٦١

تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ......}

٧٧٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أنبأنا ابن زيد، قال: كان طعام بنـي إسرائيـل فـي التـيه واحدا، وشرابهم واحدا، كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له الـمنّ، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لـم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره.

فقالوا: يا موسى إنا لن نصبر علـى طعام واحد، فـادع لنا ربك يخرج لنا مـما تنبت الأرض من بقلها فقرأ حتـى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.

وإنـما قال جل ذكره: يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ولـم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه لـيخرج لهم من الأرض، فـ

يقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مـما تنبته الأرض من بقلها وقثائها، لأن (من) تأتـي بـمعنى التبعيض لـما بعدها، فـاكْتُفـي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بـالكلام الذي هي فـيه كقول القائل: أصبح الـيوم عند فلان من الطعام يريد شيئا منه.

وقد قال بعضهم: (من) ههنا بـمعنى الإلغاء والإسقاط، كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد علـى ذلك بقول العرب: ما رأيت من أحد، بـمعنى: ما رأيت أحدا، وبقول اللّه : وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئَاتِكُمْ وبقولهم: قد كان من حديث، فخـلّ عنـي حتـى أذهب، يريدون: قد كان حديث.

وقد أنكر من أهل العربـية جماعة أن تكون (من) بـمعنى الإلغاء فـي شيء من الكلام، وادّعُوا أنّ دخولها فـي كل موضع دخـلت فـيه مؤذن أن الـمتكلـم مريد لبعض ما أدخـلت فـيه لا جميعه، وأنها لا تدخـل فـي موضع إلا لـمعنى مفهوم.

فتأويـل الكلام إذا علـى ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فـادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بـينهم من نبـات الأرض وحبهاوأما الفوم، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيه.

فقال بعضهم: هو الـحنطة والـخبز. ذكر من قال ذلك.

٧٧٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد ومؤمل، قالا: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، قال: الفوم: الـخبز.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومـجاهد قوله: وَفُومِها قالا: خبزها.

حدثنـي زكريا بن يحيى بن أبـي زائدة ومـحمد بن عمرو، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميـمون، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَفُومِها قال: الـخبز.

٧٧٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والـحسن: الفوم: هو الـحبّ الذي تـختبزه الناس.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن بـمثله.

٧٧٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك في قوله: وَفُومِها قال: الـحنطة.

٧٧٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر عن السدي: وَفُومِهَا الـحنطة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن وحصين، عن أبـي مالك في قوله: وَفُومِها: الـحنطة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم: الـحبّ الذي يختبز الناس منه.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لـي عطاء بن أبـي ربـاح قوله: وَفُومِها قال: خبزها. قالها مـجاهد.

٧٨٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال لـي ابن زيد: الفوم: الـخبز.

٧٨١ـ حدثنـي يحيى بن عثمان السهمي، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس في قوله: وَفُومِها

يقول: الـحنطة والـخبز.

حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وَفُومِها قال: هو البرّ بعينه الـحنطة.

حدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا مسلـم الـجرمي، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبـيه، عن ابن عبـاس في قول اللّه عز وجل: وَفُومِها قال: الفوم: الـحنطة بلسان بنـي هاشم.

٧٨٢ـ حدثنـي عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبـي نعيـم أن عبد اللّه بن عبـاس سئل عن قول اللّه : وَفُومِها قال: الـحنطة، أما سمعت قول أحيحة بن الـجلاح وهو

يقول:

قَدْ كُنْتُ أغْنَى النّاسِ شَخْصا وَاحداوَرَدَ الـمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ

وقال آخرون: هو الثوم. ذكر من قال ذلك:

٧٨٣ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: هو هذا الثوم.

٧٨٤ـ حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: الفوم: الثوم.

وهو فـي بعض القراءات (وثومها). وقد ذكر أن تسمية الـحنطة والـخبز جميعا فوما من اللغة القديـمة، حكي سماعا من أهل هذه اللغة: فوّموا لنا، بـمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد اللّه بن مسعود (وثومها) بـالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الـحروف الـمبدلة، كقولهم: وقعوا فـي عاثور شرّ وعافور شرّ، وكقولهم للأثافـي أثاثـي، وللـمغافـير مغاثـير، وما أشبه ذلك مـما تقلب الثاء فـاء والفـاء ثاء لتقارب مخرج الفـاء من مخرج الثاء. والـمغافـير شبـيه بـالشيء الـحلو يشبه بـالعسل ينزل من السماء حلوا يقع علـى الشجر ونـحوها.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ.

يعنـي بقوله: قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقـيـمة وقدرا من العيش، بدلاً بـالذي هو خير منه خطرا وقـيـمة وقدرا وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لاَخر غيره مكان الـمتروك. ومعنى قوله: أدْنى أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا، وأصله من قولهم: هذا رجل دنـيّ بـيّن الدناءة، وإنه لـيدنـي فـي الأمور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب فـي ذلك سماعا منهم، يقولون: ما كنت دنـيا ولقد دنأت. وأنشدنـي بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بنـي كلاب ينشد بـيت الأعشى:

بـاسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِـيـلُهابِـيضٌ إلـى دانِئها الظّاهرِ

بهمز الدانىء، وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانىء خبـيث، بـالهمز. فإن كان ذلك عنهم صحيحا، فـالهمز فـيه لغة وتركه أخرى.

ولا شكّ أن من استبدل بـالـمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بـالرفـيع منه.

وقد تأول بعضهم قوله: الّذي هُوَ أدْنَى بـمعنى الذي هو أقرب، ووجه قوله: أدنى إلـى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بـمعنى القرب. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: الّذِي هُوَ أدْنى قاله عدد من أهل التأويـل فـي تأويـله. ذكر من قال ذلك:

٧٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: أتَسْتَبْدِلُونَ الّذي هُوَ أدْنى بـالّذِي هُوَ خَيْرٌ

يقول: أتستبدلون الذي هو شرّ بـالذي هو خير منه؟.

٧٨٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: الّذِي هُوَ أدْنى قال: أردأ.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.

وتأويـل ذلك: فدعا موسى فـاستـجبنا له، فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من الـمـحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره علـى ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معنى الهبوط إلـى الـمكان إنـما هو النزول إلـيه والـحلول به.

فتأويـل الآية إذا: وَإذْ قُلْتُـمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ علـى طَعامٍ وَاحِدٍ فـادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِـمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بـالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فـاستـجاب اللّه له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال اللّه لهم: اهْبُطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.

ثم اختلف القرّاء فـي قراءة قوله: مِصْرا فقرأه عامة القرّاء: (مصرا) بتنوين الـمصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نوّنوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه، فتأويـله علـى قراءتهم: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم فـي البدو، والذي طلبتـم لا يكون فـي البوادي والفـيافـي، وإنـما يكون فـي القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتـموه ما سألتـم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بـالإجراء والتنوين، كان تأويـل الكلام عنده: اهبطوا مصرا البلدة التـي تعرف بهذا الاسم وهي (مصر) التـي خرجوا عنها، غير أنه أجراها ونوّنها اتبـاعا منه خط الـمصحف، لأن فـي الـمصحف ألفـا ثابتة فـي مصر، فـيكون سبـيـل قراءته ذلك بـالإجراء والتنوين سبـيـل من قرأ: قَوَارِيرا قَوَارِيرا مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتبـاعا منه خط الـمصحفوأما الذي لـم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التـي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك نظير اختلاف القرّاء فـي قراءته.

٧٨٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: اهْبِطُوا مِصْرا أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ.

٧٨٨ـ وحدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: اهْبُطُوا مِصْرا من الأمصار، فإنّ لَكُمْ ما سألْتُـمْ فلـما خرجوا من التـيه رفع الـمنّ والسلوى وأكلوا البقول.

وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنـي آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: اهْبُطُوا مِصْرا قال: يعنـي مصرا من الأمصار.

٧٨٩ـ وحدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: اهْبِطُوا مِصْرا قال: مصرا من الأمصار، زعموا أنهم لـم يرجعوا إلـى مصر.

٧٩٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: اهْبِطُوا مِصْرا قال: مصرا من الأمصار. ومصر لا تـجري فـي الكلام، فقـيـل: أي مصر؟ فقال: الأرض الـمقدسة التـي كتب اللّه لهم.

وقرأ قول اللّه جل ثناؤه: ادْخُـلُوا الأرْضَ الـمُقَدّسَةَ الّتِـي كَتَبَ اللّه لَكُمْ.

وقال آخرون: هي مصر التـي كان فـيها فرعون. ذكر من قال ذلك:

٧٩١ـ حدثنـي الـمثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: اهْبِطُوا مِصْرا قال: يعنـي به مصر فرعون.

٧٩٢ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

ومن حجة من قال: إن اللّه جل ثناؤه إنـما عنى بقوله: اهْبُطُوا مِصْرا مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها، أن اللّه جعل أرض الشام لبنـي إسرائيـل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنـما ابتلاهم بـالتـيه بـامتناعهم علـى موسى فـي حرب الـجبـابرة إذ قال لهم: يا قَوْمُ ادْخُـلُوا الأرْضُ الـمُقَدّسَةَ الّتِـي كَتَبَ اللّه لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا علـى أدْبـارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِـيهَا قَوْما جَبّـارِينَ إلـى قوله: إنّا لَنْ نَدْخُـلَها أبَدا ما دَامُوا فِـيها فـاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ. فحرّم اللّه جل وعز علـى قائل ذلك فـيـما ذكر لنا دخولها حتـى هلكوا فـي التـيه وابتلاهم بـالتـيهان فـي الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذرّيتهم الشام، فأسكنهم الأرض الـمقدسة، وجعل هلاك الـجبـابرة علـى أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفـاة موسى بن عمران. فرأينا اللّه جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض الـمقدسة، ولـم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلـى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فـيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوّله أنه ردّهم إلـيها.

قالوا: فإن احتـجّ مـحتـجّ بقول اللّه جل ثناؤه: فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِـي إسْرَائِيـلَ. قـيـل لهم: فإن اللّه جل ثناؤه إنـما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولـم يردّهم إلـيها، وجعل مساكنهم الشأم.

وأما الذين

قالوا: إن اللّه إنـما عنى بقوله جل وعز: اهْبِطُوا مِصْرا مِصْرَ، فإن من حجتهم التـي احتـجوا بها الآية التـي قال فـيها: فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِـي إسْرَائِيـلَ

وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيـمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِـيها فـاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ.

قالوا:

 فأخبر اللّه جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم، فلـم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها.

قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بـمصير بعضهم إلـيها، وإلا فلا وجه للانتفـاع بها إن لـم يصيروا أو يصر بعضهم إلـيها.

قالوا: وأخرى أنها فـي قراءة أبـيّ بن كعب وعبد اللّه بن مسعود: (اهْبِطُوا مِصْرَ) بغير ألف،

قالوا: ففـي ذلك الدلالة البـينة أنها مصر بعينها.

والذي نقول به فـي ذلك أنه لا دلالة فـي كتاب اللّه علـى الصواب من هذين التأويـلـين، ولا خبر به عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقطع مـجيئه العذر، وأهل التأويـل متنازعون تأويـله.

فأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبـات الأرض علـى ما بـينه اللّه جل وعز فـي كتابه وهم فـي الأرض تائهون، فـاستـجاب اللّه لـموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بـمن معه من قومه قرارا من الأرض التـي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إلـيه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بـالألف والتنوين: اهْبِطُوا مِصْرا وهي القرائة التـي لا يجوز عندي غيرها لاجتـماع خطوط مصاحف الـمسلـمين، واتفـاق قراءة القراء علـى ذلك. ولـم يقرأ بترك التنوين فـيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به علـى الـحجة فـيـما جاءت به من القراءة مستفـيضا بـينها.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ.

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَضُرِبَتْ أي فُرضت، ووضعت علـيهم الذلة وأُلزموها من قول القائل: ضرب الإمام الـجزية علـى أهل الذمة، وضرب الرجل علـى عبده الـخراج يعنـي بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير علـى الـجيش البعث، يراد به ألزمهموه.

وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة، كالصغرة من صغر الأمر، والقعدة من قعد، والذلة: هي الصغار الذي أمر اللّه جل ثناؤه عبـاده الـمؤمنـين أن لا يعطوهم أمانا علـى القرار علـى ماهم علـيه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الـجزية علـيه لهم، فقال جل وعز: قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـاللّه وَلاَ بـالْـيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الـحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّـى يُعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. كما:

٧٩٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن وقتادة في قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ قالا: يعطون الـجزية عن يد وهم صاغرون.

وأما الـمسكنة، فإنها مصدر الـمسكين، يقال: ما فـيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تـمسكن مسكنة. ومن العرب من

يقول: تـمسكن تـمسكنا. والـمسكنة فـي هذا الـموضع مسكنة الفـاقة والـحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما:

٧٩٤ـ حدثنـي به الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية في قوله: وَالـمَسْكَنَةُ قال: الفـاقة.

٧٩٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ قال: الفقر.

٧٩٦ـ وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ وَالـمَسْكَنَةُ قال هؤلاء يهود بنـي إسرائيـل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا واللّه ما هم هم، ولكنهم الـيهود يهود بنـي إسرائيـل. فأخبرهم اللّه جل ثناؤه أنه يبدلهم بـالعزّ ذلاّ، وبـالنعمة بؤسا، وبـالرضا عنهم غضبـا، جزاءً منه لهم علـى كفرهم بآياته وقتلهم أنبـياءه ورسله اعتداءً وظلـما منهم بغير حقّ، وعصيانهم له، وخلافـا علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَبَـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه .

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه انصرفوا ورجعوا، ولا يقال بـاءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ، يقال منه: بـاء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَوْاءً. ومنه قول اللّه عز وجل إنـي أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يعنـي: تنصرف متـحملهما وترجع بهما قد صارا علـيك دونـي.

فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفـين متـحملـين غضب اللّه ، قد صار علـيهم من اللّه غضب، ووجب علـيهم منه سخط. كما:

٧٩٧ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِن اللّه فحدث علـيهم غضب من اللّه .

٧٩٨ـ حدثنا يحيى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: وَبـاءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه قال: استـحقوا الغضب من اللّه .

وقدمنا معنى غضب اللّه علـى عبده فـيـما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ.

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله جل ثناؤه: (ذلك) ضرب الذلة والـمسكنة علـيهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: (ذلك) وهي يعنـي به ما وصفنا علـى أن قول القائل ذلك يشمل الـمعانـي الكثـيرة إذا أشير به إلـيها.

ويعنـي بقوله: بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ: من أجل أنهم كانوا يكفرون،

يقول: فعلنا بهم من إحلال الذلّ والـمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ، ويقتلون النبـيـين بغير الـحقّ، كما قال أعشى بنـي ثعلبة:

مَلِـيكِيّةٌ جَاوَرتْ بـالـحِجَازِ قَوما عُداةً وأرْضا شَطِيرا

بِـمَا قَدْ تَربّعُ روْضَ القَطاوَرَوْضَ التّناضِبِ حتّـى تَصِيرَا

يعنـي بذلك: جاورتْ بهذا الـمكان هذه الـمرأةُ قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله لـمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده من تربعها روض القطا وروض التناضب. فكذلك قوله: وضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ والـمَسْكَنَةُ وبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ذلكَ بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه

يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبـياءنا. وقد بـينا فـيـما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره، وأن آيات اللّه : حججه وأعلامه وأدلته علـى توحيده وصدق رسله.

فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج اللّه علـى توحيده، وتصديق رسله ويدفعون حقـيتها، ويكذبون بها.

ويعنـي بقوله: وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ: ويقتلون رسل اللّه الذين ابتعثهم لإنبـاء ما أرسلهم به عنه لـمن أرسلوا إلـيه. وهم جماع واحدهم نبـيّ غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من أنبأ عن اللّه ، فهو يُنْبِىء عنه إنبـاء، وإنـما الاسم منه منبىء ولكنه صرف وهو (مُفعِل) إلـى (فَعِيـل)، كما صرف سميع إلـى فعيـل من مفعل، وبصير من مبصر، وأشبـاه ذلك، وأبدل مكان الهمزة من النبىء الـياء، فقـيـل نبـي هذا. ويجمع النبـيّ أيضا علـى أنبـياء، وإنـما جمعوه كذلك لإلـحاقهم النبـيء بإبدال الهمزة منه ياء بـالنعوت التـي تأتـي علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو، وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت علـى تقدير فعيـل من ذوات الـياء والواو جمعوه علـى أفعلاء، كقولهم ولـي وأولـياء، ووصي وأوصياء، ودعيّ وأدعياء، ولو جمعوه علـى أصله الذي هو أصله، وعلـى أن الواحد (نبـيء) مهموز لـجمعوه علـى فعلاء، فقـيـل لهم النبآء، علـى مثال النبغاء، لأن ذلك جمع ما كان علـى فعيـل من غير ذوات الـياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء، والعلـيـم علـماء، والـحكيـم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب فـي جمع النبـي النبآء، وذلك من لغة الذين يهمزون النبـيء، ثم يجمعونه علـى النبآء علـى ما قد بـينت، ومن ذلك قول عبـاس بن مرداس فـي مدح النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم:

يا خاتـمَ النّبآءِ إنّك مُرْسَلبـالـخَير كُلّ هُدى السّبِـيـلِ هُدَاكَا

فقال: يا خاتـم النبآء، علـى أن واحدهم نبـيء مهموز. وقد قال بعضهم: النبـي والنبوّة غير مهموز، لأنهما مأخوذان من النّبْوَة، وهي مثل النـجوة، وهو الـمكان الـمرتفع. وكان

يقول: إن أصل النبـي الطريق، ويستشهد علـى ذلك ببـيت القطامي:

لـمّا وَرَدْنَ نَبِـيّا واسْتَتَبّ بهامُسْحَنْفِرٌ كخُطوط السّيْحِ مُنْسَحِلُ

يقول: إنـما سمي الطريق نبـيا، لأنه ظاهر مستبـين من النّبوّة. و

يقول: لـم أسمع أحدا يهمز النبـي

قال: وقد ذكرنا ما فـي ذلك وبـينا ما فـيه الكفـاية إن شاء اللّه .

ويعنـي بقوله: وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ الـحَقّ: أنهم كانوا يقتلون رسل اللّه بغير إذن اللّه لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: ذلكَ بـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ.

وقوله: ذلكَ ردّ علـى (ذلك) الأولـى. ومعنى الكلام: وضربت علـيهم الذلة والـمسكنة، وبـاءوا بغضب من اللّه ، من أجل كفرهم بآيات اللّه ، وقتلهم النبـيـين بغير الـحقّ، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه: ذلك بِـمَا عَصَوْا والـمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تـجاوز الـحدّ الذي حدّه اللّه لعبـاده إلـى غيره، وكل متـجاوز حدّ شيء إلـى غيره فقد تعدّاه إلـى ما جاوز إلـيه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بـما عصوا أمري، وتـجاوزوا حدّي إلـى ما نهيتهم عنه.

﴿ ٦١