١٢٤

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{وَإِذِ ابْتَلَىَ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ ... }

يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَإِذِ ابْتَلَـى وإذا اختبر، يقال منه: ابتلـيت فلانا ابتلـيه ابتلاءً. ومنه قول اللّه عز وجل وابْتَلُوا الـيَتامَى يعنـي به: اختبروهم. وكان اختبـار اللّه تعالـى ذكره إبراهيـم اختبـارا بفرائض فرضها علـيه، وأمْرٍ أمَرَه به، وذلك هو الكلـمات التـي أوحاهنّ إلـيه وكلفه العمل بهنّ امتـحانا منه له واختبـارا.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة الكلـمات التـي ابتلـى اللّه بها إبراهيـمَ نبـيّه وخـلـيـلَهُ صلوات اللّه علـيه،

فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما. ذكر من قال ذلك:

١٤٤٦ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكلِـماتٍ قال:

قال ابن عبـاس : لـم يُبْتَلَ أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيـم، ابتلاه اللّه بكلـمات فأتـمهنّ قال: فكتب اللّه له البراءة،

فقال: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى قال: عشر منها فـي الأحزاب، وعشر منها فـي براءة، وعشر منها فـي الـمؤمنـين وسأل سائل وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما.

١٤٤٧ـ حدثنا إسحاق بن شاهين، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: ما ابْتُلـي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيـم ابتلـي بـالإسلام فأتـمه، فكتب اللّه له البراءة،

فقال: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى فذكر عشرا فـي براءة،

فقال: التّائِبُونَ العَابِدُونَ الـحَامِدُونَ إلـى آخرِ الاَيات، وعشرا فـي الأحزاب: إنّ الـمُسْلـمينَ وَالـمُسلـمات، وعشرا فـي سورة الـمؤمنـين، إلـى قوله: وَالّذِينَ هُمْ علـى صَلَوَاتِهِمْ يُحافِظُونَ، وعشرا فـي سأل سائل: وَالّذِينَ هُمْ علـى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ.

١٤٤٨ـ حدثنا عبـيد اللّه بن أحمد بن شبرمة، قال: حدثنا علـيّ بن الـحسن، قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبـي هند، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: الإسلام ثلاثون سهما، وما ابتُلـي بهذا الدين أحدٌ فأقامه إلا إبراهيـم، قال اللّه وَإبْرَهِيـمَ الّذِي وَفّـى فكتب اللّه له براءة من النار.

وقال آخرون: هي خصال عشرٌ من سنن الإسلام. ذكر من قال ذلك:

١٤٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه اللّه بـالطهارة: خمس فـي الرأس، وخمس فـي الـجسد. فـي الرأس: قصّ الشارب، والـمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفـي الـجسد: تقلـيـم الأظفـار، وحلق العانة، والـختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بـالـماء.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الـحكم بن أبـان، عن القاسم بن أبـي بزة، عن ابن عبـاس بـمثله، ولـم يذكر أثر البول.

١٤٥٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال

قال: حدثنا قتادة في قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه بـالـختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقصّ الشارب، وتقلـيـم الأظافر، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.

١٤٥١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن مطر، عن أبـي الـخـلد قال: ابتُلـي إبراهيـم بعشرة أشياء هنّ فـي الإنسان: سنة الاستنشاق، وقصّ الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقَلْـم الأظفـار، وغسل البراجم، والـختان، وحلق العانة، وغسل الدّبُرُ والفَرْج.

وقال بعضهم: بل الكلـمات التـي ابتلـي بهن عشر خلال بعضهنّ فـي تطهير الـجسد، وبعضهنّ فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك:

١٤٥٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبـيرة، عن حن٥ عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنّ قال: ستة فـي الإنسان، وأربعة فـي الـمشاعر فـالتـي فـي الإنسان: حلق العانة، والـختان، ونتف الإبط، وتقلـيـم الأظفـار، وقصّ الشارب، والغسل يوم الـجمعة. وأربعة فـي الـمشاعر: الطواف، والسعي بـين الصفـا والـمروة، ورمي الـجمار، والإفـاضة.

وقال آخرون: بل ذلك: إنـي جاعلك للناس إماما فـي مناسك الـحجّ. ذكر من قال ذلك:

١٤٥٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد، عتن أبـي صالـح في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ فأتَـمّهُنّ فمنهن: إنّـي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماما وآيات النسك.

حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح مولـى أم هانىء في قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال منهن: إنـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن آيات النسك: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ.

١٤٥٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ قال اللّه لإبراهيـم: إنـي مبتلـيك بأمر، فما هو؟ قال: تـجعلنـي للناس إماما

قال: نعم

قال: ومن ذريتـي؟ قال: لا ينال عهدي الظالـمين

قال: تـجعل البـيت مثابة للناس قال: نعم. وأمْنا قال: نعم. وتـجعلنا مسلـمين لك، ومن ذرّيتنا أمة مسلـمة لك قال: نعم. وترينا مناسكنا وتتوب علـينا قال: نعم

قال: وتـجعل هذا البلد آمنا قال: نعم

قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم قال: نعم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح أخبره به عن عكرمة فعرضته علـى مـجاهد فلـم ينكره.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بنـحوه. قال ابن جريج: فـاجتـمع علـى هذا القول مـجاهد وعكرمة جميعا.

١٤٥٥ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنـي أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فأتَـمّهُنّ قال: ابتلـي بـالاَيات التـي بعدها: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قال وَمِنْ ذُرّيّتِـي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ.

١٤٥٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع في قوله: وَإذْ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُن فـالكلـمات: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما

وقوله: وَإذ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثابَةً للنّاسِ

وقوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهِيـمَ مُصَلّـى

وقوله: وَعَهِدْنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ الآية،

وقوله: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمَ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ الآية قال: فذلك كلـمة من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم.

١٤٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعيد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ فمنهنّ: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما ومنهن: وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ ومنهن الاَيات فـي شأن النسك، والـمقام الذي جعل لإبراهيـم، والرزق الذي رزق ساكنوا البـيت ومـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي ذرّيتهما علـيهما السلام.

وقال آخرون: بل ذلك مناسك الـحجّ خاصة. ذكر من قال ذلك:

١٤٥٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة، قال: حدثنا عمرو بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: مناسك الـحج.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابن عبـاس يقول في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: الـمناسك.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال:

قال ابن عبـاس : ابتلاه بـالـمناسك.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: بلغنا عن ابن عبـاس أنه قال: إن الكلـمات التـي ابتلـي بها إبراهيـم: الـمناسك.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ ربّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: مناسك الـحجّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن التـميـمي، عن ابن عبـاس في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: منهن مناسك الـحجّ.

وقال آخرون: هي أمور منهن الـختان. ذكر من قال ذلك:

١٤٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة عن يونس بن أبـي إسحاق، عن الشعبـي: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـماتٍ قال: منهن الـختان.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق، قال: سمعت الشعبـي

يقول: فذكر مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا يونس بن أبـي إسحاق، قال: سمعت الشعبـي، وسأله أبو إسحاق عن قول اللّه : وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: منهن الـختان يا أبـا إسحاق.

وقال آخرون: بل ذلك الـخلال الستّ: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والـختان، التـي ابتلـي بهنّ فصبر علـيهنّ. ذكر من قال ذلك:

١٤٦٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: قلت للـحسن: وإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتَ فأتَـمّهُنّ قال: ابتلاه بـالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بـالقمر فرضي عنه، وابتلاه بـالشمس فرضي عنه، وابتلاه بـالنار فرضي عنه، وابتلاه بـالهجرة، وابتلاه بـالـختان.

١٤٦١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الـحسن

يقول: أي واللّه ابتلاه بأمر فصبر علـيه، ابتلاه بـالكوكب، والشمس، والقمر، فأحسن فـي ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنـيفـا وما كان من الـمشركين، ثم ابتلاه بـالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتـى لـحق بـالشام مهاجرا إلـى اللّه ، ثم ابتلاه بـالنار قبل الهجرة فصبر علـى ذلك، فـابتلاه اللّه بذبح ابنه وبـالـختان فصبر علـى ذلك.

١٤٦٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عمن سمع الـحسن يقول في قوله: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه اللّه بذبح ولده، وبـالنار، وبـالكوكب، والشمس، والقمر.

١٤٦٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـم بن قتـيبة، قال: حدثنا أبو هلال، عن الـحسن: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ قال: ابتلاه بـالكوكب، وبـالشمس، والقمر، فوجده صابرا.

وقال آخرون بـما:

١٤٦٤ـ حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: الكلـمات التـي ابتلـى بهنّ إبراهيـم ربه: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِـمِينَ لكَ وَمِنْ ذُرّيَتِنا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَـيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحِيـمُ رَبّنا وَابْعَثْ فِـيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إن اللّه عز وجل أخبر عبـاده أنه اختبر إبراهيـم خـلـيـله بكلـمات أوحاهن إلـيه، وأمره أن يعمل بهنّ وأتـمهنّ، كما أخبر اللّه جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلـمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله فـي تأويـل الكلـمات، وجائز أن تكون بعضه لأن إبراهيـم صلوات اللّه علـيه قد كان امتُـحن فـيـما بلغنا بكل ذلك، فعمل به وقام فـيه بطاعة اللّه وأَمْره الواجب علـيه فـيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن

يقول: عنى اللّه بـالكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم شيئا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسلـيـم لها من خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أو إجماع من الـحجة ولـم يصحّ فـيه شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الـجماعة التـي يجب التسلـيـم لـما نقلته. غير أنه روي عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي نظير معنى ذلك خبران لو ثبتا، أو أحدهما، كان القول به فـي تأويـل ذلك هو الصواب. أحدهما ما:

١٤٦٥ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا راشد بن سعد، قال: حدثنـي ريان بن فـائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبـيه، قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (ألاَ أُخْبِرُكُمْ لِـمَ سَمّى اللّه إبْرَاهِيـمَ خَـلِـيـلَهُ الّذِي وَفّـى؟ لأنّهُ كانَ يَقُولُ كُلّـما أصبَحَ وَكُلّـما أمْسَى: فَسُبْحانَ اللّه حِينَ تُـمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حتـى يختـم الآية).

والاَخر منهما ما:

١٤٦٦ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا الـحسن بن عطية

قال: حدثنا إسرائيـل، عن جعفر بن الزبـير، عن القاسم، عن أبـي أمامة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى قال: (أتَدْرُونَ مَا وفّـى)؟

قالوا: اللّه ورسوله أعلـم، قال: (وَفّـى عَملَ يَوْمِهِ أرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِـي النّهَارِ). فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبـيه صحيحا سنده. كان بـيّنا أن الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم فقام بهن هو قوله كُلّـما أصْبَحَ وأمْسَى: فَسُبْحَانَ اللّه حِينَ تُـمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الـحَمْدُ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ. أو كان خبر أبـي أمامة عدولاً نقلته، كان معلوما أن الكلـمات التـي أُوحين إلـى إبراهيـم فـابتلـي بـالعمل بهنّ أن يصلـي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران فـي أسانـيدهما نظر.

والصواب من القول فـي معنى الكلـمات التـي أخبر اللّه أنه ابتلـي بهنّ إبراهيـم ما بـينا آنفـا.

ولو قال قائل فـي ذلك: إن الذي قاله مـجاهد وأبو صالـح والربـيع بن أنس أولـى بـالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبـا، لأن قوله: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما

وقوله: وَعَهْدِنا إلـى إبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـي للطّائِفِـينَ وسائر الاَيات التـي هي نظير ذلك كالبـيان عن الكلـمات التـي ذكر اللّه أنه ابتلـي بهنّ إبراهيـم.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: فَأتَـمّهُنّ.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: فَأتَـمّهُنّ فأتـمّ إبراهيـم الكلـمات، وإتـمامه إياهنّ إكماله إياهنّ بـالقـيام للّه بـما أوجب علـيه فـيهنّ وهو الوفـاء الذي

قال اللّه جل ثناؤه: وَإبْرَاهِيـمَ الّذِي وَفّـى يعنـي وفّـى بـما عهد إلـيه بـالكلـمات، فأمره به من فرائضه ومـحنة فـيها. كما:

١٤٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : فأتَـمّهُنّ أي فأدّاهنّ.

١٤٦٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فأتَـمّهُنّ أي عمل بهنّ، فأتـمهنّ.

١٤٦٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: فأتَـمّهُنّ أي عمل بهنّ فأتـمهنّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

قالَ إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما فقال اللّه : يا إبراهيـم إنـي مُصَيّرك للناس إماما يؤتـمّ به ويقتدي به. كما:

١٤٧٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما لـيؤتـمّ به، ويقتدي به يقال منه: أمـمت القوم فأنا أؤمهم أمّا وإمامةً إذا كنت إمامهم.

وإنـما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيـم: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما إنـي مصيرك تؤمّ مَنْ بَعْدَكَ من أهل الإيـمان بـي وبرسلـي، فتقدمهم أنت، ويتبعون هديك، ويستنّون بسنتك التـي تعمل بها بأمري إياك ووحيـي إلـيك.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِـي.

يعنـي جل ثناؤه بذلك، قال إبراهِيـمُ لـما رفع اللّه منزلته وكرّمه، فأعلـمه ما هو صانع به من تصيـيره إماما فـي الـخيرات لـمن فـي عصره ولـمن جاء بعده من ذرّيته وسائر الناس غيرهم يهتدي بهديه ويقتدي بأفعاله وأخلاقه: يا ربّ ومن ذرّيتـي فـاجعل أئمة يقتدي بهم كالذي جعلتنـي إماما يؤتـمّ به ويتقدى بـي مسألة من إبراهيـم ربه سأله إياها. كما:

١٤٧١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال إبراهيـم: وَمِنْ ذُرّيّتِـي

يقول: فـاجعل من ذرّيتـي من يؤتـمّ به ويقتدي به.

وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيـم: وَمِنْ ذُرّيّتِـي مسألة منه ربّه لعقبه أن يكونوا علـى عهده ودينه، كما قال: وَاجْنُبْنِـي وَبَنِـيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ

 فأخبر اللّه جل ثناؤه أن فـي عقبه الظالـم الـمخالف له فـي دينه بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ.

والظاهر من التنزيـل يدلّ علـى غير الذي قاله صاحب هذه الـمقالة لأن قول إبراهيـم صلوات اللّه علـيه: وَمِنْ ذُرّيّتِـي فـي إثر قول اللّه جل ثناؤه: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما فمعلوم أن الذي سأله إبراهيـم لذرّيته لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه لكان مبـينا ولكن الـمسألة لـما كانت مـما جرى ذكره، اكتفـى بـالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته،

فقال: وَمِنْ ذُرّيّتِـي بـمعنى: ومن ذرّيتـي فـاجعل مثل الذي جعلتنـي به من الإمامة للناس.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ.

هذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن أن الظالـم لا يكون إماما يقتدي به أهل الـخير، وهو من اللّه جل ثناؤه جواب لـما توهم فـي مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة مثله، فأخبر أنه فـاعل ذلك إلا بـمن كان من أهل الظلـم منهم، فإنه غير مصيّره كذلك، ولا جاعله فـي مـحل أولـيائه عنده بـالتكرمة بـالإمامة لأن الإمامة إنـما هي لأولـيائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به.

واختلف أهل التأويـل فـي العهد الذي حرّم اللّه جل ثناؤه الظالـمين أن ينالوه،

فقال بعضهم: ذلك العهد هو النبوّة. ذكر من قال ذلك:

١٤٧٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ

يقول: عهدي، نبوّتـي. فمعنى قائل هذا

القول فـي تأويـل الآية: لا ينال النبّوة أهل الظلـم والشرك.

وقال آخرون: معنى العهد عهد الإمامة، فتأويـل الآية علـى قولهم: لا أجعل من كان من ذرّيتك بأسرهم ظالـما إماما لعبـادي يقتدي به. ذكر من قال ذلك:

١٤٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـما.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قال اللّه : لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـما.

١٤٧٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن عكرمة بـمثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد في قوله قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إمامٌ ظالـم يقتدي به.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا مسروق بن أبـان الـحطاب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد في قوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا أجعل إماما ظالـما يقتدي به.

حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا مسلـم بن خالد الزنـجي، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا أجعل إماما ظالـما يقتدي به.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا يكون إماما ظالـمٌ.

قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: إنّـي جاعِلُكَ للنّاسِ إماما قالَ وَمِنْ ذُرّيّتِـي فأبى أن يجعل من ذرّيته ظالـما إماما قلت لعطاء: ما عَهْدُه؟ قال: أَمْرُه.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد علـيك لظالـم أن تطيعه فـي ظلـمه. ذكر من قال ذلك:

١٤٧٥ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظالِـمِينَ يعنـي لا عهد لظالـم علـيك فـي ظلـمه أن تطيعه فـيه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه ، عن إسرائيـل، عن مسلـم الأعور، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لـيس للظالـمين عهد، وإن عاهدته فـانقضه.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن سفـيان، عن هارون بن عنترة، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: لـيس لظالـم عهد.

وقال آخرون: معنى العهد فـي هذا الـموضع: الأمان.

فتأويـل الكلام علـى معنى قولهم، قال اللّه : لا ينال أمانـي أعدائي، وأهل الظلـم لعبـادي أي لا أؤمنهم من عذابـي فـي الاَخرة. ذكر من قال ذلك:

١٤٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ ذلكم عند اللّه يوم القـيامة لا ينال عهده ظالـم، فأما فـي الدنـيا فقد نالوا عهد اللّه ، فوارثوا به الـمسلـمين وعادوهم وناكحوهم به، فلـما كان يوم القـيامة قصر اللّه عهده وكرامته علـى أولـيائه.

١٤٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَالِـمِينَ قال: لا ينال عهدَ اللّه فـي الاَخرة الظالـمون، فأما فـي الدنـيا فقد ناله الظالـم وأكل به وعاش.

١٤٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيـل، عن منصور، عن إبراهيـم: قالَ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا ينال عهد اللّه فـي الاَخرة الظالـمون، فأما فـي الدنـيا فقد ناله الظالـم فأمن به وأكل وأبصر وعاش.

وقال آخرون: بل العهد الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع: دِينُ اللّه . ذكر من قال ذلك:

١٤٧٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال اللّه لإبراهيـم: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ فقال: فَعَهْدُ اللّه الذي عهد إلـى عبـاده: دينه.

يقول: لا ينال دينه الظالـمين، ألا ترى أنه قال: وَبَـارَكْنا عَلَـيْهِ وَعلـى إسْحَاقَ وَمنْ ذُرّيتهما مُـحْسنٌ وَظَالِـمٌ لِنَفْسِهِ مُبِـينٌ

يقول: لـيس كل ذرّيتك يا إبراهيـم علـى الـحقّ.

١٤٨٠ـ حدثنـي يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: لا ينال عهدي عدوّ لـي يعصينـي، ولا أنـحلها إلا وَلـيّا يطيعنـي.

وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهِرَ خبرٍ عن أنه لا ينال من ولد إبراهيـم صلوات اللّه علـيه عهد اللّه الذي هو النبوّة والإمامة لأهل الـخير، بـمعنى الاقتداء به فـي الدنـيا، والعهد الذي بـالوفـاء به ينـجو فـي الاَخرة، من وفـي للّه به فـي الدنـيا، من كان منهم ظالـما متعدّيا جائرا عن قصد سبـيـل الـحقّ. فهو إعلام من اللّه تعالـى ذكره لإبراهيـم أن من ولده من يشرك به، ويجوز عن قصد السبـيـل، ويظلـم نفسه وعبـاده. كالذي:

١٤٨١ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشر، عن خصيف، عن مـجاهد في قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمِينَ قال: إنه سيكون فـي ذرّيتك ظالـمون.

وأما نصب الظالـمين، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالـمين. وذُكر أنه فـي قراءة ابن مسعود: (لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِـمُونَ) بـمعنى أن الظالـمين هم الذين لا ينالون عهد اللّه . وإنـما جاز الرفع فـي الظالـمين والنصب، وكذلك فـي العهد لأن كل ما نال الـمرء فقد ناله الـمرء، كما يقال: نالنـي خيرُ فلان ونلت خَيْرَهُ، فـيوجه الفعل مرّة إلـى الـخير ومرّة إلـى نفسه. وقد بـينا معنى الظلـم فـيـما مضى فكرهنا إعادته.

﴿ ١٢٤