٨القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّه وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قال أبو جعفر: أما قوله: وَمِنَ النّاسِ فإن فـي الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه، وإنـما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الاَخر: أن يكون أصله (أُناس) أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخـلتها الألف واللام الـمعرّفتان، فأدغمت اللام التـي دخـلت مع الألف فـيها للتعريف فـي النون، كما قـيـل فـي: لكنّ هُوَ اللّه رَبـي علـى ما قد بـينا فـي اسم اللّه الذي هو اللّه . وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس، وأن الأصل لو كان أناس لقـيـل فـي التصغير: أُنَـيْس، فردّ إلـى أصله. وأجمع جميع أهل التأويـل علـى أن هذه الآية نزلت فـي قوم من أهل النفـاق، وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويـل بأسمائهم: ١٤٠ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنـينَ يعنـي الـمنافقـين من الأوس والـخزرج، ومن كان علـى أمرهم. وقد سُمّي فـي حديث ابن عبـاس هذا أسماؤهم عن أبـيّ بن كعب، غير أنـي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم. ١٤١ـ حدثنا الـحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُم بِـمُؤْمِنِـينَ حتـى بلغ: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ قال: هذه فـي الـمنافقـين. ١٤٢ـ حدثنا مـحمد بن عمرو البـاهلـي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هذه الآية إلـى ثلاث عشرة فـي نعت الـمنافقـين. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله. حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد مثله. ١٤٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرّة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِـمؤْمِنِـينَ هم الـمنافقون. ١٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس في قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخِرِ إلـى: فَزَادَهُمُ اللّه مَرضا وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِـيـمٌ قال: هؤلاء أهل النفـاق. ١٤٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج في قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ قال: هذا الـمنافق يخالف قوله فعلَه وسرّه علانـيَته ومدخـلُه مخرجَه ومشهدُه مغيَبه. وتأويـل ذلك أن اللّه جل ثناؤه لـمّا جمع لرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أمره فـي دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر اللّه بها كلـمته، وفشا فـي دور أهلها الإسلام، وقهر بها الـمسلـمون من فـيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذلّ بها من فـيها من أهل الكتاب أظهر أحبـار يهودها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم، هداهم اللّه للإسلام فأسلـموا، كما قال اللّه جل ثناؤه: وَدّ كَثِـيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيـمانِكُمْ كُفّـارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَـيّنَ لَهُمْ الـحَقّ وطابقهم سرّا علـى معاداة النبـي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذي آووا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا فـي شركهم وجاهلـيتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويـل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم. وظاهروهم علـى ذلك فـي خفـاء غير جهار حذار القتل علـى أنفسهم والسبـاء من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وركونا إلـى الـيهود، لـما هم علـيه من الشرك وسوء البصيرة بـالإسلام. فكانوا إذا لقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهل الإيـمان به من أصحابه، قالوا لهم حذارا علـى أنفسهم: إنا مؤمنون بـاللّه وبرسوله وبـالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلـمة الـحق لـيدرءوا عن أنفسهم حكم اللّه فـيـمن اعتقد ما هم علـيه مقـيـمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم، وإذا لقوا إخوانهم من الـيهود وأهل الشرك والتكذيب بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به فخـلوا بهم، قالوا: إنّا مَعَكُمْ إنّـمَا نَـحْنُ مُسْتَهْزِءونَ فإياهم عنى جل ذكره بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يعنـي بقوله تعالى خبرا عنهم (آمّنا بـاللّه ): صدقنا بـاللّه . وقد دللنا علـى أن معنى التصديق فـيـما مضى قبل من كتابنا هذاوقوله: وَبـالـيَوْمِ الاَخرِ يعنـي بـالبعث يوم القـيامة. وإنـما سُمِي يوم القـيامة الـيوم الاَخر: لأنه آخر يوم، لا يوم بعده سواه. وهذه الآية من أوضح الأدلة علـى فساد قول الـمنكرين تكلـيف ما لا يطاق إلا بـمعونة اللّه لأن اللّه جل ثناؤه أخبر أنه ختـم علـى قلوب صنف من كفـار عبـاده وأسماعهم، ثم لـم يسقط التكلـيف عنهم ولـم يضع عن أحد منهم فرائضه ولـم يعذره فـي شيء مـما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الـختـم والطبع علـى قلبه وسمعه، بل أخبر أن لـجميعهم منه عذابـا عظيـما علـى تركهم طاعته فـيـما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتـمه القضاء مع ذلك بأنهم لا يؤمنون. فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للاَخرة، ولا فناء، ولا زوال؟. قـيـل: إن الـيوم عند العرب إنـما سمي يوما بلـيـلته التـي قبله، فإذا لـم يتقدم النهار لـيـل لـم يسمّ يوما، فـيوم القـيامة يوم لا لـيـل له بعده سوى اللـيـلة التـي قامت فـي صبـيحتها القـيامة، فذلك الـيوم هو آخر الأيام، ولذلك سماه اللّه جل ثناؤه: الـيَوْم الاَخر، ونعته بـالعقـيـم، ووصفه بأنه يوم عقـيـم لأنه لا لـيـل بعده. وأما تأويـل قوله:: وَما هُمْ بِـمُؤْمنـينَ ونفـيه عنهم جل ذكره اسم الإيـمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا بـاللّه وبـالـيوم الاَخر فإن ذلك من اللّه جل وعز تكذيب لهم فـيـما أخبروا عن اعتقادهم من الإيـمان والإقرار بـالبعث، وإعلام منه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما فـي ضمائر قلوبهم، وضد ما فـي عزائم نفوسهم. وفـي هذه الآية دلالة واضحة علـى بطول ما زعمته الـجهمية من أن الإيـمان هو التصديق بـالقول دون سائر الـمعانـي غيره. وقد أخبر اللّه جل ثناؤه عن الذين ذكرهم فـي كتابه من أهل النفـاق أنهم بألسنتهم: آمَنّا بـاللّه وَبـالْـيَوْمِ الاَخرِ ثم نفـى عنهم أن يكونوا مؤمنـين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قـيـلهم ذلكوقوله: وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ يعنـي بـمصدقـين فـيـما يزعمون أنهم به مصدقون. |
﴿ ٨ ﴾