٤٥القول فـي تأويـل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ: استعينوا علـى الوفـاء بعهدي الذي عاهدتـمونـي فـي كتابكم من طاعتـي واتبـاع أمري، وترك ما تهوونه من الرياسة وحبّ الدنـيا إلـى ما تكرهونه من التسلـيـم لأمري، واتبـاع رسولـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بـالصبر علـيه والصلاة. وقد قـيـل: إن معنى الصبر فـي هذا الـموضع: الصوم، والصومُ بعض معانـي الصبر عندنا. بل تأويـل ذلك عندنا: أن اللّه تعالـى ذكره أمرهم بـالصبر علـى ما كرهته نفوسهم من طاعة اللّه ، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس مـحابّها وكفّها عن هواها ولذلك قـيـل للصابر علـى الـمصيبة: صابر، لكفه نفسه عن الـجزع وقـيـل لشهر رمضان: شهر الصبر، لصبر صائمه عن الـمطاعم والـمشارب نهارا، وصبرُه إياهم عن ذلك: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما يصبر الرجل الـمسيء للقتل فتـحبسه علـيه حتـى تقتله. ولذلك قـيـل: قتل فلان فلانا صبرا، يعنـي به حبسه علـيه حتـى قتله، فـالـمقتول مصبور، والقاتل صابروأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فـيـما مضى. فإن قال لنا قائل: قد علـمنا معنى الأمر بـالاستعانة بـالصبر علـى الوفـاء بـالعهد والـمـحافظة علـى الطاعة، فما معنى الأمر بـالاستعانة بـالصلاة علـى طاعة اللّه ، وترك معاصيه، والتعرّي عن الرياسة، وترك الدنـيا؟ قـيـل: إن الصلاة فـيها تلاوة كتاب اللّه ، الداعية آياته إلـى رفض الدنـيا وهجر نعيـمها، الـمسلـية النفوس عن زينتها وغرورها، الـمذكرة الاَخرة وما أعدّ اللّه فـيها لأهلها. ففـي الاعتبـار بها الـمعونة لأهل طاعة اللّه علـى الـجدّ فـيها، كما رُوي عن نبـينا صلى اللّه عليه وسلم أنه كان إذا حَزَ به أمر فزع إلـى الصلاة. ٥٨٩ـ حدثنـي بذلك إسماعيـل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا الـحسين بن رتاق الهمدانـي، عن ابن جرير، عن عكرمة بن عمار، عن مـحمد بن عبـيد بن أبـي قدامة، عن عبد العزيز بن الـيـمان، عن حذيفة قال: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذا حز به أمر فزع إلـى الصلاة). وحدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا خـلف بن الولـيد الأزدي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار، عن مـحمد بن عبد اللّه الدولـي، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حَزَ به أمر صلـى). وكذلك رُوي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى أبـا هريرة منبطحا علـى بطنه فقال له: (اشكنب دَرْد)؟ قال: نعم، قال: (قُمْ فَصَلّ فَـانّ فِـي الصّلاَةِ شفـاءً). فأمر اللّه جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبـار بنـي إسرائيـل أن يجعلوا مفزعهم فـي الوفـاء بعهد اللّه الذي عاهدوه إلـى الاستعانة بـالصبر والصلاة كما أمر نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فقال له: فـاصْبرْ يا مـحمد علـى ما يَقُولُونَ وَسبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللّـيْـلِ فَسَبّحْ وأطْرَافَ النّهارِ لَعَلّك تَرْضَى فأمره جل ثناؤه فـي نوائبه بـالفزع إلـى الصبر والصلاة. ٥٩٠ـ وقد حدثنا مـحمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيـم قالا: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا عيـينة بن عبد الرحمن عن أبـيه: أن ابن عبـاس نعى إلـيه أخوه قثم وهو فـي سفر، فـاسترجع ثم تنـحى عن الطريق، فأناخ فصلـى ركعتـين أطال فـيهما الـجلوس، ثم قام يـمشي إلـى راحلته وهو يقول: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاة وإنّها لَكَبِـيرَةٌ إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ. وأما أبو العالـية فإنه كان يقول بـما: ٥٩١ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاةِ قال يقول: استعينوا بـالصبر والصلاة علـى مرضاة اللّه ، واعلـموا أنهما من طاعة اللّه . وقال ابن جريج بـما: ٥٩٢ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: وَاسْتَعِينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاَةِ قال: إنهما معونتان علـى رحمة اللّه . ٥٩٣ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَاسْتَعينُوا بـالصّبْرِ وَالصّلاَةِ الآية، قال: قال الـمشركون: واللّه يا مـحمد إنك لتدعونا إلـى أمر كبـير، قال: إلـى الصلاة والإيـمان بـاللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالى: وإنّها لَكَبِـيرَةٌ إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ. قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: وإنّها وإن الصلاة، فـالهاء والألف فـي (وإنها) عائدتان علـى (الصلاة). وقد قال بعضهم: إن قوله: وإنها بـمعنى: إن إجابة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولـم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكرٌ فتـجعل الهاء والألف كناية عنه، وغير جائز ترك الظاهر الـمفهوم من الكلام إلـى بـاطن لا دلالة علـى صحته. ويعنـي بقوله: لَكَبِـيرةٌ: لشديدة ثقـيـلة. كما: ٥٩٤ـ حدثنـي يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا ابن يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، في قوله: وإنها لَكَبِـيرَةٌ إلا علـى الـخاشِعِينَ قال: إنها لثقـيـلة. ويعنـي بقوله: إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ: إلا علـى الـخاضعين لطاعته، الـخائفـين سطواته، الـمصدّقـين بوعده ووعيده. كما: ٥٩٥ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ يعنـي الـمصدّقـين بـما أنزل اللّه . ٥٩٦ـ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ قال: يعنـي الـخائفـين. ٥٩٧ـ وحدثنـي مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد: إِلاّ علـى الـخاشِعِينَ قال: الـمؤمنـين حقّا. وحدثنـي الـمثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٥٩٨ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الـخشوع: الـخوف والـخشية للّه. وقرأ قول اللّه : خاشِعينَ منَ الذّلّ قال: قد أذلهم الـخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له. وأصل (الـخشوع): التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر: لَـمّا أتـى خَبَرُ الزّبَـيْرِ تَوَاضَعَتْسُورُ الـمَدِينَةِ وَالـجِبَـالُ الـخُشّعُ يعنـي والـجبـال خشع متذللة لعظم الـمصيبة بفقده. فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبـار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم علـى طاعة اللّه ، وكفها عن معاصي اللّه ، وبإقامة الصلاة الـمانعة من الفحشاء والـمنكر، الـمقرّ به من مراضي اللّه ، العظيـمة إقامتها إلا علـى الـمتواضعين للّه الـمستكينـين لطاعته الـمتذللـين من مخافته. |
﴿ ٤٥ ﴾