٧

القول فـي تأويـل جل ثناؤه:{خَتَمَ اللّه عَلَىَ قُلُوبِهمْ وَعَلَىَ سَمْعِهِمْ وَعَلَىَ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }.

وقوله: وَعلـى أبْصَارِهمْ غشِاوَة خبر مبتدأ بعد تـمام الـخبر عما ختـم اللّه جل ثناؤه علـيه من جوارح الكفـار الذين مضت قصصهم، وذلك أن غِشاوَة مرفوعة بقوله: وَعلـى أبْصَارِهمْ فذلك دلـيـل علـى أنه خبر مبتدأ، وأن قوله: خَتـمَ اللّه علـى قُلُوبِهمْ قد تناهى عند قوله: وَعلـى سَمْعِهمْ. وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لـمعنـيـين،

أحدهما: اتفـاق الـحجة من القراء والعلـماء علـى الشهادة بتصحيحها، وانفراد الـمخالف لهم فـي ذلك وشذوذه عما هم علـى تـخطئته مـجمعون وكفـى بإجماع الـحجة علـى تـخطئة قراءته شاهدا علـى خطئها. والثانـي: أن الـختـم غير موصوفة به العيون فـي شيء من كتاب اللّه ، ولا فـي خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا موجود فـي لغة أحد من العرب. وقد قال تبـارك وتعالـى فـي سورة أخرى: وَختَـمَ علـى سَمْعهِ وَقَلْبِهِ ثم قال: وَجَعَلَ علـى بَصَرِه غِشاوَة فلـم يدخـل البصر فـي معنى الـختـم، وذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب. فلـم يجز لنا ولا لأحد من الناس القراءة بنصب الغشاوة لـما وصفت من العلتـين اللتـين ذكرت، وإن كان لنصبها مخرج معروف فـي العربـية. وبـما قلنا فـي ذلك من القول والتأويـل، رُوى الـحَبر عن ابن عبـاس .

١٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي الـحسين بن الـحسن، عن أبـيه، عن جده، عن ابن عبـاس : ختـم اللّه علـى قلوبهم وعلـى سمعهم والغشاوة علـى أبصارهم.

فإن قال قائل: وما وجه مخرج النصب فـيها؟

قـيـل له: إن نصبها بإضمار (جعل) كأنه قال: وجعل علـى أبصارهم غشاوة ثم أسقط (جعل) إذ كان فـي أول الكلام ما يدل علـيه. وقد يحتـمل نصبها علـى إتبـاعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبـا، وإن لـم يكن حسنا إعادة العامل فـيه علـى (غشاوة) ولكن علـى إتبـاع الكلام بعضه بعضا، كما قال تعالـى ذكره: يَطُوفُ عَلَـيْهمْ وُلْدَان مُخَـلّدُونَ بأكْوَابٍ وأبـارِيقَ ثم قال: وَفَـاكهَة مِـمّا يَتَـخَيّرُونَ وَلَـحْمِ طَيْرٍ مِـمّا يَشْتَهُونَ وحُورٍ عينٍ فخفض اللـحم والـحور علـى العطف به علـى الفـاكهة إتبـاعا لاَخر الكلام أوله. ومعلوم أن اللـحم لا يطاف به ولا بـالـحور، ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه:

عَلَفْتُها تِبْنا وَماءً بـارِداحَتّـى شَتَتْ هَمّالَةً عَيْناها

ومعلوم أن الـماء يشرب ولا يعلف به، ولكنه نصب ذلك علـى ما وصفت قبل. وكما قال الاَخر:

وَرَأيْتُ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدَا سَيْفـا وَرُمْـحَا

وكان ابن جريج يقول فـي انتهاء الـخبر عن الـختـم إلـى قوله: وَعلـى سَمْعِهِمْ وابتداء الـخبر بعده بـمثل الذي قلنا فـيه، ويتأول فـيه من كتاب اللّه : فإنْ يَشأ اللّه يَخْتِـم علـى قَلْبِكَ.

١٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: الـختـم علـى القلب والسمع، والغشاوة علـى البصر، قال اللّه تعالـى ذكره: فإنْ يَشأ اللّه يَخْتِـمْ علـى قَلْبِكَ وقال: وخَتـمَ علـى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ علـى بَصَرِهِ غِشاوَةً والغشاوة فـي كلام العرب: الغطاء، ومنه قول الـحارث بن خالد بن العاص:

تَبِعْتُكَ إذْ عَيْنِـي عَلَـيْها غِشاوَةٌفَلـمّا انْـجَلَتْ قَطّعْتُ نَفْسِي ألُومُها

ومنه يقال: تغشاه الهم: إذا تـجللّه وركبه. ومنه قول نابغة بنـي ذبـيان:

هَلا سألْتِ بَنِـي ذُبْـيانَ ما حَسَبـيإذَا الدّخانُ تَغَشّى الأشمَطَ البَرِمَا

يعنـي بذلك: إذا تـجللّه وخالطه.

وإنـما أخبر اللّه تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبـار الـيهود، أنه قد ختـم علـى قلوبهم وطبع علـيها فلا يعقلون للّه تبـارك وتعالـى موعظة وعظهم بها فـيـما آتاهم من علـم ما عندهم من كتبه، وفـيـما حدّد فـي كتابه الذي أوحاه وأنزله إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وعلـى سمعهم فلا يسمعون من مـحمد صلى اللّه عليه وسلم نبـيّ اللّه تـحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها علـيهم بنبوّته، فـيتذكروا ويحذروا عقاب اللّه عز وجل فـي تكذيبهم إياه، مع علـمهم بصدقه وصحة أمره وأعلـمه مع ذلك أن علـى أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبـيـل الهدى فـيعلـموا قبح ما هم علـيه من الضلالة والردي.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك رُوي الـخبر عن جماعة من أهل التأويـل.

١٣٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : خَتـمَ اللّه علـى قُلُوبِهِمْ وَعلـى سَمْعهِمْ وَعلـى أبْصَارِهِمْ غِشاوَة أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الـحقّ الذي جاءك من ربك، حتـى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك.

١٣٦ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: خَتَـم اللّه علـى قُلُوبِهِمْ وَعلـى سَمْعِهِمْ يقول فلا يعقلون، ولا يسمعون. و

يقول: وجعل علـى أبصارهم غشاوة،

يقول: علـى أعينهم فلا يبصرون.

وأما آخرون فإنهم كانوا يتأوّلون أن الذين أخبر اللّه عنهم من الكفـار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.

١٣٧ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: هاتان الاَيتان إلـي: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ هم: الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَةَ اللّه كُفْرا وأحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَار وهم الذين قتلوا يوم بدر فلـم يدخـل من القادة أحد فـي الإسلام إلا رجلان: أبو سفـيان بن حرب، والـحكم بن أبـي العاص.

١٣٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن الـحسن، قال: أما القادة فلـيس فـيهم مـجيب، ولا ناج، ولا مهتد، وقد دللنا فـيـما مضى علـى أولـى هذين التأويـلـين بـالصواب كرهنا إعادته.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ.

وتأويـل ذلك عندي كما قاله ابن عبـاس وتأوّله.

١٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : ولهم بـما هم علـيه من خلافك عذاب عظيـم، قال: فهذا فـي الأحبـار من يهود فـيـما كذّبوك به من الـحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم.

﴿ ٧