١١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا اللّه ...}

اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه بقوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه

فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى. ذكر من قال ذلك:

١٤١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه جل وعز: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلا يُكَلّـمُنا اللّه أوْ تَأتِـينا آيَةٌ قال: النصارى تقولُه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله وزاد فـيه وَقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ: النّصَارَى.

وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك الـيهود الذين كانوا فـي زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

١٤١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، قال: حدثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال رافع بن حريـملة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن كنت رسولاً من عند اللّه كما تقول، فقل للّه عز وجلّ فلـيكلـمنا حتـى نسمع كلامه فأنزل اللّه عز وجل فـي ذلك من قوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه أوْ تَأتِـينَا آيَةٌ الآية كلها.

وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب. ذكر من قال ذلك:

١٤١٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه أوْ تَأتِـينا آيَةٌ وهم كفـار العرب.

١٤١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه قال: هم كفـار العرب.

١٤١٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه أما الذين لا يعلـمون: فهم العرب.

وأولـى هذه الأقوال بـالصحة والصواب قول القائل: إن اللّه تعالـى عنى بقوله: وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ النصارى دون غيرهم لأن ذلك فـي سياق خبر اللّه عنهم، وعن افترائهم علـيه وادّعائهم له ولدا.

فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فـيـما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم علـى اللّه الكذب بقوله: اتّـخَذَ اللّه وَلَدا تـمنوا علـى اللّه الأبـاطيـل، فقالوا جهلاً منهم بـاللّه وبـمنزلتهم عنده وهم بـاللّه مشركون: لولا يكلـمنا اللّه كما يكلـم رسوله وأنبـياءه، أو تأتـينا آية كما أتتهم ولا ينبغي اللّه أن يكلـم إلا أولـياءه، ولا يؤتـي آيةً معجزةً علـى دعوى مدّعٍ إلا لـمن كان مـحقّا فـي دعواه وداعيا إلـى اللّه وتوحيده. فأما من كان كاذبـا فـي دعواه وداعيا إلـى الفرية علـيه وادّعاء البنـين والبنات له، فغير جائز أن يكلـمه اللّه جل ثناؤه، أو يؤتـيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته علـيه

وقال الزاعم: إن اللّه عنى بقوله: وَقَال الّذِينَ لاَ يَعْلَـمُونَ العرب، فإنه قائل قولاً لا خبر بصحته ولا برهان علـى حقـيقته فـي ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلـى ذلك كان واضحا خطؤه، لأنه ادّعى ما لا برهان علـى صحته، وادّعاءُ مثل ذلك لن يتعذّر علـى أحد.

وأما معنى قوله: لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه فإنه بـمعنى: هلاّ يكلـمنا اللّه كما قال الأشهب بن رميـلة:

تَعُدّونَ عَقْرَ النّـيبِ أفْضَلَ مَـجْدِكُمْبَنِـي ضَوْطَرَي لَوْلاَ الكَميّ الـمُقَنّعا

بـمعنى: فهلاّ تعدّون الكمي الـمقنع؟ كما:

١٤١٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لَوْلا يُكَلّـمُنَا اللّه قال: فهلاّ يكلـمنا اللّه .

قال أبو جعفر: فأما الآية فقد ثبت فـيـما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنـما أخبر اللّه عنهم أنهم

قالوا: هلاّ تأتـينا آية علـى ما نريده ونسأل، كما أتت الأنبـياء والرسل فقال عز وجلّ: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ.

اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه بقوله: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، فقال بعضهم فـي ذلك بـما:

١٤١٩ـ حدثنـي به مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ هم الـيهود.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الـيهود.

وقال آخرون: هم الـيهود والنصارى، لأن الذين لا يعلـمون هم العرب. ذكر من قال ذلك:

١٤٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: قالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنـي الـيهود والنصارى وغيرهم.

١٤٢١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: قالوا يعنـي العرب، كما قالت الـيهود والنصارى من قبلهم.

١٤٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعنـي الـيهود والنصارى.

قال أبو جعفر: قد دللنا علـى أن الذين عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: وقَالَ الّذِينَ لا يَعْلَـمُونَ لَوْلاَ يُكَلّـمُنَا اللّه هم النصارى، والذين قالت مثل قولهم هم الـيهود، وسألت موسى صلى اللّه عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة، وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد بـينا فـيـما مضى من كتابنا هذا، وسألوا من الاَيات ما لـيس لهم مسألته تـحكّما منهم علـى ربهم، وكذلك تـمنت النصارى علـى ربها تـحكما منها علـيه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الاَيات.

 فأخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول فـي ذلك مثل الذي قالته الـيهود وتـمنت علـى ربها مثل أمانـيها، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنـما يشابه قول الـيهود من أجل تشابه قلوبهم فـي الضلالة والكفر بـاللّه . فهم وإن اختلفت مذاهبهم فـي كذبهم علـى اللّه وافترائهم علـيه، فقلوبهم متشابهة فـي الكفر بربهم والفِرْيَة علـيه، وتـحكمهم علـى أنبـياء اللّه ورسله علـيهم السلام. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال مـجاهد.

١٤٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قلوب النصارى والـيهود.

وقال غيره: معنى ذلك تشابهت قلوب كفـار العرب والـيهود والنصارى وغيرهم. ذكر من قال ذلك:

١٤٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: تَشَابَهت قلوبُهم يعنـي العرب والـيهود والنصارى وغيرهم.

١٤٢٥ـ حدثنـي الـمثنى، حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ يعنـي العرب والـيهود والنصارى وغيرهم.

وغير جائز في قوله: تَشَابَهَتْ التثقـيـل، لأن التاء التـي فـي أوّلها زائدة أدخـلت في قوله: (تفـاعل)، وإن ثقلت صارت تاءين ولا يجوز إدخال تاءين زائدتـين علامة لـمعنى واحد، وإنـما يجوز ذلك فـي الاستقبـال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخـل علـما للاستقبـال، والأخرى منها التـي فـي (تفـاعل)، ثم تدغم إحداهما فـي الأخرى فتثقل فـيقال: تشابه بعد الـيوم قلوبنا.

فمعنى الآية: وقالت النصارى الـجهال بـاللّه وبعظمته: هلاّ يكلـمنا اللّه ربنا كما كلـم أنبـياءه ورسله، أو تـجيئنا علامة من اللّه نعرف بها صدق ما نـحن علـيه علـى ما نسأل ونريد؟

قال اللّه جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الـجهال من النصارى وتـمنوا علـى ربهم. قال مَنْ قبلهم من الـيهود، فسألوا ربهم أن يريهم اللّه نفسه جهرة، ويؤتـيهم آية، واحتكموا علـيه وعلـى رسله، وتـمنوا الأمانـي. فـاشتهبت قلوب الـيهود والنصارى فـي تـمرّدهم علـى اللّه وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم علـى أنبـيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التـي قالوها.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: قَدْ بَـيّنا الاَياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: قَدْ بَـيّنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قد بـينا العلامات التـي من أجلها غضب اللّه علـى الـيهود وجعل منهم القردة والـخنازير، وأعدّ لهم العذاب الـمهين فـي معادهم، والتـي من أجلها أخزى اللّه النصارى فـي الدنـيا، وأعدّ لهم الـخزي والعذاب الألـيـم فـي الاَخرة، والتـي من أجلها جعل سكان الـجنان الذين أسلـموا وجوههم للّه وهم مـحسنون فـي هذه السورة وغيرها. فـاعْلِـموا الأسبـاب التـي من أجلها استـحقّ كل فريق منهم من اللّه ما فعل به من ذلك، وخصّ اللّه بذلك القوم الذين يوقنون لأنهم أهل التثبت فـي الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء علـى يقـين وصحة.

 فأخبر اللّه جل ثناؤه أنه بـيّن لـمن كانت هذه الصفة صفته ما بـيّن من ذلك لـيزول شكه، ويعلـم حقـيقة الأمر إذْ كان ذلك خبرا من اللّه جل ثناؤه، وخبر اللّه الـخبر الذي لا يعذر سامعه بـالشكّ فـيه. وقد يحتـمل غيره من الأخبـار ما يحتـمل من الأسبـاب العارضة فـيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفـيّ عن خبر اللّه عز وجل.

﴿ ١١٨