١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بـالهدى، وإنـما كانوا منافقـين لـم يتقدم نفـاقهم إيـمان فـيقال فـيهم بـاعوا هداهم الذي كانوا علـيه بضلالتهم حتـى استبدلوها منه؟ وقد علـمت أن معنى الشراء الـمفهوم اعتـياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه، والـمنافقون الذين وصفهم اللّه بهذه الصفة لـم يكونوا قط علـى هدى فـيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفـاقا؟

قـيـل: قد اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فـيه، ثم نبـين الصحيح من التأويـل فـي ذلك إن شاء اللّه .

١٩٩ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى أي الكفر بـالإيـمان.

٢٠٠ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.

٢٠١ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى: استـحبّوا الضلالة علـى الهدى.

٢٠٢ـ وحدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد في قوله: أولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بـالهُدَى آمنوا ثم كفروا.

وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا فـي تأويـل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلـى أنه أخذ الـمشتري مكان الثمن الـمشترى به،

فقالوا: كذلك الـمنافق والكافر قد أخذا مكان الإيـمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التـي أخذاها.

وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: (اشتروا): (استـحبوا)، فإنهم لـما وجدوا اللّه جل ثناؤه قد وصف الكفـار فـي موضع آخر فنسبهم إلـى استـحبـابهم الكفر علـى الهدى،

فقال: وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهمْ فـاسْتَـحَبّوا العَمَى علـى الهُدَى صرفوا قوله: اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى إلـى ذلك و

قالوا: قد تدخـل البـاء مكان (علـى)، و(علـى) مكان البـاء، كما يقال: مررت بفلان ومررت علـى فلان بـمعنى واحد، وكقول اللّه جل ثناؤه: وَمنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤدّهِ إلَـيْكَ أي: علـى قنطار. فكان تأويـل الآية علـى معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة علـى الهدى. وأراهم وجهوا معنى قول اللّه جل ثناؤه: اشْتَروا إلـى معنى (اختاروا)، لأن العرب تقول: اشتريت كذا علـى كذا، و(استريته) يعنون اخترته علـيه. ومن الاشتراء قول أعشى بنـي ثعلبة:

فقَدْ أُخْرِجُ الكاعبَ الـمُشْتَراةَ مِنْ خِدْرِها وأُشْيِعُ القِمَارا

يعنـي بـالـمشتراة: الـمختارة

وقال ذو الرمة فـي الاشتراء بـمعنى الاختـيار:

يَذُبّ القَصَايا عَنْ شَراةٍ كأنّهاجماهيرُ تـحتَ الـمُدْجِنَاتِ الهَوَاضِبِ

يعنـي بـالشّراة: الـمختارة

وقال آخر فـي مثل ذلك:

إنّ الشّرَاةَ رُوقَةُ الأمْوَالِوحَزْرَةُ القَلْبِ خِيارُ الـمَالِ

قال أبو جعفر: وهذا وإن كان وجها من التأويـل فلست له بـمختار، لأن اللّه جل ثناؤه قال فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ فدل بذلك علـى أن معنى قوله أولَئِكَ الّذِينَ اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض علـى عوض.

وأما الذين

قالوا: إن القوم كانوا مؤمنـين وكفروا، فإنه لا مؤنة علـيهم لو كان الأمر علـى ما وصفوا به القوم لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيـمان، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى. وذلك هو الـمعنى الـمفهوم من معانـي الشراء والبـيع، ولكن دلائل أول الاَيات فـي نعوتهم إلـى آخرها دالة علـى أن القوم لـم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيـمان ولا دخـلوا فـي ملة الإسلام، أوَ ما تسمع اللّه جل ثناؤه من لدن ابتدأ فـي نعتهم إلـى أن أتـى علـى صفتهم إنـما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـما جاء به، خداعا للّه ولرسوله وللـمؤمنـين عند أنفسهم واستهزاءً فـي نفوسهم بـالـمؤمنـين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون، لقول اللّه جل جلاله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بـاللّه وَبـالـيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِـمُؤْمِنِـينَ} ثم اقتصّ قصصهم إلـى قوله: أوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوا الضّلالَةَ بـالهُدَى فأين الدلالة علـى أنهم كانوا مؤمنـين فكفروا؟.

فإن كان قائل هذه الـمقالة ظنّ أن قوله: أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتروا الضّلالَةَ بـالهُدَى هو الدلـيـل علـى أن القوم قد كانوا علـى الإيـمان فـانتقلوا عنه إلـى الكفر، فلذلك قـيـل لهم: اشتروا فإن ذلك تأويـل غير مسلـم له، إذ كان الاشتراء عند مخالفـيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره، وقد يكون بـمعنى الاختـيار وبغير ذلك من الـمعانـي. والكلـمة إذا احتـملت وجوها لـم يكن لأحد صرف معناها إلـى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسلـيـم لها.

قال أبو جعفر: والذي هو أولـى عندي بتأويـل الآية ما روينا عن ابن عبـاس وابن مسعود من تأويـلهما قوله: اشْتَروا الضّلالَةَ بـالهُدَى أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بـاللّه فإنه مستبدل بـالإيـمان كفرا بـاكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلاً من الإيـمان الذي أمر به. أَوَ ما تسمع اللّه جل ثناؤه يقول فـيـمن اكتسب كفرا به مكان الإيـمان به وبرسوله: وَمَنْ يَتَبَدّلِ الكُفْرَ بـالإيـمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِـيـلِ وذلك هو معنى الشراء، لأن كل مشترٍ شيئا فإنـما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلاً منه، فكذلك الـمنافق والكافر استبدلا بـالهدى الضلالة والنفـاق، فأضلهما اللّه وسلبهما نور الهدى فترك جميعَهم فـي ظلـمات لا يبصرون.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَمَا رَبحَتْ تِـجارَتُهُمْ.

قال أبو جعفر: وتأويـل ذلك أن الـمنافقـين بشرائهم الضلالة بـالهدى خسروا ولـم يربحوا، لأن الرابح من التـجار الـمستبدل من سلعته الـمـملوكة علـيه بدلاً هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما الـمستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الـخاسر فـي تـجارته لا شك. فكذلك الكافر والـمنافق لأنهما اختارا الـحيرة والعمى علـى الرشاد والهدى والـخوف والرعب علـى الـحفظ والأمن، فـاستبدلا فـي العاجل بـالرشاد الـحيرة، وبـالهدى الضلالة، وبـالـحفظ الـخوف، وبـالأمن الرعب مع ما قد أعدّ لهما فـي الاَجل من ألـيـم العقاب وشديد العذاب، فخابـا وخسرا، ذلك هو الـخسران الـمبـين.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان قتادة يقول.

٢٠٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قد واللّه رأيتـموهم خرجوا من الهدى إلـى الضلالة، ومن الـجماعة إلـى الفرقة، ومن الأمن إلـى الـخوف، ومن السنة إلـى البدعة.

قال أبو جعفر:

فإن قال قائل: فما وجه قوله: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ وهل التـجارة مـما تربح أو تنقص فـيقال ربحت أو وُضِعَتْ؟

قـيـل: إن وجه ذلك علـى غير ما ظننت وإنـما معنى ذلك: فما ربحوا فـي تـجارتهم لا فـيـما اشتروا ولا فـيـما شروا. ولكن اللّه جل ثناؤه خاطب بكتابه عربـا فسلك فـي خطابه إياهم وبـيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبـيانهم الـمستعمل بـينهم. فلـما كان فصيحا لديهم قول القائل لاَخر: خاب سعيك، ونام لـيـلك، وخسر بـيعك، ونـحو ذلك من الكلام الذي لا يخفـى علـى سامعه ما يريد قائله خاطبهم بـالذي هو فـي منطقهم من الكلام فقال: فَمَا رَبِحَتْ تِـجارَتُهُمْ إذ كان معقولاً عندهم أن الربح إنـما هو فـي التـجارة كما النوم فـي اللـيـل، فـاكتفـى بفهم الـمخاطبـين بـمعنى ذلك عن أن يقال: فما ربحوا فـي تـجارتهم، وإن كان ذلك معناه، كما قال الشاعر:

وَشَرّ الـمَنايا مَيّتٌ وَسْطَ أهْلِهِكهُلْكِ الفَتاةِ أسْلَـم الـحَيّ حاضِرُهْ

يعنـي بذلك: وشرّ الـمنايا منـية ميت وسط أهله فـاكتفـى بفهم سامع قـيـله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره. وكما قال رؤبة بن العجاج:

حارِثُ قَدْ فَرّجْتَ عَنـي هَمّيفَنامَ لَـيْـلِـي وَتَـجَلّـى غَمّي

فوصف بـالنوم اللـيـل، ومعناه أنه هو الذي نام. وكما قال جرير بن الـخَطَفَـي:

وأعْوَرَ مِن نَبَهانَ أما نَهارُهُفأعْمَى وأمّا لَـيْـلُهُ فَبَصِيرُ

فأضاف العمى والإبصار إلـى اللـيـل والنهار، ومراده وصف النبهانـي بذلك.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِين.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ما كانوا رشداء فـي اختـيارهم الضلالة علـى الهدى، واستبدالهم الكفر بـالإيـمان، واشترائهم النفـاق بـالتصديق والإقرار.

﴿ ١٦