٢١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ....}

يعنـي بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا مـحمد عن الـخمر وشربها. والـخمر: كل شراب خامر العقل فستره وغطى علـيه، وهو من قول القائل: خَمَرت الإناء إذا غطيته، وخَمِرَ الرجل: إذا دخـل فـي الـخَمَرِ، ويقال: هو فـي خُمار الناس وغُمارهم، يراد به: دخـل فـي عُرض الناس، ويقال للضبع: خامري أم عامر، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر، ومن ذلك أيضا خِمار الـمرأة، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه، ومنه يقال: هو يـمشي لك الـخَمَر، أي مستـخفـيا، كما قال العجاج:

فِـي لامِعِ الِعقْبـانِ لا يأتـي الـخَمَرْيُوجّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشّجَرْ

ويعنـي بقوله: لا يأتـي الـخمر: لا يأتـي مستـخفـيا ولا مسارقة، ولكن ظاهرا برايات وجيوش والعقبـان جمع عقاب، وهي الرايات.

وأما (الـميسر) فإنها (الـمفعِل) من قول القائل: يسَر لـي هذا الأمر: إذا وجب لـي فهو يَـيْسِر لـي يَسَرا ومَيْسِرا، والـياسر: الواجب، بقداح وجب ذلك أو مبـاحه أو غير ذلك، ثم قـيـل للـمقامر: ياسر، ويَسَر، كما قال الشاعر:

فَبِتّ كأنّنِـي يَسَرٌ غَبِـينٌيُقَلّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا

وكما قال النابغة:

أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِهأسِفٌ تآكَلَهُ الصّديقُ مُخَـلّعُ

يعنـي بـالـياسر: الـمقامر، وقـيـل للقمار: ميسر، وكان مـجاهد يقول نـحو ما قلنا فـي ذلك.

٣٥٣١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَن الـخَمْرِ وَالـمَيْسِر قال: القمار، وإنـما سمي الـميسر لقولهم أيسروا واجزروا، كقولك ضع كذا وكذا.

٣٥٣٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: كل القمار من الـميسر، حتـى لعب الصبـيان بـالـجوز.

٣٥٣٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن،قال: حدثنا سفـيان، عن عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، قال: قال عبد اللّه : إياكم وهذه الكعاب الـموسومة التـي تزجرون بها زجرا فإنهن من الـميسر.

٣٥٣٤ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، مثله.

٣٥٣٥ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن نافع، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبـي زياد، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التـي تزجرون بها زجرا، فإنها من الـميسر.

٣٥٣٦ـ حدثنـي علـيّ بن سعيد الكندي، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن مـحمد بن سيرين، قال: القمار: ميسر.

٣٥٣٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم الأحول، عن مـحمد بن سيرين، قال: كل شيء له خطر، أو فـي خطر أبو عامر شك فهو من الـميسر.

٣٥٣٨ـ حدثنا الولـيد بن شجاع أبو همام، قال: حدثنا علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن مـحمد بن سيرين، قال: كل قمار ميسر حتـى اللعب بـالنرد علـى القـيام والصياح والريشة يجعلها الرجل فـي رأسه.

٣٥٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين، قال: كل لعب فـيه قمار من شرب أو صياح أو قـيام فهو من الـميسر.

٣٥٤٠ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا خالد بن الـحرث، قال: حدثنا الأشعث، عن الـحسن، أنه قال: الـميسر: القمار.

٣٥٤١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن لـيث، عن طاوس وعطاء قالا: كل قمار فهو من الـميسر، حتـى لعب الصبـيان بـالكعاب والـجوز.

٣٥٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: الـميسر: القمار.

٣٥٤٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك بن عمير، عن أبـي الأحوص، عن عبـيد اللّه قال: إياكم وهاتـين الكعبتـين يزجر بهما زجرا فإنهما من الـميسر.

٣٥٤٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن أبـي عروبة، عن قتادة، قال: أما قوله والـميسر، فهو القمار كله.

٣٥٤٥ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يحيى بن عبد اللّه بن سالـم، عن عبـيد اللّه بن عمر أنه سمع عمر بن عبـيد اللّه يقول للقاسم بن مـحمد: النرد: ميسر، أرأيت الشطرنـج ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر اللّه وعن الصلاة، فهو ميسر.

٣٥٤٦ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: الـميسر: القمار، كان الرجل فـي الـجاهلـية يخاطر علـى أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله.

٣٥٤٧ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الـميسر القمار.

٣٥٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الـميسر القمار.

٣٥٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن اللـيث، عن مـجاهد وسعيد بن جبـير، قالا: الـميسر: القمار كله، حتـى الـجوز الذي يـلعب به الصبـيان.

٣٥٥٠ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ الفضل بن خالد، قال: سمعت عبـيد بن سلـيـمان يحدث عن الضحاك قوله: الـميسر: قال: القمار.

٣٥٥١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الـميسر: القمار.

٣٥٥٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو بدر شجاع بن الولـيد، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع أن ابن عمر كان

يقول: القمار من الـميسر.

٣٥٥٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: الـميسر قداح العرب، وكعاب فـارس

قال: وقال ابن جريج، وزعم عطاء بن ميسرة أن الـميسر: القمار كله.

٣٥٥٤ـ حدثنا ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: قال مكحول: الـميسر: القمار.

٣٥٥٥ـ حدثنا الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: حدثنا الفضل بن سلـيـمان وشجاع بن الولـيد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الـميسر: القمار.

وأما قوله: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهم فـيهما، يعنـي فـي الـخمر والـميسر إثم كبـير. فـالإثم الكبـير الذي فـيهما ما ذكر عن السدي فـيـما:

٣٥٥٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ فإثم الـخمر أن الرجل يشرب فـيسكر فـيؤذي الناس. وإثم الـميسر أن يقامر الرجل فـيـمنع الـحق ويظلـم.

٣٥٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ قال: هذا أول ما عيبت به الـخمر.

٣٥٥٨ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ يعنـي ما ينقص من الدين عند من يشربها.

والذي هو أولـى بتأويـل الآية، الإثم الكبـير الذي ذكر اللّه جل ثناؤه أنه فـي الـخمر والـميسر، فـالـخمر ما قاله السدي زوال عقل شارب الـخمر إذا سكر من شربه إياها حتـى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظم الاَثام، وذلك معنى قول ابن عبـاس إن شاء اللّه وأما فـي الـميسر فما فـيه من الشغل به عن ذكر اللّه ، وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بـين الـمتـياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: إنّـمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَـيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِـي الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصّلاةِ.

وأما قوله: وَمَنافِعُ للنّاسِ فإن منافع الـخمر كانت أثمانها قبل تـحريـمها، وما يصلون إلـيه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى فـي صفتها:

لنَا مِنْ ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌوَذِكْرَى هَمُومٍ ما تَفُكّ أذَاتُها

وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذّةٌومالٌ كَثِـيرٌ عِدّةٌ نَشَوَاتُها

وكما قال حسان:

فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكاوأُسْدا ما يُنَهْنِهُنا اللّقاءُ

وأما منافع الـميسر فـيـما يصيبون فـيه من أنصبـاء الـجزور، وذلك أنهم كانوا يـياسرون علـى الـجزور، وإذا أفلـج الرجل منهم صاحبه نـحره، ثم اقتسموا أعشارا علـى عدد القداح، وفـي ذلك يقول أعشى بنـي ثعلبة:

وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلـى النّدَىونِـياطِ مُقْـفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٣٥٥٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم،قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـمنافع ههنا: ما يصيبون من الـجزور.

٣٥٦٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: أما منافعهما فإن منفعة الـخمر فـي لذته وثمنه، ومنفعة الـميسر فـيـما يصاب من القمار.

٣٥٦١ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال: منافعهما قبل أن يحرّما.

٣٥٦٢ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَمَنافعُ للنّاسِ قال: يقول فـيـما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها.

واختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عظم أهل الـمدينة وبعض الكوفـيـين والبصريـين قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ بـالبـاء، بـمعنى: قل فـي شرب هذه والقمار هذا كبـير من الاَثام. وقرأه آخرون من أهل الـمصرين، البصرة والكوفة: (قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ) بـمعنى الكثرة من الاَثام، وكأنهم رأوا أن الإثم بـمعنى الاَثام، وإن كان فـي اللفظ واحدا فوصفوه بـمعناه من الكثرة.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه بـالبـاء: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ لإجماع جميعهم علـى قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وقراءته بـالبـاء وفـي ذلك دلالة بـينة علـى أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر، لا الكثرة فـي العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقـيـل وإثمهما أكثر من نفعهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.

يعنـي بذلك عزّ ذكره: والإثم بشرب هذه والقمار هذا، أعظم وأكبر مضرّة علـيهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنـما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم علـى بعض وقاتل بعضهم بعضا، وإذا ياسروا وقع بـينهم فـيه بسببه الشرّ، فأدّاهم ذلك إلـى ما يأثمون به.

ونزلت هذه الآية فـي الـخمر قبل أن يصرّح بتـحريـمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إلـيهما، وإنـما الإثم بأسبـابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.

وقد قال عدد من أهل التأويـل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تـحريـمهما أكبر من نفعهما قبل تـحريـمهما. ذكر من قال ذلك:

٣٥٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: منافعهما قبل التـحريـم، وإثمهما بعدما حرّما.

٣٥٦٤ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع: وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ينزل الـمنافع قبل التـحريـم، والإثم بعد ما حرّم.

٣٥٦٥ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنـي عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

يقول: إثمهما بعد التـحريـم أكبر من نفعهما قبل التـحريـم.

٣٥٦٦ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

يقول: ما يذهب من الدين والإثم فـيه أكبر مـما يصيبون فـي فرحها إذا شربوها.

وإنـما اخترنا ما قلنا فـي ذلك من التأويـل لتواتر الأخبـار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تـحريـم الـخمر والـميسر، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر اللّه فـي هذه الآية فأضافه إلـيهما إنـما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبـابهما علـى ما وصفنا، لا الإثم بعد التـحريـم.

ذكر الأخبـار الدالة علـى ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تـحريـم الـخمر:

٣٥٦٧ـ حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قـيس، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما نزلت: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فكرهها قوم لقوله: فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وشربها قوم لقوله: وَمَنافِعُ للنّاسِ، حتـى نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ قال: فكانوا يدعونها فـي حين الصلاة ويشربونها فـي غير حين الصلاة، حتـى نزلت: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ فقال عمر: ضيعةً لك الـيوم قرنت بـالـميسر.

٣٥٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن معمر، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي حميد، عن أبـي توبة الـمصري، قال: سمعت عبد اللّه بن عمر

يقول: أنزل اللّه عز وجل فـي الـخمر ثلاثا، فكان أول ما أنزل: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالـمَيْسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ الآية،

فقالوا: يا رسول اللّه ننتفع بها ونشربها، كما قال اللّه جل وعز فـي كتابه. ثم نزلت هذه الآية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى... الآية،

قالوا: يا رسول اللّه لا نشربها عند قرب الصلاة قال: ثم نزلت: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ الآية، قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (حُرّمَتِ الـخَمْرُ).

٣٥٦٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن قالا: قال اللّه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ ويَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنسختها الآية التـي فـي الـمائدة،

فقال: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ الآية.

٣٥٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عوف، عن أبـي القموص زيد بن علـيّ، قال: أنزل اللّه عز وجل فـي الـخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال اللّه : يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال: فشربها من الـمسلـمين من شاء اللّه منهم علـى ذلك، حتـى شرب رجلان، فدخلا فـي الصلاة، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو، فأنزل اللّه عز وجل فـيهما: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتـى شربها فـيـما زعم أبو القموص رجلٌ، فجعل ينوح علـى قتلـى بدر:

تُـحَيّـي بـالسّلامَةِ أُمّ عَمرووهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ

ذَرِيِنـي أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّـيرأيْتُ الـمَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشامِ

وَوَدّ بَنُو الـمَغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُبألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ

كأيَ بـالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الشيّزَى يُكَلّلُ بـالسّنامِ

كأيَ بـالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍمِنَ الفِتْـيانِ والـحُلَل الكِرَامِ

قال: فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتـى انتهى إلـيه، فلـما عاينه الرجل، فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا كان بـيده لـيضربه، قال: أعوذ بـاللّه من غضب اللّه ورسوله، واللّه لا أطعَمُها أبدا فأنزل اللّه تـحريـمها: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأزْلامُ رجْسٌ... إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه: انتهينا انتهينا.

٣٥٧١ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن زكريا عن سماك، عن الشعبـي، قال: نزلت فـي الـخمر أربع آيات: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فتركوها، ثم نزلت: تَتّـخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا فشربوها. ثم نزلت الاَيتان فـي الـمائدة إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ.

٣٥٧٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: نزلت هذه الآية: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ الآية، فلـم يزالوا بذلك يشربونها، حتـى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعا ناسا من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيهم علـيّ بن أبـي طالب، فقرأ: قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ ولـم يفهمها، فأنزل اللّه عز وجل يشدّد فـي الـخمر: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاَة وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ فكانت لهم حلالاً، يشربون من صلاة الفجر حتـى يرتفع النهار أو ينتصف، فـيقومون إلـى صلاة الظهر وهم مُصْحون، ثم لا يشربونها حتـى يصلوا العتـمة وهي العشاء، ثم يشربونها حتـى ينتصف اللـيـل وينامون، ثم يقومون إلـى صلاة الفجر وقد صحوا. فلـم يزالوا بذلك يشربونها، حتـى صنع سعد بن أبـي وقاص طعاما، فدعا ناسا من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم علـيه، فلـما أكلوا وشربوا من الـخمر سكروا وأخذوا فـي الـحديث، فتكلـم سعد بشيء، فغضب الأنصاري، فرفع لـحى البعير فكسر أنف سعد، فأنزل اللّه نسخ الـخمر وتـحريـمها وقال: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلـى قوله: فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ.

٣٥٧٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن رجل عن مـجاهد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قال: لـما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض، حتـى نزل تـحريـمها فـي سورة الـمائدة.

٣٥٧٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ قال: هذا أوّل ما عيبت به الـخمر.

٣٥٧٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فذمهما اللّه ولـم يحرّمهما لـما أراد أن يبلغ بهما من الـمدة والأجل، ثم أنزل اللّه فـي سورة النساء أشدّ منها: لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُوُلونَ فكانوا يشربونها، حتـى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر علـيهم حراما. ثم أنزل اللّه جل وعز فـي سورة الـمائدة بعد غزوة الأحزاب: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ إلـى: لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ فجاء تـحريـمها فـي هذه الآية قلـيـلها وكثـيرها، ما أسكر منها وما لـم يسكر، ولـيس للعرب يومئذ عيش أعجب إلـيهم منها.

٣٥٧٦ـ وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ قُلْ فِـيهِمَا إثْمٌ كَبِـيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

قال: لـما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْريـمِ الـخَمْرِ)

قال: ثم نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُـمْ سُكارَى حّتـى تَعْلَـمُوا ما تَقُولُونَ قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِـي تَـحْرِيـمِ الـخَمْرِ)

قال: ثم نزلت: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ فحرّمت الـخمر عند ذلك.

٣٥٧٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: يَسألُونَكَ عَنِ الـخَمْرِ وَالَـمْيسِرِ الآية كلها، قال نسخت ثلاثةً: فـي سورة الـمائدة، وبـالـحدّ الذي حدّ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، وضرب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم

قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يضربهم بذلك حدّا، ولكنه كان يعمل فـي ذلك برأيه، ولـم يكن حدّا مسمى وهو حد. وقرأ: إنّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ الآية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ.

يعنـي جل ذكره بذلك: ويسألك يا مـحمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فـيتصدقون به، فقل لهم يا مـحمد أنفقوا منها العفو.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى: العَفْو فـي هذا الـموضع،

فقال بعضهم: معناه: الفضل. ذكر من قال ذلك:

٣٥٧٨ـ حدثنا عمرو بن علـيّ البـاهلـي، قال: حدثنا وكيع ح، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس قال: العفو: ما فضل عن أهلك.

٣٥٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قل العفو: أي الفضل.

٣٥٨٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو الفضل.

٣٥٨١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء فـي قوله: العفو، قال: الفضل.

٣٥٨٢ـ حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: العفو،

يقول: الفضل.

٣٥٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: كان القوم يعملون فـي كل يوم بـما فـيه، فإن فضل ذلك الـيوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا، ويتصدقون به علـى الناس.

٣٥٨٤ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: هوالفضل فضل الـمال.

وقال آخرون: معنى ذلك ما كان عفوا لا يبـين علـى من أنفقه أو تصدق به. ذكر من قال ذلك:

٣٥٨٥ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ

يقول: ما لا يتبـين فـي أموالكم.

٣٥٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس فـي قول اللّه جل وعز: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: الـيسير من كل شيء.

وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة ما لـم يكن إسرافـا ولا إقتارا. ذكر من قال ذلك:

٣٥٨٧ـ حدثنا مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، عن عوف، عن الـحسن فـي قوله: وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ

يقول: لا تـجهد مالك حتـى ينفد للناس.

٣٥٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء، عن قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ قال: العفو فـي النفقة أن لا تـجهد مالك حتـى ينفد، فتسأل الناس.

٣٥٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء، عن قوله يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: العفو: ما لـم يسرفوا، ولـم يقتروا فـي الـحقّ

قال: وقال مـجاهد: العفو صدقة عن ظهر غنى.

٣٥٩٠ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: هو أن لا تـجهد مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك قُلِ العَفْوَ خذ منهم ما أتوك به من شيء قلـيلاً أو كثـيرا. ذكر من قال ذلك:

٣٥٩١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ

يقول: ما أتوك به من شيء قلـيـل أو كثـير، فـاقبله منهم.

وقال آخرون: معنى ذلك ما طاب من أموالكم. ذكر من قال ذلك:

٣٥٩٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ قال: يقول الطيب منه،

يقول: أفضل مالك وأطيبه.

٣٥٩٣ـ حدثت عن عمار بن الـحسن قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: كان

يقول: العفو: الفضل.

يقول: أفضل مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك:

٣٥٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد، أو عيسى عن قـيس، عن مـجاهد شك أبو عاصم قول اللّه جل وعز: قُلِ العَفْوَ قال: الصدقة الـمفروضة.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله فـي مئونتهم وما لا بدّ لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالإذن فـي الصدقة، وصدقته فـي وجه البرّ.

ذكر بعض الأخبـار التـي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك:

٣حدثنا علـيّ بن مسلـم، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن الـمقبري، عن أبـي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول اللّه عندي دينار قال: (أنْفِقْهُ علـى نَفْسِكَ؟) قال: عندي آخر قال: (أنْفِقْهُ علـى أهْلِكَ) قال: عندي آخر قال: (أنْفِقْهُ علـى وَلَدِكَ) قال: عندي آخر قال: (فأنْتَ أبْصَرُ).

٣٥٩٥ـ حدثنـي مـحمد بن معمر البحرانـي، قال: حدثنا روح بن عبـادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرنـي أبو الزبـير أنه سمع جابر بن عبد اللّه

يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِـيرا فَلْـيَبَدأ بِنَفْسِهِ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِـمَنْ يَعُولُ، ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْـيَتَصَدّقْ علـى غَيْرِهِمْ).

٣٥٩٦ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن عاصم، عن عمر بن قتادة، عن مـحمود بن لبـيد، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلٌ ببـيضة من ذهب أصابها فـي بعض الـمعادن،

فقال: يا رسول اللّه ، خذ هذه منـي صدقة، فواللّه ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيـمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك،

فقال: (هاتها) مغضبـا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: (يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِـمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّـمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى).

٣٥٩٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن إبراهيـم الـمخرمي، قال: سمعت أبـا الأحوص يحدث عن عبد اللّه ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ، وَابْدأ بِـمَنْ تَعُولُ، وَلا تُلامُ علـى كَفـافٍ).

وما أشبه ذلك من الأخبـار التـي يطول بـاستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى اللّه عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بـالفضل عن حاجة الـمتصدق الفضل من ذلك، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو فـي كلام العرب فـي الـمال وفـي كل شيء هو الزيادة والكثرة، ومن ذلك قوله جل ثناؤه: حَتـى عَفَوْا بـمعنى: زادوا علـى ما كانوا علـيه من العدد وكثروا، ومنه قول الشاعر:

وَلَكِنّا يَعضّ السّيْفُ مِنّابأسْوُقِ عافِـياتِ الشّحْمِ كُومِ

يعنـي به كثـيرات الشحوم. ومن ذلك قـيـل للرجل: خذ ما عفـا لك من فلان، يراد به: ما فضل فصفـا لك عن جهده بـما لـم تـجهده. كان بـينا أن الذي أذن اللّه به فـي قوله قُلِ العَفْوَ لعبـاده من النفقة، فأذنهم بإنفـاقه إذا أرادوا إنفـاقه هو الذي بـين لأمته رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: (خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى) وأذنهم به.

فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة الـمفروضة؟

قـيـل: أنكرنا ذلك لقـيام الـحجة علـى أن من حلت فـي ماله الزكاة الـمفروضة، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة، أن علـيه أن يسلـمه إلـيهم، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه فـي أداء الواجب كان لهم (فـي) ماله إلـيهم، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلـمه إلـيهم لا عفوه، وفـي تسمية اللّه جل ثناؤه ما علـم عبـاده وجه إنفـاقهم من أموالهم عفوا، ما يبطل أن يكون مستـحقا اسم جهد فـي حالة، وإذا كان ذلك كذلك فبّـين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ الـمال إلـى إمامه، فأعطاه كائنا ما كان من قلـيـل ماله وكثـيره، وقول من زعم أنه الصدقة الـمفروضة.

وكذلك أيضا لا وجه لقول من

يقول: إن معناه ما لـم يتبـين فـي أموالكم، لأن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـما قال له أبو لبـابة: إن من توبتـي أن أنـخـلع إلـى اللّه ورسوله من مالـي صدقة، قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (يَكْفِـيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ) وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال له نـحوا من ذلك. والثلث لا شك أنه بـين فقده من مال ذي الـمال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلـم يَقْتُرُوا وكانَ بَـيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وكما قال جل ثناؤه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: وَلا تَـجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلـى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَـحْسُورا وذلك هو ما حده صلى اللّه عليه وسلم فـيـما دون ذلك علـى قدر الـمال واحتـماله.

ثم اختلف أهل العلـم فـي هذه الآية: هل هي منسوخة، أم ثابتة الـحكم علـى العبـاد؟

فقال بعضهم: هي منسوخة نسختها الزكاة الـمفروضة. ذكر من قال ذلك:

٣٥٩٨ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.

٣حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال: لـم تفرض فـيه فريضة معلومة، ثم قال: خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بـالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الـجاهِلِـينَ ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة.

٣حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ هذه نسختها الزكاة.

وقال آخرون: بل مثبتة الـحكم غير منسوخة. ذكر من قال ذلك:

٣حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن قـيس بن سعد أو عيسى، عن قـيس، عن مـجاهد شك أبو عاصم، قال قال: العفو: الصدقة الـمفروضة.

والصواب من القول فـي ذلك ما قاله ابن عبـاس علـى ما رواه عنه عطية من أن قوله: قُلِ العَفْوَ لـيس بإيجاب فرض فرض من اللّه حقا فـي ماله، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مـما يسخطه جوابـا منه لـمن سأل نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم عما فـيه له رضا، فهو أدب من اللّه لـجميع خـلقه علـى ما أدبهم به فـي الصدقة غير الـمفروضات ثابت الـحكم غير ناسخ لـحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتـجاوز فـي صدقات التطوّع وهبـاته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: (إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْـيَبْدأ بِنَفْسِهِ، ثُمّ بأهْلِه، ثُمّ بِوَلَدِهِ) ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِـي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِـي تُرْضِي اللّه ويُحِبّها. وذلك هو القوام بـين الإسراف والإقتار الذي ذكره اللّه عز وجلّ فـي كتابه إن شاء اللّه تعالـى. ويقال لـمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة علـى نسخه؟ وقد أجمع الـجميع لا خلاف بـينهم علـى أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث، فما الذي دلّ علـى أن ذلك منسوخ؟ فإن زعم أنه يعنـي بقوله: إنه منسوخ أن إخراج العفو من الـمال غير لازم فرضا، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة فـي الـمال

قـيـل له: وما الدلـيـل علـى أن إخراج العفو كان فرضا، فأسقطه فرض الزكاة؟ ولا دلالة فـي الآية علـى أن ذلك كان فرضا، إذ لـم يكن أمر من اللّه عز ذكره، بل فـيها الدلالة علـى أنها جواب ما سأل عنه القوم علـى وجه التعرف لـما فـيه للّه الرضا من الصدقات، ولا سبـيـل لـمدعي ذلك إلـى دلالة توجب صحة ما ادّعى.

وأما القراء فإنهم اختلفوا فـي قراءة العفو، فقرأته عامة قراء الـحجاز وقراء الـحرمين وعظم قراء الكوفـيـين: قُلِ العَفْوَ نصبـا، وقرأه بعض قراء البصريـين: قُلِ العَفْوُ رفعا. فمن قرأه نصبـا جعل (ماذا) حرفـا واحدا، ونصبه بقوله: يُنْفِقُونَ علـى ما قد بـينت قبل، ثم نصب العفو علـى ذلك فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟ ومن قرأه رفعا جعل (ما) من صلة (ذا) ورفعوا العفو فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي ينفقون، قل الذي ينفقون العفو. ولو نصب العفو، ثم جعل (ماذا) حرفـين بـمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ينفقون العفو، ورفع الذين جعلوا (ماذا) حرفـا واحدا بـمعنى: ما ينفقون؟ قل الذي ينفقون خبرا كان صوابـا صحيحا فـي العربـية. وبأيّ القراءتـين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنـيـيهما مع استفـاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجب القراءتـين إلـيّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بـالنصب، لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر.

﴿ ٢١٩