٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }

قال أبو جعفر: أما تأويـل قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ فقـيـل إنه أخذ وقبل، وأصله التفعل من اللقاء كما يتلقـى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر، فكذلك ذلك في قوله: فَتَلَقّـى كأنه استقبله فتلقاه بـالقبول، حين أوحى إلـيه، أو أخبر به. فمعنى ذلك إذا: فلقّـى اللّه آدمَ كلـمات توبة فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبـا فتاب اللّه علـيه بقـيـله إياها وقبوله إياها من ربه. كما:

٥٢٦ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ الآية، قال: لقاهما هذه الآية: ربنا ظلـمنا أنفسنا وإن لـم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الـخاسرين.

وقد قرأ بعضهم: (فَتَلَقّـى آدَمَ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٌ) فجعل الكلـمات هي الـمتلقـية آدم. وذلك وإن كان من وجهة العربـية جائزا إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق وما لقـيه فقد لقـيه، فصار للـمتكلـم أن يوجه الفعْل إلـى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب، فغير جائز عندي فـي القراءة إلا رفع (آدم) علـى أنه الـمتلقـي الكلـمات لإجماع الـحجة من القراء وأهل التأويـل من علـماء السلف والـخـلف علـى توجيه التلقـي إلـى آدم دون الكلـمات، وغير جائز الاعتراض علـيها فـيـما كانت علـيه مـجمعة بقول من يجوز علـيه السهو والـخطأ.

واختلف أهل التأويـل فـي أعيان الكلـمات التـي تلقاها آدم من ربه، فقال بعضهم بـما:

٥٢٧ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قـيس، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ فَتابَ عَلَـيْهِ قال: أي ربّ ألـم تـخـلقنـي بـيدك؟ قال: بلـى، قال: أي ربّ ألـم تنفخ فـيّ من روحك؟ قال: بلـى، قال: أي ربّ ألـم تسكنـي جنتك؟ قال: بلـى، أي ربّ ألـم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلـى، قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت أراجعي أنت إلـى الـجنة؟ قال: نعم

قال: فهوقوله: فَتَلَقّـى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ.

وحدثنـي علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا مـحمد بن مصعب، عن قـيس بن الربـيع، عن عاصم بن كلـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس نـحوه.

٥٢٨ـ وحدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلـماتٍ فَتابَ عَلَـيْهِ قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت؟ فقال له ربه: إنـي راجعك إلـى الـجنة.

٥٢٩ـ وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ منْ رَبّهِ كَلِـماتٍ ذكر لنا أنه قال: يا ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلـحت؟ قال: إنـي إذا راجعك إلـى الـجنة

قال: وقال الـحسن إنهما قالا: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ.

٥٣٠ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلـماتٍ قال: إن آدم لـما أصاب الـخطيئة، قال: يا ربّ أرأيت إن تبت وأصلـحت؟ فقال اللّه : إذا أرجعك إلـى الـجنة. فهي من الكلـمات. ومن الكلـمات أيضا: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخَاسِرِينَ.

٥٣١ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: ربّ ألـم تـخـلقنـي بـيدك؟

قـيـل له: بلـى، قال: ونفخت فـيّ من روحك؟

قـيـل له: بلـى، قال: وسبقت رحمتك غصبك؟

قـيـل له: بلـى، قال: ربّ هل كنت كتبت هذا علـيّ؟

قـيـل له: نعم، قال: ربّ إن تبت وأصلـحت هل أنت راجعي إلـى الـجنة؟

قـيـل له: نعم. قال اللّه تعالـى: ثُمّ اجْتَبـاهُ رَبهُ فَتابَ عَلَـيْهِ وَهَدَى.

وقال آخرون بـما:

٥٣٢ـ حدثنا به مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، قال: حدثنـي من سمع عبـيد بن عمير،

يقول: قال آدم: يا ربّ خطيئتـي التـي أخطأتها أشيء كتبته علـيّ قبل أن تـخـلقنـي، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بلـى شيء كتبته علـيك قبل أن أخـلقك

قال: فكما كتبته علـيّ فـاغفره لـي قال: فهو قول اللّه : فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كلِـماتٍ.

وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، قال: أخبرنـي من سمع عبـيد بن عمير بـمثله.

وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الـجرّاح، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، عمن سمع عبـيد بن عمير

يقول: قال آدم، فذكر نـحوه.

وحدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن عبد العزيز بن رفـيع، قال: أخبرنـي من سمع عبـيد اللّه بن عمير بنـحوه.

وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد العزيز، عن عبـيد بن عمير بـمثله.

وقال آخرون بـما:

٥٣٣ـ حدثنـي به أحمد بن عثمان بن حكيـم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أنه قال: قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ فَتاب عَلَـيْهِ قال آدم: اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إلـيك، تب علـيّ إنك أنت التوّاب الرحيـم.

٥٣٤ـ وحدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير، وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان وقـيس جميعا عن خصيف، عن مـجاهد في قوله: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال قوله: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسنَا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا حتـى فرغ منها.

٥٣٥ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنـي شبل، عن ابن نـجيح، عن مـجاهد، كان يقول في قول اللّه : فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ الكلـمات: اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنـي ظلـمت نفسي فـاغفر لـي إنك خير الغافرين. اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربـي إنـي ظلـمت نفسي فـارحمنـي إنك خير الراحمين. اللّه مّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إنـي ظلـمت نفسي فتب علـيّ إنك أنت التوّاب الرحيـم.

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن النضر بن عربـي، عن مـجاهد: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: هوقوله: ربنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لـمْ تَغفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا الآية.

٥٣٦ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: فَتَلَقّـى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: أي ربّ أتتوب علـيّ إن تبت؟ قال: نعم فتاب آدم، فتاب علـيه ربه.

٥٣٧ـ وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَتَلَقّـى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِـماتٍ قال: هوقوله: ربّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وإن لـمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخَاسِرِينَ.

٥٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هوقوله: رَبّنا ظَلَـمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الـخاسِرِينَ.

وهذه الأقوال التـي حكيناها عمن حكيناها عنه وإن كانت مختلفة الألفـاظ، فإن معانـيها متفقة فـي أن اللّه جل ثناؤه لقّـى آدم كلـمات، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن وتاب بقـيـله إياهن وعمله بهن إلـى اللّه من خطيئته، معترفـا بذنبه، متنصلاً إلـى ربه من خطيئته، نادما علـى ما سلف منه من خلاف أمره. فتاب اللّه علـيه بقبوله الكلـمات التـي تلقاهن منه وندمه علـى سالف الذنب منه.

والذي يدلّ علـيه كتاب اللّه أن الكلـمات التـي تلقاهن آدم من ربه هنّ الكلـمات التـي أخبر اللّه عنه أنه قالها متنصلاً بقـيـلها إلـى ربه معترفـا بذنبه، وهوقوله: رَبّنا ظَلَـمْنَا أَنْفُسَنا وَإنْ لَـمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكونَن مِنَ الـخَاسِرِينَ ولـيس ما قاله من خالف قولنا هذا من الأقوال التـي حكيناها بـمدفوع قوله، ولكنه قول لا شاهد علـيه من حجة يجب التسلـيـم لها فـيجوز لنا إضافته إلـى آدم، وأنه مـما تلقاه من ربه عند إنابته إلـيه من ذنبه.

وهذا الـخبر الذي أخبر اللّه عن آدم من قـيـله الذي لقاه إياه فقاله تائبـا إلـيه من خطيئته، تعريف منه جل ذكره جميع الـمخاطبـين بكتابه كيفـية التوبة إلـيه من الذنوب، وتنبـيه للـمخاطبـين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرونَ بـاللّه وكُنْتُـمْ أَمْوَاتا فأحْياكُمْ علـى موضع التوبة مـما هم علـيه من الكفر بـاللّه ، وأن خلاصهم مـما هم علـيه مقـيـمون من الضلالة نظير خلاص أبـيهم آدم من خطيئته مع تذكيره إياهم من السالف إلـيهم من النعم التـي خصّ بها أبـاهم آدم وغيره من آبـائهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَتابَ عَلَـيْهِ.

قال أبو جعفر:

وقوله: فَتابَ عَلَـيْهِ يعنـي علـى آدم، والهاء التـي فـي (علـيه) عائدة علـى (آدم)

وقوله: فَتابَ عَلَـيْهِ يعنـي رزقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلـى اللّه والأوبة إلـى طاعته مـما يكره من معصيته.

قال أبو جعفر

وتأويـل قوله: إنّهُ هُوَ التَوّابُ الرّحِيـمُ أن اللّه جل ثناؤه هو التواب علـى من تاب إلـيه من عبـاده الـمذنبـين من ذنوبه التارك مـجازاته بإنابته إلـى طاعته بعد معصيته بـما سلف من ذنبه.

وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلـى ربه: إنابته إلـى طاعته، وأوبته إلـى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الأمور التـي كان علـيها مقـيـما مـما يكرهه ربه، فكذلك توبة اللّه علـى عبده هو أن يرزقه ذلك، ويتوب من غضبه علـيه إلـى الرضا عنه، ومن العقوبة إلـى العفو والصفح عنه.

وأما قوله: الرّحِيـمُ فإنه يعنـي أنه الـمتفضل علـيه مع التوبة بـالرحمة، ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه.

﴿ ٣٧