٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ نَرَى اللّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

وتأويـل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتـم: يا موسى لن نصدّقك ولن نقرّ بـما جئتنا به حتـى نرى اللّه جهرة عيانا، برفع الساتر بـيننا وبـينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه حتـى ننظر إلـيه بأبصارنا، كما تُـجهر الركِيّة، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنفـى ما قد غطاه حتـى ظهر الـماء وصَفَـا، يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهرا وجهرة ولذلك

قـيـل: قد جهر فلان بهذا الأمر مـجاهرة وجهارا: إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب:

من اللاّئي يَضِلّ الألفُ منْهُمِسَحّا مِنْ مَخافَتِهِ جِهارا

٦٧٣ـ وكما حدثنا به القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : حتـى نَرى اللّه جَهْرَةً قال: علانـية.

٦٧٤ـ وحدثت، عن عمارة بن الـحسن قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع: حتّـى نَرى اللّه جَهْرَةً

يقول: عيانا.

٦٧٥ـ وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حتّـى نَرَى اللّه جَهْرَةً: حتـى يطلع إلـينا.

٦٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: حتّـى نَرَى اللّه جَهْرَةً: أي عيانا.

فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبـائهم وسوء استقامة أسلافهم لأنبـيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات اللّه جل وعزّ وعِبَره ما تثلـج بأقلها الصدور، وتطمئنّ بـالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الـحجج علـيه، وسبوغ النعم من اللّه لديهم. وهم مع ذلك مرّة يسألون نبـيهم أن يجعل لهم إلها غير اللّه ومرة يعبدون العجل من دون اللّه ، ومرة يقولون لا نصدقك حتـى نرى اللّه جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلـى القتال: فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ومرة يقال لهم: قُولُوا حِطّة وادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَاياكُمْ فـيقولون: حنطة فـي شعيرة، ويدخـلون البـاب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التـي آذوا بها نبـيهم علـيه السلام التـي يكثر إحصاؤها. فأعلـم ربنا تبـارك وتعالـى ذكره الذين خاطبهم بهذه الاَيات من يهود بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا فـي تكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، وجحودهم نبوّته، وتركهم الإقرار به وبـما جاء به، مع علـمهم به ومعرفتهم بحقـيقة أمره كأسلافهم وآبـائهم الذين فصل علـيهم قصصهم فـي ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم علـى نبـيهم موسى صلوات اللّه وسلامه علـيه تارة بعد أخرى، مع عظيـم بلاء اللّه جل وعزّ عندهم وسبوغ آلائه علـيهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ.

اختلف أهل التأويـل فـي صفة الصاعقة التـي أخذتهم. فقال بعضهم بـما:

٦٧٧ـ حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فَأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: ماتوا.

٦٧٨ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ قال: سمعوا صوتا فصعقوا.

يقول: فماتوا.

وقال آخرون: بـما:

٦٧٩ـ حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فأخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ والصاعقة: نار.

وقال آخرون بـما:

٦٨٠ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وأصل الصاعقة: كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه حتـى يصير من هوله وعظيـم شأنه إلـى هلاك وعطب، وإلـى ذهاب عقل وغُمور فهم، أو فقد بعض آلات الـجسم، صوتا كان ذلك، أو نارا، أو زلزلة، أو رَجْفـا. ومـما يدل علـى أنه قد يكون مصعوقا وهو حيّ غير ميت، قول اللّه عز وجل: وَخَرّ مُوسَى صَعِقا يعنـي مغشيّا علـيه. ومنه قول جرير بن عطية:

وهَلْ كان الفَرَزْذَقُ غَيْرَ قِرْدٍأصَابَتْهُ الصّواعِقُ فـاسْتَدَارَا

فقد علـم أن موسى لـم يكن حين غشي علـيه وصعق ميتا لأن اللّه جل وعزّ أخبر عنه أنه لـما أفـاق قال: تُبْتُ إلـيك ولا شبه جرير الفرزدق وهو حيّ بـالقرد ميتا، ولكن معنى ذلك ما وصفنا.

ويعنـي بقوله: وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ: وأنتـم تنظرون إلـى الصاعقة التـي أصابتكم،

يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتـم تنظرون إلـيها.

﴿ ٥٥