثُمّ بَعَثَهُ} فنظر إلـى حماره قائما قد مكث مائة عام، وإلـى طعامه لـم يتغير قد أتـى علـيه مائة عام. {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها ثُمّ نَكْسُوها لَـحْما} فكان أول شيء أحيا اللّه منه رأسه، فجعل ينظر إلـى سائر خـلقه يخـلق. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {فأمَاتَهُ اللّه مِائَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ} فنظر إلـى حماره قائما، وإلـى طعامه وشرابه لـم يتغير، فكان أول شيء خـلق منه رأسه، فجعل ينظر إلـى كل شيء منه يوصل بعضه إلـى بعض. فلـما تبـين له، قال: أعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير. ٤٧٧٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه أول ما خـلق اللّه منه رأسه، ثم ركبت فـيه عيناه، ثم قـيـل له: انظر! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تواصل بعضها إلـى بعض، وبعين نبـيّ اللّه علـيه السلام كان ذلك. فقال: أعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير. ٤٧٧٣ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلـى حِمَارِكَ} وكان حماره عنده كما هو، {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَة للنّاسِ وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها}. قال الربـيع: ذكر لنا واللّه أعلـم أنه أول ما خـلق منه عيناه، ثم قـيـل انظر، فجعل ينظر إلـى العظام يتواصل بعضها إلـى بعض وذلك بعينـيه. فقـيـل: أعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير. ٤٧٧٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: {وَانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلـى حِمارِكَ} واقـفـا علـيك منذ مائة سنة، {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إلـى العِظامِ} يقول: وانظر إلـى عظامك كيف نـحيـيها حين سألتنا كيف نـحيـي هذه الأرض بعد موتها قال: فجعل اللّه الروح فـي بصره وفـي لسانه، ثم قال: ادع الاَن بلسانك الذي جعل اللّه فـيه الروح، وانظر ببصرك! قال: فكان ينظر إلـى الـجمـجمة، قال: فنادى: لـيـلـحق كل عظم بألـيفه، قال: فجاء كل عظم إلـى صاحبه، حتـى اتصلت وهو يراها، حتـى إن الكسرة من العظم لتأتـي إلـى الـموضع الذي انكسرت منه، فتلصق به حتـى وصل إلـى جمـجمته، وهو يرى ذلك. فلـما اتصلت شدّها بـالعصب والعروق، وأجرى علـيها اللـحم والـجلد، ثم نفخ فـيها الروح، ثم قال: {انْظُرْ إلـى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمّ نَكْسُوهَا لَـحْما فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ} ذلك {قالَ أعْلَـمُ أنّ اللّه عَلَـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التـي قال: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا} كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها اللّه كما أحياه. ٤٧٧٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي بكر بن مضر، قال: يزعمون فـي بعض الكتب أن اللّه أمات إرمياء مائة عام، ثم بعثه، فإذا حماره حيّ قائم علـى ربـاطه قال: وردّ اللّه إلـيه بصره وجعل الروح فـيه قبل أن يبعث بثلاثـين سنة، ثم نظر إلـى بـيت الـمقدس وكيف عمر وما حوله قال: فـيقولون واللّه أعلـم: إنه الذي قال اللّه تعالـى ذكره: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ}.. الآية. ومعنى الآية علـى تأويـل هؤلاء: وانظر إلـى حمارك، ولنـجعلك آية للناس، وانظر إلـى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لـحما، فنـحيـيها بحياتك، فتعلـم كيف يحيـي اللّه القرى وأهلها بعد مـماتها. (وأولـى الأقوال فـي هذه الآية بـالصواب قول من قال: إن اللّه تعالـى ذكره بعث قائلَ {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا} من مـماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء اللّه القرية التـي مرّ بها بعد مـماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره، فجعل تعالـى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لـما استنكر من إحيائه أهل القرية التـي مرّ بها خاوية علـى عروشها، وجعل ما أراه من العبرة فـي طعامه وشرابه عبرة له وحجة علـيه فـي كيفـية إحيائه منازل القرية وجنانها، وذلك هو معنى قول مـجاهد الذي ذكرناه قبل. وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية، لأن قوله: {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ} إنـما هو بـمعنى: وانظر إلـى العظام التـي تراها ببصرك كيف ننشزها، ثم نكسوها لـحما، وقد كان حماره أدركه من البلـى فـي قول أهل التأويـل جميعا نظير الذي لـحق عظام من خوطب بهذا الـخطاب، فلـم يـمكن صرف معنى قوله: {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ} إلـى أنه أمر له بـالنظر إلـى عظام الـحمر دون عظام الـمأمور بـالنظر إلـيها، ولا إلـى أنه أمر له بـالنظر إلـى عظام نفسه دون عظام الـحمار. وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلـى قد لـحق عظامه وعظام حماره، كان الأولـى بـالتأويـل أن يكون الأمر بـالنظر إلـى كل ما أدركه طرفه مـما قد كان البلـى لـحقه لأن اللّه تعالـى ذكره جعل جميع ذلك علـيه حجة وله عبرة وعظة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ} أمتناك مائة عام ثم بعثناك. وإنـما أدخـلت الواو مع اللام التـي فـي قوله: {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ} وهو بـمعنى (كي)، لأن فـي دخولها فـي كي وأخواتها دلالة علـى أنها شرط لفعل بعدها، بـمعنى: ولنـجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك، ولو لـم تكن قبل اللام أعنـي لام كي واو كانت اللام شرطا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلـى حمارك، لنـجعلك آية للناس. وإنـما عنى بقوله: {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً} ولنـجعلك حجة علـى من جهل قدرتـي، وشكّ فـي عظمتـي، وأنا القادر علـى فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بـيدي ذلك كله، لا يـملكه أحد دونـي، ولا يقدر علـيه غيري. وكان بعض أهل التأويـل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلـى ولده وولد ولده شابـا وهم شيوخ. ذكر من قال ذلك: ٤٧٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، عن سفـيان، قال: سمعت الأعمش يقول: {وَلِنَـجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ} قال: جاء شابـا وولده شيوخ. وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لـمن قدم علـيه من قومه. ذكر من قال ذلك: ٤٧٧٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: رجع إلـى أهله، فوجد داره قد بـيعت وبنـيت، وهلك من كان يعرفه، فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير. قالوا: ألـيس قد هلك عزير منذ كذا وكذا؟ قال: فإن عزيرا أنا هو، كان من حالـي وكان. فلـما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إلـيه. والذي هو أولـى بتأويـل الآية من القول، أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته فـي هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة علـى من عرفه من ولده وقومه مـمن علـم موته، وإحياء اللّه إياه بعد مـماته، وعلـى من بعث إلـيه منهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها}. قد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن العظام التـي أمر بـالنظر إلـيها هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي تأويـل ذلك وما يعنـي كل قائل بـما قاله فـي ذلك بـما أغنى عن إعادته. وأما قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُها} فإن القراء اختلفت فـي قراءته، فقرأ بعضهم: {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} بضم النون وبـالزاي، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفـيـين، بـمعنى: وانظر كيف نركب بعضها علـى بعض، وننقل ذلك إلـى مواضع من الـجسم. وأصل النشز: الارتفـاع، ومنه قـيـل: قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وشبّ، ومنه نشوز الـمرأة علـى زوجها، ومن ذلك قـيـل للـمكان الـمرتفع من الأرض: نَشَزٌ وَنَشْزٌ وَنَشاز، فإذا أردت أنك رفعته، قلت: أنشزته إنشازا، ونشز هو: إذا ارتفع. فمعنى قوله: {وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} فـي قراءة من قرأ ذلك بـالزاي: كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردّها إلـى أماكنها من الـجسم. ومـمن تأول ذلك هذا التأويـل جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٧٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس فـي قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُها} كيف نـخرجها. ٤٧٧٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {كَيْفَ نُنْشِزُها} قال: نـحركها. وقرأ ذلك آخرون: (وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها) بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر اللّه الـموتـى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل الـمدينة، بـمعنى: وانظر إلـى العظام كيف نـحيـيها ثم نكسوها لـحما. ذكر من قال ذلك: ٤٧٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: (كَيْفَ نُنْشِرُها) قال: انظر إلـيها حين يحيـيها اللّه . حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٧٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مثله. ٤٧٨٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: (وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها) قال: كيف نـحيـيها. واحتـجّ بعض قراء ذلك بـالراء وضم نون أوله بقوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} فرأى أن من الصواب إلـحاق قوله: (وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها) به. وقرأ ذلك بعضهم: (وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها) بفتـح النون من أوله وبـالراء¹ كأنه وجه ذلك إلـى مثل معنى نشر الشيء وطيّه. وذلك قراءة غير مـحمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الـموتـى، وإنـما تقول: أنشر اللّه الـموتـى، فنَشَرُوا هم بـمعنى: أحياهم فحيوا هم. ويدلّ علـى ذلك قوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} وقوله: {آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}. وعلـى أنه إذا أريد به حي الـميت وعاش بعد مـماته، قـيـل: نشر، ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة: حتـى يَقُولَ النّاسُ مـمّا رَأوْايا عَجَبَـا للـمَيّتِ النّاشِرِ وروي سماعا من العرب: كان به جربٌ فنشر، إذا عاد وحيـي. والقول فـي ذلك عندي أن معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربـان، لأن معنى الإنشاز: التركيب والإثبـات وردّ العظام من العظام وإعادتُها لا شك أنه ردّها إلـى أماكنها ومواضعها من الـجسد بعد مفـارقتها إياها. فهما وإن اختلفـا فـي اللفظ، فمتقاربـا الـمعنى، وقد جاءت بـالقراءة بهما الأمة مـجيئا يقطع العذر ويوجب الـحجة، فبأيهما قرأ القارىء فمصيب لانقـياد معنـيـيهما، ولا حجة توجب لإحداهما من القضاء بـالصواب علـى الأخرى. فإن ظنّ ظان أن الإنشار إذا كان إحياء فهو بـالصواب أولـى، لأن الـمأمور بـالنظر إلـى العظام وهي تنشر إنـما أمر به لـيرى عيانا ما أنكره بقوله: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} فإن إحياء العظام لا شك فـي هذا الـموضع إنـما عنى به ردّها إلـى أماكنها من جسد الـمنظور إلـيه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التـي كانت فـارقتها عند الـمـمات. والذي يدل علـى ذلك قوله: {ثُمّ نَكْسُوها لَـحْما} ولا شك أن الروح إنـما نفخت فـي العظام التـي أنشرت بعد أن كسيت اللـحم. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلـى أماكنها من الـجسد، وكان ذلك معنى الإنشار، وكان معلوما استواء معنـيـيهما، وأنهما متفقا الـمعنى لا مختلفـاه، ففـي ذلك إبـانة عن صحة ما قلنا فـيهوأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: (كَيْفَ نَنْشُرُها) بفتـح النون وبـالراء، لشذوذها عن قراءة الـمسلـمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ نَكْسُوهَا لَـحْما}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: {ثُمّ نَكْسُوهَا} أي العظام لـحما. والهاء التـي فـي قوله: {ثُمّ نَكْسِوها لَـحْما} من ذكر العظام. ومعنى نكسوها: نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التـي يـلبسها، وكذلك تفعل العرب، تـجعل كل شيء غطى شيئا وواراه لبـاسا له وكسوة، ومنه قول النابغة الـجعديّ: فـالـحَمْدُ لِلّهِ إذْ لَـمْ يَأتِنِـي أجَلِـيحتـى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبـالاَ فجعل الإسلام إذ غطى الذي كان علـيه فواراه وأذهبه كسوة له وسربـالاً. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَـمُ أنّ اللّه عَلـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ} فلـما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة اللّه وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، قال: أعلـم الاَن بعد الـمعاينة والإيضاح والبـيان أن اللّه علـى كل شيء قدير. ثم اختلفت القراءة فـي قراءة قوله: {قالَ أعْلَـمُ أنّ اللّه }. فقرأه بعضهم: (قال اعْلَـمْ) علـى معنى الأمر بوصل الألف من (اعلـم)، وجزم الـميـم منها. وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، ويذكرون أنها فـي قراءة عبد اللّه : (قـيـل اعْلَـمْ) علـى وجه الأمر من اللّه للذي أحيى بعد مـماته، فأمر بـالنظر إلـى ما يحيـيه اللّه بعد مـماته. وكذلك رُوي عن ابن عبـاس . ٤٧٨٣ـ حدثنـي أحمد بن يوسف التغلبـي، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: ثنـي حجاج، عن هارون، قال: هي فـي قراءة عبد اللّه : (قـيـل اعْلَـمْ أن اللّه ) علـى وجه الأمر. ٤٧٨٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه ـ أحسبه، شك أبو جعفر الطبري ـ سمعت ابن عبـاس يقرأ: (فَلَـمَا تَبَـيّنَ لَهُ قَالَ اعْلَـمْ) قال: إنـما قـيـل ذلك له. ٤٧٨٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذكر لنا واللّه أعلـم أنه قـيـل له انظر! فجعل ينظر إلـى العظام كيف يتواصل بعضها إلـى بعض وذلك بعينـيه، فقـيـل: اعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير. فعلـى هذا القول تأويـل ذلك: فلـما تبـين من أمر اللّه وقدرته، قال اللّه له: اعلـم الاَن أن اللّه علـى كل شيء قدير. ولو صرف متأول قوله: (قال اعلـم) وقد قرأه علـى وجه الأمر إلـى أنه من قبل الـمخبر عنه بـما اقتصّ فـي هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا، وكان ذلك كما يقول القائل: اعلـم أن قد كان كذا وكذا، علـى وجه الأمر منه لغيره وهو يعنـي به نفسه. وقرأ ذلك آخرون: {قالَ أعْلَـمُ} علـى وجه الـخبر عن نفسه للـمتكلـم به بهمز ألف أعلـم وقطعها ورفع الـميـم. بـمعنى: فلـما تبـين له من قدرة اللّه وعظيـم سلطانه بـمعاينته ما عاينه، قال ألـيس ذلك: أعلـم الاَن أنا أن اللّه علـى كل شيء قدير. وبذلك قرأ عامة أهل الـمدينة وبعض قراء أهل العراق، وبذلك من التأويـل تأوله جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٧٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لـما عاين من قدرة اللّه ما عاين، قال: {أعْلَـمُ أنّ اللّه عَلَـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ٤٧٨٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: {فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَـمُ أنّ اللّه عَلَـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ٤٧٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: يعنـي نبـيّ اللّه علـيه السلام، يعنـي إنشاز العظام، فقال: أعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير. ٤٧٨٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: قال عزير عند ذلك ـ يعنـي عند معاينة إحياء اللّه حماره ـ: {أعْلَـمُ أنّ اللّه علـى كل شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ٤٧٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: جعل ينظر إلـى كل شيء منه يوصل بعضه إلـى بعض، {فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَـمُ أَنّ اللّه عَلَـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ٤٧٩١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، نـحوه. وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: (اعْلَـمْ) بوصل الألف وجزم الـميـم علـى وجه الأمر من اللّه تعالـى ذكره للذي قد أحياه بعد مـماته بـالأمر بأن يعلـم أن اللّه الذي أراه بعينـيه ما أراه من عظيـم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتـى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظ علـيه طعامه وشرابه مائة عام حتـى ردّه علـيه كهيئته يوم وضعه غير متغير علـى كل شيء قادر كذلك. وإنـما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بـالصواب دون غيره¹ لأن ما قبله من الكلام أمر من اللّه تعالـى ذكره قولاً للذي أحياه اللّه بعد مـماته وخطابـا له به، وذلك قوله: {فـانْظُرْ إلـى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَـمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلـى حِمَارِكَ... وَانْظُرْ إلـى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} فلـما تبـين له ذلك جوابـا عن مسألته ربه: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها}! قال اللّه له: اعلـم أن اللّه الذي فعل هذه الأشياء علـى ما رأيت علـى غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته علـى ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالـى ذكره لـخـلـيـله إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم، بعد أن أجابه عن مسألته إياه فـي قوله: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى}: {وَاعْلَـمْ أنّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيـمٌ} فأمر إبراهيـم بأن يعلـم بعد أن أراه كيفـية إحيائه الـموتـى أنه عزيز حكيـم، فكذلك أمر الذي سأل فقال: {أنّى يُحْيِـي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِها} بعد أن أراه كيفـية إحيائه إياها أن يعلـم أن اللّه علـى كل شيء قدير. ٢٦٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَىَ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ألـم تر إذ قال إبراهيـم ربّ أرنـي. وإنـما صلـح أن يعطف بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ} علـى قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ علـى قَرْيَةٍ} وقوله: {ألَـمْ تَرَ إِلـى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيـمَ فِـي رَبّهِ} لأن قوله: {ألَـمْ تَرَ} لـيس معناه: ألـم تر بعينـيك، وإنـما معناه: ألـم تر بقلبك، فمعناه: ألـم تعلـم فتذكر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فـيعطف علـيه أحيانا بـما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانا بـما يوافق معناه. واختلف أهل التأويـل فـي سبب مسألة إبراهيـم ربه أن يريه كيف يحيـي الـموت؟ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسمتها السبـاع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفـية إحيائه إياها مع تفرّق لـحومها فـي بطون طير الهواء وسبـاع الأرض لـيرى ذلك عيانا، فـيزداد يقـينا برؤيته ذلك عيانا إلـى علـمه به خبرا، فأراه اللّه ذلك مثلاً بـما أخبر أنه أمره به. ذكر من قال ذلك: ٤٧٩٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى} ذكر لنا أن خـلـيـل اللّه إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم أتـى علـى دابة توزّعتها الدوابّ والسبـاع، فقال: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتـى قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي}. ٤٧٩٣ـ حدثت عن الـحسن، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى} قال: مرّ إبراهيـم علـى دابة ميت قد بلـي وتقسمته الرياح والسبـاع، فقام ينظر، فقال: سبحان اللّه ، كيف يحيـي اللّه هذا؟ وقد علـم أن اللّه قادر علـى ذلك، فذلك قوله: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى}. ٤٧٩٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغنـي أن إبرهيـم بـينا هو يسير علـى الطريق، إذا هو بجيفة حمار علـيها السبـاع والطير قد تـمزّعت لـحمها وبقـي عظامها. فلـما ذهبت السبـاع، وطارت الطير علـى الـجبـال والاَكام، فوقـف وتعجب ثم قال: ربّ قد علـمت لتـجمعنها من بطون هذه السبـاع والطير {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قَالَ أَوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى} ولكن لـيس الـخبر كالـمعاينة. ٤٧٩٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مرّ إبراهيـم بحوت نصفه فـي البرّ، ونصفه فـي البحر، فما كان منه فـي البحر فدوابّ البحر تأكله، وما كان منه فـي البرّ فـالسبـاع ودوابّ البرّ تأكله، فقال له الـخبـيث: يا إبراهيـم متـى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا ربّ أرنـي كيف تـحيـي الـموتـى! قال: أولـم تؤمن؟ قال: بلـى ولكن لـيطمئنّ قلبـي. وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، الـمناظرة والـمـحاجة التـي جرت بـينه وبـين نـمروذ فـي ذلك. ذكر من قال ذلك: ٤٧٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: لـما جرى بـين إبراهيـم وبـين قومه ما جرى مـما قصه اللّه فـي سورة الأنبـياء، قال نـمروذ فـيـما يذكرون لإبراهيـم: أرأيت إلَهك هذا الذي تعبد وتدعو إلـى عبـادته وتذكر من قدرته التـي تعظمه بها علـى غيره ما هو؟ قال له إبراهيـم: ربـي الذي يحيـي ويـميت. قال نـمروذ: أنا أحيـي وأميت. فقال له إبراهيـم: كيف تـحيـي وتـميت؟ ثم ذكر ما قصّ اللّه من مـحاجته إياه قال: فقال إبراهيـم عند ذلك: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} من غير شكّ فـي اللّه تعالـى ذكره ولا فـي قدرته، ولكنه أحبّ أن يعلـم ذلك وتاق إلـيه قلبه، فقال: لـيطمئنّ قلبـي، أي ما تاق إلـيه إذا هو علـمه. وهذان القولان، أعنـي الأول وهذا الاَخر، متقاربـا الـمعنى فـي أن مسألة إبراهيـم ربه أن يريه كيف يحيـي الـموتـى كانت لـيرى عيانا ما كان عنده من علـم ذلك خبرا. وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التـي أتته من اللّه بأنه اتـخذه خـلـيلاً، فسأل ربه أن يريه عاجلاً من العلامة له علـى ذلك لـيطمئن قلبه بأنه قد اصطفـاه لنفسه خـلـيلاً، ويكون ذلك لـما عنده من الـيقـين مؤيدا. ذكر من قال ذلك: ٤٧٩٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما اتـخذ اللّه إبراهيـم خـلـيلاً سأل ملك الـموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيـم بذلك، فأذن له، فأتـى إبراهيـم ولـيس فـي البـيت فدخـل داره، وكان إبراهيـم أغير الناس، إن خرج أغلق البـاب¹ فلـما جاء وجد فـي داره رجلاً، فثار إلـيه لـيأخذه، قال: من أذن لك أن تدخـل داري؟ قال ملك الـموت: أذن لـي ربّ هذه الدار، قال إبراهيـم: صدقت! وعرف أنه ملك الـموت، قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الـموت جئتك أبشرك بأن اللّه قد اتـخذك خـلـيلاً. فحمد اللّه وقال: يا ملك الـموت أرنـي الصورة التـي تقبض فـيها أنفـاس الكفـار قال: يا إبراهيـم لا تطيق ذلك قال: بلـى قال: فأعرِضْ! فأعرض إبراهيـم ثم نظر إلـيه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فـيه لهب النار، لـيس من شعرة فـي جسده إلا فـي صورة رجل أسود يخرج من فـيه ومسامعه لهب النار. فغشي علـى إبراهيـم، ثم أفـاق وقد تـحوّل ملك الـموت فـي الصورة الأولـى، فقال: يا ملك الـموت لو لـم يـلق الكافر عند الـموت من البلاء والـحزن إلا صورتك لكفـاه، فأرنـي كيف تقبض أنفـاس الـمؤمنـين! قال: فأعرِضْ! فأعرض إبراهيـم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا، فـي ثـياب بـيض، فقال: يا ملك الـموت لو لـم يكن للـمؤمن عند ربه من قرّة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفـيه. فـانطلق ملك الـموت، وقام إبراهيـم يدعو ربه يقول: {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى} حتـى أعلـم أنـي خـلـيـلك {قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} بأنـي خـلـيـلك، يقول تصدق، {قَالَ بَلْـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} بخـلولتك. ٤٧٩٨ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: بـالـخُـلة. وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شكّ فـي قدرة اللّه علـى إحياء الـموتـى. ذكر من قال ذلك: ٤٧٩٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب فـي قوله: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: قال ابن عبـاس : ما فـي القرآن آية أرجى عندي منها. ٤٨٠٠ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علـي يحدث عن رجل، عن سعيد بن الـمسيب، قال: اتّعد عبد اللّه بن عبـاس وعبد اللّه بن عمرو أن يجتـمعا، قال: ونـحن يومئذٍ شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أيّ آية فـي كتاب اللّه أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد اللّه بن عمرو {يا عِبـادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا علـى أنْفُسِهِمْ} حتـى ختـم الآية، فقال ابن عبـاس : أما إن كنت تقول إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبرهيـم صلى اللّه عليه وسلم {رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي}. ٤٨٠١ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبـي ربـاح، عن قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيـمُ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى قالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لَـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: دخـل قلب إبراهيـم بعض ما يدخـل قلوب الناس، فقال: {رب أرنـي كيف تـحيـي الـموتـى قال أولـم تؤمن قال بلـى... قال فخذ أربعة من الطير} لـيريه. ٤٨٠٢ـ حدثنـي زكريا بن يحيـى بن أبـان الـمصري، قال: حدثنا سعيد بن تلـيد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: ثنـي بكر بن مضر، عن عمرو بن الـحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي أبو سلـمة بن عبد الرحمن وسعيد بن الـمسيب، عن أبـي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (نَـحْنُ أحَقّ بـالشّكّ مِنْ إبْرَاهِيـمَ، قَالَ: رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى، قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ؟ قَالَ بَلَـى وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي). حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس عن ابن شهاب وسعيد بن الـمسيب، عن أبـي هريرة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: فذكر نـحوه. وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الآية، ما صحّ به الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال، وهوقوله: (نَـحْنُ أحَقّ بـالشّكّ مِنْ إِبْرَاهِيـمَ، قَالَ رَبّ أرِنِـي كَيْفَ تُـحْيِـي الـمَوْتَـى، قَالَ أَوَلَـمْ تُوءْمِنْ) وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الـموتـى لعارض من الشيطان عرض فـي قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفـا من أن إبراهيـم لـما رأى الـحوت الذي بعضه فـي البرّ وبعضه فـي البحر قد تعاوره دوابّ البرّ ودوابّ البحر وطير الهواء، ألقـى الشيطان فـي نفسه فقال: متـى يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيـم حينئذٍ ربه أن يريه كيف يحيـي الـموتـى لـيعاين ذلك عيانا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يـلقـي فـي قلبه مثل الذي ألقـى فـيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: {أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} يقول: أولـم تصدق يا إبراهيـم بأنـي علـى ذلك قادر؟ قال: بلـى يا ربّ، لكن سألتك أن ترينـي ذلك لـيطمئنّ قلبـي، فلا يقدر الشيطان أن يـلقـي فـي قلبـي مثل الذي فعل عند رؤيتـي هذا الـحوت. ٤٨٠٣ـ حدثنـي بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. ومعنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} لـيسكن ويهدأ بـالـيقـين الذي يستـيقنه. وهذا التأويـل الذي قلناه فـي ذلك هو تأويـل الذين وجهوا معنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} إلـى أنه لـيزداد إيـمانا، أو إلـى أنه لـيوفق. ذكر من قال ذلك: لـيوفق، أو لـيزداد يقـينا أو إيـمانا: ٤٨٠٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيـم، عن سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيوفق. ٤٨٠٥ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي الهيثم، عن سعيد بن جبـير: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيزداد يقـينـي. ٤٨٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} يقول: لـيزداد يقـينا. ٤٨٠٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: وأراد نبـيّ اللّه إبراهيـم لـيزداد يقـينا إلـى يقـينه. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: لـيزداد يقـينا. ٤٨٠٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: أراد إبراهيـم أن يزداد يقـينا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن كثـير البصري، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبـير: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيزداد يقـينـي. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي الهيثم، عن سعيد بن جبـير: {وَلَكِنْ لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لـيزداد يقـينا. ٤٨٠٩ـ حدثنا صالـح بن مسمار، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة، قال: حدثنا لـيث بن أبـي سلـيـم، عن مـجاهد وإبراهيـم فـي قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لأزداد إيـمانا مع إيـمانـي. حدثنا صالـح، قال: حدثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد اللّه العامري، قال: حدثنا لـيث، عن أبـي الهيثم، عن سعيد بن جبـير فـي قول اللّه : {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: لأزداد إيـمانا مع إيـمانـي. وقد ذكرنا فـيـما مضى قول من قال: معنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} بأنـي خـلـيـلك. وقال آخرون: معنى قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} لأعلـم أنك تـجيبنـي إذا دعوتك وتعطينـي إذا سألتك. ذكر من قال ذلك: ٤٨١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس قوله: {لِـيَطْمَئِنّ قَلْبِـي} قال: أعلـم أنك تـجيبنـي إذا دعوتك، وتعطينـي إذا سألتك. وأما تأويـل قوله: {قَالَ أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} فإنه: أولـم تصدّق؟ كما: ٤٨١١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير قوله: {أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} قال: أولـم توقن بأنـي خـلـيـلك؟ ٤٨١٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أوَلَـمْ تُوءْمِنْ} قال: أولـم توقن. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: قال اللّه له: فخذ أربعة من الطير. فذكر أن الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والـحمام. ذكر من قال ذلك: ٤٨١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاوسا، وديكا، وغرابـا، وحماما. ٤٨١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والـحمام. ٤٨١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج: {قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ} قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة. ٤٨١٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {قالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ} قال: فأخذ طاوسا، وحماما، وغرابـا، وديكا¹ مخالفة أجناسها وألوانها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَصُرْهُنّ إلَـيْكَ}. اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة: {فَصُرْهُنّ إلَـيْكَ} بضم الصاد من قول القائل: صُرْت إلـى هذا الأمر: إذا ملت إلـيه أَصُور صَوَرا، ويقال: إنـي إلـيكم لأَصْوَرُ أي مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر: اللّه يَعْلَـمُ أنّا فـي تَلَفّتِنايَوْمَ الفِرَاقِ إلـى أحْبـابِنا صُورُ وهو جمع أَصْوَر وصَوْرَاء وصُور، مثل أسود وسوداء وسود. ومنه قول الطرماح: عَفَـائِفُ إِلاّ ذَاكَ أوْ أنْ يَصُورَهاهَوًى والهَوَى للعاشِقِـينَ صَرُوعُ يعنـي بقوله: (أو أن يصورها هوى): يـميـلها. فمعنى قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} اضمـمهنّ إلـيك ووجههن نـحوك، كما يقال: صُرْ وجهك إلـيّ، أي أقبل به إلـيّ. ومن وجه قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} إلـى هذا التأويـل كان فـي الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر علـيه، ويكون معناه حينئذٍ عنده، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إلـيك، ثم قطعهن، ثم اجعل علـى كل جبل منهنّ جزءا. وقد يحتـمل أن يكون معنى ذلك إذا قرىء كذلك بضم الصاد: قَطّعهن، كما قال تَوْبَة بن الـحُمَيّر: فلـمّا جَذَبْتُ الـحبْلَ أطّتْ نُسُوعُهُبأطرافِ عِيدان شَديدٍ أُسُورُهَا فَأدْنَتْ لِـيَ الأسْبـابَ حتـى بلغتُهابنَهْضِي وقَد كانَ ارتقائي يَصُورُها يعنـي يقطعها. وإذا كان ذلك تأويـل قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} كان فـي الكلام تقديـم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إلـيك فصرهن، ويكون إلـيك من صلة (خذ). وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: (فَصِرْهُنّ إِلَـيْكَ) بـالكسر، بـمعنى قطعهن. وقد زعم جماعة من نـحويـي الكوفة أنهم لا يعرفون فصُرهنّ ولا فصِرْهُن، بـمعنى قطعهن فـي كلام العرب، وأنهم لا يعرفون كسر الصاد وضمها فـي ذلك إلا بـمعنى واحد، وأنهما جميعا لغتان بـمعنى الإمالة، وأن كسر الصاد منها لغة فـي هذيـل وسلـيـم¹ وأنشدوا لبعض بنـي سلـيـم: وَفَرْعٍ يَصِيرُ الـجِيدَ وَحْفٍ كأنّهُعلـى اللّـيتِ قِنْوَانُ الكُرُومِ الدّوَالِـحُ يعنـي بقوله يصير: يـميـل، وأن أهل هذه اللغة يقولون: صاره وهو يصيره صَيْرا، وصِرْ وجهك إلـيّ: أي أمله، كما تقول: صُرْه. وزعم بعض نـحويـي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: {فَصُرْهُنّ} ولا لقراءة من قرأ: (فَصِرْهُنّ) بضم الصاد وكسرها وجها فـي التقطيع، إلا أن يكون (فَصِرْهُنّ إِلَـيْكَ) فـي قراءة من قرأه بكسر الصاد من الـمقلوب، وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فـيكون من صَرَى يَصْرِي صَرْيا، فإن العرب تقول: بـات يَصْري فـي حوضه: إذا استقـى، ثم قطع واستقـى، ومن ذلك قول الشاعر: صَرَتْ نَظْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوزَ دارِعٍغَدَا والعَواصِي منْ دَمِ الـجوفِ تَنْعَرُ صرت: قطعت نظرة. ومنه قول الاَخر: يقولونَ إنّ الشّام يقْتُلُ أهْلَهُفَمَنْ لـي إذا لـم آتِهِ بخُـلُودِ تَعَرّبَ آبـائي فهلاّ صَرَاهُمُمِنَ الـمَوْتِ أنْ لـم يذهَبوا وجُدودي يعنـي قطعهم، ثم نقلت ياؤها التـي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحولت عينها فجعلت لامها، فقـيـل صار يصير، كما قـيـل: عَثِـي يَعْثَى عَثا، ثم حوّلت لامها، فجعلت عينها، فقـيـل عاث يعيث. فأما نـحويو البصرة فإنهم قالوا: {فَصُرْهُنّ إلَـيْكَ} سواء معناه إذا قرىء بـالضم من الصاد وبـالكسر فـي أنه معنـيّ به فـي هذا الـموضع التقطيع، قالوا: وهما لغتان: إحداهما صَار يَصُور، والأخرى صَار يَصِير، واستشهدوا علـى ذلك ببـيت توبة بن الـحمير الذي ذكرنا قبل، وببـيت الـمعلـى بن جمّال العبدي: وجاءَتْ خِـلْعَةٌ دُهْسٌ صَفـايَايَصُورُ عُنُوقَها أحْوَى زَنِـيـمُ بـمعنى يفرق عنوقها ويقطعها، وببـيت خنساء: لـظـلـت الـشّـمُ مـنـهـا وَهْـيَ تـنــصـارُ يعنـي بـالشمّ: الـجبـال أنها تتصدّع وتتفرّق. وببـيت أبـي ذؤيب: فـانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وسَدّ فُرُوجَهُغُبْرٌ ضَوَارٍ وافـيانِ وأجْدَعُ قالوا: فلقول القائل: صُرْت الشيء معنـيان: أملته، وقطعته، وحكوا سماعا: صُرْنا به الـحكم: فصلنا به الـحكم. وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريـين من أن معنى الضم فـي الصاد من قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} والكسر سواء بـمعنى واحد، وأنهما لغتان معناهما فـي هذا الـموضع فقطعهن، وأن معنى إلـيك تقديـمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله: (فخذ)، أولـى بـالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نـحويـي الكوفـيـين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع فـي ذلك وجه مفهوم إلا علـى معنى القلب الذي ذكرت، لإجماع أهل التأويـل علـى أن معنى قوله: {فَصُرْهُنّ} غير خارج من أحد معنـيـين: إما قطّعهنّ، وإما اضمـمهنّ إلـيك، بـالكسر قرىء ذلك أو بـالضم. ففـي إجماع جميعهم علـى ذلك علـى غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بـين معنـيـي القراءتـين أعنـي الكسر والضم، أوضح الدلـيـل علـى صحة قول القائلـين من نـحويـي أهل البصرة فـي ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نـحويـي الكوفـيـين لأنهم لو كانوا إنـما تأولوا قوله: {فَصُرْهُنّ} بـمعنى فقطعهن، علـى أن أصل الكلام فأصرهنّ، ثم قلبت فقـيـل فصِرهن بكسر الصاد لتـحوّل ياء فأصرهن مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلـمهم بـمنطقهم، قد فصلوا بـين معنى ذلك إذا قرىء بكسر صاده، وبـينه إذا قرىء بضمها، إذ كان غير جائز لـمن قلب فأصرهن إلـى فصِرْهُن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد، وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأوّلوه تأويلاً واحدا علـى أحد الوجيهن اللذين ذكرنا. ففـي ذلك أوضح الدلـيـل علـى خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرىء بكسر الصاد بتأويـل التقطيع مقلوب من صَرِيَ يَصْرَي إلـى صار يصير، وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف فـي كلام العرب بـمعنى قطع. ذكر من حضرنا قوله فـي تأويـل قول اللّه تعالـى ذكره: {فَصُرْهُنّ} أنه بـمعنى فقطعهنّ. ٤٨١٧ـ حدثنا سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {فَصُرْهُنّ} قال: هي نبطية فشققهن. ٤٨١٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي جمرة، عن ابن عبـاس أنه قال فـي هذه الآية: {فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: إنـما هو مثل قال: قطعهنّ ثم اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا، ربعا ههنا، وربعا ههنا، ثم ادعهنّ يأتـينك سعيا. ٤٨١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {فَصُرْهُنّ} قال: قطعهن. ٤٨٢٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول: قطعهن. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن حصين، عن أبـي مالك، مثله. ٤٨٢١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد: {فَصُرْهُنّ} قال: قال جناح ذه عند رأس ذه، ورأس ذه عند جناح ذه. ٤٨٢٢ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: قال عكرمة بـالنبطية: قطعهن. ٤٨٢٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن يحيـى، عن مـجاهد: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: قطعهن. ٤٨٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فَصْرُهُنّ إِلَـيْكَ} انتفهن بريشهن ولـحومهن تـمزيقا، ثم اخـلط لـحومهن بريشهن. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: انتفهن بريشهن ولـحومهن تـمزيقا. ٤٨٢٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فَصْرُهُنّ إِلَـيْكَ} أمر نبـيّ اللّه علـيه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن، ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن. ٤٨٢٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: فمزّقهن، قال: أمر أن يخـلط الدماء بـالدماء، والريش بـالريش، ثم اجعل علـى كل جبل منهنّ جزءا. ٤٨٢٧ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك : {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول: فشققهن وهو بـالنبطية صرّى، وهو التشقـيق. حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول قطعهن. ٤٨٢٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} يقول قطعهن إلـيك ومزّقهن تـمزيقا. ٤٨٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} أي قطعهن، وهو الصّوْر فـي كلام العرب. ففـيـما ذكرنا من أقوال من روينا فـي تأويـل قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} أنه بـمعنى فقطعهن إلـيك، دلالة واضحة علـى صحة ما قلنا فـي ذلك، وفساد قول من خالفنا فـيه. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارىء ذلك بضم الصاد فصُرْهن إلـيك أو كسرها فصِرْهن إذْ كانت اللغتان معروفتـين بـمعنى واحد، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبهما إلـيّ أن أقرأ به (فصُرْهن إلـيك) بضم الصاد، لأنها أعلـى اللغتـين وأشهرهما وأكثرهما فـي أحياء العرب. وعند نفر قلـيـل من أهل التأويـل أنها بـمعنى أوثق. ذكر من قال ذلك: ٤٨٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} صرهن: أوثقهن. ٤٨٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: اضمـمهنّ إلـيك. ٤٨٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {فَصُرْهُنّ إِلَـيْكَ} قال: اجمعهن. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا ثُمّ ادْعُهُنّ يأتِـينَكَ سَعْيا}. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {ثُمّ اجْعَل علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} فقال بعضهم: يعنـي بذلك علـى كل ربع من أربـاع الدنـيا جزءا منهن. ذكر من قال ذلك: ٤٨٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي جمرة، عن ابن عبـاس : {ثُمّ اجْعَلْ عَلـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} قال: اجعلهن فـي أربـاع الدنـيا: ربعا ههنا، وربعا ههنا، وربعا ههنا، وربعا ههنا، ثم ادعهن يأتـينك سعيا. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} قال: لـما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل علـى كل جبل منهن جزءا. ٤٨٣٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبـيّ اللّه أن يأخذ أربعة من الطير فـيذبحهن، ثم يخـلط بـين لـحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن علـى أربعة أجبل، فذكر لنا أنه شكل علـى أجنـحتهن، وأمسك برؤوسهن بـيده، فجعل العظم يذهب إلـى العظم، والريشة إلـى الريشة، والبَضعة إلـى البضعة، وذلك بعين خـلـيـل اللّه إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم. ثم دعاهن فأتـينه سعيا علـى أرجلهن، ويـلقـي كل طير برأسه. وهذا مثل آتاه اللّه إبراهيـم. يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث اللّه الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها. ٤٨٣٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خـلط بـين لـحومهن وريشهن، ثم قسمهن علـى أربعة أجزاء، فجعل علـى كل جبل منهن جزءا، فجعل العظم يذهب إلـى العظم، والريشة إلـى الريشة، والبضعة إلـى البضعة، وذلك بعين خـلـيـل اللّه إبراهيـم، ثم دعاهن فأتـينه سعيا، يقول: شدّا علـى أرجلهن. وهذا مثل أراه اللّه إبراهيـم، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث اللّه الناس يوم القـيامة من أربـاع الأرض ونواحيها. ٤٨٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلـى أربعة أجبـال، فجعل علـى كل جبل ربعا من كل طائر، فكان علـى كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الـحمام. ثم دعاهن فقال: تعالـين بإذن اللّه كما كنتـم! فوثب كل ربع منها إلـى صاحبه حتـى اجتـمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه، ثم أقبلن إلـيه سعيا، كما قال اللّه . وقـيـل: يا إبراهيـم هكذا يجمع اللّه العبـاد، ويحيـي الـموتـى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامها ويـمنها. فأراه اللّه إحياء الـموتـى بقدرته، حتـى عرف ذلك بغير ما قال نـمروذ من الكذب والبـاطل. ٤٨٣٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {ثُمّ اجْعَلْ عَلـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} قال: فأخذ طاووسا، وحمامة، وغرابـا، وديكا، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الاَخر وجناحي الاَخر ورجلـي الاَخر معه! فقطعهن وفرّقهن أربـاعا علـى الـجبـال، ثم دعاهن فجئنه جميعا، فقال اللّه : كما ناديتهن فجئنك، فكما أحيـيت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضا¹ يعنـي الـموتـى. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل علـى كل جبل من الأجبـال التـي كانت الأطيار والسبـاع التـي كانت تأكل من لـحم الدابة التـي رآها إبراهيـم ميتة، فسأل إبراهيـم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحيـيها وسائر الأموات غيرها. و قالوا: كانت سبعة أجبـال. ذكر من قال ذلك: ٤٨٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: لـما قال إبراهيـم ما قال عند رؤيته الدابة التـي تفرّقت الطير والسبـاع عنها حين دنا منها، وسأل ربه ما سأل، قال: فخذ أربعة من الطير ـ قال ابن جريج: فذبحها ـ ثم اخـلط بـين دمائهن وريشهن ولـحومهن، ثم اجعل علـى كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسبـاع! قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رءوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن اللّه ، فنظر إلـى كل قطرة من دم تطير إلـى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلـى الريشة الأخرى، وكل بَضعة وكل عظم يطير بعضه إلـى بعض من رءوس الـجبـال، حتـى لقـيت كل جثة بعضها بعضا فـي السماء، ثم أقبلن يسعين حتـى وصلت رأسها. ٤٨٣٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إلـيك، ثم اجعل علـى سبعة أجبـال، فـاجعل علـى كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتـينك سعيا! فأخذ إبراهيـم أربعة من الطير، فقطعهن أعضاء، لـم يجعل عضوا من طير مع صاحبه، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسمهن علـى سبعة أجبـال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلـى صاحبه، ثم أقبلن إلـيه جميعا. وقال آخرون: بل أمره اللّه أن يجعل ذلك علـى كل جبل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} قال: ثم بدّدهن علـى كل جبل يأتـينك سعيا، وكذلك يحيـي اللّه الـموتـى. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: ثم اجعلهن أجزاء علـى كل جبل، ثم ادعهن يأتـينك سعيا، كذلك يحيـي اللّه الـموتـى¹ هو مثل ضربه اللّه لإبراهيـم. حدثنا القاسم، ثال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} ثم بدّدهن أجزاء علـى كل جبل، ثم ادعهن: تعالـين بإذن اللّه ! فكذلك يحيـي اللّه الـموتـى¹ مثل ضربه اللّه لإبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم. ٤٨٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: أمره أن يخالف بـين قوائمهن ورءوسهن وأجنـحتهن، ثم يجعل علـى كل جبل منهن جزءا. حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} فخالف إبراهيـم بـين قوائمهن وأجنـحتهن. (وأولـى التأويلات بـالآية ما قاله مـجاهد، وهو أن اللّه تعالـى ذكره أمر إبراهيـم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن علـى جميع الأجبـال التـي كان يصل إبراهيـم فـي وقت تكلـيف اللّه إياه تفريق ذلك وتبديدها علـيها أجزاء، لأن اللّه تعالـى ذكره قال له: {ثُمّ اجْعَلْ علـى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا} والكل حرف يدل علـى الإحاطة بـما أضيف إلـيه لفظه واحد ومعناه الـجمع. فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الـجبـال التـي أمر اللّه إبراهيـم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة علـيه خارجة من أحد معنـيـين: إما أن تكون بعضا أو جميعا¹ فإن كانت بعضا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيـم السبـيـل إلـى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة علـيه. أو يكون جميعا، فـيكون أيضا كذلك. وقد أخبر اللّه تعالـى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك علـى كل جبل، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيـم بأعيانهن، وإما ما فـي الأرض من الـجبـال. فأما قول من قال: إن ذلك أربعة أجبل، وقول من قال: هنّ سبعة¹ فلا دلالة عندنا علـى صحة شيء من ذلك فنستـجير القول به. وإنـما أمر اللّه إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرّقة علـى كل جبل لـيري إبراهيـم قدرته علـى جمع أجزائهن وهن متفرّقات متبددات فـي أماكن مختلفة شتّـى، حتـى يؤلف بعضهن إلـى بعض، فـيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتـمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن علـى الـجبـال أطيارا أحياء يطرن، فـيطمئنّ قلب إبراهيـم ويعلـم أن كذلك يجمع اللّه أوصال الـموتـى لبعث القـيامة وتألـيفه أجزاءهم بعد البلـى وردّ كل عضو من أعضائهم إلـى موضعه كالذي كان قبل الرد. والـجزء من كل شيء هو البعض منه كان منقسما جميعه علـيه علـى صحة أو غير منقسم، فهو بذلك من معناه مخالف معنى السهم لأن السهم من الشيء: هو البعض الـمنقسم علـيه جميعه علـى صحة، ولذلك كثر استعمال الناس فـي كلامهم عند ذكرهم أنصبـاءهم من الـمواريث السهام دون الأجزاء. وأما قوله: {ثُمّ ادْعُهُنّ} فإن معناه ما ذكرت آنفـا عن مـجاهد أنه قال: هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن علـى كل جبل تعالـين بإذن اللّه . فإن قال قائل: أمر إبراهيـم أن يدعوهنّ وهن مـمزّقات أجزاء علـى رءوس الـجبـال أمواتا، أم بعد ما أحيـين؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن مـمزّقات لا أرواح فـيهنّ، فما وجه أمر من لا حياة فـيه بـالإقبـال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيـين، فما كانت حاجة إبراهيـم إلـى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن علـى رءوس الـجبـال؟ قـيـل: إن أمر اللّه تعالـى ذكره إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرّقات إنـما هو أمر تكوين، كقول اللّه للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} لا أمر عبـادة، فـيكون مـحالاً إلا بعد وجود الـمأمور الـمتعبد. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْلَـمْ أنّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيـمٌ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واعلـم يا إبراهيـم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تـمزيقك إياهنّ، وتفريقك أجزاءهنّ علـى الـجبـال، فجمعهن وردّ إلـيهن الروح، حتـى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن، {عَزِيزٌ} فـي بطشه إذا بطش بـمن بطش من الـجبـابرة والـمتكبرة الذين خالفوا أمره، وعصوا رسله، وعبدوا غيره، وفـي نقمته حتـى ينتقم منهم، {حَكِيـمٌ} فـي أمره. ٤٨٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق: {وَاعْلَـمْ أَنّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيـمٌ} قال: عزيز فـي بطشه، حكيـم فـي أمره. ٤٨٤٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَاعْلَـمْ أنّ اللّه عَزِيزٌ} فـي نقمته {حَكِيـمٌ} فِـي أمره. ٢٦١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ...} وهذه الآية مردودة إلـى قوله: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا فَـيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافـا كَثِـيرَةً وَاللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ}. والاَيات التـي بعدها إلـى قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } من قصص بنـي إسرائيـل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيـم مع إبراهيـم، وأمر الذي مرّ علـى القرية الـخاوية علـى عروشها، وقصة إبراهيـم ومسألته ربه ما سأل مـما قد ذكرناه قبل¹ اعتراض من اللّه تعالـى ذكره بـما اعترض به من قصصهم بـين ذلك احتـجاجا منه ببعضه علـى الـمشركين الذين كانوا يكذبون بـالبعث وقـيام الساعة، وحضّا منه ببعضه للـمؤمنـين علـى الـجهاد فـي سبـيـله الذي أمرهم به فـي قوله: {وَقَاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ}. يعرّفهم فـيهم أنه ناصرهم وإن قلّ عددهم وكثر عدد عدوّهم، ويعدهم النصرة علـيهم، ويعلـمهم سنته فـيـمن كان علـى منهاجهم من ابتغاء رضوان اللّه أنه مؤيدهم، وفـيـمن كان علـى سبـيـل أعدائهم من الكفـار بأنه خاذلهم ومفرّق جمعهم وموهن كيدهم، وقطعا منه ببعض عذر الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بـما أطلع نبـيه علـيه من خفـيّ أمورهم، ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التـي لـم يعلـمها سواهم، لـيعلـموا أن ما أتاهم به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من عند اللّه ، وأنه لـيس بتـخرّص ولا اختلاق، وإعذارا منه به إلـى أهل النفـاق منهم، لـيحذروا بشكهم فـي أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أن يحلّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلهما بأسلافهم الذين كانوا فـي القرية التـي أهلكها، فتركها خاوية علـى عروشها. ثم عاد تعالـى ذكره إلـى الـخبر عن الذي يقرض اللّه قرضا حسنا، وما عنده له من الثواب علـى قرضه، فقال: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } يعنـي بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم علـى أنفسهم فـي جهاد أعداء اللّه بأنفسهم وأموالهم، {كَمَثَلِ حَبّةٍ} من حبـات الـحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبـات الأرض التـي تسنبل سنبلة بذرها زارع. (فأنبتت)، يعنـي فأخرجت {سَبْعَ سَنَابِلَ فـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مائة حَبّة}، يقول: فكذلك الـمنفق ماله علـى نفسه فـي سبـيـل اللّه ، له أجره سبعمائة ضعف علـى الواحد من نفقته. كما: ٤٨٤٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ} فهذا لـمن أنفق فـي سبـيـل اللّه ، فله سبعمائة. ٤٨٤٥ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةَ حَبّةٍ وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشاءُ} قال: هذا الذي ينفق علـى نفسه فـي سبـيـل اللّه ويخرُج. ٤٨٤٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ}.. الآية. فكان من بـايع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم علـى الهجرة، ورابط مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـالـمدينة، ولـم يـلق وجها إلا بإذنه، كانت الـحسنة له بسبعمائة ضعف، ومن بـايع علـى الإسلام كانت الـحسنة له عشر أمثالها. فإن قال قائل: وهل رأيت سنبلة فـيها مائة حبة أو بلغتك فضرب بها الـمثل الـمنفق فـي سبـيـل اللّه ماله؟ قـيـل: إن يكن ذلك موجودا فهو ذاك، وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبة أنبتت سبع سنابل فـي كل سنبلة مائة حبة، إن جعل اللّه ذلك فـيها. ويحتـمل أن يكون معناه: فـي كل سنبلة مائة حبة¹ يعنـي أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة، فـيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من الـمائة الـحبة مضافـا إلـيها لأنه كان عنها. وقد تأول ذلك علـى هذا الوجه بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ} قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فهذا لـمن أنفق فـي سبـيـل اللّه ، {وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ}. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشاءُ}. فقال بعضهم: اللّه يضاعف لـمن يشاء من عبـاده أجر حسناته بعد الذي أعطى الـمنفق فـي سبـيـله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما الـمنفق فـي غير سبـيـله، فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بـالواحدة. ذكر من قال ذلك: ٤٨٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: هذا يضاعف لـمن أنفق فـي سبـيـل اللّه ، يعنـي السبعمائة¹ {وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي لغير الـمنفق فـي سبـيـله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: واللّه يضاعف لـمن يشاء من الـمنفقـين فـي سبـيـله علـى السبعمائة إلـى ألفـي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عبـاس من وجه لـم أجد إسناده فتركت ذكره. والذي هو أولـى بتأويـل قوله: {وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ} واللّه يضاعف علـى السبعمائة إلـى ما يشاء من التضعيف لـمن يشاء من الـمنفقـين فـي سبـيـله¹ لأنه لـم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير الـمنفق فـي سبـيـل اللّه فـيجوز لنا توجيه ما وعد تعالـى ذكره فـي هذه الآية من التضعيف إلـى أنه عدة منه علـى العمل علـى غير النفقة فـي سبـيـل اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: واللّه واسع أن يزيد من يشاء من خـلقه الـمنفقـين فـي سبـيـله علـى أضعاف السبعمائة التـي وعده أن يزيده، علـيـم من يستـحقّ منهم الزيادة. كما: ٤٨٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاللّه يُضَاعِفُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} قال: واسع أن يزيد من سعته، علـيـم عالـم بـمن يزيده. وقال آخرون: معنى ذلك: واللّه واسع لتلك الأضعاف، علـيـم بـما ينفق الذين ينفقون أموالهم فـي طاعة اللّه . ٢٦٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ...} يعني تعالى ذكره بذلك: المعطي ماله المجاهدين في سبيل اللّه معونة لهم على جهاد أعداء اللّه . يقول تعالى ذكره: الذين يعنون المجاهدين في سيبل اللّه بالإنفاق عليهم وفي حمولتهم، وغير ذلك من مؤنهم، ثم لم يتبع نفقته التي أنفقها عليهم منّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ولا أذى لهم فامتنانه به عليهم بأن ظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم بفعله، وعطائه الذي أعطاهموه، تقوية لهم على جهاد عدوّهم معروفا، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعلوأما الأذى فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقّواهم من النفقة في سبيل اللّه أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيبه من أنفق عليه. وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل اللّه ، وأوجب الأجر لمن كان غير مانّ ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل اللّه ، لأن النفقة التي هي في سبيل اللّه مما ابتغي به وجه اللّه ، وطلبه ما عنده، فإذا كان معنى النفقة في سبيل اللّه هو ما وصفنا، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه إن لم يكافئه عليها المنّ والأذى، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتساباوابتغاء ثواب اللّه وطلب مَرضاته وعلى اللّه مثويته دون من أنفق ذلك عليه. وبنـحو الـمعنى الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه ثُمّ لاَ يُتْبَعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} علـم اللّه أن أناسا يـمنون بعطيتهم، فكره ذلك وقدّم فـيه فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةً يَتْبَعُها أذًى وَاللّه غَنِـيّ حَلِـيـمٌ}. ٤٨٥١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال للاَخرين ـ يعنـي: قال اللّه للاَخرين، وهم الذين لا يخرجون فـي جهاد عدوّهم ـ: الذين ينفقون أموالهم فـي سبـيـل اللّه ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى قال: فشرط علـيهم قال: والـخارج لـم يشرط علـيه قلـيلاً ولا كثـيرا، يعنـي بـالـخارج الـخارج فـي الـجهاد الذي ذكر اللّه فـي قوله: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كَمَثَلِ حَبّةٍ}.. الآية. قال ابن زيد: وكان أبـي يقول: إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئا، أو تقوى فقويت فـي سبـيـل اللّه ، فظننت أنه يثقل علـيه سلامك فكفّ سلامك عنه. قال ابن زيد: فهو خير من السلام قال: وقالت امرأة لأبـي: يا أبـا أسامة، تدلنـي علـى رجل يخرج فـي سبـيـل اللّه حقا، فإنهم لا يخرجون إلا لـيأكلوا الفواكه! عندي جعبة وأسهم فـيها. فقال لها: لا بـارك اللّه لك فـي جعبتك، ولا فـي أسهمك، فقد آذيتـيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه. ٤٨٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى} قال: أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى. وأما قوله: {لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ} فإنه يعنـي للذين ينفقون أموالهم فـي سبـيـل اللّه علـى ما بـين. والهاء والـميـم فـي لهم عائدة علـى (الذين). ومعنى قوله: {لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ} لهم ثوابهم وجزاؤهم علـى نفقتهم التـي أنفقوها فـي سبـيـل اللّه ، ثم لا يتبعونها منّا ولا أذى. وقوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يقول: وهم مع ما لهم من الـجزاء والثواب علـى نفقتهم التـي أنفقوها علـى ما شرطنا¹ لا خوف علـيهم عند مقدمهم علـى اللّه ، وفراقهم الدنـيا، ولا فـي أهوال القـيامة، وأن ينالهم من مكارهها، أو يصيبهم فـيها من عقاب اللّه ، ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم فـي الدنـيا. ٢٦٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَوْلٌ مّعْرُوفٌ ...} يعنى تعالى ذكره بقوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قول جميـل، ودعاء الرجل لأخيه الـمسلـم. {وَمَغْفِرَةٌ} يعنـي: وستر منه علـيه لـما علـم من خـلته وسوء حالته، خير عند اللّه من صدقة يتصدقها علـيه يتبعها أذى، يعنـي يشتكيه علـيها ويؤذيه بسببها. كما: ٤٨٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أذًى} يقول: أن يـمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منّا وأذى. وأما قوله: {غَنِـيّ حَلِـيـمٌ} فإنه يعنـي: واللّه غنـيّ عما يتصدقون به، حلـيـم حين لا يعجل بـالعقوبة علـى من يـمنّ بصدقته منكم، ويؤذي فـيها من يتصدّق بها علـيه. ورُوي عن ابن عبـاس فـي ذلك ما: ٤٨٥٤ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : الغنـيّ: الذي كمل فـي غناه، والـحلـيـم: الذي قد كمل فـي حلـمه. ٢٦٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ...} يعنـي تعالـى ذكره بذلك: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} صدّقوا اللّه ورسوله، {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ}، يقول: لا تبطلوا أجور صدقاتكم بـالـمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله {رِئَاءَ النّاسِ}، وهو مراءاته إياهم بعمله¹ وذلك أن ينفق ماله فـيـما يرى الناس فـي الظاهر أنه يريد اللّه تعالـى ذكره فـيحمدونه علـيه وهو مريد به غير اللّه ولا طالب منه الثواب وإنـما ينفقه كذلك ظاهرا لـيحمده الناس علـيه فـيقولوا: هو سخيّ كريـم، وهو رجل صالـح، فـيحسنوا علـيه به الثناء وهم لا يعلـمون ما هو مستبطن من النـية فـي إنفـاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو علـيه من التكذيب بـاللّه تعالـى ذكره والـيوم الاَخر. وأما قوله: {وَلاَ يُوءْمِنُ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ} فإن معناه: ولا يصدّق بواحدنـية اللّه وربوبـيته، ولا بأنه مبعوث بعد مـماته فمـجازًى علـى عمله، فـيجعل عمله لوجه اللّه وطلب ثوابه وما عنده فـي معاده. وهذه صفة الـمنافق¹ وإنـما قلنا إنه منافق، لأن الـمظهر كفره والـمعلن شركه معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيا، لأن الـمرائي هو الذي يرائي الناس بـالعمل الذي هو فـي الظاهر لله وفـي البـاطن عامله مراده به حمد الناس علـيه، والكافر لا يخيـل علـى أحد أمره أن أفعاله كلها إنـما هي للشيطان ـ إذا كان معلنا كفره ـ لا لله، ومن كان كذلك فغير كائن مرائيا بأعماله. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال أبو هانىء الـخولانـي، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا يزنـي، ولا يغلّ، لا يرجع بـالكفـاف! فقـيـل له: لـم ذاك؟ قال: فإن الرجل لـيخرج فإذا أصابه من بلاء اللّه الذي قد حكم علـيه سبّ ولعن إمامه، ولعن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدا! فهذا علـيه، ولـيس له مثل النفقة فـي سبـيـل اللّه يتبعها منّ وأذى، فقد ضرب اللّه مثلها فـي القرآن: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} حتـى ختـم الآية. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ ...}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر. والهاء فـي قوله: {فَمَثَلُهُ} عائدة علـى (الذي). {كمثَل صَفْوَانٍ} والصفوان واحد وجمع، فمن جعله جمعا فـالواحدة صفوانة بـمنزلة تـمرة وتـمر ونـخـلة ونـخـل، ومن جعله واحدا جمعه صفوان وصِفِـيّ وصُفِـيّ، كما قال الشاعر: مَـوَاقِـعُ الـطّـيْـرِ عـلـى الـصّـفِـيّ والصفوان هو الصفـا، وهي الـحجارة الـملسوقوله: {عَلَـيْهِ تُرَابٌ} يعنـي علـى الصفوان تراب، {فأصَابَهُ} يعفنـي أصاب الصفوان، {وَابِلٌ}: وهو الـمطر الشديد العظيـم، كما قال امرؤ القـيس: ساعَةً ثم انْتـحاها وابلٌساقِطُ الأكْنافِ واهٍ مُنْهَمِرْ يقال منه: وَبلت السماء فهي تَبِلُ وَبْلاً، وقد وُبِلَت الأرض فهي تُوبَل. وقوله: {فَتَرَكَهُ صَلْدا} يقول: فترك الوابل الصفوان صلدا¹ والصلد من الـحجارة: الصلب الذي لا شيء علـيه من نبـات ولا غيره، وهو من الأرضين ما لا ينبت فـيه شيء، وكذلك من الرءوس، كما قال رؤبة: لـما رأتْنِـي خَـلَقَ الـمُـمَوّهِبَرّاقَ أصْلادِ الـجبـين الأجْلَهِ ومن ذلك يقال للقدر الثـخينة البطيئة الغلـي: قِدْرٌ صَلود، وقد صَلدت تَصْلُدُ صُلُودا، ومنه قول تأبط شرّا: وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ لَـيْـلٍ وقِرّةٍولا بصفَـا صَلْدٍ عن الـخير مَعْزِلِ (ثم رجع تعالـى ذكره إلـى ذكر الـمنافقـين الذين ضرب الـمثل لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بـمنزلة الصفوان الذي كان علـيه تراب، فأصابه الوابل من الـمطر، فذهب بـما علـيه من التراب، فتركه نقـيا لا تراب علـيه ولا شيء يراهم الـمسلـمون فـي الظاهر أن لهم أعمالاً كما يرى التراب علـى هذا الصفوان بـما يراءونهم به، فإذا كان يوم القـيامة وصاروا إلـى اللّه اضمـحل ذلك كله، لأنه لـم يكن لله كما ذهب الوابل من الـمطر بـما كان علـى الصفوان من التراب، فتركه أملس لا شيء علـيه، فذلك قوله: لا يقدرون، يعنـي به الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بـاللّه ولا بـالـيوم الاَخر، يقول: لا يقدرون يوم القـيامة علـى ثواب شيء مـما كسبوا فـي الدنـيا، لأنهم لـم يعملوا لـمعادهم ولا لطلب ما عند اللّه فـي الاَخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم، وإنـما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها. ثم أخبر تعالـى ذكره أنه لا يهدي القوم الكافرين، يقول: لا يسددهم لإصابة الـحق فـي نفقاتهم وغيرها فـيوفقهم لها، وهم للبـاطل علـيها مؤثرون، ولكنه تركهم فـي ضلالتهم يعمهون، فقال تعالـى ذكره للـمؤمنـين: لا تكونوا كالـمنافقـين الذين هذا الـمثل صفة أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بـمنّكم علـى من تصدقتـم بها علـيه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة الـمنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بـاللّه والـيوم الاَخر عند اللّه .) وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِـالـمَنّ والأذَى} فقرأ حتـى بلغ: {عَلَـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُوا} فهذا مثل ضربه اللّه لأعمال الكفـار يوم القـيامة يقول: لا يقدرون علـى شيء مـما كسبوا يومئذٍ، كما ترك هذا الـمطر الصفـاةَ الـحجرَ لـيس علـيه شيء أنقـى ما كان. ٤٨٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ} إلـى قوله: {وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ} هذا مثل ضربه اللّه لأعمال الكافرين يوم القـيامة، يقول: لا يقدرون علـى شيء مـما كسبوا يومئذٍ، كما ترك هذا الـمطر الصفـا نقـيا لا شيء علـيه. ٤٨٥٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ وَالأذَى} إلـى قوله: {عَلَـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُوا} أما الصفوان الذي علـيه تراب فأصابه الـمطر، فذهب ترابه فتركه صلدا، فكذا هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ذهب الرياء بنفقته، كما ذهب هذا الـمطر بتراب هذا الصفـا فتركه نقـيا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر علـى شيء مـما قدم¹ فقال للـمؤمنـين: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمنّ والأذَى} فتبطل كما بطلت صدقة الرياء. ٤٨٥٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى. فضرب اللّه مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بـاللّه ولا بـالـيوم الاَخر، فضرب اللّه مثلهما جميعا {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فَأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا} فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منّا وأذى. ٤٨٦٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} إلـى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا} لـيس علـيه شيء، وكذلك الـمنافق يوم القـيامة لا يقدر علـى شيء مـما كسب. ٤٨٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج فـي قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} قال: يـمنّ بصدقته ويؤذيه فـيها حتـى يبطلها. ٤٨٦٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ثُمّ لاَ يُتْبِعُون ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى} فقرأ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} حتـى بلغ: {لا يَقْدِرُونَ عَلـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُوا} ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب علـى الصفوان شيئا؟ فكذلك منّك وأذاك لـم يدع مـما أنفقت شيئا. وقرأ قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ وَالأذَى} وقرأ: {وَمَا أنْفَقْتُـمْ مِنْ نَفَقَةٍ}. فقرأ حتـى بلغ: {وأَنْتُـمْ لاَ تُظْلَـمُونَ}. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {صَفْوَانٍ} قد بـينا معنى الصفوان بـما فـيه الكفـاية، غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا فـي ذلك من أهل التأويـل. ٤٨٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} كمثل الصفـاة. ٤٨٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} والصفوان: الصفـا. ٤٨٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. ٤٨٦٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما صفوان، فهو الـحجر الذي يسمى الصفـاة. ٤٨٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله. ٤٨٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {صفوان} يعنـي الـحجر. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فأصَابَهُ وَابِلٌ}. قد مضى البـيان عنه، وهذا ذكر من قال قولنا فـيه: ٤٨٦٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما وابل: فمطر شديد. ٤٨٧٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {فأصَابَهُ وَابِلٌ} والوابل: الـمطر الشديد. ٤٨٧١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله. ٤٨٧٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَتَرَكَهُ صَلْدا}. ذكر من قال نـحو ما قلنا فـي ذلك: ٤٨٧٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فَتَرَكَهُ صَلْدا} يقول نقـيا. ٤٨٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {فَتَرَكَهُ صَلْدا} قال: تركها نقـية لـيس علـيها شيء. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْدا} قال: لـيس علـيه شيء. ٤٨٧٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {صَلْدا} فتركه جردا. ٤٨٧٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {فَتَرَكَهُ صَلْدا} لـيس علـيه شيء. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {فَتَرَكَهُ صَلْدا} لـيس علـيه شيء. ٢٦٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: ومثل الذين ينفقون أموالهم فـيصّدّقون بها ويحملون علـيها فـي سبـيـل اللّه ويقوّون بها أهل الـحاجة من الغزاة والـمـجاهدين فـي سبـيـل اللّه وفـي غير ذلك من طاعات اللّه طلب مرضاته. {وَتَثبـيتا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعنـي بذلك: وتثبـيتا لهم علـى إنفـاق ذلك فـي طاعة اللّه وتـحقـيقا، من قول القائل: ثَبّتّ فلانا فـي هذا الأمر: إذ صححت عزمه وحققته وقوّيت فـيه رأيه أثبته تثبـيتا، كما قال ابن رواحة: فَثَبّتَ اللّه ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍتَثْبِـيتَ مُوسَى وَنَصْرا كَالّذِي نُصِرُوا وإنـما عنى اللّه جلّ وعزّ بذلك، أن أنفسهم كانت موقنة مصدّقة بوعد اللّه إياها فـيـما أنفقت فـي طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتهم فـي إنفـاق أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه ، وصحح عزمهم وآراءهم يقـينا منها بذلك، وتصديقا بوعد اللّه إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويـل فـي قوله: {وَتَثْبِـيتا} وتصديقا، ومن قال منهم ويقـينا¹ لأن تثبـيت أنفس الـمنفقـين أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه إياهم، إنـما كان عن يقـين منها وتصديق بوعد اللّه . ذكر من قال ذلك من أهل التأويـل: ٤٨٧٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي موسى، عن الشعبـي: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: تصديقا ويقـينا. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي موسى، عن الشعبـي: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: وتصديقا من أنفسهم ثبـات ونصرة. ٤٨٧٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: يقـينا من أنفسهم قال: التثبـيت الـيقـين. ٤٨٧٩ـ حدثنـي يونس، قال: حدثنا علـيّ بن معبد، عن أبـي معاوية، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح فـي قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} يقول: يقـينا من عند أنفسهم. وقال آخرون: معنى قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} أنهم كانوا يتثبتون فـي الـموضع الذي يضعون فـيه صدقاتهم. ذكر من قال ذلك: ٤٨٨٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن عثمان بن الأسود، عن مـجاهد: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} فقلت له: ما ذلك التثبـيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن عثمان بن الأسود، عن مـجاهد: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها. ٤٨٨١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن علـيّ بن علـيّ بن رفـاعة، عن الـحسن فـي قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم، يعنـي زكاتهم. ٤٨٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن علـيّ بن علـيّ، قال: سمعت الـحسن قرأ: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك. وهذا التأويـل الذي ذكرناه عن مـجاهد والـحسن تأويـل بعيد الـمعنى مـما يدلّ علـيه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأوّلوا قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} بـمعنى: وتثبتا، فزعموا أن ذلك إنـما قـيـل كذلك لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويـل كذلك، لكان: وتثبتا من أنفسهم¹ لأن الـمصدر من الكلام إن كان علـى تفعلت التفعل، فـيقال: تكرمت تكرما، وتكلـمت تكلـما، وكما قال جل ثناؤه: {أوْ يأْخُذَهُمْ علـى تَـخَوّفٍ} من قول القائل: تـخوّف فلان هذا الأمر تـخوّفـا. فكذلك قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} لو كان من تثبت القوم فـي وضع صدقاتهم مواضعها لكان الكلام: (وتثبتا من أنفسهم)، لا (وتثبـيتا)، ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه وتثبـيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم والـيقـين بوعد اللّه تعالـى ذكره. فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول اللّه عزّ وجلّ: {وَتَبَتّلْ إلَـيْهِ تَبْتِـيلاً} ولـم يقل: تبتلاً؟ قـيـل: إن هذا مخالف لذلك، وذلك أن هذا إنـما جاز أن يقال فـيه: (تبتـيلاً) لظهور (وتبتل إلـيه)، فكان فـي ظهوره دلالة علـى متروك من الكلام الذي منه قـيـل: تبتـيلاً، وذلك أن الـمتروك هو: (تبتل فـيبتلك اللّه إلـيه تبتـيلاً)، وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا تـخرج الـمصادر علـى غير ألفـاظ الأفعال التـي تقدّمتها إذا كانت الأفعال الـمتقدمة تدل علـى ما أخرجت منه، كما قال جل وعزّ: {وَاللّه أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَـاتا} وقال: {وَأنْبَتَهَا نبـاتا حَسَنا} والنبـات: مصدر نبت، وإنـما جاز ذلك لـمـجيء أنبت قبله، فدلّ علـى الـمتروك الذي منه قـيـل نبـاتا، والـمعنى: واللّه أنبتكم فنبّتـم من الأرض نبـاتا. ولـيس قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه. ومعنى الكلام: ويتثبتون فـي وضع الصدقات مواضعها، فـيصرف إلـى الـمعانـي التـي صرف إلـيها قوله: {وَتَبَتّلْ إلَـيْهِ تَبْتِـيلاً} وما أشبه ذلك من الـمصادر الـمعدولة عن الأفعال التـي هي ظاهرة قبلها. وقال آخرون: معنى قوله: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} احتسابـا من أنفسهم. ذكر من قال ذلك: ٤٨٨٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَتَثْبِـيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} يقول: احتسابـا من أنفسهم. وهذا القول أيضا بعيد الـمعنى من معنى التثبـيت، لأن التثبـيت لا يعرف فـي شيء من الكلام بـمعنى الاحتساب، إلا أن يكون أراد مفسره كذلك أن أنفس الـمنفقـين كانت مـحتسبة فـي تثبـيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فلـيس الاحتساب بـمعنى حينئذ للتثبـيت فـيترجم عنه به. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابَهَا وَابلٌ ...}. يعنـي بذلك جل وعزّ: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فـيتصدّقون بها، ويسبّلونها فـي طاعة اللّه بغير منّ علـى من تصدّقوا بها علـيه ولا أذى منهم لهم بها ابتغاء رضوان اللّه وتصديقا من أنفسهم بوعده، {كَمَثَلِ جَنّةٍ} والـجنة: البستان. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن الـجنة البستان بـما فـيه الكفـاية من إعادته. {بربوة} والربوة من الأرض: ما نشز منها فـارتفع عن السيـل. وإنـما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن الـمسايـل والأودية أغلظ، وجنان ما غُلظ من الأرض أحسن وأزكى ثمرا وغرسا وزرعا مـما رقّ منها، ولذلك قال أعشى بنـي ثعلبة فـي وصف روضة: ما رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الـحَزْنِ مُعْشِبَةٌخَضْرَاءُ جادَ عَلَـيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ فوصفها بأنها من رياض الـحزن، لأن الـحزون: غرسها ونبـاتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها. وفـي الربوة لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القراء، وهي (رُبْوة) بضم الراء، وبها قرأت عامة قراء أهل الـمدينة والـحجاز والعراق. و(رَبْوة) بفتـح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتـميـم. و(رِبْوة) بكسر الراء، وبها قرأ فـيـما ذكر ابن عبـاس . وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتـين: إما بفتـح الراء، وإما بضمها، لأن قراءة الناس فـي أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارا منـي بفتـحها، لأنها أشهر اللغتـين فـي العرب¹ فأما الكسر فإن فـي رفض القراءة به دلالة واضحة علـى أن القراءة به غير جائزة. وإنـما سميت الربوة لأنها ربت فغلظت وعلت، من قول القائل: ربـا هذا الشيء يربو: إذا انتفخ فعظم. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: الربوة: الـمكان الظاهر الـمستوي. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال مـجاهد: هي الأرض الـمستوية الـمرتفعة. ٤٨٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} يقول: بنشز من الأرض. ٤٨٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} والربوة: الـمكان الـمرتفع الذي لا تـجري فـيه الأنهار والذي فـيه الـجنان. ٤٨٨٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {بِرَبْوَةٍ} برابـية من الأرض. ٤٨٨٨ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} والربوة النشَز من الأرض. ٤٨٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عبـاس : {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: الـمكان الـمرتفع الذي لا تـجري فـيه الأنهار. وكان آخرون يقولون: هي الـمستوية. ذكر من قال ذلك: ٤٨٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: {كَمَثَلِ جَنّةٍ بِرَبْوَةٍ} قال: هي الأرض الـمستوية التـي تعلو فوق الـمياه. وأما قوله: {أصَابَها وَابِلٌ} فإنه يعنـي جل ثناؤه أصاب الـجنة التـي بـالربوة من الأرض وابل من الـمطر، وهو الشديد العظيـم القطر منهوقوله: {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَـيْنِ} فإنه يعنـي الـجنة أنها أضعف ثمرها ضعفـين حين أصابها الوابل من الـمطر، والأُكْل: هو الشيء الـمأكول، وهو مثل الرّعْب والهُزْء وما أشبه ذلك من الأسماء التـي تأتـي علـى فعل¹ وأما الأَكْل بفتـح الألف وتسكين الكاف، فهو فعل الاَكل، يقال منه: أكلت أَكْلاً، وأكلت أكلة واحدة، كما قال الشاعر: وما أكْلَةٌ أكَلْتُها بِغَنِـيـمَةٍولا جَوْعَةٌ إنْ جُعْتُها بغَرَامِ ففتـح الألف لأنها بـمعنى الفعل. ويدلك علـى أن ذلك كذلك قوله: (ولا جوعة)، وإن ضمت الألف من (الأكلة) كان معناه: الطعام الذي أكلته، فـيون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنـيـمة. وأما قوله: {فإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ} فإن الطلّ: هو الندى واللـين من الـمطر. كما: ٤٨٩١ـ حدثنا عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: {فَطَلّ} ندى. عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس . ٤٨٩٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما الطل: فـالندى. ٤٨٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ} أي طشّ. ٤٨٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {فَطَلّ} قال: الطل: الرذاذ من الـمطر، يعنـي اللـين منه. ٤٨٩٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {فَطَلّ} أي طش. وإنـما يعنـي تعالـى ذكره بهذا الـمثل كما ضعفت ثمرة هذه الـجنة التـي وصفت صفتها حين جاد الوابل فإن أخطأ هذا الوابل فـالطلّ كذلك يضعف اللّه صدقة الـمتصدّق والـمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبـيتا من نفسه من غير منّ ولا أذى، قلّت نفقته أو كثرت لا تـخيب ولا تـخـلف نفقته، كما تضعف الـجنة التـي وصف جل ثناؤه صفتها قل ما أصابها من الـمطر أو كثر لا يخـلف خيرها بحال من الأحوال. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٨٩٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {فَآتَتْ أُكُلُهَا ضِعْفَـيْنِ فَإنْ لَـمْ يُصِبْها وَابِلٌ فَطَلّ} يقول: كما أضعفت ثمرة تلك الـجنة، فكذلك تضاعف ثمرة هذا الـمنفق ضعفـين. ٤٨٩٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَـيْنِ فإنْ لَـمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ} هذا مثل ضربه اللّه لعمل الـمؤمن، يقول: لـيس لـخيره خـلف، كما لـيس لـخير هذه الـجنة خـلف علـى أيّ حال، إما وابل، وإما طلّ. ٤٨٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه . ٤٨٩٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالهمْ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه }.. الآية، قال: هذا مثل ضربه اللّه لعمل الـمؤمن. فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {فَإنْ لَـمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ} وهذا خبر عن أمر قد مضى؟ قـيـل: يراد فـيه: كان، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفـين، فإن لـم يكن الوابل أصابها، أصابها طلّ، وذلك فـي الكلام نـحو قول القائل: حبست فرسين، فإن لـم أحبس اثنـين فواحدا بقـيـمته، بـمعنى: إلا أكن، لا بد من إضمار (كان)، لأنه خبر¹ ومنه قول الشاعر: إذَا ما انْتَسَبْنَا لَـمْ تَلِدْنِـي لَئِيـمَةٌ ولَـمْ تَـجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِها بُدّا القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. يعنـي بذلك: واللّه بـما تعملون أيها الناس فـي نفقاتكم التـي تنفقونها بصير، لا يخفـى علـيه منها ولا من أعمالكم فـيها وفـي غيرها شيء يعلـم من الـمنفق منكم بـالـمنّ والأذى والـمنفق ابتغاء مرضاة اللّه ، وتثبـيتا من نفسه، فـيحصي علـيكم حتـى يجازي جميعكم جزاءه علـى عمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا. وإنـما يعنـي بهذا القول جلّ ذكره، التـحذير من عقابه فـي النفقات التـي ينفقها عبـاده، وغير ذلك من الأعمال أن يأتـي أحد من خـلقه ما قد تقدم فـيه بـالنهي عنه، أو يفرّط فـيـما قد أمر به، لأن ذلك بـمرأى من اللّه ومسمع، يعلـمه ويحصيه علـيهم، وهو لـخـلقه بـالـمرصاد. ٢٦٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ...} يعنـي تعالـى ذكره {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى ...} الآية. ومعنى قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ} أيحبّ أحدكم أن تكون له جنة ـ يعنـي بستانا من نـخيـل وأعناب ـ تـجري من تـحتها الأنهار ـ يعنـي من تـحت الـجنة ـ وله فـيها من كل الثمرات. والهاء فـي قوله: {لَهُ} عائدة علـى أحد، والهاء والألف فـي: {فِـيها} علـى الـجنة، {وَأَصَابَهُ} يعنـي وأصاب أحدكم الكبر، {وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَـاءُ}. وإنـما جعل جل ثناؤه البستان من النـخيـل والأعناب، الذي قال جل ثناؤه لعبـاده الـمؤمنـين: أيودّ أحدكم أن تكون له مثلاً لنفقة الـمنافق التـي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة اللّه ، فـالناس بـما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لـما يعطى وعمله الظاهر، يثنون علـيه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته فـي حسنه كحسن البستان وهي الـجنة التـي ضربها اللّه عزّ وجلّ لعمله مثلاً من نـخيـل وأعناب، له فـيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله فـي الظاهر فـي الدنـيا، له فـيه من كل خير من عاجل الدنـيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذرّيته، ويكتسب به الـمـحمدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من الـمغنـم مع أشياء كثـيرة يكثر إحصاؤها، فله فـي ذلك من كل خير فـي الدنـيا، كما وصف جل ثناؤه الـجنة التـي وصف مثلاً بعمله، بأن فـيها من كل الثمرات، ثم قال جل ثناؤه: {وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَـاءُ} يعنـي أن صاحب الـجنة أصابه الكبر وله ذرية ضعفـاء صغار أطفـال، {فأصَابَها} يعنـي فأصاب الـجنة إعصار فـيه نار، {فَـاحْتَرَقَتْ} يعنـي بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التـي فـيها النار فـي حال حاجته إلـيها، وضرورته إلـى ثمرتها بكبره وضعفه عن عمارتها، وفـي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقـيام علـيها، فبقـي لا شيء له أحوج ما كان إلـى جنته وثمارها بـالاَفة التـي أصابتها من الإعصار الذي فـيه النار. يقول: فكذلك الـمنفق ماله رياء الناس، أطفأ اللّه نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتـى لقـيه، وعاد إلـيه أحوج ما كان إلـى عمله، حين لا مستَعْتَب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمـحلّ عمله كما احترقت الـجنة التـي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذرّيته أحوج ما كان إلـيها فبطلت منافعها عنه. وهذا الـمثل الذي ضربه اللّه للـمنفقـين أموالهم رياء الناس فـي هذه الآية نظير الـمثل الاَخر الذي ضربه لهم بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَـيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلـى شَيْءٍ مِـمّا كَسَبُوا}. وقد تنازع أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، إلا أن معانـي قولهم فـي ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فـيها عائدة إلـى الـمعنى الذي قلنا فـي ذلك، وأحسنهم إبـانة لـمعناها وأقربهم إلـى الصواب قولاً فـيها السدي. ٤٩٠٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَه جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ لَهُ فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ وَأصَابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَـاءُ فأصَابَها إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} هذا مثل آخر لنفقة الرياء، أنه ينفق ماله يرائي الناس به، فـيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره اللّه فـيه، فإذا كان يوم القـيامة واحتاج إلـى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل علـى جنته، حتـى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلـى جنته جاءت ريح فـيها سَموم فأحرقت جنته، فلـم يجد منها شيئا، فكذلك الـمنفق رياء. ٤٩٠١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ} كمثل الـمفرّط فـي طاعة اللّه حتـى يـموت، قال يقول: أيودّ أحدكم أن يكون له دنـيا لا يعمل فـيها بطاعة اللّه ، كمثل هذا الذي له جنات تـجري من تـحتها الأنهار، له فـيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر، وله ذرية ضعفـاء، فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبـير، لا يغنـي عنها شيئا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئا، وكذلك الـمفرّط بعد الـموت كل شيء علـيه حسرة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٩٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد الـملك، عن عطاء، قال: سأل عمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدا يشفـيه، حتـى قال ابن عبـاس وهو خـلفه: يا أمير الـمؤمنـين إنـي أجد فـي نفسي منها شيئا، قال: فتلفت إلـيه، فقال: تـحوّل ههنا! لـمَ تـحقر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه اللّه عزّ وجلّ فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الـخير وأهل السعادة، حتـى إذا كان أحوج ما يكون إلـى أن يختـمه بخير حين فنـي عمره، واقترب أجله، ختـم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرّقه أحوج ما كان إلـيه. ٤٩٠٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن مـحمد بن سلـيـم، عن ابن أبـي ملـيكة، أن عمر تلا هذه الآية: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ} قال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالـحا، حتـى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إلـيه، عمل عمل السوء. ٤٩٠٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبـا بكر بن أبـي ملـيكة يخبر عن عبـيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: فـيـم ترون أنزلت {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ}؟ فقالوا: اللّه أعلـم! فغضب عمر، فقال: قولوا نعلـم أو لا نعلـم! فقال ابن عبـاس : فـي نفسي منها شيء يا أمير الـمؤمنـين. فقال عمر: قل يا ابن أخي ولا تـحقر نفسك! قال ابن عبـاس : ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أيّ عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عُنِـيَ بعمل الـحسنات، ثم بعث اللّه له الشيطان، فعمل بـالـمعاصي حتـى أغرق أعماله كلها قال: وسمعت عبد اللّه بن أبـي ملـيكة يحدّث نـحو هذا عن ابن عبـاس ، سمعه منه. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبـا بكر بن أبـي ملـيكة يخبر أنه سمع عبـيد بن عمير، قال ابن جريج: وسمعت عبد اللّه بن أبـي ملـيكة، قال: سمعت ابن عبـاس ، قالا جميعا: إن عمر بن الـخطاب سأل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نـحوه، إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بـالـحسنات، ثم يبعث له الشيطان فـيعمل بـالـمعاصي. ٤٩٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها. ثم قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد، قالا: ضربت مثلاً للأعمال. قال ابن جريج: و قال ابن عبـاس : ضربت مثلاً للعمل يبدأ فـيعمل عملاً صالـحا، فـيكون مثلاً للـجنة التـي من نـخيـل وأعناب تـجري من تـحتها الأنهار، له فـيها من كل الثمرات، ثم يسيء فـي آخر عمره، فـيتـمادى علـى الإساءة حتـى يـموت علـى ذلك، فـيكون الإعصار الذي فـيه النار التـي أحرقت الـجنة، مثلاً لإساءته التـي مات وهو علـيها. قال ابن عبـاس : الـجنة عيشه وعيش ولده فـاحترقت، فلـم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولـم يستطع ذرّيته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتـى احترقت. يقول: هذا مثله تلقاه وهو أفقر ما كان إلـيّ، فلا يجد له عندي شيئا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب اللّه شيئا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات. قال ابن جريج، عن مـجاهد: سمعت ابن عبـاس قال: هو مثل الـمفرّط فـي طاعة اللّه حتـى يـموت. قال ابن جريج وقال مـجاهد: أيودّ أحدكم أن تكون له دنـيا لا يعمل فـيها بطاعة اللّه ، كمثل هذا الذي له جنة، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبـير لا يغنـي عنها شيئا وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئا، وكذلك الـمفرط بعد الـموت كل شيء علـيه حسرة. ٤٩٠٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهارُ}.. الآية. يقول: أصابها ريح فـيها سموم شديدة، كذلك يبـين اللّه لكم الاَيات لعلكم تتفكرون، فهذا مثل. فـاعقلوا عن اللّه جلّ وعزّ أمثاله، فإنه قال: {وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها للنّاسِ وَما يَعْقِلُها إلاّ العالِـمُونَ}. هذا رجل كبرت سنة ودقّ عظمه وكثر عياله، ثم احترقت جنته علـى بقـية ذلك كأحوج ما يكون إلـيه. يقول: أيحبّ أحدكم أن يضلّ عنه عمله يوم القـيامة كأحوج ما يكون إلـيه؟ ٤٩٠٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ} إلـى قوله: {فـاحْتَرَقَتْ} يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إلـيها حين كبرت سنه وضعف عن الكسب، وله ذرية ضعفـاء لا ينفعونه قال: وكان الـحسن يقول: فـاحترقت فذهبت أحوج ما كان إلـيها، فذلك قوله: أيودّ أحدكم أن يذهب عمله أحوج ما كان إلـيه. ٤٩٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : ضرب اللّه مثلاً حسنا، وكل أمثاله حسن تبـارك وتعالـى وقال: قال أيوب. {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ} إلـى قوله: {فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ} يقول: صنعه فـي شبـيبته فأصابه الكبر وله ذرّية ضعفـاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فـيه نار، فأحرق بستانه، فلـم يكن عنده قوّة أن يغرس مثله، ولـم يكن عند نسله خير يعودون علـيه. وكذلك الكافر يوم القـيامة إذا رد إلـى اللّه تعالـى لـيس له خير فـيُسْتَعْتَب كما لـيس له قوّة فـيغرس مثل بستانه، ولا يجد خيرا قدم لنفسه يعود علـيه، كما لـم يغن عن هذا ولده، وحرم أحره عند أفقر ما كان إلـيه كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إلـيها عند كبره وضعف ذرّيته. وهو مثل ضربه اللّه للـمؤمن والكافر فـيـما أوتـيا فـي الدنـيا، كيف نـجى الـمؤمن فـي الاَخرة، وذخر له من الكرامة والنعيـم، وخزن عنه الـمال فـي الدنـيا، وبسط للكافر فـي الدنـيا من الـمال ما هو منقطع، وخزن له من الشرّ ما لـيس بـمفـارقه أبدا ويخـلد فـيها مهانا، من أجل أنه فخر علـى صاحبه ووثق بـما عنده ولـم يستـيقن أنه ملاق ربه. ٤٩٠٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {أيَوَدّ أحَدَكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ}.. الآية قال: هذا مثل ضربه اللّه {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلً وَأعْنابٍ... فِـيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ} والرجل قد كبر سنه وضعف وله أولاد صغار، وابتلاهم اللّه فـي جنتهم، فبعث اللّه علـيها إعصارا فـيه نار فـاحترقت، فلـم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوج ما كان إلـيها. يقول: أيحبّ أحدكم أن يعيش فـي الضلالة والـمعاصي حتـى يأتـيه الـموت، فـيجيء يوم القـيامة قد ضلّ عنه عمله أحوج ما كان إلـيه، فـيقول ابن آدم: أتـيتنـي أحوج ما كنت قط إلـى خير، فأين ما قدّمت لنفسك؟ ٤٩١٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول اللّه عزّ وجلّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بـالـمَنّ والأذَى} ثم ضرب ذلك مثلاً، فقال: {أَيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وأعْنابٍ} حتـى بلغ {فأصَابَها إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فـاحْتَرَقَتْ} قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفـاء، فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت، أيودّ أحدكم هذا؟ فما يحمل أحدكم أن يخرج من صدقته ونفقته حتـى إذا كان له عندي جنة وجرت أنهارها وثمارها، وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها. ٤٩١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَـخِيـلٍ وَأعْنَابٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنْهارُ} رجل غرس بستانا فـيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفـاء، فأصابها إعصار فـيه نار فـاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولـم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه اللّه للكافر، يقول: يـلقانـي يوم القـيامة وهو أحوج ما يكون إلـى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرا ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب اللّه شيئا. وإنـما دللنا أن الذي هو أولـى بتأويـل ذلك ما ذكرناه، لأن اللّه جل ثناؤه تقدم إلـى عبـاده الـمؤمنـين بـالنهي عن الـمنّ والأذى فـي صدقاتهم. ثم ضرب مثلاً لـمن منّ وآذى من تصدّق علـيه بصدقة، فمثله بـالـمرائي من الـمنافقـين، الـمنفقـين أموالهم رياء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من الـمثل نظيرة ما ضرب لهم من الـمثل قبلها، فكان إلـحاقها بنظيرتها أولـى من حمل تأويـلها علـى أنه مثل ما لـم يجر له ذكر قبلها ولا معها. فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: {وَأصَابَهُ الكِبَرُ} وهو فعل ماض فعطف به علـى قوله {أيَودّ أحَدُكُمْ}؟ قـيـل¹ إن ذلك كذلك، لأن قوله: {أَيَوَدّ} يصحّ أن يوضع فـيه (لو) مكان (أن) فلـما صلـحت بلو وأن ومعناهما جميعا الاستقبـال، استـجازت العرب أن يردّوا (فَعَلَ) بتأويـل (لو) علـى (يفعَل) مع (أن)، فلذلك قال: فأصابها، وهو فـي مذهبه بـمنزلة (لو) إذا ضارعت (أن) فـي معنى الـجزاء، فوضعت فـي مواضعها، وأجيبت (أن) بجواب (لو) و(لو) بجواب (أن)، فكأنه قـيـل: أيودّ أحدكم لو كانت له جنة من نـخيـل وأعناب، تـجري من تـحتها الأنهار، له فـيها من كل الثمرات وأصابه الكبر. فإن قال: وكيف قـيـل ههنا: وله ذرية ضعفـاء؟ وقال فـي النساء: {وَلْـيَخْشَ الّذِي لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا}؟ قـيـل: لأن (فعيلاً) يجمع علـى (فعلاء) و(فِعال)، فـيقال: رجل ظريف من قوم ظرفـاء وظرافوأما الإعصار: فإنه الريح العاصف، تهبّ من الأرض إلـى السماء كأنها عمود، تـجمع أعاصير¹ ومنه قول يزيد بن مُفَرّغ الـحميريّ: أناسٌ أجارُونا فكانَ جِوَارُهُمْأعاصيرَ من سُوءِ العِراقِ الـمُنذّر واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فَـاحْتَرَقَتْ} فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فـيها سموم شديدة. ذكر من قال ذلك: ٤٩١٢ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن بزيغ، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتـي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} ريح فـيها سموم شديدة. ٤٩١٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس فـي: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ} قال: السموم الـحارة التـي خـلق منها الـجان التـي تـحرق. ٤٩١٤ـ حدثنا حميد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس {فأصَابَها إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} قال: هي السموم الـحارّة. ٤٩١٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس : {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فَـاحْتَرَقَتْ} التـي تقتل. ٤٩١٦ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عبـاس ، قال: إن السموم التـي خـلق منها الـجان جزء من سبعين جزءا من النار. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فَـاحْتَرَقَتْ} هي ريح فـيها سموم شديد. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} قال: سموم شديد. ٤٩١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} يقول: أصابها ريح فـيها سموم شديدة. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نـحوه. ٤٩١٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} أما الإعصار فـالريح، وأما النار فـالسموم. ٤٩١٩ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ} يقول: ريح فـيها سموم شديد. وقال آخرون: هي ريح فـيها برد شديد. ذكر من قال ذلك: ٤٩٢٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الـحسن يقول فـي قوله: {إعْصَارٌ فِـيهِ نَارٌ فـاحْتَرَقَتْ} فـيها صِرّ وبرد. ٤٩٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {إعْصَارٌ فِـيهِ نارٌ فـاحْتَرَقَتْ} يعنـي بـالإعصار ريح فـيها برد. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: كما بـين لكم ربكم تبـارك وتعالـى أمر النفقة فـي سبـيـله، وكيف وجهها، وما لكم وما لـيس لكم فعله فـيها، كذلك يبـين لكم الاَيات سوى ذلك، فـيعرفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حججها، إنعاما منه بذلك علـيكم {لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} يقول: لتتفكروا بعقولكم فتتدبروا وتعتبروا بحجج اللّه فـيها، وتعملوا بـما فـيها من أحكامها، فتطيعوا اللّه به.) وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٤٩٢٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: قال مـجاهد: {لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} قال: تطيعون. ٤٩٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {كَذلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ} يعنـي فـي زوال الدنـيا وفنائها، وإقبـال الاَخرة وبقائها. ٢٦٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا بـاللّه ورسوله وآي كتابه. ويعنـي بقوله: {أنْفِقُوا} زكوا وتصدّقوا. كما: ٤٩٢٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ ما كَسَبْتُـمْ} يقول: تصدقوا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتـم بتصرّفكم إما بتـجارة، وإما بصناعة من الذهب والفضة، ويعنـي بـالطيبـات: الـجياد. يقول: زكوا أموالكم التـي اكتسبتـموها حلالاً، وأعطوا فـي زكاتكم الذهب والفضة، الـجياد منها دون الرديء. كما: ٤٩٢٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد فـي هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: من التـجارة. حدثنـي موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: وأخبرنـي شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي حاتـم بن بكر الضبـي، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الـحكم، عن جاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد فـي قوله: {وَأنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: التـجارة الـحلال. ٤٩٢٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن معقل: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: لـيس فـي مال الـمؤمن من خبـيث، ولكن لا تـيـمـموا الـخبـيث منه تنفقون. ٤٩٢٧ـ حدثنـي عصام بن رواد بن الـجراح، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة، قال: سألت علـيّ بن أبـي طالب صلوات اللّه علـيه عن قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ ما كَسَبْتُـمْ} قال: من الذهب والفضة. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: التـجارة. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٤٩٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ ما كَسَبْتُـمْ} يقول: من أطيب أموالكم وأنفسه. ٤٩٢٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: من الذهب والفضة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ومِـمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وأنفقوا أيضا مـما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النـخـل والكرم والـحنطة والشعير، وما أوجبت فـيه الصدقة من نبـات الأرض. كما: ٤٩٣٠ـ حدثنـي عصام بن روّاد، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة، قال: سألت علـيا صلوات اللّه علـيه عن قول اللّه عزّ وجل: {ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: يعنـي من الـحبّ والثمر وكل شيء علـيه زكاة. ٤٩٣١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قوله: {ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: النـخـل. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: من ثمر النـخـل. ٤٩٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} قال: من التـجارة، {وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} من الثمار. ٤٩٣٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قال: هذا فـي التـمر والـحبّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ}. يعنـي بقوله جل ثناؤه {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ} ولا تعمدوا ولا تقصدوا. مق وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة عبد اللّه : (ولا تأمـموا)، من أمـمت، وهذه من تـيـمـمت، والـمعنى واحد وإن اختلفت الألفـاظ، يقال: تأمـمت فلانا وتـيـمـمته وأمـمته، بـمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميـمون بن قـيس الأعشى: تـيـمّـمْتُ قَـيْسا وكَمْ دُونَهُمِنَ الأرْضِ من مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ ٤٩٣٤ـ وكما حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيث} ولا تعمّدُوا. ٤٩٣٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {وَلا تَـيَـمّـمُوا} لا تعمّدوا. حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، مثله. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. يعنـي جل ثناؤه بـالـخبث: الرديء غير الـجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم فـي صدقاتكم، فتصدّقوا منه، ولكن تصدّقوا من الطيب الـجيد. وذلك أن هذه الآية نزلت فـي سبب رجل من الأنصار علق قِنْوا من حَشَف فـي الـموضع الذي كان الـمسلـمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقة من تـمره.) ذكر من قال ذلك: ٤٩٣٦ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي، قال: حدثنا أبـي، عن أسبـاط، عن السدي، عن عديّ بن ثابت، عن البراء بن عازب فـي قول اللّه عزّ وجلّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} إلـى قوله: {وَاللّه غَنِـيّ حَمِيدٌ} قال: نزلت فـي الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النـخـل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه علـى حبل بـين الأسطوانتـين فـي مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فـيأكل فقراء الـمهاجرين منه، فـيعمد الرجل منهم إلـى الـحشف فـيدخـله مع أقناء البسر، يظنّ أن ذلك جائز، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيـمن فعل ذلك: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال لا تـيـمـموا الـحَشَفَ منه تنفقون. حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، زعم السدي، عن عديّ بن ثابت، عن البراء بن عازب بنـحوه، إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم، فـيدخـل قنو الـحشف، ويظن أنه جائز عنه فـي كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فـيـمن فعل ذلك: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} القنو الذي قد حَشِفَ، ولو أهدي إلـيكم ما قبلتـموه. ٤٩٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن أبـي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون فـي الصدقة بأردإ تـمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ ما كَسَبْتُـمْ}.. الآية. ٤٩٣٨ـ حدثنـي عصام بن رواد، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن ابن سيرين، عن عبـيدة السلـمانـي، قال: سألت علـيا عن قول اللّه : {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ ما كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: فقال علـي: نزلت هذه الآية فـي الزكاة الـمفروضة، كان الرجل يعمد إلـى التـمر فـيصرمه، فـيعزل الـجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عزّ وجلّ: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. ٤٩٣٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي عبد الـجلـيـل بن حميد الـيحصبـي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثنـي أبو أمامة بن سهل بن حنـيف فـي الآية التـي قال اللّه عزّ وجلّ: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: هو الـجُعْرُور، ولون حُبَـيْق، فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يؤخذ فـي الصدقة. ٤٩٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: كانوا يتصدّقون، يعنـي من النـخـل بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتصدّقوا بطيبه. ٤٩٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} إلـى قوله: {وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه غَنِـيّ حَمِيدٌ} ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الـحائطان علـى عهد نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فـيعمد إلـى أردئهما تـمرا فـيتصدّق به ويخـلط فـيه من الـحشف، فعاب اللّه ذلك علـيهم ونهاهم عنه. ٤٩٤٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: تعمد إلـى رذالة مالك فتصدّق به، ولست بآخذه إلا أن تغمض فـيه. ٤٩٤٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن يزيد بن إبراهيـم، عن الـحسن قال: كان الرجل يتصدّق برذالة ماله، فنزلت: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثِ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. ٤٩٤٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد اللّه بن كثـير أنه سمع مـجاهدا يقول: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: فـي الأقناء التـي تعلّق، فرأى فـيها حشفـا، فقال: (ما هذا؟). قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفـا فـي الأقناء التـي تعلق بـالـمدينة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما هَذَا؟ بِئْسَمَا عَلّقَ هَذَا!) فنزلت: {وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تـيـمـموا الـخبـيث من الـحرام منه تنفقون، وتدعوا أن تنفقوا الـحلال الطيب. ذكر من قال ذلك: ٤٩٤٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: الـخبـيث: الـحرام، لا تتـيـمه: تنفق منه، فإن اللّه عزّ وجلّ لا يقبله. وتأويـل الآية: هو التأويـل الذي حكيناه عمن حكينا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واتفـاق أهل التأويـل فـي ذلك دون الذي قاله ابن زيد. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ}. (يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولستـم بآخذي الـخبـيث فـي حقوقكم. والهاء فـي قوله: {بآخِذِيهِ} من ذِكر الـخبـيث. {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يعنـي إلا أن تتـجافوا فـي أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فـيه لأنفسكم،) يقال منه: أغمض فلان لفلان عن بعض حقه فهو يغمض، ومن ذلك قول الطرِمّاح بن حكيـم: لَـمْ يَفُتْنا بـالوِتْرِ قَوْمٌ وللضّيْــيْـمِ رِجالٌ يَرْضَوْنَ بـالإغْماضِ واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستـم بآخذي هذا الرديء من غرمائكم فـي واجب حقوقكم قبلهم إلا عن إغماض منكم لهم فـي الواجب لكم علـيهم. ذكر من قال ذلك: ٤٩٤٦ـ حدثنا عصام بن رواد قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة قال: سألت علـيا عنه، فقال: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فـيه} يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتـى يهضم له. ٤٩٤٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن أبـي مالك، عن البراء بن عازب: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يقول: لو كان لرجل علـى رجل فأعطاه ذلك لـم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. ٤٩٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ}. يقول: لو كان لكم علـى أحد حقّ فجاءكم بحقّ دون حقكم، لـم تأخذوا بحساب الـجيد حتـى تنقصوه، فذلك قوله: {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} فكيف ترضون لـي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقـي علـيكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ وهوقوله: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حتـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ}. ٤٩٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا فـي بـيوعكم إلا بزيادة علـى الطيّب فـي الكيـل. ٤٩٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ ومِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} وذلك أن رجالاً كانوا يعطون زكاة أموالهم من التـمر، فكانوا يعطون الـحشف فـي الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه لـم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه. ٤٩٥١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يقول: لو كان لك علـى رجل دين فقضاك أردأ مـما كان لك علـيه هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟ ٤٩٥٢ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ} إلـى قوله: {إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: كانوا حين أمر اللّه أن يؤدوا الزكاة يجيء الرجل من الـمنافقـين بأردإ طعام له من تـمر وغيره، فكره اللّه ذلك، وقال: {أنْفِقُوا مِنْ طَيّبـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} يقول: لستـم بآخذيه إلا أن تغمضوا فـيه. يقول: لـم يكن رجل منكم له حقّ علـى رجل فـيعطيه دون حقه فـيأخذه إلا وهو يعلـم أنه قد نقصه، فلا ترضوا لـي ما لا ترضون لأنفسكم، فـيأخذ شيئا وهو مغمض علـيه أنقص من حقه. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستـم بآخذي هذا الرديء الـخبـيث إذا اشتريتـموه من أهله بسعر الـجيد إلا بإغماض منهم لكم فـي ثمنه. ذكر من قال ذلك: ٤٩٥٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن عمران بن حدير، عن الـحسن: {وَلَسْتُـمْ بآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيـهِ} قال: لو وجدتـموه فـي السوق يبـاع ما أخذتـموه حتـى يُهضم لكم من ثمنه. ٤٩٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَلَسْتُـمْ بآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} يقول: لستـم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فـيه. وقال آخرون: معناه: ولستـم بآخذي هذا الرديء الـخبـيث لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فـيه، فتأخذوه وأنتـم له كارهون علـى استـحياء منكم مـمن أهداه لكم. ذكر من قال ذلك: ٤٩٥٥ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي، قال: حدثنا أبـي، عن أسبـاط، عن السدي، عن عديّ بن ثابت، عن البراء بن عازب: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيه} قال: لو أهدي لكم ما قبلتـموه إلا علـى استـحياء من صاحبه أنه بعث إلـيك بـما لـم يكن له فـيه حاجة. حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، قال: زعم السدي، عن عديّ بن ثابت، عن البراء نـحوه، إلا أنه قال: إلا علـى استـحياء من صاحبه وغيظا أنه بعث إلـيك بـما لـم يكن له فـيه حاجة. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستـم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم. ذكر من قال ذلك: ٤٩٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ} يقول: ولستـم بآخذيه من حقّ هو لكم، إلا أن تغضموا فـيه، يقول: أغمض لك من حقك. وقال آخرون: معنى ذلك: ولستـم بآخذي الـحرام إلا أن تغمضوا علـى ما فـيه من الإثم علـيكم فـي أخذه. ذكر من قال ذلك: ٤٩٥٧ـ حدثنـي يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله: {وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: يقول: لست آخذا ذلك الـحرام حتـى تغمض علـى ما فـيه من الإثم ـ قال: وفـي كلام العرب: أما واللّه لقد أخذه ولقد أغمض علـى ما فـيه ـ وهو يعلـم أنه حرام بـاطل. (والذي هو أولـى بتأويـل ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ حثّ عبـاده علـى الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم وفرضها علـيهم فـيها، فصار ما فرض من ذلك فـي أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة، ثم أمرهم تعالـى ذكره أن يخرجوا من الطيبِ، وهو الـجيد من أموالهم، الطيبَ، وذلك أن أهل السهمان شركاء أربـاب الأموال فـي أموالهم بـما وجب لهم فـيها من الصدقة بعد وجوبها، فلا شكّ أن كل شريكين فـي مال فلكلّ واحد منهما بقدر ملكه، ولـيس لأحدهما منع شريكه من حقه من الـملك الذي هو فـيه شريكه بإعطائه بـمقدار حقه منه من غيره، مـما هو أردأ منه أو أخسّ، فكذلك الـمزكي ماله حرم اللّه علـيه أن يعطي أهل السهمان مـما وجب لهم فـي ماله من الطيب الـجيد من الـحقّ، فصاروا فـيه شركاء من الـخبـيث الرديء غيره، ويـمنعهم ما هو لهم من حقوقهم فـي الطيب من ماله الـجيد، كما لو كان مال ربّ الـمال رديئا كله غير جيد، فوجبت فـيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فـيه شركاء بـما أوجب اللّه لهم فـيه لـم يكن علـيه أن يعطيهم الطيب الـجيد من غير ماله الذي منه حقهم، فقال تبـارك وتعالـى لأربـاب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الـجيد، ولا تـيـمـموا الـخبـيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتـمنعونهم الواجب لهم من الـجيد الطيب فـي أموالكم، ولستـم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الـجيد الواجب لكم قِبل من وجب لكم علـيه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلـى من وجب له فـي أموالكم حقّ ما لا ترضون من غيركم أن يأتـيه إلـيكم فـي حقوقكم الواجبة لكم فـي أموالهم¹ فأما إذا تطوّع الرجل بصدقة غير مفروضة فإنـي وإن كرهت له أن يعطي فـيها إلا أجود ماله وأطيبه¹ لأن اللّه عزّ وجلّ أحقّ من تقرّب إلـيه بأكرم الأموال وأطيبها، والصدقة قربـان الـمؤمن، فلست أحرّم علـيه أن يعطي فـيها غير الـجيد، لأن ما دون الـجيد ربـما كان أعمّ نفعا لكثرته، أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من الـمسكين، ومـمن أعطيه قربة إلـى اللّه عزّ وجلّ من الـجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه علـى من أعطيه.) وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال جماعة أهل العلـم. ذكر من قال ذلك: ٤٩٥٨ـ حدثنا مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سلـمة بن علقمة، عن مـحمد بن سيرين، قال: سألت عبـيدة عن هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ ما كَسَبْتُـمْ ومِـمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ إلاّ أنْ تُغْمِضُوا فِـيهِ} قال: ذلك فـي الزكاة، الدرهم الزائف أحبّ إلـيّ من التـمرة. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا سلـمة بن علقمة، عن مـحمد بن سيرين، قال: سألت عبـيدة عن ذلك، فقال: إنـما ذلك فـي الزكاة، والدرهم الزائف أحبّ إلـيّ من التـمرة. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبـيدة عن هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِنْ طَيّبَـاتِ مَا كَسَبْتُـمْ وَمِـمّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُـمْ بِآخِذِيهِ} فقال عبـيدة: إنـما هذا فـي الواجب، ولا بأس أن يتطوّع الرجل بـالتـمرة، والدرهم الزائف خير من التـمرة. ٤٩٥٩ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين فـي قوله: {وَلاَ تَـيَـمّـمُوا الـخَبِـيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: إنـما هذا فـي الزكاة الـمفروضة، فأما التطوّع فلا بأس أن يتصدّق الرجل بـالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التـمرة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْلَـمُوا أنّ اللّه غَنِـيّ حَمِيدٌ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واعلـموا أيها الناس أن اللّه عزّ وجلّ غنـيّ عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنـما أمركم بها، ورفضها فـي أموالكم، رحمة منه لكم لـيغنـي بها عائلكم، ويقوّي بها ضعيفكم، ويجزل لكم علـيها فـي الاَخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فـيها إلـيكم. ويعنـي بقوله: {حَمِيدٌ} أنه مـحمود عند خـلقه بـما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله. كما: ٤٩٦٠ـ حدثنـي الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزي، قال: حدثنا أبـي، عن أسبـاط، عن السدي، عن عديّ بن ثابت، عن البراء بن عازب فـي قوله: {وَاللّه غَنِـيّ حَمِيدٌ} عن صدقاتكم. ٢٦٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الشّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ...} يعنـي بذلك تعالـى ذكره: الشيطان يعدكم أيها الناس ـ بـالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة علـيكم فـي أموالكم ـ أن تفتقروا، {ويأْمُرُكُمْ بـالفَحْشَاءِ} يعنـي: ويأمركم بـمعاصي اللّه عزّ وجلّ، وترك طاعته {وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} يعنـي أن اللّه عزّ وجلّ يعدكم أيها الـمؤمنون، أن يستر علـيكم فحشاءكم بصفحه لكم عن عقوبتكم علـيها، فـيغفر لكم ذنوبكم بـالصدقة التـي تتصدّقون. {وَفَضْلاً} يعنـي: ويعدكم أن يخـلف علـيكم من صدقتكم، فـيتفضل علـيكم من عطاياه ويسبغ علـيكم فـي أرزاقكم. كما: ٤٩٦١ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: اثنان من اللّه ، واثنان من الشيطان، الشيطان يعدكم الفقر يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه علـيك، فإنك تـحتاج إلـيه، ويأمركم بـالفحشاء¹ واللّه يعدكم مغفرة منه علـى هذه الـمعاصي وفضلاً فـي الرزق. ٤٩٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلاً لفقركم. ٤٩٦٣ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ للشّيْطانِ لَـمّةً مِنْ ابْنِ آدَمَ وللْـمَلَكَ لَـمّةً: فأمّا لَـمّةٌ الشّيْطانِ: فإيعادٌ بـالشّرّ، وَتَكْذِيبٌ بـالـحَقّ¹ وأمّا لَـمّةُ الـمَلَكِ: فإيعادٌ بـالـخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بـالـحَقّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْـيَعْلَـمْ أنّهُ مِنَ اللّه وَلْـيَحْمَدِ اللّه ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْـيَتَعَوّذْ بـاللّه مِنَ الشّيْطَانِ)، ثُمّ قَرأ {الشّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ}. ٤٩٦٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الـحكيـم بن بشير بن سلـيـمان، قال: حدثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد اللّه ، قال: إن للإنسان من الـمَلك لـمة، ومن الشيطان لـمة¹ فـاللـمة من الـمَلك: إيعاد بـالـخير، وتصديق بـالـحقّ، واللـمة من الشيطان: إيعاد بـالشرّ، وتكذيب بـالـحقّ. وتلا عبد اللّه : {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرْكُمْ بـالفَحْشاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}. قال عمرو: وسمعنا فـي هذا الـحديث أنه كان يقال: إذا أحسّ أحدكم من لـمة الـملك شيئا فلـيحمد اللّه ، ولـيسأله من فضله، وإذا أحسّ من لـمة الشيطان شيئا، فلـيستغفر اللّه ولـيتعوّذ من الشيطان. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن أبـي الأحوص، أو عن مرّة، قال: قال عبد اللّه : ألا إن للـملك لـمة، وللشيطان لـمة¹ فلـمة الـملك: إيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحق، ولـمة الشيطان: إيعاد بـالشرّ وتكذيب بـالـحقّ¹ وذلكم بأن اللّه يقول: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأمُرُكُمْ بـالفَحْشَاءِ واللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} فإذا وجدتـم من هذه شيئا فـاحمدوا اللّه علـيه، وإذا وجدتـم من هذه شيئا فتعوّذوا بـاللّه من الشيطان. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبـيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة، عن عبد اللّه بن مسعود فـي قوله: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ} قال: إن للـملك لـمة، وللشيطان لـمة¹ فلـمة الـملك¹ إيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحقّ، فمن وجدها فلـيحمد اللّه ¹ ولـمة الشيطان: إيعاد بـالشرّ وتكذيب بـالـحقّ، فمن وجدها فلـيستعذ بـالله. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمدانـي أن ابن مسعود قال: إن للـملك لـمة، وللشيطان لـمة¹ فلـمة الـملك: إيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحقّ، ولـمة الشيطان: إيعاد بـالشرّ وتكذيب بـالـحقّ. فمن أحسّ من لـمة الـملك شيئا فلـيحمد اللّه علـيه، ومن أحسّ من لـمة الشيطان شيئا فلـيتعوّذ بـاللّه منه. ثم تلا هذه الآية: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأمُرُكُمْ بـالفَحْشَاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللّه وَاسعٌ عَلِـيـمٌ}. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن فطر، عن الـمسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد اللّه ، بنـحوه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن مرّة بن شراحيـل، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: إن للشيطان لـمة، وللـملك لـمة، فأما لـمة الشيطان فتكذيب بـالـحقّ وإيعاد بـالشرّوأما لـمة الـملك: فإيعاد بـالـخير وتصديق بـالـحقّ. فمن وجد ذلك فلـيعلـم أنه من اللّه ولـيحمد اللّه علـيه. ومن وجد الأخرى فلـيستعذ من الشيطان. ثم قرأ: {الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بـالفَحْشاءِ وَاللّه يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}. (يعنـي تعالـى ذكره: واللّه واسع الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه، علـيـم بنفقاتكم وصدقاتكم التـي تنفقون وتصدّقون بها، يحصيها لكم حتـى يجازيكم بها عند مقدمكم علـيه فـي آخرتكم. ٢٦٩القول في تأويل قوله تعالى: {يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي اللّه الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيراً كثيراً. واختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: الحكمة التي ذكرها اللّه في هذا الموضع هي القرآن والفقه به. ذكر من قال ذلك: ٤٩٦٥ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. ٤٩٦٦ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً والحكمة: الفقه في القرآن. ٤٩٦٧ـ حدثنا محمد بن عبد اللّه الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال: الكتاب والفهم فيه. ٤٩٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله: يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ... الآية، قال: ليست بالنبوّة، ولكنه القرآن والعلم والفقه. ٤٩٦٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن. وقال آخرون: معنى الحكمة: الإصابة في القول والفعل. ذكر من قال ذلك: ٤٩٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهداً قال: وَمَنْ يُءَوتَ الحِكْمَةَ قال: الإصابة. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه عز وجل: يُءَوتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال: يؤتي إصابته من يشاء. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يُؤْتِي الحِكَمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال: الكتاب، يؤتي إصابته. وقال آخرون: هو العلم بالدين. ذكر من قال ذلك: ٤٩٧١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ العقل في الدين، وقرأ: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. ٤٩٧٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل. ٤٩٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. وقال آخرون: الحكمة: الفهم. ذكر من قال ذلك: ٤٩٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. وقال آخرون: هي الخشية. ذكر من قال ذلك: ٤٩٧٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ... الآية، قال: الحكمة: الخشية، لأن رأس كل شيء خشية اللّه ، وقرأ: إِنّمَا يَخْشَى اللّه مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ. وقال آخرون: هي النبوّة. ذكر من قال ذلك: ٤٩٧٦ـ حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: يُؤتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُءَوَت الحِكْمَةَ... الآية قال: الحكمة: هي النبوّة. وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة، وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء، وأنها الإصابة بما دلّ على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. فإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلاً فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضعٍ الصواب في أموره فهماً خاشياً لله فقيهاً عالماً، وكانت النبوّة من أقسامه، لأن الأنبياء مسددون مفهّمون، وموفّقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوّة بعض معاني الحكمة. فتأويل الكلام: يؤتي اللّه إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته اللّه ذلك فقد آتاه خيراً كثيراً. القول في تأويل قوله تعالى: وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الألْبَابِ. يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الاَيات التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظ به غيرهم فيها، وفي غيرها من آي كتابه، فيذكر وعده ووعيده فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به، إِلاّ أُولُوا أَلالْبَابِ، يعني: إلا أولوا العقول الذين عقلوا عن اللّه عزّ وجلّ أمره ونهيه. فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحِجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النّهَى والعقول. ٢٧٠القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن نّفَقَةٍ ...} يعني بذلك جل ثناؤه: وأيّ نفقة أنفقتم، يعني أيّ صدقة تصدقتم، أو أيّ نذر نذرتم يعني بالنذر: ما أوجبه المرء على نفسه تبرّراً في طاعة اللّه ، وتقرّباً به إليه، من صدقة أو عمل خير، فَانّ اللّه يَعْلَمُهُ أي أن جميع ذلك بعلم اللّه ، لا يعزب عنه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك، فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة اللّه وتثبيتاً من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف ومن كانت نفقته وصدقته رياء الناس ونذروه للشيطان جازاه بالذي أوعده من العقاب وأليم العذاب. كالذي: ٤٩٧٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه عز وجل: وَما أنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَانّ اللّه يَعْلَمُهُ ويحصيه. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان، فقال: وَما للظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ يعني: وما لمن أنفق ماله رياء الناس وفي معصية اللّه ، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته، مِنْ أنْصَارٍ. وهم جمع نصير، كما الأشراف جمع شريف. ويعني بقوله: مِنْ أنْصَارٍ من ينصرهم من اللّه يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذٍ بقوّة وشدّة بط٥ ولا بفدية. وقد دللنا على أن الظالم: هو الواضع للشيء في غير موضعه. وإنما سمى اللّه المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته ظالماً، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه. فإن قال لنا قائل: فكيف قال: فَانّ اللّه يَعْلَمُهُ ولم يقل: يعلمهما، وقد ذكر النذر والنفقة؟ قيل: إنما قال: فَانّ اللّه يَعْلَمَهُ لأنه أراد: فإن اللّه يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحدّ الكناية. ٢٧١القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ ...} يعني بقوله جل ثناؤه إنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه، فَنِعِمّا هِيَ يقول: فنعم الشيء هي. وَإِنْ تُخْفُوها يقول: وإن تستروها فلم تلعنوها وتؤتوها الفُقَرَاءَ يعني: وتعطوها الفقراء في السرّ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوّع. كما: ٤٩٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السرّ أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماءُ النارَ. ٤٩٧٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال: كلَ مقبول إذا كانت النية صادقة، والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماءُ النارَ. ٤٩٨٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فجعل اللّه صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. ٤٩٨١ـ حدثني عبد اللّه بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان، قال: حدثنا عبد اللّه بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُءْوتُوها الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال: يقول: هو سوى الزكاة. وقال آخرون: إنما عنى اللّه عزّ وجل بقوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوّع فاخفاؤه أفضل من علانيته. ذكر من قال ذلك: ٤٩٨٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ في الصدقة على اليهود والنصارى. ٤٩٨٣ـ حدثني عبد اللّه بن محمد الحنفي، قال: أخبرنا عبد اللّه بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السرّ، قال عبد اللّه : أحبّ أن تعطى في العلانية، يعني الزكاة. ولم يخصص اللّه من قوله: إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها. القول في تأويل قوله تعالى: وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ. اختلف القراء في قراءة ذلك. فرُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: (وتُكَفّرُ عَنْكُمْ) بالتاء. ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم. وقرأ آخرون: وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ بالياء بمعنى: ويكفر اللّه عنكم بصدقاتكم على ما ذكر في الآية من سيئاتكم. وقرأ ذلك بعد عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة: (وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ) بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم، بمعنى: مجازاة اللّه عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها. وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: (وَنُكَفّرْ عَنْكُمْ) بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من اللّه عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوّع ابتغاء وجهه من صدقته بتكفير سيئاته. وإذا قرىء كذلك فهو مجزوم على موضع الفاء في قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن الفاء هنالك حلت محلّ جواب الجزاء. فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع الفاء، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم تجويز؟ قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير، أعني تكفير اللّه من سيئات المصدّق لا محالة داخل فيما وعد اللّه المصدّق أن يجازيه به على صدقته، لأن ذلك إذا جزم مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلاً فيما وعده اللّه أن يجازيه به، وأن يكون خبراً مستأنفاً أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لأن ما بعد الفاء في جواب الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة اخترنا جزم نكفر عطفاً به على موضع الفاء من قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وقراءته بالنون. فإن قال قائل: وما وجه دخول (مِنْ) في قوله: وَنُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئاتِكُمْ؟ قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من اللّه فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدّق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه. وقال بعض نحويي البصرة: معنى (مِنْ) الإسقاط من هذا الموضع، ويتأوّل معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم. القول في تأويل قوله تعالى: وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. يعني بذلك جل ثناؤه: واللّه بما تعملون في صدقاتكم من إخفائها وإعلان وإسرار بها وإجهار، وفي غير ذلك من أعمالكم. خَبِيرٌ يعني بذلك ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله حتى يوفيهم ثواب جميعه وجزاء قليله وكثيره. ٢٧٢القول في تأويل قوله تعالى: {لّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـَكِنّ اللّه يَهْدِي مَن يَشَآءُ ...} يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوّع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن اللّه هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة. كما: ٤٩٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لا يتصدّق على المشركين، فنزلت: وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّه فتصدّق عليهم. ٤٩٨٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. ٤٩٨٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكَنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فرخص لهم. حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدّقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ... الآية. ٤٩٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن رجالاً من أصحاب نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا: أنتصدّق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل اللّه في ذلك القرآن: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ. ٤٩٨٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج فلا يتصدّق عليه يقول: ليس من أهل ديني، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ... الآية. ٤٩٨٩ـ حدثني محمد، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَءَلانْفُسِكُمْ أما (ليس عليك هداهم) فيعني المشركين، وأما النفقة فبين أهلها. ٤٩٩٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا يعقوب القُمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدّقون... ٤٩٩١ـ كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يُوَفّ إِلَيْكُمْ وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ قال: هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمنّ عليه، إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه اللّه ، واللّه يجزيك. ٢٧٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّه ... } أما قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } فبـيان من اللّه عزّ وجلّ عن سبـيـل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، تنفقون للفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل اللّه . واللام التـي فـي الفقراء مردودة علـى موضع اللام فـي فلأنفسكم، كأنه قال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} يعنـي به: وما تتصدّقوا به من مال، فللفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل اللّه ، فلـما اعترض فـي الكلام بقوله: (فلأنفسكم)، فأدخـل الفـاء التـي هي جواب الـجزاء فـيه تركت إعادتها فـي قوله: (للفقراء)، إذ كان الكلام مفهوما معناه. كما: ٤٩٩٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فِلأَنْفُسِكُمْ} أما (لـيس علـيك هداهم)، فـيعنـي الـمشركين، وأما النفقة فبـين أهلها، فقال: للفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل اللّه . وقـيـل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم اللّه فـي هذه الآية، هم فقراء الـمهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. ذكر من قال ذلك: ٤٩٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } مهاجري قريش بـالـمدينة مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، أمر بـالصدقة علـيهم. ٤٩٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه قوله: {لِلْفِقُرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }.. الآية قال: هم فقراء الـمهاجرين بـالـمدينة. ٤٩٩٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال: فقراء الـمهاجرين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فـيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفـا. وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى الإحصار: تصيـير الرجل الـمـحصر بـمرضه أو فـاقته أو جهاده عدوّه، وغير ذلك من علله إلـى حالة يحبس نفسه فـيها عن التصرّف فـي أسبـابه بـما فـيه الكفـاية فـيـما مضى قبل. وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: فـي ذلك بنـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك: ٤٩٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال: حصروا أنفسهم فـي سبـيـل اللّه للغزو. ٤٩٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال: كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل اللّه إذا خرج خرج فـي كفر. وقـيـل: كانت الأرض كلها حربـا علـى أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فـيها عدوّ، فقال اللّه عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }.. الآية¹ كانوا ههنا فـي سبـيـل اللّه . وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم الـمشركون فمنعوهم التصرّف. ذكر من قال ذلك: ٤٩٩٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } حصرهم الـمشركون فـي الـمدينة. ولو كان تأويـل الآية علـى ما تأوّله السدي، لكان الكلام: للفقراء الذين حصروا فـي سبـيـل اللّه ، ولكنه (أحصروا)، فدلّ ذلك علـى أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلـى الـحال التـي حَبسوا وهم فـي سبـيـل اللّه أنفسهم، لا أن العدوّ هم كانوا الـحابسيهم، وإنـما يقال لـمن حبسه العدوّ: حصره العدوّ، وإذا كان الرجل الـمـحبس من خوف العدوّ قـيـل: أحصره خوف العدوّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلبـا فـي الأرض، وسفرا فـي البلاد، ابتغاء الـمعاش وطلب الـمكاسب، فـيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ، وخوفـا علـى أنفسهم منهم. كما: ٤٩٩٩ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} حبسوا أنفسهم فـي سبـيـل اللّه للعدوّ، فلا يستطيعون تـجارة. ٥٠٠٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} يعنـي التـجارة. ٥٠٠١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـياءَ مِنَ التّعَفّفِ}. يعنـي بذلك: يحسبهم الـجاهل بأمرهم وحالهم أغنـياء من تعففهم عن الـمسألة وتركهم التعرّض لـما فـي أيدي الناس صبرا منهم علـى البأساء والضرّاء. كما: ٥٠٠٢ـ حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـيَاءَ} يقول: يحسبهم الـجاهل بأمرهم أغنـياء من التعفف. ويعنـي بقوله: {مِنَ التّعَفّفِ} من ترك مسألة الناس، وهو التفعل من العفة عن الشيء، والعفة عن الشيء: تركه، كما قال رؤبة: فَـعَـفّ عَـنْ أسْـرَارِهـا بَـعْـدَ العَـسَـقْ يعنـي برىء وتـجنب. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: تعرفهم يا مـحمد بسيـماهم، يعنـي بعلامتهم وآثارهم، من قول اللّه عزّ وجلّ: {سِيـماهُمْ فِـي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ} هذه لغة قريش، ومن العرب من يقول: (بسيـمائهم) فـيـمدها، وأما ثقـيف وبعض أسد، فإنهم يقولون: (بسيـميائهم)¹ ومن ذلك قول الشاعر: غُلامٌ رَماهُ اللّه بـالـحُسْنِ يافِعالَهُ سِيـمِيَاءُ لا تَشُقّ عَلـى البَصَرْ وقد اختلف أهل التأويـل فـي السيـما التـي أخبر اللّه جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها، فقال بعضهم: هو التـخشع والتواضع. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} قال: التـخشع. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، قال: كان مـجاهد يقول: هو التـخشع. وقال آخرون يعنـي بذلك: تعرفهم بسيـما الفقر وجهد الـحاجة فـي وجوههم. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} بسيـما الفقر علـيهم. ٥٠٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} يقول: تعرف فـي وجوههم الـجهد من الـحاجة. وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثـيابهم، و قالوا: الـجوع خفـيّ. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـمَاهُمْ} قال: السيـما: رثاثة ثـيابهم، والـجوع خفـيّ علـى الناس، ولـم تستطع الثـياب التـي يخرجون فـيها تـخفـى علـى الناس. وأول الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ أخبر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الـحاجة فـيهم. وإنـما كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يدرك تلك العلامات والاَثار منهم عند الـمشاهدة بـالعيان، فـيعرفهم وأصحابه بها، كما يدرك الـمريض فـيعلـم أنه مريض بـالـمعاينة. وقد يجوز أن تكون تلك السيـما كانت تـخشعا منهم، وأن تكون كانت أثر الـحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثـياب، وأن تكون كانت جميع ذلك، وإنـما تدرك علامات الـحاجة وآثار الضرّ فـي الإنسان، ويعلـم أنها من الـحاجة والضرّ بـالـمعاينة دون الوصف، وذلك أن الـمريض قد يصير به فـي بعض أحوال مرضه من الـمرض نظر آثار الـمـجهود من الفـاقة والـحاجة، وقد يـلبس الغنـيّ ذو الـمال الكثـير الثـياب الرثة، فـيتزيا بزيّ أهل الـحاجة، فلا يكون فـي شيء من ذلك دلالة بـالصفة علـى أن الـموصوف به مختلّ ذو فـاقة، وإنـما يدري ذلك عند الـمعاينة بسيـماه، كما وصفهم اللّه نظير ما يعرف أنه مريض عند الـمعاينة دون وصفه بصفته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْـحافـا}. يقال: قد ألـحف السائل فـي مسألته إذا ألـحّ فهو يـلـحف فـيها إلـحافـا. فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلـحاف؟ قـيـل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا علـى وجه الصدقة، إلـحافـا أو غير إلـحاف، وذلك أن اللّه عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنـما كانوا يعرفون بسيـماهم، فلو كانت الـمسألة من شأنهم لـم تكن صفتهم التعفف، ولـم يكن بـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلـى علـم معرفتهم بـالأدلة والعلامة حاجة، وكانت الـمسألة الظاهرة تنبىء عن حالهم وأمرهم. وفـي الـخبر الذي: ٥٠٠٧ـ حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: أعوزنا مرة فقـيـل لـي: لو أتـيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألته. فـانطلقت إلـيه مُعْنقا، فكان أوّل ما واجهنـي به: (مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ اللّه ، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ اللّه ، ومَنْ سَأَلَنا لَـمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَـجِدُهُ)، قال: فرجعت إلـى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فـيفعنـي اللّه ! فرجعت فما سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتـى مالت علـينا الدنـيا فغرقتنا إلا من عصم اللّه . الدلالة الواضحة علـى أن التعفف معنى ينفـي معنى الـمسألة من الشخص الواحد، وأن من كان موصوفـا بـالتعفف فغير موصوف بـالـمسألة إلـحافـا أو غير إلـحاف. فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت، فما وجه قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْـحافـا} وهم لا يسألون الناس إلـحافـا أو غير إلـحاف؟ قـيـل له: وجه ذلك أن اللّه تعالـى ذكره لـما وصفهم بـالتعفف وعرّف عبـاده أنهم لـيسوا أهل مسألة بحال بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ} وأنهم إنـما يعرفون بـالسيـما، زاد عبـاده إبـانة لأمرهم، وحسن ثناء علـيهم بنفـي الشره والضراعة التـي تكون فـي الـملـحّين من السؤال عنهم وقال: كان بعض القائلـين يقول فـي ذلك نظير قول القائل: فَلَـمّا رأيت مثل فلان، ولعله لـم يره مثله أحدا ولا نظيرا. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى الإلـحاف قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لاَ يَسألُونَ الناسَ إلْـحافـا} قال: لا يـلـحفون فـي الـمسألة. ٥٠٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا يَسْألُونَ النّاسَ إِلْـحافـا} قال: هو الذي يـلـح فـي الـمسألة. ٥٠١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {لا يَسألُونَ النّاسَ إِلْـحافـا} ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إِنّ اللّه يُحِبّ الـحَلِـيـمَ الغَنِـيّ الـمُتَعَفّفَ، وَيُبْغِضُ الغَنِـيّ الفـاحِشَ البَذِيّ السّائِلَ الـمُلْـحِفَ) قال: وذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إِنّ اللّه عَزّ وَجَلّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثا، قِـيـلَ وَقَالَ، وَإضَاعَةَ الـمَالِ وَكَثْرَةَ السّوءَالِ) فإذا شئت رأيته فـي قـيـل وقال يومه أجمع وصدر لـيـلته، حتـى يُـلقـى جفـية علـى فراشه، لا يجعل اللّه له من نهاره ولا لـيـلته نصيبـا، وإذا شئت رأيته ذا مال فـي شهوته ولذاته وملاعبه، ويعدله عن حقّ اللّه ، فذلك إضاعة الـمال، وإذا شئت رأيته بـاسطا ذراعيه، يسأل الناس فـي كفـيه، فإذا أعطي أفرط فـي مدحهم، وإن منع أفرط فـي ذمهم. ٢٧٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ ... } حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا معتـمر، عن أيـمن بن نابل، قال: حدثنـي شيخ من غافق: أن أبـا الدرداء كان ينظر إلـى الـخيـل مربوطة بـين البراذين والهجن، فـ يقول: أهل هذه ـ يعنـي الـخيـل ـ من الذين ينفقون أموالهم بـاللـيـل والنهار سرّا وعلانـية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف علـيهم ولا هم يحزنون. وقال آخرون: عنى بذلك قوما أنفقوا فـي سبـيـل اللّه فـي غير إسراف ولا تقتـير. ذكر من قال ذلك: ٥٠١١ـ حدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ} إلـى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} هؤلاء أهل الـجنة¹ ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (الـمُكْثِرُونَ هم الأسْفَلُونَ). قالوا: يا نبـيّ اللّه إلاّ مَنْ؟ قال: (الـمُكْثِرُونَ هُمْ الأسْفَلُونَ)، قالوا: يا نبـيّ اللّه إلا مَن؟ حتـى خشوا أن تكون قد مضت فلـيس لها ردّ، حتـى قال: (إِلاّ مَنْ قَالَ بـالـمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا) عَنْ يَـمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ، (وَهَكَذَا) بـين يَدَيْهِ (وَهَكَذَا) خَـلْفَهُ، (وَقَلِـيـلٌ مَا هُمْ، هَولاءِ قَوْمٌ أنْفَقُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه الّتِـي افْتَرَضَ وَارْتَضَى فِـي غَيْرِ سَرَفٍ وَلا إِمْلاقٍ وَلا تَبْذِيرٍ وَلاَ فَسَادٍ). إن هذه الاَيات من قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ} إلـى قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كان مـما يعمل به قبل نزول ما فـي سورة براءة من تفصيـل الزكوات، فلـما نزلت براءة قصروا علـيها. ذكر من قال ذلك: ٥٠١٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إِنْ تُبْدُوا الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ} إلـى قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَـيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فكان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة، فلـما نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيـلها انتهت الصدقات إلـيها. ٢٧٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا...} يعني ذلك جل ثناؤه: الذين يربون، والإرباء: الزيادة على الشيء، يقال فيه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه يربي إرباء، والزيادة هي الربا، ورباالشيء: إذا زاد على ما كان عليه فعظم، فهو يربو رَبْوا. وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والإشراف على مااستوى من الأرض مما حولها من قولهم ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان في ربا قومه يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا الإنافة والزيادة، ثم يقال: أَرْبَى فلان: أي أناف صيره زائدا. وإنما قيل للمربي مريب لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالاً، أو لزيادته عليه فيه، لسبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حلّ دينه عليه، ولذلك قال جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبـا أضْعافـا مُضَاعَفَةً}. وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل ذكر من قال ذلك: ٥٠١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال فـي الربـا الذي نهى اللّه عنه: كانوا فـي الـجاهلـية يكون للرجل علـى الرجل الدين، فـ يقول: لك كذا وكذا وتؤخر عنـي، فـيؤخر عنه. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٥٠١٤ـ حدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربـا الـجاهلـية يبـيع الرجل البـيع إلـى أجل مسمى، فإذا حلّ الأجل ولـم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخّر عنه. فقال جل ثناؤه للذين يربون الربـا الذي وصفنا صفته فـي الدنـيا، لا يقومون فـي الاَخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتـخبطه الشيطان من الـمسّ¹ يعنـي بذلك: يتـخبّله الشيطان فـي الدنـيا، وهو الذي يتـخبطه فـيصرعه من الـمسّ، يعنـي من الـجنون. وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٠١٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {الّذِينَ يأكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطَهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} يوم القـيامة فـي أكل الربـا فـي الدنـيا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٥٠١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم، قال: ثنـي أبـي، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} قال: ذلك حين يبعث من قبره. ٥٠١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم، قال: ثنـي أبـي، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: يقال يوم القـيامة لاَكل الربـا: خذ سلاحك للـحرب. وقرأ: {لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} قال: ذلك حين يبعث من قبره. ٥٠١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبـير: {الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ}.. الآية قال: يبعث آكل الربـا يوم القـيامة مـجنونا يخنق. ٥٠١٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ} الآية، وتلك علامة أهل الربـا يوم القـيامة، بعثوا بهم خبل من الشيطان. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لا يَقُومُونَ إِلاّ كما يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} قال: هو التـخبّل الذي يتـخبّله الشيطان من الـجنون. ٥٠٢٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} قال: يبعثون يوم القـيامة وبهم خبل من الشيطان. وهي فـي بعض القراءة: (لا يقومون يوم القـيامة). ٥٠٢١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {الّذِينَ يَأكُلُونَ الرّبـا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} قال: من مات وهو يأكل الربـا بعث يوم القـيامة متـخبطا كالذي يتـخبطه الشيطان من الـمسّ. ٥٠٢٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} يعنـي من الـجنون. ٥٠٢٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {الّذِينَ يَأَكُلُونَ الرّبـا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} قال: هذا مثلهم يوم القـيامة لا يقومون يوم القـيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القـيامة كأنه خنق كأنه مـجنون. ومعنى قوله: {يَتَـخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الـمَسّ} يتـخبله من مسه إياه، يقال منه: قد مُسّ الرجل وأُلِقَ فهو مـمسوس ومألوق، كل ذلك إذا ألـمّ به اللـمـم فجنّ، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: {إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا}. ومنه قول الأعشى: وَتُصْبِحُ عن غِبّ السّرَى وكأنـماأَلَـمّ بِها من طائفِ الـجنّ أوْلَقُ فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى اللّه عنه من الربـا فـي تـجارته ولـم يأكله، أيستـحقّ هذا الوعيد من اللّه ؟ قـيـل: نعم، ولـيس الـمقصود من الربـا فـي هذه الآية الأكل، إلا أن الذين نزلت فـيهم هذه الاَيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربـا، فذكرهم بصفتهم معظما بذلك علـيهم أمر الربـا، ومقبحا إلـيهم الـحال التـي هم علـيها فـي مطاعمهم، وفـي قوله جل ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بِقَـيَ مِنَ الرّبـا إِنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ فَـإِنْ لَـمْ تَفْعَلُوا فَأذْنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ}.. الآية ما ينبىء عن صحة ما قلنا فـي ذلك، وأن التـحريـم من اللّه فـي ذلك كان لكل معانـي الربـا، وأنْ سواء العمل به وأكلُه وأخذه وإعطاؤه، كالذي تظاهرت به الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قوله: (لَعَنَ اللّه آكِلَ الرّبـا، وَمُوءْكِلَهُ، وَكاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ إِذَا عَلِـمُوا بِهِ). ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِـأَنّهُمْ قَالُوا إِنّـمَا البَـيْعُ مِثْلُ الرّبـا}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قـيامهم يوم القـيامة من قبورهم كقـيام الذي يتـخبطه الشيطان من الـمسّ من الـجنون، فقال تعالـى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القـيامة من قبح حالهم ووحشة قـيامهم من قبورهم وسوء ما حلّ بهم من أجل أنهم كانوا فـي الدنـيا يكذبون ويفترون ويقولون إنـما البـيع الذي أحله اللّه لعبـاده مثل الربـا، وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الربـا من أهل الـجاهلـية، كان إذا حلّ مال أحدهم علـى غريـمه يقول الغريـم لغريـم الـحقّ زدنـي فـي الأجل وأزيدك فـي مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربـا لا يحلّ، فإذا قـيـل لهما ذلك، قالا: سواء علـينا زدنا فـي أوّل البـيع أو عند مـحلّ الـمال فكذّبهم اللّه فـي قـيـلهم، فقال: {وَأحَلّ اللّه البَـيْعَ}. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأحَلّ اللّه البَـيْعَ وَحَرّمَ الرّبـا ...}. يعنـي جل ثناؤه: وأحلّ اللّه الأربـاح فـي التـجارة والشراء والبـيع، وحرّم الربـا يعنـي الزيادة التـي يزاد ربّ الـمال بسبب زيادته غريـمه فـي الأجل، وتأخيره دينه علـيه. يقول عزّ وجلّ: ولـيست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البـيع، والأخرى من وجه تأخير الـمال والزيادة فـي الأجل سواء، وذلك أنـي حرمت إحدى الزيادتـين، وهي التـي من وجه تأخير الـمال والزيادة فـي الأجل¹ وأحللت الأخرى منهما، وهي التـي من وجه الزيادة علـى رأس الـمال الذي ابتاع به البـائع سلعته التـي يبـيعها فـيستفضل فضلها، فقال اللّه عزّ وجلّ لـيست الزيادة من وجه البـيع نظير الزيادة من وجه الربـا، لأنـي أحللت البـيع، وحرّمت الربـا، والأمر أمري والـخـلق خـلقـي، أقضي فـيهم ما أشاء، وأستعبدهم بـما أريد، لـيس لأحد منهم أن يعترض فـي حكمي، ولا أن يخالف فـي أمري، وإنـما علـيهم طاعتـي والتسلـيـم لـحكمي. ثم قال جل ثناؤه: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فـانْتَهَى} يعنـي بـالـموعظة: التذكير والتـخويف الذي ذكرهم وخوّفهم به فـي آي القرآن، وأوعدهم علـى أكلهم الربـا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك فـانتهى عن أكل الربـا، وارتدع عن العمل به، وانزجر عنه {فَلَهُ ما سلَفَ} يعنـي ما أكل، وأخذ فمضى قبل مـجيء الـموعظة والتـحريـم من ربه فـي ذلك {وأمرهُ إلـى اللّه } يعنـي وأمر آكله بعد مـجيئه الـموعظة من ربه والتـحريـم، وبعد انتهاء آكله عن أكله إلـى اللّه فـي عصمته وتوفـيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبته فـي انتهائه عنه، وإن شاء خذله عن ذلك. {وَمَنْ عادَ} يقول: ومن عاد لأكل الربـا بعد التـحريـم، وقال ما كان يقوله قبل مـجيء الـموعظة من اللّه بـالتـحريـم من قوله: {إِنّـمَا البَـيْعُ مِثْلُ الرّبـا} {فأولئكَ أصحابُ النّارِ هُمْ فِـيهَا خَالِدُونَ} يعنـي ففـاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعنـي نار جهنـم فـيها خالدون.) وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٠٢٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال¹ حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَـانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إِلـى اللّه } أما الـموعظة فـالقرآن، وأما ما سلف فله ما أكل من الربـا. ٢٧٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَمْحَقُ اللّه الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ وَاللّه لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّارٍ أَثِيمٍ } يعنـي عز وجل بقوله: {يَـمْـحَقُ اللّه الربـا}: ينقص اللّه الربـا فـيذهبه. كما: ٥٠٢٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : {يَـمْـحَقُ اللّه الرّبـا} قال: ينقص. وهذا نظير الـخبر الذي رُوي عن عبد اللّه بن مسعود، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (الرّبـا وَإِنْ كَثُرَ فإلـى قُلّ)وأما قوله: {وَيُرَبى الصّدَقَاتِ} فإنه جل ثناؤه يعنـي: أنه يضاعف أجرها لربها، وينـميها له. وقد بـينا معنى الربـا قبل والإربـاء وما أصله، بـما فـيه الكفـاية من إعادته. فإن قال لنا قائل: وكيف إربـاء اللّه الصدقات؟ قـيـل: إضعافه الأجر لربها، كما قال جل ثناؤه: {مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبَتَتْ سَبْع سَنَابِلَ فِـي كُلّ سُنْبلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ} وكما قال: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا فَـيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافـا كَثِـيرَةَ}. وكما: ٥٠٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن القاسم أنه سمع أبـا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ اللّه عَزّ وَجَلّ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ وَيَأخُذُها بِـيَـمِينِهِ، فَـيُرَبّـيها لأحَدِكُمْ كَما يُرَبّـي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ، حتـى إِنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحِدٍ). وتصديق ذلك فـي كتاب اللّه عزّ وجل: {ألَـمْ يَعْلَـمُوا أنّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبـادِهِ ويأخُذُ الصّدَقَاتِ} و{يـمْـحَقُ اللّه الرّبـا ويُرْبَـي الصّدَقَاتِ}. ٥٠٢٧ـ حدثنـي سلـيـمان بن عمر بن خالد الأقطع، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن عبـاد بن منصور، عن القاسم بن مـحمد، عن أبـي هريرة، ولا أراه إلا قد رفعه، قال: (إِنّ اللّه عزّ وجلّ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ، ولا يَقْبَلُ إلا الطّيّبَ). ٥٠٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـيّ الـمقدمي، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عبـاد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ اللّه تَبَـارَكَ وَتَعالـى يَقْبَلُ الصّدَقَةَ وَلا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاّ الطّيّبَ، وَيُرَبّـيها لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبّـي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ أوْ فَصِيـلَهُ، حتـى إِنّ اللّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ). وتصديق ذلك فـي كتاب اللّه عزّ وجلّ: {يَـمْـحَقُ اللّه الرّبـا وَيُرَبِـي الصّدَقَاتِ}. ٥٠٢٩ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الـملك، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن مـحمد، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ العَبْدَ إذَا تَصَدّقَ مِنْ طَيّبٍ تَقَبّلَهَا اللّه مِنْهُ، وَيَأَخُذُها بِـيَـمِينِهِ وَيُرَبّـيهَا كَمَا يُرَبَـي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ أوْ فَصِيـلَهُ. وَإِنّ الرّجُلَ لَـيَتَصَدّقُ بِـاللّقْمَةِ فَتَرْبُو فِـي يَدِ اللّه )، أو قال: (فـي كف اللّه عَزّ وَجَلّ حتـى تَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ¹ فَتَصَدّقُوا). حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن مـحمد، قال: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إِنّ اللّه عَزّ وَجَلّ يَقْبَلُ الصّدَقَةَ بِـيَـمِينِهِ، وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاّ مَا كَانَ طَيّبـا، وَاللّه يُرَبّـي لأحَدِكُمْ لُقْمَتَهُ كَمَا يُرَبّـي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ وَفَصِيـلَهُ، حتـى يُوافَـى بِها يَوْمَ القِـيامَةِ وَهِيَ أعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ). وأما قوله: {وَاللّه لاَ يُحِبّ كُلّ كَفّـارٍ أثِـيـمٍ} فإنه يعنـي به: واللّه لا يحبّ كل مصرّ علـى كفر بربه، مقـيـم علـيه، مستـحلّ أكل الربـا وإطعامه، أثـيـم متـماد فـي الإثم فـيـما نهاه عنه من أكل الربـا والـحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك، ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بـموعظة ربه التـي وعظه بها فـي تنزيـله وآي كتابه. ٢٧٧القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ...} وهذا خبر من اللّه عزّ وجلّ بأن الذين آمنوا، يعنـي الذين صدقوا بـاللّه وبرسوله، وبـما جاء به من عند ربهم من تـحريـم الربـا وأكله وغير ذلك من سائر شرائع دينه، وعملوا الصالـحات التـي أمرهم اللّه عزّ وجلّ بها، والتـي ندبهم إلـيها وأقاموا الصلاة الـمفروضة بحدودها، وأدّوها بسننها، وآتوا الزكاة الـمفروضة علـيهم فـي أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الربـا، قبل مـجيء الـموعظة فـيه من عند ربهم، لهم أجرهم، يعنـي ثواب ذلك من أعمالهم وإيـمانهم وصدقتهم عند ربهم يوم حاجتهم إلـيه فـي معادهم، ولا خوف علـيهم يومئذٍ من عقابه علـى ما كان سلف منهم فـي جاهلـيتهم وكفرهم قبل مـجيئهم موعظة من ربهم من أكل ما كانوا أكلوا من الربـا بـما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلـى اللّه عزّ وجلّ من ذلك عند مـجيئهم الـموعظة من ربهم، وتصديقهم بوعد اللّه ووعيده، ولا هم يحزنون علـى تركهم ما كانوا تركوا فـي الدنـيا من أكل الربـا والعمل به إذا عاينوا جزيـل ثواب اللّه تبـارك وتعالـى، وهم علـى تركهم ما تركوا من ذلك فـي الدنـيا ابتغاء رضوانه فـي الاَخرة، فوصلوا إلـى ما وعدوا علـى تركه. ٢٧٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّه وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ } يعنـي جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين آمنوا صدّقوا بـاللّه وبرسوله، اتقوا اللّه ، يقول: خافوا اللّه علـى أنفسكم فـاتقوه بطاعته فـيـما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه، وذروا، يعنـي ودعوا ما بقـي من الربـا، يقول: اتركوا طلب ما بقـي لكم من فضل علـى رءوس أموالكم التـي كانت لكم قبل أن تربوا علـيها إن كنتـم مؤمنـين، يقول: إن كنتـم مـحققـين إيـمانكم قولاً، وتصديقكم بألسنتكم بأفعالكم. وذكر أن هذه الآية نزلت فـي قوم أسلـموا، ولهم علـى قوم أموال من ربـا كانوا أربوه علـيهم، فكانوا قد قبضوا بعضه منهم، وبقـي بعض، فعفـا اللّه جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، وحرّم علـيهم اقتضاء ما بقـي منه. ذكر من قال ذلك: ٥٠٣٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِـيَ مِنَ الرّبـا} إلـى: {وَلا تُظْلَـمُونَ} قال: نزلت هذه الآية فـي العبـاس بن عبد الـمطلب ورجل من بنـي الـمغيرة كانا شريكين فـي الـجاهلـية، سلفـا فـي الربـا إلـى أناس من ثقـيف من بنـي عمرو، وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيـمة فـي الربـا، فأنزل اللّه {ذَرُوا ما بَقِـيَ} من فضل كان فـي الـجاهلـية {مِنَ الرّبـا}. ٥٠٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وَذَرُوا ما بَقِـيَ مِنَ الرّبـا إِنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ} قال: كانت ثقـيف قد صالـحت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم علـى أن ما لهم من ربـا علـى الناس، وماكان للناس علـيهم من ربـا فهو موضوع. فلـما كان الفتـح، استعمل عتاب بن أسيد علـى مكة، وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربـا من بنـي الـمغيرة وكانت بنو الـمغيرة يربون لهم فـي الـجاهلـية، فجاء الإسلام ولهم علـيهم مال كثـير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون ربـاهم، فأبى بنو الـمغيرة أن يعطوهم فـي الإسلام، ورفعوا ذلك إلـى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِـيَ مِنَ الرّبـا إِنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ فـانْ لَـمْ تَفْعَلُوا فـأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} إلـى: {وَلا تُظْلِـمُونَ}، فكتب بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى عتاب وقال: (إِنْ رَضُوا وَإِلاّ فَآذِنْهُمْ بِحَرْبٍ). قال ابن جريج، عن عكرمة قوله: {اتّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِـيَ مِنْ الرّبـا} قال: كانوا يأخذون الربـا علـى بنـي الـمغيرة يزعمون أنهم مسعود وعبد يالـيـل وحبـيب وربـيعة بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الربـا علـى بنـي الـمغيرة، فأسلـم عبد يالـيـل وحبـيب وربـيعة وهلال ومسعود. ٥٠٣٢ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {اتّقُوا اللّه وَذَرُوا مَا بَقِـيَ مِنَ الرّبـا إِنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ} قال: كان ربـا يتبـايعون به فـي الـجاهلـية، فلـما أسلـموا أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم. ٢٧٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّه ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فَـإِنْ لَـمْ تَفْعَلُوا} فإن لـم تذروا ما بقـي من الربـا. (واختلف القراء فـي قراءة قوله: {فَـأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة: {فـأْذَنُوا} بقصر الألف من فأذنوا وفتـح ذالها، بـمعنًى وكونوا علـى علـم وإذْن. وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قراء الكوفـيـين: (فَآذِنُوا) بـمدّ الألف من قوله: (فآذِنوا) وكسر ذالها، بـمعنى: فآذنوا غيركم، أعلـموهم وأخبروهم بأنكم علـى حربهم. وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك، قراءة من قرأ: {فأذَنُوا} بقصر ألفها وفتـح ذالها، بـمعنى: اعلـموا ذلك واستـيقنوه، وكونوا علـى إذن من اللّه عزّ وجل لكم بذلك. وإنـما اخترنا ذلك، لأن اللّه عزّ وجلّ أمر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن ينبذ إلـى من أقام علـى شركه الذي لا يقرّ علـى الـمقام علـيه، وأن يقتل الـمرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، أذنه الـمشركون بأنهم علـى حربه أولـم يأذنوه، فإذ كان الـمأمور بذلك لا يخـلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقـيـما علـى شركه الذي لا يقرّ علـيه، أو يكون كان مسلـما فـارتدّ وأذن بحرب، فأيّ الأمرين كان، فإنـما نبذ إلـيه بحرب، لا أنه أمر بـالإيذان بها إن عزم علـى ذلك، لأن الأمر إن كان إلـيه فأقام علـى أكل الربـا مستـحلاً له، ولـم يؤذن الـمسلـمون بـالـحرب، لـم يـلزمهم حربه، ولـيس ذلك حكمه فـي واحدة من الـحالـين، فقد علـم أنه الـمأذون بـالـحرب لا الاَذن بها. وعلـى هذا التأويـل تأوّله أهل التأويـل.) ذكر من قال ذلك: ٥٠٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه وَذَرُوا ما بَقِـيَ مِنَ الربّـا} إلـى قوله: {فـأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} فمن كان مقـيـما علـى الربـا لا ينزع عنه، فحقّ علـى إمام الـمسلـمين أن يستتـيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه. ٥٠٣٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم، قال: ثنـي أبـي، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: يقال يوم القـيامة لاَكل الربـا: خذ سلاحك للـحرب. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا ربـيعة بن كلثوم، قال: ثنـي أبـي، عن سعيد بن جبـير عن ابن عبـاس ، مثله. ٥٠٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَذَرُوا ما بَقِـيَ مِنَ الرّبـا إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا فـأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} أوعدهم اللّه بـالقتل كما تسمعون، فجعلهم بهرجا أينـما ثقـفوا. حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة، مثله. ٥٠٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {فإنْ لَـمْ تَفْعَلُوا فَـأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} أوعد لاَكل الربـا بـالقتل. ٥٠٣٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس قوله: {فَـأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ} فـاستـيقنوا بحرب من اللّه ورسوله. وهذه الأخبـار كلها تنبىء عن أن قوله: {فَـأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّه } إيذان من اللّه عزّ وجلّ لهم بـالـحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإنْ تُبْتُـمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ}. يعنـي جل ثناؤه بذلك: إن تبتـم فتركتـم أكل الربـا، وأنبتـم إلـى اللّه عزّ وجلّ، فلكم رءوس أموالكم من الديون التـي لكم علـى الناس دون الزيادة التـي أحدثتـموها علـى ذلك ربـا منكم. كما: ٥٠٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإنْ تُبْتُـمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُمْ} الـمال الذي لهم علـى ظهور الرجال جعل لهم رُءُوسَ أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فلـيس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا. ٥٠٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: وضع اللّه الربـا، وجعل لهم رءوس أموالهم. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة فـي قوله: {وَإنْ تُبْتُـمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُمْ} قال: ما كان لهم من دين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادوا علـيه شيئا. ٥٠٤٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَإنْ تُبْتُـمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ} الذي أسلفتـم وسقط الربـا. ٥٠٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فـي خطبته يوم الفتـح: (ألاّ إنّ رِبـا الـجاهِلِـيّةِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ، وَأوّلُ رِبـا أبْتَدِىءُ بِهِ رِبـا العَبّـاسِ بْنِ عَبْدِ الـمُطّلِب). ٥٠٤٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فـي خطبته: (إنّ كُلّ رِبـا مَوْضُوعٌ، وأوّلُ رِبـا يُوضَعُ رِبـا العَبّـاس). القول فـي تأويـل قوله: {لا تَظْلِـمُونَ وَلا تُظْلَـمُونَ}. يعنـي بقوله: {لا تَظْلِـمُونَ} بأخذكم رءوس أموالكم التـي كانت لكم قبل الإربـاء علـى غرمائكم منهم دون أربـاحها التـي زدتـموها ربـا علـى من أخذتـم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما لـيس لكم أخذه، أو لـم يكن لكم قبل. {وَلا تُظْلَـمُونَ} يقول: ولا الغريـم الذي يعطيكم ذلك دون الربـا الذي كنتـم ألزمتـموه من أجل الزيادة فـي الأجل يبخسكم حقا لكم علـيه فـيـمنعكموه، لأن ما زاد علـى رءوس أموالكم، لـم يكن حقا لكم علـيه، فـيكون بـمنعه إياكم ذلك ظالـما لكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان ابن عبـاس يقول وغيره من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٠٤٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {وَإنْ تُبْتُـمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِـمُونَ} فتربون، {وَلا تُظْلَـمُونَ} فتنقصون. ٥٠٤٤ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ لا تَظْلِـمُونَ وَلا تُظْلَـمُونَ} قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون بـاطلاً لا يحلّ لكم. ٢٨٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يعنـي جل ثناؤه بذلك: وإن كان مـمن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم ذو عسرة، يعنـي معسرا برءوس أموالكم التـي كانت لكم علـيهم قبل الإربـاء، فأنظِروهم إلـى ميسرتهموقوله: {ذُو عُسْرَةٍ} مرفوع بكان، فـالـخبر متروك، وهو ما ذكرنا، وإنـما صلـح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبـارها، ولو وجهت كان فـي هذا الـموضع إلـى أنها بـمعنى الفعل الـمتكفـي بنفسه التامّ، لكان وجها صحيحا، ولـم يكن بها حاجة حينئذ إلـى خبر. فـيكون تأويـل الكلام عند ذلك: وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم، فنظرة إلـى ميسرة. وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب: (وَإنْ كانَ ذا عُسْرَةٍ) بـمعنى: وإن كان الغريـم ذا عسرة فنظرة إلـى ميسرة. وذلك وإن كان فـي العربـية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا لـخلافه خطوط مصاحف الـمسلـمين. وأما قوله: {فَنَظْرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ} فإنه يعنـي: فعلـيكم أن تنظروه إلـى ميسرة، كما قال: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ} وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فـيـما مضى قبل، فأغنى عن تكريره. والـميسرة: الـمفعلة من الـيسر، مثل الـمرحمة والـمشأمة. ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعلـيكم أن تنظروه حتـى يوسر بـما لـيس لكم، فـيصير من أهل الـيسر به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٠٤٥ـ حدثنـي واصل بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ} قال: نزلت فـي الربـا. ٥٠٤٦ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلاً خاصم رجلاً إلـى شريح قال: فقضى علـيه، وأمر بحبسه قال: فقال رجل عند شريح: إنه معسر، واللّه يقول فـي كتابه: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ} قال: فقال شريح: إنـما ذلك فـي الربـا، وإن اللّه قال فـي كتابه: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إِلـى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُـمْ بَـيْنَ النّاسِ أنْ تَـحْكُمُوا بـالعَدْلِ} ولا يأمرنا اللّه بشيء ثم يعذّبنا علـيه. ٥٠٤٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ} قال: ذلك فـي الربـا. ٥٠٤٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن الـحسن: أن الربـيع بن خُثَـيْـم كان له علـى رجل حقّ، فكان يأتـيه ويقوم علـى بـابه و يقول: أي فلان إن كنت موسرا فأدّ، وإن كنت معسرا فإلـى ميسرة. حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن مـحمد، قال: جاء رجل إلـى شريح، فكلـمه، فجعل يقول: إنه معسر، إنه معسر، قال: فظننت أنه يكلـمه فـي مـحبوس. فقال شريح: إن الربـا كان فـي هذا الـحيّ من الأنصار، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ} وقال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلـى أهْلِها} فما كان اللّه عزّ وجلّ يأمرنا بأمر ثم يعذّبنا علـيه، أدّوا الأمانات إلـى أهلها. ٥٠٤٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} قال: فنظرة إلـى ميسرة برأس ماله. ٥٠٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسرَةٍ} إنـما أمر فـي الربـا أن ينظر الـمعسر، ولـيست النظرة فـي الأمانة، ولكن يؤدّي الأمانة إلـى أهلها. ٥٠٥١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} برأس الـمال، {إلـى مَيْسَرَةٍ} يقول: إلـى غنى. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} هذا فـي شأن الربـا. ٥٠٥٢ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} هذا فـي شأن الربـا، وكان أهل الـجاهلـية بها يتبـايعون، فلـما أسلـم من أسلـم منهم، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم. ٥٠٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} يعنـي الـمطلوب. ٥٠٥٤ـ حدثنـي ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن أبـي جعفر فـي قوله: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} قال: الـموت. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيـل، عن جابر، عن مـحمد بن علـيّ، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفـيان، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةً إلـى مَيْسَرَةٍ} قال: هذا فـي الربـا. ٥٠٥٥ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيـم فـي الرجل يتزوّج إلـى الـميسرة، قال: إلـى الـموت أو إلـى فرقة. حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم: {فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} قال: ذلك فـي الربـا. ٥٠٥٦ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن لـيث، عن مـجاهد: {فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسرَةٍ} قال: يؤخره ولا يزد علـيه، وكان إذا حلّ دين أحدهم فلـم يجد ما يعطيه زاد علـيه وأخره. ٥٠٥٧ـ وحدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا مندل، عن لـيث، عن مـجاهد: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ} قال: يؤخره ولا يزد علـيه. وقال آخرون: هذه الآية عامة فـي كل من كان له قبل رجل معسر حق من أيّ وجهة كان ذلك الـحق من دين حلال أو ربـا. ذكر من قال ذلك: ٥٠٥٨ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: من كان ذا عسرة فنظرة إلـى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم¹ قال: وكذلك كل دين علـى مسلـم، فلا يحلّ لـمسلـم له دين علـى أخيه يعلـم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتـى يـيسره اللّه علـيه، وإنـما جعل النظرة فـي الـحلال فمن أجل ذلك كانت الديون علـى ذلك. ٥٠٥٩ـ حدثنـي علـيّ بن حرب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : {وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} قال: نزلت فـي الدين. والصواب من القول فـي قوله: {وَإنْ كانَ دُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسَرَةٍ} أنه معنـيّ به غرماء الذين كانوا أسلـموا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولهم علـيهم ديون قد أربوا فـيها فـي الـجاهلـية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر اللّه بوضع ما بقـي من الربـا بعد ما أسلـموا، وبقبض رءوس أموالهم، مـمن كان منهم من غرمائهم موسرا، وإنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلـى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلـم وله ربـا قد أربى علـى غريـم له، فإن الإسلام يبطل عن غريـمه ما كان له علـيه من قِبَل الربـا، ويـلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه، أو لزمه من قبل الإربـاء إلـيه إن كان موسرا، وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلـى ميسرته، وكان الفضل علـى رأس الـمال مبطلاً عنه. غير أن الآية وإن كانت نزلت فـيـمن ذكرنا وإياهم عنى بها، فإن الـحكم الذي حكم اللّه به من إنظاره الـمعسر برأس مال الـمربـي بعد بطول الرّبـا عنه حكم واجب لكل من كان علـيه دين لرجل قد حلّ علـيه، وهو بقضائه معسر فـي أنه منظر إلـى ميسرته، لأن دين كل ذي دين فـي مال غريـمه وعلـى غريـمه قضاؤه منه لا فـي رقبته، فإذا عدم ماله، فلا سبـيـل له علـى رقبته بحبس ولا بـيع، وذلك أن مال ربّ الدين لن يخـلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون فـي رقبة غريـمه، أو فـي ذمته يقضيه من ماله، أو فـي مال له بعينه¹ فإن يكن فـي مال له بعينه، فمتـى بطل ذلك الـمال وعدم، فقد بطل دين ربّ الـمال، وذلك ما لا يقوله أحد ويكون فـي رقبته، فإن يكن كذلك فمتـى عدمت نفسه، فقد بطل دين ربّ الدين، وإن خـلف الغريـم وفـاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد، فقد تبـين إذ كان ذلك كذلك أن دين ربّ الـمال فـي ذمة غريـمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبـيـل له علـى رقبته، لأنه قد عدم ما كان علـيه أن يؤدى منه حقّ صاحبه لو كان موجودا، وإذا لـم يكن علـى رقبته سبـيـل لـم يكن إلـى حبسه بحقه وهو معدوم سبـيـل، لأنه غير مانعه حقا له إلـى قضائه سبـيـل، فـيعاقب بظلـمه إياه بـالـحبس. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ}. يعنـي جلّ وعزّ بذلك: وأن تتصدّقوا برءوس أموالكم علـى هذا الـمعسر، خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلـى ميسرته لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر، {إنْ كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ} موضع الفضل فـي الصدقة، وما أوجب اللّه من الثواب لـمن وضع عن غريـمه الـمعسر دينه. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأن تصدّقوا برءوس أموالك علـى الغنـيّ والفقـير منهم خير لكم. ذكر من قال ذلك: ٥٠٦٠ـ حدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإنْ تُبْتُـمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ} والـمال الذي لهم علـى ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية¹ فأما الربح والفضل فلـيس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا. {وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. يقول وإن تصدقوا بأصل الـمال، خير لكم. ٥٠٦١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد عن قتادة: {وأنْ تَصَدّقُوا} أي برأس الـمال فهو خير لكم. ٥٠٦٢ـ وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم: {وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: من رءوس أموالكم. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى، عن سفـيان، عن الـمغيرة، عن إبراهيـم بـمثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم: {وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: أن تصدّقوا برءوس أموالكم. وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به علـى الـمعسر خير لكم¹ نـحو ما قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك: ٥٠٦٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: وأن تصدّقوا برءوس أموالكم علـى الفقـير فهو خير لكم، فتصدّق به العبـاس. ٥٠٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسِرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يقول: وإن تصدّقت علـيه برأس مالك فهو خير لك. ٥٠٦٥ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال أخبرنا عبـيد قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {وأنْ تَصَدّقُوا خَيْر لَكم} يعنـي علـى الـمعسر، فأما الـموسر فلا، ولكن يؤخذ منه رأس الـمال، والـمعسر الأخذ منه حلال والصدقة علـيه أفضل. ٥٠٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلـى ميسرة، فـاختار اللّه عزّ وجلّ الصدقة علـى النّظارة. ٥٠٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسرَةٍ، وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: من النظرة {إنْ كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ}. حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : {فَنَظِرَةٌ إلـى مَيْسرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} والنظرة واجبة، وخير اللّه عزّ وجلّ الصدقة علـى النظرة، والصدقة لكل معسر فأما الـموسر فلا. وأولـى التأويـلـين بـالصواب، تأويـل من قال معناه: وأن تصدّقوا علـى الـمعسر برءوس أموالكم خير لكم¹ لأنه يـلـي ذكر حكمه فـي الـمعنـيـين، وإلـحاقه بـالذي يـلـيه أحبّ إلـيّ من إلـحاقه بـالذي بعد منه. وقد قـيـل: إن هذه الاَيات فـي أحكام الربـا هن آخر آيات نزلت مِن القرآن. ذكر من قال ذلك: ٥٠٦٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب: أن عمر بن الـخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربـا، وإن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قُبِض قبل أن يفسرها، فدعوا الربـا والريبة. ٥٠٦٩ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي اللّه عنه قام، فحمد اللّه وأثنى علـيه، ثم قال: أما بعد: فإنه واللّه ما أدري، لعلنا نأمركم بأمر لا يصلـح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلـح لكم¹ وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلاً آيات الربـا، فتوفـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يبنـيه لنا، فدعوا ما يريبكم إلـى ما لا يريبكم. ٥٠٧٠ـ حدثنـي أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا قبـيصة، قال: حدثنا سفـيان الثوري، عن عاصم، عن الأحول، عن الشعبـي، عن ابن عبـاس ، قال: آخر ما أنزل علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آية الربـا، وإنا لنأمر بـالشيء لا ندري لعلّ به بأسا، وننهى عن الشيء لعله لـيس به بأس. ٢٨١القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه ...} وقـيـل: هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك: ٥٠٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: آخر آية نزلت علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: {وَاتقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِـيهِ إلـى اللّه }. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَاتّقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِـيهِ إلـى اللّه }.. الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت. ٥٠٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا إسماعيـل بن سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية، قال: آخر آية نزلت: {وَاتّقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِـيهِ إلـى اللّه ثُمّ تُوَفّـى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ}. ٥٠٧٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نزلت {وَاتّقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِـيهِ إلـى اللّه }. ٥٠٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس وحجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : آخر آية نزلت من القرآن: {وَاتّقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِـيهِ إلـى اللّه ثُمّ تُوَفّـى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَـمُونَ}. قال ابن جريج: يقولون، إن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مكث بعدها تسع لـيال، وبدا يوم السبت، ومات يوم الاثنـين. ٥٠٧٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: ثنـي سعيد بن الـمسيب، أنه بلغه أن أحدث القرآن بـالعرش آية الدّين. يعنـي بذلك جل ثناؤه: (واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فـيه إلـى اللّه فتلقونه فـيه أن تردّوا علـيه بسيئات تهلككم، أو بـمخزيات تـخزيكم، أو بفضيحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بـموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب اللّه ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مـجازاة الأعمال لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومـحاسبة، توفـى فـيه كل نفس أجرها علـى ما قدمت واكتسبت من سيىء وصالـح، لا يغادر فـيه صغيرة ولا كبـيرة من خير وشرّ إلا أحضرت، فتوفـى جزاءها بـالعدل من ربها، وهم لا يظلـمون. وكيف يظلـم من جوزي بـالإساءة مثلها وبـالـحسنة عشر أمثالها، كلا بل عدل علـيك أيها الـمسيء، وتكرّم علـيك فأفضل وأسبغَ أيها الـمـحسن، فـاتقـى امرؤ ربه فأخذ منه حذره وراقبه أن يهجم علـيه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقـيـل، ومن صالـحات الأعمال خفـيف، فإنه عزّ وجلّ حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ. ٢٨٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ...} يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله {إذَا تَدَايَنْتُـمْ} يعنـي إذا تبـايعتـم بدين أو اشتريتـم به، أو تعاطيتـم، أو أخذتـم به {إلـى أَجَلٍ مُسَمّى} يقول: إلـى وقت معلوم وقتـموه بـينكم. وقد يدخـل فـي ذلك القرض والسلـم فـي كل ما جاز. السلـم شرى أجّل بـيعه يصير دينا علـى بـائع ما أسلـم إلـيه فـيه، ويحتـمل بـيع الـحاضر الـجائز بـيعه من الأملاك بـالأثمان الـمؤجلة كل ذلك من الديون الـمؤجلة إلـى أجل مسمّى إذا كانت آجالها معلومة بحدّ موقوف علـيه. وكان ابن عبـاس يقول: نزلت هذه الآية فـي السلـم خاصة. ذكر من قال ذلك: ٥٠٧٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن عيسى الرملـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، قال: قال ابن عبـاس فـي: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلً مُسَمّى} قال: السلـم فـي الـحنطة فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم. حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه الـمخرمي، قال: حدثنا يحيـى بن الصامت، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن أبـي حيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن ابن عبـاس : {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ} قال: نزلت فـي السلـم فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم. حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا يزيد بن أبـي الزرقاء، عن سفـيان، عن أبـي حيان، عن رجل، عن ابن عبـاس ، قال: نزلت هذه الآية: {إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فـاكْتُبُوهُ} فـي السلـم فـي الـحنطة فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن مـحبب، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حيان التـيـمي، عن رجل، عن ابن عبـاس قال: نزلت هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى} فـي السلف فـي الـحنطة فـي كيـل معلوم إلـى أجل معلوم. ٥٠٧٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة، عن أبـي حيان، عن ابن عبـاس ، قال: أشهد أن السلف الـمضمون إلـى أجل مسمى أن اللّه عزّ وجلّ قد أحله، وأذن فـيه. ويتلو هذه الآية: {إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى}. فإن قال قائل: وما وجه قوله: {بِدَيْنٍ} وقد دلّ بقوله: {إذَا تَدَايَنْتُـمْ} علـيه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فـاحتـيج إلـى أن يقال بدين؟ قـيـل: إن العرب لـما كان مقولاً عندها تداينا بـمعنى تـجازينا وبـمعنى تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين، أبـان اللّه بقوله (بدين) الـمعنى الذي قصد تعريفه من قوله (تداينتـم) حكمه، وأعلـمهم أنه حكم الدين دون حكم الـمـجازاة. وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: {فَسَجَدَ الـمَلائِكَةُ كُلّهُمْ أجْمَعُونَ}. ولا معنى لـما قال من ذلك فـي هذا الـموضع. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـاكتُبُوهُ}. يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فـاكْتُبُوهُ} فـاكتبوا الدّين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى من بـيع كان ذلك أو قرض. واختلف أهل العلـم فـي اكتتاب الكتاب بذلك علـى من هو علـيه، هل هو واجب أو هو ندب؟ فقال بعضهم: هو حقّ واجب، وفرض لازم. ذكر من قال ذلك: ٥٠٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مسَمّى فـاكْتُبُوهُ} قال: من بـاع إلـى أجل مسمى أمر أن يكتب صغيرا كان أو كبـيرا إلـى أجل مسمى. ٥٠٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مَسَمّى فـاكْتُبُوهُ} قال: فمن ادّان دينا فلـيكتب، ومن بـاع فلـيشهد. ٥٠٨٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فـاكْتُبُوهُ} فكان هذا واجبـا. ٥٠٨١ـ وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله، وزاد فـيه: قال: ثم قامت الرخصة والسعة قال: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ وَلْـيَتّقِ اللّه رَبّهُ}. ٥٠٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن أبـا سلـيـمان الـمرعشي كان رجلاً صحب كعبـا فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلـمون مظلوما دعا ربه فلـم يستـجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل بـاع شيئا فلـم يكتب ولـم يُشهد، فلـما حلّ ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلـم يستـجب له، لأنه قد عصى ربه. وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بـالدين فرضا، فنسخه قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ}. ذكر من قال ذلك: ٥٠٨٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبـي، قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب، ولا تُشهد¹ لقوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا}. قال ابن عيـينة: قال ابن شبرمة عن الشعبـي: إلـى هذا انتهى. ٥٠٨٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر فـي هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فـاكْتُبُوهُ} حتـى بلغ هذا الـمكان: {فإنْ أمِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ} قال: رخص فـي ذلك، فمن شاء أن يأتـمن صاحبه فلـيأتـمنه. ٥٠٨٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبـي، قال: إن ائتـمنه فلا يشهد علـيه ولا يكتب. ٥٠٨٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: {فإنْ أمِنَ بَعضُكُمْ بَعْضا} نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود رخصة ورحمة من اللّه . ٥٠٨٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال غير عطاء: نسخت الكتاب والشهادة: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا}. ٥٠٨٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيؤدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ} قال: فلولا هذا الـحرف لـم يبح لأحد أن يدّان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن، فلـما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلـى الأمانة. ٥٠٨٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سلـيـمان التـيـمي، قال: سألت الـحسن قلت: كل من بـاع بـيعا ينبغي له أن يُشهد؟ قال: ألـم تر أن اللّه عزّ وجلّ يقول: {فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤتُـمِنَ أمانَتَهُ}. حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر فـي هذه الآية: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فَـاكْتُبُوهُ} حتـى بلغ هذا الـمكان: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ} قال: رخص فـي ذلك، فمن شاء أن يأتـمن صاحبه فلـيأتـمنه. ٥٠٩٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، عن الشعبـي فـي قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} قال: إن أشهدت فحزم، وإن لـم تشهد ففـي حلّ وسعة. ٥٠٩١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، قال: قلت للشعبـي: أرأيت الرجل يستدين من الرجل الشيء، أحتـم علـيه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلـى قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} قد نسخ ما كان قبله. ٥٠٩٢ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا مـحمد بن مروان العقـيـلـي، قال: حدثنا عبد الـملك بن أبـي نضرة، عن أبـي سعيد الـخدري، أنه قرأ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى} قال: فقرأ إلـى: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} قال: هذه نسخت ما قبلها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كاتِبٌ بـالعَدْلِ وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّـمَهُ اللّه }. يعنـي بذلك جل ثناؤه: {ولْـيَكْتُبْ} كتاب الدين إلـى أجل مسمى بـين الدائن والـمدين {كاتِبٌ بـالعَدْلِ} يعنـي بـالـحقّ والإنصاف فـي الكتاب الذي يكتبه بـينهما، بـما لا يحيف ذا الـحقّ حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة علـى من علـيه دينه فـيه ببـاطل، ولا يـلزمه ما لـيس علـيه. كما: ٥٠٩٣ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كاتِبٌ بـالعَدْلِ} قال: اتقـى اللّه كاتب فـي كتابه، فلا يدعنّ منه حقا، ولا يزيدنّ فـيه بـاطلاً. وأما قوله: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّـمَهُ اللّه } فإنه يعنـي: ولا يأبـينّ كاتب استكتب ذلك أن يكتب بـينهم كتاب الدين، كما علـمه اللّه كتابته فخصه بعلـم ذلك، وحرمه كثـيرا من خـلقه. وقد اختلف أهل العلـم فـي وجوب الكتاب علـى الكاتب إذا استكتب ذلك نظير اختلافهم فـي وجوب الكتاب علـى الذي له الـحقّ. ذكر من قال ذلك: ٥٠٩٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ} قال: واجب علـى الكاتب أن يكتب. ٥٠٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ} أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم. قال ابن جريج وقال مـجاهد: واجب علـى الكاتب أن يكتب. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّـمَهُ اللّه } بـمثله. ٥٠٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّـمَهُ اللّه } قالا: إذا لـم يجدوا كاتبـا فدعيت فلا تأب أن تكتب لهم. ذكر من قال هي منسوخة. قد ذكرنا جماعة مـمن قال: كل ما فـي هذه الآية من الأمر بـالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بـالآية التـي فـي آخرها، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض الـمعانـي: ٥٠٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {وَلاَ يَأْبَ كاتِبٌ} قال: كانت عزيـمة فنسختها: {وَلا يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}. ٥٠٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كَاتِبٌ بـالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّـمَهُ اللّه } فكان هذا واجبـا علـى الكتّاب. وقال آخرون: هو علـى الوجوب، ولكنه واجب علـى الكاتب فـي حال فراغه. ذكر من قال ذلك: ٥٠٩٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كاتِبٌ بـالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّـمَهُ اللّه } يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فـارغا. (والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أن اللّه عزّ وجلّ أمر الـمتداينـين إلـى أجل مسمى بـاكتتاب كتب الدين بـينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بـينهم بـالعدل، وأمر اللّه فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدلّ علـى أن أمره جل ثناؤه بـاكتتاب الكتب فـي ذلك، وأن تقدمه إلـى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك ندب وإرشاد، فذلك فرض علـيهم لا يسعهم تضيـيعه، ومن ضيعه منهم كانَ حَرِجا بتضيـيعه.) ولا وجه لاعتلال من اعتلّ بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ} لأن ذلك إنـما أذن اللّه تعالـى ذكره به، حيث لا سبـيـل إلـى الكتاب، أو إلـى الكاتب فأما والكتاب والكاتب موجودان، فـالفرض إذا كان الدّين إلـى أجل مسمى ما أمر اللّه تعالـى ذكره به فـي قوله: {فـاكْتُبُوهُ وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كَاتِبٌ بـالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلّـمَهُ اللّه }. وإنـما يكون الناسخ ما لـم يجز اجتـماع حكمه وحكم الـمنسوخ فـي حال واحدة علـى السبـيـل التـي قد بـيناها، فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الاَخر، فلـيس من الناسخ والـمنسوخ فـي شيء. ولو وجب أن يكون قوله: {وَإنْ كُنْتُـمْ علـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ} ناسخا قوله: {إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فـاكْتُبُوهُ وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كاتِبٌ بـالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كمَا عَلّـمَهُ اللّه }، لوجب أن يكون قوله: {وَإنْ كُنْتُـمْ مَرْضَى أوْ عَلـى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُـمُ النّسَاءَ فَلَـمْ تَـجِدُوا ماءًا فَتَـيَـمّـمُوا صَعِيدا طَيّبـا} ناسخا الوضوء بـالـماء فـي الـحضر عند وجود الـماء فـيه، وفـي السفر الذي فرضه اللّه عزّ وجلّ بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُـمْ إلـى الصّلاةِ فـاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلـى الـمَرَافِقِ} وأن يكون قوله فـي كفـارة الظهار: {فَمَنْ لَـمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ناسخا قوله: {فَتَـحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَـماسّا}. فـيسأل القائل إن قول اللّه عزّ وجلّ: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ} ناسخ قوله: {إذَا تَدَايَنْتُـمْ بِدَيْظنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فَـاكْتُبُوهُ} ما الفرق بـينه وبـين القائل فـي التـيـمـم وما ذكرنا قوله، فزعم أن كل ما أبـيح فـي حال الضرورة لعلة الضرورة ناسخ حكمه فـي حال الضرورة حكمه فـي كل أحواله، نظير قوله فـي أن الأمر بـاكتتاب كتْب الديون والـحقوق منسوخ بقوله: {وَإنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُؤَدّ الّذِي اؤْتُـمِنَ أمانَتَهُ}؟ فإن قال: الفرق بـينـي وبـينه أن قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} كلام منقطع عن قوله: {وَإنْ كُنْتُـمْ علـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقد انتهى الـحكم فـي السفر إذا عدم فـيه الكاتب بقوله: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ}. وإنـما عنى بقوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا} إذا تداينتـم بدين إلـى أجل مسمى، فأمن بعضكم بعضا، فلـيؤد الذي اؤتـمن أمانته. قـيـل له: وما البرهان علـى ذلك من أصل أو قـياس وقد انقضى الـحكم فـي الدين الذي فـيه إلـى الكاتب والكتاب سبـيـل بقوله: {وَيُعَلّـمُكُمُ اللّه وَاللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ}؟ وأما الذين زعموا أن قوله: {فَـاكْتُبُوهُ} وقوله: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} علـى وجه الندب والإرشاد، فإنهم يسألون البرهان علـى دعواهم فـي ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر اللّه عز وجلّ الذي أمر فـي كتابه، ويسألون الفرق بـين ما ادّعوا فـي ذلك وأنكروه فـي غيره، فلن يقولوا فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزموا بـالاَخر مثله. ذكر من قال العدل فـي قوله: {وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كاتِبٌ بـالعَدْلِ} الـحقّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلْـيَكْتُبْ وَلْـيُـمْلِلْ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ وَلْـيَتّقِ اللّه رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا}. يعنـي بذلك: فلـيكتب الكاتب، ولـيـملل الذي علـيه الـحقّ، وهو الغريـم الـمدين. يقول: لـيتولّ الـمدين إملال كتاب ما علـيه من دين ربّ الـمال علـى الكاتب، ولـيتّق اللّه ربه الـمـملـي الذي علـيه الـحقّ، فلـيحذر عقابه فـي بخس الذي له الـحقّ من حقه شيئا، أن ينقصه منه ظلـما، أو يذهب به منه تعديّا، فـيؤخذ به حيث لا يقدر علـى قضائه إلا من حسناته، أو أن يتـحمل من سيئاته. كما: ٥١٠٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {فَلْـيَكْتُبْ وَلْـيُـمْلِلِ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ} فكان هذا واجبـا، {وَلْـيَتّقِ اللّه رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا} يقول: لا يظلـم منه شيئا. ٥١٠١ـ حدثنـي ونس، قل: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيئا} قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئا إذا أملـى. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإن كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُـمِلّ هُوَ فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ}. يعنـي بقوله جل ثناؤه: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا} فإن كان الـمدين الذي علـيه الـمال سفـيها، يعنـي جاهلاً بـالصواب فـي الذي علـيه أن يـمله علـى الكاتب. كما: ٥١٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها} أما السفـيه: فـالـجاهل بـالإملاء والأمور. وقال آخرون: بل السفـيه فـي هذا الـموضع الذي عناه اللّه : الطفل الصغير. ذكر من قال ذلك: ٥١٠٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها} أما السفـيه: فهو الصغير. ٥١٠٤ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعْيفـا} قال: هو الصبـيّ الصغير، {فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ}. وأولـى التأويـلـين بـالآية، تأويـل من قال: السفـيه فـي هذا الـموضع: الـجاهل بـالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه، لـما قد بـينا قبل من أن معنى السفه فـي كلام العرب: الـجهل. وقد يدخـل فـي قوله: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها} كل جاهل بصواب ما يـملّ من خطئه من صغير وكبـير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولـى بظاهر الآية أن يكون مرادا بها كل جاهل بـموضع خطأ ما يـمل وصوابه من بـالغي الرجال الذين لا يولـى علـيهم، والنساء¹ لأنه أجل ذكره ابتدأ الآية بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَيّنْتُـمْ بِدَيْنٍ إلـى أجَلٍ مُسَمّى} والصبـيّ ومن يولـى علـيه لا يجوز مداينته، وأن اللّه عزّ وجلّ قد استثنى من الذين أمرهم بإملال كتاب الدين مع السفـيه الضعيف ومن لا يستطيع إملاله، ففـي فصله جل ثناؤه الضعيف من السفـيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب فـي الصفة التـي وصف بها كل واحد منهم ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين بـين اللّه صفـاتهم غير الصنفـين الاَخرين. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أن الـموصوف بـالسفه منهم دون الضعف هو ذو القوّة علـى الإملال، غير أنه وضع عنه فرض الإملال بجهله بـموضع صواب ذلك من خطئه، وأن الـموصوف بـالضعف منهم هو العاجر عن إملاله وإن كان شديدا رشيدا إما لعيّ لسانه أو خرس به، وأن الـموصوف بأنه لا يستطيع أن يـمل هو الـمـمنوع من إملاله، إما بـالـحبس الذي لا يقدر معه علـى حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فـيـمل علـيه، وإما لغيبته عن موضع الإملال فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب. فوضع اللّه عنهم فرض إملال ذلك للعلل التـي وصفنا إذا كانت بهم، وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمر عند سقوط فرض ذلك علـيهم ولـي الـحقّ بإملاله فقال: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُـمِلّ هُوَ فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ} يعنـي ولـيّ الـحقّ. ولا وجه لقول من زعم أن السفـيه فـي هذا الـموضع هو الصغير، وأن الضعيف هو الكبـير الأحمق¹ لأن ذلك إن كان كما قال يوجب أن يكون قوله: {أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُـمِلّ هُوَ} هو العاجز من الرجال العقلاء الـجائزي الأمر فـي أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، بطل معنى قوله: {فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ} لأن العاقل الرشيد لا يولّـى علـيه فـي ماله وإن كان أخرس أو غائبـا، ولا يجوز حكم أحد فـي ماله إلا بأمره. وفـي صحة معنى ذلك ما يقضي علـى فساد قول من زعم أن السفـيه فـي هذا الـموضع هو الطفل الصغير أو الكبـير الأحمق. ذكر من قال ذلك: ٥١٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا أوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُـمِلّ هُوَ فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ} يقول: ولـيّ الـحق. ٥١٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا أو لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُـمِلّ هُوَ فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ} قال: يقول: إن كان عجز عن ذلك أملّ صاحب الدين بـالعدل. ذكر الرواية عمن قال: عنى بـالضعيف فـي هذا الـموضع: الأحمق. وبقوله: {فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ} ولـيّ السفـيه والضعيف. ٥١٠٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُـمِلّ هُوَ} قال: أمر ولـيّ السفـيه أو الضعيف أن يـملّ بـالعدل. ٥١٠٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق. ٥١٠٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: أما الضعيف فـالأحمق. ٥١١٠ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {فإنْ كانَ الّذِي عَلَـيْهِ الـحَقّ سَفِـيها أوْ ضَعِيفـا} لا يعرف فـيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فولـيه بـمنزلته حتـى يضع لهذا حقه. وقد دللنا علـى أولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلكوأما قوله: {فَلْـيُـمْلِلْ وَلِـيّهُ بـالعَدْلِ} فإنه يعنـي بـالـحقّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: (واستشهدوا علـى حقوقكم شاهدين، يقال: فلان شهيدي علـى هذا الـمال وشاهدي علـيهوأما قوله: {مِنْ رِجالِكُمْ} فإنه يعنـي من أحراركم الـمسلـمين دون عبـيدكم، ودون أحراركم الكفـار.) كما: ٥١١١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَاسْتَشْهَدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ} قال: الأحرار. حدثنـي يونس، قال: أخبرنا علـي بن سعيد، عن هشيـم، عن داود بن أبـي هند، عن مـجاهد، مثله. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ لَـمْ يَكُونَا رَجُلَـيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِـمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ}. (يعنـي بذلك جل ثناؤه: فإن لـم يكونا رجلـين، فلـيكن رجل وامرأتان علـى الشهادة. ورفع الرجل والـمرأتان بـالرد علـى الكون، وإن شئت قلت: فإن لـم يكونا رجلـين فلـيشهد رجل وامرأتان علـى ذلك، وإن شئت فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان يشهدون علـيه¹ وإن قلت: فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان كان صوابـا كل ذلك جائز، ولو كان فرجل وامرأتان نصبـا كان جائزا علـى تأويـل: فإن لـم يكونا رجلـين، فـاستشهدوا رجلاً وامرأتـينوقوله: {مِـمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ} يعنـي من العدول الـمرتضى دينهم وصلاحهم.) كما: ٥١١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} يقول فـي الدين، {فَإنْ لَـمْ يَكُونَا رَجُلَـيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ} وذلك فـي الدين مـمن ترضون من الشهداء. يقول: عدول. ٥١١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أمر اللّه عز وجل أن يشهدوا ذوي عدل من رجالهم، {فإنْ لَـمْ يَكُونا رَجُلَـيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتانِ مِـمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءِ}. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى}. اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل الـحجاز والـمدينة وبعض أهل العراق: {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى} بفتـح الألف من (أن) ونصب (تضل) و(تذكّر)، بـمعنى: فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت. وهو عندهم من الـمقدّم الذي معناه التأخير¹ لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان تضل، لأن الـمعنى ما وصفنا فـي قولهم. و قالوا: إنـما نصبنا (تذكر)، لأن الـجزاء لـما تقدم اتصل بـما قبله فصار جوابه مردودا علـيه، كما تقول فـي الكلام: إنه لـيعجبنـي أن يسأل السائل فـيعطَى، بـمعنى أنه لـيعجبنـي أن يعطى السائل إن سأل أو إذا سأل، فـالذي يعجبك هو الإعطاء دون الـمسألة. ولكن قوله (أن يسأل) لـما تقدم اتصل بـما قبله، وهوقوله: (لـيعجبنـي) فتـح (أن) ونصب بها، ثم أتبع ذلك قوله: (يُعْطَى)، فنصبه بنصب قوله: (لـيعجبنـي أن يسأل)، نسقا علـيه، وإن كان فـي معنى الـجزاء. وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين الذال من (تُذْكِرَ) وتـخفـيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فـيـما بـينهم فـي تأويـل قراءتهم إياه كذلك. وكان بعضهم يوجهه إلـى أن معناه: فتصير إحداهما الأخرى ذكرا بـاجتـماعهما، بـمعنى أن شهادتها إذا اجتـمعت وشهادة صاحبتها جازت، كما تـجوز شهادة الواحد من الذكور فـي الدين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فـيـما جازت فـيه من الديون إلا بـاجتـماع اثنتـين علـى شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ منزلة شهادة واحد من الذكور. فكأن كل واحدة منهما فـي قول متأولـي ذلك بهذا الـمعنى صيرت صاحبتها معها ذكرا¹ وذهب إلـى قول العرب: لقد أذكرت بفلان أمّه، أي ولدته ذكرا، فهي تُذْكِرُ به، وهي امرأة مذكرة إذا كانت تلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفـيان بن عيـينة أنه كان يقوله. ٥١١٤ـ حدثت بذلك عن أبـي عبـيد القاسم بن سلام أنه قال: حُدثت عن سفـيان بن عيـينة أنه قال: لـيس تأويـل قوله: {فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى} من الذّكْرِ بعد النسيان إنـما هو من الذّكَر، بـمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر. وكان آخرون منهم يوجهونه إلـى أنه بـمعنى الذكر بعد النسيان. وقرأ ذلك آخرون: (إنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتذَكّرُ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى) بكسر (إن) من قوله: (إنْ تَضِلّ) ورفع (تُذَكّرُ) وتشديده. كأنه بـمعنى ابتداء الـخبر عما تفعل الـمرأتان، إن نسيت إحداهما شهادتهما تذكرها الأخرى من تثبـيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك، وانقطاع ذلك عما قبله. ومعنى الكلام عند قارىء ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لـم يكونا رجلـين فرجل وامرأتان مـمن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى¹ علـى استئناف الـخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه. وإنـما نصب الأعمش (تضلّ) لأنها فـي مـحل جزم بحرف الـجزاء، وهو (إنْ). وتأويـل الكلام علـى قراءته: إن تَضْلِلْ، فلـما اندغمت إحدى اللامين فـي الأخرى حركها إلـى أخفّ الـحركات ورفع تذكر بـالفـاء، لأنه جواب الـجزاء. والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك قراءة من قرأه بفتـح (أن) من قوله: {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا} وبتشديد الكاف من قوله: {فَتُذَكّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ونصب الراء منه، بـمعنى: فإن لـم يكونا رجلـين فلـيشهد رجل وامرأتان كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرىوأما نصب (فتذكر) فبـالعطف علـى (تضلّ)، وفتـحت (أن) بحلولها مـحل (كي)، وهي فـي موضع جزاء، والـجواب بعده اكتفـاءً بفتـحها، أعنـي بفتـح (أن) من (كي) ونسق الثانـي، أعنـي (فتذكر) علـى (تضلّ)، لـيعلـم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فـيه وهو ظاهر قد دلّ علـيه وأدّى عن معناه وعمله، أي عن (كي). وإنـما اخترنا ذلك فـي القراءة لإجماع الـحجة من قدماء القراء والـمتأخرين علـى ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته فـي ذلك بـما انفرد به عنهم، ولا يجوز ترك قراءة جاء بها الـمسلـمون مستفـيضة بـينهم إلـى غيرهاوأما اختـيارنا (فتذكّر) بتشديد الكاف، فإنه بـمعنى تأدية الذكر من إحداهما علـى الأخرى وتعريفها بإنهاء ذلك لتذكر، فـالتشديد به أولـى من التـخفـيف. وأما ما حكي عن ابن عيـينة من التأويـل الذي ذكرناه، فتأويـل خطأ لا معنى له لوجوه شتـى: أحدها: أنه خلاف لقول جميع أهل التأويـل. والثانـي: أنه معلوم بأن ضلال إحدى الـمرأتـين فـي الشهادة التـي شهدت علـيها إنـما هو خطوها عنها بنسيانها إياها كضلال الرجل فـي دينه إذا تـحير فـيه، فعدل عن الـحقّ، وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرا معها مع نسيانها شهادتها وضلالها فـيها؟ فـالضالة منهما فـي شهادتها حينئذ لا شك أنها إلـى التذكير أحوج منها إلـى الإذكار، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها ستـجرئها علـى ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، فقوّتها بـالذكر حتـى صيرتها كالرجل فـي قوّتها فـي ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، كما يقال للشيء القويّ فـي عمله: ذكر، وكما يقال للسيف الـماضي فـي ضربه: سيف ذكر، ورجل ذكر، يراد به ماض فـي عمله، قويّ البطش، صحيح العزم. فإن كان ابن عيـينة هذا أراد، فهو مذهب من مذاهب تأويـل ذلك؟ إلا أنه إذا تأوّل ذلك كذلك، صار تأويـله إلـى نـحو تأويـلنا الذي تأوّلناه فـيه، وإن خالفت القراءة بذلك الـمعنى القراءة التـي اخترناها بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بـالذي اختار قراءته من تـخفـيف الكاف من قوله: فتذكر، ولا نعلـم أحدا تأوّل ذلك كذلك، ويستـحبّ قراءته كذلك بذلك الـمعنى. فـالصواب فـي قوله إذ كان الأمر عاما علـى ما وصفنا ما اخترنا.) ذكر من تأوّل قوله: {أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُما الأُخْرَى} نـحو تأويـلنا الذي قلنا فـيه: ٥١١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَـإِنْ لَـمْ يَكُونَا رَجُلَـيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ مِـمّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشّهَدَاءِ أنْ تَضِلّ إحداهما فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} علـم اللّه أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا بثقة اللّه ، فإنه أطوع لربكم، وأدرك لأموالكم. ولعمري لئن كان تقـيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا، وإن كان فـاجرا فبـالـحَري أن يؤدي إذا علـم أن علـيه شهودا. ٥١١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} يقول: أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى. ٥١١٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {أنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا} يقول: تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى. ٥١١٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُما} يقول: إن تنس إحداهما، تذكرها الأخرى. ٥١١٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أنْ تَضِلّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إحْدَاهُما الأُخْرَى} قال: كلاهما لغة وهما سواء، ونـحن نقرأ: {فَتُذَكّرَ}. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا}. اختلف أهل التأويـل فـي الـحال التـي نهى اللّه الشهداء عن إبـاء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية، فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا إذا دعوا لـيشهدوا علـى الكتاب والـحقوق. ذكر من قال ذلك: ٥١٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالـى: {وَلاَ يَأْبَ الشهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} كان الرجل يطوف فـي الـحِوَاء العظيـم فـيه القوم، فـيدعوهم إلـى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية: {ولا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذا ما دعُوا} لـيشهدوا لرجل علـى رجل. ٥١٢١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: كان الرجل يطوف فـي القوم الكثـير يدعوهم لـيشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. ٥١٢٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دعيت إلـى شهادة. وقال آخرون بـمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرض ذلك علـى من دعي للإشهاد علـى الـحقوق إذا لـم يوجد غيره، فأما إذا وجد غيره فهو فـي الإجابة إلـى ذلك مخير إن شاء أجاب وإن شاء لـم يجب. ذكر من قال ذلك: ٥١٢٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن جابر، عن الشعبـي، قال: {لاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} قال: إن شاء شهد، وإن شاء لـم يشهد، فإذا لـم يوجد غيره شهد. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للشهادة علـى من أراد الداعي إشهاده علـيه، والقـيام بـما عنده من الشهادة من الإجابة. ذكر من قال ذلك: ٥١٢٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عامر، عن الـحسن: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} قال: قال الـحسن: الإقامة والشهادة. ٥١٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} قال: كان الـحسن يقول: جمعت أمرين لا تأب إذا كانت عندك: شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيت إلـى شهادة. ٥١٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} يعنـي من احتـيج إلـيه من الـمسلـمين شهد علـى شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دعي. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: لإقامتها، ولا يبذأ بها إذا دعاه لـيشهده، وإذا دعاه لـيقـيـمها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا للقـيام بـالشهادة التـي عندهم للداعي من إجابته إلـى القـيام بها. ذكر من قال ذلك: ٥١٢٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: إذا شهد. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} يقول: إذا كانوا قد أشهدوا. حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: إذا كانت عندك شهادة فدعيت. ٥١٢٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دَعُوا} قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دعيت لتشهد، فإن شئت فـاذهب، وإن شئت فلا تذهب. ٥١٢٩ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا عبد الـملك بن الصبـاح، عن عمران بن حدير، قال: قلت لأبـي مـجلز: ناس يدعوننـي لأشهد بـينهم، وأنا أكره أن أشهد بـينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدت فأجب إذا دعيت. ٥١٣٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن عامر، قال: الشاهد بـالـخيار ما لـم يشهد. ٥١٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن عكرمة فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: لإقامة الشهادة. ٥١٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن أبـي عامر، عن عطاء قال: فـي إقامة الشهادة. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا أبو عامر الـمزنـي، قال: سمعت عطاء يقول: ذلك فـي إقامة الشهادة، يعنـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا}. ٥١٣٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو حرّة، أخبرنا عن الـحسن أنه سأله سائل قال: أدعى إلـى الشهادة وأنا أكره أن أشهد علـيها؟ قال: فلا تـجب إن شئت. ٥١٣٤ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، قال: سألت إبراهيـم قلت: أدعى إلـى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئت. ٥١٣٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عامر، عن عطاء، قال: للإقامة. ٥١٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن شريك، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: إذا كانوا قد شهدوا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شريك، عن سالـم، عن سعيد: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: هو الذي عنده الشهادة. ٥١٣٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدم فـيشهد إذا كان فـارغا. ٥١٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: {وَلاَ يأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا}؟ قال: هم الذين قد شهدوا قال: ولا يضرّ إنسانا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دعي أن يكتب وجب علـيه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لـم يجب علـيه أن يشهد إن شاء؟ قال: كذلك يجب علـى الكاتب أن يكتب، ولا يجب علـى الشاهد أن يشهد إن شاء¹ الشهداء كثـير. ٥١٣٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: إذا شهد فلا يأب إذا دعي أن يأتـي يؤدي شهادة ويقـيـمها. ٥١٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ} قال: كان الـحسن يتأوّلها إذا كانت عنده شهادة دعي لـيقـيـمها. ٥١٤١ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهد لرجل فشهد، والكاتب الذي يكتب الكتاب¹ دُعوا إلـى مقطع الـحقّ، فعلـيهم أن يجيبوا، وأن يشهدوا بـما أشهدوا علـيه. وقال آخرون: هو أمر من اللّه عزّ وجلّ والـمرأة بـالإجابة إذا دعي لـيشهد علـى ما لـم يشهد علـيه من الـحقوق ابتداء لا إقامة الشهادة، ولكنه أمر ندب لا فرض. ذكر من قال ذلك: ٥١٤٢ـ حدثنـي أبو العالـية العبدي إسماعيـل بن الهيثم، قال: حدثنا أبو قتـيبة، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية العوفـي فـي قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فـاشهد، وإن شئت فلا تشهد. ٥١٤٣ـ حدثنـي أبو العالـية، قال: حدثنا أبو قتـيبة، عن مـحمد بن ثابت العصري، عن عطاء، بـمثله. (وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذ من الذي علـيه ما علـيه للذي هو له. وإنـما قلنا هذا القول بـالصواب أولـى فـي ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن اللّه عزّ وجلّ قال: {وَلا يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} فإنـما أمرهم بـالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم الشهداء، وغير جائز أن يـلزمهم اسم الشهداء إلا وقد استشهدوا قبل ذلك، فشهدوا علـى ما ألزمهم شهادتهم علـيه اسم الشهداء، فأما قبل أن يستشهدوا علـى شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء، لأن ذلك الاسم لو كان يـلزمهم ولـما يستشهدوا علـى شيء يستوجبون بشهادتهم علـيه هذا الاسم لـم يكن علـى الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستـحقّ أن يقال له شاهد، بـمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلـح لأن يشهد وإن كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد قام بشهادته، فلزمه لذلك هذا الاسم¹ كان معلوما أن الـمعنـيّ بقوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} من وصفنا صفته مـمن قد استرعى شهادة أو شهد، فدعي إلـى القـيام بها، لأن الذي لـم يستشهد ولـم يسترع شهادة قبل الإشهاد غير مستـحقّ اسم شهيد ولا شاهد، لـما قد وصفنا قبل. مع أن فـي دخول الألف واللام فـي (الشهداء) دلالة واضحة علـى أن الـمسمى بـالنهي عن ترك الإجابة للشهادة أشخاص معلومون قد عرفوا بـالشهادة، وأنهم الذين أمر اللّه عزّ وجل أهل الـحقوق بـاستشهادهم بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَـإِنْ لَـمْ يَكُونا رَجُلَـيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأْتَانِ مِـمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشّهَدَاءُ}. وإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أنهم إنـما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استشهدوا فشهدوا¹ ولو كان ذلك أمرا لـمن أعرض من الناس فدعي إلـى الشهادة يشهد علـيها لقـيـل: ولا يأب شاهد إذا ما دعي. غير أن الأمر وءن كان كذلك، فإن الذي نقول به فـي الذي يدعى لشهادة لـيشهد علـيها إذا كان بـموضع لـيس به سواه مـمن يصلـح للشهادة، فإن الفرض علـيه إجابة داعيه إلـيها كما فرض علـى الكاتب إذا استكتب بـموضع لا كاتب به سواه، ففرض علـيه أن يكتب، كما فرض علـى من كان بـموضع لا أحد به سواه يعرف الإيـمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهل بـالإيـمان وبفرائض اللّه فسأله تعلـيـمه، وبـيان ذلك له أن يعلـمه ويبـينه له. ولـم نوجب ما أوجبنا علـى الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداء لـيشهد علـى ما أشهد علـيه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وقد فرضنا علـى الرجل إحياء ما قدر علـى إحيائه من حقّ أخيه الـمسلـم. والشهداء: جمع شهيد.) القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِـيرا إلـى أجَلِهِ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا أيها الذين تداينون الناس إلـى أجل أن تكتبوا صغير الـحقّ، يعنـي قلـيـله أو كبـيره ـ يعنـي أو كثـيره ـ {إلـى أَجَلِهِ}، إلـى أجل الـحقّ، فإن الكتاب أحصى للأجل والـمال. ٥١٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شريك عن لـيث، عن مـجاهد: {وَلاَ تَسأمُوا أنْ تَكُتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِـيرا إلـى أجَلِهِ} قال: هو الدين. ومعنى قوله: {وَلا تَسأمُوا} لا تـملوا، يقال منه: سئمت فأنا أسأم سآمة وسأمةً، ومنه قول لبـيد: ولقد سَئِمْتُ من الـحياة وطُولِهَاوسؤالِ هذا الناس: كيف لَبـيدُ ومنه قول زهير: سَئِمْتُ تَكالـيفَ الـحياةِ ومن يَعِشْثمانـينَ حَوْلاً لا أبـا لَكَ يَسْأمِ يعنـي مللت. وقال بعض نـحويـي البصريـين: تأويـل قوله: {إلـى أجَلِهِ} إلـى أجل الشاهد، ومعناه: إلـى الأجل الذي تـجوز شهادته فـيه. وقد بـينا القول فـيه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّه }. يعنـي جل ثناؤه بقوله: ذلكم اكتتاب كتاب الدّين إلـى أجله، ويعنـي بقوله أقسط: أعدل عند اللّه ، يقال منه: أقسط الـحاكم فهو يقسط إقساطا وهو مقسط، إذا عدل فـي حكمه، وأصاب الـحقّ فـيه، فإذا جار قـيـل: قسط فهو يَقْسِط قُسُوطا، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: {وأمّا القاسِطُونَ فكانُوا لـجَهَنّـمَ حَطَبـا} يعنـي الـجائرون.) وبـمثل ما قلنا فـي ذلك قال جماعة أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥١٤٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {ذَلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللّه } يقول: أعدل عند اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأقْوَمُ للشّهادَةِ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وأصوب للشهادة. وأصله من قول القائل: أقمته من عَوَجه، إذا سويته فـاستوى. وإنـما كان الكتاب أعدل عند اللّه وأصوب لشهادة الشهود علـى ما فـيه، لأنه يحوي الألفـاظ التـي أقرّ بها البـائع والـمشتري وربّ الدين والـمستدين علـى نفسه، فلا يقع بـين الشهود اختلاف فـي ألفـاظهم بشهادتهم لاجتـماع شهادتهم علـى ما حواه الكتاب، وإذا اجتـمعت شهادتهم علـى ذلك، كان فصل الـحكم بـينهم أبـين لـمن احتكم إلـيه من الـحكام، مع غير ذلك من الأسبـاب، وهو أعدل عند اللّه ، لأنه قد أمر به، واتبـاع أمر اللّه لا شك أنه عند اللّه أقسط وأعدل من تركه والانـحراف عنه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأدْنَى أنْ لا تَرْتَابُوا}. يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وأدْنَى} وأقرب، من الدنوّ: وهو القرب. ويعنـي بقوله: {أنْ لا تَرْتَابُوا} من أن لا تشكوا فـي الشهادة.) كما: ٥١٤٦ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَرتَابُوا} يقول: أن لا تشكوا فـي الشهادة. وهو تفتعل من الرّيبة. ومعنى الكلام: (ولا تـملوا أيها القوم أن تكتبوا الـحقّ الذي لكم قِبَل من داينتـموه من الناس إلـى أجل صغيرا كان ذلك الـحقّ، قلـيلاً أو كثـيرا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند اللّه وأصوب لشهادة شهودكم علـيه، وأقرب لكم أن لا تشكوا فـيـما شهد به شهودكم علـيكم من الـحقّ والأجل إذا كان مكتوبـا.) ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَها بَـيْنَكُمْ فَلَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ لا تَكْتُبُوها}. ثم استثنى جل ذكره مـما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم علـى غرمائهم بـالـحقوب التـي لهم علـيهم، ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مبـايعة بـالنقود الـحاضرة يدا بـيد، فرخص لهم فـي ترك اكتتاب الكتب بذلك¹ لأن كل واحد منهم، أعنـي من البـاعة والـمشترين، يقبض ـ إذا كان الواجب بـينهم فـيـما يتبـايعونه نقدا ـ ما وجب له قِبَل مبـايعيه قبل الـمفـارقة، فلا حاجة لهم فـي ذلك إلـى اكتتاب أحد الفريقـين علـى الفريق الاَخر كتابـا بـما وجب لهم قِبَلهم وقد تقابضوا الواجب لهم علـيهم، فلذلك قال تعالـى ذكره: {إِلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرونَها بَـيْنَكُمْ} لا أجل فـيها ولا تأخير ولا نساء، {فَلـيسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبوهَا} يقول: فلا حرج علـيكم أن لا تكتبوها، يعنـي التـجارة الـحاضرة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥١٤٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {إِلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةً حَاضِرَةً تَدِيرُونَها بَـيْنَكُمْ} يقول: معكم بـالبلد ترونها فتؤخذ وتعطى، فلـيس علـى هؤلاء جناح أن لا يكتبوها. ٥١٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {وَلا تَسَأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أوْ كَبِـيرا إلـى أجَلِهِ} إلـى قوله: {فَلَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوهَا} قال: أمر اللّه أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبـيرا إلـى أجله، وأمر ما كان يدا بـيد أن يشهد علـيه صغيرا كان أو كبـيرا ورخص لهم أن لا يكتبوه. واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والعراق وعامة القرّاء: (إِلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةٌ حاضِرَةٌ) بـالرفع، وانفرد بعض قرّاء الكوفـيـين فقرأه بـالنصب. وذلك وإن كان جائزا فـي العربـية، إذ كانت العرب تنصب النكرات والـمنعوتات مع (كان)، وتضمر معها فـي (كان) مـجهولاً، فتقول: إن كان طعاما طيبـا فأتنا به، وترفعها فتقول: إن كان طعام طيب فأتنا به، فتتبع النكرة خبرها بـمثل إعرابها. فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستـجيز القراءة بغيره، الرفع فـي (التـجارة الـحاضرة)، لإجماع القرّاء علـى ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبـا عنهم، ولا يعترض بـالشاذ علـى الـحجة. ومـما جاء نصبـا قول الشاعر: أعَيْنَـيّ هَلْ تَبْكِيانِ عِفـاقَاإذَا كَانَ طَعْنا بـينَهُمْ وَعِناقَا وقول الاَخر: ولِلّهِ قَوْمِي أيّ قَوْمٍ لِـحُرّةٍإذَا كَانَ يوما ذا كَواكبَ أشْنَعا وإنـما تفعل العرب ذلك فـي النكرات لـما وصفنا من إتبـاع أخبـار النكرات أسماءها، وكان من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما تذكروا إتبـاع النكرة خبرها، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة (كان) لـمنصوب ومرفوع، ووجدوا النكرة يتبعها خبرها، وأضمروا فـي كان مـجهولاً لاحتـمالها الضمير. وقد ظنّ بعض الناس أن من قرأ ذلك: {إِلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةً حاضِرَةً} إنـما قرأه علـى معنى: إلا أن يكون تـجارة حاضرة، فزعم أنه كان يـلزم قارىء ذلك أن يقرأ (يكون) بـالـياء، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يـلزمه. وذلك أن العرب إذا جعلوا مع كان نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها، أنثوا (كان) مرّة وذكّروها أخرى، فقالوا: إن كانت جارية صغيرة فـاشتروها، وإن كان جارية صغيرة فـاشتروها، تذكر (كان) وإن نصبت النكرة الـمنعوتة أو رفعت أحيانا وتؤنث أحيانا. وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن قوله: (إلاّ أن تَكُونَ تِـجَارَةٌ حاضِرَةٌ) مرفوعة فـيه التـجارة الـحاضرة لأن يكون بـمعنى التـمام، ولا حاجة بها إلـى الـخبر، بـمعنى: إلا أن توجد أو تقع أو تـحدث، فألزم نفسه ما لـم يكن لها لازما، لأنه إنـما ألزم نفسه ذلك إذا لـم يكن يجد لكان منصوبـا، ووجد التـجارة الـحاضرة مرفوعة، وأغفل جواز قوله: {تُدِيرُونَها بَـيْنَكُمْ} أن يكون خبرا لكان، فـيستغنـي بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم. والذي قال من حكينا قوله من البصريـين غير خطأ فـي العربـية، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفـي الـمعنى أصحّ، وهو أن يكون فـي قوله: {تُدِيرُونَهَا بَـيْنَكُمْ} وجهان: أحدهما أنه فـي موضع نصب علـى أنه حلّ مـحل خبر (كان)، والتـجارة الـحاضرة اسمها. والاَخر: أنه فـي موضع رفع علـى إتبـاع التـجارة الـحاضرة، لأن خبر النكرة يتبعها، فـيكون تأويـله: إلا أن تكون تـجارة حاضرة دائرة بـينكم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأشْهِدُوا إذَا تَبـايَعْتُـمْ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: (وأشهدوا علـى صغير ما تبـايعتـم وكبـيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسائه، فإن إرخاصي لكم فـي ترك اكتتاب الكتب بـينكم فـيـما كان من حقوق تـجري بـينكم لبعضكم من قبل بعض عن تـجارة حاضرة دائرة بـينكم يدا بـيدٍ ونقدا لـيس بإرخاص منـي لكم فـي ترك الإشهاد منكم علـى من بعتـموه شيئا أو ابتعتـم منه، لأن فـي ترككم الإشهاد علـى ذلك خوف الـمضرّة علـى كل من الفريقـين. أما علـى الـمشتري فأن يجحد البـائع الـمبـيع، وله بـينة علـى ملكه ما قد بـاع، ولا بـينة للـمشتري منه علـى الشراء منه فـيكون القول حينئذٍ قول البـائع مع يـمينه ويقضي له به، فـيذهب مال الـمشتري بـاطلاًوأما علـى البـائع فأن يجحد الـمشتري الشراء، وقد زال ملك البـائع عما بـاع، ووجب له قبل الـمبتاع ثمن ما بـاع، فـيحلف علـى ذلك فـيبطل حقّ البـائع قِبَل الـمشتري من ثمن ما بـاعه. فأمر اللّه عزّ وجلّ الفريقـين بـالإشهاد، لئلا يضيع حقّ أحد الفريقـين قِبَل الفريق الاَخر.) ثم اختلفوا فـي معنى قوله: {وأشْهِدُوا إذَا تَبَـايَعْتُـمْ} أهو أمر من اللّه واجب بـالإشهاد عند الـمبـايعة، أم هو ندب؟ فقال بعضهم: هو ندب إن شاء أشهد، وإن شاء لـم يشهد. ذكر من قال ذلك: ٥١٤٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن الربـيع، عن الـحسن وشقـيق، عن رجل، عن الشعبـي فـي قوله: {وأشْهِدُوا إِذَا تَبَـايَعْتُـمْ} قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لـم يشهد، ألـم تسمع إلـى قوله: {فإنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ}؟ ٥١٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا الربـيع بن صبـيح، قال: قلت للـحسن: أرأيت قول اللّه عز وجل: {وأشْهِدُوا إِذَا تَبَـايَعْتُـمْ}؟ قال: إن أشهدت علـيه فهو ثقة للذي لك، وإن لـم تشهد علـيه فلا بأس. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الربـيع بن صبـيح، قال: قلت للـحسن: يا أبـا سعيد قول اللّه عز وجل: {وأشْهِدُوا إِذَا تَبَـايَعْتُـمْ} أبـيع الرجلَ وأنا أعلـم أنه لا ينقد فـي شهرين ولا ثلاثة، أترى بأسا ألاّ أشهد علـيه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لـم تشهد فلا بأس. ٥١٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبـي: {وأشْهِدُوا إذَا تَبَـايَعْتُـمْ} قال: إن شاءوا أشهدوا، وإن شاءوا لـم يشهدوا. وقال آخرون: الإشهاد علـى ذلك واجب. ذكر من قال ذلك: ٥١٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {إِلاّ أنْ تَكُونَ تِـجَارَةً حَاضِرَةٍ تُدِيرُونَهَا بَـيْنَكُمْ فَلَـيْسَ عَلَـيْكُم جُناحٌ أنْ لا تَكْتُبُوهَا} ولكن أشهدوا علـيها إذا تبـايعتـم أمَرَ اللّه ما كان يدا بـيد، أن يشهدوا علـيه صغيرا كان أو كبـيرا. ٥١٥٣ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: ما كان من بـيع حاضر، فإن شاء أشهد، وإن شاء لـم يشهد. وما كان من بـيع إلـى أجل، فأمر اللّه أن يكتب ويشهد علـيه، وذلك فـي الـمقام. وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، أن الإشهاد علـى كل مبـيع ومشترى حق واجب وفرض لازم، لـما قد بـينا من أن كل أمر لله ففرض، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسلـيـم له بأنه ندب وإرشاد. وقد دللنا علـى وَهْي قول من قال ذلك منسوخ بقوله: {فَلْـيُوءَدّ الّذِي أوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ} فـيـما مضى فأغنى عن إعادته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}. اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: ذلك نهي من اللّه لكاتب الكتاب بـين أهل الـحقوق والشهيد أن يضار أهله، فـيكتب هذا ما لـم يـملله الـمـملـي، ويشهد هذا بـما لـم يستشهده الشهيد. ذكر من قال ذلك: ٥١٥٤ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه فـي قوله: {وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} ولا يضار كاتب فـيكتب ما لـم يـمل علـيه، ولا شهيد فـيشهد بـما لـم يُستشهد. ٥١٥٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، قال: كان الـحسن يقول: لا يضار كاتب فـيريد شيئا أو يحرّف، ولا شهيد، قال: لا يكتـم الشهادة. ولا يشهد إلا بحق. ٥١٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن قتادة، قال: اتَقـى اللّه شاهد فـي شهادته لا ينقص منها حقا ولا يزيد فـيها بـاطلاً. اتقـى اللّه كاتب فـي كتابه، فلا يدعنّ منه حقا ولا يزيدنّ فـيه بـاطلاً. ٥١٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قال: لا يضار كاتب فـيكتب ما لـم يـملل، ولا شهيد فـيشهد بـما لـم يستشهد. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن قتادة نـحوه. ٥١٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قال: لا يضار كاتب فـيكتب غير الذي أملـي علـيه، قال: والكتاب يومئذٍ قلـيـل، ولا يدرون أي شيء يكتب، فـيضار، فـيكتب غير الذي أملـي علـيه، فـيبطل حقهم قال: والشهيد: يضار فـيحول شهادته، فـيبطل حقهم. فأصل الكلـمة علـى تأويـل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِر كاتب ولا شهيد، ثم أدغمت الراء فـي الراء لأنهما من جنس وحركت إلـى الفتـح وموضعها جزم، لأن الفتـح أخفّ الـحركات. وقال آخرون مـمن تأول هذه الكلـمة هذا التأويـل: معنى ذلك: ولا يضارّ كاتب ولا شهيد بـالامتناع عمن دعاهما إلـى أداء ما عندهما من العلـم أو الشهادة. ذكر من قال ذلك: ٥١٥٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يقول: أن يؤدّيا ما قِبَلهما. ٥١٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: {وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قال: (لا يضارّ) أن يؤدّيا ما عندهما من العلـم. ٥١٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: {لاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قال: أن يدعوهما فـيقولان: إنّ لنا حاجة. ٥١٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قالا: واجب علـى الكاتب أن يكتب، {ولا شَهِيدٌ}، قالا: إذا كان قد شهدا قِبَله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يضارّ الـمستكتب والـمستشهد الكاتب والشهيد. وتأويـل الكلـمة علـى مذهبهم: ولا يضارَر علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله. ذكر من قال ذلك: ٥١٦٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان عمر يقرأ: (ولا يضارَرْ كاتب ولا شهيد). ٥١٦٤ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك ، قال: كان ابن مسعود يقرأ: (ولا يُضارَرْ). ٥١٦٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير عن مـجاهد، أنه كان يقرأ: (ولا يضارر كاتب ولا شهيد)، وأنه كان يقول فـي تأويـلها: ينطلق الذي له الـحقّ فـيدعو كاتبه وشاهده إلـى أن يشهد، ولعله أن يكون فـي شغل أو حاجة لـيؤثمه إن ترك ذلك حينئذٍ لشغله وحاجته وقال مـجاهد: لا يقم عن شغله وحاجته، فـيجد فـي نفسه أو يحرج. ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} والضرار: أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنـيّ: إن اللّه قد أمرك أن لا تأتـي إذا دعيت، فـيضاره بذلك وهو مكتف بغيره. فنهاه اللّه عزّ وجلّ عن ذلك، وقال: {وإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}. ٥١٦٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجة لـيس منها بدّ، فـ يقول: خـلوا سبـيـله. ٥١٦٧ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، عن عكرمة فـي قوله: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قال: يكون به العلة، أو يكون مشغولاً. يقول: فلا يضارّه. ٥١٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أنه كان يقول: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} يقول: لا يأت الرجل فـ يقول: انطلق فـاكتب لـي واشهد لـي، فـ يقول: إن لـي حاجة فـالتـمس غيري، فـ يقول: اتق اللّه فإنك قد أمرت أن تكتب لـي. فهذه الـمضارة¹ و يقول: دعه والتـمس غيره، والشاهد بتلك الـمنزلة. ٥١٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يقول: يدعو الرجل الكاتب أو الشهيد، فـيقول الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فـيقول الذي يدعوهما: إن اللّه عزّ وجلّ أمركما أن تـجيبـا فـي الكتابة والشهادة! يقول اللّه عزّ وجلّ لا يضارّهما. حدثت عن الـحسن، قال: سمعت أبـا معاذ قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهد وهما علـى حاجة مهمة، فـيقولان: إنا علـى حاجة مهمة، فـاطلب غيرنا! فـ يقول: اللّه أمركما أن تـجيبـا، فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارّهما، يعنـي لا يشغلهما عن حاجتهما الـمهمة وهو يجد غيرهما. ٥١٧٠ـ حدثنـي موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {وَلاَ يُضارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يقول: لـيس ينبغي أن تعترض رجلاً له حاجة فتضارّه فتقول له: اكتب لـي! فلا تتركه حتـى يكتب لك وتفوته حاجته. ولا شاهدا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فـاشهد لـي تـحبسه عن حاجته، وأنت تـجد غيره. ٥١٧١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قال: لـما نزلت هذه الآية: {وَلا يأْبَ كَاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّـمَهُ اللّه } كان أحدهم يجيء إلـى الكاتب فـ يقول: اكتب لـي! فـ يقول: إنـي مشغول أو لـي حاجة، فـانطلق إلـى غيري! فـيـلزمه و يقول: إنك قد أمرت أن تكتب لـي. فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتـي الرجل فـ يقول: انطلق معي! فـ يقول: اذهب إلـى غيري فإنـي مشغول أو لـي حاجة، فـيـلزمه و يقول: قد أمرت أن تتبعنـي. فـيضارّه بذلك، وهو يجد غيره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}. ٥١٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه: {وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} يقول: إن لـي حاجة فدعنـي! فـ يقول: اكتب لـي. (ولا شَهِيدٌ) كذلك. (وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا يضارّ كاتب ولا شهيد، بـمعنى: ولا يضارّهما من استكتب هذا أو استشهد هذا بأن يأبى علـى هذا إلا أن يكتب له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى علـى هذا إلا أن يجيب إلـى الشهادة وهو غير فـارغ، علـى ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل. وإنـما قلنا هذا القول أولـى بـالصواب من غيره، لأن الـخطاب من اللّه عزّ وجلّ فـي هذه الآية من مبتدئها إلـى انقضائها علـى وجه افعلوا أو لا تفعلوا، إنـما هو خطاب لأهل الـحقوق والـمكتوب بـينهم الكتاب والـمشهود لهم أو علـيهم بـالذي تداينوه بـينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فـيها لغيرهم، فإنـما هو علـى وجه الأمر والنهي للغائب غير الـمخاطب كقوله: {وَلْـيَكْتُبْ بَـيْنَكُمْ كَاتِبٌ} وكقوله: {وَلاَ يَأْبَ الشّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وما أشبه ذلك، فـالواجب إذا كان الـمأمورون فـيها مخاطبـين بقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أشبه منه بأن يكون مردودا علـى الكاتب والشهيد، ومع ذلك إن الكاتب والشهيد لو كانا هما الـمنهيـين عن الضرار لقـيـل: وإن يفعلا فإنه فسوق بهما، لأنهما اثنان، وإنـما غير مخاطبـيـين بقوله: {وَلاَ يُضَارّ} بل النهي بقوله: {وَلاَ يُضَارّ} نهي للغائب غير الـمخاطب. فتوجيه الكلام إلـى ما كان نظيرا لـما فِـي سياق الآية، أولـى من توجيهه إلـى ما كان منعدلاً عنه.) القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهد وما نهيتـم عنه من ذلك، فإنه فسوق بكم، يعنـي إثم بكم ومعصية. واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم بنـحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك: ٥١٧٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {وإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم. ٥١٧٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {وِإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} الفسوق: الـمعصية. ٥١٧٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} الفسوق: العصيان. وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضار كاتب فـيكتب غير الذي أملـى الـمـملـي، ويضارّ شهيد فـيحوّل شهادته ويغيرها، فإنه فسوق بكم، يعنـي فإنه كذب. ذكر من قال ذلك: ٥١٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَـإِنّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} الفسوق: الكذب قال: هذا فسوق لأنه كذب الكاتب فحوّل كتابه فكذب، وكذب الشاهد فحوّل شهادته، فأخبرهم اللّه أنه كذب. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن الـمعنـيّ بقوله: {وَلاَ يُضَارّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} إنـما معناه: لا يضارّهما الـمستكتب والـمستشهد، بـما فـيه الكفـاية. فقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} إنـما هو إخبـار من يضارّهما بحكمه فـيهما، وأن من يضارّهما فقد عصى ربه وأثم به، وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه فـي ذلك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّقُوا اللّه وَيُعَلّـمُكُمُ اللّه وَاللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ}. (يعنـي بقوله جل ثناؤه: {وَاتّقُوا اللّه } وخافوا اللّه أيها الـمتداينون فـي الكتاب والشهود أن تضاروهم، وفـي غير ذلك من حدود اللّه أن تضيعوه. ويعنـي بقوله: {وَيُعَلّـمُكُمْ اللّه } ويبـين لكم الواجب لكم وعلـيكم، فـاعملوا به. {وَاللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ} يعنـي من أعمالكم وغيرها، يحصيها علـيكم لـيجازيكم بها.) وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥١٧٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: {وَيُعَلّـمُكُمُ اللّه } قال: هذا تعلـيـم علـمكموه فخذوا به. ٢٨٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَىَ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ...} اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته القراء فـي الأمصار جميعا (كاتبـا)، بـمعنى: ولـم تـجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى (فرهان مقبوضة). وقرأ جماعة من الـمتقدمين: (ولـم تـجدوا كتابـا)، بـمعنى: ولـم يكن لكم إلـى اكتتاب كتاب الدين سبـيـل، إما بتعذر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتـم الدواة والصحيفة. والقراءة التـي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار: {وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا} بـمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك فـي مصاحف الـمسلـمين، وإن كنتـم أيها الـمتداينون فـي سفر بحيث لا تـجدون كاتبـا يكتب لكم، ولـم يكن لكم إلـى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتـموه إلـى أجل مسمى بـينكم الذي أمرتكم بـاكتتابه والإشهاد علـيه سبـيـل، فـارتهنوا بديونكم التـي تداينتـموها إلـى الأجل الـمسمى رهونا تقبضونها مـمن تداينونه كذلك لـيكون ثقة لكم بأموالكم. ذكر من قال ما قلنا فـي ذلك: ٥١٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: {وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلَـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا فَرُهُنٌ مَقْبُوضةٌ} فمن كان علـى سفر فبـايع بـيعا إلـى أجل فلـم يجد كاتبـا فرخص له فـي الرهان الـمقبوضة، ولـيس له إن وجد كاتبـا أن يرتهن. ٥١٧٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كاتِبـا} يقول: كاتبـا يكتب لكم، (فرهان مقبوضة). حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: ما كان من بـيع إلـى أجل، فأمر اللّه عزّ وجلّ أن يكتب ويشهد علـيه وذلك فـي الـمقام، فإن كان قوم علـى سفر تبـايعوا إلـى أجل فلـم يجدوا (كاتبـا)، فرهان مقبوضة. ذكر قول من تأوّل ذلك علـى القراءة التـي حكيناها: ٥١٨٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس : فإن لـم تـجدوا كتابـا، يعنـي بـالكتاب: الكاتب والصحيفة والدواة والقلـم. ٥١٨١ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنـي أبـي، عن ابن عبـاس أنه قرأ: (فإن لـم تـجدوا كتابـا)، قال: ربـما وجد الرجل الصحيفة ولـم يجد كاتبـا. ٥١٨٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، كان يقرؤهـا: (فإن لـم تـجدوا كتابـا)، و يقول: ربـما وجد الكاتب ولـم توجد الصحيفة أو الـمداد، ونـحو هذا من القول. ٥١٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيج، عن مـجاهد: (وَإِنْ كُنْتُـمْ عَلـى سَفَرٍ وَلَـمْ تَـجِدُوا كِتابـا) يقول: مدادا، يقرؤها كذلك، يقول: فإن لـم تـجدوا مدادا، فعند ذلك تكون الرهون الـمقبوضة، {فرهان مقبوضة}، قال: لا يكون الرهن إلا فـي السفر. ٥١٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الـحبحاب، قال: إن أبـا العالـية كان يقرؤها: (فإن لـم تـجدوا كتابـا)، قال أبو العالـية: توجد الدواة ولا توجد الصحيفة. واختلف القراء فـي قراءة قوله: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} فقرأ ذلك عامة قراء الـحجاز والعراق: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} بـمعنى جماع رهن، كما الكبـاش جماع كبش، والبغال جماع بغل، والنعال جماع نعل. وقرأ ذلك جماعة آخرون: (فَرُهُنٌ مقبوضة) علـى معنى جمع رِهَان ورُهْن جمع الـجمع، وقد وجهه بعضهم إلـى أنها جمع رهن مثل سَقْـف وسُقُـف. وقرأه آخرون: {فرُهْنٌ} مخففة الهاء، علـى معنى جماع رَهْن، كما تـجمع السقـف سُقْـفـا¹ قالوا: ولا نعلـم اسما علـى فعل يجمع علـى فُعُل وفُعْل إلا الرّهْنْ والرّهْن والسّقُـف والسّقْـف. والذي هو أولـى بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} لأن ذلك الـجمع الـمعروف لـما كان من اسم علـى فَعْل، كما يقال حَبْل وحبـال وكَعْب وكعاب، ونـحو ذلك من الأسماء. فأما جمع الفَعْل علـى الفُعُل أو الفُعْل فشاذّ قلـيـل إنـما جاء فـي أحرف يسيرة، وقـيـل سَقْـف وسُقُـف وَسُقْـف، وقَلْب وقُلُب وقُلْب من قلب النـخـل، وجَدّ وجُدّ. للـجد الذي هو بـمعنى الـحظّوأما ما جاء من جمع فَعْل علـى فُعْل فَثّطّ وثُطّ، ووَرْد ووُرْد، وخَوْد وخُود. وإنـما دعا الذي قرأ ذلك: (فَرُهْنٌ مَقْبُوضَةٌ) إلـى قراءته فـيـما أظن كذلك مع شذوذه فـي جمع فَعْل، أنه وجد الرّهان مستعملة فـي رِهان الـخيـل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الـملتبِس برهان الـخيـل، الذي هو بغير معنى الرّهان، الذي هو جمع رَهْن، ووجد الرّهُن مقولاً فـي جمع رَهْن، كما قال قعنب: بـانَتْ سُعادُ وأمْسَى دُوَنها عَدَنُ وَغَلِقَتْ عِنْدَها مِنْ قَلْبِكَ الرّهُنُ القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ وَلْـيَتّقِ اللّه رَبّهُ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن كان الـمدين أمينا عند ربّ الـمال والدين فلـم يرتهن منه فـي سفره رهنا بدينه لأمانته عنده علـى ماله وثقته، فَلْـيَتّقِ اللّه الـمدين ربه، يقول: فلـيخف اللّه ربه فـي الذي علـيه من دين صاحبه أن يجحده، أو يـلطّ دونه، أو يحاول الذهاب به، فـيتعرّض من عقوبة اللّه ما لا قبل له به، ولـيؤدّ دينه الذي ائتـمنه علـيه إلـيه. وقد ذكرنا قول من قال هذا الـحكم من اللّه عزّ وجلّ ناسخ الأحكام التـي فـي الآية قبلها من أمر اللّه عزّ وجلّ بـالشهود والكتاب، وقد دللنا علـى أولـى ذلك بـالصواب من القول فـيه فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقد: ٥١٨٥ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {فَـإِنْ أمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضا فَلْـيُوءَدّ الّذِي اوءْتُـمِنَ أمانَتَهُ} إنـما يعنـي بذلك فـي السفر، فأما الـحضر فلا وهو واجد كاتبـا، فلـيس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا. وهذا الذي قاله الضحاك ، من أنه لـيس لربّ الدين ائتـمان الـمدين وهو واجد إلـى الكاتب والكتاب والإشهاد علـيه سبـيلاً وإن كانا فـي سفر، فكما قال لـما قد دللنا علـى صحته فـيـما مضى قبل. وأما ما قاله ـ من الأمر فـي الرهن أيضا كذلك مثل الائتـمان فـي أنه لـيس لربّ الـحقّ الارتهان بـماله إذا وجد إلـى الكاتب والشهيد سبـيلاً فـي حضر أو سفر ـ فإنه قول لا معنى له لصحة الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه: (اشترى طعاما نَساءً، ورهن به درعا له). فجائز للرجل أن يرهن بـما علـيه، ويرتهن بـماله من حقّ فـي السفر والـحضر، لصحة الـخبر بـما ذكرنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأن معلوما أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبـا ولا شهيدا، لأنه لـم يكن متعذرا علـيه بـمدينته فـي وقت من الأوقات الكاتب والشاهد، غير أنهما إذا تبـايعا برهن، فـالواجب علـيهما إذا وجدا سبـيلاً إلـى كاتب وشهيد، وكان البـيع أو الدين إلـى أجل مسمى أن يكتبـا ذلك ويشهدا علـى الـمال والرهن، وإنـما يجوز ترك الكاتب والإشهاد فـي ذلك حيث لا يكون لهما إلـى ذلك سبـيـل. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَكْتُـمُوا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُـمْها فـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ}. وهذا خطاب من اللّه عزّ وجلّ للشهود الذين أمر الـمستدين وربّ الـمال بإشهادهم، فقال لهم: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تكتـموا أيها الشهود بعد ما شهدتـم شهادتكم عند الـحكام، كما شهدتـم علـى ما شهدتـم علـيه ولكن أجيبوا من شهدتـم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم علـى خصمه علـى حقه عند الـحاكم الذي يأخذ له بحقه. ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما علـيه فـي كتـمان شهادته وإبـائه من أدائها والقـيام بها عند حاجة الـمستشهد إلـى قـيامه بها عند حاكم، أو ذي سلطان، فقال: {وَمَنْ يَكْتُـمْهَا}، يعنـي ومن يكتـم شهادته، {فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، يقول: فـاجر قلبه، مكتسب بكتـمانه إياها معصية اللّه . كما: ٥١٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَلاَ تَكْتُـموا الشّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُـمْها فـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ} فلا يحلّ لأحد أن يكتـم شهادة هي عنده، وإن كانت علـى نفسه والوالدين، ومن يكتـمها فقد ركب إثما عظيـما. ٥١٨٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: {ومَنْ يَكْتُـمْها فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبهُ} يقول: فـاجر قلبه. ٥١٨٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: أكبر الكبـائر الإشراك بـالله، لأن اللّه يقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِـاللّه فَقَدْ حَرّمَ اللّه عَلَـيْهِ الـجَنّةَ وَمأوُاهُ النّارُ} وشهادة الزور، وكتـمان الشهادة، لأن اللّه عزّ وجلّ يقول: {وَمَنْ يَكْتُـمْها فَـإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}. وقد روي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: علـى الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استـخبر. ٥١٨٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مـحمد بن مسلـم، قال: أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها، فأخبره بها، ولا تقل: أخبرْ بها عند الأمير¹ أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي. وأما قوله: {وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ عَلِـيـمٌ} فإنه يعنـي بـما تعملون فـي شهادتكم من إقامتها والقـيام بها أو كتـمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إلـيها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانـيتها، {علـيـمٌ} يحصيه علـيكم لـيجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرا، وإما شرّا علـى قدر استـحقاقكم. ٢٨٤القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {للّهِ ما فِي السّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ} لله ملك كل ما فـي السموات وما فـي الأرض من صغير وكبـير، وإلـيه تدبـير جميعه، وبـيده صرفه وتقلـيبه، لا يخفـى علـيه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه. وإنـما عنى بذلك جلّ ثناؤه: كتـمان الشهود الشهادة، يقول: لا تكتـموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتـمها يفجر قلبه، ولن يخفـى علـيّ كتـمانه، وذلك لأنـي بكل شيء علـيـم، وبـيدي صرف كل شيء فـي السموات والأرض وملكه، أعلـمه خفـيّ ذلك وجلّـيه، فـاتقوا عقابـي إياكم علـى كتـمانكم الشهادة. وعيدا من اللّه بذلك من كتـمها وتـخويفـا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فـاعل بهم فـي آخرتهم، وبـمن كان من نظرائهم مـمن انطوى كشحا علـى معصية فأضمرها، أو أظهر موبقة فأبداها من نفسه من الـمـحاسبة علـيها، فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} يقول: وإن تظهروا فـيـما عندكم من الشهادة علـى حقّ ربّ الـمال الـجحود والإنكار، أو تـخفوا ذلك فتضمروه فـي أنفسكم وغير ذلك من سيىء أعمالكم، {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } يعنـي بذلك: يحتسب به علـيكم من أعماله، فـيجازي من شاء منكم من الـمسيئين بسوء عمله، وغافر منكم لـمن شاء من الـمسيئين. ثم اختلف أهل التأويـل فـيـما عنى بقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } فقال بعضهم بـما قلنا من أنه عنى به الشهود فـي كتـمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم مـمن أضمر معصية أو أبداها. ذكر من قال ذلك: ٥١٩٠ـ حدثنـي أبو زائدة زكريا بن يحيـى بن أبـي زائدة، قال: حدثنا أبو نفـيـل، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } يقول: يعنـي فـي الشهادة. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة. ٥١٩١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: سئل داود عن قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } فحدثنا عن عكرمة، قال: هي الشهادة إذا كتـمتها. حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو وأبـي سعيد، أنه سمع عكرمة يقول فـي هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة. ٥١٩٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن السدي، عن الشعبـي فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: فـي الشهادة. حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، أنه قال فـي هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: نزلت فـي كتـمان الشهادة وإقامتها. حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن عكرمة فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } يعنـي كتـمان الشهادة وإقامتها علـى وجهها. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلاما من اللّه تبـارك وتعالـى عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعملوه. ثم اختلف متأوّلو ذلك كذلك، فقال بعضهم: ثم نسخ اللّه ذلك بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ذكر من قال ذلك: ٥١٩٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: لـما نزلت: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } اشتدّ ذلك علـى القوم، فقالوا: يا رسول اللّه إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا؟ هلكنا! فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لاَ يُكْلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها} الآية، إلـى قوله: {رَبّنا لا تُوءَاخِذْنَا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنَا} قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قال اللّه : نَعَمْ). {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} إلـى آخر الآية، قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قال اللّه عزّ وجلّ نعم). ٥١٩٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا سفـيان، عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبـير يحدّث عن ابن عبـاس قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَـيَغْفِرُ لِـمَنَ يَشَاءْ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ} دخـل قلوبهم منها شيء لـم يدخـلها من شيء، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سَمِعْنا وأطَعْنا وَسَلّـمْنَا) قال: فألقـى اللّه عزّ وجلّ الإيـمان فـي قلوبهم، قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ}. قال أبو كريب: فقرأ: {رَبّنَا لا تُوءَاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا} قال: فقال: (قد فعلت). {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: (قد فعلت). {رَبّنا ولا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: (قد فعلت). {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَـانْصُرْنَا عَلَـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: (قد فعلت). ٥١٩٥ـ حدثنـي أبو الرداد الـمصري عبد اللّه بن عبد السلام، قال: حدثنا أبو زرعة وهب اللّه بن راشد، عن حيوة بن شريح، قال: سمعت يزيد بن أبـي حبـيب، يقول: قال ابن شهاب: حدثنـي سعيد بن مرجانة، قال: جئت عبد اللّه بن عمر، فتلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ}. ثم قال ابن عمر: لئن آخذنا بهذه الآية لنهلكنّ. ثم بكى ابن عمر حتـى سالت دموعه قال: ثم جئت عبد اللّه بن العبـاس، فقلت: يا أبـا عبـاس، إنـي جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}.. الآية، ثم قال: لئن واخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتـى سالت دموعه. فقال ابن عبـاس : يغفر اللّه لعبد اللّه بن عمر لقد فرِق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها كما فرق ابن عمر منها، فأنزل اللّه : {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فنسخ اللّه الوسوسة، وأثبت القول والفعل. حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدّث: أنه بـينا هو جالس سمع عبد اللّه بن عمر تلا هذه الآية: {لِلّهِ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}.. الآية، فقال: واللّه لئن آخذنا اللّه بهذا لنهلكنّ! ثم بكى ابن عمر حتـى سمع نشيجه. فقال ابن مرجانة: فقمت حتـى أتـيت ابن عبـاس ، فذكرت له ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد اللّه بن عبـاس: يغفر اللّه لأبـي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد الـمسلـمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد اللّه بن عمر، فأنزل اللّه بعدها: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها} إلـى آخر السورة. قال ابن عبـاس : فكانت هذه الوسوسة مـما لا طاقة للـمسلـمين بها، وصار الأمر إلـى أن قضى اللّه عزّ وجلّ: أن للنفس ما كسبت وعلـيها ما اكتسبت فـي القول والفعل. ٥١٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: قرأها ابن عمر، فبكى وقال: إنا لـمؤاخذون بـما نـحدّث به أنفسنا! فبكى حتـى سمع نشيجه، فقام رجل من عنده، فأتـى ابن عبـاس ، فذكر ذلك له، فقال: رحم اللّه ابن عمر لقد وجد الـمسلـمون نـحوا مـما وجد، حتـى نزلت: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ٥١٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سلـيـمان، عن حميد الأعرج، عن مـجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}.. الآية. فبكى! فدخـلت علـى ابن عبـاس ، فذكرت له ذلك، فضحك ابن عبـاس فقال: يرحم اللّه ابن عمر، أو ما يدري فـيـم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غما شديدا، و قالوا: يا رسول اللّه هلكنا! فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قُولُوا سَمِعْنَا وأطَعْنا)، فنسختها: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِـاللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسلِهِ} إلـى قوله: {وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فتـجوّز لهم من حديث النفس، وأخذوا بـالأعمال. ٥١٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن سفـيان بن حسين، عن الزهري، عن سالـم أن أبـاه قرأ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } فدمعت عينه. فبلغ صنـيعه ابن عبـاس ، فقال: يرحم اللّه أبـا عبد الرحمن! لقد صنع كما صنع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أنزلت، فنسختها الآية التـي بعدها: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها}. ٥١٩٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال: نسخت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها}. ٥٢٠٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن آدم بن سلـيـمان، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قالوا: أنؤاخذ بـما حدثنا به أنفسنا ولـم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُوءَاخَذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا} قال: و يقول: قد فعلت قال: فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة، لـم تعطها الأمـم قبلها. ٥٢٠١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جرير بن نوح، قال: حدثنا إسماعيـل، عن عامر: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: فنسختها الآية بعدها قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ٥٢٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبـي: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: نسختها الآية التـي بعدها: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها} وقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا} قال: يحاسب بـما أبدى من سرّ أو أخفـى من سرّ، فنسختها التـي بعدها. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا سيار، عن الشعبـي، قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: فكان فـيها شدة حتـى نزلت هذه الآية التـي بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فنسخت ما كان قبلها. حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن عون، قال: ذكروا عند الشعبـي: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} حتـى بلغ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فقال الشعبـي: إلـى هذا صار، رجعت إلـى آخر الآية. ٥٢٠٣ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} قال: قال ابن مسعود: كانت الـمـحاسبة قبل أن تنزل: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فلـما نزلت نسخت الآية التـي كانت قبلها. حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك ، يذكر عن ابن مسعود، نـحوه. ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن بـيان، عن الشعبـي، قال: نسخت: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ}: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ٥٢٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب وسفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، وعن إبراهيـم بن مهاجر، عن مـجاهد، قالوا: نسخت هذه الآية: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها}: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ}.. الآية. ٥٢٠٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عكرمة وعامر، بـمثله. ٥٢٠٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا حماد بن حميد، عن الـحسن فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ} إلـى آخر الآية، قال: مـحتها: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ٥٢٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، أنه قال: نسخت هذه الآية، يعنـي قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها}.. الآية التـي كانت قبلها: {إنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه }. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: نسختها قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها}. ٥٢٠٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي ابن زيد، قال: لـما نزلت هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه }.. إلـى آخر الآية، اشتدّت علـى الـمسلـمين، وشقت مشقة شديدة، فقالوا: يا رسول اللّه لو وقع فـي أنفسنا شيء لـم نعمل به واخذنا اللّه به؟ قال: (فَلَعَلّكُمْ تَقُولُونَ كَما قَالَ بَنُو إِسْرَائِيـلَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنا)، قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول اللّه قال: فنزل القرآن يفرجها عنهم: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِـاللّه وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلـى قوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال: فصيره إلـى الأعمال، وترك ما يقع فـي القلوب. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج، قال: حدثنا هشيـم، عن سيار، عن أبـي الـحكم، عن الشعبـي، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه بن مسعود فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: نسخت هذه الآية التـي بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. ٥٢٠٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بـما وسوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: إن عمل أحدنا وإن لـم يعمل أُخذنا به؟ واللّه ما نـملك الوسوسة! فنسخها اللّه بهذه الآية التـي بعدها بقوله: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها} فكان حديث النفس مـما لـم تطيقوا. ٥٢١٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة أن عائشة أم الـمؤمنـين رضي اللّه عنها قالت: نسختها قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ}. وقال آخرون مـمن قال معنى ذلك: (الإعلام من اللّه عز وجل عبـاده أنه مؤاخذهم بـما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبـما حدثتهم به أنفسهم مـما لـم يعلـموه). هذه الآية مـحكمة غير منسوخة، واللّه عز وجل مـحاسب خـلقه علـى ما عملوا من عمل وعلـى ما لـم يعملوه مـما أصرّوه فـي أنفسهم ونووه وأرادوه، فـيغفره للـمؤمنـين، ويؤاخذ به أهل الكفر والنفـاق. ذكر من قال ذلك: ٥٢١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } فإنها لـم تنسخ، ولكن اللّه عزّ وجل إذا جمع الـخلائق يوم القـيامة، يقول اللّه عزّ وجل: إنـي أخبركم بـما أخفـيتـم فـي أنفسكم مـما لـم تطلع علـيه ملائكتـي، فأما الـمؤمنون فـيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهوقوله: {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } يقول: يخبركموأما أهل الشكّ والريب، فـيخبرهم بـما أخفوا من التكذيب، وهوقوله: {فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} وهوقوله: {وَلَكِنْ يُوءَاخِذْكُمْ بِـمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} من الشكّ والنفـاق. ٥٢١٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } فذلك سرّ عملكم وعلانـيته، يحاسبكم به اللّه ، فلـيس من عبد مؤمن يسر فـي نفسه خيرا لـيعمل به، فإن عمل به كتبت له به عشر حسنات، وإن هو لـم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنة من أجل أنه مؤمن، واللّه يرضى سرّ الـمؤمنـين وعلانـيتهم، وإن كان سوءا حدّث به نفسه اطلع اللّه علـيه وأخبره به يوم تبلـى السرائر، وإن هو لـم يعمل به لـم يؤاخذه اللّه به حتـى يعمل به، فإن هو عمل به تـجاوز اللّه عنه، كما قال: {أُولَئِكَ الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنْهُمْ أحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَـجَاوَزُ عَنْ سَيّئَاتِهِمْ}. ٥٢١٣ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ اللّه }.. الآية قال: قال ابن عبـاس : إن اللّه يقول يوم القـيامة: إن كتابـي لـم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتـم فـي أنفسكم فأنا أحاسبكم به الـيوم، فأغفر لـمن شئت، وأعذّب من شئت. ٥٢١٤ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا علـيّ بن عاصم، قال: أخبرنا بـيان، عن بشر، عن قـيس بن أبـي حازم، قال: إذا كان يوم القـيامة، قال اللّه عزّ وجلّ يُسمِع الـخلائق: إنـما كان كتابـي يكتبون علـيكم ما ظهر منكم، فأما ما أسررتـم فلـم يكونوا يكتبونه، ولا يعلـمونه، أنا اللّه أعلـم بذلك كله منكم، فأغفر لـمن شئت، وأعذّب من شئت. ٥٢١٥ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } كان ابن عبـاس يقول: إذا دعي الناس للـحساب، أخبرهم اللّه بـما كانوا يسرّون فـي أنفسهم مـما لـم يعملوه، فـ يقول: إنه كان لا يعزب عنـي شيء، وإنـي مخبركم بـما كنتـم تسرّون من السوء، ولـم تكن حفظتكم علـيكم مطلعين علـيه. فهذه الـمـحاسبة. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، نـحوه. ٥٢١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمُ بِهِ اللّه } قال: هي مـحكمة لـم ينسخها شيء، يقول: يحاسبكم به اللّه ، يقول: يعرّفه اللّه يوم القـيامة أنك أخفـيت فـي صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه. ٥٢١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن عمرو بن عبـيد، عن الـحسن، قال: هي مـحكمة لـم تنسخ. ٥٢١٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: من الشكّ والـيقـين. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } يقول: فـي الـيقـين والشك. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. فتأويـل هذه الآية علـى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ} من شيء من الأعمال، فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تـخفوه فتسرّوه فـي أنفسكم، فلـم يطلع علـيه أحد من خـلقـي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيـمان، وأعذّب أهل الشرك والنفـاق فـي دينـي. وأما علـى الرواية التـي رواها عنه الضحاك من رواية عبـيد بن سلـيـمان عنه، وعلـى ما قاله الربـيع بن أنس، فإن تأويـلها: إن تظهروا ما فـي أنفسكم فتعملوه من الـمعاصي، أو تضمروا إرادته فـي أنفسكم، فتـخفوه، يُعلـمْكم به اللّه يوم القـيامة، فـيغفر لـمن يشاء، ويعذّب من يشاء. وأما قول مـجاهد فشبـيه معناه بـمعنى قول ابن عبـاس الذي رواه علـيّ بن أبـي طلـحة. وقال آخرون مـمن قال: (هذه الآية مـحكمة وهي غير منسوخة) ووافقوا الذين قالوا: (معنى ذلك أن اللّه عزّ وجلّ أعلـم عبـاده ما هو فـاعل بهم فـيـما أبدوا وأخفوا من أعمالهم): معناها: أن اللّه مـحاسب جميع خـلقه بجميع ما أبدوا من سيىء أعمالهم، وجميع ما أسروه، ومعاقبهم علـيه، غير أن عقوبته إياهم علـى ما أخفوه مـما لـم يعملوه ما يحدث لهم فـي الدنـيا من الـمصائب، والأمور التـي يحزنون علـيها ويألـمون منها. ذكر من قال ذلك: ٥٢١٩ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه }.. الآية، قال: كانت عائشة رضي اللّه عنها تقول: من همّ بسيئة فلـم يعملها أرسل اللّه علـيه من الهمّ والـحزن مثل الذي همّ به من السيئة فلـم يعملها، فكانت كفـارته. حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بـمعصية، أَو يحدّث بها نفسه، حاسبه اللّه بها فـي الدنـيا، يخاف ويحزن ويهتـم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو تـميـلة، عن عبـيد، عن الضحاك ، قال: قالت عائشة فـي ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية، وحدّث نفسه به، حاسبه اللّه فـي الدنـيا، يخاف ويحزن ويشتدّ همه، لا يناله من ذلك شيء، كما همّ بـالسوء ولـم يعمل منه شيئا. ٥٢٢٠ـ حدثنا الربـيع، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن علـيّ بن زيد، عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه }، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقالت: ما سألنـي عنها أحد مذ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: (يا عائشة، هذه مُتَابَعَةُ اللّه العبد بـما يُصِيبُه من الـحُمّى والنكْبَة والشّوْكَة، حتـى البضاعة يَضَعُها فـي كمّه فـيفقدها فـيفزع لها، فـيجدها فـي ضِبْنِهِ حتـى إن الـمُوءْمِنَ لَـيَخْرُجُ من ذنوبه كما يخرج التّبْرُ الأحمر من الكِيرِ). وأولـى الأقوال التـي ذكرناها بتأويـل الآية قول من قال: إنها مـحكمة ولـيست بـمنسوخة، وذلك أن النسخ لا يكون فـي حكم إلا ينفـيه بآخر له ناف من كل وجوهه، ولـيس فـي قوله جلّ وعزّ: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ} نفـي الـحكم الذي أعلـم عبـاده بقوله: {أوْ تُـخْفوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } لأن الـمـحاسبة لـيست بـموجبة عقوبة، ولا مؤاخذة بـما حوسب علـيه العبد من ذنوبه، وقد أخبر اللّه عزّ وجلّ عن الـمـجرمين أنهم حين تُعرض علـيهم كتب أعمالهم يوم القـيامة، يقولون: {يا وَيْـلَتَنَا ما لِهَذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِـيرَةً إِلاّ أحْصَاهَا} فأخبر أن كتبهم مـحصية علـيهم صغائر أعمالهم وكبـائرها، فلـم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذنوب وكبـائرها بـموجب إحصاؤها علـى أهل الإيـمان بـاللّه ورسوله وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبـين، لأن اللّه عزّ وجلّ وعدهم العفو عن الصغائر بـاجتنابهم الكبـائر، فقال فـي تنزيـله: {إِنْ تَـجْتَنِبُوا كَبـائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِـلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيـما} فدلّ أن مـحاسبة اللّه عبـاده الـمؤمنـين بـما هو مـحاسبهم به من الأمور التـي أخفتها أنفسهم غير موجبة لهم منه عقوبة، بل مـحاسبته إياهم إن شاء اللّه علـيها لـيعرّفهم تفضله علـيهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الـخبر الذي: ٥٢٢١ـ حدثنـي به أحمد بن الـمقدام، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أبـي، عن قتادة، عن صفوان بن مـحرز، عن ابن عمر، عن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (يُدْنِـي اللّه عَبْدَهُ الـمُوءْمِنُ يَوْمَ القِـيَامَةِ حَتّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِسَيّئَاتِهِ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَـيَقُولُ نَعَمْ، فَـ يَقُولُ: سَتَرْتُها فِـي الدّنْـيَا وأغْفِرُها الـيَوْمَ. ثُمّ يُظْهِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ، فَـ يَقُولُ: هاومُ اقْرَءُوا كِتابِـيَهْ) أو كما قال: (وأمّا الكَافِرُ، فَـإِنّهُ يُنَادَى بِهِ عَلـى رُءُوسِ الأشْهادِ). ٥٢٢٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وسعيد وهشام، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا هشام، قالا جميعا فـي حديثهما، عن قتادة، عن صفوان بن مـحرز، قال: بـينـما نـحن نطوف بـالبـيت مع عبد اللّه بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل، فقال: يا ابن عمر أما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فـي النـجوى؟ فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يَدْنُو الـمُوءْمِنُ مِنْ رَبّهِ حتّـى يَضَعَ عَلَـيْهِ كَنَفَهُ فَـيُقَرّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَـ يَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ كَذَا؟ فَـ يَقُولُ: رَبّ اغْفِرْ مَرّتَـيْنِ، حتـى إذَا بَلَغَ بِهِ مَا شَاءَ اللّه أنْ يَبْلُغَ قَالَ: فَـإِنّـي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَـيْكَ فِـي الدّنْـيا، وأنا أغْفِرُها لَكَ الـيَوْمَ)، قال: (فَـيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ أوْ كِتابَهُ بِـيَـمِينِهِوأما الكُفّـارُ وَالـمُنَافِقُونَ، فَـيُنَادَى بِهِمْ علـى رُءُوسِ الأشْهادِ: هَولاَءِ الّذِينَ كَذَبُوا علـى رَبِهِمْ، ألا لَعْنَةُ اللّه علـى الظّالِـمِينَ). إن اللّه يفعل بعبده الـمؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله حتـى يعرّفه تفضله علـيه بعفوه له عنها، فكذلك فعله تعالـى ذكره فـي مـحاسبته إياه بـما أبداه من نفسه، وبـما أخفـاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرّمه علـيه، فـيستره علـيه، وذلك هو الـمغفرة التـي وعد اللّه عبـاده الـمؤمنـين، فقال: يغفر لـمن يشاء. فإن قال قائل: فإن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ينبىء عن أن جميع الـخـلق غير مؤاخذين إلا بـما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابـين إلا بـما كسبته من خير. قـيـل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله. فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد اللّه عزّ وجلّ إيانا علـى ما أخفته أنفسنا بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} إن كان {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا، من همّ بذنب، أو إرادة لـمعصية، لـم تكتسبه جوارحنا؟ قـيـل له: إن اللّه جل ثناؤه قد وعد الـمؤمنـين أن يعفو لهم عما هو أعظم مـما همّ به أحدهم من الـمعاصي فلـم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبـائرها، وإنـما الوعيد من اللّه عزّ وجلّ بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} علـى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تـخفـي الشكّ فـي اللّه ، والـمرية فـي وحدانـيته، أو فـي نبوّة نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وما جاء به من عند اللّه ، أو فـي الـمعاد والبعث من الـمنافقـين، علـى نـحو ما قال ابن عبـاس ومـجاهد، ومن قال بـمثل قولهما أن تأويـل قوله: {أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } علـى الشكّ والـيقـين. غير أنا نقول إن الـمتوعد بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ} هو من كان إخفـاء نفسه ما تـخفـيه الشكّ والـمرية فـي اللّه ، وفـيـما يكون الشك فـيه بـاللّه كفرا، والـموعود الغفران بقوله: {فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ} هو الذي أخفـى، وما يخفـيه الهمة بـالتقدّم علـى بعض ما نهاه اللّه عنه من الأمور التـي كان جائزا ابتداء تـحلـيـله وإبـاحته، فحرّمه علـى خـلقه جلّ ثناؤه، أو علـى ترك بعض ما أمر اللّه بفعله مـما كان جائزا ابتداء إبـاحة تركه، فأوجب فعله علـى خـلقه. فإن الذي يهمّ بذلك من الـمؤمنـين إذا هو لـم يصحح همه بـما يهمّ به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بـالتقدم علـيه لـم يكن مأخوذا، كما رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَـمْ يَعْمَلْها لَـمْ تُكْتُبْ عَلَـيْهِ)، فهذا الذي وصفنا، هو الذي يحاسب اللّه به مؤمنـي عبـاده ثم لا يعاقبهم علـيه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا فـي اللّه وارتـيابـا فـي نبوّة أنبـيائه، فذلك هو الهالك الـمخـلد فـي النار، الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الألـيـم بقوله: {وَيُعَذّبُ مَنْ يَشاءُ}. فتأويـل الآية إذا: {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِـي أنْفُسِكُمْ} أيها الناس، فتظهروه {أوْ تُـخْفُوهُ} فتنطوي علـيه نفوسكم، {يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه } فـيعرّف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه، ومغفرته له، فـيغفره له، ويعذّب منافقكم علـى الشكّ الذي انطوت علـيه نفسه فـي وحدانـية خالقه ونبوّة أنبـيائه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: واللّه عزّ وجلّ علـى العفو عما أخفته نفس هذا الـمؤمن من الهمة بـالـخطيئة، وعلـى عقاب هذا الكافر علـى ما أخفته نفسه من الشكّ فـي توحيد اللّه عزّ وجلّ، ونبوّة أنبـيائه، ومـجازاة كل واحد منهما علـى كل ما كان منه، وعلـى غير ذلك من الأمور قادرٌ. ٢٨٥القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ...} يعنـي بذلك جل ثناؤه: صدّق الرسول، يعنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأقرّ {بـما أُنْزِلَ إِلَـيْهِ} يعنـي بـما أوحي إلـيه من ربه من الكتاب، وما فـيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فـيه من الـمعانـي التـي حواها. وذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما نزلت هذه الآية علـيه قال: (يَحقّ لَهُ). ٥٢٢٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} وذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما نزلت هذه الآية قال: (وَيَحِقّ لَهُ أنْ يُوءْمِنَ). إنها نزلت بعد قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِـي أنْفُسِكُمْ أوْ تُـخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه فَـيَغْفِرُ لِـمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه عَلـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأن الـمؤمنـين برسول اللّه من أصحابه، شقّ علـيهم ما توعدهم اللّه به من مـحاسبتهم علـى ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَعَلّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيـلَ!) فقالوا: بل نقول: سمعنا وأطعنا! فأنزل اللّه لذلك من قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وقول أصحابه: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إِلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بـاللّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}. يقول: وصدّق الـمؤمنون أيضا مع نبـيهم بـاللّه وملائكته وكتبه ورسله الاَيتـين. وقد ذكرنا قائلـي ذلك قبل. واختلف القراء فـي قراءة قوله: (وكتبه)، فقرأ ذلك عامة قراء الـمدينة وبعض قراء أهل العراق: {وكُتُبِهِ} علـى وجه جمع الكتاب علـى معنى: والـمؤمنون كلّ آمن بـاللّه وملائكته وجميع كتبه التـي أنزلها علـى أنبـيائه ورسوله. وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: (وكتابه) بـمعنى: والـمؤمنون كلّ آمن بـاللّه وملائكته، وبـالقرآن الذي أنزله علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه، و يقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكان ابن عبـاس يوجه تأويـل ذلك إلـى نـحوقوله: {وَالعَصْرِ إِنّ الإنْسَانَ لَفِـي خُسْرٍ} بـمعنى: جنس الناس وجنس الكتاب، كما يقال: ما أكثر درهم فلان وديناره، ويراد به جنس الدراهم والدنانـير. وذلك وإن كان مذهبـا من الـمذاهب معروفـا، فإن الذي هو أعجب إلـيّ من القراءة فـي ذلك أن يقرأ بلفظ الـجمع، لأن الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك، أعنـي بذلك: (وملائكته وكتبه ورسله)، فإلـحاق الكتب فـي الـجمع لفظا به أعجب إلـيّ من توحيده وإخراجه فـي اللفظ به بلفظ الواحد، لـيكون لاحقا فـي اللفظ والـمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبـمعناه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. وأما قوله: {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن الـمؤمنـين أنهم يقولون ذلك. ففـي الكلام فـي قراءة من قرأ: {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} بـالنون متروك قد استغنـي بدلالة ما ذكر عنه، وذلك الـمتروك هو (يقولون). (وتأويـل الكلام: والـمؤمنون كل آمن بـاللّه وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرّق بـين أحد من رسله. وترك ذكر (يقولون) لدلالة الكلام علـيه، كما ترك ذكره فـي قوله: {وَالـمَلاَئِكَةُ يَدْخُـلُونَ عَلَـيْهِمْ مِنْ كُلّ بـابٍ سَلامٌ عَلَـيْكُمْ بِـمَا صَبْرْتُـمْ} بـمعنى: يقولون سلام. وقد قرأ ذلك جماعة من الـمتقدّمين: (لا يُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) بـالـياء، بـمعنى: والـمؤمنون كلهم آمن بـاللّه وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرّق الكل منهم بـين أحد من رسله، فـيؤمن ببعض، ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند اللّه ، وأنهم دعوا إلـى اللّه وإلـى طاعته، ويخالفون فـي فعلهم ذلك الـيهود الذين أقرّوا بـموسى وكذّبوا عيسى، والنصارى الذين أقرّوا بـموسى وعيسى وكذّبوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وجحدوا نبوّته، ومن أشبههم من الأمـم الذين كذّبوا بعض رسل اللّه ، وأقّروا ببعضه.) كما: ٥٢٢٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} كما صنع القوم، يعنـي بنـي إسرائيـل، قالوا: فلان نبـيّ، وفلان لـيس نبـيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به. والقراءة التـي لا نستـجيز غيرها فـي ذلك عندنا بـالنون: {لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} لأنها القراءة التـي قامت حجة بـالنقل الـمستفـيض الذي يـمتنع مع التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط، يعنـي ما وصفنا من يقولون: لا نفرّق بـين أحد من رسله. ولا يعترض بشاذّ من القراءة علـى ما جاءت به الـحجة نقلاً ورواية. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَـيْكَ الـمَصِيرُ}. (يعنـي بذلك جل ثناؤه: وقال الكلّ من الـمؤمنـين: {سَمِعْنا} قول ربنا، وأمره إيانا بـما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه، {وَأَطَعْنا}: يعنـي أطعنا ربنا فـيـما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلـمنا له: وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنا} يعنـي: وقالوا غفرانك ربنا، بـمعنى: اغفر لنا، ربنا غفرانك، كما يقال: سبحانك، بـمعنى نسبحك سبحانك. وقد بـينا فـيـما مضى أن الغفران والـمغفرة: الستر من اللّه علـى ذنوب من غفر له، وصفحه له عن هتك ستره بها فـي الدنـيا والاَخرة، وعفوه عن العقوبة علـيهوأما قوله: {وَإلَـيْكَ الـمَصِيرُ} فإنه يعنـي جل ثناؤه أنهم قالوا: وإلـيك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فـاغفر لنا ذنوبنا.) فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله: {غُفْرَانَكَ}؟ قـيـل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر، وكذلك تفعل العرب بـالـمصادر والأسماء إذا حلت مـحل الأمر، وأدّت عن معنى الأمر نصبتها، فـيقولون: شكرا لله يا فلان، وحمدا له، بـمعنى: اشكر اللّه واحمده، والصلاةَ الصلاةَ: بـمعنى صلوا. ويقولون فـي الأسماء: اللّه اللّه يا قوم. ولو رفع بـمعنى هو اللّه ، أو هذا اللّه ووجه إلـى الـخبر وفـيه تأويـل الاَمر كان جائزا، كما قال الشاعر: إنّ قَوْما مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وأشْبـاهُ عُمَيْرٍ ومِنْهُمُ السّفّـاحُ لَـجَدِيرُونَ بـالوَفـاءِ إذَا قالَ أخو النّـجدَةِ السّلاحُ السّلاحُ ولو كان قوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنَا} جاء رفعا فـي القراءة لـم يكن خطأ، بل كان صوابـا علـى ما وصفنا. وقد ذكر أن هذه الآية لـما نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثناء من اللّه علـيه وعلـى أمته، قال له جبريـل صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه عزّ وجلّ قد أحسن علـيك وعلـى أمتك الثناء، فسلْ ربك. ٥٢٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن بـيان، عن حكيـم بن جابر، قال: لـما أنزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالـمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بـاللّه وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَـيْكَ الـمَصِير} قال جبريـل: إن اللّه عزّ وجلّ قد أحسن الثناء علـيك، وعلـى أمتك، فسل تعطه! فسأل: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها}.. إلـى آخر السورة. ٢٨٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يُكَلّفُ اللّه نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا ...} يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها} فـيتعبدها إلا بـما يسعها، فلا يضيق علـيها، ولا يجهدها. وقد بـينا فـيـما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل: وسعنـي هذا الأمر مثل الـجُهْد والوُجْد من جهدنـي هذا الأمر ووجدت منه. كما: ٥٢٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها} قال: هم الـمؤمنون، وسع اللّه علـيهم أمر دينهم، فقال اللّه جل ثناؤه: {وَما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال: {يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الـيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} وَقالَ: {اتّقُوا اللّه ما اسْتَطَعْتُـمْ}. ٥٢٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: لـما نزلت ضجّ الـمؤمنون منها ضجة و قالوا: يا رسول اللّه هذا، نتوب من عمل الـيد والرجل واللسان، كيف نتوب من الوسوسة، كيف نـمتنع منها؟ فجاء جبريـل صلى اللّه عليه وسلم بهذه الآية: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها} إنكم لا تستطيعون أن تـمتنعوا من الوسوسة. ٥٢٢٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها} وسعها: طاقتها، وكان حديث النفس مـما لا يطيقون. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ}. يعنـي بقوله جل ثناؤه لها: للنفس التـي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها، يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير¹ وعلـيها: يعنـي وعلـى كل نفس ما اكتسبت: ما عملت من شرّ. كما: ٥٢٢٩ـ حدثنا بشر بن يزيد، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ} أي من خير {وَعَلَـيْها ما اكْتَسْبَتْ} أي من شرّ، أو قال: من سوء. ٥٢٣٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يقول: ما عملت من خير، {وَعَلَـيْها ما اكْتَسَبَتْ} يقول: وعلـيها ما عملت من شرّ. حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، مثله. ٥٢٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد اللّه بن عبـاس: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَـيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} عمل الـيد والرجل واللسان. فتأويـل الآية إذا: لا يكلف اللّه نفسا إلا ما يسعها، فلا يجهدها، ولا يضيق علـيها فـي أمر دينها، فـيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا}. وهذا تعلـيـم من اللّه عزّ وجلّ عبـاده الـمؤمنـين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولون فـي دعائهم إياه. ومعناه: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علـينا عمله فلـم نعمله، أو أخطأنا فـي فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، علـى غير قصد منا إلـى معصيتك، ولكن علـى جهالة منا به وخطأ. كما: ٥٢٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} إن نسينا شيئا مـما افترضته علـينا، أو أخطأنا شيئا مـما حرّمته علـينا. ٥٢٣٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة فـي قوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال: بلغنـي أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ اللّه عَزّ وَجَلّ تَـجَاوَزَ لِهَذِهِ الأُمّةِ عَنْ نِسْيانِها وَما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا). ٥٢٣٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال له جبريـل صلى اللّه عليه وسلم فقل ذلك يا مـحمد. إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ اللّه عزّ وجلّ عبـاده بـما نسوا أو أخطئوا فـيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قـيـل: إن النسيان علـى وجهين: أحدهما: علـى وجه التضيـيع من العبد والتفريط¹ والاَخر: علـى وجه عجز الناسي عن حفظ ما استـحفظ، ووكل به وضعف عقله عن احتـماله، فأما الذي يكون من العبد علـى وجه التضيـيع منه والتفريط، فهو ترك منا لـما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلـى اللّه عزّ وجلّ فـي تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب اللّه عزّ وجل به آدم صلوات اللّه علـيه، فأخرجه من الـجنة، فقال فـي ذلك: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إلـى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَـمْ نَـجِدْ لَهُ عَزْما} وهو النسيان الذي قال جلّ ثناؤه: {فـالْـيَوْمُ نَنْسَاهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فرغبة العبد إلـى اللّه عزّ وجلّ بقوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} فـيـما كان من نسيان منه لـما أمر بفعله علـى هذا الوجه الذي وصفنا ما لـم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فـيه وتضيـيعا، كفرا بـاللّه عزّ وجلّ، فإن ذلك إذا كان كفرا بـاللّه فإن الرغبة إلـى اللّه فـي تركه الـمؤاخذة به غير جائزة، لأن اللّه عزّ وجلّ قد أخبر عبـاده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلـمهم أنه لا يفعله خطأ، وإنـما يكون مسألته الـمغفرة فـيـما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه، وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، بـاشتغاله عنهما بغيرهما حتـى ضيعهماوأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنـيته عن حفظه، وقلة احتـمال عقله ما وكل بـمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لـمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما لـيس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب علـيه، وهو حريص علـى تذكره وحفظه، كالرجل يحرص علـى حفظ القرآن بجدّ منه، فـيقرؤه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنـيته عن حفظه وقلة احتـمال عقله، ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مـما لا يجوز مسألة الربّ مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فـيه، فـيغفر له بـاكتسابه. وكذلك للـخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فـيأتـيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، يقال منه: خَطىء فلان وأخطأ فـيـما أتـى من الفعل، وأثم إذا أتـى ما يتأثم فـيه وركبه، ومنه قول الشاعر: النّاس يَـلْـحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُخَطِئُوا الصّوَابَ وَلا يُلامُ الـمُرْشَدُ يعنـي: أخطأوا الصواب. وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلـى ربه فـي صفح ما كان منه من إثم عنه، إلا ما كان من ذلك كفرا. والاَخر منهما: ما كان عنه علـى وجه الـجهل به والظنّ منه، بأن له فعله، كالذي يأكل فـي شهر رمضان لـيلاً، وهو يحسب أن الفجر لـم يطلع، أو يؤخر صلاة فـي يوم غيـم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فـيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لـم يدخـل، فإن ذلك من الـخطأ الـموضوع عن العبد الذي وضع اللّه عزّ وجلّ عن عبـاده الإثم فـيه، فلا وجه لـمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به، وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بـما نسي أو أخطأ، إنـما هو فعل منه لـما أمره به ربه تبـارك وتعالـى، أو لـما ندبه إلـيه من التذلل له والـخضوع بـالـمسألة، فأما علـى وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم وللبـيان عن هؤلاء كتاب سنأتـي فـيه إن شاء اللّه علـى ما فـيه الكفـاية لـمن وفق لفهمه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا}. (يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قولوا: ربنا لا تـحمل علـينا إصرا: يعنـي بـالإصر: العهد، كما قال جل ثناؤه: {قال أأقْرَرْتُـمْ وأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي}. وإنـما عنى بقوله: {وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا}: ولا تـحمل علـينا عهدا، فنعجز عن القـيام به ولا نستطيعه، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} يعنـي علـى الـيهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثـيقهم علـى القـيام بها، فلـم يقوموا بها، فعوجلوا بـالعقوبة. فعلـم اللّه عزّ وجلّ أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم الرغبة إلـيه بـمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثـيقه علـى أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فـيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم، فـيحلّ بهم بخطئهم فـيه وتضيـيعهم إياه مثل الذي أحلّ بـمن قبلهم.) وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٢٣٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا} قال: لا تـحمل علـيها عهدا وميثاقا، {كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يقول: كما غلظ علـى من قبلنا. ٥٢٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن موسى بن قـيس الـحضرمي، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا} قال: عهدا. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إصْرا} قال: عهدا. ٥٢٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس فـي قوله: {إصْرا} يقول: عهدا. ٥٢٣٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} والإصر: العهد الذي كان علـى من قبلنا من الـيهود. ٥٢٣٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: {وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا} قال: عهدا لا نطيقه، ولا نستطيع القـيام به، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الـيهود والنصارى، فلـم يقوموا به فأهلكتهم. ٥٢٤٠ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : {إصْرا} قال: الـمواثـيق. ٥٢٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: الإصر: العهد¹ {وأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي} قال: عهدي. حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَأخَذْتُـمْ عَلـى ذَلِكُمْ إصْرِي} قال: عهدي. وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تـحمل علـينا ذنوبـا وإثما كما حملت ذلك علـى من قبلنا من الأمـم، فتـمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم. ذكر من قال ذلك: ٥٢٤٢ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، عن علـيّ بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} قال: لا تـمسخنا قردة وخنازير. ٥٢٤٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} لا تـحمل علـينا ذنبـا لـيس فـيه توبة ولا كفـارة. وقال آخرون: معنى الإصر بكسر الألف: الثقل. ذكر من قال ذلك: ٥٢٤٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {رَبّنَا وَلاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} يقول: التشديد الذي شددته علـى من قبلنا من أهل الكتاب. ٥٢٤٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته، يعنـي مالكا، عن قوله: {وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا} قال: الإصر: الأمر الغلـيظ. فأما الأصر بفتـح الألف: فهو ما عطف الرجل علـى غيره من رحم أو قرابة، يقال: أصرتنـي رحم بـينـي وبـين فلان علـيه، بـمعنى: عطفتنـي علـيه، وما يأصرنـي علـيه: أي ما يعطفنـي علـيه، وبـينـي وبـينه أصر رحم يأصرنـي علـيه أصرا: يعنـي به: عاطفة رحم تعطفنـي علـيه. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَلاَ تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القـيام به لثقل حمله علـينا. وكذلك كانت جماعة أهل التأويـل يتأوّلونه.) ذكر من قال ذلك: ٥٢٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {رَبّنا ولا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} تشديد يشدّد به كما شدّد علـى من كان قبلكم. ٥٢٤٧ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله: {وَلا تُـحَمّلْنَا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: لا تـحملنا من الأعمال ما لا نطيق. ٥٢٤٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بهِ} لا تفترض علـينا من الدين ما لا طاقة لنا به، فنعجز عنه. ٥٢٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ} مسخ القردة والـخنازير. ٥٢٥٠ـ حدثنـي سلام بن سالـم الـخزاعي، قال: حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي، قال: حدثنا مـحمد بن شعيب بن سابور، عن سالـم بن شابور فـي قوله: {رَبّنا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: الغلـمة. ٥٢٥١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {رَبّنا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} من التغلـيظ والأغلال التـي كانت علـيهم من التـحريـم. (وإنـما قلنا: إن تأويـل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القـيام به علـى نـحو الذي قلنا فـي ذلك، لأنه عقـيب مسألة الـمؤمنـين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخْطَأُوا، وأن لا يحمل علـيهم إصرا كما حمله علـى الذين من قبلهم، فكان إلـحاق ذلك بـمعنى ما قبله من مسألتهم فـي الدين أولـى مـما خالف ذلك الـمعنى.) القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا}. وفـي هذا أيضا من قول اللّه عزّ وجلّ خبرا عن الـمؤمنـين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تـيسير فرائضه علـيهم بقوله: {وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} لأنهم عقبوا ذلك بقولهم: {وَاعْفُ عَنّا} مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم فـي بعض ما أمرهم به من فرائضه، فـيصفح لهم عنه، ولا يعاقبهم علـيه، وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه علـى أبدانهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٢٥٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاعْفُ عَنّا} قال: اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مـما أمرتنا به. وكذلك قوله: {وَاغْفِرْ لَنا} يعنـي: واستر علـينا زلة إن أتـيناها فـيـما بـيننا وبـينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها. وقد دللنا علـى معنى الـمغفرة فـيـما مضى قبل. ٥٢٥٣ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد {وَاغْفِرْ لَنا} إن انتهكنا شيئا مـما نهيتنا عنه. ( القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَارْحَمْنَا}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنـجينا بها من عقابك، فإنه لـيس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله، ولـيست أعمالنا منـجيتنا إن أنت لـم ترحمنا، فوفقنا لـما يرضيك عنا.) كما: ٥٢٥٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَارْحَمْنَا} قال: يقول: لا ننال العمل بـما أمرتنا به، ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك، قال: ولـم ينـج أحد إلا برحمتك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أنْتَ مَوْلاَنَا فَـانْصُرْنَا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ}. يعنـي بقوله جل ثناؤه: {أنْتَ مَوْلاَنَا} أنت ولـينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك ومطيعوك فـيـما أمرتنا ونهيتنا، فأنت ولـيّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك، فـانصرنا لأنا حزبك، علـى القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانـيتك، وعبدوا الاَلهة والأنداد دونك، وأطاعوا فـي معصيتك الشيطان. والـمولـى فـي هذا الـموضع الـمفعل من وَلَـى فلان أمر فلان فهو يـلـيه ولاية، وهو ولـيه ومولاه، وإنـما صارت الـياء من ولـى ألفـا لانفتاح اللام قبلها التـي هي عين الاسم. وقد ذكر أن اللّه عزّ وجلّ لـما أنزل هذه الآية علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، استـجاب اللّه له فـي ذلك كله. ذكر الأخبـار التـي جاءت بذلك: ٥٢٥٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم ومـحمد بن خـلف قالا: حدثنا آدم، قال: حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : قال لـما نزلت هذه الآية: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} قال: قرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلـما انتهى إلـى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبّنَا} قال اللّه عز وجل: (قد غفرت لكم)، فلـما قرأ: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال اللّه عز وجل: (لا أحملكم) فلـما قرأ: {وَاغْفِرْ لَنا} قال اللّه تبـارك وتعالـى: (قد غفرت لكم)، فلـما قرأ: {وَارْحَمْنا} قال اللّه عز وجل: (قد رحمتكم)، فلـما قرأ: {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال اللّه عز وجل: (قد نصرتكم علـيهم). ٥٢٥٦ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: أتـى جبريـل النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا مـحمد قل: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأْنا} فقالها، فقال جبريـل: قد فعل، وقال له جبريـل: قل {رَبّنَا لاَ تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} فقالها، فقال جبريـل: قد فعل، فقال: قل {رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}، فقالها: فقال جبريـل صلى اللّه عليه وسلم: قد فعل، فقال: قل {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا عَلـى القَوْمِ الكافِرِينَ}. فقالها، فقال جبريـل: قد فعل. ٥٢٥٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت: {رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا} فقال له جبريـل: فعل ذلك يا مـحمد، {رَبّنَا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبّنَا وَلا تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} فقال له جبريـل فـي كل ذلك: فعل ذلك يا مـحمد. ٥٢٥٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن آدم بن سلـيـمان مولـى خالد، قال: سمعت سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: أنزل اللّه عز وجل: {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} إلـى قوله: {رَبّنَا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا}، فقرأ: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال: فقال: قد فعلت، {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} فقال: قد فعلت، {رَبّنا وَلاَ تُـحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} قال: قد فعلت، {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَـانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: قد فعلت. ٥٢٥٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن سلـيـمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: أنزل اللّه عز وجل: {رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال أبـي: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قالَ اللّه عَزّ وَجَلّ نَعَمْ). ٥٢٦٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو حميد، عن سفـيان، عن آدم بن سلـيـمان، عن سعيد بن جبـير: {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَـيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال: ويقول قد فعلت، {رَبّنا وَلا تَـحْمِل عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} قال: ويقول قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتـيـم سورة البقرة، ولـم تعطها الأمـم قبلها. ٥٢٦١ـ حدثنا علـي بن حرب الـموصلـي، قال: حدثنا ابن فضيـل، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه عز وجل {آمَنَ الرّسُولُ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْهِ مِنْ رَبّهِ} إلـى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبنا} قال: قد غفرت لكم، {لا يُكَلّفُ اللّه نَفْسا إلاّ وُسْعَها} إلـى قوله: {لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال: لا أؤاخذكم، {رَبّنا وَلا تَـحْمِلْ عَلَـيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ علـى الّذِينَ مِنْ قَبْلَنا} قال: لا أحمل علـيكم، إلـى قوله: {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا} إلـى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرتكم علـى القوم الكافرين. وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة اللّه للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم خاصة. ٥٢٦٢ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} كان جبريـل علـيه السلام يقول له سلها، فسألها نبـيّ اللّه ربه جل ثناءه، فأعطاه إياها، فكانت للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم خاصة. ٥٢٦٣ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق: أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة: {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: آمين. |
﴿ ٠ ﴾