١٦٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ ...}

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا ورَأوُا العَذَاب إذ تبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي الذين عنى اللّه تعالـى ذكره بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا فقال بعضهم بـما:

١٩٠٦ـ حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا وهم الـجبـابرة والقادة والرؤوس فـي الشرك، مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا وهم الأتبـاع الضعفـاء، ورَأَوُا العَذَابَ.

حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال: تبرأت القادة من الأتبـاع يوم القـيامة.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال ابن جريج: قلت لعطاء: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا قال: تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.

وقال آخرون بـما:

١٩٠٧ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا أما الذين اتبعوا فهم الشياطين تبرّءوا من الإنس.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي فـي ذلك أن اللّه تعالـى ذكره أخبر أن الـمتّبعينَ علـى الشرك بـاللّه يتبرّءون من أتبـاعهم حين يعاينون عذاب اللّه ولـم يخصص بذلك منهم بعضا دون بعض، بل عمّ جميعهم، فدخـل فـي ذلك كل متبوع علـى الكفر بـاللّه والضلال أنه يتبرأ من أتبـاعه الذين كانوا يتبعونه علـى الضلال فـي الدنـيا إذا عاينوا عذاب اللّه فـي الاَخرة.

وأما دلالة الآية فـيـمن عنى بقوله: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِين اتّبَعُوا فإنها إنـما تدلّ علـى أن الأنداد الذين اتـخذهم من دون اللّه مَن وصف تعالـى ذكره صفته بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُونِ اللّه أنْدَادا هم الذين يتبرّءون من أتبـاعهم. وإذا كانت الآية علـى ذلك دالة صحّ التأويـل الذي تأوّله السدي فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّـخِذُ مِنْ دُون اللّه أنْدَادا أن الأنداد فـي هذا الـموضع إنـما أريد يطيع اللّه الـمؤمنون من الرجال الذين يطيعونهم فـيـما أمروهم به من أمر، ويعصون اللّه فـي طاعتهم إياهم، كما يطيع اللّه الـمؤمنون ويعصون غيره، وفسد تأويـل قول من قال: إذْ تَبَرّأ الّذِينَ اتّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اتّبَعُوا إنهم الشياطين تبرّءوا من أولـيائهم من الإنس لأن هذه الآية إنـما هي فـي سياق الـخبر عن متـخذي الأنداد.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن اللّه شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تقطعت بهم الأسبـاب.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الأسبـاب. فقال بعضهم بـما:

١٩٠٨ـ حدثنـي به يحيى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا فضيـل بن عياض، وثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبـيد الـمكتب، عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الوصال الذي كان بـينهم فـي الدنـيا.

حدثنا إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا يحيى بن يـمان، عن سفـيان، عن عبـيد الـمكتب، عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: تواصُلهم فـي الدنـيا.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، وثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا، قالا: حدثنا سفـيان، عن عبـيد الـمكتب، عن مـجاهد بـمثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الـمودّة.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قال: تواصل كان بـينهم بـالـمودة فـي الدنـيا.

١٩٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، قال: أخبرنـي قـيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه تعالـى ذكره: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الـمودّة.

١٩١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ أسبـاب الندامة يوم القـيامة، وأسبـاب الـمواصلة التـي كانت بـينهم فـي الدنـيا يتواصلون بها ويتـحابون بها، فصارت علـيهم عداوة يوم القـيامة ثمّ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَـلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا ويتبرأ بعضكم من بعض، وقال اللّه تعالـى ذكره: الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلاّ الـمُتّقِـين فصارت كل خـلة عداوة علـى أهلها، إلا خـلة الـمتقـين.

١٩١١ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: هو الوصل الذي كان بـينهم فـي الدنـيا.

١٩١٢ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ

يقول: الأسبـاب: الندامة.

وقال بعضهم: بل معنى الأسبـاب: الـمنازل التـي كانت لهم من أهل الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

١٩١٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنـي أبـي، قال: حدثنـي عمي، قال: حدثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ

يقول: تقطعت بهم الـمنازل.

١٩١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن أبـي جعفر الرازي، عن الربـيع بن أنس وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الأسبـاب: الـمنازل.

وقال آخرون: الأسبـاب: الأرحام. ذكر من قال ذلك:

١٩١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، و

قال ابن عبـاس : وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: الأرحام.

وقال آخرون: الأسبـاب: الأعمال التـي كانوا يعملونها فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

١٩١٦ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: إمّا وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ فـالأعمال.

١٩١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ قال: أسبـاب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبـاب أعمالهم وثـيقة فـيأخذون بها فـينـجون، والاَخرون أعطوا أسبـاب أعمالهم الـخبـيثة فتقطع بهم فـيذهبون فـي النار

قال: والأسبـاب: الشيء يتعلق به

قال: والسبب الـحبل، والأسبـاب جمع سبب، وهو كل ما تسبب به الرجل إلـى طلبته وحاجته، فـيقال للـحبل سبب لأنه يتسبب بـالتعلق به إلـى الـحاجة التـي لا يوصل إلـيها إلا بـالتعلق به، ويقال للطريق سبب للتسبب بركوبه إلـى ما لا يدرك إلا بقطعه، وللـمصاهرة سبب لأنها سبب للـحرمة، وللوسيـلة سبب للوصول بها إلـى الـحاجة، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة فهو سبب لإدراكها. فإذا كان ذلك كذلك فـالصواب من

القول فـي تأويـل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره أخبر أن الذين ظلـموا أنفسهم من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفـار يتبرأ عند معاينتهم عذاب اللّه الـمتبوع من التابع، وتتقطع بهم الأسبـاب. وقد أخبر تعالـى ذكره فـي كتابه أن بعضهم يـلعن بعضا، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأولـيائه: ما أنَا بِـمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُـمْ بِـمُصْرِخِيّ إنّـي كَفَرْتُ بِـمَا أشْرَكْتُـمُونِ مِنْ قَبْلُ وأخبر تعالـى ذكره أن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا الـمتقـين، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضا، فقال تعالـى ذكره: وَقِـفُوهُمْ إنّهُمْ مَسْئُولُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرون وأن الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه للّه ولـيا، فقال تعالـى ذكره فـي ذلك: ومَا كانَ اسْتِغْفـارُ إبْرَاهِيـمَ لأبِـيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيّاهُ فَلَـمّا تَبَـيّنَ لَهُ أنّهُ عَدُوّ للّه تَتَبّرأ مِنْهُ وأخبر تعالـى ذكره أن أعمالهم تصير علـيهم حسرات. وكل هذه الـمعانـي أسبـاب يتسبب فـي الدنـيا بها إلـى مطالب، فقطع اللّه منافعها فـي الاَخرة عن الكافرين به لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها فلا خِلال بعضهم بعضا ينفعهم عند ورودهم علـى ربهم ولا عبـادتهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم، ولا دافعت عنهم أرحام فنصرتهم من انتقام اللّه منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم بل صارت علـيهم حسرات، فكل أسبـاب الكفـار منقطعة، فلا معنى أبلغ فـي تأويـل قوله: وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبـابُ من صفة اللّه ، وذلك ما بـينا من جميع أسبـابهم دون بعضها علـى ما قلنا فـي ذلك. ومن ادّعى أن الـمعنى بذلك خاص من الأسبـاب سئل عن البـيان علـى دعواه من أصل لا منازع فـيه، وعورض بقول مخالفه فـيه، فلن يقول فـي شيء من ذلك قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله.

﴿ ١٦٦