٢٧٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّه ... } أما قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } فبـيان من اللّه عزّ وجلّ عن سبـيـل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، تنفقون للفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل اللّه . واللام التـي فـي الفقراء مردودة علـى موضع اللام فـي فلأنفسكم، كأنه قال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} يعنـي به: وما تتصدّقوا به من مال، فللفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل اللّه ، فلـما اعترض فـي الكلام بقوله: (فلأنفسكم)، فأدخـل الفـاء التـي هي جواب الـجزاء فـيه تركت إعادتها فـي قوله: (للفقراء)، إذ كان الكلام مفهوما معناه. كما: ٤٩٩٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فِلأَنْفُسِكُمْ} أما (لـيس علـيك هداهم)، فـيعنـي الـمشركين، وأما النفقة فبـين أهلها، فقال: للفقراء الذين أحصروا فـي سبـيـل اللّه . وقـيـل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم اللّه فـي هذه الآية، هم فقراء الـمهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. ذكر من قال ذلك: ٤٩٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } مهاجري قريش بـالـمدينة مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، أمر بـالصدقة علـيهم. ٤٩٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه قوله: {لِلْفِقُرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }.. الآية قال: هم فقراء الـمهاجرين بـالـمدينة. ٤٩٩٥ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال: فقراء الـمهاجرين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فـيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفـا. وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى الإحصار: تصيـير الرجل الـمـحصر بـمرضه أو فـاقته أو جهاده عدوّه، وغير ذلك من علله إلـى حالة يحبس نفسه فـيها عن التصرّف فـي أسبـابه بـما فـيه الكفـاية فـيـما مضى قبل. وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: فـي ذلك بنـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك: ٤٩٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال: حصروا أنفسهم فـي سبـيـل اللّه للغزو. ٤٩٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال: كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل اللّه إذا خرج خرج فـي كفر. وقـيـل: كانت الأرض كلها حربـا علـى أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فـيها عدوّ، فقال اللّه عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }.. الآية¹ كانوا ههنا فـي سبـيـل اللّه . وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم الـمشركون فمنعوهم التصرّف. ذكر من قال ذلك: ٤٩٩٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } حصرهم الـمشركون فـي الـمدينة. ولو كان تأويـل الآية علـى ما تأوّله السدي، لكان الكلام: للفقراء الذين حصروا فـي سبـيـل اللّه ، ولكنه (أحصروا)، فدلّ ذلك علـى أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلـى الـحال التـي حَبسوا وهم فـي سبـيـل اللّه أنفسهم، لا أن العدوّ هم كانوا الـحابسيهم، وإنـما يقال لـمن حبسه العدوّ: حصره العدوّ، وإذا كان الرجل الـمـحبس من خوف العدوّ قـيـل: أحصره خوف العدوّ. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلبـا فـي الأرض، وسفرا فـي البلاد، ابتغاء الـمعاش وطلب الـمكاسب، فـيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ، وخوفـا علـى أنفسهم منهم. كما: ٤٩٩٩ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} حبسوا أنفسهم فـي سبـيـل اللّه للعدوّ، فلا يستطيعون تـجارة. ٥٠٠٠ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} يعنـي التـجارة. ٥٠٠١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبـا فِـي الأرْضِ} كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل اللّه . القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـياءَ مِنَ التّعَفّفِ}. يعنـي بذلك: يحسبهم الـجاهل بأمرهم وحالهم أغنـياء من تعففهم عن الـمسألة وتركهم التعرّض لـما فـي أيدي الناس صبرا منهم علـى البأساء والضرّاء. كما: ٥٠٠٢ـ حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـيَاءَ} يقول: يحسبهم الـجاهل بأمرهم أغنـياء من التعفف. ويعنـي بقوله: {مِنَ التّعَفّفِ} من ترك مسألة الناس، وهو التفعل من العفة عن الشيء، والعفة عن الشيء: تركه، كما قال رؤبة: فَـعَـفّ عَـنْ أسْـرَارِهـا بَـعْـدَ العَـسَـقْ يعنـي برىء وتـجنب. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ}. يعنـي بذلك جل ثناؤه: تعرفهم يا مـحمد بسيـماهم، يعنـي بعلامتهم وآثارهم، من قول اللّه عزّ وجلّ: {سِيـماهُمْ فِـي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ} هذه لغة قريش، ومن العرب من يقول: (بسيـمائهم) فـيـمدها، وأما ثقـيف وبعض أسد، فإنهم يقولون: (بسيـميائهم)¹ ومن ذلك قول الشاعر: غُلامٌ رَماهُ اللّه بـالـحُسْنِ يافِعالَهُ سِيـمِيَاءُ لا تَشُقّ عَلـى البَصَرْ وقد اختلف أهل التأويـل فـي السيـما التـي أخبر اللّه جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها، فقال بعضهم: هو التـخشع والتواضع. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} قال: التـخشع. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، قال: كان مـجاهد يقول: هو التـخشع. وقال آخرون يعنـي بذلك: تعرفهم بسيـما الفقر وجهد الـحاجة فـي وجوههم. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} بسيـما الفقر علـيهم. ٥٠٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـماهُمْ} يقول: تعرف فـي وجوههم الـجهد من الـحاجة. وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثـيابهم، و قالوا: الـجوع خفـيّ. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيـمَاهُمْ} قال: السيـما: رثاثة ثـيابهم، والـجوع خفـيّ علـى الناس، ولـم تستطع الثـياب التـي يخرجون فـيها تـخفـى علـى الناس. وأول الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ أخبر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الـحاجة فـيهم. وإنـما كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يدرك تلك العلامات والاَثار منهم عند الـمشاهدة بـالعيان، فـيعرفهم وأصحابه بها، كما يدرك الـمريض فـيعلـم أنه مريض بـالـمعاينة. وقد يجوز أن تكون تلك السيـما كانت تـخشعا منهم، وأن تكون كانت أثر الـحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثـياب، وأن تكون كانت جميع ذلك، وإنـما تدرك علامات الـحاجة وآثار الضرّ فـي الإنسان، ويعلـم أنها من الـحاجة والضرّ بـالـمعاينة دون الوصف، وذلك أن الـمريض قد يصير به فـي بعض أحوال مرضه من الـمرض نظر آثار الـمـجهود من الفـاقة والـحاجة، وقد يـلبس الغنـيّ ذو الـمال الكثـير الثـياب الرثة، فـيتزيا بزيّ أهل الـحاجة، فلا يكون فـي شيء من ذلك دلالة بـالصفة علـى أن الـموصوف به مختلّ ذو فـاقة، وإنـما يدري ذلك عند الـمعاينة بسيـماه، كما وصفهم اللّه نظير ما يعرف أنه مريض عند الـمعاينة دون وصفه بصفته. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْـحافـا}. يقال: قد ألـحف السائل فـي مسألته إذا ألـحّ فهو يـلـحف فـيها إلـحافـا. فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلـحاف؟ قـيـل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا علـى وجه الصدقة، إلـحافـا أو غير إلـحاف، وذلك أن اللّه عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنـما كانوا يعرفون بسيـماهم، فلو كانت الـمسألة من شأنهم لـم تكن صفتهم التعفف، ولـم يكن بـالنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلـى علـم معرفتهم بـالأدلة والعلامة حاجة، وكانت الـمسألة الظاهرة تنبىء عن حالهم وأمرهم. وفـي الـخبر الذي: ٥٠٠٧ـ حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: أعوزنا مرة فقـيـل لـي: لو أتـيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألته. فـانطلقت إلـيه مُعْنقا، فكان أوّل ما واجهنـي به: (مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ اللّه ، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ اللّه ، ومَنْ سَأَلَنا لَـمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَـجِدُهُ)، قال: فرجعت إلـى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فـيفعنـي اللّه ! فرجعت فما سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتـى مالت علـينا الدنـيا فغرقتنا إلا من عصم اللّه . الدلالة الواضحة علـى أن التعفف معنى ينفـي معنى الـمسألة من الشخص الواحد، وأن من كان موصوفـا بـالتعفف فغير موصوف بـالـمسألة إلـحافـا أو غير إلـحاف. فإن قال قائل: فإن كان الأمر علـى ما وصفت، فما وجه قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْـحافـا} وهم لا يسألون الناس إلـحافـا أو غير إلـحاف؟ قـيـل له: وجه ذلك أن اللّه تعالـى ذكره لـما وصفهم بـالتعفف وعرّف عبـاده أنهم لـيسوا أهل مسألة بحال بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الـجاهِلُ أغْنِـيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ} وأنهم إنـما يعرفون بـالسيـما، زاد عبـاده إبـانة لأمرهم، وحسن ثناء علـيهم بنفـي الشره والضراعة التـي تكون فـي الـملـحّين من السؤال عنهم وقال: كان بعض القائلـين يقول فـي ذلك نظير قول القائل: فَلَـمّا رأيت مثل فلان، ولعله لـم يره مثله أحدا ولا نظيرا. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى الإلـحاف قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٥٠٠٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لاَ يَسألُونَ الناسَ إلْـحافـا} قال: لا يـلـحفون فـي الـمسألة. ٥٠٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا يَسْألُونَ النّاسَ إِلْـحافـا} قال: هو الذي يـلـح فـي الـمسألة. ٥٠١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {لا يَسألُونَ النّاسَ إِلْـحافـا} ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إِنّ اللّه يُحِبّ الـحَلِـيـمَ الغَنِـيّ الـمُتَعَفّفَ، وَيُبْغِضُ الغَنِـيّ الفـاحِشَ البَذِيّ السّائِلَ الـمُلْـحِفَ) قال: وذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول: (إِنّ اللّه عَزّ وَجَلّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثا، قِـيـلَ وَقَالَ، وَإضَاعَةَ الـمَالِ وَكَثْرَةَ السّوءَالِ) فإذا شئت رأيته فـي قـيـل وقال يومه أجمع وصدر لـيـلته، حتـى يُـلقـى جفـية علـى فراشه، لا يجعل اللّه له من نهاره ولا لـيـلته نصيبـا، وإذا شئت رأيته ذا مال فـي شهوته ولذاته وملاعبه، ويعدله عن حقّ اللّه ، فذلك إضاعة الـمال، وإذا شئت رأيته بـاسطا ذراعيه، يسأل الناس فـي كفـيه، فإذا أعطي أفرط فـي مدحهم، وإن منع أفرط فـي ذمهم. |
﴿ ٢٧٣ ﴾