١٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالى:

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنّاسِ ...}

أما قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً فإنه عطف ب(إذْ) علـى قوله: وَإِذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍوقوله: وَإذِا ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ معطوف علـى قوله: يا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـي واذكروا إذا ابتلـى إبراهيـمَ ربّه، وإذ جعلنا البـيت مثابة. والبـيت الذي جعله اللّه مثابة للناس هو البـيت الـحرام.

وأما الـمثابة فإن أهل العربـية مختلفون فـي معناها، والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نـحويـي البصرة: ألـحقت الهاء فـي الـمثابة لـما كثر من يثوب إلـيه، كما يقال سيارة لـمن يكثر ذلك ونَسّابة.

وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل الـمَثَابُ والـمثابة بـمعنى واحد، نظيرة الـمقام والـمقامة والـمقام، ذُكّر علـى قوله لأنه يريد به الـموضع الذي يقام فـيه، وأنثت الـمقامة لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون الـمثابة كالسّيارة والنّسابة، و

قالوا: إنـما أدخـلت الهاء فـي السيارة والنسابة تشبـيها لها بـالداعية والـمثابة مفعلة من ثاب القوم إلـى الـموضع: إذا رجعوا إلـيهم فهم يثوبون إلـيه مَثَابـا وَمَثَابةً وَثَوَابـا.

فمعنى قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وإذ جعلنا البـيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إلـيه، فلا يقضون منه وطرا. ومن الـمثاب قول ورقة بن نوفل فـي صفة الـحرم:

مَثابٌ ءَلافْنَاء القَبَـائِلِ كُلّهاتَـخُبّ إلَـيْهِ الـيَعْمَلاتُ الصّلاَئِحُ

ومنه

قـيـل: ثاب إلـيه عقله، إذا رجع إلـيه بعد عزوبه عنه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

١٤٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله اللّه : وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وَطَرا.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَإذْ جَعَلْنا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه، لا يقضون منه وَطَرا.

١٤٨٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: أما الـمثابةُ فهو الذي يثوبون إلـيه كل سنة لاَ يَدَعُهُ الإنسان إذا أتاه مرّة أن يعود إلـيه.

١٤٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وطرا، يأتونه ثم يرجعون إلـى أهلـيهم ثم يعودون إلـيه.

١٤٨٥ـ وحدثنـي عبد الكريـم بن أبـي عمير، قال: حدثنـي الولـيد بن مسلـم، قال: قال أبو عمرو، حدثنـي عبدة بن أبـي لبـابة في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يَنْصرِف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.

١٤٨٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك عن عطاء في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد الـملك، عن عطاء، مثله.

١٤٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمار الأسدي، قال: حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: لا يقضون منه وَطَرا.

١٤٨٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي الهذيـل، قال: سمعت سعيد بن جبـير

يقول: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يحجّون ويثوبون.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي الهذيـل، عن سعيد بن جبـير في قوله: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن بكير، قال: حدثنا مسعر، عن غالب، عن سعيد بن جبـير: مَثابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه.

١٤٨٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ وأمْنا قال: مـجمعا.

١٤٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه.

١٤٩١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه.

١٤٩٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَإذْ جَعَلْنَا البَـيْتَ مَثَابَةً للنّاسِ قال: يثوبون إلـيه من البلدان كلها ويأتونه.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وأمْنا.

والأمن: مصدر من قول القائل أمِنَ يَأْمَنُ أَمْنا. وإنـما سماه اللّه أمنا لأنه كان فـي الـجاهلـية مَعَاذا لـمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقـي به قاتل أبـيه أو أخيه لـم يهجه ولـم يعرض له حتـى يخرج منه، وكان كما

قال اللّه جل ثناؤه: أَوَ لَـمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَـخَطّف النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.

١٤٩٣ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأمْنا قال: من أَمّ إلـيه فهو آمن كان الرجل يـلقـى قاتل أبـيه أو أخيه فلا يعرض له.

١٤٩٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما أمْنا فمن دخـله كان آمنا.

١٤٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله اللّه : وأمْنا قال: تـحريـمه لا يخاف فـيه من دخـله.

ذكر من قال ذلك:

١٤٩٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: وَأمْنا

يقول: أمنا من العدوّ أن يحمل فـيه السلاح، وقد كان فـي الـجاهلـية يتـخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَوْنَ.

١٤٩٧ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: أخبرنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس في قوله: وأمْنا قال: أمنا للناس.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد في قوله: وَأمْنا قال: تـحريـمه لا يخاف فـيه من دخـله.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.

اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى بكسر الـخاء علـى وجه الأمر بـاتـخاذه مصلّـى وهي قراءة عامة الـمصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قرّاء أهل مكة وبعض قرّاء أهل الـمدينة. وذهب إلـيه الذين قرءوه كذلك من الـخبر الذي:

١٤٩٨ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول اللّه ، لو اتـخذت الـمقام مصلّـى؟ فأنزل اللّه : وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، وحدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مثله.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا حميد، عن أنس، قال: قال عمر بن الـخطاب: قلت: يا رسول اللّه ، فذكر مثله.

قالوا: فإنـما أنزل اللّه تعالـى ذكره هذه الآية أمرا منه نبـيّهُ صلى اللّه عليه وسلم بـاتـخاذ مقام إبراهيـم مصلّـى فغير جائز قراءتها وهي أمرٌ علـى وجه الـخبر.

وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى معطوف علـى قوله: يَا بَنِـي إسْرَائِيـلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِـي وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فكان الأمر بهذه الآية وبـاتـخاذ الـمصلـى من مقام إبراهيـم علـى قول هذا القائل للـيهود من بنـي إسرائيـل الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. كما:

١٤٩٩ـ حدثنا الربـيع بن أنس بـما حُدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: من الكلـمات التـي ابتلـي بهنّ إبراهيـم قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فأمرهم أن يتـخذوا من مقام إبراهيـم مصلّـى، فهم يصلون خـلف الـمقام.

فتأويـل قائل هذا القول: وَإذِ ابْتَلَـى إبْرَاهِيـمَ رَبّهُ بِكَلِـمَاتٍ فَأتَـمّهُنّ قالَ إنّـي جَاعِلُكَ للنّاسِ إماما وقال: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى. والـخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الـخطاب، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل، يدلّ علـى خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من اللّه تعالـى ذكره بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين به وجميع الـخـلق الـمكلفـين.

وقرأه بعض قرّاء أهل الـمدينة والشام: (واتّـخَذُوا) بفتـح الـخاء علـى وجه الـخبر.

ثم اختلف فـي الذي عطف علـيه بقوله: (وَاتّـخَذُوا) إذا قرىء كذلك علـى وجه الـخبر، فقال بعض نـحويـي البصرة: تأويـله إذا قرىء كذلك: وإذ جعلنا البـيت مثابة للناس وأمنا وإذِ اتـخذوا من مقام إبْرَاهِيـمَ مصلّـى.

وقال بعض نـحويـي الكوفة: بل ذلك معطوف علـى قوله: جَعَلْنَا فكان معنى الكلام علـى قوله: وإذ جعلنا البـيت مثابة للناس واتّـخَذُوه مصلـى.

والصواب من القول والقراءة فـي ذلك عندنا: وَاتّـخِذُوا بكسر الـخاء، علـى تأويـل الأمر بـاتـخاذ مقام إبراهيـم مصلـى للـخبر الثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي ذكرناه آنفـا، وأن عمرو بن علـيّ:

١٥٠٠ـ حدثنا قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، قال: حدثنـي أبـي، عن جابر بن عبد اللّه : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَاتّـخِذُوا مِن مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى وفـي مقام إبراهيـم.

فقال بعضهم: مقام إبراهيـم: هو الـحجّ كله. ذكر من قال ذلك:

١٥٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبـاس في قوله: مَقامِ إبْرَاهِيـمَ قال: الـحجّ كله مقام إبراهيـم.

١٥٠٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: الـحجّ كله.

١٥٠٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان. عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الـحجّ كله مقام إبراهيـم.

وقال آخرون: مقام إبراهيـم عرفة والـمزدلفة والـجمار. ذكر من قال ذلك:

١٥٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء بن أبـي رياح: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: لأنـي قد جعلْتُه إماما فمقامه عرفة والـمزدلفة والـجمار.

١٥٠٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مقامه جمع وعرفة ومِنًى لا أعلـمه إلا وقد ذكر مكة.

١٥٠٦ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، عن ابن عبـاس في قوله: وَاتـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مقامه عرفة.

١٥٠٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي قال: نزلت علـيه وهو واقـف بعرفة مقام إبراهيـم: الـيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية.

حدثنا عمرو قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، عن الشعبـي، مثله.

وقال آخرون: مقام إبراهيـم: الـحرم. ذكر من قال ذلك:

١٥٠٨ـ حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قوله: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: الـحرم كله مقام إبراهيـم.

وقال آخرون: مقام إبراهيـم: الـحجر الذي قام علـيه إبراهيـم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن رفع الـحجارة. ذكر من قال ذلك:

١٥٠٩ـ حدثنا سنان القزاز، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عبد الـمـجيد الـحنفـي، قال: حدثنا إبراهيـم بن نافع، قال: سمعت كثـير بن كثـير يحدّث عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: جعل إبراهيـم يبنـيه، وإسماعيـل يناوله الـحجارة، ويقولان: رَبنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ فلـما ارتفع البنـيان وضعف الشيخ عن رفع الـحجارة قام علـى حجر، فهو مقام إبراهيـم.

وقال آخرون: بل مقام إبراهيـم، هو مقامه الذي هو فـي الـمسجد الـحرام. ذكر من قال ذلك:

١٥١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلـى إنـما أمروا أن يصلوا عنده ولـم يؤمروا بـمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا مـما تكلفته الأمـم قبلها، ولقد ذكرَ لنا بعض من رأى عقبه وأصابعه، فما زالت هذه الأمـم يـمسحونه حتـى اخْـلَوْلق وانـمـحى.

١٥١١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فهم يصلون خـلف الـمقام.

١٥١٢ـ حدثنـي يونس، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى وهو الصلاة عند مقامه فـي الـحجّ. والـمقام: هو الـحجر الذي كانت زوجة إسماعيـل وضعته تـحت قدم إبراهيـم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيـم رجله علـيه وهو راكب، فغسلت شقه ثم دفعته من تـحته وقد غابت رجله فـي الـحجر، فوضعته تـحت الشقّ الاَخر فغسلته، فغابت رجله أيضا فـيه، فجعلها اللّه من شعائره،

فقال: وَاتّـخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيـم: هو الـمقام الـمعروف بهذا الاسم، الذي هو فـي الـمسجد الـحرام لـما روينا آنفـا عن عمر بن الـخطاب، ولـما:

١٥١٣ـ حدثنا يوسف بن سلـيـمان، قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، عن أبـيه، عن جابر قال: استلـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلـى مقام إبراهيـم فقرأ: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فجعل الـمقام بـينه وبـين البـيت فصلـى ركعتـين. فهذان الـخبران ينبئان أن اللّه تعالـى ذكره إنـما عنى بـمقام إبراهيـم الذي أمرنا اللّه بـاتـخاذه مصلـى هو الذي وصفنا. ولو لـم يكن علـى صحة ما اخترنا فـي تأويـل ذلك خبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لكان الواجب فـيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام مـحمول معناه علـى ظاهره الـمعروف دون بـاطنه الـمـجهول، حتـى يأتـي ما يدلّ علـى خلاف ذلك مـما يجب التسلـيـم له.

ولا شكّ أن الـمعروف فـي الناس بـمقام إبراهيـم هو الـمصلـى الذي قال اللّه تعالـى ذكره: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى فإن أهل التأويـل مختلفون فـي معناه،

فقال بعضهم: هو الـمُدّعَى. ذكر من قال ذلك:

١٥١٤ـ حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَاتّـخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيـمَ مُصَلّـى قال: مصلـى إبراهيـم مُدّعًى.

وقال آخرون: معنى ذلك: اتـخذوا مصلـى تصلون عنده. ذكر من قال ذلك:

١٥١٥ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أمروا أن يصلوا عنده.

١٥١٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: هو الصلاة عنده. فكأن الذين قالوا تأويـل الـمصلـى ههنا الـمدعَى، وجهوا الـمصلـى إلـى أنه مفعّل من قول القائل: صلـيت بـمعنى دعوت. وقائلوا هذه الـمقالة هم الذين

قالوا: إن مقام إبراهيـم هو الـحجّ كله.

فكان معناه فـي تأويـل هذه الآية: واتـخذوا عرفة والـمزدلفة والـمشعر والـجمار وسائر أماكن الـحجّ التـي كان إبراهيـم يقوم بها مداعي تدعوننـي عندها، وتأتـمون بإبراهيـم خـلـيـلـي علـيه السلام فـيها، فإنـي قد جعلته لـمن بعده من أولـيائي وأهل طاعتـي إماما يقتدون به وبآثاره، فـاقتدوا به.

وأما تأويـل القائلـين القول الاَخر، فإنه: اتـخذوا أيها الناس من مقام إبراهيـم مصلـى تصلون عنده، عبـادة منكم، وتكرمة منـي لإبراهيـم. وهذا القول هو أولـى بـالصواب لـما ذكرنا من الـخبر عن عمر بن الـخطاب وجابر بن عبد اللّه ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـي.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَعَهِدْنَا وأمرنا. كما:

١٥١٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.

١٥١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنـي ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ قال: أمرناه.

فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيـم وإسماعيـل بتطهير بـيتـي للطائفـين. والتطهير الذي أمرهما اللّه به فـي البـيت، هو تطهيره من الأصنام وعبـادة الأوثان فـيه ومن الشرك بـاللّه .

فإن قال قائل: وما معنى قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ لِلطائِفِـينَ وهل كان أيام إبراهيـم قبل بنائه البـيت بـيت يطهر من الشرك وعبـادة الأوثان فـي الـحرم، فـيجوز أن يكونا أُمِرا بتطهيره؟

قـيـل: لذلك وجهان من التأويـل، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويـل،

أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلـى إبراهيـم وإسماعيـل أن ابنـيا بـيتـي مُطهّرا من الشرك والريب، كما قال تعالـى ذكره: أفَمنْ أسّسَ بُنْـيَانَهُ علـى تَقْوَى مِنَ اللّه وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسّسَ بُنْـيَانَهُ علـى شَفَـا جُرُفٍ هارٍ، فكذلك قوله: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ أي ابنـيا بـيتـي علـى طهر من الشرك بـي والريب. كما:

١٥١٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: وَعَهِدْنَا إِلَـى إِبْرَاهِيـمَ وَإِسْمَاعِيـلَ أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ

يقول: ابنـيا بـيتـي. فهذا أحد وجهيه، والوجه الاَخر منهما أن يكونا أُمرا بأن يطهرا مكان البـيت قبل بنـيانه والبـيت بعد بنـيانه مـما كان أهل الشرك بـاللّه يجعلونه فـيه علـى عهد نوح ومن قبله من الأوثان، لـيكون ذلك سنة لـمن بعدهما، إذ كان اللّه تعالـى ذكره قد جعل إبراهيـم إماما يقتدي به مَنْ بعده. كما:

١٥٢٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أنْ طَهّرَا قال: من الأصنام التـي يعبدون التـي كان الـمشركون يعظمونها.

١٥٢١ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء، عن عبـيد بن عمير: أنْ طَهّرَا بَـيتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: من الأوثان والريب.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبـيد بن عمير، مثله.

١٥٢٢ـ حدثنـي أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: من الشرك.

١٥٢٣ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو إسرائيـل، عن أبـي حصين، عن مـجاهد: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائَفِـينَ قال: من الأوثان.

١٥٢٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ قال: من الشرك وعبـادة الأوثان.

١٥٢٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة بـمثله، وزاد فـيه: وقول الزور.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: للطّائِفِـينَ.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى الطائفـين فـي هذا الـموضع،

فقال بعضهم: هم الغربـاء الذين يأتون البـيت الـحرام من غربة. ذكر من قال ذلك:

١٥٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبـير في قوله: للطّائِفِـينَ قال: من أتاه من غربة.

وقال آخرون: بل الطائفون هم الذين يطوفون به غربـاء كانوا أو من أهله. ذكر من قال ذلك:

١٥٢٧ـ حدثنا مـحمد بن العلاء، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي بكر الهذلـي، عن عطاء: للطّائِفِـينَ قال: إذا كان طائفـا بـالبـيت، فهو من الطائفـين.

وأولـى التأويـلـين بـالآية ما قاله عطاء لأن الطائف هو الذي يطوف بـالشيء دون غيره، والطارىء من غربة لا يستـحقّ اسم طائف بـالبـيت إن لـم يطف به.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: والعاكِفِـينَ.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالعاكِفِـينَ والـمقـيـمين به، والعاكف علـى الشيء: هو الـمقـيـم علـيه، كما قال نابغة بنـي ذبـيان:

عُكُوفـا لَدَى أبْـياتِهِمْ يَثْمِدُونَهُمْرمى اللّه فِـي تِلْكَ الأكُفّ الكوَانِعِ

وإنـما قـيـل للـمعتكف معتكف من أجل مقامه فـي الـموضع الذي حبس فـيه نفسه للّه تعالـى.

ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى اللّه بقوله: وَالعاكِفِـينَ

فقال بعضهم: عنى به الـجالس فـي البـيت الـحرام بغير طواف ولا صلاة. ذكر من قال ذلك:

١٥٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي بكر الهذلـي، عن عطاء، قال: إذا كان طائفـا بـالبـيت فهو من الطائفـين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفـين.

وقال بعضهم: العاكفون هم الـمعتكفون الـمـجاورون. ذكر من قال ذلك:

١٥٢٩ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا شريك، عن جابر، عن مـجاهد وعكرمة: طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطائِفِـينَ وَالعاكِفِـينَ قال: الـمـجاورون.

وقال بعضهم: العاكفون هم أهل البلد الـحرام. ذكر من قال ذلك:

١٥٣٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبـير في قوله: وَالعاكِفِـينَ قال: أهل البلد.

١٥٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَالعاكِفِـينَ قال: العاكفون: أهله.

وقال آخرون: العاكفون: هم الـمصلون. ذكر من قال ذلك:

١٥٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس في قوله: طَهّرَا بَـيْتِـي للطّائِفِـينَ وَالعاكِفِـينَ قال: العاكفون: الـمصلون.

وأولـى هذه التأويلات بـالصواب ما قاله عطاء، وهو أن العاكف فـي هذا الـموضع: الـمقـيـم فـي البـيت مـجاورا فـيه بغير طواف ولا صلاة، لأن صفة العكوف ما وصفنا من الإقامة بـالـمكان. والـمقـيـم بـالـمكان قد يكون مقـيـما به وهو جالس ومصلَ وطائف وقائم، وعلـى غير ذلك من الأحوال فلـما كان تعالـى ذكره قد ذكر في قوله: أنْ طَهّرَا بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ والعاكِفِـينَ والركّعِ السّجُودِ الـمصلـين والطائفـين، علـم بذلك أن الـحال التـي عنى اللّه تعالـى ذكره من العاكف غير حال الـمصلـي والطائف، وأن التـي عنى من أحواله هو العكوف بـالبـيت علـى سبـيـل الـحوار فـيه، وإن لـم يكن مصلـيا فـيه ولا راكعا ولا ساجدا.

القول فـي تأويـل قوله تعالى: وَالرّكّعِ السّجودِ.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: وَالرّكّعِ جماعة القوم الراكعين فـيه له، واحدهم راكع. وكذلك السجود هم جماعة القوم الساجدين فـيه له واحدهم ساجد، كما يقال رجل قاعد ورجال قعود ورجل جالس ورجال جلوس فكذلك رجل ساجد ورجال سجود.

وقـيـل: بل عنى بـالركّع السجود: الـمصلـين. ذكر من قال ذلك:

١٥٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي بكر الهذلـي، عن عطاء: وَالرّكّعِ السّجُودِ قال: إذا كان يصلـي فهو من الركّع السجود.

١٥٣٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَالرّكّعِ السجّودِ أهل الصلاة. وقد بـينا فـيـما مضى بـيان معنى الركوع والسجود، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.

﴿ ١٢٥