تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

 للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

 إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة آل عمران

سورة آل عمْران مَدنيّة وآياتها مائتان

بسم اللّه الرّحمَن الرّحيـم

أخبرنا أبو جعفر محمد ين جرير بن يزيد الطبري رضي اللّه عنه:

١

انظر تفسير الآية: ٢

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{الَمَ * اللّه لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ }

قال أبو جعفر: قد أتـينا علـى البـيان عن معنى قوله: {الـم} فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع، وكذلك البـيان عن قوله {اللّه }.

وأما معنى قوله: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ} فإنه خبر من اللّه جلّ وعزّ أخبر عبـاده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه من الاَلهة والأنداد، وأن العبـادة لا تصلـح ولا تـجوز إلا له لانفراده بـالربوبـية، وتوحده بـالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأن كل ما سواه فخـلقه، لا شريك له فـي سلطانه وملكه¹ احتـجاجا منه تعالـى ذكره علـيهم بأن ذلك إذ كان كذلك، فغير جائزة لهم عبـادة غيره، ولا إشراك أحد معه فـي سلطانه، إذ كان كل معبود سواه فملكه، وكل معظم غيره فخـلقه، وعلـى الـمـملوك إفراد الطاعة لـمالكه، وصرف خدمته إلـى مولاه ورازقه. ومعرفـا من كان من خـلقه يوم أنزل ذلك إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، بتنزيـله ذلك إلـيه، وإرساله به إلـيهم علـى لسانه صلوات اللّه علـيه وسلامه، مقـيـما علـى عبـادة وثن أو صنـم أو شمس أو قمر أو إنسي أو ملك أو غير ذلك من الأشياء التـي كانت بنو آدم مقـيـمة علـى عبـادته وإلاهته، ومتـخذته دون مالكه وخالقه إلها وربـا، أنه مقـيـم علـى ضلالة، ومنعزل عن الـمـحجة، وراكب غير السبـيـل الـمستقـيـمة بصرفه العبـادة إلـى غيره ولا أحد له الألوهية غيره.

وقد ذكر أن هذه السورة ابتدأ اللّه بتنزيـله فـاتـحتها بـالذي ابتدأ به من نفـي الألوهية أن يكون لغيره ووصفُه نفسه بـالذي وصفها به ابتدائها احتـجاجا منه بذلك علـى طائفة من النصارى قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نـجران، فحاجّوه فـي عيسى صلوات اللّه علـيه، وألـحدوا فـي اللّه ، فأنزل اللّه عز وجل فـي أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نـيفـا وثلاثـين آية من أولها، احتـجاجا علـيهم وعلـى من كان علـى مثل مقالتهم لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فأبوا إلا الـمقام علـى ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلـى الـمبـاهلة، فأبوا ذلك وسألوا قبول الـجزية منهم، فقبلها صلى اللّه عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلـى بلادهم. غير أن الأمر وإن كان كذلك وإياهم قصد بـالـحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الـخـلق معناهم فـي الكفر بـالله، واتـخاذ ما سوى اللّه ربـا وإلها ومعبودا، معمومون بـالـحجة التـي حجّ اللّه تبـارك وتعالـى بها من نزلت هذه الاَيات فـيه، ومـحجوجون فـي الفرقان الذي فرق به لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـينه وبـينهم.

ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله فـي نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل فـي الذين وصفنا صفتهم من النصارى:

٥٢٦٤ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر، قال: قدم علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نـجران، ستون راكبـا، فـيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، فـي الأربعة عشر ثلاثة نفر إلـيهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد الـمسيح. والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ومـجتـمعهم، واسمه الأيهم. وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقـفّهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْرَاسهم. وكان أبو حارثة قد شرف فـيهم ودرس كتبهم حتـى حسن علـمه فـي دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانـية قد شرفوه وموّلوه وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا علـيه الكرامات، لـما يبلغهم عنه من علـمه واجتهاده فـي دينه. قال ابن إسحاق قال مـحمد بن جعفر بن الزبـير: قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمدينة، فدخـلوا علـيه فـي مسجده حين صلـى العصر، علـيهم ثـياب الـحِبَرات جُبب وأردية فـي بلـحرث بن كعب

قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم. وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون فـي مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (دَعُوهُمْ)! فَصَلّوا إلـى الـمَشْرِقِ

قال: وكانت تسمية الأربع عشر منهم الذين يؤول إلـيهم أمرهم: العاقب وهو عبد الـمسيح، والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأوس، والـحارث، وزيد، وقـيس، ويزيد، ونبـيه، وخويـلد بن عمرو، وخالد، وعبد اللّه ، ويُحَنّس¹ فـي ستـين راكبـا. فكلـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد الـمسيح، والأيهم السيد، وهم من النصرانـية علـى دين الـملك مع اختلاف من أمرهم يقولون: هو اللّه ، ويقولون: هوَ ولد اللّه ، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانـية. فهم يحتـجون فـي قولهم: هو اللّه ، بأنه كان يحيـي الـموتـى، ويبرىء الأسقام، ويخبر بـالغيوب، ويخـلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فـيه فـيكون طائرا، وذلك كله بإذن اللّه ، لـيجعله آية للناس. ويحتـجون فـي قولهم: إنه ولد اللّه ، أنهم يقولون: لـم يكن له أب يعلـم، وقد تكلـم فـي الـمهد بشيء لـم يصنعه أحد من ولد آدم من قبله. ويحتـجون فـي قولهم: إنه ثالث ثلاثة، بقول اللّه عز وجل: (فعلنا) و(أمرنا) و(خـلقنا) و(قضينا)، فـيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا (فعلتُ) و(أمرتُ) و(قضيتُ) و(خـلقتُ)، ولكنه هو وعيسى ومريـم. ففـي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر اللّه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم فـيه قولهم. فلـما كلـمه الـحبران، قال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أسْلِـما)! قالا: قد أسلـمنا

قال: (إنّكُمَا لَـمْ تُسْلِـما، فأسْلِـما)! قالا: بلـى قد أسلـمنا قبلك

قال: (كَذَبْتُـمَا، يَـمْنَعُكُما مِنَ الإسْلامِ دُعاؤُكُما لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَدا، وَعِبـادَتُكُما الصّلِـيبَ، وأكْلُكُما الـخِنْزِيرَ). قالا: فمن أبوه يا مـحمد، فصمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهما، فلـم يجبهما، فأنزل اللّه فـي ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله، صَدْرَ سورة آل عمران إلـى بضع وثمانـين آية منها،

فقال: {اللّه لا إلَه إلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ} فـافتتـح السورة بتبرئة نفسه تبـارك وتعالـى مـما قالوا، وتوحيده إياها بـالـخـلق والأمر، لا شريك له فـيه، وردّا علـيهم ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه من الأنداد، واحتـجاجا علـيهم بقولهم فـي صاحبهم، لـيعرفهم بذلك ضلالتهم،

فقال: {اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ} أي لـيس معه شريك فـي أمره.

٥٢٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {الـم اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ} قال: إن النصارى أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فخاصموه فـي عيسى ابن مريـم، وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا علـى اللّه الكذب والبهتان، لا إله إلا هو، لـم يتـخذ صاحبة ولا ولدا. فقال لهم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّهُ لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلاّ وهُوَ يُشْبِهُ أبـاهُ؟)

قالوا: بلـى

قال: (ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ رَبّنَا حَيّ لاَ يَـمُوتُ، وأنّ عِيسَى يَأتِـي عَلَـيْهِ الفَنَاءُ؟).

قالوا: بلـى

قال: (ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ رَبّنا قَـيّـمٌ عَلـى كُلّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ؟)

قال: بلـى

قال: (فَهَلْ يَـمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئا؟).

قالوا: لا

قال: (أفَلَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ اللّه عَزّ وَجَلّ لاَ يَخْفَـى عَلَـيْهِ شَيْءٌ فِـي الأرْضِ وَلا فِـي السّمَاءِ؟).

قالوا: بلـى

قال: (فَهَلْ يَعْلَـمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئا إلاّ ما عُلّـمَ؟)

قالوا: لا

قال: (فإنّ رَبّنَا صَوّرَ عِيسَى فِـي الرّحِمِ كَيْفَ شاءَ، فَهَلْ تَعْلَـمُونَ ذَلِكَ؟).

قالوا: بلـى

قال: (ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ رَبّنَا لاَ يَأْكُلُ الطّعامَ ولا يَشْرَبُ الشّرابَ ولا يُحْدِثُ الـحَدث؟).

قالوا: بلـى

قال: (ألَسْتُـمْ تَعْلَـمُونَ أنّ عِيسى حَمَلَتْهُ امْرأةٌ كَما تَـحْمِلُ الـمَرأةُ، ثُمّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الـمَرأةُ وَلَدها، ثُمّ غُدّيَ كَما يُغَذّى الصّبِـيّ، ثُمّ كانَ يَطْعَمُ الطّعَامَ وَيَشْرَبُ الشّراب ويُحْدِثُ الـحَدث؟).

قالوا: بلـى

قال: (فَكَيْفَ يَكونُ هَذَا كمَا زعَمْتُـمْ؟)

قال: فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل اللّه عز وجل: {الـم اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ الـحَيّ القَـيّومُ}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الـحَيّ القَـيّومُ}.

اختلفت القراء فـي ذلك، فقرأته قراء الأمصار: {الـحَيّ القَـيّومُ}. وقرأ ذلك عمر بن الـخطاب وابن مسعود فـيـما ذكر عنهما: (الـحَيّ القَـيّامُ). وذكر عن علقمة بن قـيس أنه كان يقرأ: (الـحَيّ القَـيّـم).

٥٢٦٦ـ حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيـم، عن أبـي معمر، قال: سمعت علقمة يقرأ: (الـحَيّ القَـيّـمُ) قلت: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.

حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيـم، عن أبـي معمر، عن علقمة، مثله.

وقد روي عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:

٥٢٦٧ـ حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: حدثنا شيبـان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن أبـي معمر، عن علقمة أنه قرأ: (الـحَيّ القَـيّام).

والقراءة التـي لا يجوز غيرها عندنا فـي ذلك، ما جاءت به قراءة الـمسلـمين نقلاً مستفـيضا عن غير تشاعُر ولا تواطؤ وراثةً، وما كان مثبتا فـي مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ {الـحَيّ القَـيّوم}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الـحَيّ}.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: {الـحَيّ}

فقال بعضهم: معنى ذلك من اللّه تعالـى ذكره: أنه وصف نفسه بـالبقاء، ونفـى الـموت الذي يجوز علـى من سواه من خـلقه عنها. ذكر من قال ذلك:

٥٢٦٨ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {الـحَيّ} الذي لا يـموت، وقد مات عيسى وصلب فـي قولهم، يعنـي فـي قول الأحبـار الذين حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نصارى أهل نـجران.

٥٢٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {الـحَيّ} قال:

يقول: حي لا يـموت.

وقال آخرون: معنى {الـحَيّ} الذي عناه اللّه عز وجلّ فـي هذه الاَية ووصف به نفسه، أنه الـمتـيسر له تدبـير كل ما أراد وشاء، لا يـمتنع علـيه شيء أراده، وأنه لـيس كمن لا تدبـير له من الاَلهة والأنداد.

وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الـحياة الدائمة التـي لـم تزل له صفة، ولا تزال كذلك. و

قالوا: إنـما وصف نفسه بـالـحياة، لأن له حياة كما وصفها بـالعلـم لأن لها علـما، وبـالقدرة لأن لها قدرة.

ومعنى ذلك عندي: (أنه وصف نفسه بـالـحياة الدائمة التـي لا فناء لها ولا انقطاع، ونفـى عنها ما هو حال يكل ذي حياة من خـلقه، من الفناء، وانقطاع الـحياة عند مـجيء أجله، فأخبر عبـاده أنه الـمستوجب علـى خـلقه العبـادة والألوهة، والـحيّ الذي لا يـموت، ولا يبـيد كما يـموت كل من اتـخذ من دونه ربـا، ويبـيد كلّ من ادّعى من دونه إلها، واحتـجّ علـى خـلقه بأن من كان يبـيد فـيزول ويـموت فـيفنى، فلا يكون إلها يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبـيد ولا يـموت، وأن الإله: هو الدائم الذي لا يـموت ولا يبـيد ولا يفنى، وذلك اللّه الذي لا إله إلا هو.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {القَـيّوم}. قد ذكرنا اختلاف القراءة فـي ذلك والذي نـختار منه، وما العلة التـي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.

فأما تأويـل جميع الوجوه التـي ذكرنا أن القراء قرأت بها فمتقارب، ومعنى ذلك كله: القـيـم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبـيره وتصريفه فـيـما شاء وأحب من تغيـير وتبديـل وزيادة ونقص. كما:

٥٢٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميـمون، قال: حدثنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه جل ثناؤه: {الـحَيّ القَـيّومُ} قال: القائم علـى كل شيء.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٢٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {القَـيّوم} قـيـم علـى كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه.

وقال آخرون: معنى ذلك القـيام علـى مكانه، ووجهوه إلـى القـيام الدائم الذي لا زوال معه ولا انتقال، وأن اللّه عز وجل إنـما نفـى عن نفسه بوصفها بذلك التغير والتنقل من مكان إلـى مكان وحدوث التبدل الذي يحدث فـي الاَدميـين وسائر خـلقه غيرهم. ذكر من قال ذلك:

٥٢٧٢ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن عمر بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {القَـيّوم} القائم علـى مكانه من سلطانه فـي خـلقه لا يزول، وقد زال عيسى فـي قولهم ـ يعنـي فـي قول الأحبـار الذين حاجوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من أهل نـجران فـي عيسى ـ عن مكانه الذي كان به وذهب عنه إلـى غيره.

وأولـى التأويـلـين بـالصواب، ما قاله مـجاهد والربـيع، وأن ذلك وصف من اللّه تعالـى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء فـي رزقه والدفع عنه، وكلاءته وتدبـيره وصرفه فـي قدرته، من قول العرب: فلان قائم بأمر هذه البلدة، يُعنى بذلك: الـمتولـي تدبـير أمرها. فـالقـيّوم إذ كان ذلك معناه (الفَـيعول) من قول القائل: اللّه يقول بأمر خـلقه، وأصله القـيووم، غير أن الواو الأولـى من القـيوم لـما سبقتها ياء ساكنة وهي متـحركة قلبت ياء، فجعلت هي والـياء التـي قبلها ياء مشددة، لأن العرب كذلك تفعل بـالواو الـمتـحركة إذا تقدمتها ياء ساكنةوأما القـيّام، فإن أصله القـيوام، وهو الفَـيْعال، من قام يقوم، سبقت الواو الـمتـحركة من قـيوام ياء ساكنة، فجعلتا جميعا ياء مشددة. ولو أن القـيّوم فعّول، كان القوّوم، ولكنه الفـيعول، وكذلك القـيّام لو كان الفَعّال لكان القوّام، كما

قـيـل: الصوّام والقوام، وكما قال جل ثناؤه: {كُونُوا قَوّامِين لِلّهِ شُهَداء بـالقِسْطِ}، ولكنه الفَـيْعال فقال: القـيّاموأما القـيّـم فهو الفَـيْعِل من قام يقوم، سبقت الواو الـمتـحركة ياء ساكنة فجعلتا ياء مشددة، كما

قـيـل: فلان سيد قومه، من ساد يسود، وهذا طعام جيد من جاد يجود، وما أشبه ذلك. وإنـما جاء ذلك بهذه الألفـاظ لأنه قصد به قصد الـمبـالغة فـي الـمدح، فكان القـيّوم والقـيّام والقـيّـم أبلغ فـي الـمدح من القائم. وإنـما كان عمر رضي اللّه عنه يختار قراءته إن شاء اللّه (القـيّام)، لأن ذلك الغالب علـى منطق أهل الـحجاز فـي ذوات الثلاثة من الـياء والواو، فـيقولون للرجل الصوّاغ: الصيّاغ، ويقولون للرجل الكثـير الدوران الديّار.

وقد قـيـل إن قول اللّه جل ثناؤه: {لا تَذرْ علـى الأرْضِ من الكافرِين ديّارا} إنـما هو (دوّارا) (فعّالاً) من دار يدور، ولكنها نزلت بلغة أهل الـحجاز، وأقرّت كذلك فـي الـمصحف.

٣

انظر تفسير الآية: ٤

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ...}

 

يقول جلّ ثناؤه: يا مـحمد إن ربك وربّ عيسى ورب كل شيء، هو الرب الذي أنزل علـيك {الكِتَابَ} يعنـي بـالكتاب: القرآن. {بـالـحقّ} يعنـي بـالصدق فـيـما اختلف فـيه أهل التوراة والإنـجيـل، وفـيـما خالفك فـيه مـحاجوك من نصارى أهل نـجران، وسائر أهل الشرك غيرهم. {مُصَدّقا لـما بَـيْنَ يَدَيْهِ} يعنـي بذلك القرآن، أنه مصدّق لـما كان قبله من كتب اللّه التـي أنزلها علـى أنبـيائه ورسله، ومـحقق ما جاءت به رسل اللّه من عنده، لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فـيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فـيه اختلاف كثـير.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٢٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ} قال: لـما قبله من كتاب أو رسول.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {مُصَدّقا لِـمَا بَـينَ يَدَيْهِ} لـما قبله من كتاب أو رسول.

٥٢٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ} أي بـالصدق فـيـما اختلفوا فـيه.

٥٢٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ}

يقول: القرآن مصدّقا لـما بـين يديه من الكتب التـي قد خـلت قبله.

٥٢٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنـي ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتَابَ بـالـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ}

يقول: مصدّقا لـما قبله من كتاب ورسول.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأنْزَلَ التّوْرَاةَ والإنْـجِيـلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وأنزل التوراة علـى موسى، والإنـجيـل علـى عيسى. {مِنْ قَبْلُ}

يقول: من قبل الكتاب الذي نزّله علـيك. ويعنـي بقوله: {هُدًى للنّاسِ} بـيانا للناس من اللّه ، فـيـما اختلفوا فـيه من توحيد اللّه وتصديق رسله، ومفـيدا يا مـحمد أنك نبـيـي ورسولـي، وفـي غير ذلك من شرائع دين اللّه . كما:

٥٢٧٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وأنْزَلَ التّوْراة والإنْـجِيـلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى للنّاسِ} هما كتابـان أنزلهما اللّه ، فـيـما بـيان من اللّه ، وعصمة لـمن أخذ به وصدق به وعمل بـما فـيه.

٥٢٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وأنْزلَ التّوْراةَ والإنْـجِيـلَ} التوراة علـى موسى، والإنـجيـل علـى عيسى، كما أنزل الكتب علـى من كان قبلهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأنْزَلَ الفُرْقانَ}.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصل بـين الـحقّ والبـاطل، فـيـما اختلفت فـيه الأحزاب وأهل الـملل فـي أمر عيسى وغيره. وقد بـينا فـيـما مضى أن الفُرقان إنـما هو الفُعلان من قولهم: فرق اللّه بـين الـحقّ والبـاطل يفصل بـينهما بنصره بـالـحق علـى البـاطل¹ إما بـالـحجة البـالغة، وإما بـالقهر والغلبة بـالأيدي والقوّة.

وبـما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل، غير أن بعضهم وجه تأويـله إلـى أنه فصل بـين الـحق والبـاطل فـي أمر عيسى، وبعضهم إلـى أنه فصل بـين الـحق والبـاطل فـي أحكام الشرائع. ذكر من قال: معناه: الفصل بـين الـحقّ والبـاطل فـي أمر عيسى والأحزاب:

٥٢٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وأنْزلَ الفُرْقانَ} أي الفصل بـين الـحقّ والبـاطل، فـيـما اختلف فـيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره.

ذكر من قال: معنى ذلك الفصل بـين الـحقّ والبـاطل فـي الأحكام وشرائع الإسلام:

٥٢٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ} هو القرآن أنزله علـى مـحمد وفرق به بـين الـحقّ والبـاطل، فأحلّ فـيه حلاله، وحرّم فـيه حرامه، وشرع فـيه شرائعه، وحدّ فـيه حدوده، وفرض فـيه فرائضه، وبـين فـيه بـيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.

٥٢٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وأنْزلَ الفُرْقانَ} قال: الفرقان: القرآن فرق بـين الـحقّ والبـاطل.

والتأويـل الذي ذكرناه عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير فـي ذلك، أولـى بـالصحة من التأويـل الذي ذكرناه عن قتادة والربـيع، وأن يكون معنى الفرقان فـي هذا الـموضع: فصل اللّه بـين نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم والذي حاجوه فـي أمر عيسى وفـي غير ذلك من أموره بـالـحجة البـالغة القاطعة عُذْرَهم وعُذْرَ نظرائهم من أهل الكفر بـالله.

وإنـما قلنا هذا القول أولـى بـالصواب، لأن إخبـار اللّه عن تنزيـله القرآن قبل إخبـاره عن تنزيـله التوراة والإنـجيـل فـي هذه الاَية قد مضى بقوله: {نَزّلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ مُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيْهِ} ولا شك أن ذلك الكتاب هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرّة أخرى، إذ لا فـائدة فـي تكريره، لـيست فـي ذكره إياه وخبره عنه ابتداء.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَاللّه عَزِيزٌ ذو انْتِقام}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا أعلام اللّه وأدلته علـى توحيده وألوهته، وأن عيسى عبد له واتـخذوا الـمسيح إلها وربـا، أو ادّعوه لله ولدا، {لهم عَذَابٌ} من اللّه {شَدِيدٌ} يوم القـيامة، والذين كفروا هم الذين جحدوا آيات اللّه . وآيات اللّه : أعلام اللّه وأدلته وحُججه.

وهذا القول من اللّه عزّ وجلّ، ينبىء عن معنى قوله: {وأنْزَلَ الفُرْقَانَ} أنه معنـيّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الـحقّ علـى أهل البـاطل لأنه عقب ذلك بقوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّه } يعنـي: أن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقان الذي أنزله فرقا بـين الـمـحقّ والـمبطل، {لهمْ عذابٌ شديدٌ} وعيد من اللّه لـمن عاند الـحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبـيـل الهدى بعد قـيام الـحجة علـيه. ثم أخبرهم أنه عزيز فـي سلطانه لا يـمنعه مانع مـمن أراد عذابه منهم، ولا يحول بـينه وبـينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فـيه أحد، وأنه ذو انتقام مـمن جحد حججه وأدلته، بعد ثبوتها علـيها، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.)

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٢٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامِ} أي أن اللّه منتقم مـمن كفر بآياته بعد علـمه بها، ومعرفته بـما جاء منه فـيها.

٥٢٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقام}.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ اللّه لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه لا يخفـى علـيه شيء وهو فـي الأرض ولا شيء وهو فـي السماء.

يقول: فـيكف يخفـى علـيّ يا مـحمد، وأنا علام جميع الأشياء، ما يُضَاهَى به هؤلاء الذين يجادلونك فـي آيات اللّه من نصارى جران فـي عيسى ابن مريـم فـي مقالتهم التـي يقولونها فـيه؟ كما:

٥٢٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ اللّه لا يخفـى علـيه شيءٌ فـي الأرضِ ولا فـي السماءِ} أي قد علـم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم فـي عيسى إذ جعلوه ربـا وإلها، وعندهم من علـمه غير ذلك، غرّةً بـاللّه وكفرا به.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: اللّه الذي يصوّركم فـيجعلكم صورا أشبـاحا فـي أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحبّ، فـيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يعرّف عبـاده بذلك أن جميع من اشتـملت علـيه أرحام النساء مـمن صوّره وخـلقه كيف شاء، وأن عيسى ابن مريـم مـمن صوّره فـي رحم أمه وخـلقه فـيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلها لـم يكن مـمن اشتـملت علـيه رحم أمه، لأن خلاّق ما فـي الأرحام لا تكون الأرحام علـيه مشتـملة، وإنـما تشتـمل علـى الـمخـلوقـين. كما:

٥٢٨٥ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِـي الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ} قد كان عيسى مـمن صُوّر فـي الأرحام، لا يدفعون ذلك، ولا ينكرونه، كما صور غيره من بنـي آدم، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك الـمنزل؟

٥٢٨٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {هُوَ الّذِي يُصوّرَكُمْ فِـي الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} أي أنه صور عيسى فـي الرحم كيف شاء.

وقال آخرون فـي ذلك، ما:

٥٢٨٧ـ حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، عن أبـي مالك، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم قوله: {هُو الّذِي يُصوّرُكُمْ فـي الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ} قال: إذا وقعت النطفة فـي الأرحام، طارت فـي الـجسد أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا بلغ أن يخـلق بعث اللّه ملكا يصوّرها، فـيأتـي الـملك بتراب بـين أصبعيه، فـيخـلطه فـي الـمضغة ثم يعجنه بها ثم يصوّرها كما يؤمر، فـ

يقول: أذكر أو أنثى، أشقـيّ أو سعيد، وما رزقه، وما عمره، وما أثره، وما مصائبه؟ فـيقول اللّه ، ويكتب الـملك. فإذا مات ذلك الـجسد، دفن حيث أخذ ذلك التراب.

٥٢٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {هُوَ الّذِي يُصوّرُكُمْ فـي الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ} قادر واللّه ربنا أن يصوّر عبـاده فـي الأرحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تام خـلقه وغير تام.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكيـمُ}.

وهذا القول تنزيه من اللّه تعالـى ذكره نفسه أن يكون له فـي ربوبـيته ندّ أو مثل أو أن تـجوز الألوهة لغيره، وتكذيب منه للذين قالوا فـي عيسى ما قالوا من وفد نـجران الذين قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وسائر من كان علـى مثل الذي كانوا علـيه من قولهم فـي عيسى، ولـجميع من ادّعى مع اللّه معبودا، أو أقرّ بربوبـية غيره. ثم أخبر جل ثناؤه خـلقه بصفته وعيدا منه لـمن عبد غيره أو أشرك فـي عبـادته أحدا سواه،

فقال: {هُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد، ولا ينـجيه منه وأْلٌ ولا لَـجَأٌ، وذلك لعزّته التـي يذلّ لها كل مخـلوق، ويخضع لها كل موجود. ثم أعلـمهم أنه الـحكيـم فـي تدبـيره، وإعذاره إلـى خـلقه، ومتابعة حججه علـيهم، لـيهلك من هلك منهم عن بـينة، ويحيا من حيّ عن بـينة. كما:

٥٢٨٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير، قال: ثم قال: ـ يعنـي الربّ عزّ وجلّ إنزاها لنفسه، وتوحيدا لها مـما جعلوا معه ـ {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} قال: العزيز فـي نصرته مـمن كفر به إذا شاء، والـحكيـم فـي عذره وحجته إلـى عبـاده.

٥٢٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ}

يقول: عزيز فـي نقمته، حكيـم فـي أمره.

٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ ... }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} أن اللّه الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء، {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} يعنـي بـالكتاب: القرآن. وقد أتـينا علـى البـيان فـيـما مضى عن السبب الذي من أجله سُمّي القرآن كتابـا بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وأما قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ} فإنه يعنـي من الكتاب آيات، يعنـي بـالاَيات آيات القرآنوأما الـمـحكمات: فإنهنّ اللواتـي قد أحكمن بـالبـيان والتفصيـل، وأثبتت حججهن وأدلتهن علـى ما جعلن أدلة علـيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك. ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الاَيات الـمـحكمات بأنهنّ هنّ أمّ الكتاب، يعنـي بذلك أنهنّ أصل الكتاب الذي فـيه عماد الدين والفرائض والـحدود، وسائر ما بـالـخـلق إلـيه الـحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض فـي عاجلهم وآجلهم. وإنـما سماهنّ أم الكتاب، لأنهنّ معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الـحاجة إلـيه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الـجامع معظم الشيء أُمّا له، فتسمي راية القوم التـي تـجمعهم فـي العساكر أمهم، والـمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها. وقد بـينا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. ووحد أمّ الكتاب، ولـم يجمع فـ

يقول: هنّ أمهات الكتاب، وقد قال هنّ لأنه أراد جميع الاَيات الـمـحكمات أمّ الكتاب، لا أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب، ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهنّ أمّ الكتاب، لكان لا شكّ قد

قـيـل: هنّ أمهات الكتاب. ونظير قول اللّه عزّ وجلّ: {هُنّ أُمّ الكِتَابِ} علـى التأويـل الذي قلنا فـي توحيد الأم وهي خبر لـ(هُنّ) قوله تعالـى ذكره: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَـمَ وأُمّهُ آيَةً} ولـم يقل آيتـين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية، إذ كان الـمعنى واحدا فـيـما جُعلا فـيه للـخـلق عبرة. ولو كان مراده الـخبر عن كل واحد منهما علـى انفراده، بأنه جعل للـخـلق عبرة، لقـيـل: وجعلنا ابن مريـم وأمه آيتـين¹ لأنه قد كان فـي كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريـم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلـم فـي الـمهد صبـيا، فكان فـي كل واحد منهما للناس آية.

وقد قال بعض نـحويـي البصرة: إنـما

قـيـل: {هُنّ أُمّ الكِتَابِ} ولـم يقل: (هنّ أمهات الكتاب) علـى وجه الـحكاية، كما يقول الرجل: ما لـي أنصار، فتقول: أنا أنصارك، أو ما لـي نظير، فتقول: نـحن نظيرك

قال: وهو شبـيه (دعنـي من تـمرتان)، وأنشد لرجل من فقعس:

تَعَرّضَتْ لِـي بِـمَكانٍ حَلّتَعَرّضَ الـمُهْرَةِ فـي الطّوَلّ

تَعَرّضا لَـمْ تَأْلُ عَنْ قَتْلاً لِـي

حَلّ أي يحلّ به، علـى الـحكاية، لأنه كان منصوبـا قبل ذلك، كما

يقول: نودي: الصلاةَ الصلاةَ، يحكي قول القائل: الصلاةَ الصلاةَ!

وقال: قال بعضهم: إنـما هي أن قتلاً لـي، ولكنه جعله (عن) لأن أن فـي لغته تـجعل موضعها (عن) والنصب علـى الأمر، كأنك قلت: ضربـا لزيد. وهذا قول لا معنى له، لأن كل هذه الشواهد التـي استشهد بها، لا شكّ أنهنّ حكايات حالتهن بـما حكي عن قول غيره وألفـاظه التـي نطق بهنّ، وأن معلوما أن اللّه جل ثناؤه لـم يحك عن أحد قوله: أمّ الكتاب، فـيجوز أن يقال: أخرج ذلك مخرج الـحكاية عمن قال ذلك كذلك.

وأما قوله {وأُخرَ} فإنها جمع أخرى.

ثم اختلف أهل العربـية فـي العلة التـي من أجلها لـم يصرف (أُخر)،

فقال بعضهم: لـم يصرف أُخَر من أجل أنها نعت واحدتها أخرى، كما لـم تصرف جُمع وكُتع، لأنهنّ نعوت.

وقال آخرون: إنـما لـم تصرف الأُخَر لزيادة الـياء التـي فـي واحدتها، وأن جمعها مبنـي علـى واحدها فـي ترك الصرف،

قالوا: وإنـما ترك صرف أخرى، كما ترك صرف حمراء وبـيضاء فـي النكرة والـمعرفة لزيادة الـمدة فـيها والهمزة بـالواو، ثم افترق جمع حمراء وأخرى، فبنى جمع أخرى علـى واحدته، فقـيـل: فُعَل أُخَر، فترك صرفها كما ترك صرف أخرى، وبنى جمع حمراء وبـيضاء علـى خلاف واحدته، فصرف، فقـيـل حُمْر وبِـيض. فلاختلاف حالتـيهما فـي الـجمع اختلف إعرابهما عندهم فـي الصرف، ولاتفـاق حالتـيهما فـي الواحدة اتفقت حالتهما فـيها.

وأما قوله: {مُتَشَابِهَاتٌ} فإن معناه: متشابهات فـي التلاوة، مختلفـات فـي الـمعنى، كما قال جلّ ثناؤه: {وأتُوُا بِهِ مُتَشابِها} يعنـي فـي الـمنظر: مختلفـا فـي الـمطعم، وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بنـي إسرائيـل أنه قال: {إنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَـيْنَا} يعنون بذلك: تشابه علـينا فـي الصفة، وإن اختلفت أنواعه.

فتأويـل الكلام إذا: إن الذي لا يخفـى علـيه شيء فـي الأرض ولا فـي السماء، هو الذي أنزل علـيك يا مـحمد القرآن، منه آيات مـحكمات بـالبـيان، هنّ أصل الكتاب الذي علـيه عمادك وعماد أمتك فـي الدين، وإلـيه مفزعك ومفزعهم فـيـما افترضت علـيك وعلـيهم من شرائع الإسلام، وآيات أخر هنّ متشابهات فـي التلاوة، مختلفـات فـي الـمعانـي.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُمّ أمّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} وما الـمـحكم من آي الكتاب، وما الـمتشابه منه؟

فقال بعضهم: الـمـحكمات من آي القرآن: الـمعمول بهنّ، وهن الناسخات، أو الـمثبتات الأحكام¹ والـمتشابهات من آية: الـمتروك العمل بهن، الـمنسوخات. ذكر من قال ذلك:

٥٢٩١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: هي الثلاث الاَيات التـي ههنا: {قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَـيْكُمْ} إلـى ثَلاث آيات، والتـي فـي بنـي إسرائيـل: {وَقَضَى رَبّكَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ} إلـى آخر الاَيات.

٥٢٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} الـمـحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به

قال: {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} والـمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به، ولا يعمل به.

٥٢٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـىَ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ} فـالـمـحكمات التـي هي أم الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به¹ والـمتشابهات: هن الـمنسوخات التـي لا يدان بهن.

٥٢٩٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره، عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} إلـى قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} أما الاَيات الـمـحكمات: فهن الناسخات التـي يعمل بهنّ وأما الـمتشابهات: فهنّ الـمنسوخات.

٥٢٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُمّ أُمّ الكِتابِ} والـمـحكمات: الناسخ الذي يعمل به ما أحلّ اللّه فـيه حلاله وحرم فـيه حرامه وأما الـمتشابهات: فـالـمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.

٥٢٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: الـمـحكم: ما يعمل به.

٥٢٩٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أمّ الكتاب وأخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمـحكمات: الناسخ الذي يعمل به، والـمتشابهات: الـمنسوخ الذي لا يعمل به، ويؤمن به.

٥٢٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: الناسخات، {وأُخَرَ مُتَشابِهاتٌ} قال: ما نسخ وترك يتلـى.

حدثنـي ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: الـمـحكم ما لـم ينسخ، وما تشابه منه: ما نسخ.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: الناسخ، {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمنسوخ.

٥٢٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أمّ الكِتابِ وأخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: الـمـحكمات: الذي يعمل به.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يحدث، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} يعنـي: الناسخ الذي يعمل به، {وَأُخَرُ مُتَشابِهات} يعنـي الـمنسوخ، يؤمن به ولا يعمل به.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سلـمة، عن الضحاك : {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} قال: ما لـم ينسخ، {وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} قال: ما قد نسخ.

وقال آخرون: الـمـحكمات من آي الكتاب: ما أحكم اللّه فـيه بـيان حلاله وحرامه¹ والـمتشابه منها: ما أشبه بعضه بعضا فـي الـمعانـي وإن اختلفت ألفـاظه. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} ما فـيه من الـحلال والـحرام وما سوى ذلك، فهو متشابه يصدّق بعضه بعضا، وهو مثل قوله: {وَما يَضِلّ بِهِ إلاّ الفـاسِقِـينَ}، ومثل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّه الرّجْسَ عَلـى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}،، ومثل قوله: {وَالّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد. مثله.

وقال آخرون: الـمـحكمات من آي الكتاب: ما لـم يحتـمل من التأويـل غير وجه واحد¹ والـمتشابه منه: ما احتـمل من التأويـل أوجها. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ} فـيهن حجة الربّ، وعصمة العبـاد، ودفع الـخصوم والبـاطل، لـيس لها تصريف ولا تـحريف عما وضعت علـيه. وأُخر متشابهة فـي الصدق، لهنّ تصريف وتـحريف وتأويـل، ابتلـى اللّه فـيهنّ العبـاد كما ابتلاهم فـي الـحلال والـحرام، لا يصرفن إلـى البـاطل ولا يحرّفن عن الـحقّ.

وقال آخرون: معنى الـمـحكم: ما أحكم اللّه فـيه من آي القرآن وقصص الأمـم ورسلهم الذين أرسلوا إلـيهم، ففصله ببـيان ذلك لـمـحمد وأمته. والـمتشابه: هو ما اشتهبت الألفـاظ به من قصصهم عند التكرير فـي السور فقصة بـاتفـاق الألفـاظ واختلاف الـمعانـي، وقصة بـاختلاف الألفـاظ واتفـاق الـمعانـي. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وقرأ: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيـمٍ خَبِـيرٍ} قال: وذكر حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي أربع وعشرين آية منها، وحديث نوح فـي أربع وعشرين آية منها. ثم قال: {تِلكَ مِنْ أنبـاءِ الغَيْبِ} ثم ذكر: {وَإلـى عاد} فقرأ حتـى بلغ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ} ثم مضى ثم ذكر صالـحا وإبراهيـم ولوطا وشعيبـا، وفرغ من ذلك. وهذا يقـين، ذلك يقـين أحكمت آياته ثم فصلت

قال: والـمتشابه ذكر موسى فـي أمكنة كثـيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد ومتشابه: {اسْلُكْ فِـيها} {احْمِلْ فِـيها} {اسْلُكْ يَدَكَ} {أدْخِـلْ يَدَكَ} {حَيّةً تَسْعَى} {ثُعْبَـانٌ مُبِـينٌ}

قال: ثم ذكر هودا فـي عشر آيات منها، وصالـحا فـي ثمانـي آيات منها وإبراهيـم فـي ثمانـي آيات أخرى، ولوطا فـي ثمانـي آيات منها، وشعيبـا فـي ثلاث عشرة آية، وموسى فـي أربع آيات، كل هذا يقضي بـين الأنبـياء وبـين قومهم فـي هذه السورة، فـانتهى ذلك إلـى مائة آية من سورة هود، ثم قال: {ذَلِكَ مِنْ أنْبـاءِ القُرَى نَقُصّهُ عَلَـيْكَ مِنْها قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}

وقال فـي الـمتشابه من القرآن: من يرد اللّه به البلاء والضلالة،

يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟

وقال آخرون: بل الـمـحكم من آي القرآن: ما عرف العلـماء تأويـله، وفهموا معناه وتفسيره¹ والـمتشابه: ما لـم يكن لأحد إلـى علـمه سبـيـل مـما استأثر اللّه بعلـمه دون خـلقه، وذلك نـحو الـخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريـم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقـيام الساعة، وفناء الدنـيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلـمه أحد. و

قالوا: إنـما سمى اللّه من آي الكتاب الـمتشابه الـحروف الـمقطعة التـي فـي أوائل بعض سور القرآن من نـحو الـم، والـمص، والـمر، والر، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات فـي الألفـاظ، وموافقات حروف حساب الـجمل. وكان قوم من الـيهود علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلـموا نهاية أُكْلِمـحمد وأمته، فأكذب اللّه أحدوثتهم بذلك، وأعلـمهم أن ما ابْتَغَوْا علـمه من ذلك من قبل هذه الـحروف الـمتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلـمه إلا اللّه . وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد اللّه بن رئاب أن هذه الاَية نزلت فـيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره مـمن قال نـحو مقالته فـي تأويـل ذلك فـي تفسير قوله: {الـم ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِـيهِ}. وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد اللّه أشبه بتأويـل الاَية، وذلك أن جميع ما أنزل اللّه عز وجل من آي القرآن علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإنـما أنزله علـيه بـيانا له ولأمته وهدى للعالـمين، وغير جائز أن يكون فـيه ما لا حاجة بهم إلـيه، ولا أن يكون فـيه ما بهم إلـيه الـحاجة، ثم لا يكون لهم إلـى علـم تأويـله سبـيـل. فإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فـيه لـخـلقه إلـيه الـحاجة، وإن كان فـي بعضه ما بهم عن بعض معانـيه الغنى، وإن اضطرته الـحاجة إلـيه فـي معان كثـيرة، وذلك كقول اللّه عز وجل: {يَوْمَ يَأتِـي بَعْضُ آياتِ رَبّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إيـمَانُها لَـمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أوْ كَسَبَتْ فِـي إيـمانِها خَيْرا} فأعلـم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أمته أن تلك الاَية التـي أخبر اللّه جل ثناؤه عبـاده أنها إذا جاءت لـم ينفع نفسا إيـمانها لـم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها. فـالذي كانت بـالعبـاد إلـيه الـحاجة من علـم ذلك هو العلـم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تـحديده بعد بـالسنـين والشهور والأيام، فقد بـين اللّه ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم علـى لسان رسول صلى اللّه عليه وسلم مفسّرا. والذي لا حاجة لهم إلـى علـمه منه هو العلـم بـمقدار الـمدة التـي بـين وقت نزول هذه الاَية ووقت حدوث تلك الاَية، فإن ذلك مـما لا حاجة بهم إلـى علـمه فـي دين ولا دنـيا، وذلك هو العلـم الذي استأثر اللّه جل ثناؤه به دون خـلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو الـمعنى الذي طلبت الـيهود معرفته فـي مدة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته من قبل قوله: الـم، والـمص، والر، والـمر، ونـحو ذلك من الـحروف الـمقطعة الـمتشابهات، التـي أخبر اللّه جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويـل ذلك من قِبَله، وأنه لا يعلـم تأويـله إلا اللّه .

فإذا كان الـمتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمـحكم، لأنه لن يخـلو من أن يكون مـحكما بأنه بـمعنى واحد لا تأويـل له غير تأويـل واحد، وقد استغنـي بسماعه عن بـيان يبـيّنه، أو يكون مـحكما، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف فـي معان كثـيرة، فـالدلالة علـى الـمعنى الـمراد منه إما من بـيان اللّه تعالـى ذكره عنه أو بـيان رسوله صلى اللّه عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علـم ذلك عن علـماء الأمة لـما قد بـينا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُنّ أمّ الكِتابِ}.

قد أتـينا علـى البـيان عن تأويـل ذلك بـالدلالة الشاهدة علـى صحة ما قلنا فـيه، ونـحن ذاكرو اختلاف أهل التأويـل فـيه. وذلك أنهم اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معنى قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} هنّ اللائي فـيهنّ الفرائض والـحدود والأحكام، نـحو قـيـلنا الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٣ـ حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيـى بن يعمر أنه قال فـي هذه الاَية: {مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال يحيـى: هنّ اللاتـي فـيهنّ الفرائض والـحدود وعماد الدين، وضرب لذلك مثلاً فقال: أم القرى مكة، وأم خراسان مرو، وأمّ الـمسافرين الذين يجعلون إلـيه أمرهم، ويُعْنَى بهم فـي سفرهم، قال: فذاك أمهم.

٥٣٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: هنّ جماع الكتاب.

وقال آخرون: بل معنـيّ بذلك فواتـح السور التـي منها يستـخرج القرآن. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٥ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبـي فـاختة أنه قال فـي هذه الاَية: {مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} قال: أم الكتاب: فواتـح السور، منها يستـخرج القرآن¹ {الـم ذَلِكَ الكِتابُ} منها استـخرجت البقرة، و {الـم اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ} منها استـخرجت آل عمران.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: فأما الذين فـي قلوبهم ميـل عن الـحقّ، وانـحراف عنه. يقال منه: زاغ فلان عن الـحقّ، فهو يزيغ عنه زَيْغا وَزَيَغانا وزَيْغُوغة وزُيُوغا، وأزاغه اللّه : إذا أماله، فهو يُزيغه، ومنه قوله جلّ ثناؤه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تـملها عن الـحقّ {بعدَ إذْ هَدَيْتَنا}.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٣٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميـل عن الهدى.

٥٣٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٣٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس : {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: من أهل الشك.

٥٣٠٩ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس ، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أما الزيغ: فـالشك.

٥٣١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: {زَيْغٌ}: شكّ. قال ابن جريج {الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الـمنافقون.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} ما تشابهت ألفـاظه وتصرفت معانـيه بوجوه التأويلات، لـيحققوا بـادعائهم الأبـاطيـل من التأويلات فـي ذلك ما هم علـيه من الضلالة والزيغ عن مـحجة الـحق تلبـيسا منهم بذلك علـى من ضعفت معرفته بوجوه تأويـل ذلك وتصاريف معانـيه. كما:

٥٣١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس : {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فـيحملون الـمـحكم علـى الـمتشابه، والـمتشابه علـى الـمـحكم، ويـلبّسون، فلبّس اللّه علـيهم.

٥٣١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي ما تـحرف منه وتصرف، لـيصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، لـيكون لهم حجة علـى ما قالوا وشبهة.

٥٣١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـي قوله: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} قال: البـاب الذي ضلوا منه وهلكوا فـيه ابتغاء تأويـله.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

٥٣١٤ـ حدثنـي حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي قوله: {فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ} يتبعون الـمنسوخ والناسخ، فـيقولون: ما بـال هذه الاَية عمل بها كذا وكذا مـجاز هذه الاَية، فتركت الأولـى وعمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الاَية قبل أن تـجيء الأولـى التـي نسخت. وما بـاله يعد العذاب من عمل عملاً يعدّ به النار وفـي مكان آخر من عمله فإنه لـم يوجب النار.

واختلف أهل التأويـل فـيـمن عنـي بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عنـي به الوفدُ من نصارى نـجران الذين قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحاجوه بـما حاجوه به، وخاصموه بأن

قالوا: ألست تزعم أن عيسى روح اللّه وكلـمته؟ وتأوّلوا فـي ذلك ما يقولون فـيه من الكفر. ذكر من قال ذلك:

٥٣١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: عمدوا ـ يعنـي الوفد الذين قدموا علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نصارى نـجران ـ فخاصموا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم،

قالوا: ألست تزعم أنه كلـمة اللّه وروح منه؟ قال: (بلـى)،

قالوا: فحسبنا! فأنزل اللّه عز وجل: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ}. ثم إن اللّه جل ثناؤه أنزل: {إنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل أنزلت هذه الاَية فـي أبـي ياسر بن أخطب، وأخيه حيـي بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي قدر مدة أُكْله وأُكل أمته، وأرادوا علـم ذلك من قبل قوله: الـم، والـمص، والـمر، والر فقال اللّه جل ثناؤه فـيهم: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعنـي هؤلاء الـيهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والـحقّ، {فَـيَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ} يعنـي معانـي هذه الـحروف الـمقطعة الـمـحتـملة التصريف فـي الوجوه الـمختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة. وقد ذكرنا الرواية بذلك فـيـما مضى قبل فـي أول السورة التـي تذكر فـيها البقرة.

وقال آخرون: بل عنى اللّه عزّ وجلّ بذلك كل مبتدع فـي دينه بدعة مخالفة لـما ابتعث به رسوله مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بتأويـل يتأوّله من بعض آي القرآن الـمـحتـملة التأويلات، وإن كان اللّه قد أحكم بـيان ذلك، إما فـي كتابه وإما علـى لسان رسوله. ذكر من قال ذلك:

 

٥٣١٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {فأمّا الّذِين فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاء الفِتْنَةِ}. وكان قتادة إذا قرأ هذه الاَية: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لـم يكونوا الـحرورية والسبئية فلا أدري من هم. ولعمري لقد كان فـي أهل بدر والـحديبـية الذين شهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـيعة الرضوان من الـمهاجرين والأنصار، خبر لـمن استـخبر، وعبرة لـمن استعبر، لـمن كان يعقل أو يبصر. إن الـخوارج خرجوا وأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ كثـير بـالـمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذ أحياء، واللّه إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط، ولا رضوا الذي هم علـيه ولا مالئوهم فـيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياه ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم وتشتدّ واللّه علـيهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الـخوارج هدى لاجتـمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرّق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير اللّه وجدت فـيه اختلافـا كثـيرا، فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويـل، فهل أفلـحوا فـيه يوما أو أنـجحوا؟ يا سبحان اللّه كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا علـى هدى قد أظهره اللّه وأفلـحه ونصره، ولكنهم كانوا علـى بـاطل أكذبه اللّه وأدحضه، فهم كما رأيتهم كلـما خرج لهم قرن أدحض اللّه حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرق دماءهم¹ وإن كتـموا كان قرحا فـي قلوبهم وغما علـيهم، وإن أظهروه أهراق اللّه دماءهم، ذاكم واللّه دين سوء فـاجتنبوه. واللّه إن الـيهود لبدعة، وإن النصرانـية لبدعة، وإن الـحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهنّ كتاب ولا سنهنّ نبـيّ.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فأمّا الّذِينَ فـي قُلُوبِهِمْ زيْغٌ فَـيَتّبِعُون ما تَشابَه مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاء تأوِيـلِهِ} طلب القوم التأويـل فأخطأوا التأويـل، وأصابوا الفتنة، فـاتبعوا ما تشابه منه فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان فـي أصحاب بدر والـحديبـية الذين شهدوا بـيعة الرضوان. وذكر نـحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.

٥٣١٧ـ حدثنـي مـحمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا إسماعيـل بن علـية، عن أيوب، عن عبد اللّه بن أبـي ملـيكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـى قوله: {وَما يَذّكَرُ إلاّ أُولُوا الألْبـابِ} فقال: (فإذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فـاحْذَرُوهُمْ).

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أيوب، عن عبد اللّه بن أبـي ملـيكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ} إلـى: {وَما يَذّكَرُ إلاّ أولُوا الألْبـابِ}. قالت: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فإذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ) أو قال: {يَتَـجَادَلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فـاحْذَرُوهُمْ} قال مطر، عن أيوب أنه قال: (فلا تـجالسوهم، فهم الذين عنى اللّه فـاحذروهم).

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، بنـحو معناه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، نـحوه.

٥٣١٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا الـحارث، عن أيوب، عن ابن أبـي ملـيكة عن عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قالت: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}.. الاَية كلها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ وَالّذِينَ يُجَادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه ، أُولَئِكَ الّذِينَ قال اللّه : فَلا تُـجالسُوهُمْ) .

٥٣١٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيـم، عن ابن أبـي ملـيكة، قال: سمعت القاسم بن مـحمد يحدّث عن عائشة، قالت: تلا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَلَ عَلَـيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} ثم قرأ إلـى آخر الاَيات،

فقال: (إذَا رأيْتُـمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَـأُولَئِكَ الّذِينَ سَمّى اللّه فَـاحْذَرُوهُمْ).

٥٣٢٠ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، عن حماد بن سلـمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {يَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قَدْ حَذّرَكُمُ اللّه ، فإذَا رأيْتُـمُوهُمْ فـاعْرِفُوهُمْ).

٥٣٢١ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا الولـيد، عن نافع، عن عمر، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا رأيْتُـمُوهُمْ فـاحْذَرُوهُمْ!)، ثم نزع: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} (وَلا يَعْمَلُونَ بِـمُـحْكَمِهِ).

حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: أخبرنا عمي، قال: أخبرنـي شبـيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن هذه الاَية: {فأمّا الّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَـيَتّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ وَما يَعْلَـمُ تَأوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي الْعِلْـمِ} فقال: (فإذَا رَأيْتُـمُ الّذِينَ يُجادِلُونَ فِـيهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فَـاحْذَرُوهُمْ).

حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة فـي هذه الاَية: {هُوَ الّذِي أنْزَل عَلَـيْكَ الكِتابَ}.. الاَية. يتبعها: يتلوها، ثم

يقول: (فإذا رَأَيْتُـمُ الّذِنَ يُجَادِلُونَ فِـيهِ فَـاحْذَرُوهُمْ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلـمة، عن ابن أبـي ملـيكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم فـي هذه الاَية: {هُو الّذِي أنْزل عَلَـيْك الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُـحْكَماتٌ هُنّ أُمّ الكِتابِ} إلـى آخر الاَية، قال: (هُمُ الّذِينَ سَمّاهُمُ اللّه ، فإذَا رَأيْتُـمُوهُمْ فـاحْذَرُوهُمْ).

قال أبو جعفر: والذي يدلّ علـيه ظاهر هذه الاَية أنها نزلت فـي الذين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمتشابه ما أنزل إلـيه من كتاب اللّه إما فـي أمر عيسى، وإما فـي مدة أُكُله وأُكْل أمته، وهو بأن تكون فـي الذين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـمتشابهه فـي مدته ومدة أمته أشبه، لأن قوله: {وما يَعْلَـمُ تأوِيـلَهُ إلاّ اللّه } دالّ علـى أن ذلك إخبـار عن الـمدة التـي أرادوا علـمها من قبل الـمتشابه الذي لا يعلـمه إلا اللّه . فأما أمر عيسى وأسبـابه، فقد أعلـم اللّه ذلك نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وأمته وبـينه لهم، فمعلوم أنه لـم يعن إلا ما كان خفـيا عن الاَحاد.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} قال: إرادة الشرك.

٥٣٢٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {ابْتِغاء الفِتْنَةِ} يعنـي الشرك.

وقال آخرون: معنى ذلك ابتغاء الشبهات. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} قال: الشبهات بها أهلكوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} الشبهات، قال: هلكوا به.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} قال: الشبهات، قال: والشبهات ما أهلكوا به.

٥٣٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ} أي اللبس.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: إرادة الشبهات واللبس. فمعنى الكلام إذا: فأما الذين فـي قلوبهم ميـل عن الـحقّ وَحَيْفٌ عنه، فـيتعبون من آي الكتاب ما تشابهت ألفـاظه، واحتـمل صرفه فـي وجوه التأويلات، بـاحتـماله الـمعانـي الـمختلفة إرادة اللبس علـى نفسه وعلـى غيره، احتـجاجا به علـى بـاطله الذي مال إلـيه قلبه دون الـحقّ الذي أبـانه اللّه فأوضحه بـالـمـحكمات من آي كتابه.

وهذه الاَية وإن كانت نزلت فـيـمن ذكرنا أنها نزلت فـيه من أهل الشرك، فإنه معنـيّ بها كل مبتدع فـي دين اللّه بدعة، فمال قلبه إلـيها، تأويلاً منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الـحقّ، وعدل عن الواضح من أدلة آيه الـمـحكمات إرادة منه بذلك اللبس علـى أهل الـحقّ من الـمؤمنـين، وطلبـا لعلـم تأويـل ما تشابه علـيه من ذلك كائنا من كان، وأيّ أصناف البدعة كان من أهل النصرانـية كان أو الـيهودية أو الـمـجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا، كالذي قال صلى اللّه عليه وسلم: (فإذَا رَأيْتُـمُ الّذِينَ يُجَادِلُونَ بِهِ فَهُمُ الّذِينَ عَنَى اللّه فَـاحْذَرُوهُمْ). وكما:

٥٣٢٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا سفـيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : وذكر عنده الـخوارج، وما يـلقون عند الفرار،

فقال: يؤمنون بـمـحكمه، ويهلكون عند متشابهه. وقرأ ابن عبـاس : {وما يَعْلَـمُ تأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه }.. الاَية.

وإنـما قلنا: القول الذي ذكرنا أنه أولـى التأويـلـين بقوله: {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} لأن الذين نزلت فـيهم هذه الاَية كانوا أهل شرك، وإنـما أرادوا بطلب تأويـل ما طلبوا تأويـله اللبس علـى الـمسلـمين والاحتـجاج به علـيهم لـيصدّوهم عما هم علـيه من الـحقّ، فلا معنى لأن يقال: فعلوا ذلك إرادة الشرك، وهم قد كانوا مشركين.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وابْتِغاءَ تأوِيـلِهِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى التأويـل الذي عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: {وابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} فقال بعضهم معنى ذلك: الأجل الذي أرادت الـيهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر أمته من قِبَل الـحروف الـمقطعة من حساب الـجمل كـ(الـم)، و(الـمص)، و(الر)، و(الـمر) وما أشبه ذلك من الاَجال. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : أما قوله: {وما يَعْلَـمُ تأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه } يعنـي تأويـله يوم القـيامة إلا اللّه .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: عواقب القرآن. و

قالوا: إنـما أرادوا أن يعلـموا متـى يجيء ناسخ الأحكام التـي كان اللّه جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مـجيئه، فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيـلِهِ} أرادوا أن يعلـموا تأويـل القرآن، وهو عواقبه، قال اللّه : {وَمَا يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه }، وتأويـله: عواقبه، متـى يأتـي الناسخ منه فـينسخ الـمنسوخ.

وقال آخرون: معنى ذلك: وابتغاء تأويـل ما تشابه من آي القرآن يتأوّلونه ـ إذ كان ذا وجوه وتصاريف فـي التأويلات ـ علـى ما فـي قلوبهم من الزيغ، وما ركبوه من الضلالة. ذكر من قال ذلك:

٥٣٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} وذلك علـى ما ركبوا من الضلالة فـي قولهم، خـلقنا وقضينا.

والقول الذي قاله ابن عبـاس من أن ابتغاء التأويـل الذي طلبه القوم من الـمتشابه هو معرفة انقضاء الـمدة، ووقت قـيام الساعة، والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هُو جاءٍ قبل مـجيئه أولـى بـالصواب، وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلـى حصره علـى أن معناه: إن القوم طلبوا معرفة وقت مـجيء الناسخ لـما قد أحكم قبل ذلك.

وإنـما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مـجيئه الـمـحجوب علـمه عنهم وعن غيرهم بـمتشابه آي القرآن، أولـى بتأويـل قوله: {وَابْتِغاءَ تَأْوِيـلِهِ} لـما قد دللنا علـيه قبل من إخبـار اللّه جل ثناؤه أن ذلك التأويـل لا يعلـمه إلا اللّه ، ولا شك أن معنى قوله: (قضينا) و(فعلنا)، قد علـم تأويـله كثـير من جهلة أهل الشرك، فضلاً عن أهل الإيـمان وأهل الرسوخ فـي العلـم منهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: وما يعلـم وقت قـيام الساعة وانقضاء مدة أُكل مـحمد وأمته وما هو كائن، إلا اللّه ، دون من سواه من البشر الذين أمّلوا إدراك علـم ذلك من قبل الـحساب والتنـجيـم والكهانة.

وأما الراسخون فـي العلـم، فـيقولون: آمنا به كل من عند ربنا، لا يعلـمون ذلك، ولكن فضل علـمهم فـي ذلك علـى غيرهم العلـم بأن اللّه هو العالـم بذلك دون من سواه من خـلقه.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، وهل الراسخون معطوف علـى اسم اللّه ، بـمعنى إيجاب العلـم لهم بتأويـل الـمتشابه، أو هم مستأنف ذكرهم بـمعنى الـخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بـالـمتشابه، وصدّقنا أن علـم ذلك لا يعلـمه إلا اللّه ؟

فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلـم تأويـل ذلك إلا اللّه وحده منفردا بعلـمهوأما الراسخون فـي العلـم فإنهم ابتدىء الـخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بـالـمتشابه والـمـحكم، وأن جميع ذلك من عند اللّه .) ذكر من قال ذلك:

٥٣٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، قوله: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قالت: كان من رسوخهم فـي العلـم أن آمنوا بـمـحكمه ومتشابهه، ولـم يعلـموا تأويـله.

٥٣٣١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، قال: كان ابن عبـاس

يقول: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه } يقول الراسخون: آمنا به.

٥٣٣٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن أبـي الزناد، قال: قال هشام بن عروة: كان أبـي يقول فـي هذه الاَية: {وَمَا يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} أن الراسخين فـي العلـم لا يعلـمون تأويـله، ولكنهم يقولون: {آمنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.

٥٣٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا عبـيد اللّه ، عن أبـي نهيك الأسدي قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} فـ

يقول: إنكم تصلون هذه الاَية وإنها مقطوعة {وَما يَعْلَـمُ تَأْويـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا} فـانتهى علـمهم إلـى قولهم الذي قالوا.

٥٣٣٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا ابن دكين، قال: حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد اللّه بن موهب، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز

يقول: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} انتهى علـم الراسخين فـي العلـم بتأويـل القرآن إلـى أن

قالوا: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}.

٥٣٣٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا أشهب، عن مالك فـي قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه } قال: ثم ابتدأ فقال: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} ولـيس يعلـمون تأويـله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلـم تأويـله إلا اللّه والراسخون فـي العلـم، وهم مع علـمهم بذلك ورسوخهم فـي العلـم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}. ذكر من قال ذلك:

٥٣٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس أنه قال: أنا من يعلـم تأويـله.

٥٣٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.

٥٣٣٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعلـمون تأويـله ويقولون آمنا به.

٥٣٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ} الذي أراد ما أراد إلا اللّه والراسخون فـي العلـم يقولون آمنا به. فكيف يختلف وهو قولٌ واحدٌ من رب واحد؟ ثم ردوا تأويـل الـمتشابهة علـى ما عرفوا من تأويـل الـمـحكمة التـي لا تأويـل لأحد فـيها إلا تأويـل واحد، فـاتسق بقولهم الكتاب، وصدّق بعضه بعضا، فنفذت به الـحجة، وظهر به العذر، وزاح به البـاطل، ودمغ به الكفر.

فمن قال القول الأول فـي ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلـمون تأويـل ذلك، وإنـما أخبر اللّه عنهم بإيـمانهم وتصديقهم بأنه من عند اللّه ، فإنه يرفع (الراسخين فـي العلـم) بـالابتداء فـي قول البصريـين، ويجعل خبره (يقولون آمنا به)وأما فـي قول بعض الكوفـيـين فبـالعائد من ذكرهم فـي (يقولون)، وفـي قول بعضهم بجملة الـخبر عنهم، وهي (يقولون). ومن قال القول الثانـي، وزعم أن الراسخين يعلـمون تأويـله عطف بـالراسخين علـى اسم اللّه فرفعهم بـالعطف علـيه.

والصواب عندنا فـي ذلك، أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو (يقولون)، لـما قد بـينا قبل من أنهم لا يعلـمون تأويـل الـمتشابه الذي ذكره اللّه عز وجل فـي هذه الاَية، وهو فـيـما بلغنـي مع ذلك فـي قراءة أبـيّ: (ويقول الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ) كما ذكرناه عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤه¹ وفـي قراءة عبد اللّه : (إن تأويـله إلا عند اللّه والراسخون فـي العلـم يقولون).

وأما معنى التأويـل فـي كلام العرب: فإنه التفسير والـمرجع والـمصير، وقد أنشد بعض الرواة بـيت الأعشى:

علـى أنّها كانَتْ تَأَوّلُ حُبّها

تَأَوّلَ رِبْعيّ السّقابِ فأصْحَبـا

وأصله من آل الشيء إلـى كذا، إذا صار إلـيه ورجع يَؤُولُ أَوْلاً وأوّلته أنا: صيرته إلـيه. وقد

قـيـل: إن قوله: {وأحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي جزاء، وذلك أن الـجزاء هو الذي آل إلـيه أمر القوم وصار إلـيه. ويعنـي بقوله: (تأول حبها): تفسير حبها ومرجعه، وإنـما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا فـي قلبه، فآل من الصغر إلـى العظم، فلـم يزل ينبت حتـى أصحب فصار قديـما كالسقب الصغير الذي لـم يزل يشبّ حتـى أصحب فصار كبـيرا مثل أمه. وقد ينشد هذا البـيت:

علـى أنّها كانَتْ تَوَابِعُ حُبّها

تَوَالَـى رِبْعِيّ السّقابِ فأصْحَبـا

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ}.

يعنـي بـالراسخين فـي العلـم: العلـماء الذين قد أتقنوا علـمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخـلهم فـي معرفتهم وعلـمهم بـما علـموه شك ولا لبس، وأصل ذلك من رسوخ الشيء فـي الشيء، وهو ثبوته وولوجه فـيه، يقال منه: رسخ الإيـمان فـي قلب فلان فهو يَرْسَخ رَسْخا وَرُسُوخا.

وقد روي فـي نعتهم خبر عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، وهو ما:

٥٣٤٠ـ حدثنا موسى بن سهل الرملـي، قال: حدثنا مـحمد بن عبد اللّه ، قال: حدثنا فـياض بن مـحمد الرقـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن يزيد بن آدم، عن أبـي الدرداء وأبـي أمامة، قالا: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الراسخ فـي العلـم؟ قال: (مَنْ بَرّتْ يَـمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسَانُهُ، وَاسْتَقَامَ بِهِ قَلْبُهُ، وَعَفّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِـي العِلْـمِ).

٥٣٤١ـ حدثنـي الـمثنى وأحمد بن الـحسن الترمذي، قالا: حدثنا نعيـم بن حماد، قال: حدثنا فـياض الرقـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن يزيد الأودي ـ قال: وكان أدرك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ قال: حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الراسخين فـي العلـم،

فقال: (مَنْ بَرّتْ يَـمِينُهُ، وَصَدَقَ لِسانُهُ، وَاسْتَقامَ بِهِ قَلْبُهُ، وَعَفّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ¹ فَذَلِكَ الرّاسِخُ فِـي العِلْـمِ).

وقد قال جماعة من أهل التأويـل: إنـما سمى اللّه عزّ وجلّ هؤلاء القوم الراسخين فـي العلـم بقولهم: {آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}. ذكر من قال ذلك:

٥٣٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس ، قال: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال: الراسخون الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا.

٥٣٤٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} هم الـمؤمنون، فإنهم {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} بناسخه ومنسوخه {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا}.

٥٣٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج:

قال ابن عبـاس : قال عبد اللّه بن سلام: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} وعلـمهم قولهم. قال ابن جريج: {الرّاسِخُونَ فِـي العِلـم يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} وهم الذين يقولون: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ويقولون: {رَبّنَا إنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِـيَوْمٍ لا رَيْبَ فِـيهِ}.. الاَية.

وأما تأويـل قوله: {يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} فإنه يعنـي: أن الراسخين فـي العلـم يقولون صدقنا بـما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ، وإن لـم نعلـم تأويـله. وقد:

٥٣٤٥ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك : {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال: الـمـحكم والـمتشابه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} كل الـمـحكم من الكتاب والـمتشابه منه من عند ربنا، وهو تنزيـله ووحيه إلـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. كما:

٥٣٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} قال: يعنـي ما نسخ منه، وما لـم ينسخ.

٥٣٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَما يَعْلَـمُ تَأْوِيـلَهُ إلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ}

قالوا: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} آمنوا بـمتشابهه، وعملوا بـمـحكمه.

٥٣٤٨ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا} يقولون: الـمـحكم والـمتشابه من عند ربنا.

٥٣٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا} يؤمن بـالـمـحكم ويدين به، ويؤمن بـالـمتشابه ولا يدين به، وهو من عند اللّه كله.

٥٣٥٠ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَالرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ} يعملون به، يقولون: نعمل بـالـمـحكم ونؤمن به، ونؤمن بـالـمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.

واختلف أهل العربـية فـي حكم (كل) إذا أضمر فـيها. فقال بعض نـحويـي البصريـين: إذا جاز حذف الـمراد الذي كان معها الذي (الكلّ) إلـيه مضاف فـي هذا الـموضع لأنها اسم، كما قال: {إنّا كُلّ فِـيهَا} بـمعنى: إنا كلنا فـيها، قال: ولا يكون (كلّ) مضمرا فـيها وهي صفة، لا يقال: مررت بـالقوم كل، وإنـما يكون فـيها مضمر إذا جعلتها اسما لو كان إنا كلا فـيها علـى الصفة، لـم يجز، لأن الإضمار فـيها ضعيف لا يتـمكن فـي كل مكان. وكان بعض نـحويـي الكوفـيـين يرى الإضمار فـيها وهي صفة أو اسم سواء، لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافـية بنفسها عما كانت تضاف إلـيه من الـمضمر، وغير جائز أن تكون كافـية منه فـي حال، ولا تكون كافـية فـي أخرى، وقال: سبـيـل الكل والبعض فـي الدلالة علـى ما بعدهما بأنفسهما وكفـايتهما منه، بـمعنى واحد فـي كل حال، صفة كانت أو اسما، وهذا القول الثانـي أولـى بـالقـياس، لأنها إذا كانت كافـية بنفسها مـما حذف منها فـي حال لدلالتها علـيه، فـالـحكم فـيها أنها كلـما وجدت دالة علـى ما بعدها، فهي كافـية منه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما يَذّكّرُ إلاّ أُولُوا الألْبـابِ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول فـي متشابه آي كتاب اللّه ما لا علـم له به إلا أولو العقول والنّهَى. وقد:

٥٣٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما يَذّكّرُ إلاّ أولُوا الألْبـابِ}

يقول: وما يذكر فـي مثل هذا، يعنـي فـي ردّ تأويـل الـمتشابه إلـى ما قد عرف من تأويـل الـمـحكم حتـى يتسقا علـى معنى واحد، إلا أولو الألبـاب.

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أن الراسخين فـي العلـم يقولون: آمنا بـما تشابه من آي كتاب اللّه ، وأنه والـمـحكم من آيه من تنزيـل ربنا ووحيه، ويقولون أيضا: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا} يعنـي أنهم يقولون رغبة منهم إلـى ربهم، فـي أن يصرف عنهم ما ابتلـى به الذين زاغت قلوبهم من اتبـاع متشابه آي القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله الذي لا يعلـمه غير اللّه ، يا ربنا لا تـجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الـحقّ فصدّوا عن سبـيـلك، {لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تـملها فتصرفها عن هداك {بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} له، فوفقتنا للإيـمان بـمـحكم كتابك ومتشابهه، {وَهَبْ لَنا} يا ربنا {مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} يعنـي من عندك رحمة، يعنـي بذلك: هب لنا من عندك توفـيقا وثبـاتا للذي نـحن علـيه، من الإقرار بـمـحكم كتابك ومتشابهه¹ {إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ} يعنـي: إنك أنت الـمعطي عبـادك التوفـيق والسداد، للثبـات علـى دينك، وتصديق كتابك ورسلك. كما:

٥٣٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} أي لا تـمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا، {وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}.

وفـي مدح اللّه جل ثناؤه هؤلاء القوم بـما مدحهم به من رغبتهم إلـيه فـي أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمة منه معونة لهم للثبـات علـى ما هم علـيه من حسن البصيرة بـالـحقّ الذي هم علـيه مقـيـمون، ما أبـان عن خطأ قول الـجهلة من القدرية، أن إزاغة اللّه قلب من أزاغ قلبه من عبـاده عن طاعته، وإمالته له عنها جور، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان الذين

قالوا: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا} بـالذم أولـى منهم بـالـمدح، لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنـما سألوا ربهم مسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم، أن لا يظلـمهم ولا يجور علـيهم، وذلك من السائل جهل¹ لأن اللّه جل ثناؤه لا يظلـم عبـاده ولا يجور علـيهم، وقد أعلـم عبـاده ذلك، ونفـاه عن نفسه بقوله: {وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِـيدِ} ولا وجه لـمسألته أن يكون بـالصفة التـي قد أخبرهم أنه بها، وفـي فساد ما قالوا من ذلك الدلـيـل الواضح، علـى أن عدلاً من اللّه عزّ وجلّ إزاغة من أزاغ قلبه من عبـاده عن طاعته، فلذلك استـحقّ الـمدح من رغب إلـيه فـي أن لا يزيغه لتوجيهه الرغبة إلـى أهلها ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برغبته إلـى ربه فـي ذلك مع مـحله منه، وكرامته علـيه.

٥٣٥٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الـحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلـمة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي علـى دِينِكَ) ثم قرأ: {رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا}.. إلـى آخر الاَية.

٥٣٥٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الـحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بنـحوه.

٥٣٥٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا عبد الـحميد بن بهرام الفزاري، قال: حدثنا شهر بن حوشب، قال: سمعتُ أم سلـمة تـحدّث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكثر فـي دعائه أن

يقول: (اللّه مّ مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي علـى دِينِكَ!) قال: قلت يا رسول اللّه ، وإن القلب لـيقلّب؟ قال: (نَعَمْ، مَا خَـلَقَ اللّه مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِـي آدَمَ إلاّ وَقَلْبُهُ بَـيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصابعه، فإنْ شاءَ أقامَهُ، وَإنْ شاءَ أزَاغَهُ، فَنَسألُ اللّه رَبّنَا أنْ لا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانا، ونسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنّهُ هُوَ الوَهّابُ). قالت: قلت يا رسول اللّه ، ألا تعلـمنـي دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: (بلـى، قولـي: اللّه مّ رَبّ النّبِـيّ مُـحَمّدٍ، اغْفِرْ لِـي ذَنْبِـي، وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِـي، وأجِرْنِـي مِنْ مُضِلاّتِ الفِتَنِ).

٥٣٥٦ـ حدثنـي مـحمد بن منصور الطوسي، قال: حدثنا مـحمد بن عبد اللّه الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش عن أبـي سفـيان، عن جابر، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر أن

يقول: (يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي عَلـى دِينِكَ)! فقال له بعض أهله: يخاف علـينا وقد آمنا بك وبـما جئت به؟ قال: (إِنّ القَلْبَ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ تَبـارَكَ وَتَعَالَـى) يَقُولُ بِهِ هَكَذَا¹ وحرّك أبو أحمد أصبعيه. قال أبو جعفر: وإن الطوسي وسَقَ بـين أصبعيه.

٥٣٥٧ـ حدثنـي سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش عن أبـي سفـيان، عن أنس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثـيرا ما قول: (يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِـي عَلَـى دِينِكَ)! قلنا: يا رسول اللّه قد آمنا بك، وصدقنا بـما جئت به، فـيخافُ علـينا؟ قال: (نَعَمْ، إِنّ القُلُوبَ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللّه يُقَلّبُها تَبَـارَكَ وَتَعَالَـى).

٥٣٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، وحدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا أيوب بن بشر جميعا، عن ابن جابر، قال: سمعت بشر بن عبـيد اللّه ، قال: سمعت أبـا إدريس الـخولانـي

يقول: سمعت النواس بن سمعان الكلابـي، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاّ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ) وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قُلُوبَنَا علـى دِينِكَ، وَالـمِيزانُ بِـيَدِ الرّحْمَنِ يَرْفَعُ أقْوَاما وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَـى يَوْمِ القِـيَامَةِ).

٥٣٥٩ـ حدثنـي عمر بن عبد الـملك الطائي، قال: حدثنا مـحمد بن عبـيدة، قال: حدثنا الـجرّاح بن ملـيح البهرانـي، عن الزبـيدي، عن جويبر، عن سمرة بن فـاتك الأسدي ـ وكان من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (الـمَوَازِينُ بِـيَدِ اللّه يَرْفَعُ أقْوَاما وَيَضَعُ أقْوَاما، وَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّ حمَنِ، إِنْ شَاءَ أزَاغَهُ وَإِنْ شَاءَ أقَامَهُ).

٥٣٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن حيوة بن شريح، قال: أخبرنـي أبو هانىء الـخولانـي أنه سمع أبـا عبد الرحمن الـحبلـي

يقول: سمعت عبداللّه بن عمرو بن العاص

يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (إِنّ قُلُوبَ بَنِـي آدَمَ كُلّها بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرّفُ كَيْفَ يَشَاءُ). ثم يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ مُصَرّفَ القُلُوبِ صَرّفْ قُلُوبُنَا إلـى طَاعَتِكَ).

٥٣٦١ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا عبد الـحميد بن بهرام، قال: حدثنا شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلـمة تـحدّث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكثر فـي دعائه أن

يقول: (اللّه مّ ثَبّتْ قَلْبِـي علـى دِينِكَ). قالت: قلت يا رسول اللّه ، وإن القلوب لتقلب؟ قال: (نَعَمْ، ما مِنْ خَـلْقِ اللّه مِنْ بَنِـي آدَمَ بَشَرٌ إِلاّ أنّ قَلْبَهُ بَـيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللّه إِنْ شَاءَ أقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ، فَنَسألُ اللّه رَبّنَا أنْ لا يَزِيغَ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَنسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنّهُ هُوَ الوَهّابُ).

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{رَبّنَآ إِنّكَ جَامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ إِنّ اللّه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

يعنـي بذلك جل ثناؤه: أنهم يقولون أيضا مع قولهم آمنا بـما تشابه من آي كتاب ربنا كل الـمـحكم والـمتشابه الذي فـيه من عند ربنا يا ربنا إنك جامع الناس لـيوم لا ريب فـيه، إن اللّه لا يخـلف الـميعاد. وهذا من الكلام الذي استغنـي بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس لـيوم القـيامة فـاغفر لنا يومئذٍ، واعف عنا، فإنك لا تـخـلف وعدك، أن من آمن بك، واتبع رسولك، وعمل بـالذي أمرته به فـي كتابك أنك غافره يومئذٍ. وإنـما هذا من القوم مسألة ربهم أن يثبتهم علـى ما هم علـيه من حسن بصرتهم بـالإيـمان بـاللّه ورسوله، وما جاءهم به من تنزيـله، حتـى يقبضهم علـى أحسن أعمالهم وإيـمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم وجبت لهم الـجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عبـاده أنه يدخـله الـجنة، فـالاَية وإن كانت قد خرجت مخرج الـخبر، فإن تأويـلها من القوم مسألة ودعاء ورغبة إلـى ربهم.

وأما معنى قوله: {لِـيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِـيهِ} فإنه لا شك فـيه. وقد بـينا ذلك بـالأدلة علـى صحته فـيـما مضى قبل.

ومعنى قوله: {لِـيَوْمٍ} فـي يوم، وذلك يوم يجمع اللّه فـيه خـلقه لفصل القضاء بـينهم فـي موقـف العرض والـحساب، والـميعاد: الـمفعال من الوعد.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ ...}

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا} إن الذين جحدوا الـحقّ الذي قد عرفوه من نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل ومنافقـيهم، ومنافقـي العرب وكفـارهم الذين فـي قلوبهم زيغ، فهم يتبعون من كتاب اللّه الـمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله، {لَنْ تُغْنِـيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئا} يعنـي بذلك: أن أموالهم وأولادهم لن تنـجيهم من عقوبة اللّه إن أحلها بهم عاجلاً فـي الدنـيا علـى تكذيبهم بـالـحقّ بعد تبـيّنهم، واتبـاعهم الـمتشابه طلب اللبس فتدفعها عنهم، ولا يغنـي ذلك عنهم منها شيئا. {وَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ وَقُودُ النّارِ} يعنـي بذلك حطبها.

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغنـي عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا عند حلول عقوبتنا بهم، كسنة آل فرعون وعادتهم، والذين من قبلهم من الأمـم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلن تغنـي عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا حين جاءهم بأسنا كالذي عوجلوا بـالعقوبة علـى تكذيبهم ربهم من قبل آل فرعون من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}

فقال بعضهم: معناه: كسنتهم. ذكر من قال ذلك:

٥٣٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}

يقول: كسنتهم.

وقال بعضهم: معناه: كعملهم. ذكر من قال ذلك:

٥٣٦٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان جميعا، عن جويبر، عن الضحاك : {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنِ} قال: كعمل آل فرعون.

٥٣٦٤ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر. عن الضخاك فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كعمل آل فرعون.

٥٣٦٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كفعلهم كتكذيبهم حين كذبوا الرسل. وقرأ قول اللّه : {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} أن يصيبكم مثل الذي أصابهم علـيه من عذاب اللّه

قال: الدأب: العمل.

٥٣٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة يحيـى بن واضح، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومـجاهد فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون.

٥٣٦٧ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس فـي قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قال: كصنع آل فرعون.

وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون. ذكر من قال ذلك:

٥٣٦٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا فَأخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ} ذكر الذين كفروا وأفعال تكذيبهم كمثل تكذيب الذين من قبلهم فـي الـجحود والتكذيب.

وأصل الدأب من دأبت فـي الأمر دأْبـا: إذا أدمنت العمل والتعب فـيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلـى الشأن والأمر والعادة، كما قال امرؤ القـيس بن حجر:

وَإِنّ شِفـائي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌفَهَلْ عندَ رَسْمٍ دَارِسٍ من مُعَوّلِ

كَدأْبِكَ مِنْ أُم الـحُوَيْرِث قَبْلَهاوَجارَتِها أُمّ الرّبـابِ بِـمأْسَل

يعنـي بقوله كدأبك: كشأنك وأمرك وفعلك، يقال منه: هذا دأبـي ودأبك أبدا، يعنـي به: فعلـي وفعلك وأمري وأمرك، وشأنـي وشأنك، يقال منه: دأبت دووبـا ودَأْبـا. وحكي عن العرب سماعا: دأبت دَأَبـا مثقلة مـحركة الهمزة، كما قـيـل هذا شعَر وبهَر، فتـحرك ثانـيه لأنه حرف من الـحروف الستة، فألـحق الدأب إذ كان ثانـيه من الـحروف الستة، كما قال الشاعر:

لَهُ نَعْلٌ لاَ يَطّبِـي الكَلْبَ رِيحُهاوَإِنْ وُضِعَتْ بَـيْنَ الـمَـجالِسِ شُمّتِ

وأما قوله: {وَاللّه شَدِيدُ العِقَابِ} فإنه يعنـي به: واللّه شديد عقابه لـمن كفر به وكذّب رسله بعد قـيام الـحجة علـيه.

١٢

انظر تفسير الآية: ١٣

١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ ...}

اختلفت القراء فـي ذلك فقرأه بعضهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ} بـالتاء علـى وجه الـخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتـجوا لاختـيارهم قراءة ذلك بـالتاء بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}

قالوا: ففـي ذلك دلـيـل علـى أن قوله: {سَتُغْلَبُونَ} كذلك خطاب لهم. وذلك هو قراءة عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين. وقد يجوز لـمن كانت نـيته فـي هذه الاَية أن الـموعودين بأن يغلبوا هم الذين أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم أن يقرأه بـالـياء والتاء، لأن الـخطاب الوحي حين نزل لغيرهم، فـيكون نظير قول القائل فـي الكلام: قلت للقوم إنكم مغلوبون، وقلت لهم إنهم مغلوبون. وقد ذكر أن فـي قراءة عبد اللّه : (قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ) وهي فـي قراءتنا: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ}. وقرأت ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: (سيغلبوون ويحشرون) علـى معنى: قل للـيهود سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلـى جهنـم. ومن قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل لـم يجز فـي قراءته غير الـياء.

والذي نـختار من القراءة فـي ذلك قراءة من قرأه بـالتاء، بـمعنى: قل يا مـحمد للذين كفروا من يهود بنـي إسرائيـل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إلـيك ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله، ستغلبون وتـحشرون إلـى جهنـم وبئس الـمهاد.

وإنـما اخترنا قراءة ذلك كذلك علـى قراءته بـالـياء لدلالة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} علـى أنهم بقوله ستغلبون مخاطبون خطابهم بقوله: قد كان لكم، فكان إلـحاق الـخطاب بـمثله من الـخطاب أولـى من الـخطاب بخلافه من الـخبر عن غائب. وأخرى أن:

٥٣٦٩ـ أبـا كريب حدثنا، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريشا يوم بدر فقدم الـمدينة، جمع يهود فـي سوق بنـي قـينقاع فقال: (يا مَعْشَرَ يَهُودَ، أسْلِـمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل أصَابَ قُرَيشا)،

فقالوا: يا مـحمد لا تغرّنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك واللّه لو قاتلتنا لعرفت أنا نـحن الناس، وأنك لـم تأت مثلنا! فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} إلـى قوله: {لأُولِـي الأبْصَارِ}.

٥٣٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لـما أصاب اللّه قريشا يوم بدر، جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهود فـي سوق بنـي قـينقاع حين قدم الـمدينة، ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب، عن يونس.

٥٣٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من أمر بنـي قـينقاع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمعهم بسوق بنـي قـينقاع، ثم قال: (يا مَعْشَرَ الـيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللّه مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النّقْمَةِ، وَأَسْلِـمُوا فَـإِنّكُمْ قَدْ عَرَفْتُـمْ أنّـي نَبِـيّ مُرْسَلٌ تَـجِدُونَ ذلك فـي كِتابِكُمْ، وعَهْدِ اللّه إِلَـيْكُمْ!)

فقالوا: يا مـحمد إنك ترى أنا كقومك، لا يغرنّك أنك لقـيت قوما لا علـم لهم بـالـحرب فأصبت فـيهم فرصة، إنا واللّه لئن حاربناك لتعلـمنّ أنا نـحن الناس!

٥٣٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: ما نزلت هؤلاء الاَيات إلا فـيهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إِلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} إلـى: {لأُولِـي الأبْصَار}.

٥٣٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة فـي قوله: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال فنـحاص الـيهودي فـي يوم بدر: لا يغرنّ مـحمدا أن غلب قريشا وقتلهم، إن قريشا لا تـحسن القتال! فنزلت هذه الاَية: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ}.

قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبـار تنبىء عن أن الـمخاطبـين بقوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} هم الـيهود الـمقول لهم: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}.. الاَية، وتدل علـى أن قراءة ذلك بـالتاء أولـى من قراءته بـالـياء. ومعنى قوله: {وَتُـحْشَرُونَ} وتـجمعون فتـجلبون إلـى جهنـموأما قوله: {وَبِئْسَ الـمِهاد} وبئس الفراش جهنـم التـي تـحشرون إلـيها. وكان مـجاهد يقول كالذي:

٥٣٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال: بئسما مَهَدوا لأنفسهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد للذين كفروا من الـيهود الذين بـين ظهرانـي بلدك: قد كان لكم آية يعنـي علامة ودلالة علـى صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة، كما:

٥٣٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} عبرة وتفكر.

٥٣٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله، إلا أنه قال: ومتفكّر {فـي فِئَتَـيْنِ} يعنـي فـي فرقتـين وحزبـين. والفئة: الـجماعة من الناس التقتا للـحرب، وإحدى الفئتـين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن كان معه مـمن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش، فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، جماعة تقاتل فـي طاعة اللّه وعلـى دينه، وهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش. كما:

٥٣٧٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببدر، {وأُخْرَى كافرَةٌ} فئة قريش الكفـار.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، مثله.

٥٣٧٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، {وأُخرَى كافرَةٌ}: قريش يوم بدر.

٥٣٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قال: فـي مـحمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال ذلك يوم بدر، التقـى الـمسلـمون والكفـار.

ورفعت {فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه }

وقد قـيـل قبل ذلك فـي فئتـين، بـمعنى: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل اللّه علـى الابتداء، كما قال الشاعر:

فكنتُ كَذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌوَرِجْلٌ رَمَى فِـيها الزّمانُ فَشَلّتِ

وكما قال ابن مفرغ:

فكنتُ كذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الـحَدَثَانِ

فَأمّا التـي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍوَأمّا التـي شَلّتْ فأزد عُمَانِ

وكذلك تفعل العرب فـي كل مكرر علـى نظير له قد تقدمه إذا كان مع الـمكرر خبر ترده علـى إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانـية بـالرفع، وتنصبه فـي التام من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كلّه، فخفض علـى الرد علـى أول الكلام، كأنه يعنـي إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلـين كذي رجل صحيحة ورجل سقـيـمة. وكذلك الـخفض فـي قوله: (فئة)، جائز علـى الرد علـى قوله: (فـي فئتـين التقتا)، فـي فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه . وهذا وإن كان جائزا فـي العربـية، فلا أستـجيز القراءة به لإجماع الـحجة من القراء علـى خلافه، ولو كان قوله: (فئة) جاء نصبـا كان جائزا أيضا علـى قوله: قد كان لكم آية فـي فئتـين التقتا مختلفتـين.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ}.

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته قراء أهل الـمدينة: (ترونهم) بـالتاء، بـمعنى: قد كان لكم أيها الـيهود آية فـي فئتـين التقتا، فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، والأخرى كافرة، ترون الـمشركين مثلـي الـمسلـمين رأي العين. يريد بذلك عظتهم.

يقول: إن لكم عبرة أيها الـيهود فـيـما رأيتـم من قلة عدد الـمسلـمين، وكثرة عدد الـمشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض الـمكيـين: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} بـالـياء، بـمعنى: يرى الـمسلـمون الذين يقاتلون فـي سبـيـل اللّه الـجماعة الكافرة مثلـي الـمسلـمين فـي القدر.

فتأويـل الاَية علـى قراءتهم: قد كان لكم يا معشر الـيهود عبرة ومتفكّر فـي فئتـين التقتا، فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، وأخرى كافرة، يرى هؤلاء الـمسلـمون مع قلة عددهم هؤلاء الـمشركين فـي كثرة عددهم.

فإن قال قائل: وما وجه تأويـل قراءة من قرأ ذلك بـالـياء، وأي الفئتـين رأت صاحبتها مثلـيها؟ الفئة الـمسلـمة هي التـي رأت الـمشركة مثلـيها، أم الـمشركة هي التـي رأت الـمسلـمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟

قـيـل: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك،

فقال بعضهم: الفئة التـي رأت الأخرى مثلـي أنفسها الفئة الـمسلـمة، رأت عدد الفئة الـمشركة مثلـي عدد الفئة الـمسلـمة، قلّلها اللّه عز وجل فـي أعينها حتـى رأتها مثلـي عدد أنفسها، ثم قللها فـي حال أخرى، فرأتها مثل عدد أنفسها. ذكر من قال ذلك:

٥٣٨٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: هذا يوم بدر، قال عبد اللّه بن مسعود: قد نظرنا إلـى الـمشركين، فرأيناهم يضعفون علـينا، ثم نظرنا إلـيهم فما رأيناهم يزيدون علـينا رجلاً واحدا، وذلك قول اللّه عز وجل: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ}.

فمعنى الاَية علـى هذا التأويـل: قد كان لكم يا معشر الـيهود آية فـي فئتـين التقتا: إحداهما مسلـمة، والأخرى كافرة، كثـير عدد الكافرة، قلـيـل عدد الـمسلـمة، ترى الفئة القلـيـل عددها، الكثـير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بـمثل واحد، فهم يرونهم مثلـيهم، فـيكون أحد الـمثلـين عند ذلك، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التـي رأتهم، والـمثل الاَخر: الضعف الزائد علـى عددهم، فهذا أحد معنـيـي التقلـيـل الذي أخبر اللّه عز وجل الـمؤمنـين أنه قللهم فـي أعينهم¹ والـمعنى الاَخر منه: التقلـيـل الثانـي علـى ما قاله ابن مسعود، وهو أن أراهم عدد الـمشركين مثل عددهم لا يزيدون علـيهم، فذلك التقلـيـل الثانـي الذي

قال اللّه جل ثناؤه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً}.

وقال آخرون من أهل هذه الـمقالة: إن الذين رأوا الـمشركين مثلـي أنفسهم هم الـمسلـمون، غير أن الـمسلـمين رأوهم علـى ما كانوا به من عددهم، لـم يقللوا فـي أعينهم، ولكن اللّه أيدهم بنصره.

قالوا: ولذلك قال اللّه عز وجل للـيهود: قد كان لكم فـيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم، مثل الذي حل بأهل بدر علـى أيديهم. ذكر من قال ذلك:

٥٣٨١ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. أنزلت فـي التـخفـيف يوم بدر، فإنّ الـمؤمنـين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان الـمشركون مثلـيهم، فأنزل اللّه عز وجل: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئْتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} وكان الـمشركون ستة وعشرين وستـمائة، فأيد اللّه الـمؤمنـين، فكان هذا الذي فـي التـخفـيف علـى الـمؤمنـين.

وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبـار عن عدة الـمشركين يوم بدر، وذلك أن الناس إنـما اختلفوا فـي عددهم علـى وجهين،

فقال بعضهم: كان عددهم ألفـا، .

وقال بعضهم: ما بـين التسعمائة إلـى الألف. ذكر من قال كان عددهم ألفـا:

٥٣٨٢ـ حدثنـي هارون بن إسحاق الهمدانـي، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علـي، قال: سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى بدر، فسبقنا الـمشركين إلـيها، فوجدنا فـيها رجلـين، منهم رجل من قريش، ومولـى لعقبة بن أبـي معيط¹ فأما القرشي فـانفلت، وأما مولـى عقبة، فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فـ

يقول: هم واللّه كثـير شديد بأسهم. فجعل الـمسلـمون إذا قال ذلك صدّقوه، حتـى انتهوا به إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له: (كَمِ القَوْمُ؟) فقال: هم واللّه كثـير شديد بأسهم. فجهد النبـي صلى اللّه عليه وسلم علـى أن يخبرهم كم هم، فأبى. ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأله: (كَمْ تَنْـحَرُون مِنَ الـجُزُرِ؟) قال: عشرة كل يوم. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (القَوْمُ ألْفٌ).

٥٣٨٣ـ حدثنـي أبو سعيد بن يوشع البغدادي، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة عن عبد اللّه ، قال: أسرنا رجلاً منهم ـ يعنـي من الـمشركين يوم بدر ـ فقلنا: كم كنتـم؟ قال: ألفـا.

ذكر من قال: كان عددهم ما بـين التسعمائة إلـى الألف:

٥٣٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: ثنـي يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبـير قال: بعث النبـي صلى اللّه عليه وسلم نفرا من أصحابه إلـى ماء بدر يـلتـمسون الـخبر له علـيه، فأصابوا راوية من قريش فـيها أسلـم غلام بنـي الـحجاج، وعريض أبو يسار غلام بنـي العاص، فأتوا بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهما: (كَمِ القَوْم؟) قالا: كثـير

قال: (ما عِدّتُهُمْ؟) قالا: لا ندري

قال: (كَمْ تَنْـحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ؟) قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (القَوْمُ مَا بَـيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلـى الألْفِ).

٥٣٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فَئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيهِمْ رأيَ العَيْنِ} ذلكم يوم بدر ألف الـمشركون، أو قاربوا، وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.

٥٣٨٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} إلـى قوله: {رأيَ العَيْنِ} قال: يضعفون علـيهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر.

٥٣٨٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: كان ذلك يوم بدر، وكان الـمشركون تسعمائة وخمسين، وكان أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

٥٣٨٨ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، والـمشركون ما بـين التسعمائة إلـى الألف.

فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عبـاس فـي عدد الـمشركين يوم بدر. فإذا كان ما قاله من حكيناه مـمن ذكر أن عددهم كان زائدا علـى التسعمائة، فـالتأويـل الأول الذي قلناه علـى الرواية التـي روينا عن ابن مسعود أولـى بتأويـل الاَية.

وقال آخرون: كان عدد الـمشركين زائدا علـى التسعمائة، فرأى الـمسلـمون عددهم علـى غير ما كانوا به من العدد، و

قالوا: أرى اللّه الـمسلـمين عدد الـمشركين قلـيلاً آية للـمسلـمين.

قالوا: وإنـما عنى اللّه عز وجل بقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} الـمخاطبـين بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}

قالوا: وهم الـيهود غير أنه رجع من الـمخاطبة إلـى الـخبر عن الغائب، لأنه أمر من اللّه جل ثناؤه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبر عنهم علـى وجه الـخبر مرة أخرى، كما قال: {حتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.

وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف

قـيـل: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ} وقد علـمتـم أن الـمشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال الـمسلـمين؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: أحتاج إلـى مثله، أنا مـحتاج إلـيه وإلـى مثله، ثم

يقول: أحتاج إلـى مثلـيه، فـيكون ذلك خبرا عن حاجته إلـى مثله وإلـى مثلـي ذلك الـمثل، وكما يقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلـى مثلـيه، فهو مـحتاج إلـى ثلاثة¹ فلـما نوى أن يكون الألف داخلاً فـي معنى الـمثل، صار الـمثل أشرف والاثنان ثلاثة، قال: ومثله فـي الكلام: أراكم مثلكم، كما يقال: إن لكم ضعفكم، وأراكم مثلـيكم، يعنـي أراكم ضعفـيكم،

قالوا: فهذا علـى معنى ثلاثة أمثالهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن اللّه أرى الفئة الكافرة عدد الفئة الـمسلـمة مثلـي عددهم. وهذا أيضا خلاف ما دل علـيه ظاهر التنزيـل، لأن اللّه جل ثناؤه قال فـي كتابه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ} فأخبر أن كلاً من الطائفتـين قُلل عددهم فـي مرأى الأخرى.

وقرأ آخرون ذلك: (تُرَوْنَهم) بضم التاء، بـمعنى: يريكموهم اللّه مثلـيهم.

(وأولـى هذه القراءات بـالصواب قراءة من قرأ: {يَرَوْنَهُمْ} بـالـياء، بـمعنى: وأخرى كافرة، يراهم الـمسلـمون مثلـيهم، يعنـي: مثلـي عدد الـمسلـمين، لتقلـيـل اللّه إياهم فـي أعينهم فـي حال، فكان حزرهم إياهم كذلك، ثم قللهم فـي أعينهم عن التقلـيـل الأول، فحزروهم مثل عدد الـمسلـمين، ثم تقلـيلاً ثالثا، فحزروهم أقل من عدد الـمسلـمين.) كما:

٥٣٨٩ـ حدثنـي أبو سعيد البغدادي، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه ، قال: لقد قللوا فـي أعيننا يوم بدر حتـى قلت لرجل إلـى جنبـي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة

قال: فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا كم كنتـم؟ قال: ألفـا.

وقد رُوي عن قتادة أنه كان

يقول: لو كانت (تُرونهم)، لكانت (مثلـيكم).

٥٣٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي عبد الرحمن بن أبـي حماد، عن ابن الـمعرك، عن معمر، عن قتادة بذلك.

ففـي الـخبرين اللذين روينا عن عبد اللّه بن مسعود ما أبـان عن اختلاف حزر الـمسلـمين يومئذٍ عدد الـمشركين فـي الأوقات الـمختلفة، فأخبر اللّه عز وجل ـ عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند الـمسلـمين ـ الـيهود علـى ما كان به عندهم، مع علـم الـيهود بـمبلغ عدد الفئتـين، إعلاما منه لهم أنه مؤيد الـمؤمنـين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، ولـيحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة علـى أيدي الـمؤمنـين، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش علـى أيديهم ببدرهم.

وأما قوله: {رأيَ العَيْنِ} فإنه مصدر رأيته، يقال: رأيته رَأْيا ورؤية، ورأيت فـي الـمنام رؤيَا حسنة غير مُـجْراة، يقال: هو منـي رأي العين ورأي العين بـالنصب والرفع، يراد حيث يقع علـيه بصري، وهو من الرائي مثله، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلـحقهم أبصارهم، وتراهم عيونهم مثلـيهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {واللّه يُوءَيّد}: يقوّي بنصره من يشاء، من قول القائل: قد أيدت فلانا بكذا: إذا قويته وأعنته، فأنا أؤيده تأيـيدا، و(فعلت) منه: إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول اللّه عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ} يعنـي ذا القوة.

وتأويـل الكلام: قد كان لكم آية يا معشر الـيهود فـي فئتـين التقتا: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، وأخرى كافرة، يراهم الـمسلـمون مثلـيهم رأي أعينهم، فأيدنا الـمسلـمة وهم قلـيـل عددهم، علـى الكافرة وهم كثـير عددهم حتـى ظفروا بهم معتبر ومتفكر، واللّه يقوي بنصره من يشاء

وقال جل ثناؤه: إن فـي ذلك: يعنـي إن فـيـما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأيـيدنا الفئة الـمسلـمة مع قلة عددهم، علـى الفئة الكافرة مع كثرة عددها {لَعِبْرَةً} يعنـي لـمتفكرا ومتعظا لـمن عقل وادّكر فأبصر الـحق. كما:

٥٣٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ}

يقول: لقد كان لهم فـي هؤلاء عبرة وتفكر، أيدهم اللّه ونصرهم علـى عدوهم.

٥٣٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع مثله.

١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ ...}

يعنـي تعالـى ذكره: (زين للناس مـحبة ما يشتهون من النساء والبنـين وسائر ما عدّ. وإنـما أراد بذلك توبـيخ الـيهود الذين آثروا الدنـيا وحبّ الرياسة فـيها علـى اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد علـمهم بصدقه. وكان الـحسن

يقول: من زَيْنها ما أحدٌ أشدّ لها ذما من خالقها.)

٥٣٩٣ـ حدثنـي بذلك أحمد بن حازم: قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو الأشعث، عنه.

٥٣٩٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبـي بكر بن حفص بن عمر بن سعد، قال: قال عمر: لـما نزل: {زُيّنَ للنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ} قلت: الاَن يا ربّ حين زينتها لنا! فنزلت: {قُلْ أَؤنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهارُ}.. الاَية.

وأما القناطير: فإنها جمع القنطار.

واختلف أهل التأويـل فـي مبلغ القنطار،

فقال بعضهم: هو ألف ومائتا أوقـية. ذكر من قال ذلك:

٥٣٩٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن معاذ بن جبل، قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا أبو حصين، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن معاذ، مثله.

٥٣٩٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا، يعنـي حفص بن ميسرة، عن أبـي مروان، عن أبـي طيبة، عن ابن عمر، قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.

٥٣٩٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا قاسم بن مالك الـمزنـي، قال: أخبرنـي العلاء بن الـمسيب، عن عاصم بن أبـي النّـجود، قال: القنطار: ألف ومائتا أوقـية.

٥٣٩٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة، مثله.

٥٣٩٩ـ حدثنـي زكريا بن يحيـى الصديق، قال: حدثنا شبـابة، قال: حدثنا مخـلد بن عبد الواحد، عن علـيّ بن زيد عن عطاء بن أبـي ميـمونة، عن زرّ بن حبـيش، عن أبـيّ بن كعب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (القِنْطَارُ ألْفُ أُوقِـيّةٍ وَمِائَتا أُوقِـيّة).

وقال آخرون: القنطار: ألف دينار ومائتا دينار. ذكر من قال ذلك:

٥٤٠٠ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا يونس عن الـحسن، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (القِنْطَارُ ألْفٌ وَمِائَتا دِينارٍ).

٥٤٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن، قال: القنطار: ألف ومائتا دينار.

٥٤٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثنا أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: القنطار ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال.

٥٤٠٣ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم

يقول: القناطير الـمقنطرة، يعنـي: الـمال الكثـير من الذهب والفضة، والقنطار: ألف ومائتا دينار، ومن الفضة: ألف ومائتا مثقال.

وقال آخرون: القنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار. ذكر من قال ذلك:

٥٤٠٤ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قال: القنطار: اثنـي عشر ألف درهم، أو ألف دينار.

٥٤٠٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: القنطار: ألف دينار، ومن الورِق: اثنا عشر ألف درهم.

٥٤٠٦ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفـا.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا عوف، عن الـحسن: القنطار: اثنا عشر ألفـا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن: اثنا عشر ألفـا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن بـمثل.

٥٤٠٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن عوف، عن الـحسن، قال: القنطار: ألف دينار، دية أحدكم.

وقال آخرون: هو ثمانون ألفـا من الدراهم، أو مائة رطل من الذهب. ذكر من قال ذلك:

٥٤٠٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى، قالا: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن سلـيـمان التـيـمي، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، قال: القنطار، ثمانون ألفـا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن علـي بن زيد، عن سعيد بن الـمسيب، قال: القنطار: ثمانون ألفـا.

٥٤٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نـحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفـا من الورِق.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: القنطار: مائة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.

٥٤١٠ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح، قال: القنطار: مائة رطل.

٥٤١١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: القنطار يكون مائة رطل، وهو ثمانـية آلاف مثقال.

وقال آخرون: القنطار سبعون ألفـا. ذكر من قال ذلك:

٥٤١٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {القَنَاطِيرِ الـمُقَنْطَرَةِ} قال: القنطار: سبعون ألف دينار.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٤١٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن حوشب، قال: سمعت عطاء الـخراسانـي، قال: سئل ابن عمر عن القنطار،

فقال: سبعون ألفـا.

وقال آخرون: هي ملء مَسْك ثور ذهبـا. ذكر من قال ذلك:

٥٤١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سالـم بن نوح، قال: حدثنا سعيد الـجريري، عن أبـي نضرة، قال: ملء مسك ثور ذهبـا.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو الأشعث، عن أبـي نضرة: ملء مسك ثور ذهبـا.

وقال آخرون: هو الـمال الكثـير. ذكر من قال ذلك:

٥٤١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: {القناطير الـمقنطرة}: الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.

وقد ذكر بعض أهل العلـم بكلام العرب أن العرب لا تـحدّ القنطار بـمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول: هو قدر ووزن. وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان مـحدودا قدره عندها لـم يكن بـين متقدمي أهل التأويـل فـيه كل هذا الاختلاف.

(فـالصواب فـي ذلك أن يقال: هو الـمال الكثـير، كما قال الربـيع بن أنس، ولا يحدّ قدر وزنه بحدّ علـى تعنف،

وقد قـيـل ما قـيـل مـما رويناوأما الـمقنطرة: فهي الـمضعفة، وكأن القناطير ثلاثة والـمقنطرة تسعة، وهو كما قال الربـيع بن أنس: الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.) كما:

٥٤١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: القناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة: والـمقنطرة الـمال الكثـير بعضه علـى بعض.

٥٤١٧ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {القَنَاطِير الـمُقَنْطَرة}: يعنـي الـمال الكثـير من الذهب والفضة.

وقال آخرون: معنى الـمقنطرة: الـمضروبة دراهم أو دنانـير. ذكر من قال ذلك:

٥٤١٨ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: {الـمُقْنَطَرَة} فـ

يقول: الـمضروبة حتـى صارت دنانـير أو دراهم.

وقد رُوي عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم فـي قوله: {وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا} خبر لو صح سنده لـم نعده إلـى غيره، وذلك ما:

٥٤١٩ـ حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقـي، قال: ثنـي عمرو بن أبـي سلـمة، قال: حدثنا زهير بن مـحمد، قال: ثنـي أبـان بن أبـي عياش وحميد الطويـل، عن أنس بن مالك، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا} قال: (ألْفَـا مِئِين). يعنـي ألفـين.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والـخَيْـلُ الـمُسَوّمَةِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمسوّمة،

فقال بعضهم: هي الراعية. ذكر من قال ذلك:

٥٤٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير: الـخيـل الـمسوّمة، قال: الراعية التـي ترعى.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفـيان، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير: هي الراعية، يعنـي السائمة.

٥٤٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن طلـحة القناد، قال: سمعت عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبزى

يقول: الراعية.

٥٤٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الراعية.

٥٤٢٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمسرّحة فـي الرعي.

٥٤٢٤ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـخيـل الراعية.

٥٤٢٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، عن مـجاهد أنه كان

يقول: الـخيـل الراعية.

وقال آخرون: الـمسوّمة: الـحسان. ذكر من قال ذلك:

٥٤٢٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، قال: قال مـجاهد: الـمسوّمة: الـمطهمة.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن مـجاهد فـي قوله: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمطهمة الـحسان.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمطهمة حسنا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيج، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن مـجاهد: الـمطهمة.

٥٤٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري، قال: حدثنا سعيد بن أبـي أيوب، عن بشير بن أبـي عمرو الـخولانـي، قال: سألت عكرمة عن الـخيـل الـمسوّمة، قال: تسويـمها: حسنها.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي سعيد بن أبـي أيوب، عن بشير بن أبـي عمرو الـخولانـي، قال: سمعت عكرمة

يقول: {الـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: تسويـمها: الـحسن.

٥٤٢٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ والأنْعَامِ} الرائعة.

وقد حدثنـي بهذا الـحديث عن عمرو بن حماد غير موسى، قال: الراعية.

وقال آخرون: {الـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمعلـمة. ذكر من قال ذلك:

٥٤٢٩ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} يعنـي: الـمعلـمة.

٥٤٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} وسيـماها شِيَتها.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: شية الـخيـل فـي وجوهها.

وقال غيرهم: الـمسوّمة: الـمعدّة للـجهاد. ذكر من قال ذلك:

٥٤٣١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد {وَالـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} قال: الـمعدة للـجهاد.

قال أبو جعفر: أولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: {والـخَيْـلِ الـمُسَوّمَةِ} الـمعلـمة بـالشيات الـحسان الرائعة حسنا من رآها، لأن التسويـم فـي كلام العرب: هو الإعلام، فـالـخيـل الـحسان معلـمة بإعلام إياها بـالـحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها، وهي الـمطهمة أيضا، ومن ذلك قول نابغة بنـي ذبـيان فـي صفة الـخيـل:

بِسُمْرٍ كالْقِدَاحٍ مُسَوّماتٍعلـيها مَعْشَرٌ أشبـاهُ جِنّ

يعنـي بـالـمسوّمات: الـمعلـمات وقول لبـيد:

وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَـيْنِ أتَـيْنَهُمْ

زُجَلاً يَـلُوحُ خِلالَها التّسْويـمُ

فمعنى تأويـل من تأول ذلك: الـمطهمة، والـمعلـمة، والرائعة واحدوأما قول من تأوّله بـمعنى الراعية فإنه ذهب إلـى قول القائل: أسَمْتُ الـماشية فأنا أُسيـمها إسامة: إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {ومنهُ شجرٌ فِـيهِ تسيـمونَ} بـمعنى ترعون، ومنه قول الأخطل:

مثلِ ابن بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِأوْلـى لكَ ابنَ مُسِيـمَةِ الأجْمالِ

يعنـي بذلك راعية الأجمال، فإذا أريد أن الـماشية هي التـي رعت،

قـيـل: سامت الـماشية تسوم سوما، ولذلك

قـيـل: إبل سائمة، بـمعنى راعية، غير أنه مستفـيض فـي كلامهم سوّمت الـماشية، بـمعنى أرعيتها، وإنـما يقال إذا أريد ذلك: أسمتها. فإذا كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويـل الـمسوّمة إلـى أنها الـمعلـمة بـما وصفنا من الـمعانـي التـي تقدم ذكرها أصحّوأما الذي قاله ابن زيد من أنها الـمعدّة فـي سبـيـل اللّه ، فتأويـل من معنى الـمسوّمة بـمعزل.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والأنْعامِ والـحَرْثِ}.

(فـالأنعام جمع نعم: وهي الأزواج الثمانـية التـي ذكرها فـي كتابه من الضأن والـمعز والبقر والإبلوأما الـحرث: فهو الزرع. وتأويـل الكلام: زين للناس حبّ الشهوات من النساء ومن البنـين، ومن كذا ومن كذا، ومن الأنعام والـحرث.)

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ مَتاعُ الـحَيَاةِ الدّنْـيا وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: ذلك جميع ما ذكر فـي هذه الاَية من النساء والبنـين، والقناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة، والـخيـل الـمسوّمة، والأنعام والـحرث، فكنى بقوله (ذلك) عن جميعهن، وهذا يدلّ علـى أن (ذلك) يشتـمل علـى الأشياء الكثـيرة الـمختلفة الـمعانـي، ويكنى به عن جميع ذلكوأما قوله: {مَتاعُ الـحَيَاةِ الدّنْـيا} فإنه خبر من اللّه عن أن ذلك كله مـما يستـمتع به فـي الدنـيا أهلها أحياء، فـيتبلغون به فـيها، ويجعلونه وصلة فـي معايشهم، وسببـا لقضاء شهواتهم، التـي زين لهم حبها، فـي عاجل دنـياهم، دون أن يكون عدّة لـمعادهم، وقربة لهم إلـى ربهم، إلا ما أسلك فـي سبـيـله، وأنفق منه فـيـما أمر به.

وأما قوله: {وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} فإنه يعنـي بذلك جل ثناؤه: وعند اللّه حسن الـمآب، يعنـي حسن الـمرجع. كما:

٥٤٣٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ}

يقول: حسن الـمنقلب، وهي الـجنة.

وهو مصدر علـى مثال مفْعَل، من قول القائل: آب الرجل إلـينا: إذا رجع، فهو يؤوب إيابـا وأوبة وأيبة ومآبـا، غير أن موضع الفـاء منها مهموز، والعين مبدلة من الواو إلـى الألف بحركتها إلـى الفتـح، فلـما كان حظها الـحركة إلـى الفتـح، وكانت حركتها منقولة إلـى الـحرف الذي قبلها وهو فـاء الفعل انقلبت فصارت ألفـا، كما

قـيـل: قال: فصارت عين الفعل ألفـا، لأن حظها الفتـح والـمآب، مثل الـمقال والـمعاد والـمـحال، كل ذلك مَفْعَلْ، منقولة حركة عينه إلـى فـائه، فتصير وواه أو ياؤه ألفـا لفتـحة ما قبلها.

فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الـمآبِ} وقد علـمت ما عنده يومئذٍ من ألـيـم العذاب وشديد العقاب؟

قـيـل: إن ذلك معنـيّ به خاصّ من الناس، ومعنى ذلك: واللّه عنده حسن الـمآب للذين اتقوا ربهم، وقد أنبأنا عن ذلك فـي هذه الاَية التـي تلـيها.

فإن قال: وما حسن الـمآب؟

قـيـل: هو ما وصفه به جلّ ثناؤه، وهو الـمرجع إلـى جنات تـجري من تـحتها الأنهار مخـلدا فـيها، وإلـى أزواج مطهرة ورضوان من اللّه .

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذَلِكُمْ ...}

يعنـي جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد للناس الذين زين لهم حبّ الشهوات، من النساء والبنـين، وسائر ما ذكر جلّ ثناؤه: {أؤنبّئكم} أأخبركم وأعلـمكم {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} يعنـي بخير وأفضل لكم. {مِنْ ذَلِكُمْ} يعنـي مـما زين لكم فـي الدنـيا حبّ شهوته من النساء والبنـين والقناطير الـمقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الأموال التـي هي متاع الدنـيا.

ثم اختلف أهل العربـية فـي الـموضع الذي تناهى إلـيه الاستفهام من هذا الكلام،

فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ} ثم ابتدأ الـخبر عما {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ} فقـيـل: للذين اتقوا عند ربهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار خالدين فـيها، فلذلك رفع (الـجنات). ومن قال هذا القول، لـم يُجِز فـي قوله: {جَنّاتٌ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ} إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدإ غير مردود علـى قوله بخير، فـيكون الـخفض فـيه جائزا. وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم، ففـيه إبـانة عن معنى الـخير الذي أمر اللّه عزّ وجلّ نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للناس أؤنبئكم به؟ والـجنات علـى هذا القول مرفوعة بـاللام التـي فـي قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عنْدَ رَبّهِمْ}.

وقال آخرون منهم بنـحو من هذا القول، إلا أنهم

قالوا: إن جعلت اللام التـي فـي قوله (للذين) من صلة الإنبـاء جاز فـي الـجنات الـخفض والرفع: الـخفض علـى الردّ علـى (الـخير)، والرفع علـى أن يكون قوله: {لِلّذِينَ اتّقُوا} خبر مبتدإ علـى ما قد بـيناه قبل.

وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: {عِنْدَ رَبّهِمْ} ثم ابتدأ: {جَنّاتٌ تَـجرِي مِنْ تَـحتِها الأنهَارُ}

وقالوا: تأويـل الكلام: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم، ثم كأنه

قـيـل: ماذا لهم، أو ما ذاك؟ أو علـى أنه يقال: ماذا لهم أو ما ذاك؟ فقال: هو جنات تـجري من تـحتها الأنهار... الاَية.

وأولـي هذه الأقوال عندي بـالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله: {بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} والـخبر بعده مبتدأ عمن له الـجنات بقوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِنْ جَنّاتٌ} فـيكون مخرج ذلك مخرج الـخبر، وهو إبـانة عن معنى الـخير الذي قال: أنبئكم به؟ فلا يكون بـالكلام حينئذ حاجة إلـى ضمير.

قال أبو جعفر مـحمد بن جرير الطبري: وأما قوله: {خالِدِينَ فِـيها} فمنصوب علـى القطع¹ ومعنى قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا} للذين خافوا اللّه فأطاعوه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. {عِندَ رَبّهِمْ} يعنـي بذلك: لهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار عند ربهم، والـجنات: البساتـين، وقد بـينا ذلك بـالشواهد فـيـما مضى، وأن قوله: {تَـجرِي مِنْ تَـحتِها الأنهَارُ} يعنـي به: من تـحت الأشجار، وأن الـخـلود فـيها دوام البقاء فـيها، وأن الأزواج الـمطهرة: هن نساء الـجنة اللواتـي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنـيا من الـحيض والـمنـي والبول والنفـاس وما أشبه ذلك من الأذى، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضعوقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّه } يعنـي: ورضا اللّه ، وهو مصدر من قول القائل: رضي اللّه عن فلان، فهو يرضى عنه رضا منقوص، ورُضْوانا وَرِضْوانا ومرضاة. فأما الرّضوان بضم الراء فهو لغة قـيس، وبه كان عاصم يقرأ. وإنـما ذكر اللّه جل ثناؤه فـيـما ذكر للذين اتقوا عنده من الـخير: رضوانه، لأن رضوانه أعلـى منازل كرامة أهل الـجنة. كما:

٥٤٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنـي أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن الـمنكدر، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: إذا دخـل أهل الـجنة الـجنة، قال اللّه تبـارك وتعالـى: أعطيكم أفضل من هذا! فـيقولون: أي ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ قال: رضوانـي.

وقوله: {وَاللّه بَصِيرٌ بـالعِبـادِ} يعنـي بذلك، واللّه ذو بصر بـالذي يتقـيه من عبـاده، فـيخافه فـيطيعه، ويؤثر ما عنده مـما ذكر أنه أعده للذين اتقوه علـى حب ما زين له فـي عاجل الدنـيا من شهوات النساء والبنـين وسائر ما عدد منها تعالـى ذكره، وبـالذي لا يتقـيه فـيخافه، ولكنه يعصيه، ويطيع الشيطان، ويؤثر ما زين له فـي الدنـيا من حب شهوة النساء والبنـين والأموال، علـى ما عنده من النعيـم الـمقـيـم، عالـم تعالـى ذكره بكل فريق منهم، حتـى يجازي كلهم عند معادهم إلـيه جزاءهم، الـمـحسن بإحسانه، والـمسيء بإساءته.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ }

ومعنى ذلك: قل هل أنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا يقولون ربنا آمنا إننا، فاغفر لنا ذنوبناوقنا عذاب النار. وقد يحتمل (الذين يقولون) وجهين من الإعراب: الخفض على الرد على (الذين) الأولى، والرفع على الإبتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها (الذين) الأولى، فيكون رفعها نظير قول اللّه عز وجل: {إنّ اللّه اشْتَرَى منَ المُؤْمِنِنَ أنفُسَهُمْ وَأَموَالَهُمْ} ثم قال في مبتدإ الاَية التي بعدها {التّائِبُونَ العابِدونَ}، ولو كان جاء ذلك مخفوضا كان جائزا.

ومعنى قوله: {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنا آمَنّا فـاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} الذين يقولون: إننا صدقنا بك وبنبـيك، وما جاء به من عندك¹ {فـاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}

يقول: فـاستر علـينا بعفوك عنها وتركك عقوبتنا علـيها¹ {وَقِنا عَذَابَ النّارِ} ادفع عنا عذابك إيانا بـالنار أن تعذبنا بها. وإنـما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بـالنار. وإنـما خصوا الـمسألة بأن يقـيهم عذاب النار، لأن من زحزم يومئذ عن النار فقد فـاز بـالنـجاة من عذاب النار وحسن مآبه. وأصل قوله (قِنا): من قول القائل: وقـى اللّه فلانا كذا، يراد به: دفع عنه فهو يقـيه، فإذا سأل بذلك سائل قال: قنـي كذا.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ }

يعنـي بقوله: {الصّابِرِينَ} الذين صبروا فـي البأساء والضراء وحين البأس. ويعنـي بـالصادقـين: الذين صدقوا اللّه فـي قولهم بتـحقـيقهم الإقرار به وبرسوله، وما جاء به من عنده بـالعمل بـما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه. ويعنـي بـالقانتـين: الـمطيعين له. وقد أتـينا علـى الإبـانة عن كل هذه الـحروف ومعانـيها بـالشواهد علـى صحة ما قلنا فـيها، وبـالإخبـار عمن قال فـيها قولاً فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع، وقد كان قتادة يقول فـي ذلك بـما:

٥٤٣٤ـ حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {الصّابِرِينَ وَالصّادِقِـينَ وَالقاتِتِـينَ وَالـمُنفِقِـينَ} الصادقـين:ف قوم صدقت أفواههم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا فـي السر والعلانـية. والصابرين: قوم صبروا علـى طاعة اللّه ، وصبروا عن مـحارمه. والقانتون: هم الـمطيعون لله.

وأما الـمنفقون: فهم الـمؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها علـى ما أمرهم اللّه بإتـيانها، والـمنفقون أموالهم فـي الوجوه التـي أذن اللّه لهم جل ثناؤه بإنفـاقها فـيهاوأما الصابرين والصادقـين وسائر هذه الـحروف فمخفوض ردّا علـى قوله: {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنَا آمَنّا} والـخفض فـي هذه الـحروف يدلّ علـى أن قوله: {الّذِينَ يَقُولُونَ} خفض ردّا علـى قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {والـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسْحارِ}.

اختلف أهل التأويـل فـي القوم الذين هذه الصفة صفتهم،

فقال بعضهم: هم الـمصلون بـالأسحار. ذكر من قال ذلك:

٥٤٣٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَالـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسْحارِ} هم أهل الصلاة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة: {والـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسْحارِ} قال: يصلون بـالأسحار.

وقال آخرون: هم الـمستغفرون. ذكر من قال ذلك:

٥٤٣٦ـ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبـي، عن حريث بن أبـي مطر، عن إبراهيـم بن حاطب، عن أبـيه، قال: سمعت رجلاً فـي السحر فـي ناحية الـمسجد وهو

يقول: رب أمرتنـي فأطعتك، وهذا سحر فـاغفر لـي! فنظرت فإذا ابن مسعود.

٥٤٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن قول اللّه عز وجل: {والـمُسْتَغْفِرِينَ بـالأسحارِ} قال: حدثنـي سلـيـمان بن موسى، قال: حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيـي اللـيـل صلاة، ثم

يقول: يا نافع أسحرنا؟ فـ

يقول: لا. فـيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم، قعد يستغفر ويدعو حتـى يصبح.

٥٤٣٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن بعض البصريـين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بـالأسحار سبعين استغفـارة.

٥٤٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: حدثنا أبو يعقوب الضبـي، قال: سمعت جعفر بن مـحمد

يقول: من صلـى من اللـيـل ثم استغفر فـي آخر اللـيـل سبعين مرة كتب من الـمستغفرين بـالأسحار.

وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصبح فـي جماعة. ذكر من قال ذلك:

٥٤٤٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسماعيـل بن مسلـمة أخو القعنبـي قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، قال: قلت لزيد بن أسلـم من الـمستغفرين بـالأسحار؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح.

وأولـى هذه الأقوال بتأويـل قوله: {وَالـمُسْتَغفِرِينَ بـالأسْحارِ} قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر علـيهم فضيحتهم بها بـالأسحار، وهي جمع سَحَر. وأظهر معانـي ذلك أن تكون مسألتهم إياه بـالدعاء، وقد يحتـمل أن يكون معناه: تعرضهم لـمغفرته بـالعمل والصلاة، غير أن أظهر معانـيه ما ذكرنا من الدعاء.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{شَهِدَ اللّه أَنّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ ...}

يعنـي بذلك جل ثناؤه: شهد اللّه أنه لا إله إلا هو، وشهدت الـملائكة، وأولو العلـم. فـالـملائكة معطوف بهم علـى اسم اللّه ، و(أنه) مفتوحة بشهد.

وكان بعض البصريـين يتأول قوله شهد اللّه : قضى اللّه ، ويرفع (الـملائكة)، بـمعنى: والـملائكة شهود وأولو العلـم. وهكذا قرأت قراء أهل الإسلام بفتـح الألف من أنه علـى ما ذكرت من إعمال (شهد) فـي (أنه) الأولـى وكسر الألف من (إنّ) الثانـية وابتدائها، سوى أن بعض الـمتأخرين من أهل العربـية كان يقرأ ذلك جميعا بفتـح ألفـيهما، بـمعنى: شهد اللّه أنه لا إلَه إلا هو، وأن الدين عند اللّه الإسلام، فعطف بأنّ الدين علـى (أنه) الأولـى، ثم حذف واو العطف وهي مرادة فـي الكلام. واحتـج فـي ذلك بأن ابن عبـاس قرأ ذلك: (شَهِدَ اللّه إنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ)... الاَية، ثم قال: {أنّ الدّينَ} بكسر (إن) الأولـى وفتـح (أنّ) الثانـية بإعمال (شهد) فـيها، وجعل (أن) الأولـى اعتراضا فـي الكلام غير عامل فـيها (شهد)¹ وأن ابن مسعود قرأ: {شَهِدَ اللّه أنّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ} بفتـح (أنّ)، وكسر (إنّ) من: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسْلامُ} علـى معنى إعمال الشهادة فـي (أن) الأولـى و(أنّ) الثانـية مبتدأة، فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بـالفتـح جمع قراءة ابن عبـاس وابن مسعود. فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك علـى ما وصفت جميع قراء أهل الإسلام الـمتقدمين منهم والـمتأخرين، بدعوى تأويـل علـى ابن عبـاس وابن مسعود زعم أنهما قالاه وقرآ به، وغير معلوم ما ادعى علـيهما برواية صحيحة، ولا سقـيـمة. وكفـى شاهدا علـى خطإ قراءته خروجها من قراءة أهل الإسلام. فـالصواب إذ كان الأمر علـى ما وصفنا من قراءة ذلك فتـح الألف من (أنه) الأولـى، وكسر الألف من (إنّ) الثانـية، أعنـي من قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسْلام} ابتداء.

وقد رُوي عن السدي فـي تأويـل ذلك قول كالدّال علـى تصحيح ما قرأ به فـي ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربـية فـي فتـح (أن) من قوله: {أنّ الدّينَ} وهو ما:

٥٤٤١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: {شَهِدَ اللّه أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالـمَلاَئِكَةُ} إلـى: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} فإن اللّه يشهد هو والـملائكة والعلـماء من الناس أن الدين عند اللّه الإسلام.

فهذا التأويـل يدل علـى أن الشهادة إنـما هي عامة فـي (أن) الثانـية التـي فـي قوله: {أنّ الدّينَ عِندَ اللّه الإسْلام} فعلـى هذا التأويـل جائز فـي (أن) الأولـى وجهان من التأويـل: أحدهما أن تكون الأولـى منصوبة علـى وجه الشرط، بـمعنى: شهد اللّه بأنه واحد، فتكون مفتوحة بـمعنى الـخفض فـي مذهب بعض أهل العربـية، وبـمعنى النصب فـي مذهب بعضهم، والشهادة عاملة فـي (أنّ) الثانـية، كأنك قلت: شهد اللّه أن الدين عند اللّه الإسلام، لأنه واحد، ثم تقدم (لأنه واحد) فتفتـحها علـى ذلك التأويـل.

والوجه الثانـي: أن تكون (إن) الأولـى مكسورة بـمعنى الابتداء لأنها معترض بها، والشهادة واقعة علـى (أن) الثانـية، فـيكون معنى الكلام: شهد اللّه فإنه لا إلَه إلا هو والـملائكة، أن الدين عند اللّه الإسلام، كقول القائل: أشهد ـ فإنـي مـحق ـ أنك مـما تعاب به بريء، فـ(إنّ) الأولـى مكسورة لأنها معترضة، والشهادة واقعة علـى (أن) الثانـية.

وأما قوله: {قائما بـالقِسطِ} فإنه بـمعنى أنه الذي يـلـي العدل بـين خـلقه. والقسط: هو العدل، من قولهم: هو مقسط، وقد أقسط، إذا عدل، ونصب (قائما) علـى القطع.

وكان بعض نـحويـي أهل البصرة يزعم أنه حال من (هو) التـي فـي (لا إلَه إلا هو).

وكان بعض نـحويـي الكوفة يزعم أنه حال من اسم اللّه الذي مع قوله: {شَهِدَ اللّه } فكان معناه: شهد اللّه القائم بـالقسط أنه لا إلَه إلا هو. وقد ذكر أنها فـي قراءة ابن مسعود كذلك: (وأولُو العِلْـمِ القَائِمُ بـالقِسْطِ)، ثم حذفت الألف واللام من القائم فصار نكرة وهو نعت لـمعرفة، فنصب.

وأولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك عندي قول من جعله قطعا علـى أنه من نعت اللّه جل ثناؤه، لأن الـملائكة وأولـي العلـم معطوفون علـيه، فكذلك الصحيح أن يكون قوله (قائما) حالاً منه.

وأما تأويـل قوله: {لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الـحَكِيـمُ} فإنه نفـى أن يكون شيء يستـحق العبودة غير الواحد الذي لا شريك له فـي ملكه. ويعنـي بـالعزيز: الذي لا يـمتنع علـيه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبة أو انتقم منه، الـحكيـم فـي تدبـيره، فلا يدخـله خـلل.

وإنـما عنى جل ثناؤه بهذه الاَية نفـي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي عيسى من البنوة، وما نسب إلـيه سائر أهل الشرك من أن له شريكا، واتـخاذهم دونه أربـابـا. فأخبرهم اللّه عن نفسه أنه الـخالق كل ما سواه، وأنه رب كل ما اتـخذه كل كافر وكل مشرك ربـا دونه، وأن ذلك مـما يشهد به هو وملائكته وأهل العلـم به من خـلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه تعظيـما لنفسه، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به ما نسبوا إلـيها، كما سن لعبـاده أن يبدءوا فـي أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدبـا خـلقه بذلك.

والـمراد من الكلام: الـخبر عن شهادة من ارتضاهم من خـلقه فقدموه من ملائكته وعلـماء عبـاده، فأعلـمهم أن ملائكته ـ التـي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثـير منهم ـ وأهلَ العلـم منهم منكرون ما هم علـيه مقـيـمون من كفرهم، وقولهم فـي عيسى وقول من اتـخذ ربـا غيره من سائر الـخـلق، فقال شهدت الـملائكة وأولو العلـم أنه لا إلَه إلا هو، وأن كل من اتـخذ ربـا دون اللّه فهو كاذب¹ احتـجاجا منه لنبـيه علـيه الصلاة والسلام علـى الذين حاجوه من وفد نـجران فـي عيسى، واعترض بذكر اللّه وصفته علـى ما نبـينه، كما قال جل ثناؤه: {وَاعْلَـمُوا أنّـمَا غَنِـمْتُـمْ مِنْ شَيْءٍ فَـأَنّ لِلّهِ خُمُسَهُ} افتتاحا بـاسمه الكلام، فكذلك افتتـح بـاسمه والثناء علـى نفسه الشهادة بـما وصفنا من نفـي الألوهة من غيره وتكذيب أهل الشرك به. فأما ما قال الذي وصفنا قوله من أنه عَنَى بقوله شهد: قضى، فمـما لا يعرف فـي لغة العرب ولا العجم، لأن الشهادة معنى، والقضاء غيرها.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك رُوي عن بعض الـمتقدمين القول فـي ذلك.

٥٤٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {شَهِدَ اللّه أنّهُ لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ وَالـمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْـمِ} بخلاف ما قالوا، يعنـي: بخلاف ما قال وفد نـجران من النصارى، {قائما بـالْقِسْطِ} أي بـالعدل.

٥٤٤٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {بـالقِسْطِ} بـالعدل.

١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{إِنّ الدّينَ عِندَ اللّه الإِسْلاَمُ ...}

ومعنى الدين فـي هذا الـموضع: الطاعة والذلة، من قول الشاعر:

ويوْمُ الـحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّوكانَ النّاسُ إلاّ نَـحنُ دِينَا

يعنـي بذلك: مطيعين علـى وجه الذل¹ ومنه قول القطامي:

كانَتْ نَـوَارُ تَدِينُكَ الأدْيانَا

يعنـي تذلّك. وقول الأعشى ميـمون بن قـيس:

هُوَ دَان الرّبـابِ إذْ كَرِهُوا الدّيـنَ دِرَاكا بغَزْوَةٍ وَصيالِ

يعنـي بقوله (دان): ذلل، وبقوله (كرهوا الدين): الطاعة. وكذلك الإسلام، وهو الانقـياد بـالتذلل والـخشوع والفعل منه أسلـم، بـمعنى: دخـل فـي السلـم، كما يقال أقحط القوم: إذا دخـلوا فـي القحط، وأربعوا: إذا دخـلوا فـي الربـيع، فكذلك أسلـموا: إذا دخـلوا فـي السلـم، وهو الانقـياد بـالـخضوع وترك الـمـمانعة. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسْلامُ} إن الطاعة التـي هي الطاعة عنده الطاعة له، وإقرار الألسن والقلوب له بـالعبودية والذلة، وانقـيادها له بـالطاعة فـيـما أمر ونهى، وتذللها له بذلك من غير استكبـار علـيه ولا انـحراف عنه دون إشراك غيره من خـلقه معه فـي العبودية والألوهية.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٤٤٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسْلام} والإسلام: شهادة أن لا إلَه إلا اللّه ، والإقرار بـما جاء به من عند اللّه ، وهو دين اللّه الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل علـيه أولـياءه، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به.

٥٤٤٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: حدثنا أبو العالـية فـي قوله: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسْلام} قال: الإسلام: الإخلاص لله وحده وعبـادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الفرائض لهذا تبع.

٥٤٤٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أسْلَـمْنَا} قال: دخـلنا فـي السلـم وتركنا الـحرب.

٥٤٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ الدينَ عندَ اللّه الإسلامَ}: أي ما أنت علـيه يا مـحمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنـجيـل، وهو الكتاب الذي ذكره اللّه فـي هذه الاَية فـي أمر عيسى، وافترائهم علـى اللّه فـيـما قالوه فـيه من الأقوال التـي كثر بها اختلافهم بـينهم وتشتت بها كلـمتهم، وبـاين بها بعضهم بعضا، حتـى استـحلّ بها بعضهم دماء بعض، {إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـينهم} يعنـي: إلا من بعد ما علـموا الـحقّ فـيـما اختلفوا فـيه من أمره وأيقنوا أنهم فـيـما يقولون فـيه من عظيـم الفرية مبطلون. فأخبر اللّه عبـاده أنهم أتوا ما أتوا من البـاطل وقالوا ما قالوا من القول الذي هو كفر بـاللّه علـى علـم منهم بخطإ ما قالوه، وأنهم لـم يقولوا ذلك جهلاً منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فـيه الاختلاف الذي هم علـيه، تعدّيا من بعضهم علـى بعض، وطلب الرياسات والـملك والسلطان. كما:

٥٤٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ} قال: قال أبو العالـية: إلا من بعدما جاءهم الكتاب والعلـم بغيا بـينهم،

يقول: بغيا علـى الدنـيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضا علـى الدنـيا، من بعد ما كانوا علـماء الناس.

٥٤٤٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الاَية: {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسلام وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ بَغْيا بَـيْنَهُمْ}

يقول: بغيا علـى الدنـيا، وطلب ملكها وسلطانها، من قِبَلها واللّه أُتـينا! ما كان علـينا من يكون، بعد أن يأخذ فـينا كتاب اللّه وسنة نبـيه، ولكنا أُتـينا من قبلها.

٥٤٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: إن موسى لـما حضره الـموت دعا سبعين حبرا من أحبـار بنـي إسرائيـل، فـاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء علـيه، كل حبر جزءا منه، واستـخـلف موسى يوشع بن نون. فلـما مضى القرن الأوّل، ومضى الثانـي، ومضى الثالث، وقعت الفرقة بـينهم، وهم الذين أوتوا العلـم من أبناء أولئك السبعين، حتـى أهراقوا بـينهم الدماء، ووقع الشّر والاختلاف، وكان ذلك كله من قبل الذين أوتوا العلـم بغيا بـينهم علـى الدنـيا، طلبـا لسلطانها وملكها وخزائنَها وزخرفها، فسلط اللّه علـيهم جبـابرتهم، فقال اللّه : {إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّه الإسْلامِ} إلـى قوله: {وَاللّه بَصِيرٌ بِـالْعِبَـادِ}.

فقول الربـيع بن أنس هذا يدلّ علـى أنه كان عنده أنه معنـيّ بقوله: {وَما اختلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ} الـيهود من بنـي إسرائيـل دون النصارى منهم ومن غيرهم. وكان غيره يوجه ذلك إلـى أن الـمعنـيّ به النصارى الذين أوتوا الإنـجيـل. ذكر من قال ذلك:

٥٤٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما اختَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْـمُ} الذي جاءك، أي أن اللّه الواحد الذي لـيس له شريك، {بَغْيا بَـيْنَهُمْ} يعنـي بذلك: النصارى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّه فإنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}. يعنـي بذلك: ومن يجحد حجج اللّه وأعلامه التـي نصبها ذكرى لـمن عقل، وأدلة لـمن اعتبر وتذكر، فإن اللّه مـحص علـيه أعماله التـي كان يعملها فـي الدنـيا، فمـجازيه بها فـي الاَخرة، فإنه جل ثناؤه سريع الـحساب، يعنـي: سريع الإحصاء. وإنـما معنى ذلك: أنه حافظٌ علـى كل عامل عمله، لا حاجة به إلـى عقد، كما يعقده خـلقه بأكفهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك علـيهم بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لـما يعانـيه غيره من الـحساب.

وبنـحو الذي قلنا فـي معنى {سَرِيعُ الـحِسابِ} كان مـجاهد يقول.

٥٤٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّه فإنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ} قال: إحصاؤه علـيهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: {وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّه فَإنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ} إحصاؤه.

٢٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{فَإنْ حَآجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن حاجّك يا مـحمد النفر من نصارى أهل نـجران فـي أمر عيسى صلوات اللّه علـيه، فخاصموك فـيه بـالبـاطل، فقل: انقدت لله وحده بلسانـي وقلبـي وجميع جوارحي، وإنـما خصّ جلّ ذكره بأمره بأن

يقول: أسلـمت وجهي لله، لأن الوجه أكرم جوارح ابن آدم علـيه، وفـيه بهاؤه وتعظيـمه فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه فـي الكرامة علـيه من جوارح بدنهوأما قوله: {وَمَنِ اتّبَعَنِـي} فإنه يعنـي: وأسلـم من اتبعنـي أيضا وجهه لله معي، ومن معطوف بها علـى التاء فـي (أسلـمت). كما:

٥٤٥٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فإنْ حاجّوكَ} أي بـما يأتونك به من البـاطل من قولهم: خـلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا، فإنـما هي شبه بـاطلة قد عرفوا ما فـيها من الـحقّ، فقل: أسلـمت وجهي لله ومن اتبعنـي.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّـينَ أأسْلَـمْتُـمْ فإنْ أسْلَـمُوا فَقَدِ اهْتَدُوا}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وقل يا مـحمد للذين أوتوا الكتاب من الـيهود والنصارى، والأميـين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلـمتـم؟

يقول: قل لهم: هل أفردتـم التوحيد، وأخـلصتـم العبـادة والألوهة لربّ العالـمين دون سائر الأنداد والأشراك التـي تشركونها معه فـي عبـادتكم إياهم، وإقراركم بربوبـيتهم، وأنتـم تعلـمون أنه لا ربّ غيره، ولا إله سواه، فإن أسلـموا

يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانـية لله، وإخلاص العبـادة والألوهة له، فقد اهتدوا، يعنـي: فقد أصابوا سبـيـل الـحقّ، وسلكوا مـحجة الرشد.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: فإن أسلـموا فقد اهتدوا عقـيب الاستفهام، وهل يجوز علـى هذا فـي الكلام أن يقال لرجل: هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك؟.

قـيـل: ذلك جائز إذا كان الكلام مرادا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جلّ ثناؤه: {وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصّلاةِ فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ} يعنـي انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرا عن الـحواريـين أنهم قالوا لعيسى: {يا عيسَى ابنَ مَريـمَ هلْ يَستطيعُ رَبّكَ أنْ يُنَزّلَ عَلـينَا مائدةً مِنَ السماءِ}. وإنـما هو مسألة، كما يقول الرجل: هل أنت كافّ عنا؟ بـمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل: أين أين؟ بـمعنى؟ أقم فلا تبرح، ولذلك جُوزي فـي الاستفهام كما جوزي فـي الأمر فـي قراءة عبد اللّه : (هَلْ أدُلّكُمْ علـى تِـجارَةٍ تُنْـجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِـيـمٍ؟ آمِنُوا) ففسرها بـالأمر، وهي فـي قراءتنا علـى الـخبر¹ فـالـمـجازاة فـي قراءتنا علـى قوله: {هَلْ أدُلكُمْ} وفـي قراءة عبد اللّه علـى قوله: (آمِنُوا) علـى الأمر، لأنه هو التفسير.

وبنـحو معنى ما قلنا فـي ذلك قال بعض أهل التأويـل.

٥٤٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكتابَ والأُميّـينَ} الذين لا كتاب لهم: {أأسْلَـمْتُـمْ فإنْ أسْلَـمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا}.. الاَية.

٥٤٥٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّـينَ} قال: الأميون: الذين لا يكتبون.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وإن تَوَلّوْا فَإنّـما عَلَـيْكَ البَلاغُ وَاللّه بَصِيرٌ بِـالعِبـادِ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَإنْ تَوَلّوْا} وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إلـيه من الإسلام، وإخلاص التوحيد لله ربّ العالـمين، فإنـما أنت رسول مبلغ، ولـيس علـيك غير إبلاغ الرسالة إلـى من أرسلتك إلـيه من خـلقـي، وأداء ما كلفتك من طاعتـي. {وَاللّه بَصِيرٌ بِـالعِبـادِ} يعنـي بذلك، واللّه ذو علـم بـمن يقبل من عبـاده ما أرسلتك به إلـيه، فـيطيعك بـالإسلام، وبـمن يتولـى منهم عنه معرضا، فـيردّ علـيك ما أرسلتك به إلـيه فـيعصيك بإبـائه الإسلام.

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه } أي يجحدون حجج اللّه وأعلامه فـيكذّبون بها من أهل الكتابـين التوراة والإنـجيـل. كما:

٥٤٥٦ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير، قال: ثم جمع أهل الكتابـين جميعا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا من الـيهود والنصارى،

فقال: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ} إلـى قوله: {قُلِ اللّه مّ مالِكَ الـمُلْكِ تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشاءُ}.

وأما قوله: {وَيَقْتُلُوُنَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ} فإنه يعنـي بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل اللّه الذين كانوا يرسلون إلـيهم بـالنهي عما يأتون من معاصي اللّه ، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التـي قد تقدم اللّه إلـيهم فـي كتبهم بـالزجر عنها، نـحو زكريا وابنه يحيـى وما أشبههما من أنبـياء اللّه .

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ}.

اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأه عامة أهل الـمدينة والـحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرّاء الأمصار: {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ} بـمعنى القتل. وقرأه بعض الـمتأخرين من قرّاء الكوفة: (ويقاتلون)، بـمعنى القتال تأوّلاً منه قراءة عبد اللّه بن مسعود، وادّعى أن ذلك فـي مصحف عبد اللّه : (وقاتلوا)، فقرأ الذي وصفنا أمره من القراء بذلك التأويـل (ويقاتلون).

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا، قراءة من قرأه: {وَيَقْتُلُونَ} لإجماع الـحجة من القراء علـيه به، مع مـجيء التأويـل من أهل التأويـل بأن ذلك تأويـله. ذكر من قال ذلك:

٥٤٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن معقل بن أبـي مسكين فـي قوله اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: كان الوحي يأتـي إلـى بنـي إسرائيـل فـيذكّرون، ولـم يكن يأتـيهم كتاب، فـيُقتَلون، فـيقوم رجال مـمن اتبعهم وصدّقهم، فـيذكّرون قومهم فـيقتلون، فهم الذين يأمرون بـالقسط من الناس.

٥٤٥٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة فـي قوله: {وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتبـاع الأنبـياء ينهونهم ويذكرونهم فـيقتلونهم.

٥٤٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج فـي قوله: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: كان ناس من بنـي إسرائيـل مـمن لـم يقرأ الكتاب كان الوحي يأتـي إلـيهم، فـيذكّرون قومهم فـيقتلون علـى ذلك، فهم الذين يأمرون بـالقسط من الناس.

٥٤٦٠ـ حدثنـي أبو عبـيد الرصافـي مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو الـحسن مولـى بنـي أسد، عن مكحول، عن قبـيصة بن ذؤيب الـخزاعي، عن أبـي عبـيدة بن الـجرّاح، قال: قلت يا رسول اللّه ، أيّ الناس أشدّ عذابـا يوم القـيامة؟ قال: (رَجُلٌ قَتَلَ نَبِـيّا، أوْ رَجُلٌ أمَرَ بـالـمُنْكَرِ وَنَهَى عَنِ الـمَعْرُوفِ). ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الّذِينَ يَقْتُلُونَ النّبِـيّـينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِـالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ) إلـى أن انتهى إلـى: {وَما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا أبـا عُبَـيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيـلَ ثَلاَثَةً وَأرْبَعِينَ نَبِـيّا مِنْ أَوّلِ النّهارِ فِـي سَاعَةٍ وَاحِدَةً، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلاً مِنْ عُبّـادِ بَنِـي إسْرَائِيـلَ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِـالـمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ الـمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعا مِنْ آخِرِ النّهَارِ فِـي ذَلِكَ الـيَوْمِ، وَهُمُ الّذِينَ ذَكَرَ اللّه عَزّ وَجَلّ).

فتأويـل الاَية إذا: إن الذين يكفرون بآيات اللّه ، ويقتلون النبـيـين بغير حقّ، ويقتلون آمريهم بـالعدل فـي أمر اللّه ونهيه، الذين ينهونهم عن قتل أنبـياء اللّه وركوب معاصيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِـي الدّنْـيا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِـيـمٍ} فأخبرهم يا مـحمد، وأعلـمهم أن لهم عند اللّه عذابـا مؤلـما لهم، وهو الـموجع.

٢٢

وأما قوله: {أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِـي الدّنْـيَا وَالاَخِرَةِ} فإنه يعنـي بقوله: {أُولَئِكَ} الذين يكفرون بآيات اللّه . ومعنى ذلك: أن الذين ذكرناهم، هم الذين حبطت أعمالهم، يعنـي بطلت أعمالهم فـي الدنـيا والاَخرة. فأما قوله: {فِـي الدّنْـيَا} فلـم ينالوا بها مـحمدة ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا علـى ضلال وبـاطل، ولـم يرفع اللّه لهم بها ذكرا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبـائح أعمالهم علـى ألسن أنبـيائه ورسله فـي كتبه التـي أنزلها علـيهم، فأبقـى لهم ما بقـيت الدنـيا مذمة، فذلك حبوطها فـي الدنـياوأما فـي الاَخرة، فإنه أعدّ لهم فـيها من العقاب ما وصف فـي كتابه، وأعلـم عبـاده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها، لأنها كانت كفرا بـالله، فجزاء أهلها الـخـلود فـي الـجحيـم.

وأما قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} فإنه يعنـي: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من اللّه إذا هو انتقم منهم بـما سلف من إجرامهم واجترائهم علـيه، فـيستنقذهم منه.

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {ألـم تَرَ} يا مـحمد {إلـى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتَابِ}

يقول: الذين أُعطوا حظا من الكتاب، يدعون إلـى كتاب اللّه .

واختلف أهل التأويـل فـي الكتاب الذي عنى اللّه بقوله: {يُدْعَوْنَ إلـى كِتابِ اللّه }

فقال بعضهم: هو التوراة دعاهم إلـى الرضا بـما فـيها، إذ كانت الفرق الـمنتـحلة الكتب تُقِرّ بها وبـما فـيها أنها كانت أحكام اللّه قبل أن ينسخ منها ما نسخ. ذكر من قال ذلك:

٥٤٦١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير وعكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: دخـل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـين الـمدراس علـى جماعة من يهود، فدعاهم إلـى اللّه ، فقال له نعيـم بن عمرو والـحارث بن زيد: علـى أيّ دين أنت يا مـحمد؟ فقال: (علـى مِلّة إبْراهِيـم ودِينِه)، فقالا: فإن إبراهيـم كان يهوديا، فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فَهَلُـمّوا إلـى التّوْرَاةِ فَهِيَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ). فأبَوْا عَلَـيْهِ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ألَـمْ تَرَ إلـى الذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلـى كِتابِ اللّه لِـيَحْكُمَ بَـيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلـى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.. إلـى قوله: {ما كانُوا يَفْتَرُونَ}.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: دخـل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـيت الـمدراس، فذكر نـحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فَهَلُـمّا إلـى التّوْرَاةِ)، وقال أيضا: فأنزل اللّه فـيهما: {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ} وسائر الـحديث مثل حديث أبـي كريب.

وقال بعضهم: بل ذلك كتاب اللّه الذي أنزله علـى مـحمد، وإنـما دعيت طائفة منهم إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـيحكم بـينهم بـالـحقّ، فأبت. ذكر من قال ذلك:

٥٤٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلـى كِتابَ اللّه لِـيَحْكُمَ بَـيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّـى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أولئك أعداء اللّه الـيهود، دعوا إلـى كتاب اللّه لـيحكم بـينهم، وإلـى نبـيه لـيحكم بـينهم وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل، ثم تولوا عنه وهم معرضون.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة: {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ}.. الاَية، قال: هم الـيهود دعوا إلـى كتاب اللّه وإلـى نبـيه، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون.

٥٤٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: {ألَـمْ تَرَ إلـى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبـا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلـى كِتابِ اللّه لِـيَحْكُمَ بَـيْنَهُمْ} قال: كان أهل الكتاب يدعون إلـى كتاب اللّه لـيحكم بـينهم بـالـحقّ يكون وفـي الـحدود، وكان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يدعوهم إلـى الإسلام، فـيتولون عن ذلك.

وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك عندي بـالصواب أن يقال: إن اللّه جل ثناؤه أخبر عن طائفة من الـيهود الذين كانوا بـين ظهرانـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي عهده، مـمن قد أوتـي علـما بـالتوراة أنهم دعوا إلـى كتاب اللّه الذي كانوا يقرّون أنه من عند اللّه وهو فـي التوراة فـي بعض ما تنازعوا فـيه هم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فـيه ثم دعوا إلـى حكم التوراة فـيه، فـامتنعوا من الإجابة إلـيه، كان أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمر نبوّته. ويجوز أن يكون ذلك كان أمر إبراهيـم خـلـيـل الرحمن ودينه. ويجوز أن يكون ذلك ما دعوا إلـيه من أمر الإسلام، والإقرار به. ويجوز أن يكون ذلك كان فـي حدّ، فإن كل ذلك مـما قد كانوا نازعوا فـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فدعاهم فـيه إلـى حكم التوراة، فأبى الإجابة فـيه، وكتـمه بعضهم. ولا دلالة فـي الاَية علـى أن ذلك كان مـمن أبى، فـيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلـى معرفة ذلك، لأن الـمعنى الذي دعوا إلـيه جملته هو مـما كان فرضا علـيهم الإجابة إلـيه فـي دينهم، فـامتنعوا منه.

 فأخبر اللّه جل ثناؤه عنهم بردّتهم وتكذيبهم بـما فـي كتابهم وجحودهم، ما قد أخذ علـيهم عهودهم ومواثـيقهم بإقامته والعمل به، فلن يعدوا أن يكونوا فـي تكذيبهم مـحمدا وما جاء به من الـحقّ مثلُهم فـي تكذيبهم موسى وما جاء به، وهم يتولونه ويقرّون به.

ومعنى قوله: {ثُمّ يَتَوَلّـى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ثم يستدبر عن كتاب اللّه الذي دعا إلـى حكمه معرضا عنه منصرفـا، وهو بحقـيقته وحجته عالـم.

وإنـما قلنا إن ذلك الكتاب هو التوراة، لأنهم كانوا بـالقرآن مكذّبـين وبـالتوراة بزعمهم مصدّقـين، فكانت الـحجة علـيهم بتكذيبهم بـما هم به فـي زعمهم مقرّون أبلغ وللعذر أقطع.

٢٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ ...}

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {بأنّهُمْ قالُوا} بأن هؤلاء الذين دعوا إلـى كتاب اللّه لـيحكم بـينهم بـالـحقّ فـيـما نازعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إنـما أبوا الإجابة فـي حكم التوراة، وما فـيها من الـحقّ من أجل قولهم: {لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ} وهي أربعون يوما، وهنّ الأيام التـي عبدوا فـيها العجل، ثم يخرجنا منها ربنا. اغترارا منهم بـما كانوا يفترون، يعنـي بـما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأبـاطيـل فـي ادّعائهم أنهم أبناء اللّه وأحبـاؤه، وأن اللّه قد وعد أبـاهم يعقوب أن لا يدخـل أحدا من ولده النار إلا تَـحِلّة القسم. فأكذبهم اللّه علـى ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أنهم هم أهل النار، هم فـيها خالدون، دون الـمؤمنـين بـاللّه ورسله وما جاءوا به من عنده.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٤٦٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ}

قالوا: لن تـمسنا النار إلا تـحلة القسم التـي نصبنا فـيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا. قال اللّه عزّ وجلّ: {وَغَرّهُمْ فِـي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي

قالوا: نـحن أبناء اللّه وأحبـاؤه.

٥٤٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَنْ تَـمَسّنَا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ}.. الاَية، قال:

قالوا: لن نعذّب فـي النار إلا أربعين يوما

قال: يعنـي الـيهود

قال: وقال قتادة مثله، وقال: هي الأيام التـي نصبوا فـيها العجل. يقول اللّه عزّ وجلّ: {وَغَرّهُمْ فِـي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} حين

قالوا: {نَـحْنُ أبْناءُ اللّه وَأحِبّـاؤُه}.

٥٤٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: قوله: {وَغَرّهُمْ فِـي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} قال: غرّهم قولهم: {لَنْ تَـمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَاتٍ}.

٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاّ رَيْبَ فِيهِ ...}

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فَكَيْفَ إذَا جَمَعْناهُمْ} فأيّ حال يكون حال هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب اللّه واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب. وذلك من اللّه عزّ وجلّ وعيد لهم شديد، وتهديد غلـيظ. وإنـما يعنـي بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ}.. الاَية: فما أعظم ما يـلقون من عقوبة اللّه وتنكيـله بهم إذا جمعهم لـيوم يوفـى كل عامل جزاء عمله علـى قدر استـحقاقه غير مظلوم فـيه، لأنه لا يعاقب فـيه إلا علـى ما اجترم، ولا يؤاخذ إلا بـما عمل، يجزي الـمـحسن بإحسانه، والـمسيء بإساءته، لا يخاف أحد من خـلقه يومئذ ظلـما ولا هضما.

فإن قال قائل: وكيف قـيـل: {فَكَيْفَ إذَا جَمَعْناهُمْ لِـيَوْمٍ لا رَيْبٍ فِـيهِ} ولـم يقل: فـي يوم لا ريب فـيه؟

قـيـل: لـمخالفة معنى اللام فـي هذا الـموضع معنى فـي، وذلك أنه لو كان مكان اللام (فـي) لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم فـي يوم القـيامة ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب، ولـيس ذلك الـمعنى فـي دخول اللام، ولكن معناه مع اللام، فكيف إذا جمعناهم لـما يحدث فـي يوم لا ريب فـيه، ولـما يكون فـي ذلك الـيوم من فصل اللّه القضاء بـين خـلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وألـيـم العذاب؟ فمع اللام فـي: {لِـيَوْمٍ لا رَيْبَ فِـيهِ} نـية فعل وخبر مطلوب قد ترك ذكره، أجزأت دلالة دخول اللام فـي الـيوم علـيه منه، ولـيس ذلك مع (فـي) فلذلك اختـيرت اللام فأدخـلت فـي (لـيوم) دون (فـي).

وأما تأويـل قوله: {لا رَيْبَ فِـيهِ} فإنه لا شكّ فـي مـجيئه، وقد دللنا علـى أنه كذلك بـالأدلة الكافـية، مع ذكر من قال ذلك فـي تأويـله فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. وعنى بقوله: {وَوُفّـيَتْ} ووفـى اللّه {كلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} يعنـي ما عملت من خير وشرّ، {وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ} يعنـي أنه لا يبخس الـمـحسن جزاء إحسانه، ولا يعاقب مسيئا بغير جرمه.

٢٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلِ اللّه مّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ ... }

أما تأويـل قوله {قُلِ اللّه مّ} فإنه قل يا مـحمد: يا اللّه .

واختلف أهل العربـية فـي نصب ميـم {اللّه مّ} وهو منادى، وحكم الـمنادى الـمفرد غير الـمضاف الرفع، وفـي دخول الـميـم فـيه، وهو فـي الأصل (اللّه ) بغير ميـم.

فقال بعضهم: إنـما زيدت فـيه الـميـمان لأنه لا ينادى بـ(يا) كما ينادى الأسماء التـي لا ألف فـيها، وذلك أن الأسماء التـي لا ألف ولا لام فـيها تنادى بـ(يا)، كقول القائل: يا زيد ويا عمرو، قال: فجعلت الـميـم فـيه خـلفـا من (يا)، كما

قالوا: فم ودم وهم وزُرْقُم وسُتْهُم، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التـي يحذف منها الـحرف، ثم يبدل مكانه ميـم، قال: فكذلك حذفت من اللهم (يا) التـي ينادى بها الأسماء التـي علـى ما وصفنا، وجعلت الـميـم خـلفـا منها فـي آخر الاسم. وأنكر ذلك من قولهم آخرون،

وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي: اللهمّ بـ(يا)، كما تناديه، ولا ميـم فـيه.

قالوا: فلو كان الذي قال هذا القول مصيبـا فـي دعواه لـم تدخـل العرب (يا)، وقد جاءوا بـالـخـلف منها. وأنشدوا فـي ذلك سماعا من العرب:

وَما عَلَـيْكِ أنْ تَقُولـي كُلّـماصَلّـيْتِ أوْ كَبّرْتِ يا اللّه مّ

ارْدُدْ إلـينا شَيْخَنَا مُسَلّـما

ويروى: (سبحت أو كبرت).

قالوا: ولـم نر العرب زادت مثل هذه الـميـم إلا مخففة فـي نواقص الأسماء مثل فم ودم وهم

قالوا: ونـحن نرى أنها كلـمة ضمّ إلـيها (أمّ) بـمعنى (يا اللّه أمّنا بخير)، فكثرت فـي الكلام فـاختلطت به.

قالوا: فـالضمة التـي فـي الهاء من همزة (أم) لـما تركت انتقلت إلـى ما قبلها.

قالوا: ونرى أن قول العرب هلـمّ إلـينا مثلها، إنـما كان هلـمّ (هل) ضمّ إلـيها (أمّ) فتركت علـى نصبها.

قالوا: ومن العرب من يقول إذا طرح الـميـم: (يا اللّه اغفر لـي)، و(يا اللّه اغفر لـي)، بهمز الألف من اللّه مرّة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها علـى أصلها لأنها ألف ولام، مثل الألف واللام اللتـين يدخلان فـي الأسماء الـمعارف زائدتـين. ومن همزها توهم أنها من الـحرف، إذ كانت لا تسقط منه. وأنشدوا فـي همز الألف منها:

مُبـارَكٌ هُوَ وَمَنْ سَمّاهُعلـى اسمكَ اللّه مّ يا اللّه

قالوا: وقد كثرت اللهمّ فـي الكلام حتـى خففت ميـمها فـي بعض اللغات، وأنشدوا:

كحَلْفَةٍ مِنْ أبـي رِياحٍيَسْمَعُها اللّه مُ الكُبـارُ

والرواة تنشد ذلك: (يَسْمَعُـها لاهُهُ الكُبـارُ).

وقد أنشده بعضهم: (يَسْمَعُهـا اللّه والكُبـارُ).

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مالِكَ الـمُلْكِ تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الـمُلْكَ مِـمّنْ تَشاءُ}. يعنـي بذلك: يا مالك الـملك، يا من له ملك الدنـيا والاَخرة خالصا دون غيره. كما:

٥٤٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير قوله: {قُلِ اللّه مّ مالكَ الـمُلْكِ} أي ربّ العبـاد الـملك لا يقضي فـيهم غيرك.

وأما قوله: {تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشاءُ} فإنه يعنـي: تعطي الـملك من تشاء فتـملّكه وتسلطه علـى من تشاءوقوله: {وَتَنْزِعُ الـمُلْكَ مِـمّنْ تَشاءُ} أن تنزعه منه، فترك ذكر (أن تنزعه منه) اكتفـاء بدلالة قوله: {وَتَنْزِعُ الـمُلْكَ مِـمّنْ تَشاءُ} علـيه، كما يقال: خذ ما شئت، وكن فـيـما شئت، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فـيـما شئت أن تكون فـيه، وكما قال جل ثناؤه: {فِـي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ ركّبَكَ} يعنـي: فـي أيّ صورة شاء أن يركبك فـيها ركبك.

وقـيـل: إن هذه الاَية نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جوابـا لـمسألته ربه أن يجعل ملك فـارس والروم لأمته. ذكر من قال ذلك:

٥٤٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة¹ وذكر لنا أن نبـيّ صلى اللّه عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فـارس والروم فـي أمته، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قُلِ اللّه مّ مالِكَ الـمُلْكِ تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشاءُ}.. إلـى: {إنّكَ علـى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: ذكر لنا ولله أعلـم أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل ربه عزّ وجلّ أن يجعل ملك فـارس والروم فـي أمته، ثم ذكر مثله.

وروي عن مـجاهد أنه كان

يقول: معنى الـملك فـي هذا الـموضع النبوّة. ذكر الرواية عنه بذلك:

٥٤٦٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الـمُلْكَ مِـمّنْ تَشاءُ} قال: النبوّة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتُعِزّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشاءُ بِـيَدِكَ الـخَيْرُ إنّكَ علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يعنـي جلّ ثناؤه: وتعزّ من تشاء بإعطائه الـملك والسلطان وبسط القدرة له، وتذلّ من تشاء بسلبك ملكه وتسلـيط عدوّ علـيه. {بِـيَدِكَ الـخَيْرُ} أي كلّ ذلك بـيدك وإلـيك، لا يقدر علـى ذلك أحد¹ لأنك علـى كل شيء قدير، دون سائر خـلقك، ودون من اتـخذه الـمشركون من أهل الكتاب والأميـين من العرب إلها وربـا يعبدونه من دونك، كالـمسيح والأنداد التـي اتـخذها الأميون ربّـا. كما:

٥٤٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير قوله: {تُؤْتِـي الـمُلْكَ مَنْ تَشاءُ}.. الاَية، أي إن ذلك بـيدك لا إلـى غيرك، {إنّكَ علـى كل شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يقدر علـى هذا غيرك بسلطانك وقدرتك.

٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {تُولِـجُ} تدخـل، يقال منه: قد ولـج فلان منزله: إذا دخـله، فهو يَـلِـجُهُ وَلْـجا وَوُلُوجا ولِـجَةً، وأولـجته أنا: إذا أدخـلته. ويعنـي بقوله: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهارِ} تدخـل ما نقصت من ساعات اللـيـل فـي ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا فـي زيادة هذا. {وَتُولِـجُ النّهَارَ فِـي اللّـيْـلِ} وتدخـل ما نقصت من ساعات النهار فـي ساعات اللـيـل، فتزيد فـي ساعات اللـيـل ما نقصت من ساعات النهار. كما:

٥٤٧١ـ حدثنـي موسى، قال حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهارِ وَتُولِـجُ النّهارَ فِـي اللّـيْـلِ} حتـى يكون اللـيـل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات، وتدخـل النهار فـي اللـيـل، حتـى يكون النهار خمس عشرة ساعة واللـيـل تسع ساعات.

٥٤٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: ما نقص من النهار يجعله فـي اللـيـل، وما نقص من اللـيـل يجعله فـي النهار.

٥٤٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهارِ وتُولِـجُ النّهارَ فِـي اللّـيْـلِ} قال: ما ينقص من أحدهما يدخـل فـي الاَخر متعاقبـان ـ أو يتعاقبـان، شكّ أبو عاصم ـ ذلك من الساعات.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {تُولِـجُ اللّـيْـل فِـي النّهارِ وَتُولِـجُ النّهارَ فِـي اللّـيـلِ} ما ينقص من أحدهما فـي الاَخر يتعاقبـان فـي ذلك من الساعات.

٥٤٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن قوله: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهَارِ وَتُولِـجُ النّهَارَ فِـي اللّـيْـلِ} نقصان اللـيـل فـي زيادة النهار، ونقصان النهار فـي زيادة اللـيـل.

٥٤٧٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهَارِ وَتُولِـجُ النّهَارَ فِـي اللّـيْـلِ} قال: هو نقصان أحدهما فـي الاَخر.

٥٤٧٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة فـي قوله: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهارِ وَتُولِـجُ النّهارَ فِـي اللّـيْـلِ} قال: يأخذ اللـيـل من النهار، ويأخذ النهار من اللـيـل.

يقول: نقصان اللـيـل فـي زيادة النهار، ونقصان النهار فـي زيادة اللـيـل.

٥٤٧٧ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهَارِ وَتُولِـجُ النّهَارَ فِـي اللّـيْـلِ} يعنـي أنه يأخذ أحدهما من الاَخر، فـيكون اللـيـل أحيانا أطول من النهار، والنهار أحيانا أطول من اللـيـل.

٥٤٧٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {تُولِـجُ اللّـيْـلَ فِـي النّهارِ وَتُولِـجُ النّهَارَ فِـي اللّـيْـلِ} قال: هذا طويـل، وهذا قصير، أخذ من هذا فأولـجه فـي هذا حتـى صار هذا طويلاً وهذا قصيرا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وتُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: تأويـل ذلك: أنه يخرج الشيء الـحيّ من النطفة الـميتة، ويخرج النطفة الـميتة من الشيء الـحيّ. ذكر من قال ذلك:

٥٤٧٩ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن عبد اللّه فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: هي النطفة تـخرج من الرجل وهي ميتة، وهو حيّ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة.

٥٤٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: الناس الأحياء من النطف والنطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء والأنعام.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

 حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} فذكر نـحوه.

٥٤٨١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} فـالنطفة ميتة تكون تـخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.

٥٤٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمر بن علـي بن عطاء الـمقدمي، قال: حدثنا أشعث السجستانـي، قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال تـخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة.

٥٤٨٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: تـخرج الـحيّ من هذه النطفة الـميتة، وتـخرج هذه النطفة الـميتة من الـحيّ.

٥٤٨٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ}.. الاَية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميتة من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنبت كذلك. قال ابن جريج، وسمعت يزيد بن عويـمر يخبّر عن سعيد بن جبـير، قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة.

٥٤٨٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: النطفة ميتة، فتـخرج منها أحياء. {وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} تـخرج النطفة من هؤلاء الأحياء، والـحبّ ميتة تـخرج منه حيا. {وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} تـخرج من هذا الـحيّ حبـا ميتا.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج النـخـلة من النواة، والنواة من النـخـلة، والسنبل من الـحبّ والـحبّ من السنبل، والبـيض من الدجاج، والدجاج من البـيض. ذكر من قال ذلك:

٥٤٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن عكرمة قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ} قال: هي البـيضة تـخرج من الـحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الـحيّ.

٥٤٨٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: النـخـلة من النواة، والنواة من النـخـلة، والـحبة من السنبلة، والسنبلة من الـحبة.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه يخرج الـمؤمن من الكافر، والكافر من الـمؤمن. ذكر من قال ذلك:

٥٤٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} يعنـي الـمؤمن من الكافر، والكافر من الـمؤمن، والـمؤمن عبد حيّ الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الـحسن فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: يخرج الـمؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من الـمؤمن.

حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الـحسن قرأ: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: تـخرج الـمؤمن من الكافر، وتـخرج الكافر من الـمؤمن.

٥٤٨٩ـ حدثنـي حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا سلـيـمان التـيـمي، عن أبـي عثمان، عن سلـمان، أو عن ابن مسعود ـ وأكبر ظنـي أنه عن سلـمان ـ قال: إن اللّه عزّ وجلّ خمّر طينة آدم أربعين لـيـلة ـ أو قال: أربعين يوما ـ ثم قال بـيده فـيه، فخرج كل طيب فـي يـمينه، وخرج كل خبـيث فـي يده الأخرى، ثم خـلط بـينهما، ثم خـلق منها آدم، فمن ثم يخرج الـحيّ من الـميت ويخرج الـميت من الـحيّ، يخرج الـمؤمن من الكافر ويخرج الكافر من الـمؤمن.

٥٤٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم دخـل علـى بعض نسائه، فإذا بـامرأة حسنة النّعْمة،

فقال: (مَنْ هَذِهِ؟) قالت: إحدى خالاتك، قال: (إنّ خالاتِـي بِهَذِهِ البَلَدَةِ لغَرَائِبُ! وأيّ خالاتِـي هَذِهِ؟) قالت: خـلْدة ابنة الأسود بن عبد يغوث، قال: (سُبْحانَ الّذِي يُخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ) وكانت امرأة صالـحة، وكان أبوها كافرا.

٥٤٩١ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} قال: هل علـمتـم أن الكافر يـلد مؤمنا، وأن الـمؤمن يـلد كافرا؟ فقال: هو كذلك.

وأولـى التأويلات التـي ذكرناها فـي هذه الاَية بـالصواب تأويـل من قال: يخرج الإنسان الـحيّ والأنعام والبهائم الأحياء من النطف الـميتة، وذلك إخراج الـحيّ من الـميت، ويخرج النطفة الـميتة من الإنسان الـحيّ والأنعام والبهائم الأحياء، وذلك إخراج الـميت من الـحيّ، وذلك أن كل حيّ فـارقه شيء من جسده، فذلك الذي فـارقه منه ميت، فـالنطفة ميتة لـمفـارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشىء اللّه منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء، وكذلك حكم كل شيء حيّ زايـله شيء منه، فـالذي زايـله منه ميت، وذلك هو نظير قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِـاللّه وكُنْتُـمْ أمواتا فأحْيَاكُمْ ثُمّ يُـمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِـيكُمْ ثُمّ إلَـيْهِ تُرْجَعُون}.

وأما تأويـل من تأوّله بـمعنى الـحبة من السنبلة، والسنبلة من الـحبة، والبـيضة من الدجاجة، والدجاجة من البـيضة، والـمؤمن من الكافر، والكافر من الـمؤمن، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فلـيس ذلك الأغلب الظاهر فـي استعمال الناس فـي الكلام، وتوجيه معانـي كتاب اللّه عزّ وجلّ إلـى الظاهر الـمستعمل فـي الناس، أولـى من توجيهها إلـى الـخفـيّ القلـيـل فـي الاستعمال.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته جماعة منهم: {تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وَتُـخْرِجُ الـمَيّتَ مِنَ الـحَيّ} بـالتشديد وتثقـيـل الـياء من الـميت، بـمعنى أنه يخرج الشيء الـحيّ من الشيء الذي قد مات، ومـما لـم يـمت. وقرأت جماعة أخرى منهم: (تُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيْتِ وَتُـخْرِجُ الْـمَيْتَ مِنَ الـحَيّ) بتـخفـيف الـياء من الـميت. بـمعنى أنه يخرج الشيء الـحيّ من الشيء الذي قد مات دون الشيء الذي لـم يـمت، وتـخرج الشيء الـميت دون الشيء الذي لـم يـمت من الشيء الـحيّ، وذلك أن الـميت مثقل الـياء عند العرب ما لـم يـمت وسيـموت وما قد ماتوأما الـميْت مخففـا: فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعت

قالوا: إنك مائت غدا وإنهم مائتون، وكذلك كل ما لـم يكن بعد، فإنه يخرج علـى هذا الـمثال الاسم منه، يقال: هو الـجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك، وإذا أريد معنى الاسم

قـيـل: هو الـجواد بنفسه والطيبة نفسه. فإذا كان ذلك كذلك، فأولـى القراءتـين فـي هذه الاَية بـالصواب قراءة من شّدد الـياء من الـميّت، لأن اللّه جل ثناؤه يخرج الـحيّ من النطفة التـي قد فـارقت الرجل، فصارت ميتة، وسيخرجه منها بعد أن تفـارقه وهي فـي صلب الرجل، ويخرج الـميت من الـحيّ، النطفة التـي تصير بخروجها من الرجل الـحيّ ميتا، وهي قبل خروجها منه حية، فـالتشديد أبلغ فـي الـمدح أكمل فـي الثناء.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه يعطي من يشاء من خـلقه، فـيجود علـيه بغير مـحاسبة منه لـمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخول انتقاص فـي خزائنه، ولا الفناء علـى ما بـيده. كما:

٥٤٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبـارك وتعالـى.

فتأويـل الاَية إذا: اللهمّ يا مالك الـملك، تؤتـي الـملك من تشاء، وتنزع الـملك مـمن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، بـيدك الـخير إنك علـى كل شيء قدير، دون من ادّعى الـملـحدون أنه لهم إلَه ورب وعبدوه دونك، أو اتـخذوه شريكا معك، أو أنه لك ولد وبـيدك القدرة التـي تفعل هذه الأشياء، وتقدر بها علـى كل شيء، تولـج اللـيـل فـي النهار، وتولـج النهار فـي اللـيـل، فتنقص من هذا وتزيد فـي هذا، وتنقص من هذا وتزيد فـي هذا، وتـخرج من ميت حيا، ومن حيّ ميتا، وترزق من تشاء بغير حساب من خـلقك، لا يقدر علـى ذلك أحد سواك، ولا يستطيعه غيرك. كما:

٥٤٩٣ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {تُولِـجُ اللّـيْـلِ فِـي النّهَارِ وتُولِـجُ النّهَارَ فِـي اللّـيْـلِ وتُـخْرِجُ الـحَيّ مِنَ الـمَيّتِ وتُـخْرِجُ الـمَيّتُ مِنَ الـحَيّ} أي بتلك القدرة، يعنـي بـالقدرة التـي تؤتـي الـملك بها من تشاء وتنزعه مـمن تشاء، وترزق من تشاء بغير حساب، لا يقدر علـى ذلك غيرك ولا يصنعه إلا أنت. أي فإن كنت سلطت عيسى علـى الأشياء التـي بها يزعمون أنه إلَه، من إحياء الـموتـى، وإبراء الأسقام، والـخـلق للطير من الطين، والـخبر عن الغيوب لتـجعله آية للناس، وتصديقا له فـي نبوّته التـي بعثته بها إلـى قومه، فإنّ من سلطانـي وقدرتـي ما لـم أعطه، كتـملـيك الـملوك، وأمر النبوّة ووضعها حيث شئت، وإيلاج اللـيـل فـي النهار، والنهار فـي اللـيـل، وإخراج الـحيّ من الـميت، والـميت من الـحيّ، ورزق من شئت من برّ أو فـاجر بغير حساب، فكل ذلك لـم أسلط عيسى علـيه، ولـم أملكه إياه، فلـم يكن لهم فـي ذلك عبرة وبـينة، إذ لو كان إلَها لكان ذلك كله إلـيه وهو فـي علـمهم يهرب من الـملوك، وينتقل منهم فـي البلاد من بلد إلـى بلد.

٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ ... }

وهذا نهي من اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يتـخذوا الكفـار أعوانا وأنصارا وظهورا، ولذلك كسر (يتـخذ) لأنه فـي موضع جزم بـالنهي، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقـيه وهي ساكنة. ومعنى ذلك: لا تتـخذوا أيها الـمؤمنون الكفـار ظهرا وأنصارا، توالونهم علـى دينهم، وتظاهرونهم علـى الـمسلـمين من دون الـمؤمنـين، وتدلونهم علـى عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فلـيس من اللّه فـي شيء يعنـي بذلك، فقد برىء من اللّه ، وبرىء اللّه منه بـارتداده عن دينه، ودخوله فـي الكفر، إلا أن تتقوا منهم تقاة، إلا أن تكونوا فـي سلطانهم، فتـخافوهم علـى أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم علـى ما هم علـيه من الكفر، ولا تعينوهم علـى مسلـم بفعل. كما:

٥٤٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {لا يَتّـخَذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ} قال: نهى اللّه سبحانه الـمؤمنـين أن يلاطفوا الكفـار، أو يتـخذوهم ولـيجة من دون الـمؤمنـين، إلا أن يكون الكفـار علـيهم ظاهرين، فـيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم فـي الدين. وذلك قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}.

٥٤٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: كان الـحجاج بن عمرو حلـيف كعب بن الأشرف وابن أبـي الـحقـيق، وقـيس بن زيد، قد بطنوا بنفر من الأنصار لـيفتنوهم عن دينهم. فقال رفـاعة بن الـمنذر بن زبـير وعبد اللّه بن جبـير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء الـيهود، واحذروا لزومهم ومبـاطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مبـاطنتهم ولزومهم، فأنزل اللّه عزّ وجل: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ}.. إلـى قوله: {وَاللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

٥٤٩٦ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ}

يقول: لا يتـخذ الـمؤمن كافرا ولـيا من دون الـمؤمنـين.

٥٤٩٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ} إلـى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} أما أولـياء: فـيوالـيهم فـي دينهم، ويظهرهم علـى عورة الـمؤمنـين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برىء اللّه منه، إلا أن يتقـي منهم تقاة، فهو يظهر الولاية لهم فـي دينهم والبراءة من الـمؤمنـين.

٥٤٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عبـاس : {إلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: التقاة: التكلـم بـاللسان، وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان.

٥٤٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الـحكم بن أبـان، عن عكرمة فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: ما لـم يهرق دم مسلـم، وما لـم يستـحل ماله.

٥٥٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ} إلا مصانعة فـي الدنـيا ومخالقة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٥٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ} إلـى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: قال أبو العالـية: التقـية بـاللسان ولـيس بـالعمل.

٥٥٠٢ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: التقـية بـاللسان مَنْ حُمِلَ علـى أمر يتكلـم به وهو لله معصية، فتكلـم مخافة علـى نفسه، وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، فلا إثم علـيه، إنـما التقـية بـاللسان.

٥٥٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} فـالتقـية بـاللسان: من حمل علـى أمر يتكلـم به وهو معصية لله فـيتكلـم به مخافة الناس وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، فإن ذلك لا يضرّه، إنـما التقـية بـاللسان.

وقال آخرون: معنى: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} إلا أن يكون بـينك وبـينه قرابة. ذكر من قال ذلك:

٥٥٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {لا يَتّـخَذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياءَ مِنْ دُونِ الـمُوءْمِنِـينَ إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} نهى اللّه الـمؤمنـين أن يوادّوا الكفـار أو يتولوهم دون الـمؤمنـين، وقال اللّه : {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} الرحم من الـمشركين من غير أن يتولوهم فـي دينهم، إلا أن يصل رحما له فـي الـمشركين.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لا يَتّـخِذِ الـمُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِـياء} قال: لا يحلّ لـمؤمن أن يتـخذ كافرا ولـيا فـي دينه،

وقوله: {إِلاّ أن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: أن يكون بـينك وبـينه قرابة، فتصله لذلك.

٥٥٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} قال: صاحبهم فـي الدنـيا معروفـا الرحم وغيره، فأما فـي الدين فلا.

وهذا الذي قاله قتادة تأويـل له وجه، ولـيس بـالوجه الذي يدلّ علـيه ظاهر الاَية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة.

فـالأغلب من معانـي هذا الكلام: إلا أن تـخافوا منهم مخافة. فـالتقـية التـي ذكرها اللّه فـي هذه الاَية إنـما هي تقـية من الكفـار، لا من غيرهم، ووجهه قتادة إلـى أن تأويـله: إلا أن تتقوا اللّه من أجل القرابة التـي بـينكم وبـينهم تقاة، فتصلون رحمها. ولـيس ذلك الغالب علـى معنى الكلام والتأويـل فـي القرآن علـى الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب الـمستعمل فـيهم.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} علـى تقدير فعلة مثل تـخمة وتؤدة وتكأة من اتقـيت، وقرأ ذلك آخرون: (إلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تَقِـيّةً) علـى مثال فعيـلة.

والقراءة التـي هي القراءة عندنا، قراءة من قرأها: {إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} لثبوت حجة ذلك بأنه القراءة الصحيحة، بـالنقل الـمستفـيض الذي يـمتنع منه الـخطأ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ويُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وإلـى اللّه الـمَصِيرُ}.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ويخوّفكم اللّه من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم ومصيركم بعد مـماتكم، ويوم حشركم لـموقـف الـحساب، يعنـي بذلك: متـى صرتـم إلـيه، وقد خالفتـم ما أمركم به، وأتـيتـم ما نهاكم عنه من اتـخاذ الكافرين أولـياء من دون الـمؤمنـين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به،

يقول: فـاتقوه واحذوره أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العذاب.

٢٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد للذين أمرتهم أن لا يتـخذوا الكافرين أولـياء من دون الـمؤمنـين، إن تـخفوا ما فـي صدوركم من موالاة الكفـار فتسرّوه، أو تبدوا ذلكم من أنفسكم بألسنتكم وأفعالكم، فتظهروه يعلـمه اللّه فلا يخفـى علـيه¹

يقول: فلا تضمروا لهم مودّة، ولا تظهروا لهم موالاة، فـينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلـم سركم وعلانـيتكم، فلا يخفـى علـيه شيء منه، وهو مـحصيه علـيكم حتـى يجازيكم علـيه بـالإحسان إحسانا، وبـالسيئة مثلها. كما:

٥٥٠٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: أخبرهم أنه يعلـم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا،

فقال: {إِنْ تُـخْفُوا ما فـي صُدُورِكُمْ أوْ تُبْدُوهُ}.

وأما قوله: {وَيَعْلَـمُ مَا فِـي السّمَوَاتِ وَمَا فِـي الأرْضِ} فإنه يعنـي أنه إذ كان لا يخفـى علـيه شيء هو فـي سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفـى علـيه أيها القوم الذين يتـخذون الكافرين أولـياء من دون الـمؤمنـين، ما فـي صدوركم من الـميـل إلـيهم بـالـمودّة والـمـحبة، أو ما تبدونه لهم بـالـمعونة فعلاً وقولاً.

وأما قوله: {وَاللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإنه يعنـي: واللّه قدير علـى معاجلتكم بـالعقوبة علـى موالاتكم إياهم، ومظاهرتكموهم علـى الـمؤمنـين، وعلـى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذّر علـيه شيء أراده، ولا يـمتنع علـيه شيء طلبه.

٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ويحذّركم اللّه نفسه، فـي يوم تـجد كل نفس ما عملت من خير مـحضرا موفرا، وما عملت من سوء {تودّ لو أنّ بَـيْنَها وبَـيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا}: يعنـي: غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذٍ إلـيه، فـاحذوره علـى أنفسكم من ذنوبكم. وكان قتادة يقول فـي معنى قوله: {مُـحْضَرا} ما:

٥٥٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {يَوْمَ تَـجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُـحْضَرا} يقول موفّرا.

وقد زعم أهل العربـية أن معنى ذلك: واذكر يوم تـجد، وقال: إن ذلك إنـما جاء كذلك، لأن القرآن إنـما نزل للأمر والذكر، كأنه قـيـل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه فـي القرآن فـي غير موضع، واتقوا يوم كذا وحين كذاوأما (ما) التـي مع عملت فبـمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون جزاء لوقوع (تـجد) علـيه.

وأما قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} فإنه معطوف علـى قوله: (ما) الأولـى، و(عملت) صلة بـمعنى الرفع، لـمّا قـيـل (تود). فتأويـل الكلام: يوم تـجد كل نفس الذي عملت من خير مـحضرا، والذي عملت من سوء، تودّ لو أن بـينها وبـينه أمدا. والأمد: الغاية التـي ينتهي إلـيها، ومنه قول الطرماح:

كلّ حَيّ مُسْتَكْمِلٌ عِدّةَ العُمْـ

ـرِ ومُودٍ إذَا انْقَضَى أمَدُهْ

يعنـي: غاية أجله. وقد:

٥٥٠٨ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَـيْنَها وَبَـيْنَهُ أمَدا بَعِيدا} مكانا بعيدا.

٥٥٠٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {أمَدا بَعِيدا} قال: أجلاً.

٥٥١٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَـيْنَهَا وَبَـيْنَهُ أمَدا بَعِيدا} قال: يسرّ أحدهم أن لا يـلقـى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه، وأما فـي الدنـيا فقد كانت خطيئته يستلذّها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ويُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وَاللّه رَءُوفٌ بِـالعِبَـادِ}.

يقول جلّ ثناؤه: ويحذّركم اللّه نفسه أن تسخطوها علـيكم بركوبكم ما يسخطه علـيكم، فتوافونه، يوم تـجد كل نفسه ما عملت من خير مـحضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بـينها وبـينه أمدا بعيدا، وهو علـيكم ساخط، فـينالكم من ألـيـم عقابه ما لا قبل لكم به. ثم أخبر عزّ وجلّ أنه رءوف بعبـاده رحيـم بهم، ومن رأفته بهم تـحذيره إياهم نفسه، وتـخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه. كما:

٥٥١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيـينة، عن عمرو بن الـحسن فـي قوله: {وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ وَاللّه رَءُوفٌ بِـالعِبـادِ} قال: من رأفته بهم أن حذّرهم نفسه.

٣١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّه فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ }

اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي أنزلت هذه الاَية فـيه،

فقال بعضهم: أنزلت فـي قوم قالوا علـى عهد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: إنا نـحبّ ربنا، فأمر اللّه جلّ وعزّ نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم: (إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ فِـيـما تَقُولُونَ فـاتّبِعُونِـي، فَـإِنّ ذَلِكَ عَلامَةُ صِدْقِكُمْ فِـيـما قُلْتُـمْ مِنْ ذَلِكَ). ذكر من قال ذلك:

٥٥١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه ، عن بكر بن الأسود، قال: سمعت الـحسن

يقول: قال قوم علـى عهد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد إنا نـحبّ ربنا! فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه فَـاتّبِعُونِـي يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فجعل اتبـاع نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـما لـحبه، وعذاب من خالفه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا علـيّ بن الهيثم، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن أبـي عبـيدة، قال: سمعت الـحسن،

يقول: قال أقوام علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد إنا لنـحبّ ربنا! فأنزل اللّه جلّ وعزّ بذلك قرآنا: {قُلْ إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه فَـاتّبِعُونِـي يُحْبِبْكُمْ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فجعل اللّه اتبـاع نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـما لـحبه، وعذاب من خالفه.

٥٥١٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه فـاتّبِعُونِـي يُحْبِبْكُمُ اللّه } قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون اللّه ، يقولون: إنا نـحبّ ربنا، فأمرهم اللّه أن يتبعوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، وجعل اتبـاع مـحمد علـما لـحبه.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه }.. الاَية، قال: إن أقواما كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون اللّه ، فأراد اللّه أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل،

فقال: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه }.. الاَية. كان اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم تصديقا لقولهم.

وقال آخرون: بل هذا أمر من اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لوفد نـجران الذين قدموا علـيه من النصارى: إن كان الذي يقولونه فـي عيسى من عظيـم القول إنـما يقولونه تعظيـما لله وحبـا له، فـاتبعوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٥٥١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير. {قُلْ إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه } أي إن كان هذا من قولكم ـ يعنـي فـي عيسى ـ حبـا لله وتعظيـما له {فَـاتّبِعُونِـي يُحبِبْكُمُ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي ما مضى من كفركم {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ}.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الاَية، قول مـحمد بن جعفر بن الزبـير، لأنه لـم يجز لغير وفد نـجران فـي هذه السورة، ولا قبل هذه الاَية ذكر قوم ادّعوا أنهم يحبون اللّه ، ولا أنهم يعظمونه، فـيكون قوله: {إِنْ كُنْتُـمْ تُـحِبّونَ اللّه فَـاتّبِعُونِـي} جوابـا لقولهم علـى ما قاله الـحسن.

وأما ما روى الـحسن فـي ذلك مـما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فـيجوز أن يقال: إن ذلك كذلك، وإن لـم يكن فـي السورة دلالة علـى أنه كما قال إلا أن يكون الـحسن أراد بـالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نـجران من النصارى، فـيكون ذلك من قوله نظير إخبـارنا، فإذا لـم يكن بذلك خبر علـى ما قلنا، ولا فـي الاَية دلـيـل علـى ما وصفنا، فأولـى الأمور بنا أن نلـحق تأويـله بـالذي علـيه الدلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا، لأن ما قبل هذه الاَية من مبتدإ هذه السورة وما بعدها خبر عنهم، واحتـجاج من اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ودلـيـل علـى بطول قولهم فـي الـمسيح، فـالواجب أن تكون هي أيضا مصروفة الـمعنى إلـى نـحو ما قبلها، ومعنى ما بعدها.

فإذ كان الأمر علـى ما وصفنا،

فتأويـل الاَية: قل يا مـحمد للوفد من نصارى نـجران: إن كنتـم تزعمون أنك تـحبون اللّه ، وأنكم تعظمون الـمسيح وتقولون فـيه ما تقولون، حبـا منكم ربكم، فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتـم صادقـين بـاتبـاعكم إياي، فإنكم تعلـمون أنـي لله رسول إلـيكم، كما كان عيسى رسولاً إلـى من أرسل إلـيه، فإنه إن اتبعتـمونـي وصدقتـمونـي علـى ما أتـيتكم به من عند اللّه ، يغفر لكم ذنوبكم، فـيصفح لكم عن العقوبة علـيها ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عبـاده الـمؤمنـين رحيـم بهم وبغيرهم من خـلقه.

٣٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّه وَالرّسُولَ فإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّه لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ }

يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهؤلاء الوفد من نصارى نـجران: اطيعوا اللّه والرسول مـحمدا، فإنكم قد علـمتـم يقـينا أنه رسولـي إلـى خـلقـي ابتعثته بـالـحق تـجدونه مكتوبـا عندكم فـي الإنـجيـل، {فإنْ تَوَلّوْا} فـاستدبروا عما دعوتهم إلـيه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلـمهم أن اللّه لا يحب من كفر بجحد ما عرف من الـحق، وأنكره بعد علـمه، وأنهم منهم بجحودهم نبوّتك وإنكارهم الـحقّ الذي أنت علـيه بعد علـمهم بصحة أمرك وحقـيقة نبوّتك. كما:

٥٥١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {قُلْ أطِيعُوا اللّه وَالرّسُولَ} فأنتـم تعرفونه ـ يعنـي الوفد من نصارى نـجران ـ وتـجدونه فـي كتابكم. {فَـإِنْ تَوَلّوْا} علـى كفرهم، {فـإِنّ اللّه لا يحِبّ الْكَافِرِينَ}.

٣٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ اللّه اصْطَفَىَ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }

يعنـي بذلك جل ثناؤه: إن اللّه اجتبى آدم ونوحا، واختارهما لدينهما، {وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وآلَ عِمْرَانَ} لدينهم الذي كانوا علـيه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبر اللّه عزّ وجلّ أنه اختار دين من ذكرنا علـى سائر الأديان التـي خالفته. وإنـما عنى بآل إبراهيـم وآل عمران الـمؤمنـين.

وقد دللنا علـى أن آل الرجل أتبـاعه وقومه ومن هو علـى دينه. وبـالذي قلنا فـي ذلك روي القول عن ابن عبـاس أنه كان يقوله.

٥٥١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {إِنّ اللّه اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وَآلَ عِمْرَانَ علـى العَالَـمِينَ} قال: هم الـمؤمنون من آل إبراهيـم وآل عمران وآل ياسين وآل مـحمد، يقول اللّه عزّ وجلّ: {إِنّ أوْلـى النّاسِ بِـإِبْرَاهِيـمَ للّذِينَ اتّبَعُوهُ} وهم الـمؤمنون.

٥٥١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {إِنّ اللّه اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وَآلَ عِمْرَانَ علـى العَالَـمِينَ} رجلان نبـيان اصطفـاهما اللّه علـى العالـمين.

٥٥١٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إِنّ اللّه اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ وَآلَ عِمْرَانَ علـى العَالَـمِينَ} قال: ذكر اللّه أهل بـيتـين صالـحين ورجلـين صالـحين ففضلهم علـى العالـمين، فكان مـحمد من آل إبراهيـم.

٥٥١٩ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {إِنّ اللّه اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا وآلَ إِبْرَاهِيـمَ} إلـى قوله: {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ} قال: فضلهم اللّه علـى العالـمين بـالنبوة علـى الناس كلهم كانوا هم الأنبـياء الأتقـياء الـمطيعين لربهم.

٣٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

يعنـي بذلك: أن اللّه اصطفـى آل إبراهيـم وآل عمران {ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} فـالذرّية منصوبة علـى القطع من آل إبراهيـم وآل عمران: لأن (الذرّية) نكرة، و(آل عمران) معرفة، ولو قـيـل نصبت علـى تكرير الاصطفـاء لكان صوابـا، لأن الـمعنى: اصطفـى ذرّية بعضها من بعض. وإنـما جعل (بعضهم من بعض) فـي الـموالاة فـي الدين والـموازرة علـى الإسلام والـحق، كما قال جلّ ثناؤه: {وَالـمُوءْمِنُونَ وَالـمُوءْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِـياءُ بَعْضٍ} وقال فـي موضع آخر: {الـمُنَافِقُونَ وَالـمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} يعنـي أن دينهم واحد وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: {ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} إنـما معناه: ذرّية دين بعضها دين بعض، وكلـمتهم واحدة، وملتهم واحدة فـي توحيد اللّه وطاعته. كما:

٥٥٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {ذُرّيّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ}

يقول: فـي النـية والعمل والإخلاص والتوحيد له.

وقوله: {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي بذلك: واللّه ذو سمع لقول امرأة عمران، وذو علـم بـما تضمره فـي نفسها، إذ نذرت له ما فـي بطنها مـحرّرا.

٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّـي} فـ(إذْ) من صلة (سميع)وأما امرأة عمران. فهي أمّ مريـم ابنة عمران أم عيسى ابن مريـم صلوات اللّه علـيه، وكان اسمها فـيـما ذكر لنا حنة ابنة فـاقوذ بن قتـيـل. كذلك:

٥٥٢١ـ حدثنا به مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـي نسبه

وقال غير ابن حميد: ابنة فـاقود ـ بـالدال ـ ابن قتـيـل.

فأما زوجها فإنه عمران بن ياشهم بن آمنون بن منشا بن حزقـيا بن أحريق بن يويـم بن عزاريا بن أمصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفـاشاط بن اشابرابـان بن رحبعم بن سلـيـمان بن داود بن إيشا. كذلك:

٥٥٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، فـي نسبه.

وأما قوله: {رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطنِـي مُـحَرّرا} فإن معناه: إنـي جعلت لك يا ربّ نذرا أن لك الذي فـي بطنـي مـحرّرا لعبـادتك، يعنـي بذلك: حبسته علـى خدمتك وخدمة قدسك فـي الكنـيسة، عتـيقة من خدمة كل شيء سواك، مفرغة لك خاصة. ونصب (مـحرّرا) علـى الـحال من (ما) التـي بـمعنى (الذي). {فَتَقَبّلْ مِنّـي} أي فتقبل منـي ما نذرت لك يا ربّ. {إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العّلِـيـمُ} يعنـي: إنك أنت يا ربّ السميع لـما أقول وأدعو، العلـيـم لـما أنوي فـي نفسي وأريد، لا يخفـى علـيك سرّ أمري وعلانـيته. وكان سبب نذر حنة ابنة فـاقوذ امرأة عمران الذي ذكره اللّه فـي هذه الاَية فـيـما بلغنا، ما:

٥٥٢٣ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: تزوّج زكريا وعمران أختـين، فكانت أمّ يحيـى عند زكريا، وكانت أمّ مريـم عند عمران، فهلك عمران وأمّ مريـم حامل بـمريـم، فهي جنـين فـي بطنها

قال: وكانت فـيـما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتـى أسنّت، وكانوا أهل بـيت من اللّه جل ثناؤه بـمكان. فبـينا هي فـي ظلّ شجرة نظرت إلـى طائر يطعم فرخا له، فتـحرّكت نفسها للولد، فدعت اللّه أن يهب لها ولدا، فحملت بـمريـم وهلك عمران. فلـما عرفت أن فـي بطنها جنـينا، جعلته لله نذيرة¹ والنذيرة أن تعبّده لله، فتـجعله حبسا فـي الكنـيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنـيا.

٥٥٢٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير، قال: ثم ذكر امرأة عمران، وقولها: {رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} أي نذرته، تقول: جعلتُه عتـيقا لعبـادة اللّه لا ينتفع به بشيء من أمور الدنـيا. {فَتَقَبّلْ مِنّـي إنكَ أنتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ}.

٥٥٢٥ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطّفـاوي، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة، قال: حدثنا النضر بن عربـي، عن مـجاهد فـي قوله: {مُـحَرّرا} قال: خادما للبِـيعة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربـي، عن مـجاهد، قال: خادما للكنـيسة.

٥٥٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيـل، عن الشعبـي فـي قوله: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: فرّغته للعبـادة.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي فـي قوله: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: جعلته فـي الكنـيسة، وفرّغته للعبـادة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن إسماعيـل، عن الشعبـي، نـحوه.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: للكنـيسة يخدمها.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٥٢٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن خصيف، عن مـجاهد: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنـيا.

٥٥٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: للبـيعة والكنـيسة.

٥٥٢٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: مـحرّرا للعبـادة.

٥٥٣٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {إذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا}.. الاَية. كانت امرأة عمران حرّرت لله ما فـي بطنها، وكانوا إنـما يحررون الذكور، وكان الـمـحرر إذا حرّر جعل فـي الكنـيسة لا يبرحها، يقوم علـيها ويكنسها.

٥٥٣١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إِنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: نذرت ولدها للكنـيسة.

٥٥٣٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {إذْ قَالَتِ امْرأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا فَتَقَبّلْ مِنّـي إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِـيـمُ} قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما فـي بطنها غلام، فوهبته لله لا يعمل فـي الدنـيا.

٥٥٣٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما فـي بطنها

قال: وكانوا إنـما يحرّرون الذكور، فكان الـمـحرّر إذا حرر جعل فـي الكنـيسة لا يبرحها، يقوم علـيها ويكنسها.

٥٥٣٤ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {إنّـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} قال: جعلت ولدها لله وللذين يدرسون الكتاب ويتعلـمونه.

٥٥٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبـي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبـي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانت عجوزا عاقرا تسمى حنة، وكانت لا تلد. فجعلت تغبط النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إن علـي نذرا شكرا إن رزقتنـي ولدا أن أتصدّق به علـى بـيت الـمقدس، فـيكون من سَدَنته وخدامه

قال:

وقوله: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} إنها للـحرّة ابنة الـحرائر مـحرّرا للكنـيسة يخدمها.

٥٥٣٦ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ}.. الاَية كلها، قال: نذرت ما فـي بطنها ثم سَيّبَتْها.

٣٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىَ ...}

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فَلَـمّا وَضَعَتْها} فلـما وضعت حنة النذيرة، ولذلك أنث. ولو كانت الهاء عائدة علـى (ما) التـي فـي قوله: {إنـي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا} لكان الكلام: فلـما وضعته قالت: ربّ إنـي وضعته أنثى. ومعنى قوله: {وَضَعْتُها} ولدتها، يقال منه: وضعت الـمرأة تضع وضعا. {قَالَتْ رَب إنـي وَضَعْتُها أُنْثَى} أي ولدت النذيرة أنثى¹ {وَاللّه أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ}.

واختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة القراء: {وَضَعَتْ} خبرا من اللّه عزّ وجلّ عن نفسه أنه العالـم بـما وضعت من غير قـيـلها: {رَبّ إنـي وَضَعْتُها أُنْثَى}. وقرأ ذلك بعض الـمتقدمين: (وَاللّه أعْلَـمُ بِـمَا وَضَعْتُ) علـى وجه الـخبر بذلك عن أمّ مريـم أنها هي القائلة، واللّه أعلـم بـما ولدتُ منـي.

وأولـى القراءتـين بـالصواب ما نقلته الـحجة مستفـيضة فـيها قراءته بـينها لا يتدافعون صحتها، وذلك قراءة من قرأ: {وَاللّه أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ} ولا يعترض بـالشاذ عنها علـيها.

فتأويـل الكلام إذا: واللّه أعلـم من كل خـلقه بـما وضعت. ثم رجع جلّ ذكره إلـى الـخبر عن قولها، وأنها قالت اعتذارا إلـى ربها مـما كانت نذرت فـي حملها فحرّرته لـخدمة ربها: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} لأن الذكر أقوى علـى الـخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلـح فـي بعض الأحوال لدخول القدْس والقـيام بخدمة الكنـيسة لـما يعتريها من الـحيض والنفـاس {وإنـي سَمّيْتُها مَرْيَـم}. كما:

٥٥٣٧ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَلَـمّا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبّ إنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى وَاللّه أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} أي لـما جعلتها له مـحرّرة نذيرة.

٥٥٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} لأن الذكر هو أقوى علـى ذلك من الأنثى.

٥٥٣٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} كانت الـمرأة لا تستطيع أن يصنع بها ذلك، يعنـي أن تـحرّر للكنـيسة فتـجعل فـيها تقوم علـيها وتكنسها فلا تبرحها مـما يصيبها من الـحيض والأذى، فعند ذلك قالت: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى}.

٥٥٤٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {قالتْ رَبّ إنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى} وإنـما كانوا يحررون الغلـمان، قال: {وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى وَإِنْـي سَمّيْتُها مَرْيَـم}.

٥٥٤١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: كانت امرأة عمران حررت لله ما فـي بطنها، وكانت علـى رجاء أن يهب لها غلاما، لأن الـمرأة لا تستطيع ذلك ـ يعنـي القـيام علـى الكنـيسة لا تبرحها وتكنسها ـ لـما يصيبها من الأذى.

٥٥٤٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنت أن ما فـي بطنها غلام، فوهبته لله، فلـما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلـى اللّه : {رَبّ إنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى... وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} تقول: إنـما يحرّر الغلـمان. يقول اللّه : {وَاللّه أَعْلَـمُ بِـمَا وَضَعَتْ}، فقالت: {إِنّـي سَمَيْتُهَا مَرْيَـم}.

٥٥٤٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبـي بزة، أنه أخبره عن عكرمة، وأبـي بكر عن عكرمة: {فَلَـمّا وَضَعَتْها قَالَتْ رَبّ إِنّـي وَضَعْتُها أُنْثَى... وَلَـيْسَ الذّكَرُ كالأُنْثَى} يعنـي فـي الـمـحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال¹ أمها تقول ذلك.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّـي أُعِيذُها بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ}.

تعنـي بقولها: {وَإِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَها} وإنـي أجعل معاذها ومعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيـم بك. وأصل الـمعاذ: الـموئل والـملـجأ والـمعقل. فـاستـجاب اللّه لها فأعاذها اللّه وذرّيتها من الشيطان الرجيـم، فلـم يجعل له علـيها سبـيلاً.

٥٥٤٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة بن سلـيـمان، عن مـحمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَا مِنْ نَفْسِ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ وَالشّيْطَانُ يَنَالُ مِنْهُ تِلْكَ الطّعْنَةَ، وَبِهَا يَسْتَهِلّ الصّبِـيّ¹ إِلاّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَـمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ فَـإِنّها لَـمّا وَضَعَتْها قَالَتْ: {رَبّ إِنّـي أُعِيذُها وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} فَضُرِبَ دُونَها حِجابٌ، فَطَعَنَ فِـيهِ).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كُلّ مَوْلُودٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشّيْطَانِ، وَبِها يَسْتَهِلّ الصّبِـيّ¹ إِلاّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَـمَ ابْنَةِ عِمْرَانَ وَوَلَدِها، فَـإِنّ أُمّها قَالَتْ حِينَ وَضَعَتْه: {إِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُريّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} فَضُرِبَ دُونَهُما حِجابٌ فَطَعَنَ فِـي الـحِجابِ).

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبـي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بنـحوه.

٥٥٤٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزبـير، عن سعيد بن الـمسيب، قال: سمعت أبـا هريرة

يقول: سمعت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (ما مِنْ بَنِـي آدَمَ مَوْلُودٌ يُولَدُ إِلاّ قَدْ مَسّهُ الشّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَـيَسْتَهِلّ صَارِخا بِـمَسّهِ إيّاهُ¹ غَيْرَ مَرْيَـمَ وَابْنِها). فقال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم: {إِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ}.

٥٥٤٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن أبـي ذئب عن عجلان مولـى الـمشمعلّ، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مِنْ بَنِـي آدَمَ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ بـأُصْبُعِهِ، إِلاّ مَرْيَـمَ وَابْنَهَا).

حدثنـي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنـي عمي عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث أن أبـا يونس سلـيـمان مولـى أبـي هريرة، حدثه عن أبـي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (كُلّ بَنِـي آدَمَ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدتْهُ أُمّهُ، إِلاّ مَرْيَـمَ وَابْنَها).

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمران أن أبـا يونس حدثه، عن أبـي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن الـمسيب، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ فَـيَسْتَهِلّ صَارِخا مِنْ مَسّةِ الشّيْطَانِ إِلاّ مَرْيَـمَ وَابْنَها) ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتـم: {وَإِنّـي أُعِيذُها بِكَ وَذُريّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرجِيـمِ}.

٥٥٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا قـيس، عن الأعمش، عن أبـي صالـح، عن أبـي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ وَقَدْ عَصَرَهُ الشّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَـيْنِ¹ إِلاّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ وَمَرْيَـمَ). ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {إِنّـي أُعِيذُها بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ}.

٥٥٤٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة، عن عمرو بن أبـي قـيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير الـمسيح ابن مريـم لـم يسلط علـيه الشيطان ولـم يَنْهَزْه.

٥٥٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الـمنذر بن النعمان الأفطس، أنه سمع وهب بن منبه

يقول: لـما ولد عيسى، أتت الشياطين إبلـيس،

فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رءوسها،

فقال: هذا فـي حادث حدث! وقال: مكانكم! فطار حتـى جاء خافقـي الأرض، فلـم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلـم يجد شيئا، ثم طار أيضا فوجد عيسى قد ولد عند مذود حمار، وإذا الـملائكة قد حفت حوله¹ فرجع إلـيهم فقال: إن نبـيا قد ولد البـارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها إلا هذه! فـأْيِسُوا أن تعبد الأصنام بعد هذه اللـيـلة، ولكن ائتوا بنـي آدم من قبل الـخفة والعجلة.

٥٥٥٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} وذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (كُلّ بَنِـي آدَمَ طَعَنَ الشّيْطَانُ فِـي جَنْبِهِ إِلاّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ وَأُمّهُ، جُعِلَ بَـيْنَهُما وَبَـيْنَهُ حجابٌ، فأصَابَتِ الطّعْنَةُ الـحِجابَ وَلَـمْ يَنْفُذْ إِلَـيْهِمَا شَيْءً) وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبـان الذنوب كما يصيبها سائر بنـي آدم. وذكر لنا أن عيسى كان يـمشي علـى البحر كما يـمشي علـى البرّ مـما أعطاه اللّه تعالـى من الـيقـين والإخلاص.

٥٥٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَإِنّـي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَها مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيـمِ} قال: إن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (كُلّ آدَمِيّ طَعَنَ الشّيْطَانُ فِـي جَنْبِهِ غَيْرَ عِيسَى وأُمّهِ، كانا لا يُصِيبـانِ الذّنُوبَ كَما يُصَيبُها بَنُو آدَمَ)

قال: وقال عيسى صلى اللّه عليه وسلم فـيـما يثنـي علـى ربه: (وأعاذنـي وأمي من الشيطان الرجيـم فلـم يكن له علـينا سبـيـل).

٥٥٥٢ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا شعيب بن اللـيث، قال: حدثنا اللـيث، عن جعفر بن ربـيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كُلّ بَنِـي آدَمَ يَطْعُنُ الشّيْطَانُ فِـي جَنْبِهِ حِينَ تَلِدُهُ أُمّهُ، إِلاّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِـي الـحِجابِ).

٥٥٥٣ـ حدثنا الربـيع، قال: حدثنا شعيب، قال: أخبرنا اللـيث، عن جعفر بن ربـيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيت هذه الصرخة التـي يصرخها الصبـيّ حين تلده أمه؟ فإنها منها.

٥٥٥٤ـ حدثنـي أحمد بن الفرج، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، قال: حدثنا الزبـيدي، عن الزهري، عن أبـي سلـمة، عن أبـي هريرة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما مِنْ بَنِـي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلاّ يَـمَسّهُ الشّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ يَسْتَهِلّ صَارِخا).

٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ... }

يعنـي بذلك جل ثناؤه: تقبل مريـم من أمها حنة بتـحريرها إياها للكنـيسة وخدمتها، وخدمة ربها بقبول حسن، والقبول: مصدر من قبلها ربها. فأخرج الـمصدر علـى غير لفظ الفعل، ولو كان علـى لفظه لكان: فتقبلها ربها تقبلاً حسنا، وقد تفعل العرب ذلك كثـيرا أن يأتوا بـالـمصادر علـى أصول الأفعال وإن اختلفت ألفـاظها فـي الأفعال بـالزيادة، وذلك كقولهم: تكلـم فلان كلاما، ولو أخرج الـمصدر علـى الفعل لقـيـل: تكلـم فلان تكلـما، ومنه قوله: {وأنْبَتَها نَبـاتا حَسَنا} ولـم يقل: إنبـاتا حسنا. وذكر عن أبـي عمرو بن العلاء أنه قال: لـم نسمع العرب تضمّ القاف فـي قبول، وكان القـياس الضمّ لأنه مصدر مثل الدخول والـخروج، قال: ولـم أسمع بحرف آخر فـي كلام العرب يشبهه.

٥٥٥٥ـ حدثت بذلك عن أبـي عبـيد، قال: أخبرنـي الـيزيدي عن أبـي عمرو.

وأما قوله: {وأنْبَتَها نَبـاتا حَسَنا} فإن معناه: وأنبتها ربها فـي غذائه ورزقه نبـاتا حسنا حتـى تـمت فكملت امرأة بـالغة تامة. كما:

٥٥٥٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال اللّه عزّ وجلّ: {فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبولٍ حَسَنٍ} قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنـيسة وآجرها فـيها {وَأَنْبَتَهَا}، قال: نبتت فـي غذاء اللّه .

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا}.

اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {وَكَفّلَهَا}، فقرأته عامة قراء أهل الـحجاز والـمدينة والبصرة: (وكَفَلَها) مخففة الفـاء بـمعنى: ضمها زكريا إلـيه، اعتبـارا بقول اللّه عزّ وجلّ: {يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـم}. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين: {وَكَفّلَها زَكَرِيّا} بـمعنى: وكفّلها اللّه زكريا.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: {وكَفّلَها} مشددة الفـاء بـمعنى: وكفّلها اللّه زكريا، بـمعنى: وضمها اللّه إلـيه¹ لأن زكريا أيضا ضمها إلـيها بإيجاب اللّه له ضمها إلـيه بـالقرعة التـي أخرجها اللّه له، والاَية التـي أظهرها لـخصومه فـيها، فجعله بها أولـى منهم، إذ قرع فـيها من شاحّه فـيها. وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومه فـي مريـم إذ تنازعوا فـيها أيهم تكون عنده، تساهموا بقداحهم فرموا بها فـي نهر الأدرن، فقال بعض أهل العلـم: رتَب قِدْحُ زكريا، فقام فلـم يجر به الـماء وجرى بقداح الاَخرين الـماء، فجعل اللّه ذلك لزكريا أنه أحقّ الـمتنازعين فـيها.

وقال آخرون: بل صعد قدح زكريا فـي النهر، وانـحدرت قداح الاَخرين مع جرية الـماء وذهبت، فكان ذلك له علـما من اللّه فـي أنه أولـى القوم بها. وأيّ الأمرين كان من ذلك فلا شكّ أن ذلك كان قضاء من اللّه بها لزكريا علـى خصومه بأنه أولاهم بها، وإذا كان ذلك كذلك، فإنـما ضمها زكريا إلـى نفسه بضم اللّه إياها إلـيه بقضائه له بها علـى خصومه عند تشاحهم فـيها واختصامهم فـي أولاهم بها.

وإذا كان ذلك كذلك كان بـيّنا أن أولـى القراءتـين بـالصواب ما اخترنا من تشديد (كفلّها)وأما ما اعتلّ به القارئون ذلك بتـخفـيف الفـاء من قول اللّه : {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـم} وأن موجب صحة اختـيارهم التـخفـيف فـي قوله: {وَكَفّلَهَا} فحجة دالة علـى ضعف احتـيال الـمـحتـجّ بها. وذلك أنه غير مـمتنع ذو عقل من أن يقول قائل: كفل فلان فلانا فكفله فلان، فكذلك القول فـي ذلك: ألقـى القوم أقلامهم أيهم يكفل مريـم، بتكفـيـل اللّه إياه بقضائه الذي يقضي بـينهم فـيها عند إلقائهم الأقلام.

وكذلك اختلفت القراء فـي قراءة (زكريا)، فقرأته عامة قراء الـمدينة بـالـمدّ، وقرأته عامة قراء الكوفة بـالقصر. وهما لغتان معروفتان وقراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الـمسلـمين، ولـيس فـي القراءة بإحداهما خلاف لـمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب.

غير أن الصواب عندنا إذا مدّ (زكريا)، أن ينصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجْرَى، ولأن قراءتنا فـي (كفّلها) بـالتشديد وتثقـيـل الفـاء، فزكرياء منصوب بـالفعل الواقع علـيه. وفـي زكريا لغة ثالثة لا تـجوز القراءة بها لـخلافها مصاحف الـمسلـمين وهو (زكريّ) بحذف الـمدّة والـياء الساكنة، تشبهه العرب بـالـمنسوب من الأسماء فتنوّنه، وتـجريه فـي أنواع الإعراب مـجاري ياء النسبة.

فتأويـل الكلام: وضمها اللّه إلـى زكريا، من قول الشاعر:

فَـهُـوَ لِـضُـلاّلِ الـهَـوَامِ كافِـلُ

يراد أنه لـما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامّ إلـى نفسه وجامعٌ. وقد رُوي:

فَـهُـوَ لِـضُـلاّلِ الـهَـوَافِـي كافِـلُ

بـمعنى أنه لـما ندّ فهرب من النعم ضامّ، من قولهم: هفـا الظلـيـم: إذا أسرع الطيران، يقال منه للرجل: ما لك تكفل كل ضالة؟ يعنـي به: تضمها إلـيك وتأخذها.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٥٥٧ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطفـاوي، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة، عن النضر بن عربـي، عن عكرمة فـي قوله: {إِذْ يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ} قال: ألقوا أقلامهم فجرت بها الـجِرْيَة إلا قلـم زكريا صاعدا، فكفلها زكريا.

٥٥٥٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {وكَفّلَهَا زَكَرِيّا} قال: ضمها إلـيه

قال: ألقوا أقلامهم، يقول عصيهم

قال: فألقوها تلقاء جرية الـماء، فـاستقبلت عصا زكريا جرية الـماء فقرعهم.

٥٥٥٩ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال اللّه عزّ وجلّ: {فَتَقَبَلّهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَبـاتا حَسَنا} فـانطلقت بها أمها فـي خِرَقها ـ يعنـي أمّ مريـم ـ بـمريـم حين ولدتها إلـى الـمـحراب ـ .

وقال بعضهم: انطلقت حين بلغت إلـى الـمـحراب ـ وكان الذين يكتبون التوراة إذا جاءوا إلـيهم بإنسان يجربونه اقترعوا علـيه أيهم يأخذه فـيعلـمه، وكان زكريا أفضلهم يومئذٍ وكان بـينهم، وكانت خالة مريـم تـحته. فلـما أتوا بها اقترعوا علـيها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها تـحتـي خالتها، فأبوا. فخرجوا إلـى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التـي يكتبون بها، أيهم يقوم قلـمه فـيكفلها. فجرت الأقلام وقام قلـم زكريا علـى قُرْنَته كأنه فـي طين، فأخذ الـجارية¹ وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {وَكَفَلَهَا زَكَرِيّا} فجعلها زكريا معه فـي بـيته، وهو الـمـحراب.

٥٥٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا}

يقول: ضمها إلـيه.

٥٥٦١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا} قال: سهمهم بقلـمه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه.

٥٥٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: كانت مريـم ابنة سيدهم وإمامهم

قال: فتشاحّ علـيها أحبـارهم، فـاقترعوا فـيها بسهامهم أيهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوج أختها فكفلها، وكانت عنده وحضنها.

٥٥٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبـي بزة أنه أخبره، عن عكرمة، وأبـي بكر عن عكرمة، قال: ثم خرجتْ بها ـ يعنـي أمّ مريـم بـمريـم ـ فـي خِرَقها تـحملها إلـى بتـي الكاهن بن هارون أخي موسى بن عمران، قال: وهم يومئذٍ يـلون من بـيت الـمقدس ما يـلـي الـحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإنـي حررتها وهي ابنتـي، ولا يدخـل الكنـيسة حائض، وأنا لا أردّها إلـى بـيتـي!

فقالوا: هذه ابنة إمامنا ـ وكان عمران يؤمهم فـي الصلاة ـ وصاحب قربـانهم. فقال زكريا: ادفعوها إلـيّ فإن خالتها عندي!

قالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا. فذلك حين اقترعوا فـاقترعوا بأقلامهم علـيها، بـالأقلام التـي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها.

٥٥٦٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: جعلها زكريا معه فـي مـحرابه، قال اللّه عزّ وجلّ: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا}. قال حجاج: قال ابن جريج: الكاهن فـي كلامهم: العالـم.

٥٥٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا} بعد أبـيها وأمها، يذكرها بـالـيتـم. ثم قصّ خبرها وخبر زكريا.

٥٥٦٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير قوله: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا} قال: كانت عنده.

حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير قوله: {وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا} قال: جعلها زكريا معه فـي مـحرابه.

٥٥٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {فَتَقَبَلّهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَهَا نَبـاتا حَسَنا} وتقارعها القوم، فقرع زكريا، فكفلها زكريا.

وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حنة ابنتها مريـم كفلها بغير اقتراعٍ ولا استهامٍ علـيها ولا منازعة أحد إياه فـيها. وإنـما كفلها لأن أمها ماتت بعد موت أبـيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها إيشاع ابنة فـاقوذ¹ وقد

قـيـل: إن اسم أم يحيـى خالة عيسى: أشيع.

٥٥٦٨ـ حدثنا بذلك القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي وهب بن سلـيـمان، عن شعيب الـجبئي أن اسم أمّ يحيـى: أشيع.

فضمها إلـى خالتها أمّ يحيـى، فكانت إلـيهم ومعهم، حتـى إذا بلغت أدخـلوها الكنـيسة لنذر أمها التـي نذرت فـيها.

قالوا: والاقتراع فـيها بـالأقلام، إنـما كان بعد ذلك بـمدة طويـلة لشدة إصابتهم ضعف زكريا عن حمل مؤنتها، فتدافعوا حمل مؤنتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسا علـيها وعلـى احتـمال مؤنتها. وسنذكر قصتها علـى قول من قال ذلك إذا بلغنا إلـيها إن شاء اللّه تعالـى.

٥٥٦٩ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق.

فعلـى هذا التأويـل تصحّ قراءة من قرأ: (وَكَفَلَها زَكَرِيّا) بتـخفـيف الفـاء لو صحّ التأويـل. غير أن القول متظاهر من أهل التأويـل بـالقول الأول إن استهام القوم فـيها كان قبل كفـالة زكريا إياها، وأن زكريا إنـما كفلها بإخراج سهمه منها فـالـجا علـى سهام خصومه فـيها، فلذلك كانت قراءته بـالتشديد عندنا أولـى من قراءته بـالتـخفـيف.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُلّـمَا دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أن زكريا كان كلـما دخـل علـيها الـمـحراب بعد إدخاله إياها الـمـحراب، وجد عندها رزقا من اللّه لغذائها. فقـيـل: إن ذلك الرزق الذي كان يجده زكريا عندها فـاكهة الشتاء فـي الصيف، وفـاكهة الصيف فـي الشتاء. ذكر من قال ذلك:

٥٥٧٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا} قال: وجد عندها عنبـا فـي مِكْتَلٍ فـي غير حينه.

٥٥٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد فـي قوله: {كُلّـمَا دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا} قال: العنب فـي غير حينه.

٥٥٧٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا} قال: فـاكهة فـي غير حينها.

٥٥٧٣ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو إسحاق الكوفـي، عن الضحاك : أنه كان يجد عندها فـاكهة الصيف فـي الشتاء وفـاكهة الشتاء فـي الصيف، يعنـي فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا}.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك ، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو، قال: أخبرنا هشيـم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك ، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: أخبرنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله.

٥٥٧٤ـ حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا من سمع الـحكم بن عتـيبة يحدّث، عن مـجاهد، قال: كان يجد عندها العنب فـي غير حينه.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا} قال: عنبـا وجده زكريا عند مريـم فـي غير زمانه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه.

٥٥٧٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا النضر بن عربـي، عن مـجاهد فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا} قال: فـاكهة الصيف فـي الشتاء، وفـاكهة الشتاء فـي الصيف.

٥٥٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {كُلّـما دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا} قال: كنا نـحدّث أنها كانت تؤتـى بفـاكهة الشتاء فـي الصيف، وفـاكهة الصيف فـي الشتاء.

٥٥٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا} قال: وجد عندها ثمرة فـي غير زمانها.

٥٥٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: جعل زكريا دونها علـيها سبعة أبواب، فكان يدخـلها علـيها، فـيجد عندها فـاكهة الشتاء فـي الصيف، وفـاكهة الصيف فـي الشتاء.

٥٥٧٩ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: جعلها زكريا معه فـي بـيت وهو الـمـحراب، فكان يدخـل علـيها فـي الشتاء، فـيجد عندها فـاكهة الصيف، ويدخـل فـي الصيف فـيجد عندها فـاكهة الشتاء.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا} قال: كان يجد عندها فـاكهة الصيف فـي الشتاء.

٥٥٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {كُلّـما دَخَـلَ عَلَـيْهَا زَكَرِيّا الـمِـحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقا} قال: وجد عندها ثمار الـجنة، فـاكهة الصيف فـي الشتاء وفـاكهة الشتاء فـي الصيف.

٥٥٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي بعض أهل العلـم: أن زكريا كان يجد عندها ثمرة الشتاء فـي الصيف، وثمرة الصيف فـي الشتاء.

٥٥٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن، قال: كان زكريا إذا دخـل علـيها ـ يعنـي علـى مريـم ـ الـمـحراب وجد عندها رزقا من السماء من اللّه ، لـيس من عند الناس.

وقالوا: لو أن زكريا كان يعلـم أن ذلك الرزق من عنده لـم يسألها عنه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخـل إلـيها الـمـحراب وجد عندها من الرزق فضلاً عما كان يأتـيها به الذي كان يـمونها فـي تلك الأيام. ذكر من قال ذلك:

٥٥٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: كفلها بعد هلاك أمها، فضمها إلـى خالتها أم يحيـى، حتـى إذا بلغت، أدخولها الكنـيسة لنذر أمها الذي نذرت فـيها، فجعلت تنبت وتزيد، قال: ثم أصابت بنـي إسرائيـل أزمة، وهي علـى ذلك من حالها حتـى ضعف زكريا عن حملها، فخرج علـى بنـي إسرائيـل،

فقال: يا بنـي إسرائيـل أتعلـمون، واللّه لقد ضعفت عن حمل ابنة عمران!

فقالوا: ونـحن لقد جهدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم. فتدافعوها بـينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بدّا. حتـى تقارعوا بـالأقلام، فخرج السهم بحملها علـى رجل من بنـي إسرائيـل نـجار يقال له جريج، قال: فعرفت مريـم فـي وجهه شدة مؤنة ذلك علـيه، فكانت تقول له: يا جريج أحسن بـاللّه الظنّ، فإن اللّه سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بـمكانها، فـيأتـيها كل يوم من كسبه بـما يصلـحها، فإذا أدخـلها علـيها وهي فـي الكنـيسة أنـماه اللّه وكثره، فـيدخـل علـيها زكريا فـيرى عندها فضلاً من الرزق ولـيس بقدر ما يأتـيها به جريج، فـ

يقول: يا مريـم أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند اللّه ، إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب.

وأما الـمـحراب: فهو مقدم كل مـجلس ومصلـى، وهو سيد الـمـجالس وأشرفها وأكرمها، وكذلك هو من الـمساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:

كَدُمَى العاجِ فـي الـمَـحارِيب أو كالْــبَـيْضِ فـي الروضِ زهره مُسْتنـيرُ

والـمـحاريب جمع مـحراب، وقد يجمع علـى مـحارب.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ يَا مَرْيَـمُ أَنّى لَكَ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه إِنّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: قال زكريا يا مريـم: أنى لك هذا؟ من أيّ وجه لك هذا الذي أرى عندك من الرزق، قالت مريـم مـجيبة له: هو من عند اللّه ، تعنـي أن اللّه هو الذي رزقها ذلك فساقه إلـيها وأعطاها، وإنـما كان زكريا يقول ذلك لها لأنه كان فـيـما ذكر لنا يغلق علـيها سبعة أبواب، ويخرج ثم يدخـل علـيها، فـيجد عندها فـاكهة الشتاء فـي الصيف، وفـاكهة الصيف فـي الشتاء، فكان يعجب مـما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبـا مـما يرى: أنى لك هذا؟ فتقول: من عند اللّه .

٥٥٨٤ـ حدثنـي بذلك الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع.

٥٥٨٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي بعض أهل العلـم، فذكر نـحوه.

٥٥٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {يا مَرْيَـمُ أنّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه } قال: فإنه وجد عندها الفـاكهة الغضة حين لا توجد الفـاكهة عند أحد، فكان زكريا

يقول: يا مريـم أنى لك هذا؟

وأما قوله: {إِنّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِساب} فخبر من اللّه أنه يسوق إلـى من يشاء من خـلقه رزقه بغير إحصاء ولا عدد يحاسب علـيه عبده، لأنه جل ثناؤه لا ينقص سوقه ذلك إلـيه، كذلك خزائنه، ولا يزيد إعطاؤه إياه، ومـحاسبته علـيه فـي ملكه، وفـيـما لديه شيئا، ولا يعزب عنه علـم ما يرزقه، وإنـما يحاسب من يعطي ما يعطيه من يخشى النقصان من ملكه، بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف ومن كان جاهلاً بـما يعطى علـى غير حساب.

٣٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ ...}

أما قوله: {هُنَالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ} فمعناه: عند ذلك، أي عند رؤية زكريا ما رأى عند مريـم من رزق اللّه الذي رزقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبب أحد من الاَدميـين فـي ذلك لها، ومعاينته عندها الثمرة الرطبة التـي لا تكون فـي حين رؤيته إياها عندها فـي الأرض¹ طمع فـي الولد مع كبر سنه من الـمرأة العاقر، فرجا أن يرزقه اللّه منها الولد مع الـحال التـي هما بها، كما رزق مريـم علـى تـخـلـيها من الناس ما رزقها، من ثمرة الصيف فـي الشتاء، وثمرة الشتاء فـي الصيف، وإن لـم يكن مثله مـما جرت بوجوده فـي مثل ذلك الـحين العادات فـي الأرض، بل الـمعروف فـي الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غير الأمر الـجارية به العادات فـي الناس، فرغب إلـى اللّه جل ثناؤه فـي الولد، وسأله ذريّة طيبة. وذلك أن أهل بـيت زكريا فـيـما ذكر لنا، كانوا قد انقرضوا فـي ذلك الوقت. كما:

٥٥٨٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: فلـما رأى زكريا من حالها ذلك يعنـي فـاكهة الصيف فـي الشتاء، وفـاكهة الشتاء فـي الصيف، قال: إن ربّـا أعطاها هذا فـي غير حينه، لقادر علـى أن يرزقنـي ذرّية طيبة. ورغب فـي الولد، فقام فصلـى، ثم دعا ربه سرّا،

فقال: {رَبّ إِنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي وَاشْتَعَلَ الرأسُ شَيْبـا ...}

وقوله: {رَب هَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ ذُريّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ}.

وقال: {رَبّ لا تَذَرْنِـي فَرْدا وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِـينَ}.

٥٥٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: فلـما رأى ذلك زكريا ـ يعنـي فـاكهة الصيف فـي الشتاء، وفـاكهة الشتاء فـي الصيف عند مريـم ـ قال: إن الذي يأتـي بهذا مريـم فـي غير زمانه، قادر أن يرزقنـي ولدا! قال اللّه عزّ وجلّ: {هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبّهُ} قال: فذلك حين دعا.

٥٥٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن عكرمة، قال: فدخـل الـمـحراب، وغلق الأبواب، وناجى ربه،

فقال: {رَبّ إِنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبـا} إلـى قوله: {رَبّ رَضِيّا} {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ ...}.. الاَية.

٥٥٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي بعض أهل العلـم، قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ، ولا ولد له، وقد انقرض أهل بـيته،

فقال: {رَبّ هَبْ لِـي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ} ثم شكا إلـى ربه،

فقال: {رَبّ إِنّـي وَهَنَ العَظْمُ مِنّـي وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبـا}.. إلـى: {وَاجْعَلْهُ رَب رَضِيّا} {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ}.. الاَية.

وأما قوله: {رَب هَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً} فإنه يعنـي بـالذرية: النسل، وبـالطيبة: الـمبـاركة. كما:

٥٥٩١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {قال رَبّ هَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً}

يقول: مبـاركة.

وأما قوله: {مِنْ لَدُنْكَ} فإنه يعنـي من عندكوأما الذرية: فإنها جمع، وقد تكون فـي معنى الواحد، وهي فـي هذا الـموضع الواحد¹ وذلك أن اللّه عزّ وجلّ قال فـي موضع آخر مخبرا عن دعاء زكريا: {فَهَبْ لِـي مِنْ لَدُنْكَ وَلِـيّا} ولـم يقل (أولـياء)، فدلّ علـى أنه سأل واحدا. وإنـما أنث طيبة لتأنـيث الذرية، كما قال الشاعر:

أبُوكَ خَـلِـيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَىوأنْتَ خَـلِـيفَةٌ، ذَاكَ الكمالُ

فقال: ولدته أخرى، فأنث، وهو ذكر لتأنـيث لفظ الـخـلـيفة، كما قال الاَخر:

كما يَزْدَرِي مِنْ حَيّةٍ جَبَلِـيّةٍسَكابِ إذا ما عَضّ لـيسَ بأدْرَدَا

فأنث الـجبلـية لتأنـيث لفظ الـحية، ثم رجع إلـى الـمعنى فقال: إذا ما عضّ لأنه كان أراد حية ذكرا، وإنـما يجوز هذا فـيـما لـم يقع علـيه فلان من الأسماء كالدابة والذرية والـخـلـيفة، فأما إذا سُمي رجل بشيء من ذلك، فكان فـي معنى فلان لـم يجز تأنـيث فعله ولا نعته.

وأما قوله: {إِنّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ} فإن معناه: إن سامع الدعاء، غير أن سميع أمدح، وهو بـمعنى ذو سمع له، وقد زعم بعض نـحويـي البصرة أن معناه: إنك تسمع ما تدعي به.

فتأويـل الاَية: فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: ربّ هب لـي من عندك ولدا مبـاركا، إنك ذو سمع دعاء من دعاك.

٣٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ ...}

اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} علـى التأنـيث بـالتاء، يراد بها: جمع الـملائكة، وكذلك تفعل العرب فـي جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيـما الأسماء التـي فـي ألفـاظها التأنـيث كقولهم: جاءت الطلـحات.

وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بـالـياء، بـمعنى: فناداه جبريـل فذكروه للتأويـل، كما قد ذكرنا آنفـا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ، فكذلك يذكّرون فعل الـمؤنث أيضا للفظ. واعتبروا ذلك فـيـما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد اللّه بن مسعود، وهو ما:

٥٥٩٢ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد أن قراءة ابن مسعود: (فناداه جبريـل وهو قائم يصلـي فـي الـمـحراب).

وكذلك تأوّل قوله: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} جَماعة مِنْ أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٥٩٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} وهو جبريـل ـ أو: قالت الـملائكة، وهو جبريـل ـ {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}.

فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال علـى هذا التأويـل: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} والـملائكة جمع لا واحد؟

قـيـل: ذلك جائز فـي كلام العرب بأن تـخبر عن الواحد بـمذهب الـجمع، كما يقال فـي الكلام: خرج فلان علـى بغال البرد، وإنـما ركب بغلاً واحدا، وركب السفن، وإنـما ركب سفـينة واحدة، وكما يقال: مـمن سمعت هذا الـخبر؟ فـيقال: من الناس، وإنـما سمعه من رجل واحد¹ وقد

قـيـل: إن منه قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، والقائل كان فـيـما ذكر واحدا،

وقوله: {وَإذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ}، والناس بـمعنى واحد، وذلك جائز عندهم فـيـما لـم يقصد فـيه قصد واحد.

وإنـما الصواب من القول عندي فـي قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان، أعنـي التاء والـياء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أنه لا اختلاف فـي معنى ذلك بـاختلاف القرائين، وهما جميعا فصيحتان عند العرب، وذلك أن الـملائكة إن كان مرادا بها جبريـل كما روي عن عبد اللّه فإن التأنـيث فـي فعلها فصيح فـي كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل، وجائز فـيه التذكير لـمعناها. وإن كان مرادا بها جمع الـملائكة فجائز فـي فعلها التأنـيث، وهو من قبلها للفظها، وذلك أن العرب إذا قدمت علـى الكثـير من الـجماعة فعلها أنثته، فقالت: قالت النساء، وجائز التذكير فـي فعلها بناء علـى الواحد إذا تقدم فعله، فـيقال: قال الرجال.

وأما الصواب من

القول فـي تأويـله، فأن يقال: إن اللّه جلّ ثناؤه، أخبر أن الـملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الـملائكة دون الواحد وجبريـل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويـل القرآن إلا علـى الأظهر الأكثر من الكلام الـمستعمل فـي ألسن العرب، دون الأقلّ ما وجد إلـى ذلك سبـيـل، ولـم يضطرنا حاجة إلـى صرف ذلك إلـى أنه بـمعنى واحد، فـيحتاج له إلـى طلب الـمخرج بـالـخفـيّ من الكلام والـمعانـي.

وبـما قلنا فـي ذلك من التأويـل قال جماعة من أهل العلـم، منهم قتادة والربـيع بن أنس وعكرمة ومـجاهد وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فـيـما مضى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ قائمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}.

وتأويـل قوله {وَهُوَ قائِمٌ}: فنادته الـملائكة فـي حال قـيامه مصلـيا. فقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} خبر عن وقت نداء الـملائكة زكريا¹

وقوله: {يُصَلّـي} فـي موضع نصب علـى الـحال من القـيام، وهو رفع بـالـياءوأما الـمـحراب: فقد بـينا معناه، وأنه مقدم الـمسجد.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ}، فقرأته عامّة القرّاء: {أنّ اللّه } بفتـح الألف من (أن) بوقوع النداء علـيها بـمعنى فنادته الـملائكة بذلك. وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة: (إنّ اللّه يُبَشّرُكَ) بكسر الألف بـمعنى: قالت الـملائكة: إن اللّه يبشرك، لأن النداء قول¹ وذكروا أنها فـي قراءة عبد اللّه : (فنادته الـملائكة وهو قائم يصلـي فـي الـمـحراب يا زكريا إن اللّه يبشرك)¹

قالوا: إذا بطل النداء أن يكون عاملاً فـي قوله: (يا زكريا)، فبـاطل أيضا أن يكون عاملاً فـي (إن).

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ} بفتـح أن بوقوع النداء علـيه، بـمعنى: فنادته الـملائكة بذلك، ولـيست العلة التـي اعتلّ بها القارئون بكسر إن، من أن عبد اللّه كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد اللّه إن كان قرأ ذلك كذلك، فإنـما قرأها بزعمهم. وقد اعترض بـ(يا زكريا) بـين (إن) وبـين قوله: (فنادته)، وإذا اعترض به بـينهما، فإن العرب تعمل حينئذ النداء فـي (أنّ)، وتبطله عنها. أما الإبطال، فإنه بطل عن العمل فـي الـمنادى قبله، فأسلكوا الذي بعده مسلكه فـي بطول عملهوأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقع كسائر الأفعالوأما قراءتنا فلـيس نداء زكريا بـ(يا زكريا)، معترضا به بـين (أن) وبـين قوله: (فنادته)، وإذا لـم يكن ذلك بـينهما، فـالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول: ناديت اسم الـمنادى، وأوقعوه علـيه أن يوقعوه كذلك علـى (أنّ) بعده وإن كان جائزا إبطال عمله، فقوله: (نادته)، قد وقع علـى مكنـيّ زكريا¹ فكذلك الصواب أن يكون واقعا علـى (أنّ) وعاملاً فـيها، مع أن ذلك هو القراءة الـمستفـيضة فـي قراءة أمصار الإسلام، ولا يعترض بـالشاذّ علـى الـجماعة التـي تـجيء مـجيء الـحجة.

وما قوله: {يُبَشّرُكَ} فإن القرّاء اختلفت فـي قراءته، فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والبصرة: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ} بتشديد الشين وضمّ الـياء علـى وجه تبشير اللّه زكريا بـالولد، من قول الناس: بشّرت فلانا البشرى بكذا وكذا، أي أتته بشارات البشرى بذلك.

وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة وغيرهم: (أنّ اللّه يَبْشُرُكَ) بفتـح الـياء وضمّ الشين وتـخفـيفها، بـمعنى: أن اللّه يسرّك بولد يهبه لك، من قول الشاعر:

بَشَرْتُ عِيالـي إذْ رأيْتُ صَحِيفَةًأتَتْكَ مِنَ الـحَجّاجِ يُتْلَـى كِتابُها

 إن (بَشَرت) لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون: بَشَرت فلانا بكذا فأنا أَبْشُرُه بَشْرا، وهل أنت بـاشرٌ بكذا؟ وينشد لهم البـيت فـي ذلك:

وإذَا رأيْتُ البـاهِشِينَ إلـى العُلاغُبْرا أكُفّهُمْ بقاعٍ مُـمْـحِلِ

فأعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِـمَا بَشِرُوا بِهِوَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فـانْزِلِ

فإذا صاروا إلـى الأمر، فـالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف، فـيقال: ابْشَرْ فلانا بكذا، ولا يكادون يقولون: بشّره بكذا، ولا أبْشِرْه.

وقد رُوي عن حميد بن قـيس أنه كان يقرأ: (يُبْشِركَ) بضم الـياء وكسر الشين وتـخفـيفها. وقد:

٥٥٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد، عن معاد الكوفـي، قال: من قرأ (يبشّرهم) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ (يَبْشُرُهم) مخففة بنصب الـياء، فإنه من السرور، يسرّهم.

والقراءة التـي هي القراءة عندنا فـي ذلك ضم الـياء وتشديد الشين، بـمعنى التبشير، لأن ذلك هي اللغة السائرة، والكلام الـمستفـيض الـمعروف فـي الناس، مع أن جميع قرّاء الأمصار مـجمعون فـي قراءة: {فبـم تبشّرون} علـى التشديد. والصواب فـي سائر ما فـي القرآن من نظائره أن يكون مثله فـي التشديد وضم الـياء.

وأما ما رُوي عن معاذ الكوفـي من الفرق بـين معنى التـخفـيف والتشديد فـي ذلك، فلـم نـجد أهل العلـم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لـما حكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية:

يا بِشْرُ حُقّ لِبشْرِكَ التّبْشِيرُهَلاّ غَضِبتَ لَنا وأنْتَ أمِيرُ

فقد علـم أنه أراد بقوله (التبشير): الـجمال والنضارة والسرور، فقال (التبشير) ولـم يقل (البشر)، فقد بـين ذلك أن معنى التـخفـيف والتثقـيـل فـي ذلك واحد.

٥٥٩٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} قال: بشرته الـملائكة بذلك.

(وأما قوله: {بِـيَحْيَـى} فإنه اسم أصله يَفْعَل، من قول القائل: حي فلان فهو يحيا، وذلك إذا عاش فـيحيـى (يَفْعَل) من قولهم (حيـي).

وقـيـل: إن اللّه جل ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بـالإيـمان. ذكر من قال ذلك:

٥٥٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}

يقول: عبد أحياه اللّه بـالإيـمان.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} قال: إنّـمَا سمي يحيـى، لأن اللّه أحياه بـالإيـمان.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: إن اللّه يبشرك يا زكريا بـيحيـى ابنا لك، {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } يعنـي بعيسى ابن مريـم. ونصب قوله (مصدّقا) علـى القطع من يحيـى، لأن (مصدقا) نعت له وهو نكرة، و(يحيـى) غير نكرة.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٥٩٧ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطفـاوي، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة، قال: حدثنا النضر بن عربـيّ، عن مـجاهد قال: قالت امرأة زكريا لـمريـم: إنـي أجد الذي فـي بطنـي يتـحرّك للذي فـي بطنك، قال: فوضعت امرأة زكريا يحيـى، ومريـم عيسى. ولذا قال: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال يحيـى: مصدّق بعيسى.

٥٥٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن الرقاشي فـي قول اللّه : {يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: مصدّقا بعيسى ابن مريـم.

٥٥٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٦٠٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: مصدّقا بعيسى.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }

يقول: مصدّق بعيسى ابن مريـم، وعلـى سننه ومنهاجه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } يعنـي عيسى ابن مريـم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }

يقول: مصدّقا بعيسى ابن مريـم،

يقول: علـى سننه ومنهاجه.

٥٦٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلـمة من اللّه وروح.

٥٦٠٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } يصدّق بعيسى.

٥٦٠٣ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } فإن يحيـى أوّل من صدّق بعيسى، وشهد أنه كلـمة من اللّه ، وكان يحيـى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.

٥٦٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال عيسى ابن مريـم: هو الكلـمة من اللّه اسمه الـمسيح.

٥٦٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: أخبرنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: كان عيسى ويحيـى ابنـي خالة، وكانت أم يحيـى تقول لـمريـم: إنـي أجد الذي فـي بطنـي يسجد للذي فـي بطنك، فذلك تصديقه بعيسى، سجوده فـي بطن أمه، وهو أوّل من صدّق بعيسى وكلـمة عيسى، ويحيـى أكبر من عيسى.

٥٦٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: الكلـمة التـي صدّق بها عيسى.

٥٦٠٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لقـيَتْ أمّ يحيـى أمّ عيسى، وهذه حامل بـيحيـى وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريـم استشعرت أنـي حبلـى، قالت مريـم: استشعرت أنـي أيضا حبلـى. قالت امرأة زكريا: فإنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك. فذلك قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }.

٥٦٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قول اللّه : {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: مصدّقا بعيسى ابن مريـم.

وقد زعم بعض أهل العلـم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } بكتاب من اللّه ، من قول العرب: أنشدنـي فلان كلـمة كذا، يراد به قصيدة كذا. جهلاً منه بتأويـل الكلـمة، واجتراءً علـى ترجمة القرآن برأيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسَيّدا}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَسَيّدا}: وشريفـا فـي العلـم والعبـادة، ونصب (السيد) عطفـا علـى قوله (مصدّقا).

وتأويـل الكلام: إن اللّه يبشرك بـيحيـى مصدّقا بهذا وسيدا، والسيد: الفَـيْعِل، من قول القائل: ساد يسود. كما:

٥٦٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَسَيّدا}: إي والله، لسيد فـي العبـادة والـحلـم والعلـم والورع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {وَسَيّدا} قال: السيد لا أعلـمه إلا قال فـي العلـم والعبـادة.

٥٦١٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: السيد: الـحلـيـم.

٥٦١١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن شريك، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير: {وَسَيّدا} قال: الـحلـيـم.

٥٦١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير: {وَسَيّدا} قال: السيد: التقـيّ.

٥٦١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه عزّ وجلّ {وَسَيّدا} قال: السيد: الكريـم علـى اللّه .

٥٦١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: زعم الرقاشي أن السيد: الكريـم علـى اللّه .

٥٦١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك في قول اللّه عز وجل: {وَسَيّدا} قال: السيد: الـحلـيـم التقـيّ.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَسَيّدا} قال:

يقول: تقـيا حلـيـما.

٥٦١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفـيان فـي قوله: {وَسَيدا} قال: حلـيـما تقـيا.

٥٦١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد فـي قوله: {وَسَيّدا} قال: السيد: الشريف.

٥٦١٨ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، عن عبد الـملك، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب في قول اللّه عز وجل: {وَسَيّدا} قال: السيد: الفقـيه العالـم.

٥٦١٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَسَيّدا} قال:

يقول: حلـيـما تقـيا.

٥٦٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن عكرمة: {وَسَيّدا} قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَحَصُورا وَنَبِـيّا مِنَ الصّالِـحِينَ}.

يعنـي بذلك: مـمتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه¹ ومنه قولهم: حصر فلان فـي قراءته: إذا امتنع من القراءة فلـم يقدر علـيها، وكذلك حصر العدوّ: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف، ولذلك قـيـل للذي لا يُخرِج مع ندمائه شيئا: حصور، كما قال الأخطل:

وَشارِبٍ مُرْبِحٍ بـالكأْسِ نادَمَنِـيلا بـالـحَصُورِ ولا فِـيها بسَوّارِ

ويروى (بسّار). ويقال أيضا للذي لا يخرج سرّه ويكتله حصور، لأنه يـمنع سرّه أن يظهر، كما قال جرير:

وَلَقَدْ تَسَقّطَنِـي الوُشاةُ فصادَفُواحَصِرا بِسِرّكِ يا أُمَيْـمَ ضَنِـينا

وأصل جميع ذلك واحد، وهو الـمنع والـحبس.

وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٦٢١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن خـلف، قال: حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه فـي قوله: {وَسَيّدا وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

٥٦٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب أنه قال ثنـي ابن العاص، أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (كُلّ بَنِـي آدَمَ يَأْتِـي يَوْمَ القِـيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَـى بْنِ زَكَرِيّا)، قال: ثم دلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده إلـى الأرض، فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: (وَذَلكَ أنّهُ لَـمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ، وبذلك سماه اللّه سيدا وحصورا).

٥٦٢٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيـى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن الـمسيب،

يقول: لـيس أحد إلا يـلقـى اللّه يوم القـيامة ذا ذنب إلا يحيـى بن زكريا، كان حصورا، معه مثل الهدبة.

٥٦٢٤ـ حدثنا أحمد بن الولـيد القرشي، قال: حدثنا عمر بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب، قال: قال ابن العاص ـ إما عبد اللّه ، وإما أبوه ـ: ما أحد يـلقـى اللّه إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيـى بن زكريا

قال: وقال سعيد بن الـمسيب: {وَسَيّدا وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يغشى النساء، ولـم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب.

حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، عن عبد الـملك، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب فـي قوله: {وَحَصُورا} قال: الـحصور¹ الذي لا يشتهي النساء، ثم ضرب بـيده إلا الأرض فأخذه نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.

٥٦٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، مثله.

٥٦٢٦ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة، قال: حدثنا النضر بن عربـي، عن مـجاهد: {وَحَصُورا} قال: الذي لا يأتـي النساء.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـحصور: لا يقرب النساء.

٥٦٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: زعم الرقاشي: الـحصور: الذي لا يقرب النساء.

٥٦٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك : الـحصور: الذي لا يولد له، ولـيس له ماء.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَحَصُورا} قال: هو الذي لا ماء له.

٥٦٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَحَصُورا} كنا نـحدّث أن الـحصور الذي لا يقرب النساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {وَسَيّدا وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٥٦٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: الـحصور: الذي لا ينزل الـماء.

٥٦٣١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد: {وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

٥٦٣٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يريد النساء.

٥٦٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن: {وَحَصُورا} قال: لا يقرب النساء.

وأما قوله: {وَنَبِـيّا مِنَ الصالِـحِينَ} فإنه يعنـي: رسولاً لربه إلـى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلغهم عنه ما أرسله به إلـيهم. ويعنـي بقوله: {مِنَ الصّالِـحِينَ} من أنبـيائه الصالـحين. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى النبوّة وما أصلها بشواهد ذلك، والأدلة الدالة علـى الصحيح من القول فـيه بـما أغنى عن إعادته.

٤٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ...}

يعنـي أن زكريا قال إذ نادته الـملائكة: {أن اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه وَسَيّدا وَحَصُورا وَنَبِـيّا مِنَ الصّالِـحِينَ}: {أنّى يَكُونُ لِـي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرْ} يعنـي: من بلغ من السنّ ما بلغت لـم يولد له¹ {وَامْرَأتِـي عاقِرٌ} والعاقر من النساء: التـي لا تلد، يقال منه: امرأة عاقر، ورجل عاقر، كما قال عامر بن الطفـيـل:

لَبِئْسَ الفَتَـى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراجبَـانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مـحْضَرِ

وأما الكِبر: فمصدر كَبِرَ فلان فهو يَكْبَرُ كبرا.

وقـيـل: (بلغنـي الكبر)، وقد قال فـي موضع آخر: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ} لأن ما بلغك فقد بلغته، وإنـما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل: وقد بلغنـي الـجهد بـمعنى: أنـي فـي جهد.

فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبـيّ اللّه : {رَبّ أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرُ وَامْرَأَتِـي عاقِرٌ} وقد بشرته الـملائكة بـما بشرته به، عن أمر اللّه إياها به؟ أشك فـي صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيـمان بـالله، فكيف الأنبـياء والـمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم فـي البلـية!

قـيـل: كان ذلك منه صلى اللّه عليه وسلم علـى غير ما ظننت، بل كان قـيـله ما قال من ذلك، كما:

٥٦٣٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لـما سمع النداء ـ يعنـي زكريا لـما سمع نداء الـملائكة بـالبشارة بـيحيـى ـ جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت لـيس هو من اللّه ، إنـما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من اللّه أوحاه إلـيك، كما يوحي إلـيك فـي غيره من الأمر! فشكّ مكانه، وقال: {أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ} ذَكَرٌ،

يقول: ومن أين {وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرُ وَامْرَأتـي عاقِرٌ}.

٥٦٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن عكرمة، قال: فأتاه الشيطان، فأراد أن يكدر علـيه نعمة ربه،

فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم، نادانـي ملائكة ربـي، قال: بل ذلك الشيطان، لو كان هذا من ربك لأخفـاه إلـيك كما أخفـيت نداءك،

فقال: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة}.

فكان قوله ما قال من ذلك، ومراجعته ربه فـيـما راجع فـيه بقوله: {أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ}، للوسوسة التـي خالطت قلبه من الشيطان، حتـى خيـلت إلـيه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الـملائكة،

فقال: {رَبّ أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ} مستثبتا فـي أمره لتقرّر عنده بآية، يريه اللّه فـي ذلك أنه بشارة من اللّه علـى ألسن ملائكته، ولذلك قال: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة}. وقد يجوز أن يكون قـيـله ذلك مسألة منه ربه: من أيّ وجه يكون الولد الذي بشر به، أمن زوجته فهي عاقر، أم من غيرها من النساء؟ فـيكون ذلك علـى غير الوجه الذي قاله عكرمة والسديّ، ومن قال مثل قولهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قالَ كَذَلِكَ اللّه يَفْعَلُ ما يَشاءُ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {كَذَلِكَ اللّه } أي هو ما وصف به نفسه، أنه هين علـيه أن يخـلق ولدا من الكبـير الذي قد يئس من الولد، ومن العاقر التـي لا يرجى من مثلها الولادة، كما خـلقك يا زكريا من قبلُ خـلقَ الولد منك ولـم تك شيئا، لأنه اللّه الذي لا يتعذّر علـيه خـلق شيء أراده، ولا يـمتنع علـيه فعل شيء شاءه، لأن قدرته القدرة التـي لا يشبهها قدرة. كما:

٥٦٣٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: {كَذَلِكَ اللّه يفْعَلُ ما يَشاءُ} وقد خـلقتك من قبل ولـم تك شيئا.

٤١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ اجْعَلْ لّيَ آيَةً ... }

يعنـي بذلك جل ثناؤه خبرا عن زكريا، قال زكريا: يا ربّ إن كان هذا النداء الذي نوديته، والصوت الذي سمعته صوت ملائكتك، وبشارة منك لـي، فـاجعل لـي آية!

يقول: علامة أن ذلك كذلك، لـيزول عنـي ما قد وسوس إلـيّ الشيطان فألقاه فـي قلبـي، من أن ذلك صوت غير الـملائكة، وبشارة من عند غيرك. كما:

٥٦٣٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {قالَ رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً} قال: قال ـ يعنـي زكريا ـ: يا ربـيّ فإن كان هذا الصوت منك، فـاجعل لـي آية.

وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الاَية، وأنها العلامة، بـما أغنء عن إعادته.

وقد اختلف أهل العربـية فـي سبب ترك العرب همزها، ومن شأنها همز كل ياء جاءت بعد ألف ساكنة،

فقال بعضهم: ترك همزها لأنها كانت أيّة، فثقل علـيهم التشديد، فأبدلوه ألفـا لانفتاح ما قبل التشديد، كما

قالوا: أيْـما فلان فأخزاه اللّه .

وقال آخرون منهم: بل هي فـاعلة منقوصة. فسألوا، فقـيـل لهم، فما بـال العرب تصغرها أُيَـيّةٍ، ولـم يقولوا أُوَيّة؟

فقالوا: قـيـل ذلك كما قـيـل فـي فـاطمة: هذه فطيـمة، فقـيـل لهم: فإنهم يصغرون فـاعلة علـى فُعَيـلة إذا كان اسما فـي معنى فلان وفلانة، فأما فـي غير ذلك، فلـيس من تصغيرهم فـاعلة علـى فعيـلة.

وقال آخرون: إنه فعلة، صيرت ياؤها الأولـى ألفـا، كما فعل بحاجة وقامة، فقـيـل لهم: إنـما تفعل العرب ذلك فـي أولاد الثلاثة، وقال من أنكر ذلك من قـيـلهم: لو كان كما قالوا لقـيـل فـي نواة: ناية، وفـي حياة: حاية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا}. فعاقبه اللّه فـيـما ذكر لنا بـمسألته الاَية، بعد مشافهة الـملائكة إياه بـالبشارة، فجعل آيته علـى تـحقـيق ما سمع من البشارة من الـملائكة بـيحيـى أنه من عند اللّه آية من نفسه، جمع تعالـى ذكره بها العلامة التـي سألها ربه علـى ما يبـين له حقـيقة البشارة أنها من عند اللّه ، وتـمـحيصا له من هفوته، وخطأ قـيـله ومسألته.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٦٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا} إنـما عوقب بذلك لأن الـملائكة شافهته مشافهة بذلك فبشرته بـيحيـى، فسأل الاَية بعد كلام الـملائكة إياه، فأخذ علـيه بلسانه، فجعل لا يقدر علـى الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال اللّه تعالـى ذكره كما تسمعون: {آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إلاّ رَمْزا}.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا} قال: شافهته الـملائكة،

فقال: {رَبّ اجْعَلْ لِـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا}

يقول: إلا إيـماء، وكانت عقوبة عوقب بها، إذ سأل الاَية مع مشافهة الـملائكة إياه بـما بشرته به.

٥٦٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {رَبّ اجْعَلْ لِـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا} قال: ذكر لنا واللّه أعلـم أنه عوقب لأن الـملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بـيحيـى، فسأل الاَية بعد، فأخذ بلسانه.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذكر لنا واللّه أعلـم أنه عوقب لأن الـملائمة شافهته فبشرته بـيحيـى، قالت: {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}، فسأل بعد كلام الـملائكة إياه الاَية، فأخذ علـيه لسانه، فجعل لا يقدر علـى الكلام إلا رمزا،

يقول: يومىء إيـماء.

٥٦٤٠ـ حدثنـي أبو عبـيد الرصافـي، قال: حدثنا مـحمد بن حمير، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، عن جويبر بن نُفـير فـي قوله: {قالَ رَبّ اجْعَلْ لِـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إلاّ رَمْزا} قال: ربـا لسانه فـي فـيه حتـى ملأه، ثم أطلقه اللّه بعد ثلاث.

وإنـما اختارت القرّاء النصب فـي قوله: {ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ} لأن معنى الكلام: قال: آيتك أن لا تكلـم الناس فـيـما يستقبل ثلاثة أيام، فكانت أن هي التـي تصحب الاستقبـال دون التـي تصحب الأسماء فتنصبها، ولو كان الـمعنى فـيه: آيتك أنك لا تكلـم الناس ثلاثة أيام: أي أنك علـى هذه الـحال ثلاثة أيام، كان وجه الكلام الرفع، لأن (أن) كانت تكون حينئذ بـمعنى الثقـيـلة خففت، ولكن لـم يكن ذلك جائزا لـما وصفت من أن ذلك بـالـمعنى الاَخر.

وأما الرمز، فإن الأغلب من معانـيه عند العرب: الإيـماء بـالشفتـين، وقد يستعمل فـي الإيـماء بـالـحاجبـين والعينـين أحيانا، وذلك غير كثـير فـيهم، وقد يقال للـخفـيّ من الكلام الذي هو مثل الهمس بخفض الصوت: الرمز، ومنه قول جؤية بن عائذ:

وكانَ يُكَلّـمُ الأبْطالَ رَمْزاوَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ

يقال منه: رَمَزَ فلان فهو يَرْمِزُ وَيَرْمُزُ رَمْزا، ويترمز ترمّزا، ويقال: ضربه ضربة فـارتـمز منها: أي اضطرب للـموت، قال الشاعر:

خَرَرْتُ مِنـها لقـفـايَ أرْتَـمِـزْ

وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي عنى اللّه عزّ وجلّ به فـي إخبـاره عن زكريا من قوله: {آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا} وأيّ معانـي الرمز عنى بذلك؟

فقال بعضهم: عنى بذلك: آيتك أن لا تكلـم الناس ثلاثة أيام إلا تـحريكا بـالشفتـين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام. ذكر من قال ذلك:

٥٦٤١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربـي، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ رَمْزا} قال: تـحريك الشفتـين.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا} قال: إيـماؤه بشفتـيه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك الإيـماء والإشارة. ذكر من قال ذلك:

٥٦٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك : {إلاّ رَمْزا} قال: الإشارة.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إلاّ رَمْزا} قال: الرمز: أن يشير بـيده أو رأسه ولا يتكلـم.

٥٦٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إلاّ رَمْزا} قال: الرمز: أن أُخِذَ بلسانه، فجعل يكلـم الناس بـيده.

٥٦٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إلاّ رَمْزا} قال: والرمز: الإشارة.

٥٦٤٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا}.. الاَية

قال: جعل آيته أن لا يكلـم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، إلا أنه يذكر اللّه . والرمز: الإشارة، يشير إلـيهم.

٥٦٤٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {إلاّ رَمْزا} إلا إيـماء.

٥٦٤٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٦٤٨ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إلاّ رَمْزا}

يقول: إشارة.

٥٦٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد اللّه بن كثـير: {إلاّ رَمْزا}: إلا إشارة.

٥٦٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن، فـي قوله: {قالَ آيَتُكَ ألاّ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا} قال: أُمسِكَ بلسانه، فجعل يومىء بـيده إلـى قومه: أن سبحوا بكرة وعشيا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِـيرا وَسَبّحْ بِـالعَشِيّ وَالإبْكارِ}.

يعنـي بذلك: قال اللّه جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا آيتك أن لا تكلـم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا بغير خرس، ولا عاهة، ولا مرض {واذْكُرْ رَبّكَ كَثِـيرا} فإنك لا تـمنع ذكره، ولا يحال بـينك وبـين تسبـيحه وغير ذلك من ذكره. وقد:

٥٦٥١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن كعب، قال: لو كان اللّه رخص لأحد فـي ترك الذكر لرخص لزكريا حيث قال: {آيَتُكَ أنْ لاَ تُكَلّـمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أيّامٍ إلاّ رَمْزا وَاذْكُرْ رَبّكَ كَثِـيرا} أيضا.

وأما قوله: {وَسَبّحْ بِـالعَشِيّ} فإنه يعنـي: عظم ربك بعبـادته بـالعشيّ. والعشيّ: من حين تزول الشمس إلـى أن تغيب، كما قال الشاعر:

فلا الظلّ من بَرْدِ الضّحَى تَسْتَطِيعُهُولا الفَـيْءَ من بَرْدِ العَشِيّ تَذُوقُ

فـالفـيء إنـما تبتدىء أوبته عند زوال الشمس، وتتناهى بـمغيبها.

وأما الإبكار: فإنه مصدر من قول القائل: أبكر فلان فـي حاجة، فهو يُبْكِرُ إبكارا، وذلك إذا خرج فـيها من بـين مطلع الفجر إلـى وقت الضحى، فذلك إبكار، يقال فـيه: أبكر فلان، وبكر يَبْكُرُ بكورا. فمن الإبكار قول عمر بن أبـي ربـيعة:

أمِنْ آلِ نُعْـمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِـرُ

ومن البكور قول جرير:

ألا بَكَرَتْ سَلْـمَى فَجَدّ بُكُورُهاوَشَقّ العَصَا بعد اجتـماعٍ أميرُها

ويقال من ذلك: بكر النـخـل يبكُر بكورا، وأبكر يُبْكِر إبكارا، والبـاكور من الفواكه: أوّلها إدراكا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٦٥٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَسَبّحْ بِـالعَشِيّ والإبْكارِ} قال: الإبكار: أوّل الفجر، والعشيّ، ميـل الشمس حتـى تغيب.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٤٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واللّه سميع علـيـم {إذْ قالتِ امْرَأةُ عِمْرَانَ رَبّ إنّـي نَذَرْتُ لَكَ ما فِـي بَطْنِـي مُـحَرّرا}، {وَإذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه اصْطَفـاكِ}.

ومعنى قوله: {اصْطَفـاكِ} اختارك واجتبـاك لطاعته، وما خصك به من كرامتهوقوله: {وَطَهّرَكِ} يعنـي: طهر دينك من الريب والأدناس التـي فـي أديان نساء بنـي آدم. {وَاصْطَفـاكِ علـى نِساءِ العَالَـمِينَ} يعنـي: اختارك علـى نساء العالـمين فـي زمَانك بطاعتك إياه، ففضلك علـيهم. كما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (خَيْرُ نِسائِها مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ) يعنـي بقوله: خير نسائها: خير نساء أهل الـجنة.

٥٦٥٣ـ حدثنـي بذلك الـحسين بن علـيّ الصدائي، قال: حدثنا مـحاضر بن الـمورّع، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عبد اللّه بن جعفر، قال: سمعت علـيا بـالعراق،

يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (خَيْرُ نِسائها مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسائها خَدِيجَةُ).

٥٦٥٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي الـمنذر بن عبد اللّه الـخزامي، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عبد اللّه بن جعفر بن أبـي طالب، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (خَيْرُ نِساءِ الـجَنّةِ مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِساءِ الـجَنّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ).

٥٦٥٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَإذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه اصْطَفَـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطفـاكِ علـى نِساءِ العالَـمِينَ} ذكر لنا أن نبـيّ اللّه ، كان

يقول: (حَسْبُكَ بِـمَرْيَـمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْـلِدٍ، وَفـاطِمَةَ بِنْتِ مُـحَمّدٍ مِنْ نِساءِ العالَـمِينَ). قال قتادة: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صَوَالِـحُ نِساءِ قُرَيْشٍ، أحْناهُ علـى وَلَدٍ فِـي صِغَرِهِ، وأرْعاهُ علـى زَوْجٍ فِـي ذَاتِ يَدِهِ). قال قتادة: وذكر لنا أنه كان

يقول: (لَوْ عَلِـمْتُ أنّ مَرْيَـمَ رَكِبَتِ الإبِلَ ما فَضّلْتُ عَلَـيْهَا أحَدا).

٥٦٥٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه اصْطَفَـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَـاكِ علـى نِساءِ العَالَـمِينَ} قال: كان أبو هريرة يحدّث أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صُلّـحُ نِساءِ قُرَيْشٍ أحْناهُ علـى وَلَدٍ وأرْعاهُ لِزَوْجٍ فِـي ذَاتِ يَدِهِ) قال أبو هريرة: ولـم تركب مريـم بعيرا قط.

٥٦٥٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه قوله: {وَإذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه اصْطَفَـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفَـاكِ علـى نِساءِ العالَـمِينَ} قال: كان ثابت البنانـي يحدّث عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (خَيْرُ نِساءِ العالَـمِينَ أرْبَعٌ: مَرْيَـمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ، وَفَـاطِمَةُ بِنْتُ مُـحَمّدٍ).

٥٦٥٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا آدم العسقلانـي، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا عمرو بن مرّة، قال: سمعت مرّة الهمدانـي يحدّث عن أبـي موسى الأشعري، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كَمُلَ مِنَ الرّجالِ كَثِـيرٌ، وَلَـمْ يَكْمُلْ مِنَ النّساءِ إلاّ مَرْيَـمُ وآسِيَةُ امْرأةُ فِرْعَوْنَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْـلِدٍ وَفـاطِمَةُ بِنْتُ مُـحَمّدٍ).

٥٦٥٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو الأسود الـمصري، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن مـحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان، أن فـاطمة بنت حسين بن علـيّ حدثته أن فـاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت: دخـل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما وأنا عند عائشة، فناجانـي، فبكيت، ثم ناجانـي، فضحكت، فسألتنـي عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عجلتِ، أخبرك بسرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم! فتركتنـي، فلـما توفـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سألتها عائشة، فقالت: نعم، ناجانـي فقال: (جِبْرِيـلُ كانَ يُعارِضُ القُرْآنَ كُلّ عامٍ مَرّةً، وَإنّهُ قَدْ عارَضَ القُرْآنَ مَرّتَـيْنِ، وَإنّهُ لَـيْسَ مِنْ نَبِـيّ إلاّ عُمّرَ نِصْفُ عُمْرِ الّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَإنّ عِيسىَ أخِي كانَ عُمْرُهُ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَهَذِهِ لِـي سِتّونَ، وأحْسِبُنِـي مَيّتا فِـي عامِي هَذَا، وَإنّهُ لَـمْ تُرْزأ امْرأةٌ مِنْ نِساءِ العَالَـمِينَ بِـمِثْلِ مَا رُزِئْتِ، وَلا تَكُونِـي دُونَ امْرأةٍ صَبْرا). قالت: فبكيت، ثم قال: (أَنْتِ سَيّدَةُ نِساءِ أهْلِ الـجَنّةِ إلاّ مَرْيَـمَ البَتُولَ) فتُوفـي عامه ذلك.

٥٦٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو الأسود، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الـحارث، أن أبـا زياد الـحميريّ حدثه، أنه سمع عمار بن سعد

يقول: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (فُضّلَتْ خَدِيجَةُ علـى نِساءِ أُمّتِـي كَما فُضّلَتْ مَرْيَـمُ عَلـى نِساءِ العَالَـمِينَ).

وبـمثل الذي قلنا فـي معنى قوله: {وَطَهّرَكِ}: أنه وطهر دينك من الدنس والريب، قال مـجاهد.

٥٦٦١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله اللّه : {إنّ اللّه اصْطَفـاكِ وَطَهّرَكِ} قال: جعلك طيبة إيـمانا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٦٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَاصْطَفـاكِ علـى نِساءِ العالَـمِينَ} قال: ذلك للعالـمين يومئذ.

وكانت الـملائكة فـيـما ذكر ابن إسحاق تقول ذلك لـمريـم شفـاها.

٥٦٦٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: كانت مريـم حبـيسا فـي الكنـيسة، ومعها فـي الكنـيسة غلام اسمه يوسف، وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبـيسا، فكانا فـي الكنـيسة جميعا، وكانت مريـم إذا نفد ماؤها وماء يوسف، أخذا قلتـيهما فـانطلقا إلـى الـمفـازة التـي فـيها الـماء الذي يستعذبـان منه، فـيـملاَن قلتـيهما، ثم يرجعان إلـى الكنـيسة، والـملائكة فـي ذلك مقبلة علـى مريـم: {يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه اصْطَفـاكِ وَطَهّرَكِ وَاصْطَفـاكِ علـى نِساءِ العَالَـمِينَ} فإذا سمع ذلك زكريا، قال: إن لابنة عمران لشأنا.

٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ }

يعنـي جل ثناؤه بقوله خبرا عن قـيـل ملائكته لـمريـم: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكَ} أخـلصي الطاعة لربك وحده. وقد دللنا علـى معنى القنوت بشواهده فـيـما مضى قبل.

واختلاف بـين أهل التأويـل فـيه فـي هذا الـموضع نـحو اختلافهم فـيه هنالك، وسنذكر قول بعضهم أيضا فـي هذا الـموضع،

فقال بعضهم: معنى (اقنتـي): أطيـلـي الركود. ذكر من قال ذلك:

٥٦٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أطيـلـي الركود، يعنـي: القنوت.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٦٦٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج {اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: قال مـجاهد: أطيـلـي الركود فـي الصلاة، يعنـي: القنوت.

٥٦٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: لـما قـيـل لها: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قامت حتـى ورم كعبـاها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد، قال: لـما قـيـل لها: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قامت حتـى ورمت قدماها.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي لـيـلـى، عن مـجاهد: {اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أطيـلـي الركود.

٥٦٦٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: القنوت: الركود،

يقول: قومي لربك فـي الصلاة،

يقول: اركدي لربك، أي انتصبـي له فـي الصلاة، واسجدي واركعي مع الراكعين.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن سفـيان، عن لـيث، عن مـجاهد: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: كانت تصلـي حتـى ترم قدماها.

٥٦٦٨ـ حدثنـي ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا الأوزاعي: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: كانت تقوم حتـى يسيـل القـيح من قدميها.

وقال آخرون: معناه: أخـلصي لربك. ذكر من قال ذلك:

٥٦٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن شريك، عن سالـم، عن سعيد: {يا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أخـلصي لربك.

وقال آخرون: معناه: أطيعي ربك. ذكر من قال ذلك:

٥٦٧٠ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال: أطيعي ربك.

٥٦٧١ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {اقْنُتِـي لِرَبكِ} أطيعي ربك.

٥٦٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن حرب، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن دراج، عن أبـي الهيثم، عن أبـي سعيد الـخدري، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (كُلّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِـيهِ القُنُوتُ مِنَ القُرْآنِ، فَهُوَ طاعَةٌ لِلّهِ).

٥٦٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد بن منصور، عن الـحسن، فـي قوله: {يَا مَرْيَـمُ اقْنُتِـي لِرَبّكِ} قال:

يقول: اعبدي ربك.

قال أبو جعفر: وقد بـينا أيضا معنى الركوع والسجود بـالأدلة الدالة علـى صحته، وأنهما بـمعنى الـخشوع لله والـخضوع له بـالطاعة والعبودية.

فتأويـل الاَية إذا: يا مريـم أخـلصي عبـادة ربك لوجهه خالصا، واخشعي لطاعته وعبـادته، مع من خشع له من خـلقه، شكرا له علـى ما أكرمك به من الاصطفـاء والتّطهير من الأدناس والتفضيـل علـى نساء عالـم دهرك.

٤٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ ...}

يعنـي جل ثناؤه بقوله: ذلك الأخبـار التـي أخبر بها عبـاده عن امرأة عمران وابنتها مريـم وزكريا، وابنه يحيـى، وسائر ما قصّ فـي الاَيات من قوله: {إنّ اللّه اصْطَفَـى آدَمَ وَنُوحا} ثم جمع جميع ذلك تعالـى ذكره بقوله ذلك،

فقال: هذه الأنبـاء من أنبـاء الغيب: أي من أخبـار الغيب. ويعنـي بـالغيب، أنها من خفـيّ أخبـار القوم التـي لـم تطلع أنت يا مـحمد علـيها ولا قومك، ولـم يعلـمها إلا قلـيـل من أحبـار أهل الكتابـين ورهبـانهم ثم أخبر تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أنه أوحى ذلك إلـيه حجة علـى نبوّته، وتـحقـيقا لصدقه، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفـار أهل الكتابـين الذين يعلـمون أن مـحمدا لـم يصل إلـى علـم هذه الأنبـاء مع خفـائها ولـم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام اللّه ذلك إياه، إذ كان معلوما عندهم أنه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أمي لا يكتب فـيقرأ الكتب فـيصل إلـى علـم ذلك من قِبَل الكتب، ولا صاحب أهل الكتب فـيأخذ علـمه من قِبَلهم.

وأما الغيب: فمصدر من قول القائل: غاب فلان عن كذا، فهو يغيب عنه غَيْبـا وغيبةً.

وأما قوله: {نُوحيهِ إِلَـيْكَ} فإن تأويـله: ننزله إلـيك، وأصل الإيحاء: إلقاء الـموحي إلـى الـموحَى إلـيه، وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيـماء وبإلهام وبرسالة، كما قال جلّ ثناؤه: {وَأوْحَى رَبّكَ إلـى النّـحْلِ} بـمعنى: ألقـى ذلك إلـيها فألهمها، وكما قال: {وَإذْ أوْحَيْتُ إلـى الـحَوارِيّـينَ} بـمعنى: ألقـيت إلـيهم علـم ذلك إلهاما، وكما قال الراجز:

وْحَـى لَـهَـا الـقَـرَارَ فـاسْـتَـقَـرّتِ

بـمعنى: ألقـى إلـيها ذلك أمرا، وكما قال جلّ ثناؤه: {فأوْحَى إلَـيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا} بـمعنى: فألقـى ذلك إلـيهم أيضا، والأصل فـيه ما وصفت من إلقاء ذلك إلـيهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إلـيهم إيـماء، ويكون بكتاب، ومن ذلك قوله: {وَإنّ الشّياطِينَ لَـيُوحُونَ إلـى أوْلِـيائِهِمْ} يـلقون إلـيهم ذلك وسوسة،

وقوله: {وأُوحِيَ إلـيّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: ألقـي إلـيّ بـمـجيء جبريـل علـيه السلام به إلـيّ من عند اللّه عزّ وجلّوأما الوحي: فهو الواقع من الـموحِي إلـى الـموحَى إلـيه، ولذلك سمت العرب الـخط والكتاب وحيا، لأنه واقع فـيـما كتب ثابت فـيه، كما قال كعب بن زهير:

أتَـى العُجْمَ والاَفـاقَ منهُ قَصائِدٌبَقِـينَ بَقاءَ الوَحْيِ فِـي الـحَجَرِ الأَصَمّ

يعنـي به الكتاب الثابت فـي الـحجر. وقد يقال فـي الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وَحَى، بغير ألف، ومنه قول رؤبة:

كأنّهُ بَعْدَ رِياح تَدْهَمَهُوَمُرْثَعِنّاتِ الدّجُونِ تَثِمُهْ

إنـجيـلُ أحْبـارٍ وَحَـى مُنَـمْنِـمُهْ

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ}: وما كنت يا مـحمد عندهم، فتعلـم ما نعلـمكه من أخبـارهم التـي لـم تشهدها، ولكنك إنـما تعلـم ذلك فتدرك معرفته بتعريفناكه.

ومعنى قوله {لَدَيْهِمْ}: عندهم، ومعنى قوله {إذْ يُـلْقُونَ}: حين يـلقون أقلامهموأما أقلامهم فسهامهم التـي استهم بها الـمتسهمون من بنـي إسرائيـل علـى كفـالة مريـم، علـى ما قد بـينا قبل فـي قوله: {وَكَفّلَها زِكَرِيّا}.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٦٧٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} يعنـي مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم.

٥٦٧٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ}: زكريا وأصحابه استهموا بأقلامهم علـى مريـم حين دخـلت علـيهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٦٧٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}: كانت مريـم ابنة إمامهم وسيدهم، فتشاحّ علـيها بنو إسرائيـل، فـاقترعوا فـيها بسهامهم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا، وكان زوج أختها، فكفلها زكريا،

يقول: ضمها إلـيه.

٥٦٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ} قال: تساهموا علـى مريـم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا.

٥٦٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ}، وإن مريـم لـما وضعت فـي الـمسجد، اقترع علـيها أهل الـمصلـى، وهم يكتبون الوحي، فـاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها، فقال اللّه عزّ وجلّ لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}.

٥٦٧٩ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ}: اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريـم، فقرعهم زكريا.

٥٦٨٠ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن، فـي قوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ} قال: حيث اقترعوا علـى مريـم، وكان غيبـا عن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم حين أخبره اللّه .

وإنـما

قـيـل: {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَـمَ} لأن إلقاء الـمستهمين أقلامهم علـى مريـم إنـما كان لـينظروا أيهم أولـى بكفـالتها وأحقّ، ففـي قوله عزّ وجلّ: {إذْ يُـلْقُونَ أقْلامَهُمْ} دلالة علـى مـحذوف من الكلام، وهو: (لـينظروا أيهم يكفل، ولـيتبـينوا ذلك ويعلـموه).

فإن ظنّ ظانّ أن الواجب فـي (أيهم) النصب، إذ كان ذلك معناه، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن النظر والتبـين والعلـم مع أيّ يقتضي استفهاما واستـخبـارا، وحظّ (أيّ) فـي الاستـخبـار الابتداء، وبطول عمل الـمسألة والاستـخبـار عنه. وذلك أن معنى قول القائل: لأنظرنّ أيهم قام، لأستـخبرنّ الناس أيهم قام¹ وكذلك قولهم: لأعلـمنّ. وقد دللنا فـيـما مضى قبل أن معنى يكفُل يضمّ، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وما كنت يا مـحمد عند قوم مريـم، إذ يختصمون فـيها أيهم أحقّ بها وأولـى، وذلك من اللّه عزّ وجلّ وإن كان خطابـا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم، فتوبـيخ منه عزّ وجلّ للـمكذّبـين به من أهل الكتابـين،

يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم، وأنت تنبئهم هذه الأنبـاء ولـم تشهدها، ولـم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور، ولست مـمن قرأ الكتب فعلـم نبأهم، ولا جالس أهلها فسمع خبرهم. كما:

٥٦٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ} أي ما كنت معهم إذ يختصمون فـيها يخبره بخفـيّ ما كتـموا منه من العلـم عندهم، لتـحقـيق نبوّته والـحجة علـيهم، لـما يأتـيهم به مـما أخفوا منه.

٤٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَمَرْيَمُ ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {إذْ قَالَتِ الـمَلائِكَةُ} وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضا إذ قالت الـملائكة: يا مريـم إن اللّه يبشرك. والتبشير: إخبـار الـمرء بـما يسرّه من خبروقوله: {بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} يعنـي: برسالة من اللّه ، وخبر من عنده، وهو من قول القائل: ألقـى فلان إلـيّ كلـمة سرّنـي بها، بـمعنى: أخبرنـي خبرا فرحت به، كما قال جلّ ثناؤه: {وَكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ} يعنـي بشرى اللّه مريـم بعيسى ألقاها إلـيها.

فتأويـل الكلام: وما كنت يا مـحمد عند القوم إذ قالت الـملائكة لـمريـم: يا مريـم إن اللّه يبشرك ببشرى من عنده، هي ولد لك، اسمه الـمسيح عيسى ابن مريـم.

وقد قال قوم، وهو قول قتادة: إن الكلـمة التـي قال اللّه عزّ وجلّ بكلـمة منه، هوقوله: (كن).

٥٦٨٢ـ حدثنا بذلك الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: {بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} قال: قوله: (كن).

فسماه اللّه عزّ وجلّ كلـمته، لأنه كان عن كلـمته، كما يقال لـما قدر اللّه من شيء: هذا قدر اللّه وقضاؤه، يعنـي به: هذا عن قدر اللّه وقضائه حدث، وكما قال جلّ ثناؤه: {وَكانَ أمْرُ اللّه مَفْعُولاً} يعنـي به: ما أمر اللّه به، وهو الـمأمور الذي كان عن أمر اللّه عزّ وجلّ.

وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه اللّه بها كما سمى سائر خـلقه بـما شاء من الأسماء. ورُوي عن ابن عبـاس رضي اللّه عنه أنه قال: الكلـمة: هي عيسى.

٥٦٨٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: {إذْ قالَتِ الـمَلاَئِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} قال: عيسى هو الكلـمة من اللّه .

وأقرب الوجوه إلـى الصواب عندي القول الأول: وهو أن الـملائكة بشرت مريـم بعيسى عن اللّه عزّ وجلّ برسالته وكلـمته التـي أمرها أن تلقـيها إلـيها، أن اللّه خالق منها ولدا من غير بعل ولا فحل، ولذلك قال عزّ وجلّ: {اسْمُهُ الـمَسِيحُ} فذكّر، ولـم يقل اسمها فـيؤنث، والكلـمة مؤنثة، لأن الكلـمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بـمعنى فلان، وإنـما هي بـمعنى البشارة، فذكرت كنايتها، كما تذكر كناية الذرّية والدابة والألقاب، علـى ما قد بـيناه قبل فـيـما مضى.

فتأويـل ذلك كما قلنا آنفـا، من أن معنى ذلك: إن اللّه يبشركِ ببشرى، ثم بـين عن البشرى، أنها ولد اسمه الـمسيح.

وقد زعم بعض نـحويـي البصرة، أنه إنـما ذكّر فقال: {اسْمُهُ الـمَسِيحُ}، وقد قال: {بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ} والكلـمة عنده: هي عيسى، لأنه فـي الـمعنى كذلك، كما قال جلّ ثناؤه: {أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتا}، ثم قال: {بَلَـى قَدْ جاءَتْكَ آياتِـي فَكَذّبْتَ بِها} وكما يقال: ذو الثدية، لأن يده كانت قصيرة قريبة من ثديـيه، فجعلها كأن اسمها ثَدْيَة، ولولا ذلك لـم تدخـل الهاء فـي التصغير.

وقال بعض نـحويـي الكوفة نـحو قول من ذكرنا من نـحويـي البصرة، فـي أن الهاء من ذكر الكلـمة، وخالفه فـي الـمعنى الذي من أجله ذكر قوله {اسْمُهُ}، والكلـمة متقدمة قبله، فزعم أنه إنـما قـيـل اسمه، وقد قدمت الكلـمة، ولـم يقل اسمها، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فـيـما كان من النعوت والألقاب والأسماء التـي لـم توضع لتعريف الـمسمى به كفلان وفلان، وذلك مثل الذرّية والـخـلـيفة والدابة، ولذلك جاز عنده أن يقال: ذرّية طيبة، وذرّية طيبـا¹ ولـم يجز أن يقال: طلـحة أقبلت، ومغيرة قامت. وأنكر بعضهم اعتلال من اعتلّ فـي ذلك بذي الثدية،

وقالوا: إنـما أدخـلت الهاء فـي ذي الثدية لأنه أريد بذلك: القطعة من الثدي، كما

قـيـل: كنا فـي لـحمة ونبـيذة، يراد به: القطعة منه. وهذا القول نـحو قولنا الذي قلناه فـي ذلك.

وأما قوله: {اسْمُهُ الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ} فإنه جل ثناؤه أنبأ عبـاده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمه مريـم، ونفـى بذلك عنه ما أضاف إلـيه الـملـحدون فـي اللّه جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوته إلـى اللّه عزّ وجلّ، وما قَذَفَت أُمّهُ به الـمفتريةُ علـيها من الـيهود. كما:

٥٦٨٤ـ حدثنـي به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إذْ قالَتِ الـمَلائِكَةُ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الـمَسِيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ وَجِيها فِـي الدّنْـيَا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ}: أي هكذا كان أمره، لا ما يقولون فـيه.

وأما الـمسيح، فإنه فَعِيـل، صرّف من مفعول إلـى فعيـل، وإنـما هو مـمسوح، يعنـي: مسحه اللّه فطهره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيـم: الـمسيح الصديق....

٥٦٨٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، مثله.

وقال آخرون: مسح بـالبركة.

٥٦٨٦ـ حدثنا ابن البرقـي، قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: قال سعيد: إنـما سمي الـمسيح، لأنه مسح بـالبركة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجِيها فِـي الدّنْـيا وَالاَخِرَةِ وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ}.

يعنـي بقوله (وجيها): ذا وجه ومنزلة عالـية عند اللّه وشرف وكرامة، ومنه يقال للرجل الذي يشرف وتعظمه الـملوك والناس: وجيه¹ يقال منه: ما كان فلان وجيها، ولقد وَجُهَ وجاهةً، وإن له لَوَجْها عند السلطان، وجاها ووجاهة. والـجاه: مقلوب قلبت واوه من أوّله إلـى موضع العين منه، فقـيـل جاه، وإنـما هو وجه وفعل من الـجاه: جَاهَ يَجُوهُ، مسموع من العرب: أخاف أن يجوهنـي بأكثر من هذا، بـمعنى: أن يستقبلنـي فـي وجهي بأعظم منهوأما نصب الوجيه فعلـى القطع من عيسى، لأن عيسى معرفة، ووجيه نكرة، وهو من نعته، ولو كان مخفوضا علـى الردّ علـى الكلـمة كان جائزا.

وكما قلنا من أن تأويـل ذلك وجيها فـي الدنـيا والاَخرة عند اللّه ، قال فـيـما بلغنا مـحمد بن جعفر.

٥٦٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَجِيها} قال: وجيها فـي الدنـيا والاَخرة عند اللّه .

وأما قوله: {وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ} فإنه يعنـي: أنه مـمن يقرّبه اللّه يوم القـيامة، فـيسكنه فـي جواره، ويدنـيه منه. كما:

٥٦٨٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ}

يقول: من الـمقرّبـين عند اللّه يوم القـيامة.

٥٦٨٩ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَمِنَ الـمُقَرّبِـينَ}

يقول: من الـمقرّبـين عند اللّه يوم القـيامة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٤٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ }

أما قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ} فإن معناه: أن اللّه يبشرك بكلـمة منه اسمه الـمسيح عيسى ابن مريـم، وجيها عند اللّه ، ومكلـما الناس فـي الـمهد. فـ(يكلّـم) وإن كان مرفوعا، لأنه فـي صورة (يَفْعَلُ) بـالسلامة من العوامل فـيه، فإنه فـي موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر:

بِتّ أُعَشّيها بِعَضْبٍ بـاتِرِيَقْصِدُ فـي أسْوُقِها وَجائِرِ

وأما الـمهد: فإنه يعنـي به مضجع الصبـيّ فـي رضاعه. كما:

٥٦٩٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَيُكَلّـمُ النّاسِ فِـي الـمَهْدِ} قال: مضجع الصبـيّ فـي رضاعه.

وأما قوله: {وَكَهْلاً} فإندده ومـحتَنِكا فوق الغلومة ودون الشيخوخة، يقال منه: رجل كهل، وامرأة كهلة، كما قال الراجز:

وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيّاأُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصّبِـيّا

وإنـما عنى جل ثناؤه بقوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً}: ويكلـم الناس طفلاً فـي الـمهد، دلالة علـى براءة أمه مـما قذفها به الـمفترون علـيها، وحجة له علـى نبوّته، وبـالغا كبـيرا بعد احتناكه بوحي اللّه الذي يوحيه إلـيه، وأمره ونهيه، وما تقوّل علـيه من كتابه. وإنـما أخبر اللّه عزّ وجلّ عبـاده بذلك من أمر الـمسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلـمون كهولاً وشيوخا، احتـجاجا به علـى القائلـين فـيه من أهل الكفر بـاللّه من النصارى بـالبـاطل، وأنه كان فـي معاناة أشياء مولودا طفلاً، ثم كهلاً يتقلّب فـي الأحداث، ويتغير بـمرور الأزمنة علـيه والأيام، من صغر إلـى كبر، ومن حال إلـى حال، وأنه لو كان كما قال الـملـحدون فـيه، كان ذلك غير جائز علـيه، فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نـجران، الذين حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيه، واحتـجّ به علـيهم لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وأعلـمهم أنه كان كسائر بنـي آدم، إلا ما خصه اللّه به من الكرامة التـي أبـانه بها منهم. كما:

٥٦٩١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} يخبرهم بحالاته التـي يتقلب بها فـي عمره كتقلب بنـي آدم فـي أعمارهم صغارا وكبـارا، إلا أن اللّه خصه بـالكلام فـي مهده آية لنبوّته، وتعريفـا للعبـاد مواقع قدرته.

٥٦٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ}

يقول: يكلـمهم صغيرا وكبـيرا.

٥٦٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: يكلـمهم صغيرا وكبـيرا.

٥٦٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} قال: الكهل: الـحلـيـم.

٥٦٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: كلـمهم صغيرا وكبـيرا وكهلاً

وقال ابن جريج، وقال مـجاهد: الكهل: الـحلـيـم.

٥٦٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: كلـمهم فـي الـمَهْدِ صَبِـيّا، وكلـمهم كبـيرا.

وقال آخرون: معنى قوله: {وَكَهْلاً}: أنه سيكلـمهم إذا ظهر. ذكر من قال ذلك:

٥٦٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته ـ يعنـي ابن زيد ـ يقول فـي قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: قد كلـمهم عيسى فـي الـمهد، وسيكلـمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذٍ كهل.

ونصب كهلاً عطفـا علـى موضع: ويكلـم الناسوأما قوله: {وَمِنَ الصّالِـحِينَ} فإنه يعنـي: من عدادهم وأولـيائهم لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض فـي الدين والفضل.

٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قالت مريـم ـ إذ قالت لها الـملائكة: إن اللّه يبشرك بكلـمة منه ـ: ربّ أنى يكون لـي ولد: من أي وجه يكون لـي ولد؟ أمن قِبَل زوج أتزوّجه وبعل أنكحه؟ أو تبتدىء فـي خـلقه من غير بعل ولا فحل، ومن غير أن يـمسنـي بشر؟ فقال اللّه لها: {كَذَلِك اللّه يَخْـلُقُ ما يَشاءُ} يعنـي: هكذا يخـلق اللّه منك ولدا لك من غير أن يـمسك بشر، فـيجعله آية للناس وعبرة، فإنه يخـلق ما يشاء، ويصنع ما يريد، فـيعطي الولد من شاء من غير فحل ومن فحل، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل، لأنه لا يتعذّر علـيه خـلق شيء أراد خـلقه، إنـما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد، فـيقول له كن فـيكون ما شاء مـما يشاء، وكيف شاء. كما:

٥٦٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {قَالَتْ رَبّ أنّى يَكُونُ لِـي وَلَدٌ وَلَـمْ يَـمْسَسْنِـي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّه يَخْـلُقُ مَا يَشَاءُ}: يصنع ما أراد ويخـلق ما يشاء من بشر أو غير بشر: أي إذا قضى أمرا فإنـما يقول له كن فـيكون، مـما يشاء، وكيف يشاء، فـيكون ما أراد.

٤٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ }

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـحجاز والـمدينة وبعض قراء الكوفـيـين: {وَيُعَلّـمُهُ} بـالـياء ردّا علـى قوله: {كَذَلِكِ اللّه يَخْـلُقُ مَا يَشاءُ وَيُعَلّـمُهُ الكِتابَ} فألـحقوا الـخبر فـي قوله: {وَيُعَلّـمُهُ}، بنظير الـخبر فـي قوله: {يَخْـلُقُ مَا يَشاءُ}،

وقوله: {فَـإِنّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين وبعض البصريـين: (وَنُعَلّـمُهُ) بـالنون عطفـا به علـى قوله: {نُوحِيهِ إِلَـيْكَ} كأنه قال: ذلك من أنبـاء الغيب نوحيه إلـيك، ونعلـمه الكتاب. و

قالوا: ما بعد (نوحيه) فـي صلته، إلـى قوله: (كن فـيكون)، ثم عطف بقوله: (ونعلـمه علـيه).

والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أنهما قراءتان مختلفتان غير مختلفتـي الـمعانـي، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الصواب فـي ذلك لاتفـاق معنى القراءتـين فـي أنه خبر عن اللّه بأنه يعلـم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلـمه، وهذا ابتداء خبر من اللّه عزّ وجلّ لـمريـم ما هو فـاعل بـالولد الذي بشرها به من الكرامة، ورفعة الـمنزلة والفضيـلة،

فقال: كذلك اللّه يخـلق منك ولدا، من غير فحل ولا بعل، فـيعلـمه الكتاب، وهو الـخط الذي يخطه بـيده، والـحكمة: وهي السنة التـي نوحيها إلـيه فـي غير كتاب، والتوراة: وهي التوراة التـي أنزلت علـى موسى، كانت فـيهم من عهد موسى، والإنـجيـل: إنـجيـل عيسى، ولـم يكن قبله، ولكن اللّه أخبر مريـم قبل خـلق عيسى أنه موحيه إلـيه، وإنـما أخبرها بذلك، فسماه لها، لأنها قد كانت علـمت فـيـما نزل من الكتب أن اللّه بـاعث نبـيا يوحى إلـيه كتابـا اسمه الإنـجيـل، فأخبرها اللّه عزّ وجلّ أن ذلك النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الذي سمعت بصفته الذي وعد أنبـياءه من قبل أنه منزل علـيه الكتاب الذي يسمى إنـجيلاً، هو الولد الذي وهبه لها، وبشرها به.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك، قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٦٩٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: (وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ) قال: بـيده.

٥٧٠٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ والـحِكْمَةَ) قال: الـحكمة: السنة.

٥٧٠١ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر¹ عن أبـيه، عن قتادة، فـي قوله: (وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْـجِيـلَ) قال: الـحكمة: السنة، {وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْـجِيـل} قال: كان عيسى يقرأ التوراة والإنـجيـل.

٥٧٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: (وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ) قال: الـحكمة: السنة.

٥٧٠٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير، قال: أخبرها ـ يعنـي: أخبر اللّه مريـم ما يريد به ـ فقال: (وَنُعَلّـمُهُ الكِتابَ وَالـحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ) التـي كانت فـيهم من عهد موسى {وَالإِنْـجِيـلَ} كتابـا آخر أحدثه إلـيه، لـم يكن عندهم علـمه إلا ذكره أنه كائن من الأنبـياء قبله.

٤٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَسُولاً إِلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رّبّكُمْ ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَرَسُولاً}: ونـجعله رسولاً إلـى بنـي إسرائيـل، فترك ذكر (ونـجعله)، لدلالة الكلام علـيه، كما قال الشاعر:

ورأيتِ زَوْجَكِ فـي الوَغَىمُتَقَلّدا سَيْفـا وَرُمْـحا

وقوله: {أنّـي قَدْ جِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ} بـمعنى: ونـجعله رسولاً إلـى بنـي إسرائيـل بأنه نبـيّ وبشير ونذير¹ وحجتـي عن صدقـي علـى ذلك، أنـي قد جئتكم بآية من ربكم، يعنـي بعلامة من ربكم تـحقق قولـي وتصدّق خبري، أنـي رسول من ربكم إلـيكم. كما:

٥٧٠٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَرَسُولاً إلـى بَنِـي إِسْرَائِيـلَ أنّـي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبْكُمْ} أي تـحقق بها نبوّتـي، وأنـي رسول منه إلـيكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْرا بِإذْنِ اللّه }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ورسولاً إلـى بنـي إسرائيـل أنـي قد جئتكم بآية من ربكم. ثم بـين عن الاَية ما هي،

فقال: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ}. فتأويـل الكلام: ورسولاً إلـى بنـي إسرائيـل بأنـي قد جئتكم بآية من ربكم بأن أخـلق لكم من الطين كهيئة الطير. والطير جمع طائر.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعض أهل الـحجاز: (كهيئة الطائر فأنفخ فـيه فـيكون طائرا)، علـى التوحيد. وقرأه آخرون: {كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَـأَنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْرا} علـى الـجماع كلـيهما.

وأعجب القراءات إلـيّ فـي ذلك قراءة من قرأ: {كَهَيْئَةِ الطّيْرِ فَـأَنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْرا}، علـى الـجماع فـيهما جميعا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن اللّه ، وأنه موفق لـخط الـمصحف، واتبـاع خط الـمصحف مع صحة الـمعنى، واستفـاضة القراءة به أعجب إلـيّ من خلاف الـمصحف.

وكان خـلق عيسى: ما كان يخـلق من الطير. كما:

٥٧٠٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق: أن عيسى صلوات اللّه علـيه، جلس يوما مع غلـمان من الكتاب، فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟

قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربـي! ثم هيأه حتـى إذا جعله فـي هيئة الطائر نفخ فـيه، ثم قال: كن طائرا بإذن اللّه ! فخرج يطير بـين كفـيه، فخرج الغلـمان بذلك من أمره فذكروه لـمعلـمهم، فأفشوه فـي الناس. وترعرع. فهمّت به بنو إسرائيـل، فلـما خافت أمه علـيه حملته علـى حُمَيّر لها ثم خرجت به هاربة.

وذكر أنه لـما أراد أن يخـلق الطير من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خـلقا؟ فقـيـل له الـخفـاش. كما:

٥٧٠٦ـ حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قوله: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ} قال: أيّ الطير أشدّ خـلقا؟

قالوا: الـخفـاش إنـما هو لـحم، قال ففعل.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: {فأنْفُخُ فِـيهِ} وقد

قـيـل: {أنّـي أخْـلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ}؟

قـيـل: لأن معنى الكلام: فأنفخ فـي الطير. ولو كان ذلك: فأنفخ فـيها، كان صحيحا جائزا، كما قال فـي الـمائدة: (فأنْفُخُ فِـيها) يريد: فأنفخ فـي الهيئة، وقد ذكر أن ذلك فـي إحدى القراءتـين: (فأنفخها)، بغير (فـي)، وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول: ربّ لـيـلة قد بتها وبتّ فـيها، قال الشاعر:

ما شُقّ جَيْبٌ ولا قَامَتْكَ نائحةٌولا بكَتْكَ جِيادٌ عندَ أسْلابِ

بـمعنى: ولا قامت علـيك. وكما قال الاَخر:

إحْدَى بَنِـي عَيّذِ اللّه اسْتَـمَرّ بِهَاحُلْوُ العُصَارَةِ حتـى يُنْفَخَ الصّورُ

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ}.

يعنـي بقوله: {وأبْرِىءُ}: وأشفـي، يقال منه: أبرأ اللّه الـمريض: إذا شفـاه منه، فهو يبرئه إبراءً، وبرأ الـمريض فهو يبرأ برءا، وقد يقال أيضا: برىء الـمريض فهو يبرأ، لغتان معروفتان.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الأكمه،

فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بـاللـيـل، ويبصر بـالنهار. ذكر من قال ذلك:

٥٧٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأكمه: الذي يبصر بـالنهار، ولا يبصر بـاللـيـل، فهو يَتَكَمّهُ.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك. ذكر من قال ذلك:

٥٧٠٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نـحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينـين.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ} قال: كنا نـحدّث أن الأكمه الذي ولد وهو أعمى مضموم العينـين.

٥٧٠٩ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس قال: الأكمه: الذي يولد وهو أعمى.

وقال آخرون: بل هو الأعمى. ذكر من قال ذلك:

٥٧١٠ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وأُبْرِىءُ الأكمَهَ}: هو الأعمى.

٥٧١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاح، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : الأعمى.

٥٧١٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأكمه: الأعمى.

٥٧١٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأعمى.

وقال آخرون: هو الأعمش. ذكر من قال ذلك:

٥٧١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة فـي قوله: {وأُبْرِىءُ الأكْمَهَ} قال: الأعمش.

والـمعروف عند العرب من معنى الكَمَهِ: العمى، يقال منه: كَمِهَتْ عينه، فهي تَكْمَهُ كمَهَا، وأكمهتها أنا: إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبـي كاهل:

كمِهَتْ عَيْناهُ حتـى ابْـيَضّتافَهُوَ يَـلْـحَى نَفْسَهُ لـما نَزَعْ

ومنه قول رؤبة:

هَرّجْتُ فـارْتَدّ ارْتدادَ الأكْمَهِفـي غائلاتِ الـحائِرِ الـمُتَهْتَهِ

وإنـما أخبر اللّه عزّ وجلّ عن عيسى صلوات اللّه علـيه، أنه يقول ذلك لبنـي إسرائيـل، احتـجاجا منه بهذه العِبر والاَيات علـيهم فـي نبوّته، وذلك أن الكَمَه والبَرَص لا علاج لهما، فـيقدر علـى إبرائه ذو طبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته علـى صدق قـيـله، إنه لله رسول، لأنه من الـمعجزات مع سائر الاَيات التـي أعطاه اللّه إياها دلالة علـى نبوّته. فأما ما قال عكرمة، من أن الكمه: العمش، وما قاله مـجاهد: من أنه سوء البصر بـاللـيـل، فلا معنى لهما، لأن اللّه لا يحتـجّ علـى خـلقه بحجة تكون لهم السبـيـل إلـى معارضته فـيها، ولو كان مـما احتـجّ به عيسى علـى بنـي إسرائيـل فـي نبوّته أنه يبرىء الأعمش، أو الذي يبصر بـالنهار ولا يبصر بـاللـيـل لقدروا علـى معارضته بأن يقولوا: وما فـي هذا لك من الـحجة، وفـينا خـلق مـما يعالـج ذلك ولـيسوا لله أنبـياء ولا رسلاً، ففـي ذلك دلالة بـينة علـى صحة ما قلنا من أن الأكمه: هو الأعمى الذي لا يبصر شيئا لا لـيلاً ولا نهارا، وهو بـما قال قتادة: من أنه الـمولود كذلك أشبه، لأن علاج مثل ذلك لا يدّعيه أحد من البشر، إلا من أعطاه اللّه مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاج الأبرص.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأُحْيِـي الـمَوْتَـى بإذْنِ اللّه وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}. وكان إحياء عيسى الـموتـى بدعاء اللّه ، يدعو لهم، فـيستـجيب له. كما:

٥٧١٥ـ حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه

يقول: لـما صار عيسى ابن اثنتـي عشرة سنة، أوحى اللّه إلـى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلـى أرض مصر أن اطلعي به إلـى الشام، ففعلت الذي أمرت به فلـم تزل بـالشام حتـى كان ابن ثلاثـين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنـين، ثم رفعه اللّه إلـيه

قال: وزعم وهب أنه ربـما اجتـمع علـى عيسى من الـمرضى فـي الـجماعة الواحدة خمسون ألفـا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لـم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يـمشي إلـيه، وإنـما كان يداويهم بـالدعاء إلـى اللّه .

وأما قوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ} فإنه يعنـي: وأخبركم بـما تأكلونه مـما لـم أعاينه وأشاهده معكم فـي وقت أكْلِكُمُوهُ. {وما تَدّخِرُونَ}. يعنـي بذلك: وما ترفعونه فتـخبئونه ولا تأكلونه، يعلـمهم أن من حجته أيضا علـى نبوّته ـ مع الـمعجزات التـي أعلـمهم أنه يأتـي بها حجة علـى نبوّته وصدقه فـي خبره، أن اللّه أرسله إلـيهم: من خـلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الـموتـى بإذن اللّه ، التـي لا يطيقها أحد من البشر، إلا من أعطاه اللّه ذلك، علـما له علـى صدقه، وآية له علـى حقـيقة قوله من أنبـيائه ورسله، ومن أحبّ من خـلقه ـ إنبـاءَه عن الغيب الذي لا سبـيـل لأحد من البشر الذين سبـيـلهم سبـيـله علـيه.

فإن قال قائل: وما كان فـي قوله لهم: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} من الـحجة له علـى صدقه، وقد رأينا الـمتنـجمة والـمتكهنة تـخبر بذلك كثـيرا فتصيب؟

قـيـل: إن الـمتنـجم والـمتكهن معلوم منهما عند من يخبره بذلك أنهما ينبئان به عن استـخراج له ببعض الأسبـاب الـمؤدية إلـى علـمه، ولـم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات اللّه علـيه، ومن سائر أنبـياء اللّه ورسله، وإنـما كان عيسى يخبر به عن غير استـخراج ولا طلب لـمعرفته بـاحتـيال، ولكن ابتداءً بـاعلام اللّه إياه من غير أصل تقدّم ذلك¹ احتذاه، أو بنى علـيه أو فزع إلـيه، كما يفزع الـمتنـجم إلـى حسابه، والـمتكهن إلـى رئيّه، فذلك هو الفصل بـين علـم الأنبـياء بـالغيوب وإخبـارهم عنها، وبـين علـم سائر الـمتكذبة علـى اللّه ، أو الـمدّعية علـم ذلك. كما:

٥٧١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما بلغ عيسى تسع سنـين أو عشرا أو نـحو ذلك، أدخـلته أمه الكتاب فـيـما يزعمون، فكان عند رجل من الـمكتبـين يعلـمه كما يعلـم الغلـمان، فلا يذهب يعلـمه شيئا مـما يعلـمه الغلـمان إلا بدره إلـى علـمه قبل أن يعلـمه إياه، فـ

يقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرملة، ما أذهب أعلـمه شيئا إلا وجدته أعلـم به منـي.

٥٧١٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: لـما كبر عيسى أسلـمته أمه يتعلـم التوراة، فكان يـلعب مع الغلـمان، غلـمان القرية التـي كان فـيها، فـيحدّث الغلـمان بـما يصنع آبـاؤهم.

٥٧١٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: كان عيسى ابن مريـم إذ كان فـي الكُتّاب يخبرهم بـما يأكلون فـي بـيوتهم وما يدّخرون.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، قال: سمعت سعيد بن جبـير

يقول: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: إن عيسى ابن مريـم كان يقول للغلام فـي الكتاب: يا فلان إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام فتطعمنـي منه؟

فهكذا فعل الأنبـياء وحججها إنـما تأتـي بـما أتت به من الـحجيج بـما قد يوصل إلـيه من ذلك الوجه بحيـلة إلا من قبل اللّه .

وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله: {وأُنَبّئُكُمُ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٧١٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: بـما أكلتـم البـارحة، وما خبأتـم منه¹ عيسى ابن مريـم يقوله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٧٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح يعنـي قوله: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَما تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: الطعام والشيء يدّخرونه فـي بـيوتهم غيبـا علـمه اللّه إياه.

٥٧٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: ما تأكلون: ما أكلتـم البـارحة من طعام، وما خبأتـم منه.

٥٧٢٢ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: كان ـ يعنـي عيسى ابن مريـم ـ يحدّث الغلـمان وهو معهم فـي الكتاب بـما يصنع آبـاؤهم، وبـما يرفعون لهم، وبـما يأكلون ويقول للغلام: انطلق فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا، فـينطلق الصبـيّ فـيبكي علـى أهله حتـى يعطوه ذلك الشيء، فـيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فـ

يقول: عيسى، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} فحبسوا صبـيانهم عنه، و

قالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم فـي بـيت، فجاء عيسى يطلبهم،

فقالوا: لـيس هم ههنا،

فقال: ما فـي هذا البـيت؟

فقالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون! ففتـحوا عنهم فإذا هم خنازير، فذلك قوله: {عَلَـى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيَسى ابْنِ مَرْيَـمَ}.

٥٧٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} قال: ما تـخبئون مخافة الذي يـمسك أن لا يخـلفه شيء.

وقال آخرون: إنـما عنى بقوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}: ما تأكلون من الـمائدة التـي تنزل علـيكم، وما تدخرون منها. ذكر من قال ذلك:

٥٧٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ} فكان القوم لـما سألوا الـمائدة، فكانت جرابـا ينزل علـيه أينـما كانوا ثمرا من ثمار الـجنة، فأمر القوم أن لا يخونوا فـيه، ولا يخبئوا، ولا يدّخروا لغد، بلاء ابتلاهم اللّه به، فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به عيسى ابن مريـم،

فقال: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ فِـي بُـيُوتِكُمْ}.

٥٧٢٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {وأُنَبّئُكُمْ بِـمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدّخِرُونَ} قال: أنبئكم بـما تأكلون من الـمائدة، وما تدّخرون منها

قال: فكان أخذ علـيهم فـي الـمائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا، فـادّخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا، فذلك قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَـإِنّـي أُعَذّبُهُ عَذَابـا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العَالَـمِينَ}. قال ابن يحيـى: قال عبد الرزاق: قال معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر ذلك.

وأصل يدّخرون من الفعل يَفْتَعِلون، من قول القائل: ذخرت الشيء بـالذال، فأنا أذخره، ثم

قـيـل: يدّخر كما

قـيـل: يدّكر، من ذكرت الشيء، يراد به يذتـخر، فلـما اجتـمعت الذال والتاء وهما متقاربتا الـمخرج، ثقل إظهارهما علـى اللسان، فأدغمت إحداهما فـي الأخرى وصيرتا دالاً مشددة صيروها عدلاً بـين الذال والتاء، ومن العرب من يغلب الذال علـى التاء فـيدغم التاء فـي الذال، فـ

يقول: وما تذّخرون وهو مذّخر لك، وهو مذّكر، واللغة التـي بها القراءة الأولـى، وذلك إدغام الذال فـي التاء، وإبدالهما دالاً مشددة لا يجوز القراءة بغيرها لتظاهر النقل من القراء بها، وهو اللغة الـجُودَى، كما قال زهير:

إِنّ الكَرِيـمَ الذي يُعْطيكَ نائلَهُعَفْوا وَيُظْلَـمُ أحْيانا فَـيَظّلِـمُ

يروى بـالظاء، يريد: فـيفتعل من الظلـم، ويروى بـالطاء أيضا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِـي ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: إن فـي خـلقـي من الطين الطير بإذن اللّه ، وفـي إبرائي الأكمه والأبرص، وإحيائي الـموتـى، وإنبـائي إياكم بـما تأكلون، وما تدخرون فـي بـيوتكم، ابتداء من غير حساب وتنـجيـم، ولا كهانة وعرافة، لعبرة لكم، ومتفكرا تتفكرون فـي ذلك، فتعتبرون به أنـي مـحقّ فـي قولـي لكم: إنـي رسول من ربكم إلـيكم، وتعلـمون به أنـي فـيـما أدعوكم إلـيه من أمر اللّه ونهيه صادق، إن كنتـم مؤمنـين، يعنـي: إن كنتـم مصدّقـين حجج اللّه وآياته، مقرّين بتوحيده ونبـيه موسى، والتوراة التـي جاءكم بها.

٥٠

 

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وبأنـي قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدّقا لـما بـين يديّ من التوراة، ولذلك نصب (مصدّقا) علـى الـحال من جئتكم. والذي يدلّ علـى أنه نصب علـى قوله وجئتكم دون العطف علـى قوله: (وجيها)، قوله: {لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ} ولو كان عطفـا علـى قوله: (وجيها)، لكان الكلام: ومصدّقا لـما بـين يديه من التوراة، ولـيحلّ لكم بعض الذي حرّم علـيكم. وإنـما

قـيـل: {ومُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ} لأن عيسى صلوات اللّه علـيه كان مؤمنا بـالتوراة مقرّا بها، وأنها من عند اللّه ، وكذلك الأنبـياء كلهم يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب اللّه ورسله، وإن اختلف بعض شرائع أحكامهم لـمخالفة اللّه بـينهم فـي ذلك، مع أن عيسى كان فـيـما بلغنا عاملاً بـالتوراة، لـم يخالف شيئا من أحكامها إلا ما خفف اللّه عن أهلها فـي الإنـجيـل مـما كان مشدّدا علـيهم فـيها. كما:

٥٧٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه

يقول: إن عيسى كان علـى شريعة موسى صلى اللّه عليه وسلم، وكان يسبت ويستقبل بـيت الـمقدس، فقال لبنـي إسرائيـل: إنـي لـم أدعكم إلـى خلاف حرف مـما فـي التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم علـيكم، وأضع عنكم من الاَصار.

٥٧٢٧ـ حدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَمُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} كان الذي جاء به عيسى ألـين مـما جاء به موسى، وكان قد حرّم علـيهم فـيـما جاء به موسى لـحوم الإبل والثروب، وأشياء من الطير والـحيتان.

٥٧٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، فـي قوله: {وَمُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} قال: كان الذي جاء به عيسى ألـين من الذي جاء به موسى، قال: وكان حرّم علـيهم فـيـما جاء به موسى من التوراة لـحوم الإبل والثروب فأحلها لهم علـى لسان عيسى، وحرّمت علـيهم الشحوم، وأحلت لهم فـيـما جاء به عيسى، وفـي أشياء من السمك، وفـي أشياء من الطير مـما لا صِيصِيَةَ له، وفـي أشياء حرّمها علـيهم، وشدّدها علـيهم، فجاءهم عيسى بـالتـخفـيف منه فـي الإنـجيـل، فكان الذي جاء به عيسى ألـين من الذي جاء به موسى، صلوات اللّه علـيه.

٥٧٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {ولأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} قال: لـحوم الإبل والشحوم لـما بعث عيسى أحلها لهم، وبعث إلـى الـيهود فـاختلفوا وتفرّقوا.

٥٧٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَمُصَدّقا لِـمَا بَـيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ} أي لـما سبقنـي منها، {ولأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} أي أخبركم أنه كان حراما علـيكم، فتركتـموه، ثم أحله لكم تـخفـيفـا عنكم، فتصيبون يسره وتـخرجون من تِبَـاعته.

٥٧٣١ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن: {وَلأُحِلّ لَكُمْ بَعْضَ الّذِي حُرّمَ عَلَـيْكُمْ} قال: كان حرّم علـيهم أشياء، فجاءهم عيسى لـيحلّ لهم الذي حرّم علـيهم، يبتغي بذلك شكرهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجِئْتُكُمْ بآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ}.

يعنـي بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلـمون بها حقـيقة ما أقول لكم. كما:

٥٧٣٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيج، عن مـجاهد: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ} قال: ما بـيّن لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ}: ما بـين لهم عيسى من الأشياء كلها.

ويعنـي بقوله: {مِنْ رَبّكُمْ}: من عند ربكم .

٥١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـاتّقُوا اللّه وأطِيعُونِ إِنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ فـاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ}.

يعنـي بذلك: وجئتكم بآية من ربكم، تعلـمون بها يقـينا صدقـي فـيـما أقول، فـاتقوا اللّه يا معشر بنـي إسرائيـل فـيـما أمركم به، ونهاكم عنه فـي كتابه الذي أنزله علـى موسى فأوفوا بعهده الذي عاهدتـموه فـيه، وأطيعون فـيـما دعوتكم إلـيه من تصديقـي فـيـما أرسلنـي به إلـيكم، ربـي وربكم فـاعبدوه، فإنه بذلك أرسلنـي إلـيكم، وبإحلال بعض ما كان مـحرّما علـيكم فـي كتابكم، وذلك هو الطريق القويـم، والهدى الـمتـين الذي لا اعوجاج فـيه.) كما:

٥٧٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فـاتّقُوا اللّه وَأطِيعُونِ إِنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ} تبريا من الذي يقولون فـيه، يعنـي ما يقول فـيه النصارى واحتـجاجا لربه علـيهم، فـاعبدوه، و{هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِـيـمٌ} أي الذي هذا قد حملتكم علـيه وجئتكم به.

واختلفت القراء فـي قراءة قوله: {إِنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ فـاعْبُدُوهُ} فقرأته عامة قرّاء الأمصار: {إِنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ فَـاعْبُدُوهُ} بكسر ألف (إنّ) علـى ابتداء الـخبر، وقرأه بعضهم: (أنّ اللّه رَبّـي وَرَبّكُمْ) بفتـح ألف (أن) بتأويـل: وجئتكم بآية من ربكم أن اللّه ربـي وربكم، علـى ردّ أن علـى الاَية، والإبدال منها.

والصواب من القراءة عندنا ما علـيه قراء الأمصار، وذلك كسر ألف (إن) علـى الابتداء، لإجماع الـحجة من القراء علـى صحة ذلك، وما اجتـمعت علـيه فحجة، وما انفرد به الـمنفرد عنها فرأي، ولا يعترض بـالرأي علـى الـحجة. وهذه الاَية، وإن كان ظاهرها خبرا، ففـيه الـحجة البـالغة من اللّه لرسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم علـى الوفد الذين حاجوه من أهل نـجران بإخبـار اللّه عزّ وجلّ، عن أن عيسى كان بريئا مـما نسبه إلـيه من نسبه، غير الذي وصف به نفسه، من أنه لله عبد كسائر عبـيده من أهل الأرض إلا ما كان اللّه جل ثناؤه خصه به من النبوّة والـحجج التـي آتاه دلـيلاً علـى صدقه، كما آتـى سائر الـمرسلـين غيره من الأعلام والأدلة علـى صدقهم، والـحجة علـى نبوّتهم.

٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَىَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّه ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} فلـما وجد عيسى منهم الكفر. والإحساس: هو الوجود، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: {هَلْ تُـحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ}. فأما الـحسّ بغير ألف، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: {إذْ تَـحُسّونَهُمْ بِإذْنِهِ} والـحسّ أيضا: العطف والرقة. ومنه قول الكميت:

هَلْ مَنْ بَكَى الدّارَ رَاجٍ أنْ تَـحِسّ لَهُأوْ يُبْكِيَ الدّارَ ماءُ العَبْرَة الـخَضِلُ

يعنـي بقوله: أن تـحسّ له: أن ترق له.

فتأويـل الكلام: فلـما وجد عيسى من بنـي إسرائيـل الذين أرسله اللّه إلـيهم جحودا لنبوّته، وتكذيبـا لقوله، وصدّا عما دعاهم إلـيه من أمر اللّه ، قال: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه } يعنـي بذلك: قال عيسى: من أعوانـي علـى الـمكذّبـين بحجة اللّه ، والـمولـين عن دينه، والـجاحدين نبوّة نبـيه إلـى اللّه عزّ وجلّ، ويعنـي بقوله {إلـى اللّه }: مع اللّه ، وإنـما حسن أن يقال إلـى اللّه ، بـمعنى: مع اللّه ، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلـى غيره، ثم أرادوا الـخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الاَخر إذا ضمّ إلـيه جعلوا مكان مع إلـى أحيانا، وأحيانا تـخبر عنهما بـمع، فتقول الذود إلـى الذود إبل، بـمعنى: إذا ضمـمت الذود إلـى الذود صارت إبلاً، فأما إذا كان الشيء مع الشيء لـم يقولوه بإلـى ولـم يجعلوا مكان مع إلـى غير جائز أن يقال: قدم فلان وإلـيه مال، بـمعنى: ومعه مال.

وبـمثل ما قلنا فـي تأويـل قوله: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه } قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٧٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي قوله: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه }

يقول: مع اللّه .

٥٧٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه }

يقول: مع اللّه .

وأما سبب استنصار عيسى علـيه السلام من استنصر من الـحواريـين، فإن بـين أهل العلـم فـيه اختلافـا،

فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:

٥٧٣٦ـ حدثنـي به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: لـما بعث اللّه عيسى، فأمره بـالدعوة، نفته بنو إسرائيـل وأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحون فـي الأرض، فنزل فـي قرية علـى رجل، فضافهم وأحسن إلـيهم، وكان لتلك الـمدينة ملك جبـار معتد، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع علـيه همّ وحزن، فدخـل منزله ومريـم عند امرأته، فقالت مريـم لها: ما شأن زوجك أراه حزينا؟ قالت: لا تسألـي، قالت: أخبرينـي لعلّ اللّه يفرّج كربته، قالت: فإن لنا ملكا يجعل علـى كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده، ويسقـيهم من الـخمر، فإن لـم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته الـيوم الذي يريد أن نصنع له فـيه، ولـيس لذلك عندنا سعة، قالت: فقولـي له: لا يهتـمّ، فإنـي آمر ابنـي فـيدعو له، فـيكفـى ذلك، قالت مريـم لعيسى فـي ذلك، قال عيسى: يا أمه إنـي إن فعلت كان فـي ذلك شرّ، قالت: فلا تبـال، فإنه قد أحسن إلـينا وأكرمنا، قال عيسى: فقولـي له: إذا اقترب ذلك فـاملأ قدورك وخوابـيك ماء ثم أعلـمنـي، قال: فلـما ملأهنّ أعلـمه، فدعا اللّه ، فتـحوّل ما فـي القدور لـحما ومرقا وخبزا، وما فـي الـخوابـي خمرا لـم ير الناس مثله قط وإياه طعاما¹ فلـما جاء الـملك أكل، فلـما شرب الـخمر سأل من أين هذه الـخمر؟ قال له: هي من أخرى كذا وكذا، قال الـملك: فإن خمري أوتـي بها من تلك الأرض فلـيس هي مثل هذه، قال: هي من أرض أخرى¹ فلـما خـلط علـى الـملك اشتدّ علـيه، قال: فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا اللّه ، فجعل الـماء خمرا، قال الـملك، وكان له ابن يريد أن يستـخـلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحبّ الـخـلق إلـيه،

فقال: إن رجلاً دعا اللّه حتـى جعل الـماء خمرا، لـيستـجابنّ له حتـى يحيـي ابنـي، فدعا عيسى فكلـمه، فسأله أن يدعو اللّه فـيحيـي ابنه، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرّا، فقال الـملك: لا أبـالـي، ألـيس أراه، فلا أبـالـي ما كان، فقال عيسى علـيه السلام: فإن أحيـيته تتركونـي أنا وأمي نذهب أينـما شئنا، قال الـملك: نعم، فدعا اللّه ، فعاش الغلام¹ فلـما رآه أهل مـملكته قد عاش، تنادوا بـالسلاح، و

قالوا: أكلنا هذا حتـى إذا دنا موته يريد أن يستـخـلف ابنه فـيأكلنا كما أكلنا أبوه، فـاقتتلوا، وذهب عيسى وأمه، وصحبهما يهودي، وكان مع الـيهودي رغيفـان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركنـي، فقال الـيهودي: نعم، فلـما رأى أنه لـيس مع عيسى إلا رغيب ندم¹ فلـما نام جعل الـيهودي يريد أن يأكل الرغيف، فلـما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فـ

يقول: لا شيء، فـيطرحها، حتـى فرغ من الرغيف كله¹ فلـما أصبحا قال له عيسى: هلـم طعامك، فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الاَخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد، فسكت عنه عيسى، فـانطلقوا، فمرّوا براعي غنـم، فنادى عيسى، يا صاحب الغنـم أجزرنا شاة من غنـمك، قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها، فأرسل عيسى الـيهودي، فجاء بـالشاة، فذبحوها وشووها، ثم قال للـيهودي: كل ولا تكسرنّ عظما! فأكلا، فلـما شبعوا قذف عيسى العظام فـي الـجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن اللّه ، فقامت الشاة تثغو،

فقال: يا صاحب الغنـم خذ شاتك، فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريـم، قال: أنت الساحر، وفرّ منه. قال عيسى للـيهودي: بـالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيفـا؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد، فمرّوا بصاحب بقر، فنادى عيسى،

فقال: يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلاً! قال: ابعث صاحبك يأخذه، قال: انطلق يا يهودي فجىء به، فـانطلق فجاء به، فذبحه وشواه، وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسرنّ عظما. فلـما فرغوا قذف العظام فـي الـجلد، ثم ضربه بعصاه، وقال: قم بإذن اللّه ! فقام وله خوار، قال: خذ عجلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى، قال: أنت السحّار. ثم فرّ منه، قال الـيهودي: يا عيسى أحيـيته بعد ما أكلناه، قال عيسى: فبـالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها، والعجل بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفـا؟ فحلف بـاللّه ما كان معه إلا رغيف واحد¹ فـانطلقا حتـى نزلا قرية، فنزل الـيهودي أعلاها، وعيسى فـي أسفلها، وأخذ الـيهودي عصا مثل عصا عيسى، وقال: أنا الاَن أحيـي الـموتـى، وكان ملك تلك الـمدينة مريضا شديد الـمرض، فـانطلق الـيهودي ينادي: من يبتغي طبـيبـا؟ حتـى أتـى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه،

فقال: أدخـلونـي علـيه فأنا أبرئه، وإن رأيتـموه قد مات فأنا أحيـيه، فقـيـل له: إن وجع الـملك قد أعيا الأطبـاء قبلك، لـيس من طبـيب يداويه، ولا يُفـيءُ دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب، قال: أدخـلونـي علـيه فإنـي سأبرئه، فأدخـل علـيه، فأخذ برجل الـملك فضربه بعصاه حتـى مات، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت، و

يقول: قم بإذن اللّه ، فأخذ لـيصلب، فبلغ عيسى، فأقبل إلـيه وقد رفع علـى الـخشبة،

فقال: أرأيتـم إن أحيـيت لكم صاحبكم أتتركون لـي صاحبـي؟

قالوا: نعم، فأحيا اللّه الـملك لعيسى، فقام وأنزل الـيهودي،

فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علـيّ منة، واللّه لا أفـارقك أبدا، قال عيسى ـ فـيـما حدثنا به مـحمد بن الـحسين بن موسى، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل قال أسبـاط، عن السدي ـ للـيهودي: أنشدك بـالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الـجذع بعد ما رفعت علـيه لتصلب كم كان معك رغيفـا، قال: فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس، فـانطلقا حتـى مرّا علـى كنز قد حفرته السبـاع والدوابّ، فقال الـيهودي يا عيسى: لـمن هذا الـمال، قال عيسى: دعه، فإن له أهلاً يهلكون علـيه، فجعلت نفس الـيهودي تطلع إلـى الـمال، ويكره أن يعصي عيسى، فـانطلق مع عيسى ومرّ بـالـمال أربعة نفر¹ فلـما رأوه، اجتـمعوا علـيه، فقال اثنان لصاحبـيهما: انطلقا فـابتاعا لنا طعاما وشرابـا ودوابّ نـحمل علـيها هذا الـمال، فـانطلق الرجلان فـابتاعا دوابّ وطعاما وشرابـا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نـجعل لصاحبـينا فـي طعامهما سما، فإذا أكلا ماتا، فكان الـمال بـينـي وبـينك، فقال الاَخر نعم، ففعلا، وقال الاَخران: إذا ما أتـيانا بـالطعام، فلـيقم كل واحد إلـى صاحبه فـيقتله، فـيكون الطعام والدوابّ بـينـي وبـينك، فلـما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا علـى الطعام، فأكلا منه فماتا، وأُعلـم ذلك عيسى، فقال للـيهودي: أخرجه حتـى نقتسمه، فأخرجه فقسمه عيسى بـين ثلاثة، فقال الـيهودي: يا عيسى اتق اللّه ولا تظلـمنـي، فإنـما هو أنا وأنت، ما هذه الثلاثة؟ قال له عيسى هذا لـي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب الرغيف، قال الـيهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطينـي هذا الـمال؟ فقال عيسى: نعم، قال أنا هو، قال: عيسى: خذ حظي وحظك وحظّ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنـيا والاَخرة¹ فلـما حمله مشى به شيئا، فخسف به، وانطلق عيسى ابن مريـم، فمرّ بـالـحواريـين وهم يصطادون السمك،

فقال: ما تصنعون؟

فقالوا: نصطاد السمك،

فقال: أفلا تـمشون حتـى نصطاد الناس؟

قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريـم، فآمنوا به، وانطلقوا معه، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه قَالَ الـحَوَارِيّونَ نَـحْنُ أنْصَارُ اللّه آمَنّا بـاللّه وَاشْهَدْ بِأنّا مُسْلِـمُونَ}.

٥٧٣٧ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي من عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه }.. الاَية، قال: استنصر فنصره الـحواريون وظهر علـيهم.

وقال آخرون: كان سبب استنصار عيسى من استنصر، لأن من استنصر الـحواريـين علـيه كانوا أرادوا قتله. ذكر من قال ذلك:

٥٧٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه، قال: {مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه قالَ الـحَوارِيّونَ نَـحْنُ أنْصَارُ اللّه }.

والأنصار: جمع نصير، كما الأشراف جمع شريف، والأشهاد جمع شهيدوأما الـحواريون، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي السبب الذي من أجله سموا حواريـين،

فقال بعضهم: سموا بذلك لبـياض ثـيابهم. ذكر من قال ذلك:

٥٧٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: مـما روى أبـي، قال: حدثنا قـيس بن الربـيع، عن ميسرة، عن الـمنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبـير، قال: إنـما سموا الـحواريـين ببـياض ثـيابهم.

وقال آخرون: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبـيضون الثـياب. ذكر من قال ذلك:

٥٧٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن أبـي أرطاة، قال: الـحواريون: الغسالون، الذين يحوّرون الثـياب يغسلونها.

وقال آخرون: هم خاصة الأنبـياء وصفوتهم. ذكر من قال ذلك:

٥٧٤١ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكر رجلاً من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: كان من الـحواريـين، فقـيـل له: من الـحواريون؟ قال: الذين تصلـح لهم الـخلافة.

٥٧٤٢ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك فـي قوله: {إِذْ قَالَ الـحَوَارِيّونَ} قال: أصفـياء الأنبـياء.

وأشبه الأقوال التـي ذكرنا فـي معنى الـحواريـين قول من قال: سموا بذلك لبـياض ثـيابهم، ولأنهم كانوا غسالـين، وذلك أن الـحور عند العرب: شدة البـياض، ولذلك سمي الـحُوّارَى من الطعام حُوّارَى لشدة بـياضه، ومنه قـيـل للرجل الشديد البـياض مقلة العينـين أحور، وللـمرأة حوراء، وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بـالذي ذكرنا من تبـيـيضهم الثـياب، وأنهم كانوا قصارين، فعرفوا بصحبة عيسى واختـياره إياهم لنفسه أصحابـا وأنصارا، فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل، حتـى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه¹ ولذلك قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لِكُلّ نَبِـيّ حَوَارِيّ، وَحَوَارِيّ الزّبَـيْرُ) يعنـي خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتـي مساكنهن القرى والأمصار حواريات، وإنـما سمين بذلك لغلبة البـياض علـيهن، ومن ذلك قول أبـي جَلْدَةَ الـيشكُرِي:

فَقُلْ للْـحَوَارِيّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَناوَلاَ تَبْكِنَا إِلاّ الكِلابُ النَوَابِحُ

ويعنـي بقوله: {قالَ الـحَوَارِيّونَ} قال: هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبـيـيضهم الثـياب: آمنا بـالله، صدّقنا بـالله، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلـمون. وهذا خبر من اللّه عزّ وجلّ أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والأنبـياء قبله، لا النصرانـية ولا الـيهودية، وتبرئة من اللّه لعيسى مـمن انتـحل النصرانـية ودان بها، كما برأ إبراهيـم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتـجاج من اللّه تعالـى ذكره لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى وفد نـجران. كما:

٥٧٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير {فَلَـمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} والعدوان، {قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلـى اللّه قالَ الـحَوَارِيّونَ نَـحْنُ أنْصَارُ اللّه آمَنّا بِـاللّه } وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم، واشهد بأنا مسلـمون، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فـيه، يعنـي وفد نصارى نـجران.

٥٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَآ آمَنّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ }

وهذا خبر من اللّه عزّ وجلّ عن الـحواريـين أنهم

قالوا: {ربنا آمَنّا} أي صدّقنا {بِـما أنزَلْت} يعنـي: بـما أنزلت علـى نبـيك عيسى من كتابك {وَاتّبَعْنا الرّسُولَ} يعنـي بذلك: صرنا أتبـاع عيسى علـى دينك الذي ابتعثته به وأعوانه، علـى الـحقّ الذي أرسلته به إلـى عبـادكوقوله: {فـاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ}

يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بـالـحقّ، وأقرّوا لك بـالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فـاجعلنا فـي عدادهم ومعهم فـيـما تكرمهم به من كرامتك، وأحلنا مـحلهم، ولا تـجعلنا مـمن كفر بك، وصدّ عن سبـيـلك، وخالف أمرك ونهيك، يعرّف خـلقه جل ثناؤه بذلك سبـيـل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، لـيحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فـيصلوا إلـى مثل الذي وصلوا إلـيه من درجات كرامته، ويكذّب بذلك الذين انتـحلوا من الـملل غير الـحنـيفـية الـمسلـمة فـي دعواهم علـى أنبـياء اللّه أنهم كانوا علـى غيرها، ويحتـجّ به علـى الوفد الذين حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهل نـجران بأنه قـيـل من رضي اللّه عنه من أتبـاع عيسى كان خلاف قـيـلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم. كما:

٥٧٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {رَبّنَا آمَنّا بِـمَا أنْزَلْتَ وَاتّبَعْنَا الرّسُولَ فـاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ} أي هكذا كان قولهم وإيـمانهم.

٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بنـي إسرائيـل، وهم الذين ذكر اللّه أن عيسى أحسّ منهم الكفر، وكان مكرهم الذي وصفهم اللّه به، مواطأة بعضهم بعضا علـى الفتك بعيسى وقتله، وذلك أن عيسى صلوات اللّه علـيه بعد إخراج قومه إياه وأمه من بـين أظهرهم عاد إلـيهم، فـيـما:

٥٧٤٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: ثم إن عيسى سار بهم: يعنـي بـالـحواريـين الذين كانوا يصطادون السمك، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم حتـى أتـى بنـي إسرائيـل لـيلاً فصاح فـيهم، فذلك قوله: {فآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِـي إِسْرَائِيـلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}.. الاَية.

وأما مكر اللّه بهم فإنه فـيـما ذكر السديّ: إلقاؤه شبه عيسى علـى بعض أتبـاعه، حتـى قتله الـماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع اللّه عزّ وجلّ عيسى قبل ذلك. كما:

٥٧٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: ثم إن بنـي إسرائيـل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الـحواريـين فـي بـيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتـي فـيقتل وله الـجنة، فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلـى السماء، فذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه وَاللّه خَيْرُ الـمَاكِرِينَ}. فلـما خرج الـحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صعد به إلـى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فـيجدونهم ينقصون رجلاً من العدّة، ويرون صورة عيسى فـيهم فشكّوا فـيه، وعلـى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى، وصلبوه، فذلك قول اللّه عزّ وجلّ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ}.

وقد يحتـمل أن يكون معنى مكر اللّه بهم استدراجه إياهم لـيبلغ الكتاب أجله، كما قد بـينا ذلك فـي قول اللّه : {اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}.

٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ قَالَ اللّه يَعِيسَىَ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ ...}

يعنـي بذلك جل ثناؤه: ومكر اللّه بـالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بـالله، وتكذيبهم عيسى فـيـما أتاهم به من عند ربهم، إذ

قال اللّه جل ثناؤه: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} فـ(إذْ) صلة من قوله: {وَمَكَرَ اللّه } يعنـي: ومكر اللّه بهم حين قال اللّه لعيسى: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ} فتوفـاه ورفعه إلـيه.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الوفـاة التـي ذكرها اللّه عزّ وجلّ فـي هذه الاَية،

فقال بعضهم: هي وفـاة نوم، وكان معنى الكلام علـى مذهبهم: إنـي مُنِـيـمُك، ورافعك فـي نومك. ذكر من قال ذلك:

٥٧٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} قال: يعنـي وفـاة الـمنام: رفعه اللّه فـي منامه. قال الـحسن: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للـيهود: (إِنّ عِيسَى لَـمْ يَـمُتْ، وَإِنّهُ رَاجِعٌ إِلَـيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ القِـيامَةِ).

وقال آخرون: معنى ذلك: إنـي قابضك من الأرض، فرافعك إلـيّ،

قالوا: ومعنى الوفـاة: القبض، لـما يقال: توفـيت من فلان ما لـي علـيه، بـمعنى: قبضته واستوفـيته.

قالوا: فمعنى قوله: {إِنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ}: أي قابضك من الأرض حيا إلـى جواري، وآخذك إلـى ما عندي بغير موت، ورافعك من بـين الـمشركين وأهل الكفر بك. ذكر من قال ذلك:

٥٧٤٨ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا ضمرة بن ربـيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق فـي قول اللّه : {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} قال: متوفـيك من الدنـيا، ولـيس بوفـاة موت.

٥٧٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ} قال: متوفـيك من الأرض.

٥٧٥٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} قال: فرفعه إياه إلـيه، توفـيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا.

٥٧٥١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح أن كعب الأحبـار، قال: ما كان اللّه عزّ وجلّ لـيـميت عيسى ابن مريـم، إنـما بعثه اللّه داعيا ومبشرا يدعو إلـيه وحده، فلـما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلـى اللّه عزّ وجلّ، فأوحى اللّه إلـيه: {إِنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ} ولـيس من رفعته عندي ميتا، وإنـي سأبعثك علـى الأعور الدجال، فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الـحيّ. قال كعب الأحبـار: وذلك يصدّق حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال: (كيفَ تَهلِكُ أمةٌ أنَا فِـي أوّلهَا، وَعِيسَى فِـي آخِرِهَا؟).

٥٧٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: يا عيسى إنـي متوفـيك: أي قابضك.

٥٧٥٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ} قال: متوفـيك: قابضك، قال: ومتوفـيك ورافعك واحد

قال: ولـم يـمت بعد حتـى يقتلَ الدجال، وسيـموت، وقرأ قول اللّه عزّ وجلّ: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: رفعه اللّه إلـيه قبل أن يكون كهلاً، قال: وينزل كهلاً.

٥٧٥٤ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن في قول اللّه عز وجل: {يا عِيسَى إنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إلـيّ}.. الاَية كلها، قال: رفعه اللّه إلـيه، فهو عنده فـي السماء.

وقال آخرون: معنى ذلك: إنـي متوفـيك وفـاة موت. ذكر من قال ذلك:

٥٧٥٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {إنّـي مُتَوَفّـيكَ}

يقول: إنـي مـميتك.

٥٧٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي أنه قال: توفـي اللّه عيسى ابن مريـم ثلاث ساعات من النهار حتـى رفعه إلـيه.

٥٧٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: والنصارى يزعمون أنه توفـاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياه اللّه .

وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال اللّه يا عيسى، إنـي رافعك إلـيّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفـيك بعد إنزالـي إياك إلـى الدنـيا

وقال: هذا من الـمقدّم الذي معناه التأخير، والـمؤخر الذي معناه التقديـم.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصحة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إنـي قابضك من الأرض ورافعك إلـيّ، لتواتر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ فَـيَقْتُلُ الدّجّالَ) ثُمّ يَـمْكُثُ فِـي الأرْض مُدّةً ذَكَرَها اختلفت الرواية فـي مبلغها، ثم يـموت، فـيصلـي علـيه الـمسلـمون ويدفنونه.

٥٧٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن مسلـم الزهري، عن حنظلة بن علـيّ الأسلـميّ، عن أبـي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (لَـيُهْبِطنّ اللّه عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ حَكَما عَدْلاً وَإِمَاما مُقْسِطا، يَكْسِرُ الصّلِـيبَ، وَيَقْتُلُ الـخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الـجِزْيَةَ، وَيُفِـيضُ الـمالُ حتـى لا يَجِدَ مَنْ يَأْخُذُهُ، وَلَـيُسْلَكَنّ الرّوْحَاءَ حاجّا أَوْ مُعْتَـمِرا، أَوْ يَدِينُ بِهِمَا جَمِيعا).

٥٧٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن الـحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الأنْبِـيَاءُ إخْوَةٌ لعَلاّتٍ، أمّهاتُهُمْ شَتّـى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأنا أَوْلَـى النّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ، لأنّهُ لَـمْ يَكُنْ بَـيْنِـي وَبَـيْنَهُ نَبِـيّ، وَإِنّهُ خَـلِـيفَتِـي علـى أُمّتِـي، وإِنّهُ نَازِلٌ فَـإِذَا رَأيْتُـمُوهُ فَـاعْرِفُوهُ، فَـإِنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الـخـلْقِ إلـى الـحُمْرَةِ وَالبَـيَاضِ سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ شَعْرَهُ يَقْطُرُ، وَإِنْ لَـمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَـيْنَ مُـمَصّرَتَـيْنِ، يَدُقّ الصّلِـيبَ، وَيَقْتُلُ الـخِنْزِيرَ، وَيُفِـيضُ الـمَالُ، وَيُقَاتِلُ النّاسَ علـى الإسْلاَمِ حتـى يُهْلِكَ اللّه فِـي زَمَانِهِ الـمِلَلَ كُلّها، وَيُهْلِكَ اللّه فِـي زَمَانِهِ مَسِيخَ الضّلاَلَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ وَتَقَعُ فِـي الأرْضِ الأمَنَةُ حتـى تَرْتَعَ الأسُودُ مَعَ الإبِلِ، وَالنّـمْرُ مَعَ البَقَرِ، وَالذّئابُ مَعَ الغَنَـمِ، وَتَلْعَبُ الغِلْـمَانُ بـالـحَيّاتِ، لاَ يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا، فَـيَثْبُتُ فِـي الأَرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمّ يُتَوَفّـى وَيُصَلّـي الـمُسْلِـمُونَ عَلَـيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ).

قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته اللّه عزّ وجلّ لـم يكن بـالذي يـميته ميتة أخرى، فـيجمع علـيه ميتتـين، لأن اللّه عزّ وجلّ إنـما أخبر عبـاده أنه يخـلقهم ثم يـميتهم، ثم يحيـيهم، كما قال جل ثناؤه¹ {اللّه الّذِي خَـلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُـمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيـيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء}.

فتأويـل الاَية إذا: قال اللّه لعيسى: يا عيسى إنـي قابضك من الأرض ورافعك إلـيّ، ومطهرك من الذين كفروا، فجحدوا نبوتك. وهذا الـخبر وإن كان مخرجه مخرج خبر، فإن فـيه من اللّه عز وجل احتـجاجا علـى الذين حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي عيسى من وفد نـجران، بأن عيسى لـم يقتل ولـم يصلب كما زعموا، وأنهم والـيهود الذين أقروا بذلك وادعوا علـى عيسى كَذَبةٌ فـي دعواهم وزعمهم. كما:

٥٧٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير ثم أخبرهم ـ يعنـي الوفد من نـجران ـ وردّ علـيهم فـيـما أخبروا هم والـيهود بصلبه، كيف رفعه وطهره منهم،

فقال: {إِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى إِنّـي مُتَوَفّـيكَ وَرَافِعُكَ إِلـيّ}.

وأما مطهرك من الذين كفروا، فإنه يعنـي منظّفك، فمخـلّصك مـمن كفر بك وجحد ما جئتهم به من الـحق من الـيهود وسائر الـملل غيرها. كما:

٥٧٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} قال: إذ همّوا منك بـما همّوا.

٥٧٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن، فـي قوله: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} قال: طهره من الـيهود والنصارى والـمـجوس، ومن كفـار قومه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ}.

(يعنـي بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك علـى منهاجك وملتك من الإسلام وفطرته فوق الذين جحدوا نبوتك، وخالفوا بسبـيـلهم جميع أهل الـملل، فكذبوا بـما جئت به، وصدوا عن الإقرار به، فمصيرهم فوقهم ظاهرين علـيهم.) كما:

٥٧٦٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} هم أهل الإسلام الذين اتبعوه علـى فطرته وملته وسنته فلا يزالون ظاهرين علـى من ناوأهم إلـى يوم القـيامة.

٥٧٦٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} ثم ذكر نـحوه.

٥٧٦٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} ثم ذكر نـحوه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} قال: ناصر من اتبعك علـى الإسلام علـى الذين كفروا إلـى يوم القـيامة.

٥٧٦٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} أما الذين اتبعوك، فـيقال: هم الـمؤمنون ولـيس هم الروم.

٥٧٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـيّ، عن عبـاد، عن الـحسن: {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيَامَةِ} قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلـى يوم القـيامة، قال: الـمسلـمون من فوقهم، وجعلهم أعلـى مـمن ترك الإسلام إلـى يوم القـيامة.

وقال آخرون: ومعنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق الـيهود. ذكر من قال ذلك:

٥٧٦٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه : {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} قال: الذين كفروا من بنـي إسرائيـل. {وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ} قال: الذين آمنوا به من بنـي إسرائيـل وغيرهم، {فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا} النصارى فوق الـيهود إلـى يوم القـيامة، قال: فلـيس بلد فـيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود فـي شرق ولا غرب، هم فـي البلدان كلها مستذلّون.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ إِلـيّ مَرْجِعُكُمْ فأحْكُمُ بَـيْنَكُمْ فِمَا كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: {ثمّ إلـيّ} ثم إلـى اللّه أيها الـمختلفون فـي عيسى، {مَرْجِعُكُمْ} يعنـي مصيركم يوم القـيامة، {فأحْكُمْ بَـيْنَكُمْ}

يقول: فأقضي حينئذٍ بـين جميعكم فـي أمر عيسى بـالـحق فـيـما كنتـم فـيه تـختلفون من أمره. وهذا من الكلام الذي صرف من الـخبر عن الغائب إلـى الـمخاطبة، وذلك أن قوله: {ثُمّ إِلـيّ مَرْجِعُكُمْ} إنـما قصد به الـخبر عن متبعي عيسى والكافرين به.

وتأويـل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلـى يوم القـيامة، ثم إلـيّ مرجع الفريقـين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بـينهم فـيـما كانوا فـيه يختلفون. ولكن ردّ الكلام إلـى الـخطاب لسَبُوقِ القول علـى سبـيـل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج عل وجه الـحكاية، كما قال: {حتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.

٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَأمّا الّذِينَ كَفَرُوا}: فأما الذين جحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بـما جئتهم به من الـحقّ، وقالوا فـيك البـاطل، وأضافوك إلـى غير الذي ينبغي أن يضيفوك إلـيه من الـيهود والنصارى، وسائر أصناف الأديان¹ فإنـي أعذّبهم عذابـا شديدا¹ أما فـي الدنـيا فبـالقتل والسبـاء والذلة والـمسكنة¹ وأما فـي الاَخرة، فبنار جهنـم خالدين فـيها أبدا. {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}

يقول: وما لهم من عذاب اللّه مانع، ولا عن ألـيـم عقابه لهم دافع بقوّة ولا شفـاعة، لأنه العزيز ذو الانتقام.

٥٧

وأما قوله: {وأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى،

يقول: صدّقوك فأقرّوا بنبوّتك، وبـما جئتهم به من الـحقّ من عندي، ودانوا بـالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بـما فرضت من فرائضي علـى لسانك، وشرعت من شرائعي، وسننت من سننـي. كما:

٥٧٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ}

يقول: أدوا فرائضي، فـيوفـيهم أجورهم،

يقول: فـيعطيهم جزاء أعمالهم الصالـحة كاملاً لا يبخسون منه شيئا ولا ينقصونه.

وأما قوله: {وَاللّه لاَ يُحِبّ الظّالِـمِينَ} فإنه يعنفي: واللّه لا يحبّ من ظلـم غيره حقا له، أو وضع شيئا فـي غير موضعه. فنفـى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلـم عبـاده، فـيجازي الـمسيء مـمن كفر جزاء الـمـحسنـين مـمن آمن به، أو يجازي الـمـحسن مـمن آمن به واتبع أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاء الـمسيئين مـمن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه،

فقال: إنـي لا أحبّ الظالـمين، فكيف أظلـم خـلقـي.

وهذا القول من اللّه تعالـى ذكره، وإن كان خرج مخرج الـخبر، كأنه وعيد منه للكافرين به وبرسله، ووعد منه للـمؤمنـين به وبرسله، لأنه أعلـم الفريقـين جميعا أنه لا يبخس هذا الـمؤمن حقه، ولا يظلـم كرامته، فـيضعها فـيـمن كفر به، وخالف أمره ونهيه، فـيكون لها بوضعها فـي غير أهلها ظالـما.

٥٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الاَيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: ذلك هذه الأنبـاء التـي أنبأ بها نبـيه عن عيسى وأمه مريـم، وأمها حنة، وزكريا وابنه يحيـى، وما قصّ من أمر الـحواريـين، والـيهود من بنـي إسرائيـل¹ نتلوها علـيك يا مـحمد،

يقول: نقرؤها علـيك يا مـحمد، علـى لسان جبريـل صلى اللّه عليه وسلم، بوحيناها إلـيك {منَ الاَياتِ}

يقول: من العبر والـحجج، علـى من حاجك من وفد نصارى نـجران ويهود بنـي إسرائيـل، الذين كذّبوك، وكذّبوا ما جئتهم به من الـحقّ من عندي. {والذّكْر} يعنـي: والقرآن {الـحَكِيـم} يعنـي: ذي الـحكمة الفـاصلة بـين الـحقّ والبـاطل، وبـينك وبـين ناسبـي الـمسيح إلـى غير نسبه. كما:

٥٧٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَـيْكَ مِنَ الاَياتِ وَالذّكْرِ الـحَكِيـمِ} القاطع الفـاصل الـحقّ، الذي لـم يخـلطه البـاطل من الـخبر عن عيسى، وعما اختلفوا فـيه من أمره، فلا تقبلن خبرا غيره.

٥٧٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَـيْكَ مِنَ الاَيَاتِ وَالذّكْرِ الـحَكِيـمِ} قال: القرآن.

٥٧٧٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {وَالذّكْرِ}

يقول: القرآن الـحكيـم الذي قد كمل فـي حكمته.

٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

{إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

يعنـي جل ثناؤه: إن شبه عيسى فـي خـلقـي إياه من غير فحل ـ فأخبرْ به يا مـحمد الوفد من نصارى نـجران ـ عندي كشبه آدم الذي خـلقته من تراب، ثم قلت له كن فكان، من غير فحل، ولا ذكر، ولا أنثى.

يقول: فلـيس خـلقـي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خـلقـي آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكان لـحما،

يقول: وأمري إذ أمرته أن يكون فكان، فكذلك خـلقـي عيسى أمرته أن يكون فكان.

وذكر أهل التأويـل أن اللّه عزّ وجلّ أنزل هذه الاَية احتـجاجا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى الوفد من نصارى نـجران الذين حاجوه فـي عيسى. ذكر من قال ذلك:

٥٧٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر، قال: كان أهل نـجران أعظم قوم من النصارى فـي عيسى قولاً، فكانوا يجادلون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الاَية فـي سورة آل عمران: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} إلـى قوله: {فَنَـجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه علـى الكاذِبِـينَ}.

٥٧٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}، وذلك أن رهطا من أهل نـجران قدموا علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وكان فـيهم السيد والعاقب، فقالوا لـمـحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: (مَنْ هُوَ؟)

قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد اللّه ، فقال مـحمد: (أجَلْ إِنّهُ عَبْدُ اللّه ). قالوا له: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريـل صلى اللّه عليه وسلم بأمر ربنا السميع العلـيـم،

فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ}.. إلـى آخر الاَية.

٥٧٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}: ذكر لنا أن سيدي أهل نـجران وأسقـفـيهم، السيد والعاقب، لقـيا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسألاه عن عيسى؟ فقالا: كل آدميّ له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيه هذه الاَية: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}.

٥٧٧٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَاب} لـما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وسمع به أهل نـجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم، منهم: العاقب، والسيد، وماسرجس، وماريحز، فسألوه ما يقول فـي عيسى؟ فقال: هو عبد اللّه وروحه وكلـمته، قالوا هم: لا، ولكنه هو اللّه ، نزل من ملكه، فدخـل فـي جوف مريـم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خـلق من غير أب؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}.

٥٧٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة، قوله: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ}

قال: نزلت فـي العاقب والسيد من أهل نـجران، وهما نصرانـيان. قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نـجران قدم وفدهم علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فـيهم السيد والعاقب، وهما يومئذٍ سيدا أهل نـجران،

فقالوا: يا مـحمد فـيـم تشتـم صاحبنا؟ قال: (مَنْ صَاحِبُكُما؟) قالا: عيسى ابن مريـم، تزعم أنه عبد. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أجَلْ إِنّهُ عَبْدُ اللّه وَكَلِـمَتُهُ ألْقاهَا إِلـى مَرْيَـمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، فغضبوا و

قالوا: إن كنت صادقا، فأرنا عبدا يحيـي الـموتـى، ويبرىء الأكمه، ويخـلق من الطين كهيئة الطير، فـينفخ فـيه، الاَية... لكنه اللّه ! فسكت حتـى أتاه جبريـل،

فقال: يا مـحمد {لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّه هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَـمَ}.. الاَية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا جِبْرِيـلُ إِنّهُمْ سألُونِـي أنْ أُخْبِرَهُمْ بِـمَثَلِ عِيسَى). قال جبريـل: مثل عيسى كمثل آدم خـلقه من تراب ثم قال له كن فـيكون. فلـما أصبحوا عادوا، فقرأ علـيهم الاَيات.

٥٧٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه } فـاسمع! {كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِين}. فإن

قالوا: خـلق عيسى من غير ذكر، فقد خـلقت آدم من تراب بتلك القدرة، من غير أنثى ولا ذكر فكان كما كان عيسى لـحما ودما وشعرا وبشرا، فلـيس خـلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.

٥٧٧٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه عزّ وجلّ {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} قال: أتـى نـجرانـيان إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا له: هل علـمت أن أحدا ولد من غير ذكر فـيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} أكان لاَدم أب أو أم، كما خـلقت هذا فـي بطن هذه؟

فإن قال قائل: فكيف قال: (كمثل آدم خـلقه)، وآدم معرفة، والـمعارف لا توصل؟

قـيـل: إن قوله: {خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} غير صلة لاَدم، وإنـما هو بـيان عن أمره علـى وجه التفسير عن الـمثل الذي ضربه وكيف كان.

وأما قوله: {ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ} فإنـما قال: (فـيكون)، وقد ابتدأ الـخبر عن خـلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضى، وقد أخرج الـخبر عنه مخرج الـخبر عما قد مضى، فقال جل ثناؤه: {خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ}، لأنه بـمعنى الإعلام من اللّه نبـيه أن تكوينه الأشياء بقوله: {كُنْ}، ثم قال: (فـيكون) خبرا مبتدأ، وقد تناهى الـخبر عن أمر آدم عند قوله: (كن).

فتأويـل الكلام إذا: إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم، خـلقه من تراب، ثم قال له كن¹ واعلـم يا مـحمد أن ما قال له ربك: كن، فهو كائن. فلـما كان فـي قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَـلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ} دلالة علـى أن الكلام يراد به إعلام نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسائر خـلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر، استغنى بدلالة الكلام علـى الـمعنى،

وقـيـل: فـيكون، فعطف بـالـمستقبل علـى الـماضي علـى ذلك الـمعنى. وقد قال بعض أهل العربـية: فـيكون رفع علـى الابتداء ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.

٦٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأن مثله كمثل آدم خـلقه من تراب. ثم قال له ربه: كن هو الـحقّ من ربك،

يقول: هو الـخبر الذي هو من عند ربك¹ {فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْترينَ} يعنـي: فلا تكن من الشاكين فـي أن ذلك كذلك. كما:

٥٧٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ} يعنـي فلا تكن فـي شكّ من عيسى أنه كمثل آدم عبد اللّه ورسوله، وكلـمة اللّه وروحه.

٥٧٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ}

يقول: فلا تكن فـي شكّ مـما قصصنا علـيك أن عيسى عبد اللّه ورسوله وكلـمة منه وروح، وأن مثله عند اللّه كمثل آدم خـلقه من تراب ثم قال له كن فـيكون.

٥٧٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ} ما جاءك من الـخبر عن عيسى، {فَلا تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ}: أي قد جاءك الـحقّ من ربك فلا تـمتر فـيه.

٥٧٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {فَلاَ تَكُنْ مِنَ الـمُـمْتَرِينَ} قال: والـمـمترون: الشاكون.

والـمرية والشكّ والريب واحد سواء كهيئة ما تقول: أعطنـي وناولنـي وهلـمّ، فهذا مختلف فـي الكلام وهو واحد.

٦١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ}: فمن جادلك يا مـحمد فـي الـمسيح عيسى ابن مريـم. والهاء فـي قوله: {فِـيهِ} عائدة علـى ذكر عيسى، وجائز أن تكون عائدة علـى الـحقّ الذي قال تعالـى ذكره: {الـحَقّ مِنْ رَبّكَ}. ويعنـي بقوله: {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}: من بعد ما جاءك من العلـم الذي قد بـينته لك فـي عيسى أنه عبد اللّه . {فَقُلْ تَعَالَوْا} هلـموا فلندعْ أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، {ثم نَبْتَهِلْ}

يقول: ثم نلتعن، يقال فـي الكلام: ما له بَهَلَهَ اللّه ! أي لعنه اللّه ، وما له علـيه بُهْلَة اللّه ! يريد اللعن

وقال لَبـيد، وذكر قوما هلكوا،

فقال:

نَـظَـرَ الـدّهْـرُ إِلَـيْهِـمْ فَـابْـتَـهَـلْ

يعنـي دعا علـيهم بـالهلاك. {فَنَـجْعَل لَعْنَةَ اللّه عَلَـى الكَاذِبِـينَ} منا ومنكم فـي آية عيسى. كما:

٥٧٨٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فَمَنْ حَاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}: أي فـي عيسى أنه عبد اللّه ورسوله من كلـمة اللّه وروحه. {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْع أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ} إلـى قوله: {علـى الكاذِبِـينَ}.

٥٧٨٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}: أي من بعد ما قصصت علـيك من خبره، وكيف كان أمره {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْناءَكُمْ}.. الاَية.

٥٧٨٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}

يقول: من حاجك فـي عيسى من بعد ما جاءك فـيه من العلـم.

٥٧٨٧ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {ثُمّ تَبْتَهِلْ فَنَـجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه علـى الكاذِبِـينَ} قال: منا ومنكم.

٥٧٨٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: وثنـي ابن لهيعة، عن سلـيـمان بن زياد الـحضرمي عن عبد اللّه بن الـحارث بن جزء الزبـيدي، أنه سمع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (لَـيْتَ بَـيْنِـي وَبَـيْنَ أهْلِ نَـجْرَانَ حِجابـا فَلا أرَاهُمْ وَلا يَرَوْنِـي) من شدّة ما كانوا يـمارون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٦٢

انظر تفسير الآية: ٦٨

٦٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به يا مـحمد من أمر عيسى، فقصصته علـيك من أنبـائه، وأنه عبدي ورسولـي، وكلـمتـي ألقـيتها إلـى مريـم، وروح منـي، {لَهُوَ القَصَصُ} والنبأ {الـحَقّ} فـاعلـم ذلك، واعلـم أنه لـيس للـخـلق معبود يستوجب علـيهم العبـادة بـملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبده وهو اللّه العزيز الـحكيـم.

ويعنـي بقوله {العَزِيزُ}: العزيز فـي انتقامه مـمن عصاه، وخالف أمره، وادّعى معه إلها غيره، أو عبد ربـا سواه، {الـحَكِيـمُ} فـي تدبـيره، لا يدخـل ما دبره وهْن ولا يـلـحقه خـلل. {فإنْ تَوَلّوْا} يعنـي فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك فـي عيسى عما جاءك من الـحقّ من عند ربك فـي عيسى وغيره، من سائر ما آتاك اللّه من الهدى والبـيان، فأعرضوا عنه، ولـم يقبلوه¹ {فإنّ اللّه عَلِـيـمٌ بِـالـمُفْسِدِينَ}،

يقول: فإن اللّه ذو علـم بـالذين يعصون ربهم، ويعملون فـي أرضه وبلاده بـما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم،

يقول تعالـى ذكره: فهو عالـم بهم وبأعمالهم، يحصيها علـيهم ويحفظها حتـى يجازيهم علـيها جزاءهم.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:

٥٧٨٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} أي إن هذا الذي جئت به من الـخبر عن عيسى، لهو القصص الـحقّ من أمره.

٥٧٩٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ}. إن هذا الذي قلنا فـي عيسى لهو القصص الـحقّ.

٥٧٩١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} قال: إن هذا القصص الـحقّ فـي عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدّى هذا، ولا يجاوز أن يتعدى أن يكون كلـمة اللّه ألقاها إلـى مريـم وروحا منه وعبد اللّه ورسوله.

٥٧٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ}: إن هذا الذي قلنا فـي عيسى هو الـحقّ {وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاّ اللّه }.. الاَية.

فلـما فصل جل ثناؤه بـين نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وبـين الوفد من نصارى نـجران بـالقضاء الفـاصل والـحكم العادل أمره ـ إن هم تولوا عما دعاهم إلـيه من الإقرار بوحدانـية اللّه ، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الـجدل والـخصومة ـ أن يدعوهم إلـى الـملاعنة، ففعل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فلـما فعل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انـخذلوا، فـامتنعوا من الـملاعنة ودعوا إلـى الـمصالـحة، كالذي.

٥٧٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر، قال: فأمر ـ يعنـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ـ بـملاعنتهم ـ يعنـي بـملاعنة أهل نـجران ـ بقوله: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}.. الاَية. فتواعدوا أن يلاعنوه، وواعدوه الغد، فـانطلقوا إلـى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم فتابعاهم، فـانطلقوا إلـى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فـارقوا علـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ما صنعتـم! وندّمهم، وقال لهم: إن كان نبـيا ثم دعا علـيكم لا يغضبه اللّه فـيكم أبدا، ولئن كان ملكا فظهر علـيكم لا يستبقـيكم أبدا.

قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا؟ فقال لهم: إذا غدوتـم إلـيه فعرض علـيكم الذي فـارقتـموه علـيه، فقولوا: نعوذ بـالله! فإن دعاكم أيضا، فقولوا له: نعوذ بـالله! ولعله أن يعفـيكم من ذلك. فلـما غدوا، غدا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مـحتضنا حَسَنا آخذا بـيد الـحسين وفـاطمة تـمشي خـلفه، فدعاهم إلـى الذي فـارقوه علـيه بـالأمس،

فقالوا: نعوذ اللّه ! ثم دعاهم،

فقالوا: نعوذ بـالله! مرارا

قال: (فإنْ أبَـيْتُـمْ فأسْلِـمُوا، وَلَكُمْ ما لِلْـمُسْلِـمِينَ وَعَلَـيْكُمْ ما علـى الـمُسْلِـمينَ، كما قال اللّه عزّ وجلّ¹ فإنْ أبَـيْتُـمْ فأعْطُوا الـجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وأنْتُـمْ صَاغِرُونَ، كما قال اللّه عَزّ وَجَلّ)،

قالوا: ما نـملك إلا أنفسنا

قال: (فإنْ أبَـيْتُـمْ فَإنّـي أنْبِذُ إلَـيْكُمْ عَلـى سَوَاءٍ، كما قال اللّه عزّ وجلّ)،

قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي الـجزية

قال: فجعل علـيهم فـي كل سنة ألفـي حلة، ألفـا فـي رجب وألفـا فـي صفر. فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (قَدْ أتانِـي البَشِيرُ بِهَلَكَةِ أهْلِ نَـجْرَانَ حتـى الطّيْرُ علـى الشّجَرِ أوِ العَصَافِـيرُ عَلـى الشّجَرِ، لو تَـمّوا علـى الـمُلاَعَنَة). حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، قال: فقلت للـمغيرة: إن الناس يرون فـي حديث أهل نـجران أن علـيا كان معهم! فقال: أما الشعبـي فلـم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بنـي أمية فـي علـيّ، أو لـم يكن فـي الـحديث.

٥٧٩٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {إنّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} إلـى قوله: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِـمُونَ} فدعاهم إلـى النّصَف وقطع عنهم الـحجة. فلـما أتـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـخبر من اللّه عنه، والفصل من القضاء بـينه وبـينهم، وأمره بـما أمره به من ملاعنتهم، إن ردّوا علـيه¹ دعاهم إلـى ذلك،

فقالوا: يا أبـا القاسم دعنا ننظر فـي أمرنا، ثم نأتـيك بـما نريد أن نفعل فـيـما دعوتنا إلـيه. فـانصرفوا عنه، ثم خـلوا بـالعاقب، وكان ذا رأيهم،

فقالوا: يا عبد الـمسيح ما ترى؟ قال: واللّه يا معشر النصارى، لقد عرفتـم أن مـحمدا نبـيّ مرسل، ولقد جاءكم بـالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علـمتـم ما لاعن قوم نبـيا قط فبقـي كبـيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتـم، فإن كنتـم قد أبـيتـم إلا إلف دينكم، والإقامة علـى ما أنتـم علـيه من القول فـي صاحبكم، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلـى بلادكم حتـى يريكم زمنٌ رأيه. فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا أبـا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك علـى دينك، ونرجع علـى ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بـيننا فـي أشياء قد اختلفنا فـيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا.

٥٧٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبـي الـجارود، عن زيد بن علـيّ فـي قوله: {تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنا وأبْناءكُمْ}.. الاَية

قال: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وعلـيّ وفـاطمة والـحسن والـحسين.

٥٧٩٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط عن السدي: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ}.. الاَية، فأخذ ـ يعنـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ـ بـيد الـحسن والـحسين وفـاطمة، وقال لعلـيّ: (اتْبَعْنَا!) فخرج معهم، فلـم يخرج يومئذ النصارى، و

قالوا: إنا نـخاف أن يكون هذا هو النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، ولـيس دعوة النبـيّ كغيرها، فتـخـلفوا عنه يومئذ. فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لَوْ خَرَجُوا لاَحْتَرَقُوا). فصالـحوه علـى صلـح علـى أن له علـيهم ثمانـين ألفـا فما عجزت الدراهم ففـي العروض الـحلة بأربعين، وعلـى أن له علـيهم ثلاثا وثلاثـين درعا، وثلاثا وثلاثـين بعيرا، وأربعة وثلاثـين فرسا غازية كل سنة، وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضامن لها حتـى نؤديها إلـيهم.

٥٧٩٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا وفدا من وفد نـجران من النصارى، وهم الذين حاجوه فـي عيسى، فنكصوا عن ذلك وخافوا. وذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ، إنْ كانَ العَذَابُ لَقَدْ تَدَلّـى علـى أهْلِ نَـجْرَانَ، وَلَوْ فَعَلُوا لاسْتُؤْصِلُوا عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ).

٥٧٩٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {فَمَنْ حاجّكَ فِـيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْـمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ} قال: بلغنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج لـيلاً عن أهل نـجران، فلـما رأوه خرج، هابوا وفرقوا، فرجعوا. قال معمر، قال قتادة: لـما أراد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أهل نـجران أخذ بـيد حسن وحسين وقال لفـاطمة: (اتْبَعِينَا)، فلـما رأى ذلك أعداءُ اللّه رجعوا.

٥٧٩٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريـم الـجزري، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لو خرج الذين يبـاهلون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زكريا، عن عديّ قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عمرو، عن عبد الكريـم، عن عكرمة، عن ابن عبـاس مثله.

٥٨٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَالّذِي نفْسِي بِـيَدِهِ لَوْلا عَنُونِـي ما حالَ الـحَوْلُ وَبحَضْرَتِهِمْ مِنْهُمْ أحَدٌ إلاّ أهْلَكَ اللّه الكاذِبِـينَ).

٥٨٠١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا ابن زيد، قال: قـيـل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لو لاعنت القوم بـمن كنت تأتـي حين قلت {أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ}؟ قال: (حَسَن وحُسَيْن).

٥٨٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا الـمنذر بن ثعلبة، قال: حدثنا علبـاء بن أحمر الـيشكري، قال: لـما نزلت هذه الاَية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءكُمْ} الاَية، أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى علـيّ وفـاطمة وابنـيهما الـحسن والـحسين، ودعا الـيهود لـيلاعنهم فقال شاب من الـيهود: ويحكم ألـيس عهدكم بـالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا! فـانتهوا.

٦٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد لأهل الكتاب ـ وهم أهل التوراة والإنـجيـل ـ: {تَعَالَوْا} هلـمّوا {إلـى كَلِـمَة سَوَاء} يعنـي إلـى كلـمة عدل {بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ} والكلـمة العدل: هي أن نوحد اللّه فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئاوقوله: {وَلا يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـابـا}

يقول: ولا يدين بعضنا لبعض بـالطاعة فـيـما أمر به من معاصي اللّه ، ويعظمه بـالسجود له، كما يسجد لربه. {فإنْ تَوَلّوْا}

يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إلـيه من الكلـمة السواء التـي أمرتك بدعائهم إلـيها، فلـم يجيبوك إلـيها، فقولوا أيها الـمؤمنون للـمتولـين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلـمون.

واختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت فـيه هذه الاَية،

فقال بعضهم: نزلت فـي يهود بنـي إسرائيـل الذين كانوا حوالـي مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٥٨٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا يهود أهل الـمدينة إلـى الكلـمة السواء، وهم الذين حاجوا فـي إبراهيـم.

٥٨٠٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا الـيهود إلـى كلـمة السواء.

٥٨٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: بلغنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا يهود أهل الـمدينة إلـى ذلك، فأبوا علـيه، فجاهدهم، قال: دعاهم إلـى قول اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل نزلت فـي الوفد من نصارى نـجران. ذكر من قال ذلك:

٥٨٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}.. الاَية، إلـى قوله: {فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِـمُونَ} قال: فدعاهم إلـى النّصَف، وقطع عنهم الـحجة¹ يعنـي وفد نـجران.

٥٨٠٧ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: ثم دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ يعنـي الوفد من نصارى نـجران ـ فقال: {يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}.. الاَية.

٥٨٠٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا ابن زيد، قال: قال: يعنـي جل ثناؤه: {إنّ هَذا لَهُوَ القَصَصُ الـحَقّ} ـ فـي عِيسَى علـى ما قد بـيناه فـيـما مضى ـ قال: {فأبَوْا}، يعنـي الوفد من نـجران،

فقال: ادعهم إلـى أيسر من هذا، {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}. فقرأ حتـى بلغ: {أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّه } فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الاَخر.

وإنـما قلنا: عنى بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ}: أهل الكتابـين، لأنهما جميعا من أهل الكتاب، ولـم يخصص جل ثناؤه بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ} بَعْضا دون بعض، فلـيس بأن يكون موجها ذلك إلـى أنه مقصود به أهل التوراة بأولـى منه، بأن يكون موجها إلـى أنه مقصود به أهل الإنـجيـل، ولا أهل الإنـجيـل بأولـى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوارة. وإذ لـم يكن أحد الفريقـين بذلك بأولـى من الاَخر، لأنه لا دلالة علـى أنه الـمخصوص بذلك من الاَخر، ولا أثر صحيح، فـالواجب أن يكون كل كتابـي معنـيا به، لأن إفراد العبـادة لله وحده، وإخلاص التوحيد له، واجب علـى كل مأمور منهيّ من خـلق اللّه ، وأهل الكتاب يعمّ أهل التوراة وأهل الإنـجيـل، فكان معلوما بذلك أنه عنـي به الفريقان جميعا.

وأما تأويـل قوله: {تَعالَوْا} فإنه: أقبلوا وهلـمّوا، وإنـما هو تفـاعلوا من العلوّ، فكأن القائل لصاحبه: تعالـى إلـيّ، فإنه تفـاعل من العلوّ، كما يقال: تدان منـي من الدنوّ، وتقاربْ منـي من القربوقوله: {إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ} فإنها الكلـمة العدل، و(السواء): من نعت (الكلـمة).

وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه إتبـاع سواء فـي الإعراب لكلـمة، وهو اسم لا صفة، فقال بعض نـحويـي البصرة: جرّ سواء لأنها من صفة الكلـمة: وهي العدل، وأراد مستوية

قال: ولو أراد استواء كان النصب، وإن شاء أن يجعلها علـى الاستواء ويجرّ جاز، ويجعله من صفة الكلـمة مثل الـخـلق، لأن الـخـلق هو الـمخـلوق، والـخـلق قد يكون صفة واسما، ويجعل الاستواء مثل الـمستوى، قال عزّ وجلّ: {الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ سَوَاء العاكِفُ فِـيهِ وَالبـادِ} لأن السواء للاَخر وهو اسم لـيس بصفة، فـيجري علـى الأول وذلك إذا أراد به الاستواء، فإن أراد به مستويا جاز أن يجري علـى الأول، والرفع فـي ذا الـمعنى جيد، لأنها لا تغيّر عن حالها، ولا تثنى، ولا تـجمع، ولا تؤنث، فأشبهت الأسماء التـي هي مثل عدل ورضا وجنب، وما أشبه ذلك

وقال: {أنْ نَـجْعَلَهُمْ كالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِـحاتِ سَوَاءً مَـحْياهُمْ وَمَـماتُهُمْ} فـالسواء للـمـحيا والـمـمات بهذا الـمبتدإ. وإن شئت أجريته علـى الأوّل وجعلته صفة مقدمة، كأنها من سبب الأوّل فجرت علـيه، وذلك إذا جعلته فـي معنى مستوي، والرفع وجه الكلام كما فسرت لك.

وقال بعض نـحويـي الكوفة: (سواء) مصدر وضع موضع الفعل، يعنـي موضع متساوية ومتساو، فمرّة يأتـي عن الفعل، ومرّة علـى الـمصدر، وقد يقال فـي سواء بـمعنى عدل: سِوًى وسُوًى، كما قال جلّ ثناؤه: {مَكانا سُوًى} و(سِوًى) يراد به عدل ونصف بـيننا وبـينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه كان يقرأ ذلك (إلـى كلـمة عدل بـيننا وبـينكم).

وبـمثل الذي قلنا فـي تأويـل قوله: {إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنا وَبَـيْنَكُم} بأن السواء: هو العدل،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٨٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ}: عدل بـيننا وبـينكم {ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّه }.. الاَية.

٥٨١٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، فـي قوله: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعَالَوْا إلـى كَلِـمَةٍ سَواءٍ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَكُمْ ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّه وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا} بـمثله.

وقال آخرون: هو قول لا إلَه إلا اللّه . ذكر من قال ذلك:

٥٨١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال أبو العالـية: كلـمة السواء: لا إلَه إلاّ اللّه .

وأما قوله: {ألاّ نَعْبُدَ إلاّ اللّه } فإنّ (أنْ) فـي موضع خفض علـى معنى: تعالوا إلـى أن لا نعبد إلا اللّه ، وقد بـينا معنى العبـادة فـي كلام العرب فـيـما مضى، ودللنا علـى الصحيح من معانـيه بـما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: {وَلا يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـابـا} فإنّ اتـخاذ بعضهم بعضا، هو ما كان بطاعة الأتبـاع الرؤساء فـيـما أمروهم به من معاصي اللّه وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة اللّه ، كما قال جل ثناؤه: {اتّـخَذُوا أحْبـارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّه وَالـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَـمَ وَما أُمِرُوا إلاّ لِـيَعْبُدُوا إلها وَاحِدا}. كما:

٥٨١٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: {وَلا يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّه }

يقول: لا يطع بعضنا بعضا فـي معصية اللّه ، ويقال: إن تلك الربوبـية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم فـي غير عبـادة، وإن لـم يُصَلّوا لهم.

وقال آخرون: اتـخاذ بعضهم بعضا أربـابـا: سجود بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:

٥٨١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة فـي قوله: {وَلاَ يَتّـخِذَ بَعْضُنا بَعْضا أرْبـابـا مِنْ دُونِ اللّه } قال: سجود بعضهم لبعض.

وأما قوله: {فَإنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِـمُونَ} فإنه يعنـي: فإن تولـى الذين تدعونهم إلـى الكلـمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتـم أيها الـمؤمنون لهم: اشهدوا علـينا بأنا بـما تولـيتـم عنه من توحيد اللّه وإخلاص العبودية له، وأنه الإلَه الذي لا شريك له مسلـمون، يعنـي خاضعون لله به متذللون له بـالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا، وقد بـينا معنى الإسلام فـيـما مضى، ودللنا علـيه بـما أغنى عن إعادته.

٦٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِيَ إِبْرَاهِيمَ ... }

قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ}: يا أهل التوراة والإنـجيـل {لِـمَ تُـحاجّونَ} لـم تـجادلون {فِـي إبْرَاهِيـمَ} وتـخاصمون فـيه، يعنـي فـي إبراهيـم خـلـيـل الرحمن صلوات اللّه علـيه. وكان حجاجهم فـيه: ادّعاء كل فريق من أهل هذين الكتابـين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دين أهل نـحلته، فعابهم اللّه عزّ وجل بـادّعائهم ذلك، ودلّ علـى مناقضتهم ودعواهم،

فقال: وكيف تدّعون أنه كان علـى ملتكم ودينكم، ودينكم إما يهودية أو نصرانـية، والـيهودي منكم يزعم أن دينه إقامة التوراة والعمل بـما فـيها، والنصرانـيّ منكم يزعم أن دينه إقامة الإنـجيـل وما فـيه، وهذان كتابـان لـم ينزلا إلا بعد حين من مَهْلك إبراهيـم ووفـاته، فكيف يكون منكم؟ فماوجه اختصامكم فـيه وادعائكم أنه منكم، والأمر فـيه علـى ما قد علـمتـم،

وقـيـل: نزلت هذه الاَية فـي اختصام الـيهود والنصارى فـي إبراهيـم، وادّعاء كل فريق منهم أنه كان منهم. ذكر من قال ذلك:

٥٨١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: اجتـمعت نصارى نـجران وأحبـار يهود عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبـار: ما كان إبراهيـم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيـم إلا نصرانـيا. فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيهم: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْرَاهِيـمَ وَما أُنْزِلَتِ التّوْرَاةُ وَالإنْـجِيـلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ}؟ قالت النصارى: كان نصرانـيا، وقالت الـيهود: كان يهوديا، فأخبرهم اللّه أن التوراة والإنـجيـل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت الـيهودية والنصرانـية.

٥٨١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْرَاهِيـمَ}

يقول: لـم تـحاجون فـي إبراهيـم، وتزعمون أنه كان يهوديا أو نصرانـيا، وما أنزلت التوراة والإنـجيـل إلا من بعده، فكانت الـيهودية بعد التوراة، وكانت النصرانـية بعد الإنـجيـل أفلا تعقلون.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية فـي دعوى الـيهود إبراهيـم أنه منهم. ذكر من قال ذلك:

٥٨١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا يهود أهل الـمدينة إلـى كلـمة السواء، وهم الذين حاجوا فـي إبراهيـم، وزعموا أنه مات يهوديا. فأكذبهم اللّه عزّ وجلّ، ونفـاهم منه،

فقال: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْرَاهِيـمَ وَما أُنْزِلَتْ التّوْرَاةُ وَالإنْـجِيـلُ إلاّ مِنْ بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ}.

٥٨١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨١٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تُـحاجّونَ فِـي إبْراهِيـمَ} قال: الـيهود والنصارى برأه اللّه عزّ وجلّ منهم حين ادّعَتْ كل أمة أنه منهم، وألـحق به الـمؤمنـين من كان من أهل الـحنـيفـية.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

وأما قوله: {أفَلا تَعْقِلُونَ} فإنه يعنـي: أفلا تعقلون: تفقهون خطأ قـيـلكم إن إبراهيـم كان يهوديا أو نصرانـيا، وقد علـمتـم أن الـيهودية والنصرانـية حدثت من بعد مهلكه بحين؟.

٦٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَأَنْتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ ف...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {ها أَنْتُـمْ} هؤلاء القوم الذين خاصمتـم وجادلتـم فـيـما لكم به علـم من أمر دينكم الذي وجدتـموه فـي كتبكم، وأتتكم به رسل اللّه من عنده، وفـي غير ذلك مـما أوتـيتـموه، وثبتت عندكم صحته، فلـم تـحاجون:

يقول: فلـم تـجادلون وتـخاصمون فـيـما لـيس لكم به علـم، يعنـي الذي لا علـم لكم به من أمر إبراهيـم ودينه، ولـم تـجدوه فـي كتب اللّه ، ولا أتتكم به أنبـياؤكم، ولا شاهدتـموه فتعلـموه. كما:

٥٨١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ها أنْتُـمْ هَؤُلاءِ حَاججْتُـمْ فِـيـما لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ فَلِـمَ تُـحَاجّونَ فِـيـما لَـيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ}: أما الذي لهم به علـم: فما حرم علـيهم وما أمروا به، وأما الذي لـيس لهم به علـم: فشأن إبراهيـم.

٥٨٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ها أنْتُـمْ هَؤُلاءِ حاجَجْتُـمْ فِـيـما لَكُمْ بِهِ عِلْـمٌ}

يقول: فـيـما شهدتـم ورأيتـم وعاينتـم، {فَلِـمَ تُـحاجّونَ فِـيـما لَـيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلـمٌ} فـيـما لـم تشاهدوا ولـم تروا ولـم تعاينوا، واللّه يعلـم وأنتـم لا تعلـمون.

٥٨٢١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

وقوله: {وَاللّه يَعْلَـمُ وأنْتُـمْ لا تَعْلَـمُونَ}

يقول: واللّه يعلـم ما غاب عنكم فلـم تشاهدوه ولـم تروه ولـم تأتكم به رسله من أمر إبراهيـم وغيره من الأمور، ومـما تـجادلون فـيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه علـم شيء فـي السموات ولا فـي الأرض، وأنتـم لا تعلـمون من ذلك إلا ما عاينتـم فشاهدتـم، أو أدركتـم علـمه بـالإخبـار والسماع.

٦٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

وهذا تكذيب من اللّه عزّ وجلّ دعوى الذين جادلوا فـي إبراهيـم وملته من الـيهود والنصارى، وادعوا أنه كان علـى ملتهم، وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون، وقضاء منه عزّ وجلّ لأهل الإسلام، ولأمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلـى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الـملل والأديان غيرهم. يقول اللّه عزّ وجلّ {ما كانَ إبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلا نَصْرَانِـيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِـيفـا مُسْلِـما وَما كانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ} الذين يعبدون الأصنام والأوثان، أو مخـلوقا دون خالقه، الذي هو إلَه الـخـلق وبـارئهم، {وَلَكِنْ كانَ حَنِـيفـا} يعنـي: متبعا أمر اللّه وطاعته، مستقـيـما علـى مـحجة الهدى التـي أمر بلزومها، {مُسْلِـما} يعنـي: خاشعا لله بقلبه، متذللاً له بجوارحه، مذعنا لـما فرض علـيه وألزمه من أحكامه.

وقد بـينا اختلاف أهل التأويـل فـي معنى الـحنـيف فـيـما مضى، ودللنا علـى القول الذي هو أولـى بـالصحة من أقوالهم بـما أغنى عن إعادته.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك من التأويـل،

قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:

٥٨٢٢ـ حدثنـي إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد بن عبد اللّه ، عن داود، عن عامر، قال: قالت الـيهود: إبراهيـم علـى ديننا، وقالت النصارى: هو علـى ديننا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ما كانَ إبْرَاهِيـمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِـيّا}.. الاَية. فأكذبهم اللّه ، وأدحض حجتهم، يعنـي الـيهود الذين ادّعوا أن إبراهيـم مات يهوديا.

٥٨٢٣ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨٢٤ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن موسى بن عقبة، عن سالـم بن عبد اللّه ـ لا أراه إلا يحدّثه عن أبـيه ـ: أن زيد بن عمرو بن نفـيـل خرج إلـى الشام يسأل عن الدين، ويتبعه، فلقـي عالـما من الـيهود، فسأله عن دينه، وقال: إنـي لعلـي أن أدين دينكم، فأخبرنـي عن دينكم! فقال له الـيهودي: إنك لن تكون علـى ديننا حتـى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه . قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب اللّه ، ولا أحمل من غضب اللّه شيئا أبدا، وأنا لا أستطيع، فهل تدلنـي علـى دين لـيس فـيه هذا؟ قال: ما أعلـمه إلا أن تكون حنـيفـا، قال: وما الـحنـيف؟ قال: دين إبراهيـم، لـم يك يهوديا وَلاَ نَصرانـيا، وكان لا يعبد إلا اللّه . فخرج من عنده، فلقـي عالـما من النصارى، فسأله عن دينه،

فقال: إنـي لعلـي أن أدين دينكم، فأخبرنـي عن دينكم! قال: إنك لن تكون علـى ديننا حتـى تأخذ بنصيبك من لعنة اللّه

قال: لا أحتـمل من لعنة اللّه شيئا، ولا من غضب اللّه شيئا أبدا، وأنا لا أستطيع، فهل تدلنـي علـى دين لـيس فـيه هذا؟ فقال له نـحوا مـما قاله الـيهودي: لا أعلـمه إلا أن تكون حنـيفـا. فخرج من عنده، وقد رضي الذي أخبراه والذي اتفقا علـيه من شأن إبراهيـم، فلـم يزل رافعا يديه إلـى اللّه وقال: اللهمّ إنـي أشهدك أنـي علـى دين إبراهيـم.

٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَـَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاللّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ }

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ} إن أحقّ الناس بإبراهيـم ونصرته وولايته، {للّذِينَ اتّبَعُوهُ} يعنـي الذين سلكوا طريقه ومنهاجه، فوحدوا اللّه مخـلصين له الدين، وسنوا سننه، وشرعوا شرائعه وكانوا لله حنفـاء مسلـمين غير مشركين به. {وَهَذَا النّبِـيّ} يعنـي مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم. {والذينَ آمَنُوا}. يعنـي والذين صدّقوا مـحمدا، وبـما جاءهم به من عند اللّه . {وَاللّه وَلِـيّ الـمُؤْمِنِـينَ}

يقول: واللّه ناصر الـمؤمنـين بـمـحمد الـمصدقـين له فـي نبوّته، وفـيـما جاءهم به من عنده علـى من خالفهم من أهل الـملل والأديان.

وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل: ذكر من قال ذلك:

٥٨٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ للّذِينَ اتّبَعُوهُ}

يقول: الذين اتبعوه علـى ملته وسنته ومنهاجه وفطرته، {وَهَذَا النّبـيّ} وهو نبـيّ اللّه مـحمد. {وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وهم الـمؤمنون الذين صدّقوا نبـيّ اللّه واتبعوه، كان مـحمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذين معه من الـمؤمنـين أولـى الناس بإبراهيـم.

٥٨٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨٢٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى وجابر بن الكردي والـحسن بن أبـي يحيـى الـمقدسي،

قالوا: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـيه، عن أبـي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ لِكُلّ نَبِـيّ وُلاةً مِنَ النّبِـيّـينَ، وَإنّ وَلِـيّـي مِنْهُمْ أبـي وَخَـلِـيـلُ رَبّـي)، ثم قرأ: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهذَا النّبِـيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّه وَلـيّ الـمؤْمِنِـينَ}.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـيه، عن أبـي الضحى، عن عبد اللّه ، أراه قال عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نـحوه.

٥٨٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : يقول اللّه سبحانه: {إنّ أوْلَـى النّاسِ بإبْرَاهِيـمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ} وهم الـمؤمنون.

٦٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَدّت طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَدّتْ}: تـمنت {طائِفَةٌ} يعنـي جماعة {مِنْ أهْلِ الكِتابِ} وهم أهل التوراة من الـيهود، وأهل الإنـجيـل من النصارى {لَوْ يُضِلّونَكُمْ}

يقول: لو يصدّونكم أيها الـمؤمنون عن الإسلام، ويردّونكم عنه إلـى ما هم علـيه من الكفر، فـيهلكونكم بذلك. والإضلال فـي هذا الـموضع: الإهلاك من قول اللّه عزّ وجلّ: {وَقَالُوا أئِذَا ضَلَلْنا فِـي الأرْضِ أئِنّا لَفِـي خَـلْقٍ جَدِيدٍ} يعنـي: إذا هلكنا. ومنه قول الأخطل فـي هجاء جرير:

كُنْتَ القَذَى فِـي مَوْجٍ أكْدَرَ مُزْبِدٍقَذَفَ الأتِـيّ بِهِ فَضَلّ ضَلالا

يعنـي: هلك هلاكا، وقول نابغة بنـي ذبـيان:

حفآبَ مُضِلّوهُ بِعَيْنٍ جَلِـيّةٍوغُودِرَ بـالـجَوْلانِ حَزْمٌ وَنائِلُ

يعنـي مهلكوه.

{وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ}: وما يهلكون بـما يفعلونه من مـحاولتهم صدّكم عن دينكم أحدا غير أنفسهم، يعنـي بأنفسهم: أتبـاعهم وأشياعهم علـى ملتهم وأديانهم، وإنـما أهلكوا أنفسهم وأتبـاعهم بـما حاولوا من ذلك لاستـيجابهم من اللّه بفعلهم ذلك سخطه، واستـحقاقهم به غضبه ولعنته، لكفرهم بـالله، ونقضهم الـميثاق الذي أخذ اللّه علـيهم فـي كتابهم فـي اتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته. ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من مـحاولة صدّ الـمؤمنـين عن الهدى إلـى الضلالة، والردى علـى جهل منهم، بـما اللّه بهم مـحلّ من عقوبته، ومدّخر لهم من ألـيـم عذابه، فقال تعالـى ذكره: {وَما يَشْعُرُونَ} أنهم لا يضلون إلا أنفسهم بـمـحاولتهم إضلالكم أيها الـمؤمنون¹ ومعنى قوله: {وَما يَشْعُرُونَ}: وما يدرون ولا يعلـمون، وقد بـينا تأويـل ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع فأغنى ذلك عن إعادته.

٧٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {يا أهْلَ الكِتابِ} من الـيهود والنصارى، {لِـمَ تَكْفُرُونَ}

يقول: لِـمَ تَـجحدون {بِآياتِ اللّه } يعنـي: بـما فـي كتاب اللّه ، الذي أنزله إلـيكم، علـى ألسن أنبـيائكم من آيه وأدلته، {وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} أنه حقّ من عند ربكم. وإنـما هذا من اللّه عزّ وجلّ توبـيخ لأهل الكتابـين علـى كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه فـي كتبهم مع شهادتهم أن ما فـي كتبهم حقّ، وأنه من عند اللّه . كما:

٥٨٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ}

يقول: تشهدون أن نعت مـحمد نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به وأنتـم تـجدونه مكتوبـا عندكم فـي التوراة والإنـجيـل، النبـيّ الأميّ الذي يؤمن بـاللّه وكلـماته.

٥٨٣٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه وَأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ}

يقول: تشهدون أن نعت مـحمد فـي كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتـم تـجدونه عندكم فـي التوراة والإنـجيـل النبـيّ الأميّ.

٥٨٣١ـ حدثنـي مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه وأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} آيات اللّه : مـحمد، وأما تشهدون: فـيشهدون أنه الـحقّ يجدونه مكتوبـا عندهم.

٥٨٣٢ـ حدثنا (القاسم قال، حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّه وَأنْتُـمْ تَشْهَدُونَ} أن الدين عند اللّه الإسلام، لـيس لله دين غيره.

٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أهل التوراة والإنـجيـل، لـم تلبسون،

يقول: لـم تـخـلطون الـحقّ بـالبـاطل. وكان خـلطهم الـحقّ بـالبـاطل: إظهارهم بألسنتهم من التصديق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاء به من عند اللّه ، غير الذي فـي قلوبهم من الـيهودية والنصرانـية. كما:

٥٨٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: قال عبد اللّه بن الصيّف وعديّ بن زيد والـحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بـما أنزل علـى مـحمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتـى نلبس علـيهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فـيرجعوا عن دينهم. فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيهم: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَلْبِسُونَ الـحَقّ بـالبـاطِلِ}.. إلـى قوله: {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}.

٥٨٣٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَلْبِسُونَ الـحَقّ بـالبـاطِلِ}

يقول: لـم تلبسون الـيهودية والنصرانـية بـالإسلام، وقد علـمتـم أن دين اللّه الذي لا يقبل غيره الإسلام ولا يجزي إلا به.

٥٨٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله، إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلامُ، ولـم يقلْ: ولا يجزي إلا به.

٥٨٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَلْبِسُونَ الـحَقّ بـالبـاطِلِ}: الإسلام بـالـيهودية والنصرانـية.

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

٥٨٣٧ـ حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه عز وجل: {لِـمَ تَلْبِسُونَ الـحَقّ بـالبـاطِلِ} قال: الـحقّ: التوراة التـي أنزل اللّه علـى موسى، والبـاطل: الذي كتبوه بأيديهم.

قال أبو جعفر: وقد بـينا معنى اللبس فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتَكْتُـمُونَ الـحَقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولـم تكتـمون يا أهل الكتاب الـحقّ؟ والـحقّ الذي كتـموه ما فـي كتبهم من نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ومبعثه ونبوّته. كما:

٥٨٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَتَكْتُـمُونَ الـحَقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ}: كتـموا شأن مـحمد، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل، يأمرهم بـالـمعروف، وينهاهم عن الـمنكر.

٥٨٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَتَكْتُـمُونَ الـحَقّ وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ}

يقول: يكتـمون شأن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل، يأمرهم بـالـمعروف، وينهاهم عن الـمنكر.

٥٨٤٠ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {تَكْتُـمُونَ الـحَقّ}: الإسلام، وأمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وأنتـم تعلـمون أن مـحمدا رسول اللّه ، وأن الدين الإسلام.

وأما قوله: {وأنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ} فإنه يعنـي به: وأنتـم تعلـمون أن الذي تكتـمونه من الـحقّ حقّ، وأنه من عند اللّه . وهذا القول من اللّه عزّ وجلّ خبر عن تعمد أهل الكتاب الكفر به، وكتـمانهم ما قد علـموا من نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ووجدوه فـي كتبهم وجاءتهم به أنبـياؤهم.

٧٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَالَتْ طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِيَ...}

اختلف أهل التأويـل فـي صفة الـمعنى الذي أمرت به هذه الطائفة من أمرت به من الإيـمان وجه النهار، والكفر آخره،

فقال بعضهم: كان ذلك أمرا منهم إياهم بتصديق النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي نبوّته، وما جاء به من عند اللّه وأنه حقّ، فـي الظاهر من غير تصديقه فـي ذلك بـالعزم واعتقاد القلوب علـى ذلك، وبـالكفر به وجحود ذلك كله فـي آخره. ذكر من قال ذلك:

٥٨٤١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرُهُ} فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلـموا أنكم قد رأيتـم فـيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.

٥٨٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا معلـى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن حصين، عن أبـي مالك فـي قوله: {آمِنُوا بـالّذِينَ أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَه} قال: قالت الـيهود: آمنوا معهم أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم.

٥٨٤٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بِـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} كان أحبـار قرى عَرَبِـيّة اثنـي عشر حبرا، فقالوا لبعضهم: ادخـلوا فـي دين مـحمد أول النهار، وقولوا نشهد أن مـحمدا حقّ صادق، فإذا كان آخر النهار فـاكفروا وقولوا: إنا رجعنا إلـى علـمائنا وأحبرانا فسألناهم، فحدثونا أن مـحمدا كاذب، وأنكم لستـم علـى شيء، وقد رجعنا إلـى ديننا فهو أعجب إلـينا من دينكم، لعلهم يشكون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما بـالهم؟ فأخبر اللّه عزّ وجلّ رسوله صلى اللّه عليه وسلم بذلك.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن حصين، عن أبـي مالك الغفـاري، قال: قالت الـيهود بعضهم لبعض: أسلـموا أوّل النهار، وارتدّوا آخره، لعلهم يرجعون. فأطلع اللّه علـى سرّهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

وقال آخرون: بل الذي أمرت به من الإيـمان: الصلاة، وحضورها معهم أوّل النهار، وترك ذلك آخره. ذكر من قال ذلك:

ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه عزّ وجلّ {آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ} يهود تقوله صلت مع مـحمد صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكرا منهم، لـيرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، بـمثله.

٥٨٤٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ}.. الاَية. وذلك أن طائفة من الـيهود

قالوا: إذا لقـيتـم أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلـم منا، لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تؤمنوا إلا لـمن تبع دينكم.

فتأويـل الكلام إذا: وقالت طائفة من أهل الكتاب، يعنـي من الـيهود الذي يقرءون التوراة: {آمِنُوا} صدّقوا بـالذي أنزل علـى الذين آمنوا، وذلك ما جاءهم به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الدين الـحقّ وشرائعه وسننه. {وَجْهَ النّهارِ} يعنـي أوّل النهار، وسمي أوله وجها له لأنه أحسنه، وأوّل ما يواجه الناظر فـيراه منه، كما يقال لأوّل الثوب وجهه، وكما قال ربـيع بن زياد:

مَنْ كانَ مَسْرُورا بِـمَقْتَلِ مالِكٍفَلْـيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهارِ

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٨٤٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَجْهَ النّهارِ}: أوّل النهار.

٥٨٤٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَجْهَ النّهارِ}: أول النهار {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}

يقول: آخر النهار.

٥٨٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ عَلـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} قال: قال صلوا معهم الصبح، ولا تصلوا معهم آخر النهار، لعلكم تستزلونهم بذلك.

وأما قوله: {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} فإنه يعنـي به أنهم

قالوا: واجحدوا ما صدّقتـم به من دينهم فـي وجه النهار فـي آخر النهار {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}: يعنـي بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويدعونه. كما:

٥٨٤٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}

يقول: لعلهم يدعون دينهم، ويرجعون إلـى الذي أنتـم علـيه.

٥٨٤٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨٥٠ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: حدثنا أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ}: لعلهم ينقلبون عن دينهم.

٥٨٥١ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعلهم يشكون.

٥٨٥٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قوله: {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال: يرجعون عن دينهم.

٧٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تُؤْمِنُوَاْ إِلاّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديا. وهذا خبر من اللّه عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من الـيهود: {آمِنُوا بِـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ}. واللام التـي فـي قوله: {لِـمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} نظيرة اللام التـي فـي قوله: {عَسَى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} بـمعنى: ردفكم {بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ}.

وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٨٥٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِـمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} هذا قول بعضهم لبعض.

٥٨٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨٥٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِـمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} قال: لا تؤمنوا إلا لـمن تبع الـيهودية.

٥٨٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب: قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِـمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} قال: لا تؤمنوا إلا لـمن آمن بدينكم لا من خالفه ـ، فلا تؤمنوا به.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّه ...}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: قوله: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّه } اعترض به فـي وسط الكلام خبرا من اللّه عن أن البـيان بـيانه والهدى هداه.

قالوا: وسائر الكلام بعد ذلك متصل بـالكلام الأوّل خبرا عن قـيـل الـيهود بعضها لبعض. فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لـمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتـى أحد مثل ما أوتـيتـم، أو أن يحاجوكم عند ربكم: أي ولا تؤمنوا أن يحاجكم أحد عند ربكم. ثم قال اللّه عزّ وجلّ لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد إن الفضل بـيد اللّه يؤتـيه من يشاء، وإن الهدى هدى اللّه . ذكر من قال ذلك:

٥٨٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {أنْ يُؤْتَـى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِـيتُـمْ}: حسدا من يهود أن تكون النبوّة فـي غيرهم، وإرادة أن يتبعوا علـى دينهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: تأويـل ذلك: قل يا مـحمد إن الهدى هدى اللّه ، إن البـيان بـيان اللّه أن يؤتـى أحد،

قالوا: ومعناه: لا يؤتـى أحد من الأمـم مثل ما أوتـيتـم، كما قال: {يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلّوا} بـمعنى لا تضلون، وكقوله: {كذلك سَلَكْناهُ فـي قُلُوبِ الـمـجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعنـي: أن لا يؤمنوا {مِثْلَ ما أوتِـيتُـمْ}.

يقول: مثل ما أوتـيت أنت يا مـحمد وأمتك من الإسلام والهدى، أو يحاجوكم عند ربكم.

قالوا: ومعنى (أو) إلا: أي إلا أن يحاجوكم، يعنـي إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فعل بهم ربكم. ذكر من قال ذلك:

٥٨٥٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: قال اللّه عزّ وجلّ لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّه أنْ يُؤْتَـى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِـيتُـمْ}

يقول: مثل ما أوتـيتـم يا أمة مـحمد، أو يحاجوكم عند ربكم، تقول الـيهود: فعل اللّه بنا كذا وكذا من الكرامة، حتـى أنزل علـينا الـمنّ والسلوى، فإن الذي أعطيتكم أفضل، فقولوا: {إنّ الفَضْلَ بِـيَدِ اللّه يُؤْتِـيهِ مَنْ يَشَاءُ}.. الاَية.

فعلـى هذا التأويـل جميع هذا الكلام (أَمْر) من اللّه لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله للـيهود، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فـيه، والهدى الثانـي ردّ علـى الهدى الأوّل، و(أن) فـي موضع رفع علـى أنه خبر عن الهدى.

وقال آخرون: بل هذا أمر من اللّه لنبـيه أن يقوله للـيهود، و

قالوا: تأويـله: قل يا مـحمد إن الهدى هدى اللّه ، أن يؤتـى أحد من الناس مثل ما أوتـيتـم،

يقول: مثل الذي أوتـيتـموه أنتـم يا معشر الـيهود من كتاب اللّه ، ومثل نبـيكم، فلا تـحسدوا الـمؤمنـين علـى ما أعطيتهم، مثل الذي أعطيتكم من فضلـي، فإن الفضل بـيدي أوتـيه من أشاء. ذكر من قال ذلك:

٥٨٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّه أنْ يُؤْتَـى أحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِـيتُـمْ}

يقول:لـما أنزل اللّه كتابـا مثل كتابكم، وبعث نبـيا مثل نبـيكم حسدتـموهم علـى ذلك¹ {قُلْ إنّ الفَضْلَ بِـيَدِ اللّه }.. الاَية.

٥٨٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

وقال آخرون: بل تأويل ذلك: قل يا محمد إن الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أنتم يا معشر اليهود من كتاب اللّه .

قالوا: وهذا آخر القول الذي أمر اللّه به نبينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يقول لليهود من هذه الاَية،

قالوا:

وقوله: {أوْ يُحاجّوكُمْ} مردود علـى قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِـمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}. وتأويـل الكلام علـى قول أهل هذه الـمقالة: ولا تؤمنوا إلا لـمن تبع دينكم، فتتركوا الـحقّ أن يحاجوكم به عند ربكم من اتبعتـم دينه، فـاخترتـموه أنه مـحقّ، وأنكم تـجدون نعته فـي كتابكم. فـيكون حينئذ قوله: {أوْ يُحاجّوكُمْ} مردودا علـى جواب نهي متروك علـى قول هؤلاء. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنّ الهُدَى هُدَى اللّه أنْ يُؤْتَـى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِـيتُـمْ}

يقول: هذا الأمر الذي أنتـم علـيه أن يؤتـى أحد مثل ما أوتـيتـم، أو يحاجوكم عند ربكم، قال: قال بعضهم لبعض: لا تـخبروهم بـما بـين اللّه لكم فـي كتابه لـيحاجوكم، قال: لـيخاصموكم به عند ربكم.

{قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّه } معترض به، وسائر الكلام متسق علـى سياق واحد. فـيكون تأويـله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لـمن اتبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتـى أحد مثل ما أوتـيتـم، بـمعنى: لا يؤتـى أحد بـمثل ما أوتـيتـم، {أو يُحاجّوكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ} بـمعنى: أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيـمانكم، لأنكم أكرم علـى اللّه منهم بـما فضلكم به علـيهم. فـيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التـي قال اللّه عزّ وجلّ {وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بـالّذِي أُنْزِلَ علـى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ} سوى قوله: {قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّه } ثم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم فـي قولهم: قل يا مـحمد للقائلـين ما قالوا من الطائفة التـي وصفت لك قولها لتبّـاعها من الـيهود {إنّ الهُدَى هُدَى اللّه } إن التوفـيق توفـيق اللّه ، والبـيان بـيانه، وإن الفضل بـيده يؤتـيه من يشاء، لا ما تـمنـيتـموه أنتـم يا معشر الـيهود. وإنـما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التـي ذكرناها، لأنه أصحها معنى، وأحسنها استقامة علـى معنى كلام العرب، وأشدّها اتساقا علـى نظم الكلام وسياقه، وما عدا ذلك من القول، فـانتزاع يبعد من الصحة علـى استكراه شديد الكلام.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ إنّ الفَضْلَ بِـيَدِ اللّه يُؤْتِـيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد لهؤلاء الـيهود الذين وصفت قولهم لأولـيائهم: إن الفضل بـيد اللّه ، إن التوفـيق للإيـمان، والهداية للإسلام بـيد اللّه ، وإلـيه دونكم ودون سائر خـلقه، {يُؤْتِـيهِ مَنْ يَشَاءُ} من خـلقه، يعنـي: يعطيه من أراد من عبـاده تكذيبـا من اللّه عزّ وجلّ لهم فـي قولهم لتبّـاعهم: لا يؤتـى أحد مثل ما أوتـيتـم. فقال اللّه عزّ وجلّ لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم: لـيس ذلك إلـيكم، إنـما هو إلـى اللّه الذي بـيده الأشياء كلها، وإلـيه الفضل، وبـيده يعطيه من يشاء. {وَاللّه وَاسِعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي: واللّه ذو سعة بفضله علـى من يشاء أن يتفضل علـيه علـيـم ذو علـم بـمن هو منهم للفضل أهل.)

٥٨٦٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة عن ابن جريج، فـي قوله: {قُلْ إنّ الفَضْلَ بِـيَدِ اللّه يُؤْتِـيهِ مِنَ يَشاءُ} قال: الإسلام.

٧٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

يعنـي بقوله: {يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} يفتعل من قول القائل: خصصت فلانا بكذا، أخصه بهوأما رحمته فـي هذا الـموضع: فـالإسلام والقرآن مع النبوّة. كما:

٥٨٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} قال: النبوّة يخصّ بها من يشاء.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٨٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} قال: يختصّ بـالنبوّة من يشاء.

٥٨٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة، عن ابن جريج: {يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} قال: القرآن والإسلام.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج مثله.

{وَاللّه ذُو الفَضْلِ العَظِيـمِ}

يقول: ذو فضل يتفضل به علـى من أحبّ وشاء من خـلقه. ثم وصف فضله بـالعظم،

فقال: فضله عظيـم لأنه غير مشبه فـي عظم موقعه مـمن أفضله علـيه أفضال خـلقه، ولا يقاربه فـي جلالة خطره ولا يدانـيه.

٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ...}

وهذا الـخبر من اللّه عزّ وجلّ أن من أهل الكتاب، وهم الـيهود من بنـي إسرائيـل أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها، ومنهم الـخائن أمانته، الفـاجر فـي يـمينه الـمستـحلّ.

فإن قال قائل: وما وجه إخبـار اللّه عزّ وجلّ بذلك نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وقد علـمت أن الناس لـم يزالوا كذلك منهم الـمؤدّي أمانت والـخائنها؟

قـيـل: إنـما أراد جلّ وعزّ بإخبـاره الـمؤمنـين خبرهم علـى ما بـينه فـي كتابه بهذه الاَيات تـحذيرهم أن يأتـمنوهم علـى أموالهم، وتـخويفهم الاغترار بهم، لاستـحلال كثـير منهم أموال الـمؤمنـين. فتأويـل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه يا مـحمد علـى عظيـم من الـمال كثـير، يؤدّه إلـيك، ولا يخنك فـيه¹ ومنهم الذي إن تأمنه علـى دينار يخنك فـيه، فلا يؤدّه إلـيك إلا أن تلـحّ علـيه بـالتقاضي والـمطالبة. والبـاء فـي قوله: {بِدِينارٍ}، وعلـى يتعاقبـان فـي هذا الـموضع، كما يقال: مررت به، ومررت علـيه.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما}

فقال بعضهم: إلا ما دمت له متقاضيا. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما}: إلا ما طلبته واتبعته.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما} قال: تقتضيه إياه.

٥٨٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قَائما} قال: مواظبـا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما دمت علـيه قائما علـى رأسه. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما}

يقول: يعترف بأمانته ما دمت قائما علـى رأسه، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافَرَك الذي يؤدي، والذي يجحد.

وأولـى القولـين بتأويـل الاَية قول من قال: معنى ذلك: إلا ما دمت علـيه قائما بـالـمطالبة والاقتضاء، من قولهم: قام فلان بحقـي علـى فلان حتـى استـخرجه لـي، أي عمل فـي تـخـلـيصه، وسعى فـي استـخراجه منه حتـى استـخرجه، لأن اللّه عزّ وجلّ إنـما وصفهم بـاستـحلالهم أموال الأميـين، وأن منهم من لا يقضي ما علـيه إلا بـالاقتضاء الشديد والـمطالبة، ولـيس القـيام علـى رأس الذي علـيه الدين، بـموجب له النقلة عما هو علـيه من استـحلال ما هو له مستـحلّ، ولكن قد يكون ـ مع استـحلاله الذهاب بـما علـيه لربّ الـحق ـ إلـى استـخراجه السبـيـلُ بـالاقتضاء والـمـحاكمة والـمخاصمة، فذلك الاقتضاء: هو قـيام ربّ الـمال بـاستـخراج حقه مـمن هو علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أن من استـحلّ الـخيانة من الـيهود وجحود حقوق العربـي التـي هي له علـيه، فلـم يؤدّ ما ائتـمنه العربـي علـيه إلـيه إلا ما دام له متقاضيا مطلبـا¹ من أجل أنه

يقول: لا حرج علـينا فـيـما أصبنا من أموال العرب، ولا إثم، لأنهم علـى غير الـحقّ، وأنهم مشركون.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم نـحو قولنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.. الاَية، قالت الـيهود: لـيس علـينا فـيـما أصبنا من أموال العرب سبـيـل.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال لـيس علـينا فـي الـمشركين سبـيـل، يعنون: من لـيس من أهل الكتاب.

٥٨٧٠ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال: يقال له: ما بـالك لا تؤدّي أمانتك؟ فـ

يقول: لـيس علـينا حرج فـي أموال العرب، قد أحلها اللّه لنا.

٥٨٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبـير، لـما نزلت: {وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَـيْكَ وَمِنْهُ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إلَـيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال: قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (كَذَبَ أعْدَاءُ اللّه ما مِنْ شَيْءٍ كانَ فِـي الـجَاهِلـيةِ إلاّ وَهُوَ تَـحْتَ قَدَمَيّ، إلاّ الأمانَةَ فإنّهَا مُؤَدّاة إلـى البَرّ والفـاجِرِ).

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام بن عبـيد اللّه ، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما قالت الـيهود: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} يعنون أخذ أموالهم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه قال: (إلاّ وَهُوَ تَـحْتَ قَدَمَيّ هَاتَـيْنِ، إلاّ الأمانَةَ فَإنّها مُؤَدّاة) ولـم يزد علـى ذلك.

٥٨٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: لـيس علـينا جناح فـيـما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أميون، فذلك قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.. إلـى آخر الاَية.

وقال آخرون فـي ذلك ما:

٥٨٧٣ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال: بـايع الـيهود رجال من الـمسلـمين فـي الـجاهلـية فلـما أسلـموا تقاضوهم ثمن بـيوعهم،

فقالوا: لـيس لكم علـينا أمانة، ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتـم دينكم الذي كنتـم علـيه، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك فـي كتابهم، فقال اللّه عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}.

٥٨٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن صعصعة، قال: قلت لابن عبـاس : إنا نغزو أهل الكتاب، فنصيب من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهل الكتاب: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.

٥٨٧٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبـي إسحاق الهمدانـي، عن صعصعة: أن رجلاً سأل ابن عبـاس فقال: إنا نصيب فـي الغزو ـ أو العذق، الشكّ من الـحسن ـ من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة،

فقال ابن عبـاس : فتقولون ماذا؟ قال نقول: لـيس علـينا بذلك بأس

قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} إنهم إذا أدّوا الـجزية لـم تـحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن القائلـين منهم لـيس علـينا فـي أموال الأميـين من العرب حرج أن نـختانهم إياه، يقولون ـ بقـيـلهم: إن اللّه أحلّ لنا ذلك، فلا حرج علـينا فـي خيانتهم إياه، وترك قضائهم ـ الكذبَ علـى اللّه عامدين الإثم بقـيـل الكذب علـى اللّه أنه أحلّ ذلك لهم، وذلك قوله عزّ وجلّ: {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}. كما:

٥٨٧٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: فـيقول علـى اللّه الكذب، وهو يعلـم، يعنـي الذي يقول منهم إذا

قـيـل له: ما لك لا تؤدّي أمانتك؟ لـيس علـينا حرج فـي أموال العرب، قد أحلها اللّه لنا.

٥٨٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}: يعنـي ادّعاءهم أنهم وجدوا فـي كتابهم قولهم: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.

٧٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلَىَ مَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّه يُحِبّ الْمُتّقِينَ }

وهذا إخبـار من اللّه عزّ وجلّ عمّا لـمن أدّى أمانته إلـى من ائتـمنه علـيها اتقاءَ اللّه ومراقبَته عنده.

فقال جل ثناؤه: لـيس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون علـى اللّه من الـيهود، من أنه لـيس علـيهم فـي أموال الأميـين حرج ولا إثم، ثم قال بلـى، ولكن من أوفـى بعهده واتقـى، يعنـي ولكن الذي أوفـى بعهده، وذلك وصيته إياهم، التـي أوصاهم بها فـي التوراة من الإيـمان بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاءهم به. والهاء فـي قوله: {مَنْ أَوْفَـى بِعَهْدِهِ} عائدة علـى اسم اللّه فـي قوله: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ}

يقول: بلـى من أوفـى بعهد اللّه الذي عاهده فـي كتابه، فآمن بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وصدّق به. بـما جاء به من اللّه من أداء الأمانة إلـى من ائتـمنه علـيها، وغير ذلك من أمر اللّه ونهيه، و{وَاتّقَـى}

يقول: واتقـى ما نهاه اللّه عنه من الكفر به وسائر معاصيه التـي حرّمها علـيه، فـاجتنب ذلك مراقبة وعيد اللّه ، وخوف عقابه {فإنّ اللّه يُحِبّ الـمُتقـينَ} يعنـي: فإن اللّه يحبّ الذين يتقونه فـيخافون عقابه، ويحذرون عذابه، فـيجتنبون ما نهاهم عنه، وحرّمه علـيهم، ويطيعونه فـيـما أمرهم به. وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه كان

يقول: هو اتقاء الشرك.

٥٨٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {بَلَـى مَنْ أَوْفَـى بِعَهْدِهِ وَاتّقَـى}

يقول: اتقـى الشرك¹ {إنّ اللّه يُحِبّ الـمُتّقِـينَ}

يقول: الذين يتقون الشرك.

وقد بـينا اختلاف أهل التأويـل فـي ذلك والصواب من القول فـيه بـالأدلة الدالة علـيه فـيـما مضى من كتابنا بـما فـيه الكفـاية عن إعادته.

٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين يستبدلون بتركهم عهد اللّه الذي عهد إلـيهم، ووصيته التـي أوصاهم بها فـي الكتب التـي أنزلها اللّه إلـى أنبـيائه بـاتبـاع مـحمد وتصديقه، والإقرار به، وما جاء به من عند اللّه وبأيـمانهم الكاذبة التـي يستـحلون بها ما حرّم اللّه علـيهم من أموال الناس التـي اؤتـمنوا علـيها ثمنا، يعنـي عوضا وبدلاً خسيسا من عرض الدنـيا وحطامها. {أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ}

يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظّ لهم فـي خيرات الاَخرة، ولا نصيب لهم من نعيـم الـجنة، وما أعدّ اللّه لأهلها فـيها. دون غيرهم.

وقد بـينا اختلاف أهل التأويـل فـيـما مضى فـي معنى الـخلاق، ودللنا علـى أولـى أقوالهم فـي ذلك بـالصواب بـما فـيه الكفـاية.

وأما قوله: {وَلا يُكَلّـمُهُمُ اللّه } فإنه يعنـي: ولا يكلـمهم اللّه بـما يسرّهم ولا ينظر إلـيهم،

يقول: ولا يعطف علـيهم بخير مقتا من اللّه لهم كقول القائل لاَخر: انظر إلـيّ نظر اللّه إلـيك، بـمعنى:تعطف علـيّ تعطف اللّه علـيك بخير ورحمة، وكما يقال للرجل: لا سمع اللّه لك دعاءك، يراد: لا استـجاب اللّه لك، واللّه لا يخفـى علـيه خافـية، وكما قال الشاعر:

دَعَوْتُ اللّه حتـى خِفْتُ أنْ لا

يَكُونَ اللّه يَسْمَعُ ما أقُولُ

وقوله {وَلا يُزَكّيهِمْ} يعنـي: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ} يعنـي: ولهم عذاب موجع.

واختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله أنزلت هذه الاَية، ومن عنـي بها؟

فقال بعضهم: نزلت فـي أحبـار من أحبـار الـيهود. ذكر من قال ذلك:

٥٨٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: نزلت هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأيْـمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً} فـي أبـي رافع وكنانة بن أبـي الـحقـيق وكعب بن الأشرف وحيـي بن أخطب.

وقال آخرون: بل نزلت فـي الأشعث بن قـيس وخصم له. ذكر من قال ذلك:

٥٨٨٠ـ حدثنـي أبو السائب سلـم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبـي وائل، عن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَـى يَـمِينٍ هُوَ فِـيها فـاجِرٌ لِـيَقْتَطِعَ بِها مالَ امْرِىءٍ مُسْلِـمٍ، لَقِـيَ اللّه وَهُوَ عَلَـيْهِ غَضْبـانُ) فقال الأشعث بن قـيس: فـيّ واللّه كان ذلك، كان بـينـي وبـين رجل من الـيهود أرض، فجحدنـي، فقدمته إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألَكَ بَـيّنَةً)؟ قلت: لا، فقال للـيهوديّ: (احْلِفْ)! قلت: يا رسول اللّه إذَنْ يحلف فـيذهب مالـي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأيْـمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً} الاَية.

٥٨٨١ـ حدثنا مـجاهد بن موسى قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جرير بن حازم عن عديّ بن عديّ، عن رجاء بن حيوة والعُرْس، أنهما حدثاه، عن أبـيه عديّ بن عميرة، قال: كان بـين امرىء القـيس ورجل من حضرموت خصومة، فـارتفعا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال للـحضرمي: (بَـيّنَتَكَ وَإلاّ فَـيَـمِينُهُ!) قال: يا رسول اللّه إن حلف ذهب بأرضي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلـى يَـمِينٍ كَاذِبَةٍ لـيَقْتَطِعَ بِها حَقّ أخِيهِ لَقِـيَ اللّه وَهُوَ عَلَـيْهِ غَضْبـانُ). فقال امرؤ القـيس: يا رسول اللّه ، فما لـمن تركها وهو يعلـم أنها حقّ؟ قال: (الـجنّة)، قال: فإنـي أشهدك أنـي قد تركتها. قال جرير: فكنت مع أيوب السختـيانـي حين سمعنا هذا الـحديث من عديّ، فقال أيوب: إنّ عديا قال فـي حديث العرس بن عميرة: فنزلت هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانَهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. إلـى آخر الاَية، قال جرير: ولـم أحفظ يومئذ من عديّ.

٥٨٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قال آخرون: إن الأشعث بن قـيس اختصم هو ورجل إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي أرض كانت فـي يده لذلك الرجل أخذها لتعزّزه فـي الـجاهلـية، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أقِمْ بَـيّنَتَكَ!) قال الرجل: لـيس يشهد لـي أحد علـى الأشعث

قال: (فَلَكَ يَـمِينُهُ). فقام الأشعث لـيحلف، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الاَية، فنكل الأشعث وقال: إنـي أشهد اللّه وأشهدكم أن خصمي صادق. فردّ إلـيه أرضه، وزاده من أرض نفسه زيادة كثـيرة، مخافة أن يبقـى فـي يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن شقـيق، عن عبد اللّه ، قال: من حلف علـى يـمين يستـحقّ بها مالاً هو فـيها فـاجر لقـي اللّه وهو علـيه غضبـان، ثم أنزل اللّه تصديق ذلك: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأَيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً} الاَية... ثم إن الأشعث بن قـيس خرج إلـينا،

فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بـما قال،

فقال: صدق لفـيّ أنزلت، كانت بـينـي وبـين رجل خصومة فـي بئر، فـاختصمنا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (شاهِدَاكَ أوْ يَـمِينُهُ!) فقلت: إذا يحلف ولا يبـالـي. فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَـى يَـمِينٍ يَسْتَـحِقّ بِها مالاً هُوَ فِـيها فـاجِرٌ لَقِـيَ اللّه وَهُوَ عَلَـيْهِ غَضْبـانُ)، ثم أنزل اللّه عزّ وجلّ تصديق ذلك: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. الاَية.

وقال آخرون بـما:

٥٨٨٣ـ حدثنا به مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنـي داود بن أبـي هند، عن عامر: أن رجلاً أقام سلعته أوّل النهار، فلـما كان آخره جاء رجل يساومه، فحلف لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا الـمساء ما بـاعها به، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذِي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.

٥٨٨٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن رجل، عن مـجاهد، نـحوه.

٥٨٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. الاَية، إلـى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ} أنزلهم اللّه بـمنزلة السحرة.

٥٨٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن عمران بن حصين كان

يقول: من حلف علـى يـمين فـاجرة يقتطع بها مال أخيه فلـيتبوأ مقعده من النار، فقال له قائل: شيء سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتـجدون ذلك، ثم قرأ هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. الاَية.

٥٨٨٧ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا حسين بن علـيّ، عن زائدة، عن هشام، قال: قال مـحمد عن عمران بن حصين: من حلف علـى يـمين مصبورة فلـيتبوأ بوجهه مقعده من النار، ثم قرأ هذه الاَية كلها: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.

٥٨٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، قال: إن الـيـمين الفـاجرة من الكبـائر، ثم تلا: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.

٥٨٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد اللّه بن مسعود، كان

يقول: كنا نرى ونـحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن من الذنب الذي لا يغفر يـمين الصبر إذا فجر فـيها صاحبها.

٧٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب، وهم الـيهود الذين كانوا حوالـي مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، علـى عهده من بنـي إسرائيـل. والهاء والـميـم فـي قوله: {مِنْهُمْ} عائدة علـى أهل الكتاب الذين ذكرهم فـي قوله: {وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَـيْكَ}

وقوله: {لَفَرِيقا} يعنـي: جماعة {يَـلْوُونَ} يعنـي: يحرّفون، {ألْسِنَتَهُمْ بـالْكِتابِ لِتَـحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ} يعنـي: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب اللّه وتنزيـله،

يقول اللّه عزّ وجلّ: {وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم، فحرّفوه وأحدثوه من كتاب اللّه ، ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التـحريف والكذب والبـاطل فألـحقوه فـي كتاب اللّه من عند اللّه }،

يقول: {مـما أنزله اللّه علـى أنبـيائه، وما هو من عند اللّه }،

يقول: {وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم، فأحدثوه مـما أنزله اللّه إلـى أحد من أنبـيائه، ولكنه مـما أحدثوه من قِبَل أنفسهم، افتراء علـى اللّه }.

يقول عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} يعنـي بذلك: أنهم يتعمدون قـيـل الكذب علـى اللّه ، والشهادة علـيه بـالبـاطل، والإلـحاق بكتاب اللّه ما لـيس منه طلبـا للرياسة والـخسيس من حطام الدنـيا.

٧٩

وبنـحو ما قلنا فـي معنى: {يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالكِتَابِ}

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٨٩٠ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالكِتَابِ} قال: يحرّفونه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٨٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالْكِتَابِ} حتـى بلغ: {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} هم أعداء اللّه الـيهود حرّفوا كتاب اللّه وابتدعوا فـيه، وزعموا أنه من عند اللّه .

٥٨٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِـالكِتَابِ لَتَـحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ} وهم الـيهود كانوا يزيدون فـي كتاب اللّه ما لـم ينزل اللّه .

٥٨٩٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَـلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بـالكِتَابِ} قال: فريق من أهل الكتاب يـلوون ألسنتهم، وذلك تـحريفهم إياه عن موضعه.

وأصل اللـيّ: الفتل والقلب، من قول القائل: لوى فلان يد فلان: إذا فتلها وقلبها، ومنه قول الشاعر:

لَـوَى يَـدَهُ اللّه الـذِي هُـوَ غَـالِـبُـهْ

يقال منه: لوى يده ولسانه يـلوي لـيا، وما لوى ظهر فلان أحد: إذا لـم يصرعه أحد، ولـم يفتل ظهره إنسان، وإنه لألوى بعيد الـمستـمر: إذا كان شديد الـخصومة صابرا علـيها لا يغلب فـيها، قال الشاعر:

فَلَوْ كَانَ فِـي لَـيـلَـى شَدا مِنْ خُصُومَةٍلَلَوّيْتُ أعْنَاقَ الـخُصُومِ الـمَلاوِيَا.

القول في تأويله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ... }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر، والبشر: جمع بنـي آدم، لا واحد له من لفظه، مثل القوم والـخـلق، وقد يكون اسما لواحد. {أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّه الكِتابَ}

يقول: أن ينزل اللّه علـيه كتابه، {والـحُكْمَ} يعنـي: ويعلـمه فصل الـحكمة، {وَالنُبُوّةَ}

يقول: ويعطيه النبوّة، {ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لـي مِنْ دُونِ اللّه } يعنـي: ثم يدعو الناس إلـى عبـادة نفسه دون اللّه ، وقد آتاه اللّه ما آتاه من الكتاب والـحكم والنبوّة، ولكن إذا آتاه اللّه ذلك فإنـما يدعوهم إلـى العلـم بـالله، ويحدوهم علـى معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء فـي الـمعرفة بأمر اللّه ونهيه، وأئمة فـي طاعته وعبـادته بكونهم معلـمي الناس الكتاب، وبكونهم دارسيه.

وقـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي قوم من أهل الكتاب قالوا للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أتدعونا إلـى عبـادتك؟ كما:

٥٨٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتـمعت الأحبـار من الـيهود والنصارى من أهل نـجران عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودعاهم إلـى الإسلام: أتريد يا مـحمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريـم؟ فقال رجل من أهل نـجران نصرانـي، يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا مـحمد وإلـيه تدعونا؟ أو كما قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَعَاذَ اللّه أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللّه ، أوْ نَأْمُرَ بِعِبـادَةِ غَيْرِهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِـي، وَلا بِذَلِكَ أمَرَنِـي). أو كما قال¹ فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيهُ اللّه الكِتابَ وَالـحُكْمَ وَالنّبُوّةَ}.. الاَية، إلـى قوله بعد: {إذْ أَنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ}.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نـحوه.

٥٨٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّه الكِتَابَ وَالـحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لـي مِنْ دُونِ اللّه }

يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتـيه اللّه الكتاب والـحكم والنبوّة يأمر عبـاده أن يتـخذوه ربـا من دون اللّه .

٥٨٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٥٨٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم، بتـحريفهم كتاب اللّه عن موضعه، فقال اللّه عزّ وجلّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّه الكِتابَ وَالـحُكْمَ والنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لِـي مِنْ دُونِ اللّه } ثم يأمر الناس بغير ما أنزل اللّه فـي كتابه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ}.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: ولكن يقول لهم: كونوا ربـانـيـين، فترك القول استغناء بدلالة الكلام علـيه.

وأما قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علـماء. ذكر من قال ذلك:

٥٨٩٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن أبـي رزين: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: حكماء علـماء.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن منصور، عن أبـي رزين: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: حكماء علـماء.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبـي رزين، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبـي رزين: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ}: حكماء علـماء.

٥٩٠٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن عوف، عن الـحسن فـي قوله: {كُونُوا رَبـانِـيّـينَ} قال: كونوا فقهاء علـماء.

٥٩٠١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيـينَ} قال: فقهاء.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي القاسم، عن مـجاهد، قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: فقهاء.

٥٩٠٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: كونوا فقهاء علـماء.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن منصور بن الـمعتـمر، عن أبـي رزين فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: علـماء حكماء. قال معمر: قال قتادة.

٥٩٠٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} أما الربـانـيون: فـالـحكماء الفقهاء.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال الربـانـيون: الفقهاء العلـماء، وهم فوق الأحبـار.

٥٩٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ}

يقول: كونوا حكماء فقهاء.

٥٩٠٥ـ حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبـي حمزة الثمالـي، عن يحيـى بن عقـيـل فـي قوله الربـانـيون والأحبـار، قال: الفقهاء العلـماء.

حدثت عن الـمنـجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبـي روق، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس ، مثله.

حدثنـي ابن سنان القزاز، قال: حدثنا الـحسين بن الـحسن الأشقر، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: كونوا حكماء فقهاء.

٥٩٠٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ}

يقول: كونوا فقهاء علـماء.

وقال آخرون: بل هم الـحكماء الأتقـياء. ذكر من قال ذلك:

٥٩٠٧ـ حدثنـي يحيـى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا فضيـل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيـينَ} قال: حكماء أتقـياء.

وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم. ذكر من قال ذلك:

٥٩٠٨ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} قال: الربـانـيون: الذين يربون الناس ولاة هذا الأمر، يربونهم: يـلونهم. وقرأ: {لولا يَنْهَاهُمُ الرّبّـانِـيّونَ والأحْبـارُ} قال: الربـانـيون: الولاة، والأحبـار: العلـماء.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال عندي بـالصواب فـي الربـانـيـين أنهم جمع ربـانـيّ، وأن الربـانـيّ الـمنسوب إلـى الرّبّـان: الذي يربّ الناس، وهو الذي يصلـح أمورهم ويربها، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:

وكنتَ امْرأً أفْضَتْ إِلَـيْكَ رِبَـابَتِـيوَقَبْلَكَ رَبّتْنِـي فَضِعْتُ رُبُوبُ

يعنـي بقوله: (ربّتنـي): ولـي أمري والقـيام به قبلك من يربه ويصلـحه، فلـم يصلـحوه، ولكنهم أضاعونـي فضعت، يقال منه: ربّ أمري فلان فهو بربّه رَبّـا وهو رابّه، فإذا أريد به الـمبـالغة فـي مدحه

قـيـل: هو رَبّـان، كما يقال: هو نعسان، من قولهم: نَعَس ينعُس، وأكثر ما يجيء من الأسماء علـى فعلان ما كان من الأفعال الـماضية علـى فَعِل مثل قولهم: هو سكران وعطشان وريان، من سَكِرَ يَسْكَر، وعَطِش يَعطش، ورَوِي يَرْوَى، وقد يجيء مـما كان ماضيه علـى فَعَل يَفْعُل، نـحو ما قلنا من نَعَسَ يَنْعُس، ورَبّ يَرُبّ.

فإذا كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا، وكان الربـان ما ذكرنا، والربـانـي: هو الـمنسوب إلـى من كان بـالصفة التـي وصفت، وكان العالـم بـالفقه والـحكمة من الـمصلـحين، يربّ أمور الناس بتعلـيـمه إياهم الـخير، ودعائهم إلـى ما فـيه مصلـحتهم، وكان كذلك الـحكيـم التقـيّ لله، والولـي الذي يـلـي أمور الناس علـى الـمنهاج الذي ولـيه الـمقسطون من الـمصلـحين أمور الـخـلق بـالقـيام فـيهم، بـما فـيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النفع علـيهم فـي دينهم ودنـياهم¹ كانوا جميعا مستـحقـين أنهم مـمن دخـل فـي قوله عزّ وجلّ {وَلَكِنْ كُونُوا رَبـانِـيّـينَ}. فـالربـانـيون إذا، هم عماد الناس فـي الفقه والعلـم وأمور الدين والدنـيا، ولذلك قال مـجاهد: (وهم فوق الأحبـار)، لأن الأحبـار هم العلـماء. والربـانـي: الـجامع إلـى العلـم والفقه، البصرَ بـالسياسة والتدبـير، والقـيام بأمور الرعية، وما يصلـحهم فـي دنـياهم ودينهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بِـمَا كُنْتُـمْ تعَلّـمُونَ الكِتابَ، وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ}.

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء أهل الـحجاز وبعض البصريـين: (بِـمَا كُنْتُـمْ تَعْلَـمُونَ) بفتـح التاء وتـخفـيف اللام، يعنـي: بعلـمكم الكتاب، ودراستكم إياه وقراءتكم. واعتلّوا لاختـيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن الصواب لو كان التشديد فـي اللام وضمّ التاء، لكان الصواب فـي (تدرسون) بضم التاء وتشديد الراء. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين: {بِـمَا كُنْتُـمْ تُعَلّـمُونَ الكِتابَ} بضم التاء من تعلّـمون وتشديد اللام، بـمعنى: بتعلـيـمكم الناس الكتاب، ودراستكم إياه. واعتلّوا لاختـيارهم ذلك بأن من وصفهم بـالتعلـيـم فقد وصفهم بـالعلـم، إذ لا يعلّـمون إلا بعد علـمهم بـما يعلـمون.

قالوا: ولا موصوف بأنه يعلـم، إلا وهو موصوف بأنه عالـم.

قالوا: فأما الـموصوف بأنه عالـم، فغير موصوف بأنه معلـم غيره.

قالوا: فأولـى القراءتـين بـالصواب، أبلغهما فـي مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلّـمون الناس الكتاب. كما:

٥٩٠٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يحيـى بن آدم، عن ابن عيـينة، عن حميد الأعرج، عن مـجاهد أنه قرأ: (بِـمَا كُنْتُ تَعْلَـمُونَ الكِتابَ وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ) مخففة بنصب التاء

وقال ابن عيـينة: ما عَلّـموه حتـى عَلِـموه.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأه بضم التاء وتشديد اللام، لأن اللّه عزّ وجلّ وصف القوم بأنهم أهل عماد للناس فـي دينهم ودنـياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربـية،

يقول جلّ ثناؤه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبّـانِـيّـينَ} علـى ما بـينا قبل من معنى الربـانـي. ثم أخبر تعالـى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس، وتربـية لهم بتعلـيـمهم إياهم كتاب ربهم. ودراستهم إياه: تلاوته، وقد

قـيـل: دراستهم الفقه.

وأشبه التأويـلـين بـالدراسة ما قلنا من تلاوة الكتاب، لأنه عطف علـى قوله: {تُعَلّـمُونَ الكِتابَ}، والكتاب: هو القرآن، فلأن تكون الدراسة معنـيا بها دراسة القرآن أولـى من أن تكون معنـيا بها دراسة الفقه الذي لـم يجر له ذكر. ذكر من قال ذلك:

٥٩١٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال يحيـى بن آدم: قال أبو زكريا: كان عاصم يقرؤها: {بِـمَا كُنْتُـمْ تُعَلّـمُونَ الكِتابَ} قال: القرآن، {وَبِـمَا كُنْتُـمْ تَدْرُسُونَ} قال: الفقه.

فمعنى الاَية: ولكن يقول لهم: كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم فـي أمر دينهم ودنـياهم، ربـانـيـين بتعلـيـمكم إياهم كتاب اللّه ، وما فـيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معانـي أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراستكمونه.

٨٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَاباً ...}

اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ}، فقرأته عامة قراء الـحجاز والـمدينة: (وَلاَ يَأْمُرُكُمْ) علـى وجه الابتداء من اللّه بـالـخبر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنّهُ لاَ يَأْمُرُكُمْ أيّها النّاسُ أنْ تَتّـخِذُوا الـمَلائِكَةَ وَالنّبِـيّـينَ أرْبـابـا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها وهي: (ولن يأمركم) فـاستدلوا بدخول لن علـى انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف.

قالوا: فلـما صير مكان (لن) فـي قراءتنا (لا) وجبت قراءته بـالرفع. وقرأه بعض الكوفـيـين والبصريـين: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} بنصب الراء عطفـا علـى قوله: {ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ}. وكان تأويـله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتـيه اللّه الكتاب، ثم يقول للناس ولا أن يأمركم، بـمعنى: ولا كان له أن يأمركم أن تتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بـالنصب علـى الاتصال بـالذي قبله، بتأوّل: {ما كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِـيَهُ اللّه الكِتابَ وَالـحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبـادا لـي مِنْ دُونِ اللّه } ولا أن يأمركم أن تتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا. لأن الاَية نزلت فـي سبب القوم الذين قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أتريد أن نعبدك؟ فأخبرهم اللّه جل ثناؤه أنه لـيس لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو الناس إلـى عبـادة نفسه، ولا إلـى اتـخاذ الـملائكة والنبـيـين أربـابـا، ولكن الذي له أن يدعوهم إلـى أن يكونوا ربـانـيـين. فأما الذي ادّعى من قرأ ذلك رفعا أنه فـي قراءة عبد اللّه : (ولن يأمركم) استشهادا لصحة قراءته بـالرفع، فذلك خبر غير صحيح سنده، وإنـما هو خبر رواه حجاج عن هارون لا يجوز أن ذلك فـي قراءة عبد اللّه كذلك. ولو كان ذلك خبرا صحيحا سنده، لـم يكن فـيه لـمـحتـجّ حجة، لأن ما كان علـى صحته من القراءة من الكتاب الذي جاء به الـمسلـمون وراثة عن نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم لا يجوز تركه لتأويـل علـى قراءة أضيفت إلـى بعض الصحابة بنقل من يجوز فـي نقله الـخطأ والسهو.

فتأويـل الاَية إذا: وما كان للنبـيّ أن يأمر الناس أن يتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا، يعنـي بذلك آلهة يعبدون من دون اللّه ، كما لـيس له أن يقول لهم كونوا عبـادا لـي من دون اللّه . ثم قال جل ثناؤه نافـيا عن نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يأمر عبـاده بذلك: أيأمركم بـالكفر أيها الناس نبـيكم بجحود وحدانـية اللّه بعد إذ أنتـم مسلـمون، يعنـي بعد إذ أنتـم له منقادون بـالطاعة متذللون له بـالعبودية، أي إن ذلك غير كائن منه أبدا. وقد:

٥٩١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ولا يأمركم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أن تتـخذوا الـملائكة والنبـيـين أربـابـا.

٨١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين، يعنـي حين أخذ اللّه ميثاق النبـيـين، وميثاقهم: ما وثقوا به علـى أنفسهم طاعة اللّه فـيـما أمرهم ونهاهم. وقد بـينا أصل الـميثاق بـاختلاف أهل التأويـل فـيه بـما فـيه الكفـاية. {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكَمَةٍ} اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـحجاز والعراق¹ {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ} بفتـح اللام من (لـما)، إلا أنهم اختلفوا فـي قراءة آتـيتكم، فقرأه بعضهم {آتَـيْتُكُمْ} علـى التوحيد، وقرأه آخرون: (آتـيناكم)، علـى الـجمع.

ثم اختلف أهل العربـية إذا قرىء ذلك كذلك، فقال بعض نـحويـي البصرة: اللام التـي مع (ما) فـي أوّل الكلام لام الابتداء، نـحو قول القائل: لزيد أفضل منك، لأن (ما) اسم، والذي بعدها صلة لها، واللام التـي فـي: {لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ} لام القسم، كأنه قال: واللّه لتؤمننّ به، يؤكد فـي أول الكلام وفـي آخره، كما يقال: أما واللّه أن لو جئتنـي لكان كذا وكذا، وقد يستغنى عنها فـيؤكد فـي لتؤمننّ به بـاللام فـي آخر الكلام، وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر (ما آتـيتكم من كتاب وحكمة)، (لتؤمننّ به)، مثل: (لعبداللّه واللّه لا آتـينه)، قال: وإن شئت جعلت خبر (ما) (من كتاب) يريد: لـما آتـيتكم كتابٌ وحكمة، وتكون (من) زائدة. وخطّأ بعض نـحويـي الكوفـيـين ذلك كله، وقال: اللام التـي تدخـل فـي أوائل الـجزاء لا تـجاب بـما ولا (لا) فلا يقال لـمن قام: لا تتبعه، ولا لـمن قام: ما أحسن، فإذا وقع فـي جوابها (ما) و(لا) علـم أن اللام لـيست بتوكيد للأولـى، لأنه يوضع موضعها (ما) و(لا)، فتكون كالأولـى، وهي جواب للأولـى

قال: وأما قوله: {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} بـمعنى إسقاط (من) غلط، لأن (من) التـي تدخـل وتـخرج لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع فـي الـخبر أيضا، إنـما تقع فـي الـجحد والاستفهام والـجزاء.

وأولـى الأقوال فـي تأويـل هذه الاَية علـى قراءة من قرأ ذلك بفتـح اللام بـالصواب أن يكون قوله: {لَـمَا} بـمعنى: لـمهما، وأن تكون (ما) حرف جزاء أدخـلت علـيها اللام، وصير الفعل معها علـى فَعَل، ثم أجيبت بـما تـجاب به الأيـمان، فصارت اللام الأولـى يـمينا إذ تلقـيت بجواب الـيـمين.

وقرأ ذلك آخرون: (لِـما آتَـيْتُكُمْ) بكسر اللام من (لـما)، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.

ثم اختلف قارئو ذلك كذلك فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معناه إذا قرىء كذلك: وإذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين للذي آتـيتكم، فما علـى هذه القراءة بـمعنى: الذي عندهم. وكان تأويـل الكلام: وإذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول: يعنـي: ثم إن جاءكم رسول، يعنـي ذكر مـحمد فـي التوراة، لتؤمنن به، أي لـيكونن إيـمانكم به للذي عندكم فـي التوراة من ذكره.

وقال آخرون منهم: تأويـل ذلك إذا قرىء بكسر اللام من (لِـما). وإذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين للذي آتاهم من الـحكمة، ثم جعل قوله: لتؤمنن به من الأخذ، أخذ الـميثاق، كما يقال فـي الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الـميثاق بـمنزلة الاستـحلاف. فكان تأويـل الكلام عند قائل هذا القول: وإذا استـحلف اللّه النبـيـين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متـى جاءهم رسول مصدق لـما معهم لـيؤمننّ به ولـينصرنه.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ} بفتـح اللام، لأن اللّه عز وجلّ أخذ ميثاق جميع الأنبـياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلـى خـلقه فـيـما ابتعثه به إلـيهم، كان مـمن آتاه كتابـا، أو من لـم يؤته كتابـا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبـياء اللّه عزّ وجلّ ورسله، بأنه كان مـمن أبـيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن منهم من أنزل علـيه الكتاب، وأن منهم من لـم ينزل علـيه الكتاب، كان بـيّنا أن قراءة من قرأ ذلك: (لِـمَا آتَـيْتُكُمْ) بكسر اللام، بـمعنى: من أجل الذي آتـيتكم من كتاب، لا وجه له مفهوم إلا علـى تأويـل بعيد، وانتزاع عميق.)

ثم اختلف أهل التأويـل فـيـمن أخذ ميثاقه بـالإيـمان بـمن جاءه من رسل اللّه مصدّقا لـما معه،

فقال بعضهم: إنـما أخذ اللّه بذلك ميثاق أهل الكتاب، دون أنبـيائهم، واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله: {لَتوءْمِنَنّ بِه وَلتَنْصُرَنّهُ}

قالوا: فإنـما أمر الذين أرسلت إلـيهم الرسل من الأمـم بـالإيـمان برسل اللّه ، ونصرتها علـى من خالفهاوأما الرسل فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها الـمـحتاجة إلـى الـمعونة علـى من خالفها من كفرة بنـي آدم، فأما هي فإنها لا تعين الكفرة علـى كفرها ولا تنصرها.)

قالوا: وإذا لـم يكن غيرها وغير الأمـم الكافرة، فمن الذي ينصر النبـيّ، فـيؤخذ ميثاقه بنصرته؟ ذكر من قال ذلك:

٥٩١٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثَاقَ النبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} قال: هي خطأ من الكاتب، وهي فـي قراءة ابن مسعود: (وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ).

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٩١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ}

يقول: وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربـيع: (وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب)، إنـما هي أهل الكتاب، قال: وكذلك كان يقرؤها أبـيّ بن كعب، قال الربـيع: ألا ترى أنه

يقول: {ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّق لِـمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنَنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ}

يقول: لتؤمننّ بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم ولتنصرنه، قال: هم أهل الكتاب.

وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك الأنبـياء دون أمـمها. ذكر من قال ذلك:

٥٩١٤ـ حدثنـي الـمثنى وأحمد بن حازم قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: إنـما أخذ اللّه ميثاق النبـيـين علـى قومهم.

٥٩١٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ} أن يصدّق بعضهم بعضا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبـيه فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ}.. الاَية، قال: أخذ اللّه ميثاق الأول من الأنبـياء لـيصدقنّ ولـيؤمننّ بـما جاء به الاَخِر منهم.

٥٩١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ بن أبـي طالب، قال: لـم يبعث اللّه عزّ وجلّ نبـيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ علـيه العهد فـي مـحمد: لئن بعث وهو حيّ لـيؤمننّ به ولـينصرنه، ويأمره فـيأخذ العهد علـى قومه،

فقال: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}.. الاَية.

٥٩١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ}.. الاَية، هذا ميثاق أخذه اللّه علـى النبـين أن يصدّق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب اللّه ورسالاته. فبلغت الأنبـياء كتاب اللّه ورسالاته إلـى قومهم، وأخذ علـيهم فـيـما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ويصدّقوه وينصروه.

٥٩١٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}.. الاَية

قال: لـم يبعث اللّه عزّ وجلّ نبـيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه: لـيؤمننّ بـمـحمد، ولـينصرنه إن خرج وهو حيّ، وإلا أخذ علـى قومه أن يؤمنوا به، ولـينصرنه إن خرج وهم أحياء.

٥٩١٩ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا عبد الكبـير بن عبد الـمـجيد أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور قال: سألت الـحسن، عن قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِن كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}.. الاَية كلها، قال: أخذ اللّه ميثاق النبـيـين: لـيبلغنّ آخركم أولكم ولا تـختلفوا.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه ميثاق النبـيـين وأمـمهم، فـاجتزأ بذكر الأنبـياء عن ذكر أمـمها، لأن فـي ذكر أخذ الـميثاق علـى الـمتبوع دلالة علـى أخذه علـى التبـاع، لأن الأمـم هم تبّـاع الأنبـياء. ذكر من قال ذلك:

٥٩٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: ثم ذكر ما أخذ علـيهم، يعنـي علـى أهل الكتاب، وعلـى أنبـيائهم من الـميثاق بتصديقه، يعنـي بتصديق مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا جاءهم، وإقرارهم به علـى أنفسهم،

فقال: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـينَ لَـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ}.. إلـى آخر الاَية.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، مثله.

وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: الـخبر عن أخذ اللّه الـميثاق من أنبـيائه بتصديق بعضهم بعضا، وأخذ الأنبـياء علـى أمـمها، وتبـاعها الـميثاق بنـحو الذي أخذ علـيها ربها، من تصديق أنبـياء اللّه ورسله بـما جاءتها به، لأن الأنبـياء علـيهم السلام بذلك أرسلت إلـى أمـمها، ولـم يدّع أحد مـمن صدق الـمرسلـين أن نبـيا أرسل إلـى أمة بتكذيب أحد من أنبـياء اللّه عزّ وجلّ، وحججه فـي عبـاده، بل كلها، وإن كذّب بعض الأمـم بعض أنبـياء اللّه بجحودها نبوّته، مقرّ بأن من ثبتت صحة نبوّته، فعلـيها الدينونة بتصديقه فذلك ميثاق مقرّ به جميعهم. ولا معنى لقول من زعم أن الـميثاق إنـما أخذ علـى الأمـم دون الأنبـياء، لأن اللّه عزّ وجلّ، قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبـيـين،

فسواء قال قائل: لـم يأخذ ذلك منها ربها، أو قال: لـم يأمرها ببلاغ ما أرسلت، وقد نصّ اللّه عزّ وجلّ أنه أمرها بتبلـيغه، لأنهما جميعا خبران من اللّه عنها، أحدهما أنه أخذ منها، والاَخر منهما أنه أمرها، فإن جاز الشكّ فـي أحدهما جاز فـي الاَخروأما ما استشهد به الربـيع بن أنس علـى أن الـمعنـيّ بذلك أهل الكتاب من قوله: {لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرنّهُ} فإن ذلك غير شاهد علـى صحة ما قال، لأن الأنبـياء قد أمر بعضها بتصديق بعض، وتصديق بعضها بعضا، نصرة من بعضها بعضا.

ثم اختلفوا فـي الذين عنوا بقوله: {ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ}

فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك هم الأنبـياء، أخذت مواثـيقهم أن يصدّق بعضهم بعضا، وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله.

وقال آخرون: هم أهل الكتاب أمروا بتصديق مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إذا بعثه اللّه وبنصرته، وأخذ ميثاقهم فـي كتبهم بذلك، وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضا عمن قاله.

وقال آخرون مـمن قال الذين عنوا بأخذ اللّه ميثاقهم منهم فـي هذه الاَية هم الأنبـياء، قوله: {ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ} معنـيّ به أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

٥٩٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر

قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبـيه فـي قوله: {وَإِذْ أخَذَ اللّه مِيثَاقَ النّبِـيّـينَ لِـمَا آتَـيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ} قال: أخذ اللّه ميثاق النبـيـين: أن يصدّق بعضهم بعضا، ثم قال: {ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِـمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ} قال: فهذه الاَية لأهل الكتاب أخذ اللّه ميثاقهم أن يؤمنوا بـمـحمد ويصدّقوه.

٥٩٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنـي ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قال: قال قتادة: أخذ اللّه علـى النبـيـين ميثاقهم أن يصدّق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب اللّه ورسالته إلـى عبـاده، فبلّغت الأنبـياء كتاب اللّه ورسالاته إلـى قومهم، وأخذوا مواثـيق أهل الكتاب فـي كتابهم، فـيـما بلغتهم رسلهم، أن يؤمنوا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ويصدّقوه وينصروه.

وأولـى الأقوال بـالصواب عندنا فـي تأويـل هذه الاَية: أن جميع ذلك خبر من اللّه عزّ وجلّ عن أنبـيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أمـمهم إلـيه والإقرار به، لأن ابتداء الاَية خبر من اللّه عزّ وجلّ عن أنبـيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم،

فقال: هو كذا وهو كذا.

وإنـما قلنا إن ما أخبر اللّه أنه أخذ به مواثـيق أنبـيائه من ذلك، قد أخذت الأنبـياء مواثـيق أمـمها به، لأنها أرسلت لتدعو عبـاد اللّه إلـى الدينونة، بـما أمرت بـالدينونة به فـي أنفسها من تصديق رسل اللّه علـى ما قدمنا البـيان قبل.

فتأويـل الاَية: واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين لـمهما آتـيتكم أيها النبـيون من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدّق لـما معكم لتؤمننّ به،

يقول: لتصدقنه ولتنصرنه. وقد قال السديّ فـي ذلك بـما:

٥٩٢٣ـ حدثنا به مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قوله: {لَـمَا آتَـيْتُكُمْ} يقول للـيهود: أخذت ميثاق النبـيـين بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وهو الذي ذكر فـي الكتاب عندكم.

فتأويـل ذلك علـى قول السديّ الذي ذكرناه: واذكروا يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين لـما آتـيتكم أيها الـيهود من كتاب وحكمة. وهذا الذي قاله السديّ كان تأويلاً لا وجه غيره لو كان التنزيـل (بـما آتـيتكم)، ولكن التنزيـل بـاللام لـما آتـيتكم، وغير جائز فـي لغة أحد من العرب أن يقال: أخذ اللّه ميثاق النبـيـين لـما آتـيتكم، بـمعنى: بـما آتـيتكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ أأقْرَرْتُـمْ وأخَذْتُـمْ علـى ذَلِكُمْ إِصْرِي؟ قَالُوا أقْرَرْنا}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين بـما ذكر، فقال لهم تعالـى ذكره: أأقررتـم بـالـميثاق الذي واثقتـمونـي علـيه من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي، مصدّق لـما معكم، لتؤمننّ به ولتنصرنه، {وأخَذْتُـمْ علـى ذَلِكُمْ إِصْرِي}

يقول: وأخذتـم علـى ما واثقتـمونـي علـيه من الإيـمان بـالرسل التـي تأتـيكم بتصديق ما معكم من عندي، والقـيام بنصرتهم إصري، يعنـي عهدي ووصيتـي، وقبلتـم فـي ذلك منـي ورضيتـموه. والأخذ: هو القبول فـي هذا الـموضع، والرضا من قولهم: أخذ الوالـي علـيه البـيعة، بـمعنى: بـايعه، وقبل ولايته، ورضي بها. وقد بـينا معنى الإصر بـاختلاف الـمختلفـين فـيه، والصحيح من القول فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وحذفت الفـاء من قوله: {قَالَ أأقْرَرْتُـمْ} لأنه ابتداء كلام علـى نـحو ما قد بـينا فـي نظائره فـيـما مضىوأما قوله: {قَالُوا أقْرَرْنا} فإنه يعنـي به: قال النبـيـيون الذين أخذ اللّه ميثاقهم بـما ذكر فـي هذه الاَية: أقررنا بـما ألزمتنا من الإيـمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقـين لـما معنا من كتبك وبنصرتهم.)

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ فَـاشْهَدُوا وأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه، قال اللّه : فـاشهدوا أيها النبـيـيون بـما أخذت به ميثاقكم من الإيـمان بتصديق رسلـي التـي تأتـيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والـحكمة، ونصرتهم علـى أنفسكم، وعلـى أتبـاعكم من الأمـم إذ أنتـم أخذتـم ميثاقهم علـى ذلك، وأنا معكم من الشاهدين علـيكم وعلـيهم بذلك. كما:

٥٩٢٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ بن أبـي طالب فـي قوله: {قَالَ فَـاشْهَدُوا}

يقول: فـاشهدوا علـى أمـمكم بذلك، {وأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} علـيكم وعلـيهم.

٨٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَنْ تَوَلّىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }

يعنـي بذلك جل ثناؤه: فمن أعرض عن الإيـمان برسلـي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبـيائي من الكتب والـحكمة، وعن نصرتهم، فأدبر ولـم يؤمن بذلك، ولـم ينصر، ونكث عهده وميثاقه بعد ذلك، يعنـي بعد العهد والـميثاق الذي أخذه اللّه علـيه، فأولئك هم الفـاسقون: يعنـي بذلك أن الـمتولـين عن الإيـمان بـالرسل الذين وصف أمرهم ونصرتهم بعد العهد والـميثاق اللذين أخذا علـيهم بذلك، هم الفـاسقون، يعنـي بذلك: الـخارجون من دين اللّه ، وطاعة ربهم. كما:

٥٩٢٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ بن أبـي طالب: فمن تولـى عنك يا مـحمد بعد هذا العهد من جميع الأمـم، فأولئك هم الفـاسقون، هم العاصون فـي الكفر.

٥٩٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه ـ قال أبو جعفر: يعنـي الرازي ـ: {فَمَنْ تَوَلّـى بَعْدَ ذَلِكَ}

يقول: بعد العهد والـميثاق الذي أخذ علـيهم، فأولئك هم الفـاسقون.

٥٩٢٧ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

وهاتان الاَيتان وإن كان مخرج الـخبر فـيهما من اللّه عزّ وجلّ بـما أخبر أنه شهد، وأخذ به ميثاق من أخذ ميثاقه به عن أنبـيائه ورسله، فإنه مقصود به إخبـار من كان حوالـي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يهود بنـي إسرائيـل أيام حياته صلى اللّه عليه وسلم، عما لله علـيهم من العهد فـي الإيـمان بنبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ومعنـيّ تذكيرهم ما كان اللّه آخذا علـى آبـائهم وأسلافهم من الـمواثـيق والعهود، وما كانت أنبـياء اللّه عرفتهم وتقدمت إلـيهم فـي تصديقه واتبـاعه ونصرته علـى من خالفه، وكذبه، وتعريفهم ما فـي كتب اللّه التـي أنزلها إلـى أنبـيائه التـي ابتعثهم إلـيهم من صفته وعلامته.

٨٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ ...}

اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز من مكة والمدينة وقراء الكوفة: (أفغير دين اللّه تبغون)، (وإليه ترجعون)، على وجه الخطاب. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز: {أَفَغَيْرِ دِينِ اللّه يَبْغُون... وَإِلَـيْهِ يُرْجَعُونَ} بـالـياء كلتـيهما علـى وجه الـخبر عن الغائب. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: {أَفَغَيْر دِينِ اللّه يَبْغُونَ} علـى وجه الـخبر عن الغائب، (وإلـيه تُرجعون) بـالتاء، علـى وجه الـمخاطبة.

وأولـى ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: (أفَعَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ) علـى وجه الـخطاب (وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ) بـالتاء، لأن الاَية التـي قبلها خطاب لهم، فإتبـاع الـخطاب نظيره أولـى من صرف الكلام إلـى غير نظيره، وإن كان الوجه الاَخر جائزا لـما قد ذكرنا فـيـما مضى قبل من أن الـحكاية يخرج الكلام معها أحيانا علـى الـخطاب كله، وأحيانا علـى وجه الـخبر عن الغائب، وأحيانا بعضه علـى الـخطاب، وبعضه علـى الغيبة، فقوله: (تَبْغُونَ... وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ) فـي هذه الاَية من ذلك.

وتأويـل الكلام: يا معشر أهل الكتاب: (أفَغَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ)

يقول: أفغير طاعة اللّه تلتـمسون وتريدون {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}

يقول: وله خشع من فـي السموات والأرض، فخضع له بـالعبودية، وأقرّ له بإفراد الربوبـية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية {طَوْعا وكَرْها}

يقول: أسلـم لله طائعا، من كان إسلامه منهم له طائعا، وذلك كالـملائكة والأنبـياء والـمرسلـين، فإنهم أسلـموا لله طائعين، وكرها من كان منهم كارها.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى إسلام الكاره الإسلام، وصفته،

فقال بعضهم: إسلامه: إقراره بأن اللّه خالقه وربه، وإن أشرك معه فـي العبـادة غيره. ذكر من قال ذلك:

٥٩٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ} قال: هو كقوله: {وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَـيَقُولُنّ اللّه }.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، مثله.

٥٩٢٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: كل آدميّ قد أقرّ علـى نفسه بأن اللّه ربـي وأنا عبده، فمن أشرك فـي عبـادته فهذا الذي أسلـم كرها، ومن أخـلص له العبودية فهو الذي أسلـم طوعا.

وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ منه الـميثاق، فأقرّ به. ذكر من قال ذلك:

٥٩٣٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن الأعمش، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها} قال: حين أخذ الـميثاق.

وقال آخرون: عنى بإسلام الكاره منهم: سجود ظله. ذكر من قال ذلك:

٥٩٣١ـ حدثنا سوَار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن لـيث، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها} قال: الطائع: الـمؤمن، وكرها: ظل الكافر.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {طَوْعا وكَرْها} قال: سجود الـمؤمن طائعا، وسجود الكافر وهو كاره.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {كَرْها} قال: سجود الـمؤمن طائعا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.

٥٩٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد، قال: سجود وجهه وظله طائعا.

وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه فـي مشيئة اللّه واستقادته لأمره، وإن أنكر ألوهته بلسانه. ذكر من قال ذلك:

٥٩٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قال: استقاد كلهم له.

وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلـم من الناس كرها حذر السيف علـى نفسه. ذكر من قال ذلك:

٥٩٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها}.. الاَية كلها،

فقال: أكره أقوام علـى الإسلام، وجاء أقوام طائعين.

٥٩٣٥ـ حدثنـي الـحسن بن قزعة البـاهلـي، قال: حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول اللّه عز وجل: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: الـملائكة طوعا، والأنصار طوعا، وبنو سلـيـم وعبد القـيس طوعا، والناس كلهم كرها.

وقال آخرون: معنى ذلك أن أهل الإيـمان أسلـموا طوعا، وأن الكافر أسلـم فـي حال الـمعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها. ذكر من قال ذلك:

٥٩٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أفَغَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ)... الاَية، فأما الـمؤمن فأسلـم طائعا، فنفعه ذلك، وقبل منه¹ وأما الكافر فأسلـم كارها، حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها} قال: أما الـمؤمن فأسلـم طائعا، وأما الكافر فأسلـم حين رأى بأس اللّه {فَلَـمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيـمَانُهُمْ لـمّا رَأَوْا بَـأْسَنَا}.

وقال آخرون: معنى ذلك: فـي عبـادة الـخـلق لله عزّ وجل. ذكر من قال ذلك:

٥٩٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: (أفَغَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وَكَرْها) قال: عبـادتهم لـي أجمعين طوعا وكرها، وهوقوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها}.

وأما قوله: (وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ) فإنه يعنـي: وإلـيه يا معشر من يبتغي غير الإسلام دينا من الـيهود والنصارى! وسائر الناس. (ترجعون)

يقول: إلـيه تصيرون بعد مـماتكم، فمـجازيكم بأعمالكم، الـمـحسن منكم بإحسانه، والـمسيء بإساءته. وهذا من اللّه عزّ وجلّ تـحذير خـلقه أن يرجع إلـيه أحد منهم، فـيصير إلـيه بعد وفـاته علـى غير ملة الإسلام.

٨٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ آمَنّا بِاللّه وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أفغير دين اللّه تبغون يا معشر الـيهود، وله أسلـم من فـي السموات والأرض طوعا وكرها، وإلـيه ترجعون، فإن ابتغوا غير دين اللّه يا مـحمد، فقل لهم: آمنا بـالله. فترك ذكر قوله: (فإن قالوا نعم)، وذكر قوله: (فإن ابتغوا غير دين اللّه )، لدلالة ما ظهر من الكلام علـيه.

وقوله: {قُلْ آمَنّا بِـاللّه } يعنـي به: قل لهم يا مـحمد: صدّقنا بـاللّه أنه ربنا وإلَهنا، لا إلَه غيره، ولا نعبد أحدا سواه¹ {وَمَا أُنْزِلَ عَلَـيْنَا}

يقول: وقل: وصدّقنا أيضا بـما أنزل علـينا من وحيه وتنزيـله، فأقررنا به¹ {وَمَا أُنْزِلَ علـى إِبْرَاهِيـمَ}

يقول: وصدقنا أيضا بـما أنزل علـى إبراهيـم خـلـيـل اللّه ¹ {و}علـى ابنـيه {إِسْماعيـل وَإِسْحاقَ} وابن ابنه {يَعْقُوبَ} وبـما أنزل علـى الأسبـاط، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بـينا أسماءهم بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. {وَما أُوتِـيَ مُوسَى وَعِيسَى}

يقول: وصدقنا أيضا مع ذلك بـالذي أنزل اللّه علـى موسى وعيسى من الكتب والوحي، وبـما أنزل علـى النبـيـين من عنده. والذي آتـى اللّه موسى وعيسى، مـما أمر اللّه عزّ وجلّ مـحمدا بتصديقهما فـيه والإيـمان به التوراة التـي آتاها موسى، والإنـجيـل الذي أتاه عيسى. {لاَ نُفَرّقُ بَـيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ}

يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضهم، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت الـيهود والنصارى ببعض أنبـياء اللّه ، وصدّقت بعضا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدّقهم. {وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ} يعنـي: ونـحن ندين لله بـالإسلام، لا ندين غيره، بل نتبرأ إلـيه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره. ويعنـي بقوله: {وَنَـحْنُ لَهُ مُسْلِـمُونَ}: ونـحن له منقادون بـالطاعة، متذللون بـالعبودية، مقرّون له بـالألوهة والربوبـية، وأنه لا إلَه غيره. وقد ذكرنا الرواية بـمعنى ما قلنا فـي ذلك فـيـما مضى، وكرهنا إعادته.

٨٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ومن يطلب دينا غير دين الإسلام لـيدين به، فلن يقبل اللّه منه، {وَهُوَ فِـي الاَخِرَةِ مِنَ الـخَاسِرِينَ}،

يقول: من البـاخسين أنفسهم حظوظها من رحمة اللّه عزّ وجلّ. وذُكر أن أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم الـمسلـمون لـما نزلت هذه الاَية، فأمرهم اللّه بـالـحجّ إن كانوا صادقـين، لأن من سنة الإسلام الـحجّ، فـامتنعوا، فأدحض اللّه بذلك حجتهم. ذكر الـخبر بذلك:

٥٩٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، قال: زعم عكرمة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينا} فقالت الـملل: نـحن الـمسلـمون، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَـإِنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} فحجّ الـمسلـمون، وقعد الكفـار.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا القعنبـي، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عكرمة، قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قالت الـيهود: فنـحن الـمسلـمون، فأنزل اللّه عزّ وجلّ لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم يحجّهم أن {لِلّهِ عَلَـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَـإِنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العَالَـمِينَ}.

٥٩٣٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن عكرمة، قال: لـما نزلت: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا}.. إلـى آخر الاَية، قالت الـيهود: فنـحن مسلـمون، قال اللّه عزّ وجلّ لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم: إن {لِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ} من أهل الـملل {فَـإِنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العَالَـمِينَ}.

وقال آخرون فـي هذه الاَية بـما:

٥٩٤٠ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ} إلـى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فأنزل اللّه عزّ وجلّ بعد هذا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}.

٨٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ...}

اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الاَية، وفـيـمن نزلت،

فقال بعضهم: نزلت فـي الـحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلـما، فـارتدّ بعد إسلامه. ذكر من قال ذلك:

٥٩٤١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن بزيع البصري، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود بن أبـي هند، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كان رجل من الأنصار أسلـم، ثم ارتدّ ولـحق بـالشرك، ثم ندم، فأرسل إلـى قومه: أرسلوا إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: هل لـي من توبة؟ قال: فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ} إلـى قوله: {وَجَاءَهُمُ البَـيّنَاتُ وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَـحُوا فَـإِنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ} فأرسل إلـيه قومه، فأسلـم.

٥٩٤٢ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة بنـحوه، ولـم يرفعه إلـى ابن عبـاس ، إلا أنه قال: فكتب إلـيه قومه،

فقال: ما كذبنـي قومي، فرجع.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حكيـم بن جميع، عن علـيّ بن مسهر، عن داود بن أبـي هند، عن عكرمة عن ابن عبـاس ، قال: ارتدّ رجل من الأنصار، فذكر نـحوه.

٥٩٤٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان، قال: أخبرنا حميد الأعرج، عن مـجاهد، قال: جاء الـحارث بن سويد، فأسلـم مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، ثم كفر الـحارث فرجع إلـى قومه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيه القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ} إلـى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَـحُوا فَـإِنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ} قال: فحملها إلـيه رجل من قومه، فقرأها علـيه، فقال الـحارث: إنك واللّه ما عُلِـمْتُ لصدوق، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصدق منك، وإن اللّه عزّ وجلّ لأصدق الثلاثة! قال: فرجع الـحارث فأسلـم، فحسن إسلامه.

٥٩٤٤ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِم وَشَهِدُوا أنّ الرّسُولَ حَقّ} قال: أنزلت فـي الـحارث بن سويد الأنصاري كفر بعد إيـمانه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيه هذه الاَيات، إلـى: {أُولَئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِـيها خالِدُونَ} ثم تاب وأسلـم، فنسخها اللّه عنه، فـال: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَـحُوا فـإِنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ}.

٥٩٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ وَشَهِدُوا أنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمْ البَـينات} قال رجل من بنـي عمرو بن عوف كفر بعد إيـمانه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٩٤٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريح، عن مـجاهد، قال: هو رجل من بنـي عمرو بن عوف كفر بعد إيـمانه. قال ابن جريج: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد، قال: لـحق بأرض الروم فتنصر، ثم كتب إلـى قومه: أرسلوا هل لـي من توبة؟ قال: فحسبت أنه آمن ثم رجع

قال: ابن جريج: قال عكرمة: نزلت فـي أبـي عامر الراهب، والـحارث بن سويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت فـي اثنـي عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام، ولـحقوا بقريش، ثم كتبوا إلـى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت: {إِلاّ الّذِي تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}.. الاَيات.

وقال آخرون: عنى بهذه الاَية أهل الكتاب، وفـيهم نزلت. ذكر من قال ذلك:

٥٩٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ} فهم أهل الكتاب عرفوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، ثم كفروا به.

٥٩٤٨ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ}.. الاَية كلها، قال الـيهود والنصارى.

٥٩٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الـحسن يقول فـي قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ}.. الاَية، هم أهل الكتاب من الـيهود والنصارى، رأوا نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابهم، وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقّ، فلـما بعث من غيرهم حسدوا العرب علـى ذلك، فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم.

٥٩٥٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ} قال: هم أهل الكتاب¹ كانوا يجدون مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم فـي كتابهم، ويستفتـحون به، فكفروا بعد إيـمانهم.

قال أبو جعفر: وأشبه القولـين بظاهر التنزيـل ما قال الـحسن، من أن هذه الاَية معنـيّ بها أهل الكتاب علـى ما قال. غير أن الأخبـار بـالقول الاَخر أكثر، والقائلـين به أعلـم بتأويـل القرآن، وجائز أن يكون اللّه عزّ وجلّ أنزل هذه الاَيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصتهم وقصة من كان سبـيـله سبـيـلهم فـي ارتداده عن الإيـمان بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي هذه الاَيات، ثم عرّف عبـاده سنته فـيهم، فـيكون داخلاً فـي ذلك كل من كان مؤمن بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث، ثم كفر به بعد أن بعث، وكل من كان كافرا ثم أسلـم علـى عهده صلى اللّه عليه وسلم ثم ارتدّ وهو حيّ عن إسلامه، فـيكون معنـيا بـالاَية جميع هذين الصنفـين وغيرهما مـمن كان بـمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء اللّه .

فتأويـل الاَية إذا: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمَانِهِمْ} يعنـي: كيف يرشد اللّه للصواب، ويوفق للإيـمان، قوما جحدوا نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، بعد إيـمانهم: أي بعد تصديقهم إيّاهُ، وإقرارهم بـما جاءهم به من عند ربه. {وَشَهِدُوا أنّ الرّسُولَ حَقّ}

يقول: وبعد أن أقرّوا أن مـحمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى خـلقه حقا. {وَجَاءَهُمُ البَـيّناتُ} يعنـي: وجاءهم الـحجج من عند اللّه ، والدلائل بصحة ذلك. {وَاللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِـمِينَ}

يقول: واللّه لا يوفق للـحقّ والصواب الـجماعة الظلـمة، وهم الذين بدّلوا الـحقّ إلـى البـاطل، فـاختاروا الكفر علـى الإيـمان. وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى معنى الظلـم، وأنه وضع الشيء فـي غير موضعه بـما أغنى عن إعادته.

٨٧

انظر تفسير الآية: ٨٩

٨٨

انظر تفسير الآية: ٨٩

٨٩

{أُولَئِكَ جَزَاوهُمْ} يعنـي: هؤلاء الذين كفروا بعد إيـمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حقّ، {جَزَاوهُمْ} ثوابهم من عملهم الذي عملوه، {أنّ عَلَـيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه } يعنـي أن حلّ بهم من اللّه الإقصاء والبعد، ومن الـملائكة والناس إلا مـما يسوءهم من العقاب {أجْمَعِينَ} يعنـي من جميعهم: لا بعض من سماه جل ثناؤه من الـملائكة والناس، ولكن من جميعهم، وإنـما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بـاللّه كفرا. وقد بـينا صفة لعنة الناس الكافر فـي غير هذا الـموضع بـما أغنى عن إعادته. {خالِدِينَ فِـيها} يعنـي: ماكثـين فـيها، يعنـي: فـي عقوبة اللّه . {لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ العَذَابُ} لا ينقصون من العذاب شيئا فـي حال من الأحوال ولا يُنفّسُون فـيه. {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} يعنـي: ولا هم ينظرون لـمعذرة يعتذرون، وذلك كله: أعنـي الـخـلود فـي العقوبة فـي الاَخرة. ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيـمانهم، فقال تعالـى ذكره: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأصْلَـحُوا} يعنـي: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيـمانهم، فراجعوا الإيـمان بـاللّه وبرسوله، وصدّقوا بـما جاءهم به نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم من عند ربهم. {وأَصْلَـحُوا} يعنـي: وعملوا الصالـحات من الأعمال. {فـإِنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ} يعنـي فإن اللّه لـمن فعل ذلك بعد كفره {غَفُورٌ} يعنـي: ساتر علـيه ذنبه الذي كان منه من الردّة، فتارك عقوبته علـيه، وفضيحته به يوم القـيامة، غير مؤاخذه به إذا مات علـى التوبة منه، رحيـم متعطف علـيه بـالرحمة.

٩٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ...}

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: عنى اللّه عزّ وجلّ بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا} أي ببعض أنبـيائه الذين بعثوا قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد إيـمانهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} بكفرهم بـمـحمد. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} عند حضور الـموت وحشرجته بنفسه. ذكر من قال ذلك:

٥٩٥١ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} قال: الـيهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الـموت.

٥٩٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} أولئك أعداء اللّه الـيهود، كفروا بـالإنـجيـل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم والفرقان.

٥٩٥٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: ازدادوا كفرا حتـى حضرهم الـموت، فلـم تقبل توبتهم حين حضرهم الـموت. قال معمر: وقال مثل ذلك عطاء الـخراسانـي.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} وقال: هم الـيهود كفروا بـالإنـجيـل، ثم ازدادوا كفرا حين بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، فأنكروه، وكذّبوا به.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بـمـحمد بعد إيـمانهم بأنبـيائهم، {ثمّ ازدَادُوا كُفْرا}: يعنـي ذنوبـا، {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من ذنوبهم، وهم علـى الكفر مقـيـمون. ذكر من قال ذلك:

٥٩٥٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفـيع: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} ازدادوا ذنوبـا وهم كفـار، {فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من تلك الذنوب ما كانوا علـى كفرهم وضلالتهم.

٥٩٥٥ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، قال: سألت أبـا العالـية، قال: قلت: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؟ قال: إنـما هم هؤلاء النصارى والـيهود الذين كفروا ثم ازدادوا كفرا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها فـي كفرهم.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان الـيشكري، قال: أخبرنا ابن أبـي عديّ، عن داود، قال: سألت أبـا العالـية عن الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نـحوا منه.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، قال: سألت أبـا العالـية عن هذه الاَية: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} قال: هم الـيهود والنصارى والـمـجوس، أصابوا ذنوبـا فـي كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنه

يقول: {وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ}؟

٥٩٥٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن داود، عن أبـي العالـية فـي قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال: تابوا من بعض، ولـم يتوبوا من الأصل.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن داود بن أبـي هند، عن أبـي العالـية، قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيْـمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: هم الـيهود والنصارى يصيبون الذنوب فـيقولون نتوب وهم مشركون، قال اللّه عزّ وجلّ: لن تقبل التوبة فـي الضلالة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيـمانهم بأنبـيائهم، ثم ازدادوا كفرا، يعنـي بزيادتهم الكفر: تـمامهم علـيه حتـى هلكوا وهم علـيه مقـيـمون، لن تقبل توبتهم: لن تنفعهم توبتهم الأولـى، وإيـمانهم لكفرهم الاَخر وموتهم. ذكر من قال ذلك:

٥٩٥٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: تـمّوا علـى كفرهم. قال ابن جريج: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}

يقول: إيـمانهم أوّل مرّة لن ينفعهم.

وقال آخرون: معنى قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} ماتوا كفـارا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. و

قالوا: معنى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: لن تقبل توبتهم عند موتهم ذكر من قال ذلك:

٥٩٥٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} أما ازدادوا كفرا: فماتوا وهم كفـار، وأما لن تقبل توبتهم: فعند موته إذا تاب لـم تقبل توبته.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل هذه الاَية قول من قال: عنى بها الـيهودَ، وأن يكون تأويـله: إن الذين كفروا من الـيهود بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم عند مبعثه بعد إيـمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بـما أصابوا من الذنوب فـي كفرهم ومقامهم علـى ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التـي أصابوها فـي كفرهم، حتـى يتوبوا من كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند اللّه .

وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال فـي هذه الاَية بـالصواب، لأن الاَيات قبلها وبعدها فـيهم نزلت، فأولـى أن تكون هي فـي معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت فـي سياق واحد. وإنـما قلنا: معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا فـي كفرهم من الـمعاصي، لأنه جل ثناؤه قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} فكان معلوما أن معنى قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إنـما هو معنـيّ به: لن تقبل توبتهم مـما ازدادوا من الكفر علـى كفرهم بعد إيـمانهم، لا من كفرهم، لأن اللّه تعالـى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عبـاده،

فقال: {وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَـادِهِ} فمـحال أن يقول عزّ وجلّ أقبل، ولا أقبل فـي شيء واحد. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من حكم اللّه فـي عبـاده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيـمان أحد تلك الذنوب التـي وعد قبول التوبة منها بقوله: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَـحُوا فَـإِنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ} علـم أن الـمعنى الذي لا تقبل التوبة منه، غير الـمعنى الذي تقبل التوبة منه. وإذ كان ذلك كذلك، فـالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد علـى الكفر بعد الكفر، لا يقبل اللّه توبة صاحبه ما أقام علـى كفره، لأن اللّه لا يقبل من مشرك عملاً ما أقام علـى شركه وضلاله، فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلـح، فإن اللّه كما وصف به نفسه، غفور رحيـم.

فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون معنى ذلك، كما قال من قال: فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله، أو توبته الأولـى؟

قـيـل: أنكرنا ذلك لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا فـي حال حياته، فأما بعد مـماته فلا توبة، وقد وعد اللّه عزّ وجلّ عبـاده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم فـي أجسادهم، ولا خلاف بـين جميع الـحجة فـي أن كافرا لو أسلـم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم الـمسلـمين فـي الصلاة علـيه والـموارثة، وسائر الأحكام غيرها، فكان معلوما بذلك أن توبته فـي تلك الـحال لو كانت غير مقبولة، لـم ينتقل حكمه من حكم الكفـار إلـى حكم أهل الإسلام، ولا منزلة بـين الـموت والـحياة يجوز أن يقال لا يقبل اللّه فـيها توبة الكافر، فإذا صحّ أنها فـي حال حياته مقبولة، ولا سبـيـل بعد الـمـمات إلـيها، بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل.

وأما قول من زعم أن معنى ذلك التوبة التـي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن اللّه عزّ وجلّ لـم يوصف القوم بإيـمان كان منهم بعد كفر، ثم كفر بعد إيـمان، بل إنـما وصفهم بكفر بعد إيـمان، فلـم يتقدم ذلك الإيـمان كفر كان للإيـمان لهم توبة منه، فـيكون تأويـل ذلك علـى ما تأوله قائل ذلك، وتأويـل القرآن علـى ما كان موجودا فـي ظاهر التلاوة إذا لـم تكن حجة تدلّ علـى بـاطن خاصّ أولـى من غيره وإن أمكن توجيهه إلـى غيره.

وأما قوله: {وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} فإنه يعنـي بذلك: وهؤلاء الذين كفروا بعد إيـمانهم، ثم ازدادوا كفرا، هم الذين ضلوا سبـيـل الـحقّ، فأخطئوا منهجه، وتركوا مَنْصَفَ السبـيـل وهدى اللّه الدين، حيرةً منهم وعَمًى عنه. وقد بـينا فـيـما مضى معنى الضلال بـما فـيه الكفـاية.

٩١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {إنّ الذينَ كفرُوا} أي جحدوا نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولـم يصدّقوا به، وبـما جاء به من عند اللّه من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومـجوسها وغيرهم. {وَماتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ} يعنـي: وماتوا علـى ذلك من جحود نبوّته، وجحود ما جاء به. {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبـا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}

يقول: فلن يقبل مـمن كان بهذه الصفة فـي الاَخرة جزاء ولا رشوة علـى ترك عقوبته علـى كفره، ولا جعل علـى العفو عنه، ولو كان له من الذهب قدر ما يـملأ الأرض من مشرقها إلـى مغربها، فَرَشَا وجزى علـى ترك عقوبته وفـي العفو عنه علـى كفره عوضا مـما اللّه مـحلّ به من عذابه، لأن الرّشا إنـما يقبلها من كان ذا حاجة إلـى ما رُشي، فأما من له الدنـيا والاَخرة، فكيف يقبل الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره؟ وقد بـينا أن معنى الفدية¹ العوض والـجزاء من الـمفتدى منه بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. ثم أخبر عزّ وجلّ عما لهم عنده،

فقال: {أولَئِكَ} يعنـي: هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفـار، {لهم عَذَابٌ ألِـيـمٌ}

يقول: لهم عند اللّه فـي الاَخرة عذاب موجع، {وما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يعنـي: وما لهم من قريب ولا حميـم ولا صديق ينصره، فـيستنقذه من اللّه ومن عذابه، كما كانوا ينصرونه فـي الدنـيا علـى من حاول أذاه ومكروهه. وقد:

٥٩٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (يُجاءُ بـالكافر يَوْمَ القِـيامَةِ فـيُقالُ لَهُ: أرأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبـا، أكُنْتَ مُفْتَدِيا بِهِ؟ فَـيَقُولُ نَعَمْ، قال: فَـيُقالُ لَقَدْ سُئِلْتَ ما هُوَ أيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ)، فذلك قوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ فَلَنْ يُقَبْلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبـا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}.

٥٩٦٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن، قوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبـا} قال: هو كل كافر.

ونصب قوله (ذهبـا) علـى الـخروج من الـمقدار الذي قبله والتفسير منه، وهوقوله: (ملء الأرض)، كقول القائل: عندي قدر زقّ سمنا وقدر رطل عسلاً، فـالعسل مبـين به ما ذكر من الـمقدار، وهو نكرة منصوبة علـى التفسير للـمقدار والـخروج منه.

وأما نـحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب الذهب لاشتغال الـملء بـالأرض، ومـجيء الذهب بعدهما، فصار نصبها نظير نصب الـحال، وذلك أن الـحال يجيء بعد فعل قد شغل بفـاعله فـينصب، كما ينصب الـمفعول الذي يأتـي بعد الفعل الذي قد شغل بفـاعله،

قالوا: ونظير قوله: {مِلْءُ الأرْض ذَهَبـا} فـي نصب الذهب فـي الكلام: لـي مثلك رجلاً، بـمعنى: لـي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بـالاسم، فنصب كما ينصب الـمفعول به لاشتغال الفعل بـالفـاعل، وأدخـلت الواو فـي قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} لـمـحذوف من الكلام بعده دلّ علـيه دخول الواو، كالواو فـي قوله: {وَلِـيَكُونَ مِنَ الـمُوقِنِـينَ}. وتأويـل الكلام: ولـيكون من الـموقنـين، أريناه ملكوت السموات والأرض، فكذلك ذلك فـي قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}، ولو لـم يكن فـي الكلام واو، لكان الكلام صحيحا، ولـم يكن هنالك متروك وكان: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبـا لو افتدى به.

٩٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: لن تدركوا أيها الـمؤمنون البرّ، وهو البرّ من اللّه الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبـادتهم له، ويرجونه منه، وذلك تفضله علـيهم بإدخاله جنته، وصرف عذابه عنهم¹ ولذلك قال كثـير من أهل التأويـل: البرّ: الـجنة، لأن برّ الربّ بعبده فـي الاَخرة وإكرامه إياه بإدخاله الـجنة. ذكر من قال ذلك.

٥٩٦١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون فـي قوله: {لَنْ تَنالُوا البِرّ} قال: الـجنة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون فـي قوله: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ} قال: البرّ: الـجنة.

٥٩٦٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ} أما البرّ. فـالـجنة.

فتأويـل الكلام: لن تنالوا أيها الـمؤمنون جنة ربكم، حتـى تنفقوا مـما تـحبون،

يقول: حتـى تتصدّقوا مـما تـحبون وتهوون أن يكون لكم من نفـيس أموالكم. كما:

٥٩٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لَنْ تَنالُوا البِرّ حتـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ}

يقول: لن تنالوا برّ ربكم حتـى تنفقوا مـما يعجبكم ومـما تههون من أموالكم.

٥٩٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، عن عبـاد، عن الـحسن، قوله: {لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} قال: من الـمال.

وأما قوله: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنّ اللّه بِهِ عَلِـيـمٌ} فإنه يعنـي به: ومهما تنفقوا من شيء فتتصدّقوا به من أموالكم، فإن اللّه تعالـى ذكره بـما يتصدّق به الـمتصدّق منكم، فـينفقه مـما يحبّ من ماله فـي سبـيـل اللّه ، وغير ذلك علـيـم،

يقول: هو ذو علـم بذلك كله، لا يعزب عنه شيء منه حتـى يجازى صاحبه علـيه جزاءه فـي الاَخرة. كما:

٥٩٦٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإنّ اللّه بِهِ عَلِـيـمٌ}

يقول: مـحفوظ لكم ذلك اللّه به علـيـم شاكر له.

وبنـحو التأويـل الذي قلنا تأوّل هذه الاَية جماعة من الصحابة والتابعين. ذكر من قال ذلك:

٥٩٦٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} قال: كتب عمر بن الـخطاب إلـى أبـي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتـحت مدائن كسرى فـي قتال سعد بن أبـي وقاص، فدعا بها عمر بن الـخطاب،

فقال: إن اللّه

يقول: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} فأعتقها عمر. وهي مثل قول اللّه عزّ وجلّ: {وَيُطْعِمُونَ الطّعامَ علـى حُبّهِ مِسكِينا وَيَتِـيـما وأسِيرا}، {وَيُؤْثِرُونَ علـى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن أبـي أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله سواء.

٥٩٦٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لـما نزلت هذه الاَية: {لَنْ تَنالُوا البِرّ حَتّـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} أو هذه الاَية: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا} قال أبو طلـحة: يا رسول اللّه حائطي الذي بكذا وكذا صدقة، ولو استطعت أن أجعله سرّا لـم أجعله علانـية. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اجْعَلْها فِـي فُقَرَاءِ أهْلِكَ).

٥٩٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: لـما نزلت هذه الاَية: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} قال أبو طلـحة: يا رسول اللّه ، إن اللّه يسألنا من أموالنا، اشهد أنـي قد جعلت أرضي بأرْيَحا لله، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اجْعَلْها فِـي قَرَابَتِكَ). فجعلها بـين حسان بن ثابت وأبـيّ بن كعب.

٥٩٦٩ـ حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا لـيث، عن ميـمون بن مهران، أن رجلاً سأل أبـا ذرّ أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة عماد الإسلام، والـجهاد: سنام العمل، والصدقة شيء عجيب. فقال: يا أبـا ذرّ لقد تركت شيئا هو أوثق عملـي فـي نفسي لا أراك ذكرته! فقال: ما هو؟ قال: الصيام،

فقال: قربة، ولـيس هناك! وتلا هذه الاَية: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ}.

٥٩٧٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي داود بن عبد الرحمن الـمكي، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبـي حسين، عن عمرو بن دينار، قال: لـما نزلت هذه الاَية: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حَتّـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} جاء زيد بفرس له يقال لها: (سَبَل) إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: تصدّق بهذه يا رسول اللّه ! فأعطاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابنة أسامة بن زيد بن حارثة،

فقال: يا رسول اللّه إنـما أردت أن أتصدّق به، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ).

٥٩٧١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب وغيره: أنها حين نزلت: {لَنْ تَنَالُوا البِرّ حتـى تُنْفِقُوا مِـمّا تُـحِبّونَ} جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها،

فقال: يا رسول اللّه هذه فـي سبـيـل اللّه ! فحمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـيها أسامة بن زيد، فكأن زيدا وجد فـي نفسه، فلـما رأى ذلك منه النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (أمَا إنّ اللّه قَدْ قَبِلَها).

٩٣

تأويل قوله تعالى: {كُلّ الطّعَامِ كَانَ حِـلاّ لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه لـم يكن حرّم علـى بنـي إسرائيـل ـ وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيـم خـلـيـل الرحمن ـ شيئا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالاً، إلا ما كان يعقوب حرّمه علـى نفسه، فإن ولده حرّموه استنانا بأبـيهم يعقوب، من غير تـحريـم اللّه ذلك علـيهم فـي وحي ولا تنزيـل ولا علـى لسان رسول له إلـيهم من قبل نزول التوراة.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي تـحريـم ذلك علـيهم، هل نزل فـي التوراة أم لا؟

فقال بعضهم: لـما أنزل اللّه عزّ وجلّ التوراة، حرّم علـيهم من ذلك ما كانوا يحرّمونه قبل نزولها. ذكر من قال ذلك:

٥٩٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قوله: {كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فأْتُوا بـالتّوْرَاة فـاتْلُوها إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ} قالت الـيهود: إنـما نـحرّم ما حرّم إسرائيـل علـى نفسه، وإنـما حرّم إسرائيـل العروق، كان يأخذه عرق النّسا، كان يأخذه بـاللـيـل ويتركه بـالنهار، فحلف لئن اللّه عافـاه منه لا يأكل عِرْقا أبدا، فحرّمه اللّه علـيهم ثم قال: {قُلْ فأْتُوا بـالتّوْرَاة فـاتْلُوها إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ}: ما حرّم هذا علـيكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: {فَبِظُلْـمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا عَلَـيْهِمْ طَيّبـاتٍ أُحِلّتُ لَهُمْ}.

فتأويـل الاَية علـى هذا القول: كل الطعام كان حلاّ لبنـي إسرائيـل، إلا ما حرّم إسرائيـل علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإن اللّه حرّم علـيهم من ذلك ما كان إسرائيـل حرّمه علـى نفسه فـي التوراة، ببغيهم علـى أنفسهم، وظلـمهم لها. قل يا مـحمد: فأتوا أيها الـيهود إن أنكرتـم ذلك بـالتوراة، فـاتلوها إن كنتـم صادقـين أن اللّه لـم يحرم ذلك علـيكم فـي التوارة، وأنكم إنـما تـحرّمونه لتـحريـم إسرائيـل إياه علـى نفسه.

وقال آخرون: ما كان شيء من ذلك علـيهم حراما، لا حرّمه اللّه علـيهم فـي التوراة، وإنـما هو شيء حرّموه علـى أنفسهم اتبـاعا لأبـيهم، ثم أضافوا تـحريـمه إلـى اللّه . فكذبهم اللّه عز وجل فـي إضافتهم ذلك إلـيه، فقال اللّه عزّ وجلّ لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل لهم يا مـحمد: إن كنتـم صادقـين، فأتوا بـالتوراة فـاتلوها، حتـى ننظر هل ذلك فـيها، أم لا؟ لـيتبـين كذبهم لـمن يجهل أمرهم. ذكر من قال ذلك:

٥٩٧٣ـ حدثنا عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إلاّ ما حَرّمَ إسْرَئِيـلُ علـى نَفْسِهِ} إسرائيـل: هو يعقوب، أخذه عرق النساء، فكان لا يثبت اللـيـل من وجعه، وكان لا يؤذيه بـالنهار. فحلف لئن شفـاه اللّه لا يأكل عِرْقا أبدا، وذلك قبل نزول التوراة علـى موسى. فسأل نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـيهود ما هذا الذي حرّم إسرائيـل علـى نفسه؟

فقالوا: نزلت التوراة بتـحريـم الذي حرّم إسرائيـل فقال اللّه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {قُلْ فأْتُوا بـالتّوْرَاة فـاتْلُوها إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ}.. إلـى قوله: {فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ} وكذبوا وافتروا، لـم تنزل التوراة بذلك.

وتأويـل الاَية علـى هذا القول: كل الطعام كان حِلاّ لبنـي إسرائيـل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها، إلا ما حرّم إسرائيـل علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة، بـمعنى: لكن إسرائيـل حرّم علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. وكأن الضحاك وجه قوله: {إلاّ ما حرَمّ إِسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} إلـى الاستثناء الذي يُسمّيه النـحويون: الاستثناء الـمنقطع.

وقال آخرون تأويـل ذلك: كل الطعاك كان حِلاّ لبنـي إسرائيـل، إلا ما حرّم إسرائيـل علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإن ذلك حرام علـى ولده بتـحريـم إسرائيـل إياه علـى ولده، من غير أن يكون اللّه حرّمه علـى إسرائيـل ولا علـى ولده. ذكر من قال ذلك:

٥٩٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} فإنه حرّم علـى نفسه العروق، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام اللـيـل،

فقال: واللّه لئن عافـانـي اللّه منه لا يأكله لـي ولد! ولـيس مكتوبا فـي التوراة. وسأل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم نفرا من أهل الكتاب، فقال (ما شأن هذا حراما؟)

فقالوا: هو حرام علـينا من قبل الكتاب. فقال اللّه عز وجل: {كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ}.. إلـى: {إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ}.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج،

قال ابن عبـاس : أخذه ـ يعنـي إسرائيـل ـ عِرْقُ النّسَا، فكان لا يثبت بـاللـيـل من شدّة الوجع، وكان لا يؤذيه بـالنهار، فحلف لئن شفـاه اللّه لا يأكل عِرْقا أبدا، وذلك قبل أن تنزل التوارة، فقال الـيهود للنبـي صلى اللّه عليه وسلم: نزلت التوراة بتـحريـم الذي حرّم إسرائيـل علـى نفسه. قال اللّه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {قُلْ فأْتُوا بـالتّوْرَاة فـاتْلُوها إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ} وكذبوا، لـيس فـي التوراة.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب، قول من قال: معنى ذلك: كل الطعام كان حلاّ لبنـي إسرائيـل من قبل أن تنزل التوارة، إلا ما حرّم إسرائيـل علـى نفسه من غير تـحريـم اللّه ذلك علـيه، فإن كان حراما علـيهم بتـحريـم أبـيهم إسرائيـل ذلك علـيهم، من غير أن يحرّمه اللّه علـيهم فـي تنزيـل ولا بوحي قبل التوراة، حتـى نزلت التوراة، فحرم اللّه علـيهم فـيها ما شاء، وأحلّ لهم فـيها ما أحبّ. وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويـل، وهو معنى قول ابن عبـاس الذي ذكرناه قبل. ذكر من قال ذلك:

٥٩٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ} وإسرائيـل: هو يعقوب. {قُلْ فأْتُوا بـالتّوْرَاة فـاتْلُوها إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينَ}

يقول: كل الطعام كان حلاّ لبنـي إسرائيـل من قبل أن تنزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيـل علـى نفسه، فلـما أنزل اللّه التوراة حرّم علـيهم فـيها ما شاء. وأحلّ لهم ما شاء.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة بنـحوه.

واختلف أهل التأويـل فـي الذي كان سرائيـل حرّمه علـى نفسه،

فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيـل علـى نفسه العروق. ذكر من قال ذلك:

٥٩٧٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: جاء أعرابـي إلـى ابن عبـاس ،

فقال: إنه جعل امرأته علـيه حراما

قال: لـيست علـيك بحرام قال: فقال الأعرابـي: ولـم واللّه يقول فـي كتابه: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ}؟ قال: فضحك ابن عبـاس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيـل حرّم علـى نفسه؟ قال: ثم أقبل علـى القوم يحدثهم،

فقال: إسرائيـل عرضت له الأنساء فأضنته، فجعل لله علـيه إن شفـاه اللّه منها لا يطعمِ عِرْقا

قال: فلذلك الـيهود تنزع العروق من اللـحم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، قال: سمعت يوسف بن ماهك يحدّث: أن أعرابـيا أتـى ابن عبـاس ، فذكر رجلاً حرّم امرأته،

فقال: إنها لـيست بحرام. فقال الأعرابـي: أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ}؟ فقال: إن إسرائيـل كان به عرق النسا، فحلف لئن عافـاه اللّه أن لا يأكل العروق من اللـحم، وإنها لـيست علـيك بحرام.

٥٩٧٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سلـيـمان التـيـمي، عن أبـي مـجلز فـي قوله: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} قال: إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل اللّه علـيه ـ أو أقسم، أو قال ـ لا يأكله من الدواب

قال: والعروق كلها تبع لذلك العرق.

٥٩٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن الذي حرّم إسرائيـل علـى نفسه، أن الأنساء أخذته ذات لـيـلة، فأسهرته، فتألـى إن اللّه شفـاه لا يطعم نسا أبدا فتتبعت بنوه العروق بعد ذلك يخرجونها من اللـحم.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة بنـحوه، وزاد فـيه: قال: فتألّـى لئن شفـاه اللّه لا يأكل عرقا أبدا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فـيخرجونها من اللـحم، وكان الذي حرّم علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة العروق.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} قال: اشتكى إسرائيـل عرق النسا،

فقال: إن اللّه شفـانـي لأحرمنّ العروق، فحرّمها.

٥٩٧٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفـيان الثوري، عن حبـيب بن أبـي ثابت عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: كان إسرائيـل أخذه عرق النّسا، فكان يبـيت وله زُقاء، فجعل لله علـيه إن شفـاه أن لا يأكل العروق. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ}. قال سفـيان: له زقاء: يعنـي صياح.

٥٩٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} قال: كان يشتكي عرق النسا، فحرّم العروق.

حدثنـي الـمثنـي، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن ابن عبـاس فـي قوله: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنْزّلَ التّوْرَاةُ} قال: كان إسرائيـل يأخذه عرق النسا، فكان يبـيت وله زُقاء، فحرّم علـى نفسه أن يأكل عرقا.

وقال آخرون: بل الذي كان إسرائيـل حرّم علـى نفسه: لُـحوم والإبل وألبـانُها. ذكر من قال ذلك:

٥٩٨١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثـير، قال: سمعنا أنه اشتكى شكوى،

فقالوا: إنه عرق النسا،

فقال: ربّ إن أحبّ الطعام إلـيّ لـحوم الإبل وألبـانها، فإن شفـيتنـي فإنـي أحرّمها علـي! قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبـي ربـاح: لـحوم الإبل وألبـانها حرّم إسرائيـل.

٥٩٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ} قال: كان إسرائيـل حرّم علـى نفسه لـحوم الإبل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون فـي التوراة تـحريـم إسرائيـل علـى نفسه لـحوم الإبل، وإنـما كان حرّم إسرائيـل علـى نفسه لـحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة، فقال اللّه : {فَأْتُوا بـالتّورَاةِ فـاتْلُوهَا إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينِ} فقال: لا تـجدون فـي التوراة تـحريـم إسرائيـل علـى نفسه إلا لـحم الإبل.

٥٩٨٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفـيان قال: حدثنا حبـيب بن أبـي ثابت، قال: حدثنا سعيد، عن ابن عبـاس : أن إسرائيـل أخذه عرق النسا، فكان يبـيت بـاللـيـل له زُقاء ـ يعنـي صياح ـ قال: فجعل علـى نفسه لئن شفـاه اللّه منه لا يأكله ـ يعنـي لـحوم الإبل ـ قال: فحرّمه الـيهود. وتلا هذه الاَية: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنْزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بـالتّورَاةِ فـاتْلُوهَا إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينِ} أي: إن هذا قبل التوراة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي: {إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} قال: حرّم العروق ولـحوم الإبل

قال: كان به عرق النّسا، فأكل من لـحومها فبـات بلـيـلة يزقو، فحلف أن لا يأكله أبدا.

٥٩٨٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن جابر، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيـلُ علـى نَفْسِهِ} قال: حرّم لـحوم الأنعام.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب، قول ابن عبـاس الذي رواه الأعمش، عن حبـيب، عن سعيد، عنه، أن ذلك العروق ولـحوم الإبل، لأن الـيهود مـجمعة إلـى الـيوم علـى ذلك من تـحريـمها، كما كان علـيه من ذلك أوائلها وقد رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحو ذلك خبر، وهو ما:

٥٩٨٥ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الـحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عبـاس : أن عصابة من الـيهود حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا أبـا القاسم أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيـل علـى نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أنْشُدُكُمْ بـالّذي أنْزَلَ التّوْرَاةَ علـى مُوسَى هَلْ تَعْلَـمُونَ أنّ إسْرَائِيـلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا، فَطالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ للّهِ نَذْرا لَئِنْ عافـاهُ اللّه مِنْ سَقَمِهِ لَـيُحَرّمَنّ أحبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَـيْهِ، وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَـيْهِ لـحْمَانُ الإبِلِ، وأحَبّ الشّرَابِ إلَـيْهِ ألْبـانُها؟)

فقالوا: اللهم نعم.

وأما قوله: {قُلْ فَأْتُوا بـالتّورَاةِ فـاتْلُوهَا إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينِ} فإن معناه: قل يا مـحمد للزاعمين من الـيهود أن اللّه حرم علـيهم فـي التوراة العروق ولـحوم الإبل وألبـانها، ائتوا بـالتوراة فـاتلوها!

يقول: قل لهم: جيئوا بـالتوراة فـاتلوها، حتـى يتبـين لـمن خفـي علـيه كذبهم وقـيـلهم البـاطل علـى اللّه من أمرهم، أن ذلك لـيس مـما أنزلته فـي التوراة {إنْ كُنْتُـمْ صَادِقـينِ}،

يقول: إن كنتـم مـحقـين فـي دعواكم أن اللّه أنزل تـحريـم ذلك فـي التوراة، فأتونا بها، فـاتلوا تـحريـم ذلك علـينا منها. وإنـما ذلك خبر من اللّه عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدا علـى صحته، فأعلـم اللّه بكذبهم علـيه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجة له علـيهم¹ لأن ذلك إذا كان يخفـى علـى كثـير من أهل ملّتهم، فمـحمد صلى اللّه عليه وسلم وهو أميّ من غير ملتهم، لولا أن اللّه أعلـمه ذلك بوحي من عنده، كان أحرى أن لا يعلـمه. فكان فـي ذلك له صلى اللّه عليه وسلم من أعظم الـحجة علـيهم بأنه نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـيهم، لأن ذلك من أخبـار أوائلهم كان من خفـي علومهم الذي لا يعلـمه غير خاصة منهم، إلا من أعلـمه الذي لا يخفـى علـيه خافـية من نبـيّ أو رسول، أو من أطلعه اللّه علـى علـمه مـمن شاء من خـلقه.

٩٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ }

يعنـي جل ثناؤه بذلك: فمن كذب علـى اللّه منا ومنكم من بعد مـجيئكم بـالتوراة، وتلاوتكم إياها، وعَدَمِكُم ما ادّعيتـم من تـحريـم اللّه العروق ولـحوم الإبل وألبـانها فـيها، {فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ} يعنـي: فمن فعل ذلك منهم {فأُولَئِكَ} يعنـي فهؤلاء الذين يفعلون ذلك، {هُمُ الظّالِـمُونَ} يعنـي فهم الكافرون القائلون علـى اللّه البـاطل. كما:

٥٩٨٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن زكريا، عن الشعبـي: {فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ} قال: نزلت فـي الـيهود.

٩٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ صَدَقَ اللّه فَاتّبِعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد: صدق اللّه فـيـما أخبرنا به من قوله: {كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَنـي إسْرَائِيـلَ} وأن اللّه لـم يحرّم علـى إسرائيـل ولا علـى ولده العروق ولا لـحومَ الإبل وألبـانها، وأن ذلك إنـما كان شيئا حرّمه إسرائيـل علـى نفسه وولده بغير تـحريـم اللّه إياه علـيهم فـي التوراة، وفـي كل ما أخبر به عبـاده من خبر دونكم وأنتـم يا معشر الـيهود الكذبةُ فـي إضافتكم تـحريـم ذلك إلـى اللّه علـيكم فـي التوراة، الـمفترية علـى اللّه البـاطل فـي دعواكم علـيه غير الـحقّ {فـاتّبِعُوا مِلّةَ إبْرَاهِيـمَ حَنِـيفا وَمَا كَانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ}

يقول: فإن كنتـم أيها الـيهود مـحقـين فـي دعواكم أنكم علـى الدين الذي ارتضاه اللّه لأنبـيائه ورسله، فـاتبعوا ملة إبراهيـم خـلـيـل اللّه ، فإنكم تعلـمون أنه الـحقّ الذي ارتضاه اللّه من خـلقه دينا، وابتعث به أنبـياءه، وذلك الـحنـيفة، يعنـي الاستقامة علـى الإسلام وشرائعه، دون الـيهودية والنصرانـية والـمشركةوقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ}

يقول: لـم يكن يشرك فـي عبـادته أحدا من خـلقه، فكذلك أنتـم أيضا أيها الـيهود، فلا يتـخذ بعضكم بعضا أربـابا من دون اللّه ، تطيعونهم كطاعة إبراهيـم ربه. وأنتـم يا معشر عبدة الأوثان، فلا تتـخذوا الأوثان والأصنام أربـابا، ولا تعبدوا شيئا من دون اللّه ، فإن إبراهيـم خـلـيـل الرحمن كان دينه إخلاص العبـادة لربه وحده، من غير إشراك أحد معه فـيه، فكذلك أنتـم أيضا، فأخـلصوا له العبـادة ولا تشركوا معه فـي العبـادة أحدا، فإن جميعكم مُقِرّون بأن إبراهيـم كان علـى حقّ وهدى مستقـيـم، فـاتبعوا ما قد أجمع جميعكم علـى تصويبه من ملته الـحنـيفـية، ودعوا ما اختلفتـم فـيه من سائل الـملل غيرها أيها الأحزاب، فإنها بدع ابتدعتـموها إلـى ما قد أجمعتـم علـيه أنه حقّ، فإن الذي أجمعتـم علـيه أنه صواب وحقّ من ملة إبراهيـم هو الـحقّ الذي ارتضيته وابتعثت به أنبـيائي ورسلـي ذلك هو البـاطل الذي لا أقبله من أحد من خـلقـي جاءنـي به يوم القـيامة. وإنـما قال جلّ ثناؤه: {وَمَا كانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ} يعنـي به: وما كان من عددهم وأولـيائهم، وذلك أن الـمشركين بعضهم من بعض فـي التظاهر علـى كفرهم، ونصرة بعضهم بعضا، فبرأ اللّه إبراهيـم خـلـيـله أن يكون منهم أو من نصرائهم وأهل ولايتهم. وإنـما عنى جل ثناؤه بـالـمشركين: الـيهود والنصارى، وسائر الأديان غير الـحنـيفـية، قال: لـم يكن إبراهيـم من أهل هذه الأديان الـمشركة، ولكنه كان حنـيفا مسلـما.

٩٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ }

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: تأويـله: إن أوّل بـيت وضع للناس يعبد اللّه فـيه مبـاركا وهدى للعالـمين، الذي ببكة.

قالوا: ولـيس هو أوّل بـيت وضع فـي الأرض، لأنه قد كانت قبله بـيوت كثـيرة. ذكر من قال ذلك:

٥٩٨٧ـ حدثنا هناد بن السرّي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عُرعرة، قال: قام رجل إلـى علـيّ،

فقال: ألا تـخبرنـي عن البـيت، أهو أوّل بـيت وضع فـي الأرض؟ فقال: لا، ولكنه أوّل بـيت وضع فـي البركة مقام إبراهيـم، ومن دخـله كان آمنا.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت خالد ابن عرعرة قال: سمعت علـيا، وقـيـل له: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ} هو أول بـيت كان فـي الأرض؟ قال: لا قال: فأين كان قوم نوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أوّل بـيت وضع للناس مبـاركا وهدى.

٥٩٨٨ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، قال: سأل حفص الـحسنَ وأنا أسمع، عن قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا} قال: هو أول مسجد عبد اللّه فـيه فـي الأرض.

٥٩٨٩ـ حدثنا عبد الـجبـار بن يحيـى الرملـي، قال: حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر فـي قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ} قال: قد كانت قبله بـيوت، ولكنه أوّل بـيت وضع للعبـادة.

٥٩٩٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن، قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ} يعبد اللّه فـيه {للّذِي بِبكّةَ}.

٥٩٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا} قال: وضع للعبـادة.

وقال آخرون: بل هو أوّل بـيت وضع للناس. ثم اختلف قائلو ذلك فـي صفة وضعه أوّل،

فقال بعضهم: خُـلِق قبل جميع الأرضين، ثم دْحِيَت الأرضون من تـحته. ذكر من قال ذلك:

٥٩٩٢ـ حدثنا مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا شيبـان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مـجاهد، عن عبد اللّه بن عمرو،قال: خـلق اللّه البـيت قبل الأرض بألفـي سنة، وكان إذا كان عرشه علـى الـماء، زِبْدَةً بـيضاء، فَدُحيت الأرض من تـحته.

٥٩٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا خصيف، قال: سمعت مـجاهدا

يقول: إن أوّل ما خـلق اللّه الكعبة، ثم دَحَى الأرض من تـحتها.

٥٩٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو: قال حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ} كقوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}.

٥٩٩٥ـ حدثنـي مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا وهُدًى للْعَالِـمينَ} أمّا أوّل بـيت، فإنه يوم كانت الأرض ماء، وكان زَبْدة علـى الأرض، فلـما خـلق اللّه الأرض، خـلق البـيت معها، فهو أوّل بـيت وضع فـي الأرض.

٥٩٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا} قال: أوّل بـيت وضعه اللّه عزّ وجلّ، فطاف به آدم ومن بعده.

وقال آخرون موضع الكعبة، موضع أوّل بـيت وضعه اللّه فـي الأرض. ذكر من قال ذلك:

٥٩٩٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ذُكر لنا أن البـيت هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبط معك بـيتـي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من الـمؤمنـين، حتـى إذا كان زمن الطوفـان زمن أغرق اللّه قوم نوح رفعه اللّه وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معمورا فـي السماء. ثم إن إبراهيـم تتبع منه أثرا بعد ذلك، فبناه علـى أساس قديـم كان قبله.

والصواب من القول فـي ذلك: ما قال جل ثناؤه فـيه: إن أوّل بـيت مبـارك وهدى وضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك: إن أوّل بـيت وضع للناس: أي لعبـادة اللّه فـيه مبـاركا وهدى، يعنـي: بذلك ومآبا لنسك الناسكين وطواف الطائفـين، تعظيـما لله وإجلالاً له¹ للّذي ببكة¹ لصحة الـخبر بذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك ما:

٥٩٩٨ـ حدثنا به مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن سلـيـمان، عن إبراهيـم التـيـمي، عن أبـيه، عن أبـي ذر، قال: قلت يا رسول اللّه ، أيّ مسجد وضع أوّل؟ قال: (الـمَسْجدُ الـحَرامُ) قال: ثم أيّ؟ قال: (الـمَسْجدُ الأقْصَى) قال: كم بـينهما؟ قال: (أرْبَعُونَ سَنَةٌ).

فقد بـين هذا الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أن الـمسجد الـحرام هو أوّل مسجد وضعه اللّه فـي الأرض علـى ما قلنا، فأما فـي وضعه بـيتا بغير معنى بـيت للعبـادة والهدى والبركة، ففـيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضه فـي هذا الـموضع وبعض فـي سورة البقرة وغيرها من سور القرآن وبـينت الصواب من القول عندنا فـي ذلك بـما أغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وأما قوله: {للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا} فإنه يعنـي: للبـيت الذي بـمزدحم الناس لطوافهم فـي حجهم وعمرهم وأصل البكّ: الزحم، يقال منه: بَكّ فلان فلانا: إذا زحمه وصدمه، فهو يَبُكّه بَكّا، وهم يَتَبـاكّون فـيه: يعنـي به: يتزاحمون ويتصادمون فـيه، فكان بَكّة: (فَعْلَة) من بَكّ فلانٌ فلانا: زحمه، سميت البقعة بفعل الـمزدحمين بها. فإذا كانت بكة ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حول البـيت، وكان لا طواف يجوز خارج الـمسجد، كان معلوما بذلك أن يكون ما حول الكعبة من داخـل الـمسجد، وأن ما كان خارج الـمسجد فمكة لا بكة¹ لأنه لا معنى خارجه يوجب علـى الناس التبـاكّ فـيه. وإذا كان ذلك كذلك كان بـيّنا بذلك فساد قول من قال بكة: اسم لبطن مكة، ومكة: اسم للـحرم.

ذكر من قال فـي ذلك ما قلنا، من أن بكة فـي موضع مزدحم الناس للطواف:

٥٩٩٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن حصين، عن أبـي مالك الغفـاري فـي قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا} قال: بكة: موضع البـيت، ومكة: ما سوى ذلك.

٦٠٠٠ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم مثله.

٦٠٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبـي جعفر، قال: مرّت امرأة بـين يدي رجل وهو يصلـي، وهي تطوف بـالبـيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بكة يبكّ بعضها بعضا.

٦٠٠٢ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا سلـمة، عن مـجاهد، قال: إنـما سميت بكّة، لأن الناس يتبـاكّون فـيها، الرجال والنساء.

٦٠٠٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن حماد، عن سعيد، قال: قلت أيّ شيء سميت بكة؟ قال: لأنهم يتبـاكّون فـيها، قال: يعنـي يتزاحمون.

٦٠٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن الأسود بن قـيس، عن أخيه، عن ابن الزبـير، قال: إنـما سميت بكة لأنهم يأتونها حجاجا.

٦٠٠٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبـارَكا} فإن اللّه بكّ به الناس جميعا، فـيصلـي النساء قدّام الرجال، ولا يصلـح ببلد غيره.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (بكة): بكّ الناسُ بعضهم بعضا، الرجال والنساء يصلـي بعضهم بـين يدي بعض، لا يصلـح ذلك إلا بـمكة.

٦٠٠٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية العوفـي، قال: (بكة): موضع البـيت، و (مكة): ما حولها.

٦٠٠٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يحيـى بن أزهر، عن غالب بن عبـيد اللّه أنه سأل ابن شهاب عن بكة

قال: (بكة) البـيت والـمسجد. وسأله عن مكة. فقال ابن شهاب: (مكة): الـحرم كله.

٦٠٠٨ـ حدثنا الـحسين

قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج. عن عطاء ومـجاهد، قالا (بكة): بكّ فـيها الرجال والنساء.

٦٠٠٩ـ حدثنـي عبد الـجبـار بن يحيـى الرملـي

قال: قال ضمرة بن ربـيعة: (بكة): الـمسجد. و(مكة): البـيوت

وقال بعضهم بـما:

٦٠١٠ـ حدثنـي به يحيـى بن أبـي طالب

قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ} قال: هي مكة.

وقـيـل: {مُبـارَكا} لأن الطواف به مغفرة للذنوب، فأما نصب قوله: {مُبَـاركا} فإنه علـى الـخروج من قوله: {وُضِعَ}¹ لأن فـي (وضع) ذكرا من البـيت هو به مشغول وهو معرفة، و (مبـارك) نكرة لا يصلـح أن يتبعه فـي الإعرابوأما علـى قول من قال: هو أول بـيت وضع للناس علـى ما ذكرنا فـي ذلك قول من ذكرنا قوله، فإنه نصب علـى الـحال من قوله: {للّذِي بِبكّةَ}¹ لأن معنى الكلام علـى قولهم: إن أوّل بـيت وضع للناس، البـيت ببكة مبـاركا. فـالبـيت عندهم من صفته (الذي ببكة)، و (الذي) بصلته معرفة، و (الـمبـارك) نكرة¹ فنصب علـى القطع منه فـي قول بعضهم. وعلـى الـحال فـي قول بعضهم. و (هدى) فـي موضع نصب علـى العطف علـى قوله (مبـاركا).

٩٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ...}

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه قراء الأمصار: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} علـى جماع آية، بـمعنى: فـيه علامات بـينات. وقرأ ذلك ابن عبـاس : (فـيه آية بـينة) يعنـي بها: مقام إبراهيـم، يراد بها علامة واحدة.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} وما تلك الاَيات.

فقال بعضهم: مقام إبراهيـم والـمشعر الـحرام، ونـحو ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٠١١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ}: مقام إبراهيـم، والـمشعر.

٦٠١٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ومـجاهد: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} قالا: مقام إبراهيـم من الاَيات البـينات.

وقال آخرون: الاَيات البـينات {مَقَام إبرَاهيـم وَمن دَخَـلَهُ كانَ آمِنا}. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} قال: {مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا}.

وقال آخرون: الاَيات البـينات: هو مقام إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} أما الاَيات البـينات: فمقام إبراهيـم.

وأما الذين قرءوا ذلك: {فـيه آية بـينة} علـى التوحيد، فإنهم عنوا بـالاَية البـينة: مقام إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٥ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} قال: قَدَماه فـي الـمقام آية بـينة.

يقول: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} قال: هذا شيء آخر.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، عن مـجاهد {فِـيهِ آيَةٌ بَـيّنَةٌ مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} قال: أثر قدميه فـي الـمقام آية بـينة.

وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب، قول من قال: الاَيات البـينات منهن مقام إبراهيـم، وهو قول قتادة ومـجاهد الذي رواه معمر عنهما، فـيكون الكلام مرادا فـيهن (منهنّ)، فترك ذكره اكتفـاءً بدلالة الكلام علـيها.

فإن قال قائل: فهذا الـمقام من الاَيات البـينات، فما سائر الاَيات التـي من أجلها

قـيـل: {آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ}؟

قـيـل: منهنّ: الـمقام، ومنهنّ الـحِجر، ومنهنّ الـحطيـم، وأصحّ القراءتـين فـي ذلك قراءة من قرأ {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} علـى الـجماع، لإجماع قراء أمصار الـمسلـمين علـى أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.

وأما اختلاف أهل التأويـل فـي تأويـل: {مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} فقد ذكرناه فـي سورة البقرة، وبـينا أولـى الأقوال بـالصواب فـيه هنالك، وأنه عندنا: الـمقام الـمعروف به.

فتأويـل الاَية إذا: إن أوّل بـيت وضع للناس مبـاركا وهدًى للعالـمين، للذي ببكة، فـيه علامات من قدرة اللّه وآثار خـلـيـله إبراهيـم منهن أثر قدم خـلـيـله إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم فـي الـحجَر الذي قام علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا}.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: تأويـله الـخبر عن أن كلّ من جرّ فـي الـجاهلـية جريرة ثم عاذ بـالبـيت لـم يكن يها مأخوذا. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} وهذا كان فـي الـجاهلـية، كان الرجل لو جرّ كل جريرة علـى نفسه ثم ألـجأ إلـى حرم اللّه ، لـم يتناول ولـم يطلب¹ فأما فـي الإسلام، فإنه لا يـمنع من حدود اللّه ، من سرق فـيه قُطع، ومن زنى فـيه أقـيـم علـيه الـحدّ، من قتل فـيه قُتل، وعن قتادة أن الـحسن كان

يقول: إن الـحرم لا يـمنع من حدود اللّه ، لو أصاب حدّا فـي غير الـحرم فلـجأ إلـى الـحرم ولـم يـمنعه ذلك أن يقام علـيه الـحدّ، ورأى قتادة ما قاله الـحسن.

٦٠١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} قال: كان ذلك فـي الـجاهلـية، فأما الـيوم فإن سرق فـيه أحد قطع، وإن قتل فـيه قتل، ولو قدر فـيه علـى الـمشركين قُتلوا.

٦٠١٨ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، قال: حدثنا خصيف، عن مـجاهد فـي الرجل يقتل، ثم يدخـل الـحرم، قال: يؤخذ فـيخرج من الـحرم، ثم يقام علـيه الـحدّ.

يقول: القتل.

٦٠١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مـجاهد.

٦٠٢٠ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الـحسن وعطاء فـي الرجل يصيب الـحدّ، ويـلـجأ إلـى الـحرم: يخرج من الـحرم فـيقام علـيه الـحد.

فتأويـل الاَية علـى قول هؤلاء: فـيه آيات بـينات مقام إبراهيـم، والذي دخـله من الناس كان آمنا بها فـي الـجاهلـية.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخـله يكن آمنا بها، بـمعنى الـجزاء، كنـحو قول القائل: من قام لـي أكرمته: بـمعنى من يقم لـي أكرمه. و

قالوا: هذا أمر كان فـي الـجاهلـية، كان الـحرم مفزع كل خائف، وملـجأ كلّ جانٍ، لأنه لـم يكن يُهاج له ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فـيه لقاتل أبـيه وابنه بسوء.

قالوا: وكذلك هو فـي الإسلام، لأن الإسلام زاده تعظيـما وتكريـما. ذكر من قال ذلك:

٦٠٢١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا خصيف، قال حدثنا مـجاهد، قال:

قال ابن عبـاس : إذا أصاب الرجل الـحدّ قَتل أو سَرق، فدخـل الـحرم، ولـم يبـايع ولـم يؤو حتـى يتبرّم فـيخرج من الـحرم، فـيقام علـيه الـحدّ

قال: فقلت لابن عبـاس : ولكنـي لا أرى ذلك، أرى أن يؤخذ برْمّته، ثم يخرج من الـحرم، فـيقام علـيه الـحدّ، فإن الـحرم لا يزيده إلا شدة.

٦٠٢٢ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا عبد الـملك، عن عطاء، قال: أخذ ابن الزبـير سعدا مولـى معاوية، وكان فـي قلعة بـالطائف، فأرسل إلـى ابن عبـاس من يشاوره فـيهم، إنهم لنا عين، فأرسل إلـيه، ابن عبـاس : لو وجت قاتل أبـي لـم أعرض له

قال: فأرسل إلـيه، ابن الزبـير: ألا نـخرجهم من الـحرم؟ قال: فأرسل إلـيه ابن عبـاس : أفلا قبل أن تدخـلهم الـحرم؟ زاد أبو السائب فـي حديثه فأخرجه فصلبهم، ولـم يصغ إلـى قول ابن عبـاس .

٦٠٢٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس ، قال: من أحدث حدثا فـي غير الـحرم ثم لـجأ إلـى الـحرم ولـم يعرض له ولـم يبـايع ولـم يكلـم ولـم يؤو حتـى يخرج من الـحرم، فإذا خرج من الـحرم أُخذ فأقـيـم علـيه الـحدّ

قال: ومن أحدث فـي الـحرم حدثا أقـيـم علـيه الـحدّ.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن نصر السلـمي، عن ابن أبـي حبـيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: من أحدث حدثا ثم استـجار بـالبـيت فهو آمن، ولـيس للـمسلـمين أن يعاقبوه علـى شيء إلـى أن يخرج، فإذا خرج أقاموا علـيه الـحدّ.

٦٠٢٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: لو وجدت قاتل عمر فـي الـحرم ما هِجْتُه.

٦٠٢٥ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا لـيث، عن عطاء: أن الولـيد بن عتبة أراد أن يقـيـم الـحدّ فـي الـحرم، فقال له عبـيد بن عمير: لا تقم علـيه الـحدّ فـي الـحرم إلا أن يكون أصابه فـيه.

٦٠٢٦ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مطرف، عن عامر، قال: إذا أصاب الـحدّ، ثم هرب إلـى الـحرم، فقد أمن، فإذا أصابه فـي الـحرم أقـيـم علـيه الـحد فـي الـحرم.

٦٠٢٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن فراس، عن الشعبـي، قال: من أصاب حدا فـي الـحرم ومن أصابه خارجا من الـحرم ثم دخـل الـحرم، لـم يكلـم ولـم يبـايع حتـى يخرج من الـحرم، فـيقام علـيه.

٦٠٢٨ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، وعن عبد الـملك، عن عطاء بن أبـي ربـاح فـي الرجل يقتل، ثم يدخـل الـحرم، قال: لا يبـيعه أهل مكة، ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه، ولا يؤوونه ـ عدّ أشياء كثـيرة ـ حتـى يخرج من الـحرم، فـيؤخذ بذنبه.

٦٠٢٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير عن ابن عبـاس : أن الرجل إذا أصاب حدّا ثم دخـل الـحرم أنه لا يطعم، ولا يسقـى، ولا يؤوى، ولا يكلـم، ولا ينكح، ولا يبـايع، فإذا خرج منه أقـيـم علـيه الـحدّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي حجاج، قال: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، قال: إذا أحدث الرجل حدثا، ثم دخـل الـحرم، لـم يؤو، ولـم يجالس، ولـم يبـايع، ولـم يطعم، ولـم يسق، حتـى يخرج من الـحرم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، مثله.

٦٠٣٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا}: فلو أن رجلاً قتل رجلاً، ثم أتـى الكعبة فعاذ بها، ثم لقـيه أخو الـمقتول لـم يحلّ له أبدا أن يقتله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخـله يكن آمنا من النار. ذكر من قال ذلك:

٦٠٣١ـ حدثنا علـيّ بن مسلـم، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا رزيق بن مسلـم الـمخزومي، قال: حدثنا زياد ابن أبـي عياض، عن يحيـى بن جعدة، فـي قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} قال: آمنا من النار.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب، قول ابن الزبـير ومـجاهد والـحسن، ومن قال معنى ذلك: ومن دخـله من غيره مـمن لـجأ إلـيه عائذا به كان آمنا ما كان فـيه، ولكنه يخرج منه فـيقام عيه الـحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه فـي غيره ثم لـجأ إلـيه، وإن كان أصابه فـيه أقـيـم علـيه فـيه.

فتأويـل الاَية إذا: فـيه آيات بـينات مقام إبراهيـم، ومن يدخـله من الناس مستـجيرا به يكن آمنا مـما استـجار منه ما كان فـيه، حتـى يخرج منه.

فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الـحدّ علـيه فـيه؟

قـيـل: لاتفـاق جميع السلف علـى أن من كانت جريرته فـي غيره ثم عاذ به، فإنه لا يؤخذ بجريرته فـيه.

وإنـما اختلفوا فـي صفة إخراجه منه لأخذه بها،

فقال بعضهم: صفة ذلك منعه الـمعانـي التـي يضطر مع منعه وفقده إلـى الـخروج منه.

وقال آخرون: لا صفة لذلك غير إخراجه منه بـما أمكن إخراجه من الـمعانـي التـي توصل إلـى إقامة حدّ اللّه معها، فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الـحدّ علـيه فـيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الـحدّ فـيه، فإنه لا خلاف بـين الـجميع فـي أنه يقام علـيه فـيه الـحدّ، فكلتا الـمسألتـين أصل مـجمع علـى حكمها علـى ما وصفنا.

فإن قال لنا قائل: وما دلالتك علـى أن إخراج العائذ بـالبـيت إذا أتاه مستـجيرا به من جريرة جرّها أو من حدّ أصابه من الـحرم جائز لإقامة الـحدّ علـيه وأخذه بـالـجريرة، وقد أقررت بأن اللّه عزّ وجلّ قد جعل من دخـله آمنا، ومعنى الاَمن غير معنى الـخائف، فـيـما هما فـيه مختلفـان؟

قـيـل: قلنا ذلك لإجماع الـجميع من الـمتقدمين والـمتأخرين من علـماء الأمة، علـى أن إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فـاحشة أتاها وجبت علـيه به عقوبة منه ببعض معانـي الإخراج لأخذه بـما لزمه، واجبٌ علـى إمام الـمسلـمين وأهل الإسلام معه.

وإنـما اختلفوا فـي السبب الذي يخرج به منه،

فقال بعضهم: السبب الذي يجوز إخراجه به منه ترك جميع الـمسلـمين مبـايعته وإطعامه وسقـيه وإيواءة وكلامه وما أشبه ذلك من الـمعانـي التـي لا قرار للعائذ به فـيه مع بعضها، فكيف مع جميعها؟

وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة واجب بكل معانـي الإخراج. فلـما كان إجماعا من الـجميع علـى أن حكم اللّه ـ فـيـمن عاذ بـالبـيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها ـ إخراجه منه لإقامة ما فرض اللّه علـى الـمؤمنـين إقامته علـيه، ثم اختلفوا فـي السبب الذي يجوز إخراجه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه حتـى يقـيـموا علـيه الـحدّ الذي لزمه خارجا منه إذا كان لـجأ إلـيه من خارج علـى ما قد بـينا قبل.

وبعد: فإن اللّه عزّ وجلّ لـم يضع حدا من حدوده عن أحد من خـلقه من أجل بقعة وموضع صار إلـيها من لزمه ذلك. وقد تظاهرت الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنّـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ كَمَا حَرّمَ إبْرَاهِيـمَ مَكّةَ). ولا خلاف بـين جميع الأمة أن عائذا لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبـي صلى اللّه عليه وسلميؤاخذ بـالعقوبة فـيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف علـى أن حرم إبراهيـم لا يقام فـيه علـى من عاذ به من عقوبة لزمته حتـى يخرج منه ما لزمه، لكان أحقّ البقاع أن تؤدى فـيه فرائض اللّه التـي ألزمها عبـاده من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلـى اللّه كحرم اللّه وحرم رسوله صلى اللّه عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم اللّه لإقامة الـحدّ لـما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثة.

فمعنى الكلام إذْ كان الأمر علـى ما وصفنا: ومن دخـله كان آمنا ما كان فـيه. فإذا كان ذلك كذلك، فمن لـجأ إلـيه من عقوبة لزمته عائذا به، فهو آمن ما كان به حتـى يخرج منه. وإنـما يصير إلـى الـخوف بعد الـخروج أو الإخراج منه، فحينئذ هو غير داخـله، ولا هو فـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله علـى من استطاع من أهل التكلـيف السبـيـل إلـى حجّ بـيته الـحرام الـحجّ إلـيه. وقد بـينا فـيـما مضى معنى الـحجّ ودللنا علـى صحة ما قلنا من معناه بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}، وما السبـيـل التـي يجب مع استطاعتها فرض الـحجّ؟

فقال بعضهم: هي الزاد والراحلة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٣٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والراحلة.

٦٠٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة.

٦٠٣٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي جناب، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس فـي قوله: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والبعير.

٦٠٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَللّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}، والسبـيـل: أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحِف به.

٦٠٣٦ـ حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: حدثنا النضر بن شميـل، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي عبد اللّه البجلـي، قال: سألت سعيد بن جبـير عن قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال:

قال ابن عبـاس : من ملك ثلثمائة درهم، فهو السبـيـل إلـيه.

٦٠٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان، قال: سمعت عطاء

يقول: السبـيـل: الزاد والراحلة.

٦٠٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما من استطاع إلـيه سبـيلاً، فإن ابن عبـاس قال: السبـيـل: راحلة وزاد.

٦٠٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، وأحمد بن حازم، قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، عن سعيد بن جبـير: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والراحلة.

٦٠٤٠ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: أخبرنا الربـيع بن صبـيح، عن الـحسن، قال: الزاد والراحلة.

٦٠٤١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحسن، قال: قرأ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} فقال رجل: يا رسول اللّه ، ما السبـيـل؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

واعتلّ قائلو هذه الـمقالة بأخبـار رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحو ما قالوا فـي ذلك. ذكر الرواية بذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

٦٠٤٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إبراهيـم بن يزيد الـخوزي، قال: سمعت مـحمد بن عبـاد بن جعفر، يحدّث عن ابن عمر، قال: قام رجل إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: ما السبـيـل؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سفـيان، عن إبراهيـم الـخوزي، عن مـحمد بن عبـاد، عن ابن عمر، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال فـي قوله عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: (السّبِـيـلُ إلـى الـحَجّ الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا يونس، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، عن الـحسن، قال: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}

قالوا: يا رسول لله، ما السبـيـل؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

٦٠٤٣ـ حدثنا أبو عثمان الـمقدميّ، والـمثنى بن إبراهيـم، قالا: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا هلال بن عبـيد اللّه مولـى ربـيعة بن عمرو بن مسلـم البـاهلـي، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الـحرث، عن علـيّ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (مَنْ مَلَكَ زَادا وَرَاحِلَةً تُبَلّغُهُ إلـى بَـيْتِ اللّه فَلَـمْ يَحُجّ فَلا عَلَـيْهِ أنْ يـمُوتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرَانِـيّا، وذَلِكَ أنّ اللّه عَزّ وجَلّ يَقُولُ فـي كِتَابِهِ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً})... الاَية.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، قال: بلغنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال له قائل، أو رجل: يا رسول اللّه ، ما السبـيـل إلـيه؟ قال: (مَنْ وَجَدَ زَدا وَرَاحِلَةً).

حدثنا أحمد بن الـحسن الترمذي، قال: حدثنا شاذ بن فـياض البصري، قال: حدثنا هلال بن هشام، عن أبـي إسحاق الهمدانـي، عن الـحرث، عن علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ مَلَكَ زادا وَرَاحِلَةً فَلَـمْ يَحُجّ ماتَ يُهودِيّا أوْ نَصْرَانِـيّا¹ وَذَلِكَ أنّ اللّه يَقُولُ فـي كِتَابِهِ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}.). الاَية.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن قتادة وحميد، عن الـحسن، أن رجلاً قال: يا رسول اللّه ، ما السبـيـل إلـيه؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن قتادة، عن الـحسن، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

وقال آخرون: السبـيـل التـي إذا استطاعها الـمرء كان علـيه الـحجّ: الطاقة للوصول إلـيه

قال: وذلك قد يكون بـالـمشي وبـالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إلـيه، بـامتناع الطريق من العدوّ الـحائل، وبقلة الـماء وما أشبه ذلك.

قالوا: فلا بـيان فـي ذلك أبـين مـما بـينه اللّه عزّ وجلّ بأن يكون مستطيعا إلـيه السبـيـل، وذلك الوصول إلـيه بغير مانع ولا حائل بـينه وبـينه، وذلك قد يكون بـالـمشي وحده، وإن أعوزه الـمركب، وقد يكون بـالـمركب وغير ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٠٤٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن خالد بن أبـي كريـمة، عن رجل، عن ابن الزبـير، قوله: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: علـى قدر القوّة.

٦٠٤٥ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابـا صحيحا لـيس له مال، فعلـيه أن يؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتـى يقضي حجته. فقال له قائل: كلف اللّه الناس أن يـمشوا إلـى البـيت؟ فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بـمكة أكان تاركه؟ واللّه لأنطلق إلـيه ولو حبوا! كذلك يجب علـيه الـحجّ.

٦٠٤٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: من وجد شيئا يبلغه فقد وجد سبـيلاً، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}.

٦٠٤٧ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو هانىء، قال: سئل عامر عن هذه الاَية: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: السبـيـل: ما يسّره اللّه .

٦٠٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن: من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إلـيه سبـيلاً.

وقال آخرون: السبـيـل إلـى ذلك: الصحة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٤٩ـ حدثنا مـحمد بن حميد ومـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم والـمثنى بن إبراهيـم،

قالوا: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري، قال: حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة، قالا: أخبرنا شرحبـيـل بن شريك الـمعافري أنه سمع عكرمة مولـى ابن عبـاس يقول فـي هذه الاَية: {ولِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: السبـيـل: الصحة.

وقال آخرون بـما:

٦٠٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه عز وجل: {وَلِلّهِ علـى النّاسَ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: من وجد قوّة فـي النفقة والـجسد والـحُمْلان، قال: وإن كان فـي جسده ما لا يستطيع الـحجّ فلـيس علـيه الـحجّ، وإن كان له قوّة فـي مال، كما إذا كان صحيح الـجسد ولا يجد مالاً ولا قوّة، يقولون: لا يكلف أن يـمشي.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب، قول من قال بقول ابن الزبـير وعطاء، إن ذلك علـى قدر الطاقة، لأن السبـيـل فـي كلام العرب: الطريق، فمن كان واجدا طريقا إلـى الـحجّ لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدوّ، أو قلة ماء فـي طريقه، أو زاد، وضعف عن الـمشي، فعلـيه فرض الـحجّ لا يجزيه إلا أداؤه فإن لـم يكن واجدا سبـيلاً، أعنـي بذلك: فإن لـم يكن مطيقا الـحجّ بتعذّر بعض هذه الـمعانـي التـي وصفناها علـيه، فهو مـمن لا يجد إلـيه طريقا، ولا يستطيعه، لأن الاستطاعة إلـى ذلك هو القدرة علـيه، ومن كان عاجزا عنه ببعض الأسبـاب التـي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إلـيه السبـيـل.

وإنـما قلنا هذه الـمقالة أولـى بـالصحة مـما خالفها، لأن اللّه عزّ وجلّ لـم يخصص إذ ألزم الناس فرض الـحجّ بعض مستطيعي السبـيـل إلـيه بسقوط فرض ذلك عنه فذلك علـى كل مستطيع إلـيه سبـيلاً بعموم الاَية. فأما الأخبـار التـي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك بأنه الزاد والراحلة، فإنها أخبـار فـي أسانـيدها نظر، لا يجوز الاحتـجاج بـمثلها فـي الدين.

واختلف القراء فـي قراءة الـحجّ، فقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الـمدينة والعراق بـالكسر: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ}، وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بـالفتـح: (وَلِلّهِ علـى النّاسِ حَجّ البَـيْتِ) وهما لغتان معروفتان للعرب، فـالكسر لغة أهل نـجد، والفتـح لغة أهل العالـية، ولـم نر أحدا من أهل العربـية ادّعى فرقا بـينهما فـي معنى ولا غيره غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتـين، إلا ما:

٦٠٥١ـ حدثنا به أبو هشام الرفـاعي، قال: قال حسين الـجعفـي: الـحَجّ مفتوح: اسم، والـحِجّ مكسور: عمل.

وهذا قول لـم أر أهل الـمعرفة بلغات العرب ومعانـي كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مـجمعين علـى ما وصفت من أنهما لغتان بـمعنى واحد. والذي نقول به فـي قراءة ذلك، أن القراءتـين إذ كانتا مستفـيضتـين فـي قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بـينهما فـي معنى ولا غيره، فهما قراءتان قد جاءتا مـجيء الـحجة، فبأيّ القراءتـين ـ أعنـي بكسر الـحاء من الـحجّ أو فتـحها ـ قرأ القارىء فمصيب الصواب فـي قراءته.

وأما (مَنِ) التـي مع قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} فإنه فـي موضع خفض علـى الإبدال من الناس، لأن معنى الكلام: ولله علـى من استطاع من الناس سبـيلاً إلـى حجّ البـيت حجه¹ فلـما تقدم ذكر الناس قبل (مَن) بـين بقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}، الذي علـيه فرض ذلك منهم، لأن فرض ذلك علـى بعض الناس دون جميعهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ومن جحد ما ألزمه اللّه من فرض حجّ بـيته، فأنكره وكفر به، فإن اللّه غنـيّ عنه، وعن حجه وعمله، وعن سائر خـلقه من الـجنّ والإنس. كما:

٦٠٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الـحجاج بن أرطاة، عن مـحمد بن أبـي الـمـجالد، قال: سمعت مقسما، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} قال: من زعم أنه لـيس بفرض علـيه.

٦٠٥٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الـحجاج، عن عطاء وجويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قالا: من جحد الـحجّ وكفر به.

٦٠٥٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا هشيـم، عن الـحجاج بن أرطاة، عن عطاء، قال: من جحد به.

٦٠٥٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عمران القطان،

يقول: من زعم أن الـحجّ لـيس علـيه.

٦٠٥٦ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: من أنكره، ولا يرى أن ذلك علـيه حقا، فذلك كفر.

٦٠٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَمَنْ كَفَرَ} قال: من كفر بـالـحجّ.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: من كفر بـالـحجّ كفر بـالله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا يعلـى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الـحسن في قول اللّه عز وجل: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ} قال: من لـم يره علـيه واجبـا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَمَنْ كَفَرَ} قال بـالـحجّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: أن لا يكون معتقدا فـي حجه أن له الأجر علـيه، ولا أن علـيه بتركه إثما ولا عقوبة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٥٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: ثنـي عبد اللّه بن مسلـم، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: هو ما إن حجّ لـم يره بِرّا، وإن قعد لـم يره مأثما.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: هو ما إن حجّ لـم يره بِرّا، وإن قعد لـم يره مأثما.

٦٠٥٩ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا مطر، عن أبـي داود نفـيع، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ({وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}) فقام رجل من هذيـل،

فقال: يا رسول اللّه من تركه كفر؟ قال: (مَنْ تَرَكَهُ وَلاَ يخافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجّ وَلا يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَاكَ).

٦٠٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}

يقول: من كفر بـالـحجّ، فلـم ير حجه برّا، ولا تركه مأثما.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بـاللّه والـيوم الاَخر. ذكر من قال ذلك:

٦٠٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، قال: سألته عن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بـاللّه والـيوم الاَخر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} قالَ من كفر بـاللّه والـيوم الاَخر.

٦٠٦٢ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: لـما نزلت آية الـحجّ جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الأديان كلهم،

فقال: (يا أيّها النّاسُ إنّ اللّه عَزّ وجَلّ كَتَبَ عَلَـيْكُمُ الـحَجّ فَحُجّوا!) فآمنت به ملة واحدة، وهي من صدّق النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وآمن به، وكفرت به خمس ملل،

قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلـي إلـيه، ولا نستقبله. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}.

٦٠٦٣ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: أخبرنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو هانىء، قال: سئل عامر، عن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} قال: من كفر من الـخـلق، فإن اللّه غنـيّ عنه.

٦٠٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سفـيان، عن إبراهيـم، عن مـحمد بن عبـاد، عن ابن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فـي قول اللّه : {وَمَنْ كَفَرَ} قال: (مَنْ كَفَرَ بـاللّه والَـيْومِ الاَخِرِ).

٦٠٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس في قول اللّه عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا} فقالت الـملل: نـحن مسلـمون! فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} فحجّ الـمؤمنون، وقعد الكفـار.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الاَيات التـي فـي مقام إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:

٦٠٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}. فقرأ {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبـارَكا} فقرأ حتـى بلغ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ} قال: من كفر بهذه الاَيات، {فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}. لـيس كما يقولون: إذا لـم يحجّ وكان غنـيا وكانت له قوّة فقد كفر بها

وقال قوم من الـمشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل، فقال اللّه عزّ وجلّ: {فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}.

وقال آخرون بـما:

٦٠٦٧ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد اللّه بن مسلـم، قال: أخبرنا أبو عمر الضرير، قال: حدثنا حماد، عن حبـيب بن أبـي بقـية، عن عطاء بن أبـي ربـاح، فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: من كفر بـالبـيت.

وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتـى يـموت. ذكر من قال ذلك:

٦٠٦٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنـي أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، أما من كفر فمن وجد ما يحجّ به ثم لا يحجّ، فهو كافر.

وأولـى التأويلات بـالصواب فـي ذلك قول من قال: معنى {وَمَنْ كَفَرَ}: ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه، فإن اللّه غنـيّ عنه وعن حجه وعن العالـمين جميعا.

وإنـما قلنا ذلك أولـى به، لأن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} بعقب قوله: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} بأن يكون خبرا عن الكافر بـالـحجّ، أحقّ منه بأن يكون خبرا عن غيره، مع أن الكافر بفرض الـحجّ علـى من فرضه اللّه علـيه بـاللّه كافر، وإن الكفر أصله الـجحود، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا، فلا شكّ إن حجّ لـم يرج بحجه برّا، وإن تركه فلـم يحجّ لـم يره مأثما. فهذه التأويلات وإن اختلفت العبـارات بها فمتقاربـات الـمعانـي.

٩٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَاللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }

يعنـي بذلك: يا معشر يهود بنـي إسرائيـل وغيرهم من سائر من ينتـحل الديانة بـما أنزل اللّه عزّ وجلّ من كتبه، مـمن كفر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وجحد نبوّته¹ لـم تـجحدون بآيات اللّه ؟

يقول: لـم تـجحدون حجج اللّه التـي آتاها مـحمدا فـي كتبكم وغيرها، التـي قد ثبتت علـيكم بصدقه ونبوّته وحُجّته.(وأنتـم تعلـمون)،

يقول: لـم تـجحدون ذلك من أمره، وأنتـم تعلـمون صدقه. فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم معتـمدون الكفر بـاللّه وبرسوله، علـى علـم منهم ومعرفة من كفرهم. وقد:

٦٠٦٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أهْلِ الكِتابِ لِـمَ تَكْفُرونَ بآياتِ اللّه } أما آيات اللّه : فمـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

٦٠٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {يا أهْلَ الكِتَابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه واللّه شَهِيدٌ علـى ما تَعْمَلُونَ} قال: هم الـيهود والنصارى.

٩٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّه مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا معشر يهود بنـي إسرائيـل وغيرهم مـمن ينتـحل التصديق بكتب اللّه ، {لِـمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبـيـلِ اللّه }

يقول: لـم تضلون عن طريق اللّه ومـحجته التـي شرعها لأنبـيائه وأولـيائه وأهل الإيـمان {مَنْ آمَنَ}

يقول: من صدّق بـاللّه ورسوله، وما جاء به من عند اللّه {تَبْغُونَها عِوَجا} يعنـي تبغون لها عوجا والهاء والألف اللتان فـي قوله: {تَبْغُونَها} عائدتان علـى السبـيـل، وأنثها لتأنـيث السبـيـل.

ومعنى قوله: تبغون لها عوجا، من قول الشاعر، وهو سحيـم عبد بنـي الـحساس:

بغَاكَ وَما تَبْغِيهِ حتـى وَجَدْتَهُكأنّكَ قد وَاعَدْتَهُ أمْسِ مَوْعِدَا

يعنـي طلبك وما تطلبه يقال: ابغنـي كذا¹ يراد: ابتغه لـي، فإذا أرادوا: أعنّـي علـى طلبه، وابتغه معي

قالوا: أبْغنـي بفتـح الألف، وكذلك يقال: احْلُبنـي، بـمعنى: اكفنـي الـحلب وأحْلِبْنـي: أعنـي علـيه، وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع فعلـى هذا.

وأما العِوَجُ: فهو الأوَدُ والـميـل، وإنـما يعنـي بذلك الضلال عن الهدى

يقول جلّ ثناؤه: {ولِـمَ تَصُدّون}عن دين اللّه من صدّق اللّه ورسوله، تبغون دين اللّه اعوجاجا عن سننه واستقامته وخرج الكلام علـى السبـيـل، والـمعنى لأهله، كأن الـمعنى: تبغون لأهل دين اللّه ، ولـمن هو علـى سبـيـل الـحقّ عوجا،

يقول: ضلالاً عن الـحقّ وزيغا عن الاستقامة علـى الهدى والـمـحجة. والعِوَج بكسر أوله: الأود فـي الدين والكلام، والعَوَج بفتـح أوله: الـميـل فـي الـحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم.

وأما قوله: {وأنْتُـمْ شُهَدَاءُ} فإنه يعنـي: شهداء علـى أن الذي تصدّون عنه من السبـيـل حق تعلـمونه وتـجدونه فـي كتبكم. {وَما اللّه بِغَافِلٍ عَمّا تَعْلَـمُونَ}

يقول: لـيس اللّه بغافل عن أعمالكم التـي تعلـمونها مـما لا يرضاه لعبـاده، وغير ذلك من أعمالكم حتـى يعاجلكم بـالعقوبة علـيها معجلة، أو يؤخر ذلك لكم، حتـى تلقوه، فـيجازيكم علـيها.

وقد ذكر أن هاتـين الاَيتـين من قوله: {يا أهْلِ الكِتَابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه } والاَيات بعدهما إلـى قوله: {فأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيـمٌ} نزلت فـي رجل من الـيهود حاول الإغراء بـين الـحيـين من الأوس والـخزرج بعد الإسلام، لـيراجعوا ما كانوا علـيه فـي جاهلـيتهم من العداوة والبغضاء، فعنفه اللّه بفعله ذلك وقبح له ما فعل ووبخه علـيه، ووعظ أيضا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بـالاجتـماع والائتلاف. ذكر الرواية بذلك:

٦٠٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي الثقـفة، عن زيد بن أسلـم، قال: مرّ شاس بن قـيس، وكان شيخا قد عسا فـي الـجاهلـية، عظيـم الكفر، شديد الضغن علـى الـمسلـمين شديد الـحسد لهم، علـى نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأوس والـخزرج فـي مـجلس قد جمعهم يتـحدّثون فـيه. فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بـينهم علـى الإسلام بعد الذي كان بـينهم من العداوة فـي الـجاهلـية،

فقال: قد اجتـمع ملأ بنـي قـيـلة بهذه البلاد، واللّه ما لنا معهم إذا اجتـمع ملؤهم لها من قرار فأمر فتـى شابا من الـيهود وكان معه،

فقال: اعمد إلـيهم، فـاجلس معهم وذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فـيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فـيه الأوس والـخزرج، وكان الظفر فـيه للأوس علـى الـخزرج. ففعل، فتكلـم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفـاخروا حتـى تواثب رجلان من الـحيـين علـى الركب أوس بن قـيظي أحد بنـي حارثة بن الـحرث من الأوس وجبـار بن صخر أحد بنـي سلـمة من الـخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتـم واللّه رددناها الاَن جَذَعَةً. وغضب الفريقان، و

قالوا: قد فعلنا السلاحَ السلاحَ موعدكم الظاهرة ـ والظاهرة: الـحَرّة ـ فخرجوا إلـيها وتـحاور الناس، فـانضمت الأوس بعضها إلـى بعض، والـخزرج بعضها إلـى بعض علـى دعواهم التـي كانوا علـيها فـي الـجاهلـية. فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فخرج إلـيهم فـيـمن معه من الـمهاجرين من أصحابه حتـى جاءهم،

فقال: (يا مَعشرَ الـمسلِـمينَ اللّه اللّه ، أبدَعْوَى الـجاهلـيّةِ وأنَا بـينَ أظهرُكمْ بعدَ إذْ هداكُمُ اللّه إلـى الإسلامِ، وأكرَمكُمْ بهِ، وقطعَ بهِ عَنْكُمْ أمْرَ الـجاهلـيّةِ، واستنقذكُمْ بهِ مِنَ الكفرِ وألّفَ بهِ بَـينَكُمْ ترْجعونَ إلـى ما كُنْتـمْ علـيهِ كُفّـارا) فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والـخزرج بعضهم بعضا. ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه شاس بن قـيس وما صنع فأنزل اللّه فـي شاس بن قـيس وما صنع {يا أهلَ الكِتَابِ لِـمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه واللّه شَهِيدٌ علـى ما تَعْمَلُونَ يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجا}.. الاَية وأنزل اللّه عزّ وجلّ فـي أوس بن قـيظي وجبـار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا مـما أدخـل علـيهم شاس بن قـيس من أمر الـجاهلـية {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيـمانِكُمْ كافِرينَ} إلـى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ}.

وقـيـل: إنه عنى بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه } جماعة يهود بنـي إسرائيـل الذين كانوا بـين أظهر مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام نزلت هذه الاَيات والنصارى، وأن صدّهم عن سبـيـل اللّه كان بإخبـارهم من سألهم عن أمر نبـيّ اللّه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، هل يجدون ذكره فـي كتبهم أنهم لا يجدون نعته فـي كتبهم. ذكر من قال ذلك:

٦٠٧٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه مَنْ آمَنَ تَبْغُوَنها عِوَجا} كانوا إذا سألهم أحد: هل تـجدون مـحمدا؟

قالوا: لا! فصدّوا عنه الناس، وبغوا مـحمدا عوجا: هلاكا.

٦٠٧٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه }

يقول: لـم تصدون عن الإسلام، وعن نبـي اللّه ومن آمن بـالله، وأنتـم شهداء فـيـما تقرءون من كتاب اللّه أن مـحمدا رسول اللّه ، وأن الإسلام دين اللّه الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به، تـجدونه مكتوبا عندكم فـي التوراة والإنـجيـل.

٦٠٧٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، نـحوه.

٦٠٧٥ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لِـمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه } قال: هم الـيهود والنصارى، نهاهم أن يصدوا الـمسلـمين عن سبـيـل اللّه ، ويريدون أن يعدلوا الناس إلـى الضلالة.

 

فتأويـل الاَية ما قاله السديّ: يا معشر الـيهود لـم تصدّون عن مـحمد، وتـمنعون من اتبـاعه الـمؤمنـين بكتـمانكم صفته التـي تـجدونها فـي كتبكم. ومـحمد علـى هذا القول: هو السبـيـل {تَبْغُونَها عِوَجا}: تبغون مـحمدا هلاكاوأما سائر الروايات غيره والأقوال فـي ذلك، فإنه نـحو التأويـل الذي بـيناه قبل، من أن معنى السبـيـل التـي ذكرها فـي هذا الـموضع الإسلام وما جاء به مـحمد من الـحقّ من عند اللّه .

١٠٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ }

اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بذلك،

فقال بعضهم: عنى بقوله: {يا أيّها الّذِين آمَنُوا} الأوس والـخزرج، وبـالذين أوتوا الكتاب: شاس بن قـيس الـيهودي، علـى ما قد ذكرنا قبل من خبره عن زيد بن أسلـم.

وقال آخرون: فـيـمن عُنـي بـالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلـم، غير أنهم

قالوا: الذي جرى الكلام بـينه وبـين غيره من الأنصار حتـى هموا بـالقتال ووجدوا الـيهودي به مغمزا فـيهم ثعلبة بن عنـمة الأنصاري. ذكر من قال ذلك:

٦٠٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيـمانِكُمْ كافِرِينَ} قال: نزلت فـي ثعلبة بن عنـمة الأنصاري، كان بـينه وبـين أناس من الأنصار كلام، فمشى بـينهم يهودي من قـينقاع، فحمل بَعْضَهُم علـى بعضٍ حتـى همت الطائفتان من الأوس والـخزرج أن يحملوا السلاح فـيقاتلوا، فأنزل اللّه عز وجل: {إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيـمانِكُمْ كافِرِينَ}

يقول: إن حملتـم السلاح فـاقتتلتـم كفرتـم.

٦٠٧٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان، عن حميد الأعرج عن مـجاهد فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ} قال: كان جماع قبـائل الأنصار بطنـين الأوس والـخزرج، وكان بـينهما فـي الـجاهلـية حرب ودماء وشنآن، حتـى منّ اللّه علـيهم بـالإسلام وبـالنبـي صلى اللّه عليه وسلم، فأطفأ اللّه الـحرب التـي كانت بـينهم، وألّف بـينهم بـالإسلام قال: فبـينا رجل من الأوس ورجل من الـخزرج قاعدان يتـحدثان، ومعهما يهودي جالس، فلـم يزل يذكّرهما أيامهما والعداوة التـي كانت بـينهم، حتـى استبّـا، ثم اقتتلا

قال: فنادى هذا قومه، وهذا قومه، فخرجوا بـالسلاح، وصفّ بعضهم لبعض

قال: ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاهد يومئذ بـالـمدينة، فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلـم يزل يـمشي بـينهم إلـى هؤلاء وإلـى هؤلاء لـيسكنهم، حتـى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل اللّه عزّ وجلّ القرآن فـي ذلك: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ} إلـى قوله: {عَذَابٌ عَظِيـمٌ}.

فتأويـل الاَية: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله وأقرّوا بـما جاءهم به نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم من عند اللّه ، إن تطيعوا جماعة مـمن ينتـحل الكتاب من أهل التوراة والإنـجيـل، فتقلبوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فـيردّوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بـما جاء به من عند ربكم كافرين¹

يقول: جاحدين لـما قد آمنتـم به وصدّقتـموه من الـحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جل ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيا أو مشورة، ويعلـمهم تعالـى ذكره أنهم لهم منطوون علـى غلّ وغشّ وحسد وبغض. كما:

٦٠٧٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيـمانِكُمْ كافِرِينَ}: قد تقدّم اللّه إلـيكم فـيهم كما تسمعون، وحذركم وأنبأكم يضلالتهم، فلا تأمنوهم علـى دينكم ولا تنصحوهم علـى أنفسكم، فإنهم الأعداء الـحسدة الضلال. كيف تأتـمنون قوما كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتـحيروا فـي دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟ أولئك واللّه هم أهل التهمة والعداوة!

٦٠٧٩ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

١٠١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّه ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وكيف تكفرون أيها الـمؤمنون بعد إيـمانكم بـاللّه وبرسوله، فترتدوا علـى أعقابكم {وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّه } يعنـي: حجج اللّه علـيكم التـي أنزلها فـي كتابه علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. {وفِـيكُمْ رَسُولُهُ} حجة أخرى علـيكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلـى الـحقّ، ويبصركم الهدى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال يقول لهم تعالـى ذكره: فما وجه عذركم عند ربكم فـي جحودكم نبوّة نبـيكم، وارتدادكم علـى أعقابكم، ورجوعكم إلـى أمر جاهلـيتكم، إن أنتـم راجعتـم ذلك وكفرتـم، وفـيه هذه الـحجج الواضحة، والاَيات البـينة، علـى خطأ فعلكم ذلك إن فعلتـموه. كما:

٦٠٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّه }.. الاَية، علـمان بـينان: وُجْدَانُ نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكتاب اللّه ¹ فأما نبـيّ اللّه فمضى صلى اللّه عليه وسلم¹ وأما كتاب اللّه ، فأبقاه اللّه بـين أظهركم رحمة من اللّه ونعمة، فـيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.

وأما قوله: {مَنْ يَعْتَصِمْ بـاللّه فَقَدْ هُدِيَ إلَـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ} فإنه يعنـي: ومن يتعلق بأسبـاب اللّه ، ويتـمسك بدينه وطاعته، {فَقَدْ هُدِيَ}

يقول: فقد وفق لطريق واضح ومـحجة مستقـيـمة غير معوجة، فـيستقـيـم به إلـى رضا اللّه وإلـى النـجاة من عذاب اللّه والفوز بجنته. كما:

٦٠٨١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بـاللّه فَقَدْ هُدِيَ} قال: يؤمن بـالله.

وأصل العصم: الـمنع، فكل مانع شيئا فهو عاصمه، والـمـمتنع به معتصم به، ومنه قول الفرزدق:

أنا ابْنُ العاصِمينَ بنـي تَـمِيـمٍإذَا ما أعْظَمُ الـحدَثانِ نابَـا

ولذلك قـيـل للـحبل: عصام، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلـى حاجته: عصام، ومنه قول الأعشى:

إلـى الـمَرْءِ قَـيْسٍ أُطِيـلُ السّرىوآخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عُصُمْ

يعنـي بـالعُصُم: الأسبـاب، أسبـاب الذمة والأمان، يقال منه: اعتصمت بحبل من فلان، واعتصمت حبلاً منه، واعتصمت به واعتصمه. وأفصح اللغتـين: إدخال البـاء، كما قال عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} وقد جاء (اعتصمته)، كما قال الشاعر:

إذَا أنْتَ جازَيْتَ الإخاءَ بِـمِثْلِهِوَآسَيْتَنِـي ثُمّ اعْتَصَمْتُ حبِـالِـيا

فقال: (اعتصمت حبـالـيا)، ولـم يدخـل البـاء، وذلك نظير قولهم: تناولت الـخطام وتناولت بـالـخطام، وتعلقت به وتعلقته، كما قال الشاعر:

تَعَلّقْتَ هِنْدا ناشِئا ذَاتَ مِئْزَرٍوأنتَ وَقد فـارَقْتَ لـمْ تَدْرِ ما الـحِلْـمُ

وقد بـينت معنى الهدى والصراط وأنه معنّـي به الإسلام فـيـما مضى قبل بشواهده، فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع.

وقد ذكر أن الذي نزل فـي سبب تَـحَاوُرْ القبـيـلتـين الأوس والـخزرج، كان منه قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّه }. ذكر من قال ذلك:

٦٠٨٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا قـيس بن الربـيع، عن الأغرّ بن الصبـاح، عن خـلـيفة بن حصين، عن أبـي نصر، عن ابن عبـاس ، قال: كانت الأوس والـخزرج بـينهم حرب فـي الـجاهلـية كل شهر، فبـينـما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بـينهم حتـى غضبوا، فقام بعضهم إلـى بعض بـالسلاح، فنزلت هذه الاَية: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنْتُـمْ تُتْلَـى عَلَـيْكُمْ آياتُ اللّه وَفِـيكُمْ رَسُولُه}.. إلـى آخر الاَيتـين، {واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً}.. إلـى آخر الاَية.

١٠٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّه حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا معشر من صدّق اللّه ورسوله، {اتقوا اللّه } خافوا اللّه وراقبوه بطاعته، واجتناب معاصيه، {حق تقاته} حقّ خوفه، وهو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. {ولا تـموتنّ} أيها الـمؤمنون بـاللّه ورسوله، {إلا وأنتـم مسلـمون} لربكم، مذعنون له بـالطاعة، مخـلصون له الألوهية والعبـادة.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٠٨٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، وحدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن زبـيد، عن مرة، عن عبد اللّه : {اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} قال: أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا شعبة، عن زبـيد، عن مرة الهمدانـي، عن عبد اللّه مثله.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن زبـيد، عن مرة الهمدانـي، عن عبد اللّه مثله.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا، عن زبـيد، عن مرة بن شراحيـل الهمدانـي، عن عبد اللّه بن مسعود، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا جرير، عن زبـيد، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا مسعر، عن زبـيد، عن مرة، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن الـمسعودي، عن زبـيد الأيامي، عن مرّة، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن زبـيد، عن مرة، عن عبد اللّه ، مثله.

٦٠٨٤ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا يحيـى بن سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون: {اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون، نـحوه.

٦٠٨٥ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا عمرو بن مرة، عن الربـيع بن خُثَـيْـم، قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكره فلا ينسى.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت مرة الهمدانـي يحدّث عن الربـيع بن خُثَـيْـم في قول اللّه عز وجل: {اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} فذكر نـحوه.

٦٠٨٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قـيس بن سعد، عن طاوس: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى.

٦٠٨٧ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن، فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} قال: حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصي.

٦٠٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: ثم تقدم إلـيهم، يعنـي إلـى الـمؤمنـين من الأنصار،

فقال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} أما حق تقاته: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

٦٠٨٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا همام، عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى، قال: {ولا تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـم مِسْلِـمُونَ}.

وقال آخرون: بل تأويـل ذلك كما:

٦٠٩٠ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} قال: حقّ تقاته أن يجاهدوا فـي سبـيـل اللّه حقّ جهاده، ولا يأخذهم فـي اللّه لومة لائم، ويقوموا لله بـالقسط ولو علـى أنفسهم وآبـائهم وأبنائهم.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي هذه الاَية، هل هي منسوخة أم لا؟

فقال بعضهم: هي مـحكمة غير منسوخة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس قوله: {اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} إنها لـم تنسخ، ولكن حقّ تقاته أن تـجاهد فـي اللّه حقّ جهاده. ثم ذكر تأويـله الذي ذكرناه عنه آنفا.

٦٠٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن نـجيح، عن قـيس بن سعد، عن طاوس: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} فإن لـم تفعلوا ولـم تستطيعوا، {فَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ}.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال طاوس، قوله: {وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ}

يقول: إن لـم تتقوه فلا تـموتنّ إلا وأنتـم مسلـمون.

وقال آخرون: هي منسوخة، نسخها قوله: {فـاتّقُوا اللّه ما استْطَعْتُـمْ}. ذكر من قال ذلك:

٦٠٩٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} ثم أنزل التـخفـيف والـيسر، وعاد بعائدته ورحمته علـى ما يعلـم من ضعف خـلقه،

فقال: {فـاتّقُوا اللّه ما اسْتَطَعْتُـمْ} فجاءت هذه الاَية فـيها تـخفـيف وعافـية ويسر.

ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال الأنـماطي، قال: حدثنا همام، عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ ألاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} قال: نسختها هذه الاَية التـي فـي التغابن {فـاتّقُوا اللّه ما اسْتَطَعْتُـمْ واسمَعُوا وأطِيعُوا} وعلـيها بـايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى السمع والطاعة فـيـما استطاعوا.

٦٠٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قال: لـما نزلت: {اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} ثم نزل بعدها: {فـاتّقُوا اللّه ما اسْتَطَعْتُـم} فنسخت هذه الاَية التـي فـي آل عمران.

٦٠٩٥ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} فلـم يطق الناس هذا، فنسخه اللّه عنهم،

فقال: {فـاتّقُوا اللّه ما اسْتَطَعْتُـمْ}.

٦٠٩٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّه حَق تُقاتِهِ} قال: جاء أمر شديد،

قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلـما عرف أنه قد اشتدّ ذلك علـيهم، نسخها عنهم، وجاء بهذه الأخرى،

فقال: {فـاتّقُوا اللّه ما اسْتَطَعْتُـمْ} فنسخها.

وأما قوله: {وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} فإن تأويـله كما:

٦٠٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قـيس بن سعد، عن طاوس: {وَلاَ تَـمُوتُنّ إلاّ وأنْتُـمْ مُسْلِـمُونَ} قال: علـى الإسلام وعلـى حرمة الإسلام.

١٠٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وتعلقوا بأسبـاب اللّه جميعا. يريد بذلك تعالـى ذكره: وتـمسكوا بدين اللّه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إلـيكم فـي كتابه إلـيكم من الألفة والاجتـماع علـى كلـمة الـحقّ والتسلـيـم لأمر اللّه . وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى معنى الاعتصاموأما الـحبل، فإنه السبب الذي يوصل به إلـى البغية والـحاجة، ولذلك سمي الأمان حبلاً، لأنه سبب يوصل به إلـى زوال الـخوف والنـجاة من الـجزع والذعر، ومنه قول أعشى بنـي ثعلبة:

وإذَا تُـجَوّزُها حِبـالُ قَبِـيـلةَأخذَتَ مِنَ الأُخْرَى إلـيكَ حِبـالَها

ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ}.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٠٩٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوّام، عن الشعبـي، عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال فـي قوله: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} قال: الـجماعة.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن العوّام، عن الشعبـيّ، عن عبد اللّه فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} قال: حبل اللّه : الـجماعة.

وقال آخرون: عَنَى بذلك القرآن، والعهد الذي عهد فـيه. ذكر من قال ذلك:

٦٠٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} حبل اللّه الـمتـين الذي أمر أن يعتصم به: هذا القرآن.

٦١٠٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} قال: بعهد اللّه وأمره.

٦١٠١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن شقـيق، عن عبد اللّه ، قال: إن الصراط مـحتضر تـحضره الشياطين، ينادون: يا عبد اللّه هلـمّ هذا الطريق! لـيصدّوا عن سبـيـل اللّه . فـاعتصموا بحبل اللّه ، فإن حبل اللّه هو كتاب اللّه .

٦١٠٢ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، عن أسبـاط، عن السديّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} أما حبل اللّه : فكتاب اللّه .

٦١٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {بِحَبْلِ اللّه }: بعهد اللّه .

٦١٠٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء: {بِحَبْلِ اللّه } قال: العهد.

٦١٠٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبـي وائل، عن عبد اللّه : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} قال: حبل اللّه : القرآن.

٦١٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} قال: القرآن.

٦١٠٧ـ حدثنا سعيد بن يحيـى، قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان العرزمي، عن أبـي سعيد الـخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كِتاب اللّه ، هُوَ حَبْلُ اللّه الـمَـمْدُودُ مِنَ السّماءِ إلـى الأرْضِ).

وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله. ذكر من قال ذلك:

٦١٠٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا}

يقول: اعتصموا بـالإخلاص لله وحده.

٦١٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا} قال: الـحبل: الإسلام. وقرأ {وَلا تَفَرّقُوا}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَفَرّقُوا}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَلا تَفَرّقُوا}: ولا تتفرّقوا عن دين اللّه وعهده الذي عهد إلـيكم فـي كتابه من الائتلاف والاجتـماع علـى طاعته وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم والانتهاء إلـى أمره. كما:

٦١١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَـيْكُمْ} أن اللّه عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة وقدّم إلـيكم فـيها، وحذّركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والـجماعة، فـارضوا لأنفسكم ما رضي اللّه لكم إن استطعتـم، ولا قوّة إلا بـالله.

٦١١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: {وَلا تَفَرّقُوا}: لا تعادوا علـيه،

يقول: علـى الإخلاص لله، وكونوا علـيه إخوانا.

٦١١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، أن الأوزاعي حدثه، أن يزيد الرقاشي حدثه، أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ بَنِـي إسْرائِيـلَ افْتَرَقَتْ علـى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإنّ أُمّتِـي سَتَفْتَرِقُ علـى اثْنَـيْنِ وَسبعينَ فِرْقَةً كلّهمْ فِـي النّارِ إلاّ وَاحِدَةً)

قال: فقـيـل يا رسول اللّه ، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: (الـجَمَاعَة) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعا وَلا تَفَرّقُوا}.

حدثنـي عبد الكريـم بن أبـي عمير، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: سمعت الأوزاعي يحدّث عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، نـحوه.

٦١١٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الـمـحاربـي، عن ابن أبـي خالد، عن الشعبـي، عن ثابت بن قطنة الـمري، عن عبد اللّه أنه قال: يا أيها الناس علـيكم بـالطاعة والـجماعة فإنهما حبل اللّه الذي أمر به، وإنّ ما تكرهون فـي الـجماعة والطاعة هو خير مـما تستـحبون فـي الفرقة.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان الـيشكري، قال: أخبرنا مـحمد بن يزيد، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن الشعبـي، عن ثابت بن قطنة، قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب، وهو

يقول: يا أيها الناس، ثم ذكر نـحوه.

حدثنا إسماعيـل بن حفص الاَملـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن نـمير أبو هشام، قال: حدثنا مـجالد بن سعيد، عن عامر، عن ثابت بن قطنة الـمري، قال: قال عبد اللّه : علـيكم بـالطاعة والـجماعة، فإنها حبل اللّه الذي أمر به ثم ذكر نـحوه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ}: واذكروا ما أنعم اللّه به علـيكم من الألفة والاجتـماع علـى الإسلام.

واختلف أهل العربـية فـي قوله: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} فقال بعض نـحويـي البصرة فـي ذلك: انقطع الكلام عند قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ}، ثم فسر بقوله: {فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} وأخبر بـالذي كانوا فـيه قبل التألـيف، كما تقول: أمْسَكَ الـحائط أن يـميـل.

وقال بعض نـحويـي الكوفة: قوله {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} تابع قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ} غير منقطعة منها.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن قوله: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم} متصل بقوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ} غير منقطع عنه.

وتأويـل ذلك: واذكروا أيها الـمؤمنون نعمة اللّه علـيكم التـي أنعم بها علـيكم حين كنتـم أعداء: أي بشرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبـية فـي غير طاعة اللّه ولا طاعة رسوله، فألف اللّه بـالإسلام بـين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتـم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتـماع كلـمتكم علـيه. كما:

٦١١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُمْ} كنتـم تذابحون فـيها، يأكل شديدكم ضعيفكم حتـى جاء اللّه بـالإسلام، فآخى به بـينكم، وألف به بـينكم. أما واللّه الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب!

٦١١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً}: يقتل بعضكم بعضا، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتـى جاء اللّه بـالإسلام، فألّف به بـينكم، وجمع جمعكم علـيه، وجعلكم علـيه إخوانا.

فـالنعمة التـي أنعم اللّه علـى الأنصار التـي أمرهم تعالـى ذكره فـي هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتـماع كلـمتهم علـيها، والعداوة التـي كانت بـينهم، التـي قال اللّه عزّ وجلّ: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً} فإنها عداوة الـحروب التـي كانت بـين الـحيـين من الأوس والـخزرج فـي الـجاهلـية قبل الإسلام، يزعم العلـماء بأيام العرب، أنها تطاولت بـينهم عشرين ومائة سنة. كما:

٦١١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: كانت الـحرب بـين الأوس والـخزرج عشرين ومائة سنة، حتـى قام الإسلام وهم علـى ذلك، فكانت حربهم بـينهم وهم أخوان لأب وأم، فلـم يسمع بقوم كان بـينهم من العدواة والـحرب ما كان بـينهم. ثم إن اللّه عزّ وجلّ أطفأ ذلك بـالإسلام، وألف بـينهم برسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

فذكّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيـم ما كانوا فـيه فـي جاهلـيتهم من البلاء والشقاء بـمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا، وخوّف بعضهم من بعض، وما صاروا إلـيه بـالإسلام واتبـاع الرسول صلى اللّه عليه وسلم والإيـمان به، وبـما جاء به من الائتلاف والاجتـماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخوانا. وكان سببُ ذلك ما:

٦١١٧ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة الـمدنـي، عن أشياخ من قومه،

قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بنـي عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتـمرا

قال: وكان سويد إنـما يسميه قومه فـيهم الكامل لـجلده وشعره ونسبه وشرفه

قال: فتصدّى له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلـى اللّه عزّ وجلّ وإلـى الإسلام، قال: فقال له سويد: فلعلّ الذي معك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَما الّذِي مَعَكَ؟) قال مـجلة لقمان ـ يعنـي حكمة لقمان ـ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اعْرِضْها عَلـيّ!) فعرضها علـيه،

فقال: (إنّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ، مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللّه عَلّـي هُدًى وَنُورٌ)

قال: فتلا علـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرآن ودعاه إلـى الإسلام، فلـم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه، وقدم الـمدينة، فلـم يـلبث أن قتلته الـخزرج، فإن كان قومه لـيقولون: قد قتل وهو مسلـم، وكان قتله قبل يوم بُعاث.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي الـحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بنـي عبد الأشهل: أن مـحمود بن أسد أحد بنـي عبد الأشهل، قال: لـما قدم أبو الـجيش أنس بن رافع مكة، ومعه فتـية من بنـي عبد الأشهل فـيهم إياس بن معاذ، يـلتـمسون الـحلف من قريش علـى قوم من الـخزرج، سمع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأتاهم فجلس إلـيهم،

فقال: (هَلْ لَكُمْ إلـى خَيْرٍ مـمّا جِئْتُـمْ لَهُ؟)

قالُوا: وَما ذَاكَ؟ قال: (أنا رَسُولُ اللّه بَعَثَنِـي إلـى العِبـادِ أدْعُوهُمْ إلـى اللّه أنْ يَعْبُدُوا اللّه وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وأَنْزَلَ عَلّـي الكِتابَ). ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا علـيهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم، هذا واللّه خير مـما جئتـم له! قال: فأخذ أبو الـجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلـى الـمدينة، وكانت وقعة بُعاث بـين الأوس والـخزرج

قال: ثم لـم يـلبث إياس بن معاذ أن هلك قال: فلـما أراد اللّه إظهار دينه، وإعزاز نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وإنـجاز موعده له، خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـموسم الذي لقـي فـيه النفر من الأنصار يعرض نفسه علـى قبـائل العرب كما كان يصنع فـي كل موسم. فبـينا هو عند العقبة، إذ لقـي رهطا من الـخزرج أراد اللّه لهم خيرا. قال ابن حميد: قال سلـمة: قال مـحمد بن إسحاق: فحدثنـي عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه،

قالوا: لـما لقـيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم: (مَنْ أنْتُـمْ؟)

قالوا: نفر من الـخزرج، قال: (أمِنْ مَوَالـىَ يَهُودَ؟)

قالوا: نعم، قال: (أفَلا تَـجْلِسُونَ حتـى أُكَلّـمَكُمْ؟)

قالوا: بلـى

قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلـى اللّه وعرض علـيهم الإسلام، وتلا علـيهم القرآن

قال: وكان مـما صنع اللّه لهم به فـي الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلـم، وكانوا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بـينهم شيء، قالوا لهم: إن نبـيا الاَن مبعوث قد أظلّ زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلـما كلـم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلـى اللّه عزّ وجلّ، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلـموا واللّه إنه للنبـيّ الذي توعدكم به يهود، ولا يسبقُنكم إلـيه! فأجابوه فـيـما دعاهم إلـيه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض علـيهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بـينهم من العداوة والشرّ ما بـينهم، وعسى أن يجمعهم اللّه بك، وسنقدم علـيهم، فندعوهم إلـى أمرك، ونعرض علـيهم الذي أجبناك إلـيه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللّه علـيه، فلا رجل أعزّ منك! ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، راجعين إلـى بلادهم، قد آمنوا وصدّقوا، وهم فـيـما ذكر لـي ستة نفر

قال: فلـما قدموا الـمدينة علـى قومهم، ذكروا لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ودعوهم إلـى الإسلام، حتـى فشا فـيهم، فلـم يبق دار من دور الأنصار إلا وفـيها ذكر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى إذا كان العام الـمقبل، وافـى الـموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بـالعقبة، وهي العقبة الأولـى، فبـايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى بـيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض علـيهم الـحرب.

٦١١٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم ستة نفر من الأنصار، فآمنوا به وصدّقوه، فأراد أن يذهب معهم،

فقالوا: يا رسول اللّه ، إن بـين قومنا حربـا، وإنا نـخاف إن جئت علـى حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد. فوعدوه العام الـمقبل، و

قالوا: يا رسول اللّه نذهب، فلعلّ اللّه أن يصلـح تلك الـحرب! قال: فذهبوا ففعلوا، فأصلـح اللّه عزّ وجلّ تلك الـحرب، وكانوا يرون أنها لا تصلـح¹ وهو يوم بُعاث فلقوه من العام الـمقبل سبعين رجلاً قد آمنوا، فأخذ علـيهم النقبـاء اثنـي عشر نقـيبـا، فذلك حين

يقول: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم}.

٦١١٩ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما: {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً} ففـي حرب {فَألّفَ بَـيْنَ قُلُوبِكُمْ} بـالإسلام. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، بنـحوه، وزاد فـيه: فلـما كان من أمر عائشة ما كان، فتثاور الـحيان، فقال بعضهم لبعض: موعدكم الـحرة! فخرجوا إلـيها، فنزلت هذه الاَية: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَـيْكُمْ إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَـيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا}.. الاَية، فأتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلـم يزل يتلوها علـيهم حتـى اعتنق بعضهم بعضا، وحتـى إن لهم لـخنـينا، يعنـي البكاء.

وسمير الذي زعم السديّ أن قوله {إذْ كُنْتُـمْ أعْدَاءً} عنى به حربه، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بنـي عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان فـي قوله:

إنّ سُمَيرا أرَى عَشِيرَتَهُقَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا

إنْ يَكُنِ الظّنّ صَادِقـي ببنـي النّــجّارِ لـم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا

وقد ذكر علـماء الأنصار أن مبدأ العداوة التـي هيجت الـحروب التـي كانت بـين قبـيـلتـيها الأوس والـخزرج وأولها كان بسبب قتل مولـى لـمالك بن العجلان الـخزرجي، يقال له: الـحر بن سمير، من مزينة، وكان حلـيفـا لـمالك بن العجلان، ثم اتصلت تلك العداوة بـينهم إلـى أن أطفأها اللّه بنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فذلك معنى قول السديّ: حرب ابن سمير.

وأما قوله: {فَأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا} فإنه يعنـي: فأصبحتـم بتألـيف اللّه عزّ وجلّ بـينكم بـالإسلام وكلـمة الـحقّ والتعاون علـى نصرة أهل الإيـمان، والتآزر علـى من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا متصادقـين لا ضغائن بـينكم، ولا تـحاسد. كما:

٦١٢٠ـ حدثنـي بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فأصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا}، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود: كيف أصبحتـم؟ قال: أصبحنا بنعمة اللّه إخوانا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ}: وكنتـم يا معشر الـمؤمنـين من الأوس والـخزرج علـى حرف حفرة من النار، وإنـما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا علـيه قبل أن يهديهم اللّه للإسلام،

يقول تعالـى ذكره: وكنتـم علـى طرف جهنـم بكفركم الذي كنتـم علـيه، قبل أن ينعم اللّه علـيكم بـالإسلام، فتصيروا بـائتلافكم علـيه إخوانا، لـيس بـينكم وبـين الوقوع فـيها إلا أن تـموتوا علـى ذلك من كفركم، فتكونوا من الـخالدين فـيها، فـانقذكم اللّه منها بـالإيـمان الذي هداكم له. وشفـا الـحفرة: طرفها وحرفها، مثل شفـا الركية والبئر، ومنه قول الراجز:

نـحْنُ حَفَرْنا للـحَجيج سَجْلَهْنابِتَةً فوقَ شَفَـاهَا بَقْلَهْ

يعنـي فوق حرفها، يقال: هذا شفـا هذه الركية مقصور، وهما شفواها

وقال: {فَأنْقَذَكُمْ مِنْها}: يعنـي فأنقذكم من الـحفرة، فردّ الـخبر إلـى الـحفرة، وقد ابتدأ الـخبر عن الشفـا، لأن الشفـا من الـحفرة، فجاز ذلك، إذ كان الـخبر عن الشفـا علـى السبـيـل التـي ذكرها فـي هذه الاَية خبرا عن الـحفرة، كما قال جرير بن عطية:

رأتْ مَرّ السّنِـينَ أخَذْنَ مِنّـيكما أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ

فذكر مرّ السنـين، ثم رجع إلـى الـخبر عن السنـين. وكما قال العجاج:

طُولُ اللّـيالـي أسْرَعَتْ فِـي نَقْضِيطَوَيْنَ طُولـي وَطَوَيْنَ عَرْضِي

وقد بـينت العلة التـي من أجلها قـيـل ذلك كذلك فـيـما مضى قبل.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك من التأويـل،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦١٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ} كان هذا الـحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً، وأشقاه عيشا، وأبـينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكعومين علـى رأس حجر بـين الأسدين: فـارس، والروم، لا واللّه ما فـي بلادهم يومئذ من شيء يحسدون علـيه، من عاش منهم عاش شقـيا ومن مات رُدّي فـي النار، يؤكلون ولا يأكلون، واللّه ما نعلـم قبـيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض، كانوا فـيها أصغر حظا، وأدقّ فـيها شأنا منهم، حتـى جاء اللّه عزّ وجلّ بـالإسلام، فورّثكم به الكتاب، وأحلّ لكم به دار الـجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا علـى رقاب الناس، وبـالإسلام أعطى اللّه ما رأيتـم، فـاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين، وإن أهل الشكر فـي مزيد اللّه ، فتعالـى ربنا وتبـارك.

٦١٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، قوله: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ}

يقول: كنتـم علـى الكفر بـالله، {فَأنْقَذَكُمْ مِنْها}: من ذلك، وهداكم إلـى الإسلام.

٦١٢٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم

يقول: كنتـم علـى طرف النار من مات منكم أُوبق فـي النار، فبعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، فـاستنقذكم به من تلك الـحفرة.

٦١٢٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا حسن بن حيّ: {وكُنْتُـمْ علـى شَفـا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها} قال: عصبـية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كَذَلِكَ يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: كذلك كما بـين لكم ربكم فـي هذه الاَيات أيها الـمؤمنون من الأوس والـخزرج، من غِلّ الـيهود، الذي يضمرونه لكم، وغشهم لكم، وأمره إياكم بـما أمركم به فـيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والـحال التـي كنتـم علـيها فـي جاهلـيتكم، والتـي صرتـم إلـيها فـي إسلامكم، يعرّفكم فـي كل ذلك مواقع نعمه قبلكم، وصنائعه لديكم، فكذلك يبـين سائر حججه لكم فـي تنزيـله، وعلـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم. {لَعَلّكم تهتدون} يعنـي: لتهتدوا إلـى سبـيـل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها.

١٠٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} أيها الـمؤمنون، {أُمّةٌ}

يقول: جماعة {يَدْعُونَ} الناس {إلـى الـخَيْرِ} يعنـي إلـى الإسلام وشرائعه التـي شرعها اللّه لعبـاده، {وَيأمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ}

يقول: يأمرون الناس بـاتبـاع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ودينه الذي جاء به من عند اللّه ، {وَيْنهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ}: يعنـي وينهون عن الكفر بـالله، والتكذيب بـمـحمد، وبـما جاء به من عند اللّه بجهادهم بـالأيدي والـجوارح، حتـى ينقادوا لكم بـالطاعةوقوله: {وَأُولِئَكَ هُمُ الـمُفْلِـحُونَ} يعنـي: الـمنـجحون عند اللّه ، البـاقون فـي جناته ونعيـمه. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى الإفلاح فـي غير هذا الـموضع بـما أغنى عن إعادته ههنا.

٦١٢٥ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا عيسى بن عمر القارىء، عن أبـي عون الثقـفـي، أنه سمع صبـيحا، قال: سمعت عثمان يقرأ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إلـى الـخَيْرِ وَيأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وَيْنهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ ويستعينون اللّه علـى ما أصابهم).

٦١٢٦ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن الزبـير يقرأ، فذكر مثل قراءة عثمان التـي ذكرناها قبل سواء.

٦١٢٧ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إلـى الـخَيْرِ وَيأمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وَيْنهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} قال: هم خاصة أصحاب رسول اللّه ، وهم خاصة الرواة.

١٠٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ تَفَرّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولا تكونوا يا معشر الذين آمنوا كالذين تفرّقوا من أهل الكتاب، واختلفوا فـي دين اللّه وأمره ونهيه، من بعد ما جاءهم البـينات، من حجج اللّه ، فـيـما اختلفوا فـيه، وعلـموا الـحقّ فـيه، فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمر اللّه ، ونقضوا عهده وميثاقه، جراءة علـى اللّه ، وأولئك لهم: يعنـي ولهؤلاء الذين تفرّقوا، واختلفوا من أهل الكتاب، من بعد ما جاءهم عذاب من عند اللّه عظيـم. يقول جل ثناؤه: فلا تفرّقوا يا معشر الـمؤمنـين فـي دينكم تفرّق هؤلاء فـي دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا فـي دينكم بسنتهم، فـيكون لكم من عذاب اللّه العظيـم مثل الذي لهم. كما:

٦١٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَـيّناتُ} قال: هم أهل الكتاب، نهى اللّه أهل الإسلام أن يتفرّقوا ويختلفوا، كما تفرّق واختلف أهل الكتاب، قال اللّه عزّ وجلّ: {وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ}.

٦١٢٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا} ونـحو هذا فـي القرآن أمر اللّه جل ثناؤه الـمؤمنـين بـالـجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنـما هلك من كان قبلهم بـالـمراء والـخصومات فـي دين اللّه .

٦١٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِما جاءَهُمُ البَـيّناتُ وأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ} قال هم الـيهود والنصارى.

١٠٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيـم فـي يوم تبـيضّ وجوه وتسودّ وجوهوأما قوله: {فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ} فإن معناه: فأما الذين اسودّت وجوههم، فـيقال لهم: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ}. ولا بدّ لـ (أمّا) من جواب بـالفـاء، فلـما أسقط الـجواب سقطت الفـاء معه، وإنـما جاز ترك ذكر (فـيقال) لدلالة ما ذكر من الكلام علـيهوأما معنى قوله جلّ ثناؤه: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيـمن عُنـي به،

فقال بعضهم: عُنـي به أهل قبلتنا من الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك:

٦١٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه}.. الاَية، لقد كفر أقوام بعد إيـمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (وَالّذِي نَفْسُ مُـحَمّدٍ بِـيَدِهِ، لَـيَرِدَنّ عَلـيّ الـحَوْضَ مِـمّنْ صَحِبَنَـي أقْوَامٌ، حتـى إذَا رُفِعُوا إلـيّ ورأيْتُهُمْ اخْتُلِـجُوا دُونِـي، فلأَقُولَنّ رَبّ أصحابِـي أصحَابِـي، فَلَـيُقالَنّ إنّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ)

وقوله: {وأمّا الّذِينَ ابْـيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِـي رَحْمَةِ اللّه } هؤلاء أهل طاعة اللّه والوفـاء بعهد اللّه ، قال اللّه عز وجل: {فَفِـي رحْمة اللّه هُمْ فِـيها خالِدُونَ}.

٦١٣٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ} فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا.

١٠٧

٦١٣٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن حماد بن سلـمة والربـيع بن صبـيح، عن أبـي مـجالد، عن أبـي أمامة: {فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُـم بَعْدَ إيَـمانِكُمْ} قال: هم الـخوارج.

وقال آخرون: عنى بذلك كل من كفر بـاللّه بعد الإيـمان الذي آمن حين أخذ اللّه من صلب آدم ذريته وأشهدهم علـى أنفسهم بـما بـين فـي كتابه. ذكر من قال ذلك:

٦١٣٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا علـيّ بن الهيثم، قال: أخبرنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، عن أبـيّ بن كعب، فـي قوله: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه} قال: صاروا يوم القـيامة فريقـين، فقال لـمن اسودّ وجهه وعيرهم: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ} قال: هو الإيـمان الذي كان قبل الاختلاف فـي زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقرّوا كلهم بـالعبودية، وفطرهم علـى الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلـمين،

يقول: أكفرتـم بعد إيـمانكم، يقول بعد ذلك الذي كان فـي زمان آدم، وقال فـي الاَخرين: الذين استقاموا علـى إيـمانهم ذلك، فأخـلصوا له الدين والعمل، فبـيض اللّه وجوههم، وأدخـلهم فـي رضوانه وجنته.

وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ}: الـمنافقون. ذكر من قال ذلك:

٦١٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن: {يَوْمَ تَبْـيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه}.. الاَية، قال: هم الـمنافقون كانوا أعطوا كلـمة الإيـمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.

وأولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي ذلك بـالصواب القول الذي ذكرناه عن أبـيّ بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفـار، وأن الإيـمان الذي يوبخون علـى ارتدادهم عنه، هو الإيـمان الذي أقرّوا به يوم قـيـل لهم: {ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلَـى شَهِدْنا}. وذلك أن اللّه جل ثناؤه جعل جميع أهل الاَخرة فريقـين: أحدهما سوداء وجوهه، والاَخر بـيضاء وجوهه، فمعلوم إذ لـم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفـار داخـلون فـي فريق من سوّد وجهه، وأن جميع الـمؤمنـين داخـلون فـي فريق من بـيض وجهه، فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله: {أكَفَرْتُـمْ بَعْدَ إيـمَانِكُمْ} بعض الكفـار دون بعض، وقد عمّ اللّه جل ثناؤه الـخبر عنهم جميعهم، وإذا دخـل جميعهم فـي ذلك ثم لـم يكن لـجميعهم حالة آمنوا فـيها، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة، كان معلوما أنها الـمرادة بذلك.

فتأويـل الاَية إذا: أولئك لهم عذاب عظيـم فـي يوم تبـيضّ وجوه قوم، وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم، فـيقال: أجحدتـم توحيد اللّه وعهده وميثاقه الذي واثقتـموه علـيه، بأن لا تشركوا به شيئا، وتـخـلصوا له العبـادة بعد إيـمانكم، يعنـي: بعد تصديقكم به، {فَذُوقُوا العَذَابَ بِـمَا كُنْتُـمْ تَكْفُرُونَ}

يقول: بـما كنتـم تـجحدون فـي الدنـيا ما كان اللّه قد أخذ ميثاقكم بـالإقرار به والتصديق¹ وأما الذين ابـيضت وجوههم مـمن ثبت علـى عهد اللّه وميثاقه، فلـم يبدل دينه، ولـم ينقلب علـى عقبـيه بعد الإقرار بـالتوحيد، والشهادة لربه بـالألوهة، وأنه لا إله غيره {ففـي رَحْمَةِ اللّه }

يقول: فهم فـي رحمة اللّه ، يعنـي فـي جنته ونعيـمها، وما أعدّ اللّه لأهلها فـيها، {هُمْ فـيها خَالِدُونَ} أي بـاقون فـيها أبدا بغير نهاية ولا غاية.

١٠٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّه يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ }

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {تِلكَ آيَاتِ اللّه }: هذه آيات اللّه وقد بـينا كيف وضعت العرب (تلك) و(ذلك) مكان (هذا) و(هذه) فـي غير هذا الـموضع فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادتهوقوله: {آياتُ اللّه } يعنـي: مواعظ اللّه ، وعبره وحججه. {نَتْلُوها عَلَـيْكَ} نقرؤها علـيك ونقصها. {بـالـحَقّ} يعنـي: بـالصدق والـيقـين وإنـما يعنـي بقوله: {تِلْكَ آياتُ اللّه } هذه الاَيات التـي ذكر فـيها أمور الـمؤمنـين من أنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمور يهود بنـي إسرائيـل وأهل الكتاب، وما هو فـاعل بأهل الوفـاء بعهده وبـالـمبدلـين دينه والناقضين عهده بعد الإقرار به. ثم أخبر عزّ وجلّ نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أنه يتلو ذلك علـيه بـالـحقّ وأعلـمه أن من عاقبه من خـلقه بـما أخبر أنه معاقبه من تسويد وجهه وتـخـلـيده فـي ألـيـم عذابه وعظيـم عقابه ومن جازاه منهم بـما جازاه من تبـيـيض وجهه وتكريـمه وتشريف منزلته لديه بتـخـلـيده فـي دائم نعيـمه فبغير ظلـم منه لفريق منهم بل لـحقّ استوجبوه وأعمال لهم سلفت، جازاهم علـيها، فقال تعالـى ذكره: {وَما اللّه يُرِيدُ ظُلْـما للعالَـمِينَ} يعنـي بذلك: ولـيس اللّه يا مـحمد بتسويد وجوه هؤلاء، وإذاقتهم العذاب العظيـم¹ وتبـيـيض وجوه هؤلاء، وتنعيـمه إياهم فـي جنته، طالبـا وضع شيء مـما فعل من ذلك فـي غير موضعه الذي هو موضعه، إعلاما بذلك عبـاده، أنه لن يصلـح فـي حكمته بخـلقه، غير ما وعد أهل طاعته والإيـمان به، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به، وإنذارا منه هؤلاء وتبشيرا منه هؤلاء.

١٠٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّه تُرْجَعُ الاُمُورُ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيـمانهم بـما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيـم، وتسويد الوجوه، ويثـيب أهل الإيـمان به، الذين ثبتوا علـى التصديق والوفـاء بعهودهم التـي عاهدوا علـيها، بـما وصف أنه مثـيبهم به، من الـخـلود فـي جناته، من غير ظلـم منه لأحد الفريقـين فـيـما فعل، لأنه لا حاجة به إلـى الظلـم، وذلك أن الظالـم إنـما يظلـم غيره لـيزداد إلـى عزّته عزّة بظلـمه إياه، وإلـى سلطانه سلطانا، وإلـى ملكه ملكا، لنقصان فـي بعض أسبـابه، يتـمـم بـما ظلـم غيره فـيه ما كان ناقصا من أسبـابه عن التـمام، فأما من كان له جميع ما بـين أقطار الـمشارق والـمغارب، وما فـي الدنـيا والاَخرة، فلا معنى لظلـمه أحدا فـيجوز أن يظلـم شيئا، لأنه لـيس من أسبـابه شيء ناقص يحتاج إلـى تـمام، فـيتـمّ ذلك بظلـم غيره، تعالـى اللّه علوّا كبـيرا¹ ولذلك قال جل ثناؤه عقـيب قوله: {وَما اللّه يُرِيدُ ظُلْـما للْعالَـمِينَ} {ولِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ}.

واختلف أهل العربـية فـي وجه تكرير اللّه تعالـى ذكره اسمه مع قوله: {وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأُمُورُ} ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله: {وَلِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ} فقال بعض أهل العربـية من أهل البصرة: ذلك نظير قول العرب: أما زيد فذهب زيد، وكما قال الشاعر:

لا أرَى الـموتَ يسبقُ الـموتَ شَيْءٌنَغّصَ الـمَوْتُ ذا الغنى والفقـيرا

فأظهر فـي موضع الإضمار

وقال بعض نـحويـي الكوفة: لـيس ذلك نظير هذا البـيت، لأن موضع الـموت الثانـي فـي البـيت موضع كناية، لأنه كلـمة واحدة، ولـيس ذلك كذلك فـي الاَية، لأن قوله: {وَلِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ} خبر لـيس من قوله: {وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ} فـي شيء، وذلك أن كل واحدة من القصتـين مفـارق معناها معنى الأخرى، مكتفـية كل واحدة منهما بنفسها، غير مـحتاجة إلـى الأخرى، وما قال الشاعر: (لا أرى) الـموت مـحتاج إلـى تـمام الـخبر عنه.

وهذا القول الثانـي عندنا أولـى بـالصواب، لأن كتاب اللّه عزّ وجلّ لا يؤخذ معانـيه، وما فـيه من البـيان إلـى الشواذّ من الكلام والـمعانـي وله فـي الفصيح من الـمنطق والظاهر من الـمعانـي الـمفهوم وجه صحيح موجود.

وأما قوله: {وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأُمُورُ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره: إلـى اللّه مصير أمر جميع خـلقه الصالـح منهم، والطالـح والـمـحسن والـمسيء، فـيجازي كلاّ علـى قدر استـحقاقهم منه الـجزاء بغير ظلـم منه أحدا منهم.

١١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ ...}

اختلف أهل التأويـل فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرا أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}

فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، من مكة إلـى الـمدينة، وخاصة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٦١٣٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن سماك، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال فـي: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم الذين خرجوا معه من مكة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قـيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم الذين هاجروا من مكة إلـى الـمدينة.

٦١٣٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكِرِ} قال عمر بن الـخطاب: لو شاء اللّه لقال (أنتـم)، فكنا كلنا، ولكن قال: {كُنْتُـمْ} فـي خاصة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومن صنع مثل صنـيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بـالـمعروف، وينهون عن الـمنكر.

٦١٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت فـي ابن مسعود، وسالـم مولـى أبـي حذيفة، وأبـيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل.

٦١٣٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، عن إسرائيـل، عن السديّ، عمن حدثه، قال عمر: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: تكون لأوّلنا، ولا تكون لاَخرنا.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمدينة.

٦١٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الـخطاب قال فـي حجة حجها: ورأى من الناس رِعَة سيئة، فقرأ هذه: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}.. الاَية، ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فلـيؤدّ شرط اللّه منها.

٦١٤١ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: هم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة، يعنـي وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر اللّه الـمسلـمين بطاعتهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: كنتـم خير أمة أخرجت للناس، إذ كنتـم بهذه الشروط التـي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويـل ذلك عندهم: كنتـم خير أمة تأمرون بـالـمعروف، وتنهون عن الـمنكر، وتؤمنون بـاللّه أُخرِجوا للناس فـي زمانكم. ذكر من قال ذلك:

٦١٤٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}

يقول: علـى هذا الشرط أن تأمروا بـالـمعروف، وتنهوا عن الـمنكر، وتؤمنوا بـالله،

يقول: لـمن أنتـم بـين ظهرانـيه، كقوله: {وَلَقَدْ اخْتَرْناهُمْ عَلـى عِلْـمٍ عَلـى العالَـمِينَ}.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال:

يقول: كنتـم خير الناس للناس، علـى هذا الشرط، أن تأمروا بـالـمعروف، وتنهوا عن الـمنكر، وتؤمنوا بـالله، يقول لـمن بـين ظهريه كقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلـى عِلْـمٍ عَلـى العالَـمِينَ}.

٦١٤٣ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن ميسرة، عن أبـي حازم، عن أبـي هريرة: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: كنتـم خير الناس للناس، تـجيئون بهم فـي السلاسل، تدخـلونهم فـي الإسلام.

٦١٤٤ـ حدثنا عبـيد بن أسبـاط، قال: حدثنا أبـي، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: خير الناس للناس.

وقال آخرون: إنـما

قـيـل: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} لأنهم أكثر الأمـم استـجابة للإسلام. ذكر من قال ذلك:

٦١٤٥ـ حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} قال: لـم تكن أمة أكثر استـجابة فـي الإسلام من هذه الأمة، فمن ثم قال: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}.

وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس. ذكر من قال ذلك:

٦١٤٦ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ} قال: قد كان ما تسمع من الـخير فـي هذه الأمة:

٦١٤٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعد عن قتادة قال: كان الـحسن

يقول: نـحن آخرها وأكرمها علـى اللّه .

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية ما قال الـحسن، وذلك أن:

٦١٤٨ـ يعقوب بن إبراهيـم حدثنـي قال: حدثنا ابن علـية، عن بهز بن حكيـم، عن أبـيه، عن جده، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (ألا إنّكُمْ وَفّـيْتُـمْ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُـمْ آخِرُها وأكْرَمُها علـى اللّه ).

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيـم، عن أبـيه، عن جده، أنه سمع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول فـي قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ} قال: (أنْتُـمْ تُتِـمّونَ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُـمْ خَيْرُها وأكْرَمُها علـى اللّه ).

٦١٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذات يوم، وهو مسند ظهره إلـى الكعبة: (نَـحْنُ نُكَمّلُ يَوْمَ القِـيامَةِ سَبْعينَ أُمّةً نَـحْنُ آخرُها وخَيْرُها).

وأما قوله: {تَأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ} فإنه يعنـي: تأمرون بـالإيـمان بـاللّه ورسوله، والعمل بشرائعه، {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَر} يعنـي: وتنهون عن الشرك بـالله، وتكذيب رسوله، وعن العمل بـما نهى عنه. كما:

٦١٥٠ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ}

يقول: تأمرونهم بـالـمعروف أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه ، والإقرار بـما أنزل اللّه ، وتقاتلونهم علـيه، ولا إله إلا اللّه هو أعظم الـمعروف، وتنهونهم عن الـمنكر والـمنكر: هو التكذيب، وهو أنكر الـمنكر.

وأصل الـمعروف: كل ما كان معروفـا ففعله جميـل مستـحسن غير مستقبح فـي أهل الإيـمان بـالله. وإنـما سميت طاعة اللّه معروفـا، لأنه مـما يعرفه أهل الإيـمان ولا يستنكرون فعله. وأصل الـمنكر ما أنكره اللّه ، ورأوه قبـيحا فعله، ولذلك سميت معصية اللّه منكرا، لأن أهل الإيـمان بـاللّه يستنكرون فعلها، ويستعظمون ركوبهاوقوله: {وَتؤْمِنُونَ بـاللّه } يعنـي: تصدّقون بـالله، فتـخـلصون له التوحيد والعبـادة.

فإن سأل سائل فقال: وكيف

قـيـل: {كُنْتُـمْ خَيْرَ أُمّةٍ} وقد زعمت أن تأويـل الاَية أن هذه الأمة خير الأمـم التـي مضت، وإنـما يقال: كنتـم خير أمة، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا علـيه؟

قـيـل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إلـيه، وإنـما معناه: أنتـم خير أمة، كما

قـيـل: {وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُـمْ قَلِـيـلٌ} وقد قال فـي موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُـمْ قَلِـيلاً فَكَثّرَكُمْ} فإدخال (كان) فـي مثل هذا وإسقاطها بـمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه. ولو قال أيضا فـي ذلك قائل: كنتـم بـمعنى التـمام، كان تأويـله: خـلقتـم خير أمة، أو وجدتـم خير أمة، كان معنى صحيحا، وقد زعم بعض أهل العربـية أن معنى ذلك: كنتـم خير أمة عند اللّه فـي اللوح الـمـحفوظ أخرجت للناس، والقولان الأوّلان اللذان قلنا، أشبه بـمعنى الـخبر الذي رويناه قبل.

وقال آخرون معنى ذلك: كنتـم خير أهل طريقة، وقال: الأمة: الطريقة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرا لَهْمُ مِنْهُمُ الـمُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُم الفـاسِقونَ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولو صدّق أهل التوراة والإنـجيـل من الـيهود والنصارى بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاءهم به من عند اللّه ، لكان خيرا لهم عند اللّه فـي عاجل دنـياهم، وآجل آخرتهم. {مِنْهُمُ الـمُؤْمِنُونَ} يعنـي من أهل الكتاب من الـيهود والنصارى، الـمؤمنون الـمصدّقون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـما جاءهم به من عند اللّه ، وهم عبد اللّه بن سلام، وأخوه، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه، وأشبـاههم مـمن آمنوا بـالله، وصدّقوا برسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند اللّه . {وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ} يعنـي: الـخارجون عن دينهم، وذلك أن من دين الـيهود اتبـاع ما فـي التوراة، والتصديق بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ومن دين النصارى اتبـاع ما فـي الإنـجيـل، والتصديق به وبـما فـي التوراة، وفـي كلا الكتابـين صفة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته، ومبعثه، وأنه نبـيّ اللّه ، وكلتا الفرقتـين، أعنـي الـيهود والنصارى مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدّعون أنهم يدينون به الذي قال جل ثناؤه {وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ}

وقال قتادة بـما:

٦١٥١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مِنْهُمُ الـمُؤمِنونَ وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ}: ذمّ اللّه أكثر الناس.

١١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَن يَضُرّوكُمْ إِلاّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدُبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: لن يضركم يا أهل الإيـمان بـاللّه ورسوله، هؤلاء الفـاسقون من أهل الكتاب بكفرهم، وتكذيبهم نبـيكم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم شيئا إلا أذى، يعنـي بذلك ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم فـي عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلـى الضلالة، ولا يضرّونكم بذلك، وهذا من الاستثناء الـمنقطع، الذي هو مخالف معنى ما قبله، كما قـيـل ما اشتكى شيئا إلا خيرا، وهذه كلـمة مـحكية عن العرب سماعا.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦١٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لَنْ يَضُرّوكمْ إلاّ أذًى}

يقول: لن يضرّوكم إلا أذى تسمعونه منهم.

٦١٥٣ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى} قال: أذى تسمعونه منهم.

٦١٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى} قال: إشراكهم فـي عُزَير وعيسى والصلـيب.

٦١٥٥ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {لَنْ يَضُرّوكُمْ إلاّ أذًى}.. الاَية، قال: تسمعون منهم كذبـا علـى اللّه ، يدعونكم إلـى الضلالة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلّوكُمُ الأدْبـارَ ثُمّ لا يُنْصَرُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن يقاتلكم أهل الكتاب من الـيهود والنصارى، يهزموا عنكم، فـيولوكم أدبـارهم انهزاما، فقوله: {يُوَلّوكُمُ الأدْبـارَ} كناية عن انهزامهم، لأن الـمنهزم يحوّل ظهره إلـى جهة الطالب هربـا إلـى ملـجأ، وموئل يئل إلـيه منه، خوفـا علـى نفسه، والطالب فـي أثره، فدبر الـمطلوب حينئذٍ يكون مـحاذي وجه الطالب الهازمة. {ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} يعنـي: ثم لا ينصرهم اللّه أيها الـمؤمنون علـيكم لكفرهم بـاللّه ورسوله، وإيـمانكم بـما آتاكم نبـيكم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، لأن اللّه عزّ وجلّ قد ألقـى الرعب فـي قلوب كائدكم أيها الـمؤمنون بنصركم. وهذا وعد من اللّه تعالـى ذكره نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وأهل الإيـمان نصرهم علـى الكفرة من أهل الكتاب. وإنـما رفع قوله: {ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} وقد جزم قوله: {يُوَلّوكم الأدْبـارَ} علـى جواب الـجزاء ائتنافـا للكلام، لأن رءوس الاَيات قبلها بـالنون، فألـحق هذه بها، قال: {وَلا يُؤذَنُ لَهُمْ فَـيَعْتَذِرُونَ} رفعا، وقد قال فـي موضع آخر: {لا يُقْضَى علَـيْهِمْ فَـيَـمُوتُوا} إذ لـم يكن رأس آية.

١١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ...}

يعنـي بقول جل ثناؤه {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمْ الذّلّةُ} ألزموا الذلة، والذلة: الفعلة من الذلّ، وقد بـينا ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع. {أيْنَـما ثُقِـفُوا} يعنـي: حيثما لقوا.

يقول جلّ ثناؤه: ألزم الـيهود الـمكذّبون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم الذلة أينـما كانوا من الأرض، وبأيّ مكان كانوا من بقاعها من بلاد الـمسلـمين والـمشركين، إلا بحبل من اللّه ، وحبل من الناس كما:

٦١٥٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَاللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الـمَسْكَنَةُ} قال: أدركتهم هذه الأمة، وإن الـمـجوس لتـجبـيهم الـجزية.

٦١٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قل: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: أذلهم اللّه فلا منعة لهم وجعلهم اللّه تـحت أقدام الـمسلـمين.

وأما الـحبل الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع، فإنه السبب الذي يأمنون به علـى أنفسهم من الـمؤمنـين، وعلـى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقـفوا فـي بلاد الإسلام. كما:

٦١٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ بْحَبْلٍ مِنَ اللّه } قال: بعهد، {وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهدهم.

٦١٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ}

يقول: إلا بعهد من اللّه ، وعهد من الناس.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٦١٦٠ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال عكرمة:

يقول: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهد من اللّه ، وعهد من الناس.

٦١٦١ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ}

يقول: إلا بعهد من اللّه ، وعهد من الناس.

٦١٦٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ}

يقول: إلا بعهد من اللّه ، وعهد من الناس.

٦١٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} فهو عهد من اللّه ، وعهد من الناس، كما يقول الرجل: ذمة اللّه ، وذمة رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فهو الـميثاق.

٦١٦٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قال مـجاهد: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بْحَبلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهد من اللّه ، وعهد من الناس لهم. قال ابن جريج وقال عطاء: العهد: حبل اللّه .

٦١٦٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: إلا بعهد وهم يهود، قال: والـحبل: العهد

قال: وذلك قول أبـي الهيثم بن التـيهان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أتته الأنصار فـي العقبة: أيها الرجل إنا قاطعون فـيك حبـالاً بـيننا وبـين الناس،

يقول: عهودا

قال: والـيهود لا يأمنون فـي أرض من أرض اللّه إلا بهذا الـحبل الذي اللّه قال عزّ وجلّ، وقرأ: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ} قال: فلـيس بلد فـيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود فـي شرق ولا غرب هم فـي البلدان كلها مستذلون، قال اللّه : {وَقَطّعناهُمْ فِـي الأرْض أمـما} يهود.

٦١٦٦ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} بقول: بعهد من اللّه ، وعهد من الناس.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله.

واختلف أهل العربـية فـي الـمعنى الذي جلب البـاء فـي قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} فقال بعض نـحويـي الكوفة: الذي جلب البـاء فـي قوله: {بِحَبْلٍ} فعل مضمر قد ترك ذكره

قال: ومعنى الكلام: ضربت علـيهم الذلة أينـما ثقـفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من اللّه ، فأضمر ذلك. واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر:

رأتْنِـي بِحَبْلَـيْها فَصَدّتْ مَخافَةًوفـي الـحَبْل رَوْعاءُ الفُؤاد فَرُوقُ

وقال: أراد: أقْبَلْتُ بحبلـيها. وبقول الاَخر:

حَنَتْنِـي حانِـياتُ الدّهْر حتـىكأنـي خاتِلٌ أحْنُو لِصَيْد

فأوجب إعمال فعل مـحذوف وإظهار صلته وهو متروك، وذلك فـي مذاهب العربـية ضعيف، ومن كلام العرب بعيدوأما ما استشهد به لقوله من الأبـيات، فغير دالّ علـى صحة دعواه، لأن فـي قول الشاعر: (رأتنـي بحبلـيها)، دلالة بـينة فـي أنها رأته بـالـحبل مـمسكا، ففـي إخبـاره عنها أنها رأته بحبلـيها إخبـار منه أنها رأته مـمسكا بـالـحبلـين، فكان فـيـما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الإمساك، وكانت البـاء صلة لقوله: (رأتنـي)، كما فـي قول القائل: أنا بـاللّه مكتف بنفسه، ومعرفة السامع معناه أن تكون البـاء مـحتاجة إلـى كلام يكون لها جالبـا غير الذي ظهر، وأن الـمعنى أنا بـاللّه مستعين.

وقال بعض نـحويـي البصرة: قوله: {إلاّ بَحَبْلٍ مِنَ اللّه } استثناء خارج من أوّل الكلام، قال: ولـيس ذلك بأشدّ من قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِـيها لَغْوا إلاّ سَلاما}.

وقال آخرون من نـحويـي الكوف: هو استثناء متصل. والـمعنى: ضربت علـيهم الذلة أينـما ثقـفوا: أي بكلّ مكان، إلا بـموضع حبل من اللّه ، كما تقول: ضربت علـيهم الذلة فـي الأمكنة إلا فـي هذا الـمكان، وهذا أيضا طلب الـحقّ، فأخطأ الـمفصل، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلاً كما زعم لوجب أن يكون القوم إذا ثقـفوا بحبل من اللّه وحبل من الناس غير مضروبة علـيهم الـمسكنة، ولـيس ذلك صفة الـيهود لأنهم أينـما ثقـفوا بحبل من اللّه وحبل من الناس، أو بغير حبل من اللّه عزّ وجلّ، وغير حبل من الناس، فـالذلة مضروبة علـيهم علـى ما ذكرنا عن أهل التأويـل قبل. فلو كان قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاس} استثناء متصلاً لوجب أن يكون القوم إذا ثقـفوا بعهد وذمة، أن لا تكون الذلة مضروبة علـيهم. وذلك خلاف ما وصفهم اللّه به من صفتهم، وخلاف ما هم به من الصفة، فقد تبـين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا. ولكن القول عندنا أن البـاء فـي قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه } أدخـلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض فـي الـمعنى البـاء، وذلك أن معنى قولهم: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةَ أيْنَـما ثُقِـفُوا}: ضربت علـيهم الذلة بكل مكان ثقـفوا، ثم قال: {إلاّ بَحْبلٍ مِنَ اللّه وَحبْلٍ مِنَ النّاسِ} علـى غير وجه الاتصال بـالأول، ولكنه علـى الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقـفون بحبل من اللّه وحبل من الناس، كما

قـيـل: {وَما كانَ لـمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً} فـالـخطأ وإن كان منصوبـا بـما عمل فـيـما قبل الاستنثاء، فلـيس قوله بـاستثناء متصل بـالأوّل بـمعنى إلا خطأ، فإن له قتله كذلك، ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ، فكذلك قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه } وإن كان الذي جلب البـاء التـي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا، فلـيس الاستثناء بـالاستثناء الـمتصل بـالذي قبله بـمعنى أن القوم إذا لقوا، فـالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكلّ حال، ولكن معناه ما بـينا آنفـا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ...}.

يعنـي تعالـى ذكره: {وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه }: وتـحملوا غضب اللّه ، فـانصرفوا به مستـحقـيه. وقد بـينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى الـمسكنة، وأنها ذلّ الفـاقة والفقر وخشوعهما، ومعنى الغضب من اللّه فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وقوله: {ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه } يعنـي جل ثناؤه بقوله ذلك: أي بَؤؤُهم الذي بـاءوا به من غضب اللّه ، وضرب الذلة علـيهم، بدل مـما كانوا يكفرون بآيات اللّه ،

يقول: مـما كانوا يجحدون أعلام اللّه وأدلته علـى صدق أنبـيائه، وما فرض علـيهم من فرائضه. {وَيَقْتُلُونَ الأنْبِـياءَ بِغَيْرِ حَقّ}

يقول: وبـما كانوا يقتلون أنبـياءهم ورسل اللّه إلـيهم، اعتداء علـى اللّه ، وجراءة علـيه بـالبـاطل، وبغير حقّ استـحقوا منهم القتل.

فتأويـل الكلام: ألزموا الذلة بأيّ مكان لقوا، إلا بذمة من اللّه وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من اللّه متـحملـيه، وألزموا ذلّ الفـاقة، وخشوع الفقر، بدلاً مـما كانوا يجحدون بآيات اللّه ، وأدلته وحججه، ويقتلون أنبـياءه بغير حقّ ظلـما واعتداء.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}.

يقول تعالـى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبـياء، ومعصيتهم ربهم، واعتدائهم أمر ربهم. وقد بـينا معنى الاعتداء فـي غير موضع فـيـما مضى من كتابنا بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. فأعلـم ربنا جل ثناؤه عبـاده، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والـخزي بهم فـي عاجل الدنـيا، مع ما ادّخر لهم فـي الاَجل من العقوبة والنكال، وألـيـم العذاب، إذ تعدّوا حدود اللّه ، واستـحلوا مـحارمه، تذكيرا منه تعالـى ذكره لهم، وتنبـيها علـى موضع البلاء الذي من قبله أتوا لـينـيبوا ويذّكروا، وعظة منه لأمتنا، أن لا يستنوا بسنتهم، ويركبوا منهاجهم، فـيسلك بهم مسالكهم، ويحلّ بهم من نقم اللّه ومثلاته ما أحلّ بهم. كما:

٦١٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ذَلِكَ بِـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ} اجتنبوا الـمعصية والعدوان، فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس

١١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّه آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {لَـيْسُوا سَوَاءً} لـيس فريقا أهل الكتاب، أهل الإيـمان منهم والكفر سواء، يعنـي بذلك: أنهم غير متساوين،

يقول: لـيسوا متعادلـين، ولكنهم متفـاوتون فـي الصلاح والفساد والـخير والشرّ. وإنـما

قـيـل: لـيسوا سواء، لأن فـيه ذكر الفريقـين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما اللّه فـي قوله: {وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرَا لَهُمْ مِنْهُمُ الـمُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفـاسِقُونَ} ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقـين عنده، الـمؤمنة منهما والكافرة،

فقال: {لَـيْسُوا سَوَاء}: أي لـيس هؤلاء سواء، الـمؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الـخبر جل ثناؤه عن صفة الفرقة الـمؤمنة من أهل الكتاب ومدحهم، وأثنى علـيهم بعد ما وصف الفرقة الفـاسقة منهم بـما وصفها به من الهلع ونَـخْب الـجَنان، ومـحالفة الذلّ والصغار، وملازمة الفـاقة والـمسكنة، وتـحمل خزي الدنـيا وفضيحة الاَخرة،

فقال: {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.. الاَيات الثلاث، إلـى قوله: {واللّه عَلِـيـمٌ بـالـمُتّقِـينَ} فقوله: (أمة قائمة) مرفوعة بقوله: (من أهل الكتاب).

وقد توهم جماعة من نـحويـي الكوفة والبصرة والـمقدّمين منهم فـي صناعتهم، أن ما بعد سواء فـي هذا الـموضع من قوله: {أُمّةٌ قائمَةٌ} ترجمة عن سواء، وتفسير عنه بـمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات اللّه آناء اللـيـل، وأخرى كافرة، وزعموا أن ذكر الفرقة الأخرى ترك اكتفـاء بذكر إحدى الفرقتـين، وهي الأمة القائمة، ومثّلوه بقول أبـي ذؤيب:

عَصَيْتُ إلَـيْها القَلْبَ إنـي لأمْرِهاسَمِيعٌ فَما أدْرِي أرُشْدٌ طِلابُها

ولـم يقل: (أم غير رشد) اكتفـاء بقوله: (أرشد) من ذكر (أم غير رشد). وبقول الاَخر:

أزَالُ فلا أدْري أهَمّ هَمَـمْتَهُوذو الهَمّ قِدْما خاشِعٌ مُتَضَائِلُ

وهو مع ذلك عندهم خطأ قول القائل الـمريد أن

يقول: سواء أقمت أم قعدت، سواء أقمت حتـى يقول أم قعدت، وإنـما يجيزون حذف الثانـي فـيـما كان من الكلام مكتفـيا بواحد دون ما كان ناقصا عن ذلك، وذلك نـحو ما أبـالـي أو ما أدري، فأجازوا فـي ذلك ما أبـالـي أقمت، وهم يريدون: ما أبـالـي أقمت أم قعدت، لاكتفـاء ما أبـالـي بواحد، وكذلك فـي ما أدري، وأبوا الإجازة فـي سواء من أجل نقصانه، وأنه غير مكتف بواحد، فأغفلوا فـي توجيههم قوله: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ} علـى ما حكينا عنهم إلـى ما وجهوه إلـيه مذاهبهم فـي العربـية، إذ أجازوا فـيه من الـحذف ما هو غير جائز عندهم فـي الكلام مع سواء، وأخطئوا تأويـل الاَية، فسواء فـي هذا الـموضع بـمعنى التـمام والاكتفـاء، لا بـالـمعنى الذي تأوله من حكينا قوله. وقد ذكر أن قوله: {مِنْ أهْل الكِتاب أُمّةٌ قائمَةٌ}.. الاَيات الثلاث، نزلت فـي جماعة من الـيهود أسلـموا، فحسن إسلامهم. ذكر من قال ذلك:

٦١٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن مـحمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: لـما أسلـم عبد اللّه بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبـيد، ومن أسلـم من يهود معهم، فآمنوا وصدّقوا ورغبوا فـي الإسلام ومنـحوا فـيه، قالت: أحبـار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بـمـحمد ولا تبعه إلا أشرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبـائهم، وذهبوا إلـى غيره، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْل الكتاب أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّه } إلـى قوله: {وأُولَئِكَ مِنَ الصّالِـحينَ}.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، بنـحوه.

٦١٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {لَـيْسُوا سَواءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}.. الاَية،

يقول: لـيس كل القوم هلك، قد كان لله فـيهم بقـية.

٦١٧٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: {أُمّةٌ قائمَةٌ}: عبد اللّه بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية ومبشر، وأسيد وأسد ابنا كعب.

وقال آخرون: معنى ذلك: لـيس أهل الكتاب وأمة مـحمد القائمة بحقّ اللّه سواء عند اللّه . ذكر من قال ذلك:

٦١٧١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن الـحسن بن يزيد العجلـي، عن عبد اللّه بن مسعود أنه كان يقول فـي قوله: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِن أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ} قال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

٦١٧٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}.. الاَية،

يقول: لـيس هؤلاء الـيهود كمثل هذه الأمة التـي هي قائمة.

وقد بـينا أن أولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك قول من قال: قد تـمت القصة عند قوله: {لَـيْسُوا سَوَاءً} عن إخبـار اللّه بأمر مؤمنـي أهل الكتاب، وأهل الكفر منهم، وأن قوله: {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}. خبر مبتدأ عن مدح مؤمنـيهم، ووصفهم بصفتهم، علـى ما قاله ابن عبـاس وقتادة وابن جريج. ويعنـي جل ثناؤه بقوله: {أُمّةٌ قائمَةٌ}: جماعة ثابتة علـى الـحقّ. وقد دللنا علـى معنى الأمة فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.

وأما القائمة، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معناها: العادلة. ذكر من قال ذلك:

٦١٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {أُمَة قائمَةٌ} قال: عادلة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة علـى كتاب اللّه وما أمر به فـيه. ذكر من قال ذلك:

٦١٧٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {أَمّةٌ قائمَةٌ}

يقول: قائمة علـى كتاب اللّه وفرائضه وحدوده.

٦١٧٥ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {أُمّةٌ قائِمَةٌ}

يقول: قائمة علـى كتاب اللّه وحدوده وفرائضه.

٦١٧٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ}

يقول: أمة مهتدية قائمة علـى أمر اللّه ، لـم ننزع عنه وتتركه كما تركه الاَخرون وضيعوه.

وقال آخرون: بل معنى قائمة: مطيعة. ذكر من قال ذلك:

٦١٧٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {أُمّةٌ قائمَةٌ} الاَية،

يقول: لـيس هؤلاء الـيهود، كمثل هذه الأمة التـي هي قانتة لله والقانتة: الـمطيعة.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك ما قاله ابن عبـاس وقتادة، ومن قال بقولهما علـى ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقال الأخر متقاربة الـمعنى من معنى ما قاله ابن عبـاس وقتادة فـي ذلك. وذلك أن معنى قوله: {قائمةٌ} مستقـيـمة علـى الهدى، وكتاب اللّه وفرائضه، وشرائع دينه، بـالعدل والطاعة، وغير ذلك من أسبـاب الـخير من صفة أهل الاستقامة علـى كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ونظير ذلك الـخبر الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (مَثَلُ القائِمِ علـى حُدُودِ اللّه وَالوَاقِعِ فِـيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِـينَةً، ثُمّ ضَرَبَ لهُمْ مَثَلاً) فـالقائمُ علـى حُدُودِ اللّه هُوَ الثّابِت عَلـى التّـمَسّكِ بِـما أمَرَهُ اللّه بهِ وَاجْتِنابِ ما نَهاهُ اللّه عَنْهُ.

فتأويـل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب اللّه ، متـمسكة به، ثابتة علـى العمل بـما فـيه، وما سنّ له رسوله صلى اللّه عليه وسلم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.

يعنـي بقوله: {يَتْلُونَ آياتِ اللّه }: يقرءون كتاب اللّه آناء اللـيـل، ويعنـي بقوله: {آياتِ اللّه }: ما أنزل فـي كتابه من العبر والـمواعظ،

يقول: يتلون ذلك آناء اللـيـل،

يقول: فـي ساعات اللـيـل، فـيتدبرونه ويتفكرون فـيهوأما {آناءَ اللّـيْـلِ}: فساعات اللـيـل، واحدها: إِنْـيٌ، كما قال الشاعر:

حُلوٌ ومُرّ كعْطفِ القِدْحِ مِرّتَهُفـي كُلّ إنْـيٍ قَضَاهُ اللّـيْـلُ يَنْتَعِلُ

وقد قـيـل إن واحد الاَناء: إِنى مقصور، كما واحد الأمعاء: مِعًى.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: تأويـله: ساعات اللـيـل، كما قلنا. ذكر من قال ذلك:

٦١٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللّـيْـلِ}: أي ساعات اللـيـل.

٦١٧٩ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: {آناءَ اللّـيْـلِ}: ساعات اللـيـل.

٦١٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال عبد اللّه بن كثـير: سمعنا العرب تقول: {آناءَ اللّـيْـلِ}: ساعات اللـيـل.

وقال آخرون {آناءَ اللّـيْـلِ}: جوف اللـيـل. ذكر من قال ذلك:

٦١٨١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللّـيْـلِ} أما آناء اللـيـل: فجوف اللـيـل.

وقال آخرون: بل عنـي بذلك قوم كانوا يصلون العشاء الأخيرة. ذكر من قال ذلك:

٦١٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن الـحسن بن يزيد العجلـي، عن عبد اللّه بن مسعود فـي قوله: {يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللّـيْـلِ}: صلاة العتـمة، هم يصلونها، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلـيها.

٦١٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي يحيـى بن أيوب، عن عبـيد اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات لـيـلة كان عند بعض أهله ونسائه، فلـم يأتنا لصلاة العشاء حتـى ذهب لـيـلٌ، فجاء ومنا الـمصلـي ومنا الـمضطجع، فبشرنا وقال: (إنه لا يُصَلّـي هذه الصّلاة أحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ)، فأنزل اللّه : {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّه اناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.

٦١٨٤ـ حدثنـي يونس، قال: ثنا، علـيّ بن معبد، عن أبـي يحيـى الـخراسانـي، عن نصر بن طريف، عن عاصم، عن زر بن حبـيش، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: خرج علـينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونـحن ننتظر العشاء ـ يريد العتـمة ـ فقال لنا: (ما علـى الأرْضِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأدْيَانِ يَنْتَظِرُ هذه الصّلاةَ فـي هذا الوَقْتِ غَيْرُكُمْ) قال: فنزلت: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناءَ اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}.

وقال آخرون: بل عنـي بذلك قوم كانوا يصلون فـيـما بـين الـمغرب والعشاء. ذكر من قال ذلك:

٦١٨٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، قال: بلغنـي أنها نزلت: {لَـيْسُوا سَوَاءً مِنْ أهْلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّه آناء اللّـيْـلِ وَهُمْ يَسْجُدونَ} فـيـما بـين الـمغرب والعشاء.

وهذه الأقوال التـي ذكرتها علـى اختلافها متقاربة الـمعانـي، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره، وصف هؤلاء القوم، بأنهم يتلون آيات اللّه فـي ساعات اللـيـل، وهي آناؤه، وقد يكون تالـيها فـي صلاة العشاء تالـيا لها آناء اللـيـل، وكذلك من تلاها فـيـما بـين الـمغرب والعشاء، ومن تلاها جوف اللـيـل، فكلّ تال له ساعات اللـيـل.

غير أن أولـى الأقوال بتأويـل الاَية، قول من قال: عنـي بذلك: تلاوة القرآن فـي صلاة العشاء، لأنها صلاة لا يصلـيها أحد من أهل الكتاب، فوصف اللّه أمة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بـاللّه ورسوله.

وأما قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} فإن بعض أهل العربـية زعم أن معنى السجود فـي هذا الـموضع اسم الصلاة لا السجود، لأن التلاوة لا تكون فـي السجود ولا فـي الركوع، فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات اللّه آناء اللـيـل وهم يصلون، ولـيس الـمعنى علـى ما ذهب إلـيه، وإنـما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات اللّه آناء اللـيـل فـي صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فـيها، فـالسجود هو السجود الـمعروف فـي الصلاة.

١١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ...}

يعنـي بقوله جل وعزّ: {يُؤْمِنُونَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ}: يصدّقون بـالله، وبـالبعث بعد الـمـمات، ويعلـمون أن اللّه مـجازيهم بأعمالهم¹ ولـيسوا كالـمشركين الذين يجحدون وحدانـية اللّه ، ويعبدون معه غيره، ويكذّبون بـالبعث بعد الـمـمات، وينكرون الـمـجازاة علـى الأعمال والثواب والعقابوقوله: {وَيأْمُرُونَ بـالـمَعْرُوفِ}

يقول: يأمرون الناس بـالإيـمان بـاللّه ورسوله، وتصديق مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاءهم به. {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنْكَرِ}

يقول: وينهون الناس عن الكفر بـالله، وتكذيب مـحمد، وما جارهم به من عند اللّه : يعنـي بذلك: أنهم لـيسوا كالـيهود والنصارى، الذي يأمرون الناس بـالكفر، وتكذيب مـحمد فـيـما جارهم به، وينهونهم عن الـمعروف من الأعمال، وهو تصديق مـحمد فـيـما أتاهم به من عند اللّه : {وَيسارِعونَ فِـي الـخَيْراتِ}

يقول: ويبتدرون فعل الـخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم. ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب هم من عداد الصالـحين، لأن من كان منهم فـاسقا قد بـاء بغضب من اللّه ، لكفره بـاللّه وآياته، وقتلهم الأنبـياء بغير حقّ، وعصيانه ربه، واعتدائه فـي حدوده.

١١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} جميعا، ردّا علـى صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بـالـمعروف وينهون عن الـمنكر. وقرأته عامة قراء الـمدينة والـحجاز وبعض قراء الكوفة بـالتاء فـي الـحرفـين جميعا: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفُرُوهُ} بـمعنى: وما تفعلوا أنتـم أيها الـمؤمنون من خير فلن يكفركموه ربكم. وكان بعض قراء البصرة يرى القراءتـين فـي ذلك جائزا بـالـياء والتاء فـي الـحرفـين.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} بـالـياء فـي الـحرفـين كلـيهما، يعنـي بذلك الـخبر عن الأمة القائمة، التالـية آيات اللّه . وإنـما اخترنا ذلك، لأن ما قبل هذه الاَية من الاَيات خبر عنهم، فإلـحاق هذه الاَية إذ كان لا دلالة فـيها تدلّ علـى الانصراف عن صفتهم بـمعانـي الاَيات قبلها أولـى من صرفها عن معانـي ما قبلها. وبـالذي اخترنا من القراءة كان ابن عبـاس يقرأ.

٦١٨٦ـ حدثنـي أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن أبـي عمرو بن العلاء، قال: بلغنـي عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها جميعا بـالـياء.

فتأويـل الاَية إذًا علـى ما اخترنا من القراءة: وما تفعل هذه الأمة من خير، وتعمل من عمل لله فـيه رضا فلن يكفرهم اللّه ذلك¹ يعنـي بذلك: فلن يبطل اللّه ثواب عملهم ذلك، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم علـيه، ولكنه يجزل لهم الثواب علـيه، ويُسنـي لهم الكرامة والـجزاء.

وقد دللنا علـى معنى الكفر مضى قبل بشواهده، وأن أصله تغطية الشيء، فكذلك ذلك فـي قوله: {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}: فلن يغطي علـى ما فعلوا من خير، فـيتركوا بغير مـجازاة، ولكنهم يشكرون علـى ما فعلوا من ذلك، فـيجزل لهم الثواب فـيه.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك من التأويـل تأوّل ذلك من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦١٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَرُوهُ)

يقول: لن يضلّ عنكم.

٦١٨٨ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بـمثله.

وأما قوله: {وَاللّه عَلـيـمٌ بـالـمُتّقِـينَ} فإنه

يقول تعالـى ذكره: واللّه ذو علـم بـمن اتقاه بطاعته، واجتناب معاصيه، وحافظ أعمالهم الصالـحة حتـى يثـيبهم علـيها، ويجازيهم بها. تبشيرا منه لهم جلّ ذكره فـي عاجل الدنـيا، وحضّا لهم علـى التـمسك بـالذي هم علـيه من صالـح الأخلاق التـي ارتضاها لهم.

١١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ ...}

وهذا وعيد من اللّه عزّ وجلّ للأمة الأخرى الفـاسقة من أهل الكتاب، الذين أخبر عنهم بأنهم فـاسقون وأنهم قد بـاءوا بغضب منه، ولـمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بـاللّه ورسوله، وما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من عندالله.

يقول تعالـى ذكره: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا} يعنـي الذين جحدوا نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وكذبوا به، وبـما جاءهم به من عند اللّه ¹ {لَنْ تُغْنِى عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئا} يعنـي: لن تدفع أمواله التـي جمعها فـي الدنـيا وأولاده الذين ربـاهم فـيها شيئا من عقوبة اللّه يوم القـيامة إن أخرها لهم إلـى يوم القـيامة، ولا فـي الدنـيا إن عجلها لهم فـيها. وإنـما خصّ أولاده وأمواله، لأن أولاد الرجل أقرب أنسبـائه إلـيه، وهو علـى ماله أقرب منه علـى مال غيره، وأمره فـيه أجوز من أمره فـي مال غيره، فإذا لـم يغن عنه ولده لصلبه وماله الذي هو نافذ الأمر فـيه، فغير ذلك من أقربـائه وسائر أنسبـائه وأموالهم أبعد من أن تغنـي عنه من اللّه شيئا. ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله: {وأُولَئِكَ أصحَابُ النّارِ}¹ وإنـما جعلهم أصحابها، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفـارقونها، كصاحب الرجل الذي لا يفـارقه وقرينه الذي لا يزايـله. ثم وكد ذلك بإخبـاره عنهم أنهم فـيها خالدون، صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها، إذْ كان من الأشياء ما يفـارق صاحبه فـي بعض الأحوال ويزايـله فـي بعض الأوقات، ولـيس كذلك صحبة الذين كفروا النار التـي أصلوها، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع، نعوذ بـاللّه منها ومـما قرّب منها من قول وعمل.

١١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هِـَذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: شبه ما ينفق الذين كفروا: أي شبه ما يتصدق به الكافر من ماله، فـيعطيه من يعطيه علـى وجه القربة إلـى ربه، وهو لوحدانـية اللّه جاحد ولـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم مكذّب فـي أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمـحلّ عند حاجته إلـيه ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه علـيه، كشبه ريح فـيها برد شديد {أصَابَتْ} هذه الريح التـي فـيها البرد الشديد {حَرْثَ قَوْمٍ} يعنـي زرع قوم، قد أمّلوا إدراكه، ورجوا ريعه وعائدة نفعه، {ظَلَـمُوا أَنْفُسُهُمْ} يعنـي أصحاب الزرع، عصوا اللّه ، وتعدّوا حدوده {فَـأَهْلَكَتْهُ} يعنـي فأهلكت الريح التـي فـيها الصرّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا علـيه من الأمل، ورجاء عائدة نفعه علـيهم.

يقول تعالـى ذكره: فكذلك فعل اللّه بنفقة الكافر وصدقته فـي حياته حين يـلقاه يبطل ثوابها، ويخيب رجاءه منها. وخرج الـمثل للنفقة، والـمراد بـالـمثل: صنـيع اللّه بـالنفقة، فبـين ذلك قوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِـيها صُرّ} فهو كما قد بـينا فـي مثله من قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا} وما أشبه ذلك.

فتأويـل الكلام: مثل إبطال اللّه أجر ما ينفقون فـي هذه الـحياة الدنـيا، كمثل ريح صرّ. وإنـما جاز ترك ذكر إبطال اللّه أجر ذلك لدلالة آخر الكلام علـيه، وهوقوله: {كَمَثَلِ ريحٍ فِـيها صِرٌ} ولـمعرفة السامع ذلك معناه.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى النفقة التـي ذكرها فـي هذه الاَية،

فقال بعضهم: هي النفقة الـمعروفة فـي الناس. ذكر من قال ذلك:

٦١٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِـي هَذِهِ الـحَياةِ الدّنْـيا} قال: نفقة الكافر فـي الدنـيا.

وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه مـما لا يصدّقه بقلبه. ذكر من قال ذلك:

٦١٩٠ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: ثنـي أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِـي هَذِهِ الـحَياةِ الدّنـيْا كَمَثَلِ رِيحٍ فِـيها صِرّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَـمُوا أَنْفُسَهُمْ فأهْلَكَتْهُ}

يقول: مثل ما يقول فلا يقبل منه كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالـمون، فأصابه ريح فـيها صرّ أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم.

وقد بـينا أولـى ذلك بـالصواب قبل. وقد تقدم بـياننا تأويـل الـحياة الدنـيا بـما فـيه الكفـاية من إعادته فـي هذا الـموضعوأما الصرّ، فإنه شدة البرد، وذلك بُعُصوف من الشمال فـي إعصار الطّلّ والأنداء فـي صبـيحة معتـمة بعقب لـيـلة مصحية. كما:

٦١٩١ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، قال: سمعت عكرمة

يقول: {رِيحٍ فِـيها صِرّ} قال: برد شديد.

٦١٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج،

قال ابن عبـاس : {رِيحٍ فِـيها صِرّ} قال: برد شديد وزمهرير.

٦١٩٣ـ حدثنا علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ. عن ابن عبـاس ، قوله: {رِيحٍ فِـيها صِرّ}

يقول: برد.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن هارون بن عنترة، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : الصرّ: البرد.

٦١٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {كَمَثلِ رِيحٍ فِـيها صِرّ}: أي برد شديد.

٦١٩٥ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

٦١٩٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي الصرّ: البرد الشديد.

حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {كَمَثَلِ رِيحٍ فِـيها صِرّ}

يقول: ريح فـيها برد.

٦١٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {رِيحٍ فِـيها صِرّ} قال: صر بـاردة أهلكت حرثهم

قال: والعرب تدعوها الضّريب: تأتـي الريح بـاردة فتصبح ضريبـا قد أحرق الزرع، تقول: (قد ضُرب اللـيـلة) أصابه ضريب تلك الصرّ التـي أصابته.

٦١٩٨ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك : {رِيحٌ فِـيها صِرّ} قال: ريح فـيها برد.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وما فعل اللّه بهؤلاء الكفـار ما فعل بهم، من إحبـاطه ثواب أعمالهم، وإبطاله أجورها ظلـما منه لهم، يعنـي: وضعا منه لـما فعل بهم من ذلك فـي غير موضعه وعند غير أهله، بل وضع فعله ذلك فـي موضعه، وفعل بهم ما هم أهله، لأن عملهم الذي عملوه لـم يكن لله، وهم له بـالوحدانـية دائنون ولأمره متبعون، ولرسله مصدّقون. بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولأمره مخالفون، ولرسله مكذّبون، بعد تقدّم منه إلـيهم أنه لا يقبل عملاً من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والإقرار بنبوّة أنبـيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الـحجج بذلك علـيهم. فلـم يكن بفعله ما فعل بـمن كفر به وخالف أمره فـي ذلك بعد الإعذار إلـيه من إحبـاط وافر عمله له ظالـما، بل الكافر هو الظالـم نفسه لإكسابها من معصية اللّه وخلاف أمره ما أوردها به نار جهنـم وأصلاها به سعير سقر.

١١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ ...}

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا بـما جاءهم به نبـيهم من عند ربهم، {لا تَتّـخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}

يقول: لا تتـخذوا أولـياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم،

يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعنـي من غير الـمؤمنـين. وإنـما جعل البطانة مثلاً لـخـلـيـل الرجل فشبهه بـما ولـي بطنه من ثـيابه لـحلوله منه فـي اطلاعه علـى أسراره، وما يطويه عن أبـاعده وكثـير من أقاربه، مـحلّ ما ولـي جسده من ثـيابه، فنهى اللّه الـمؤمنـين به أن يتـخذوا من الكفـار به أخلاء وأصفـياء ثم عرّفهم ما هم علـيه لهم منطوون من الغشّ والـخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّتهم، فقال تعالـى ذكره: {لا يَألُونَكُم خَبـالاّ} يعنـي لا يستطيعُونَكُمْ شرّا، من أَلَوْتُ آلُو ألُوّا، يقال: ما ألا فلان كذا، أي ما استطاع، كما قال الشاعر:

جَهْراءُ لا تأْلُو إذا هِيَ أظْهَرَتْبَصَرا وَلا مِنْ عَيْـلَةٍ تُغْنِـينـي

يعنـي لا تستطيع عند الظهر إبصارا.

وإنـما يعنـي جلّ ذكره بقوله: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبـالاً} البطانة التـي نهى الـمؤمنـين عن اتـخاذها من دونهم،

فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبـالاً: أي لا تدع جهدها فـيـما أورثكم الـخبـال. وأصل الـخبـال والـخبـال: الفساد، ثم يستعمل فـي معان كثـيرة، يدلّ علـى ذلك الـخبر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ أُصِيبَ بَخْبلٍ ـ أو جِرَاحٍ).

وأما قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فإنه يعنـي: ودّوا عنتكم،

يقول: يتـمنون لكم العنت والشرّ فـي دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم. وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من الـمسلـمين كانوا يخالطون حلفـاءهم من الـيهود وأهل النفـاق منهم، ويصافونهم الـمودة بـالأسبـاب التـي كانت بـينهم فـي جاهلـيتهم قبل الإسلام، فنهاهم اللّه عن ذلك وأن يستنصحوهم فـي شيء من أمورهم. ذكر من قال ذلك:

٦١٩٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: قال مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: كان رجال من الـمسلـمين يواصلون رجالاً من الـيهود لـما كان بـينهم من الـجوار والـحلف فـي الـجاهلـية، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيهم، فنهاهم عن مبـاطنتهم تـخوّف الفتنة علـيهم منهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} إلـى قوله: {وَتُؤمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّه}.

٦٢٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خبَـالاً} فـي الـمنافقـين من أهل الـمدينة، نهى اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يتولوهم.

٦٢٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَألُونَكُمْ خَبـالاً وَدّوا ما عَنِتـمْ} نهى اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يستدخـلوا الـمنافقـين أو يؤاخوهم، أي يتولوهم من دون الـمؤمنـين.

٦٢٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} هم الـمنافقون.

٦٢٠٣ـ حدثت عن عمار

قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُم لا يأْلونَكُمْ خَبـالاً}

يقول: لا تستدخـلوا الـمنافقـين، تتولوهم دون الـمؤمنـين.

٦٢٠٤ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَسْتَضِيئُوا بِنارِ أهْلِ الشّرْكِ، وَلا تَنْقُشُوا فِـي خَوَاتِـيـمِكُمْ عَرَبِـيّا) قال: فلـم ندر ما ذلك حتـى أتوا الـحسن فسألوه،

فقال: نعم، أما قوله: (لا تَنْقُشُوا فـي خَوَاتِـيـمِكُمْ عَرَبـيّا)، فإنه

يقول: لا تنقشوا فـي خواتـيـمكم (مـحمد)¹ وأما قوله: (ولا تَسْتَـيضِئُوا بَنارِ أهْل الشّرْكِ)، فإنه يعنـي به الـمشركين،

يقول: لا تستشيروهم فـي شيء من أموركم

قال: قال الـحسن: وتصديق ذلك فـي كتاب اللّه ، ثم تلا هذه الاَية: {يا أيها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.

٦٢٠٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أما البطانة: فهم الـمنافقون.

٦٢٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.. الاَية، قال: لا يستدخـل الـمؤمن الـمنافق دون أخيه.

٦٢٠٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.. الاَية، قال: هؤلاء الـمنافقون، وقرأ قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}.. الاَية.

واختلفوا فـي تأويـل قوله {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فقال بعضهم معناه: ودّوا ما ضللتـم عن دينكم. ذكر من قال ذلك:

٦٢٠٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ}

يقول: ما ضللتـم.

وقال آخرون بـما:

٦٢٠٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} يقول فـي دينكم، يعنـي: أنهم يودّون أن تعنتوا فـي دينكم.

فإن قال لنا قائل: وكيف

قـيـل: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فجاء بـالـخبر عن البطانة بلفظ الـماضي فـي مـحل الـحال والقطع بعد تـمام الـخبر، والـحالات التـي لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال الـمستقبلة دون الـماضية منها؟

قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننت من أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمّ} حال من البطانة، وإنـما هو خبر عنهم ثان، منقطع عن الأوّل غير متصل به. وإنـما تأويـل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتـخذوا بطانة صفتهم كذا صفتهم كذا. فـالـخبر عن الصفة الثانـية غير متصل بـالصفة الأولـى، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد.

وقد زعم بعض أهل العربـية أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله: {لا يَألُونَكُمْ خَبـالاً} فلا وجه لصلة أخرى بعد تـمام البطانة بصلته، ولكن القول فـي ذلك كما بـينا قبل من أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} خبر مبتدأ عن البطانة غير الـخبر الأوّل، وغير حال من البطانة ولا قطع منها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها الـمؤمنون أن تتـخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم، يعنـي بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم علـى كفرهم، وعدواتهم من خالف ما هم علـيه مقـيـمون من الضلالة، فذلك من أوكد الأسبـاب من معاداتهم أهل الإيـمان، لأن ذلك عداوة علـى الدين، والعداوة علـى الدين، العداوة التـي لا زوال لها إلا بـانتقال أحد الـمتعاديـين إلـى ملة الاَخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند الـمنتقل إلـيها ضلالة قبل ذلك، فكان فـي إبدائهم ذلك للـمؤمنـين ومقامهم علـيه أبـين الدلالة لأهل الإيـمان علـى ما هم علـيه من البغضاء والعداوة.

وقد قال بعضهم: معنى قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيـمان إلـى أولـيائهم من الـمنافقـين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا علـى ذلك.

وزعم قائلو هذه الـمقالة أن الذين عنوا بهذه الاَية: أهل النفـاق، دون من كان مصرّحا بـالكفر من الـيهود وأهل الشرك. ذكر من قال ذلك.

٦٢١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}

يقول: قد بدت البغضاء من أفواه الـمنافقـين إلـى إخوانهم من الكفـار، من غِشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم.

٦٢١١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}

يقول: من أفواه الـمنافقـين.

وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره إنـما نهى الـمؤمنـين أن يتـخذوا بطانة مـمن قد عرفوه بـالغشّ للإسلام وأهله، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة علـى أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الـموصوفـين بذلك العداوة والشنآن والـمناصبة لهم. فأما من لـم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم اللّه عزّ وجلّ عن مخالته ومبـاطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفـات قد عرفوهم بها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان إبداء الـمنافقـين بألسنتهم ما فـي قلوبهم من بغضاء الـمؤمنـين إلـى إخوانهم من الكفـار، غير مدرك به الـمؤمنون معرفة ما هم علـيه لهم مع إظهارهم الإيـمان بألسنتهم لهم والتودّد إلـيهم، كان بـينا أن الذي نهى اللّه الـمؤمنون عن اتـخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم علـى ما وصفهم اللّه عزّ وجلّ به، فعرفهم الـمؤمنون بـالصفة التـي نعتهم اللّه بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالـى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فـيها خالدون مـمن كان له ذمة وعهد من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب، لأنهم لو كانوا الـمنافقـين لكان الأمر فـيهم علـى ما قد بـينا، ولو كانوا الكفـار مـمن قد ناصب الـمؤمنـين الـحرب، لـم يكن الـمؤمنون متـخذيهم لأنفسهم بطانة من دون الـمؤمنـين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بـين أظهر الـمؤمنـين من أهل الكتاب أيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مـمن كان له من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد وعقد من يهود بنـي إسرائيـل. والبغضاء: مصدر، وقد ذكر أنها فـي قراءة عبد اللّه بن مسعود: (قد بدا البغضاء من أفواههم)، علـى وجه التذكير، وإنـما جاز ذلك بـالتذكير ولفظه لفظ الـمؤنث، لأن الـمصادر تأنـيثها لـيس بـالتأنـيث اللازم، فـيجوز تذكير ما خرج منها علـى لفظ الـمؤنث وتأنـيثه، كما قال عزّ وجلّ: {وأخَذَ الّذِينَ ظَلَـمُوا الصّيْحَةُ} وكما قال: {فقدْ جاءَكُمْ بَـيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ} وفـي موضع آخر: {وأخَذَتِ الّذِينَ ظَلَـمُوا الصّيْحَةُ} {وَجاءَتْكُمْ بَـيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ}

وقال: {مِنْ أفْوَاهِهِمْ} وإنـما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن الـمعنـيّ به الكلام الذي ظهر للـمؤمنـين منهم من أفواههم،

فقال: قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ}.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذي تـخفـي صدورهم، يعنـي صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتـخاذهم بطانة فتـخفـيه عنكم أيها الـمؤمنون أكبر،

يقول: أكبر مـما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما:

٦٢١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ}

يقول: وما تـخفـي صدورهم أكبر مـما قد أبدوا بألسنتهم.

٦٢١٣ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ}

يقول: ما تكنّ صدورهم أكبر مـما قد أبدوا بألسنتهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ بَـيّنَا لَكُمُ الاَياتِ إنْ كُنْتُـمْ تَعْقِلُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قد بـينا لكم أيها الـمؤمنون الاَيات، يعنـي بـالاَيات: العبر، قد بـينا لكم من أمر هؤلاء الـيهود الذين نهيناكم أن تتـخذوهم بطانة من دون الـمؤمنـين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم، {إنْ كُنْتُـمْ تَعْقِلُونَ} يعنـي: إن كنتـم تعقلون عن اللّه مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته علـيكم.

١١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَآأَنْتُمْ أُوْلآءِ تُحِبّونَهُمْ وَلاَ يُحِبّونَكُمْ ... }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ها أنتـم أيها الـمؤمنون الذين تـحبونهم،

يقول: تـحبون هؤلاء الكفـار الذين نهيتكم عن اتـخاذهم بطانة من دون الـمؤمنـين، فتودّونهم وتواصلونهم، وهم لا يحبونكم، بل ينتظرون لكم العداوة والغش، وتؤمنون بـالكتاب كله. ومعنى الكتاب فـي هذا الـموضع، معنى الـجمع، كما يقال: أكثر الدرهم فـي أيدي الناس، بـمعنى الدراهم، فكذلك قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ}، إنـما معناه: بـالكتب كلها كتابكم الذي أنزل اللّه إلـيكم، وكتابهم الذي أنزله إلـيهم، وغير ذلك من الكتب التـي أنزلها اللّه علـى عبـاده.

يقول تعالـى ذكره: فأنتـم إذ كنتـم أيها الـمؤمنون تؤمنون بـالكتب كلها، وتعلـمون أن الذين نهيتكم عن أن تتـخذوهم بطانة من دونكم، كفـار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود اللّه إلـيهم، وتبديـلهم ما فـيه من أمر اللّه ونهيه، أولـى بعداوتكم إياهم، وبغضائهم وغشهم منهم بعداوتكم وبغضائكم مع جحودهم بعض الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:

٦٢١٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : {وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ}: أي بكتابكم وكتابهم، وبـما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتـم أحقّ بـالبغضاء لهم منهم لكم.

وقال: {ها أنْتُـمْ أُولاءِ} ولـم يقل: (هؤلاء أنتـم)، ففرّق بـين (ها) و(أولاء) بكناية اسم الـمخاطبـين، لأن العرب كذلك تفعل فـي هذا إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلـى تـمام الـخبر، وذلك مثل أن يقال لبعضهم: أين أنت؟ فـيجيب الـمقول ذلك له: ها أنا ذا، فـيفرّق بـين التنبـيه و(ذا) بـمكْنّـي اسم نفسه، ولا يكادون يقولون: هذا أنا، ثم يثنى ويجمع علـى ذلك، وربـما أعادوا حرف التنبـيه مع ذا،

فقالوا: ها أنا هذا ولا يفعلون ذلك إلا فـيـما كان تقريبـا، فأما إذا كان علـى غير التقريب والنقصان،

قالوا: هذا هو، وهذا أنت، وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة، يقولون: هذا عمرو قائما، إن كان هذا تقريبـا. وإنـما فعلوا ذلك فـي الـمكنـي مع التقريب تفرقة بـين هذا إذا كان بـمعنى الناقص الذي يحتاج إلـى تـمام، وبـينه وبـين ما إذا كان بـمعنى الاسم الصحيحوقوله: {تُـحِبّوَنَهمْ} خبر للتقريب.

وفـي هذه الاَية إبـانة من اللّه عزّ وجلّ عن حال الفريقـين، أعنـي الـمؤمنـين والكافرين، ورحمة أهل الإيـمان ورأفتهم بأهل الـخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم علـى أهل الإيـمان. كما:

٦٢١٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ها أنْتُـمْ أُولاءِ تُـحِبّوَنَهُمْ وَلا يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّهِ} فواللّه إن الـمؤمن لـيحبّ الـمنافق ويأوي له ويرحمه، ولو أن الـمنافق يقدر علـى ما يقدر علـيه الـمؤمن منه لأبـاد خضراءه.

٦٢١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: الـمؤمن خير للـمنافق من الـمنافق للـمؤمن يرحمه، ولو يقدر الـمنافق من الـمؤمن علـى مثل ما يقدر الـمؤمن علـيه منه لأبـاد خضراءه.

وكان مـجاهد

يقول: نزلت هذه الاَية فـي الـمنافقـين.

٦٢١٧ـ حدثنـي بذلك مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنِ الغَيْظِ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: إن هؤلاء الذين نهى اللّه الـمؤمنـين أن يتـخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم إذا لقوا الـمؤمنـين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أعطوهم بألسنتهم تقـية، حذرا علـى أنفسهم منهم، فقالوا لهم: قد آمنا وصدّقنا بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وإذا هم خـلوا فصاروا فـي خلاء حيث لا يراهم الـمؤمنون، عضوا علـى ما يرون من ائتلاف الـمؤمنـين، واجتـماع كلـمتهم، وصلاح ذات بـينهم، {أنامِلَهُمْ} وهي أطراف أصابعهم، تغيظا مـما بهم من الـموجدة علـيهم، وأَسًى علـى ظهر يسندون إلـيه لـمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم الـمـحاربة. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٢١٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}: إذا لقوا الـمؤمنـين قالوا آمنا لـيس بهم إلا مخافة علـى دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك. {وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ}

يقول: مـما يجدون فـي قلوبهم من الغيظ والكراهة لـما هم علـيه لو يجدون ريحا لكانوا علـى الـمؤمنـين، فهم كما نعت اللّه عزّ وجلّ.

٦٢١٩ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بـمثله، إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم علـيه، ولـم يقل: لو يجدون ريحا وما بعده.

٦٢٢٠ـ حدثنا عبـاس بن مـحمد، قال: حدثنا مسلـم، قال: ثنـي يحيـى بن عمرو بن مالك البكري، قال: حدثنا أبـي، قال: كان أبو الـجوزاء إذا تلا هذه الاَية: {وَإذَا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظ} قال: هم الإبـاضية.

والأنامل: جمع أَنْـمُلَة، ويقال أُنْـمُلَة، وربـما جمعت أَنْـمُلاً، قال الشاعر:

أوَدّكُمَا ما بَلّ حَلْقِـيَ رِيقَتِـيوَما حَمَلَتْ كَفّـايَ أَنْـمُلِـيَ العَشْرَا

وهي أطراف الأصابع¹ كما:

٦٢٢١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، الأنامل: أطراف الأصابع.

٦٢٢٢ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بـمثله.

٦٢٢٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَإذَا خَـلَوْا عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ}: الأصابع.

٦٢٢٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن أبـي الأحوص، عن عبد اللّه ، قوله: {عَضّوا عَلَـيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ} قال: عضوا علـى أصابعهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنّ اللّه عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد لهؤلاء الـيهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك، قالوا آمنا، وإذا خـلوا عضوا علـيكم الأنامل من الغيظ: موتوا بغيظكم الذي بكم علـى الـمؤمنـين، لاجتـماع كلـمتهم، وائتلاف جماعتهم.

وخرج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من اللّه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم بأن يدعو علـيهم بأن يهلكهم اللّه كمدا مـما بهم من الغيظ علـى الـمؤمنـين، قبل أن يروا فـيهم ما يتـمنون لهم من العنت فـي دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد، اهلكوا بغيظكم، إن اللّه علـيـم بذات الصدور، يعنـي بذلك: إن اللّه ذو علـم بـالذي فـي صدور هؤلاء الذين إذا لقوا الـمؤمنـين،

قالوا: آمنا، وما ينطوون لهم علـيه من الغلّ والغمّ، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبـما فـي صدور جميع خـلقه، حافظ علـى جميعهم ما هو علـيه منطو من خير وشرّ، حتـى يجازي جميعهم علـى ما قدّم من خير وشرّ، واعتقد من إيـمان وكفر، وانطوى علـيه لرسوله وللـمؤمنـين من نصيحة أو غِلّ وغِمْر.

١٢٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ...}

يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} إنْ تَنالُوا أيها الـمؤمنون سرورا بظهوركم علـى عدوّكم، وتتابع الناس فـي الدخول فـي دينكم، وتصديق نبـيكم، ومعاونتكم علـى أعدائكم، يسؤهم. وإن تنلكم مساءة بإخفـاق سرية لكم، أو بإصابة عدوّ لكم منكم، أو اختلاف يكون بـين جماعتكم يفرحوا بها. كما:

٦٢٢٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها}، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا علـى عدوّهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافـا أو أصيب طرف من أطراف الـمسلـمين سرّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به، فهم كلـما خرج منهم قرن أكذب اللّه أحدوثته وأوطأ مـحلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء اللّه فـيـمن مضى منهم وفـيـمن بقـي إلـى يوم القـيامة.

٦٢٢٦ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها} قال: هم الـمنافقون إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا علـى عدوّهم، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافـا، أو أصيب طرف من أطراف الـمسلـمين، سرّهم ذلك وأعجبوا به¹ قال اللّه عزّ وجلّ: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا إنّ اللّه بِـمَا يَعْمَلُونَ مُـحِيطٌ}.

٦٢٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنْ تَـمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} قال: إذا رأوا من الـمؤمنـين جماعة وألفة ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافـا فرحوا.

وأما قوله: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} فإنه يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن تصبروا أيها الـمؤمنون علـى طاعة اللّه ، واتبـاع أمره فـيـما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه، من اتـخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء الـيهود الذين وصف اللّه صفتهم من دون الـمؤمنـين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم، وتتقوا ربكم، فتـخافوا التقدم بـين يديه فـيـما ألزمكم، وأوجب علـيكم من حقه وحقّ رسوله، لا يضرّكم كيدهم شيئا: أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم. ويعنـي بكيدهم: غوائلهم التـي يبتغونها للـمسلـمين ومكرهم بهم لـيصدّوهم عن الهدى وسبـيـل الـحقّ.

واختلف القراء فـي قراءة قوله: {لا يَضُرّكُمْ} فقرأ ذلك جماعة من أهل الـحجاز وبعض البصريـين: (لا يَضِرْكُمْ) مخففة بكسر الضاد من قول القائل: ضارنـي فلان فهو يضيرنـي ضَيْرا، وقد حكي سماعا من العرب: ما ينفعنـي ولا يضورنـي. فلو كانت قرئت علـى هذه اللغة لقـيـل: لا يضركم كيدهم شيئا، ولكنـي لا أعلـم أحدا قرأ به، وقرأ ذلك جماعة من أهل الـمدينة وعامة قراء أهل الكوفة: {لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} بضم الضاد وتشديد الراء من قول القائل: ضرّنـي فلان فهو يضرّنـي ضرّا.

وأما الرفع فـي قوله: {لا يَضُرّكُمْ} فمن وجهين: أحدهما علـى إتبـاع الراء فـي حركتها، إذ كان الأصل فـيها الـجزم، ولـم يـمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الـحروف التـي قبلها، وذلك حركة الضاد، وهي الضمة، فألـحقت بها حركة الراء لقربها منها، كما

قالوا: مُدّ يا هذا. والوجه الاَخر من وجهي الرفع فـي ذلك: أن تكون مرفوعة علـى صحة، وتكون (لا) بـمعنى (لـيس)، وتكون الفـاء التـي هي جواب الـجزاء متروكة لعلـم السامع بـموضعها. وإذا كان ذلك معناه، كان تأويـل الكلام: وإن تصبروا وتتقوا فلـيس يضرّكم كيدهم شيئا، ثم تركت الفـاء من قوله: {لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ} ووجهت (لا) إلـى معنى (لـيس)، كما قال الشاعر:

فإنْ كانَ لا يُرْضِيكَ حتـى تَرُدّنِـيإلـى قَطَرِيّ لا إخالُكَ رَاضِيا

ولو كانت الراء مـحركة إلـى النصب والـخفض كان جائزا، كما

قـيـل: مُدّ يا هذا، ومُدّ.

وقوله: {إنّ اللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ مُـحِيطٌ} يقول جل ثناؤه: إن اللّه بـما يعمل هؤلاء الكفـار فـي عبـاده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبـيـله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي اللّه ، مـحيط بجميعه، حافظ له لا يعزب عنه شيء منه، حتـى يوفـيهم جزاءهم علـى ذلك كله ويذيقهم عقوبته علـيه.

١٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَإذْ غَدَوتَ مِن أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤمِنِـينَ}: وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم أيها الـمؤمنون كيد هؤلاء الكفـار من الـيهود شيئا، ولكن اللّه ينصركم علـيهم إن صبرتـم علـى طاعتـي، واتبـاع أمر رسولـي، كما نصرتكم ببدر وأنتـم أذلة. وإن أنتـم خالفتـم أيها الـمؤمنون أمري، ولـم تصبروا علـى ما كلفتكم من فرائضي، ولـم تتقوا ما نهيتكم عنه، وخالفتـم أمري، وأمر رسولـي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد، واذكروا ذلك الـيوم إذ غدا نبـيكم يبوّىء الـمؤمنـين¹ فترك ذكر الـخبر عن أمر القوم إن لـم يصبروا علـى أمر ربهم ولـم يتقوه اكتفـاء بدلالة ما ظهر من الكلام علـى معناه، إذ ذكر ما هو فـاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم، إن صبروا علـى أمره، واتقوا مـحارمه، وتعقـيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحد، إذ خالف بعضهم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وتنازعوا الرأي بـينهم. وأخرج الـخطاب فـي قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ} علـى وجه الـخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والـمراد بـمعناه الذين نهاهم أن يتـخذ الكفـار من الـيهود بطانة من دون الـمؤمنـين، فقد بـيّن إذا أن قوله: (وإذ) إنـما جرّها فـي معنى الكلام علـى ما قد بـينت وأوضحت.

وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـيوم الذي عنى اللّه عزّ وجلّ بقوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ}

فقال بعضهم: عَنَى بذلك يَوْمَ أحد. ذكر من قال ذلك:

٦٢٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} قال: مشى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يومئذٍ علـى رجلـيه يبوّىء الـمؤمنـين.

٦٢٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهِلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} ذلك يوم أحد، غدا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهله إلـى أحد يبوىء الـمؤمنـين مقاعد للقتال.

٦٢٣٠ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} فغدا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم من أهله إلـى أحد يبوّىء الـمؤمنـين مقاعد للقتال.

٦٢٣١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنَ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} فهو يوم أحد.

٦٢٣٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ} قال: هنا يوم أحد.

٦٢٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: مـما نزل فـي يوم أحد: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمؤْمِنِـينَ}.

وقال آخرون: عَنَى بذلك يوم الأحزاب. ذكر من قال ذلك:

٦٢٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ} قال: يعنـي مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم غدا يبوّىء الـمؤمنـين مقاعد للقتال يوم الأحزاب.

وأولـى هذين القولـين بـالصواب، قول من قال: عنى بذلك: يوم أحد¹ لأن اللّه عزّ وجلّ يقول فـي الاَية التـي بعدها: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنكُمْ أنْ تَفْشَلا} ولا خلاف بـين أهل التأويـل أنه عنى بـالطائفتـين بنو سلـمة وبنو حارثة. ولا خلاف بـين أَهل السير والـمعرفة بـمغازي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أن الذي ذكر اللّه من أمرهما إنـما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب.

فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنـما راح إلـى أحد من أهله للقتال يوم الـجمعة بعد ما صلـى الـجمعة فـي أهله بـالـمدينة بـالناس، كالذي:

٦٢٣٥ـ حدثكم ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن عبـيد اللّه بن شهاب الزهري ومـحمد بن يحيـى بن حبـان، وعاصم بن عمر بن قتادة والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راح حين صلـى الـجمعة إلـى أحد، دخـل فلبس لأمَتَهُ، وذلك يوم الـجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات فـي ذلك الـيوم رجل من الأنصار، فصلـى علـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم خرج علـيهم وقال: (ما يَنْبَغِي لنبـيّ إذا لَبَسَ لأْمَتَهُ أنْ يَضَعَها حتـى يُقاتِلَ)؟.

قـيـل: إن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحا فلـم يكن تبوئته للـمؤمنـين مقاعدهم للقتال عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه¹ وذلك أن الـمشركين نزلوا منزلهم من أحد فـيـما بلغنا يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك الـيوم ويوم الـخميس ويوم الـجمعة، حتـى راح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـيهم يوم الـجمعة بعد ما صلـى بأصحابه الـجمعة، فأصبح بـالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال.

٦٢٣٦ـ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم الزهري، ومـحمد بن يحيـى بن حبـان، وعاصم بن عمر بن قتادة والـحصين بن عبد الرحمن وغيرهم.

فإن قال: وكيف كانت تبوئته الـمؤمنـين مقاعد للقتال غدوّا قبل خروجه، وقد علـمت أن التبوئة اتـخاذ الـموضع؟

قـيـل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضته عدوّه عند مشورته علـى أصحابه بـالرأي الذي رآه لهم بـيوم أو يومين. وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما سمع بنزول الـمشركين من قريش وأتبـاعها أُحُدا، قال فـيـما:

٦٢٣٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ لأصحابه: (أشِيرُوا عَلـيّ ما أصْنَع؟)

فقالوا: يا رسول اللّه اخرج إلـى هذه الأكلب. فقالت الأنصار: يا رسول اللّه ما غلبنا عدوّ لنا أتانا فـي ديارنا، فكيف وأنت فـينا؟ فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول، ولـم يدعه قط قبلها، فـاستشاره فقال: يا رسول اللّه اخرج بنا إلـى هذه الأكلب. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعجبه أن يدخـلوا علـيه الـمدينة، فـيقاتَلوا فـي الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاريّ،

فقال: يا رسول اللّه ، لا تـحرمنـي الـجنة، فوالذي بعثك بـالـحقّ لأدخـلنّ الـجنة! فقال له: (بـم؟) قال: بأنـي أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك رسول اللّه ، وأنـي لا أفرّ من الزحف

قال: (صَدَقْتَ؟) فقتل يومئذٍ. ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلـما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا، و

قالوا: بئسما صنعنا، نشير علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والوحي يأتـيه! فقاموا واعتذروا إلـيه، و

قالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يَنْبَغِي لِنَبِـيّ أنْ يَـلْبَسَ لأُمَتَهُ فَـيَضَعَها حتـى يُقاتِلَ).

٦٢٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي ابن شهاب الزهري ومـحمد بن يحيـى بن حبـان وعاصم بن عمر بن قتادة، والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علـمائنا

قالوا: لـما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمسلـمون بـالـمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّـي قَدْ رأيْتُ بَقَرا فأوّلْتُها خَيْرا، ورأيْتُ فِـي ذُبـابِ سَيْفِـي ثَلْـما، ورأيْتُ أنّـي أدْخَـلْتُ يَدِي فِـي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فأوّلْتُها الـمَدِينَةَ فإنْ رأيْتُـمْ أنْ تُقـيـمُوا بـالـمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرّ مُقامٍ، وَإنْ هُمْ دَخَـلُوا عَلَـيْنا قاتَلْناهُمْ فِـيها). وكان رأي عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول مع رأي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يرى رأي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك أن لا يخرج إلـيهم. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكره الـخروج من الـمدينة، فقال رجال من الـمسلـمين مـمن أكرم اللّه بـالشهادة يوم أحد وغيرهم مـمن كان فـاته بدر وحضروه: يا رسول اللّه ، اخرج بنا إلـى أعدائنا لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا! فقال عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول: يا رسول اللّه أقم بـالـمدينة لا تـخرج إلـيهم، فواللّه ما خرجنا منها إلـى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخـلها علـينا قط إلا أصبنا منه! فدعهم يا رسول اللّه ، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مـحبس، وإن دخـلوا قاتلهم الرجال فـي وجوههم، ورماهم النساء والصبـيان بـالـحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبـين كما جاءوا. فلـم يزل الناس برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتـى دخـل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلبس لأمته.

فكانت تبوئة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الـمؤمنـين مقاعد للقتال، ما ذكرنا من مشورته علـى أصحابه بـالرأي الذي ذكرنا علـى ما وصفه الذين حكينا قولهم¹ يقال منه: بوّأت القوم منزلاً وبوّأته لهم فأنا أبوّئهم الـمنزل تبوئة، وأبوىء لهم منزلاً تبوئة. وقد ذكر أن فـي قراءة عبد اللّه بن مسعود: (وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الْـمُؤْمِنِـينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ) وذلك جائز، كما يقال: رَدِفَكَ وَردِفَ لك، ونقدت لها صداقها ونقدتها، كما قال الشاعر:

أسْتَغْفِرُ اللّه ذَنْبـا لَسْتُ مُـحْصِيَهُرَبّ العِبـادِ إلـيهِ الوَجْهِ وَالعَمَلُ

والكلام: أستغفر اللّه لذنب. وقد حكي عن العرب سماعا: أبأت القوم منزلاً فأنا أبـيئهم إبـاءة، ويقال منه: أبأت الإبل: إذا رددتها إلـى الـمبـاءة، والـمبـاءة: الـمراح الذي تبـيت فـيه، والـمقاعد: جمع مقعد وهو الـمـجلس. فتأويـل الكلام: واذكر إذ غدوت يا مـحمد من أهلك تتـخذ للـمؤمنـين معسكرا وموضعا لقتال عدوّهموقوله: {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ} يعنـي بذلك تعالـى ذكره: واللّه سميع لـما يقول الـمؤمنون لك، فـيـما شاورتهم فـيه من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم من قول من قال: اخرج بنا إلـيهم حتـى نلقاهم خارج الـمدينة، وقول من قال لك: لا تـخرج إلـيهم وأقم بـالـمدينة حتـى يدخـلوها علـينا، علـى ما قد بـينا قبل، ومـما تشير به علـيهم أنت يا مـحمد. علـيـم بأصلـح تلك الاَراء لك ولهم، وبـما تـخفـيه صدور الـمشيرين علـيك بـالـخروج إلـى عدوّك، وصدور الـمشيرين علـيك بـالـمقام فـي الـمدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم. كما:

٦٢٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـي قوله: {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِـيـمٌ}: أي سميع لـما يقولون، علـيـم بـما يخفون.

١٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ هَمّتْ طّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّه وَلِيّهُمَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: واللّه سميع علـيـم حين همّت طائفتان منكم أن تفشلا. والطائفتان اللتان همتا بـالفشل ذكر لنا أنهم بنو سَلِـمة وبنو حارثة. ذكر من قال ذلك:

٦٢٤٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا} قال: بَنو حارثة كانوا نـحو أحد، وبنو سلـمة نـحو سلع، وذلك يوم الـخندق.

قال أبو جعفر: وقد دللنا علـى أن ذلك كان يوم أحد فـيـما مضى بـما فـيه الكفـاية عن إعادته.

٦٢٤١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا}.. الاَية، وذلك يوم أحد، والطائفتان: بنو سلـمة، وبنو حارثة، حيان من الأنصار، همّوا بأمر، فعصمهم اللّه من ذلك. قال قتادة: وقد ذكر لنا أنه لـما أنزلت هذه الاَية

قالوا: ما يسرّنا أنا لـم نهم بـالذي همـمنا به، وقد أخبرنا اللّه أنه ولـينا.

٦٢٤٢ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ}.. الاَية، وذلك يوم أحد، فـالطائفتان: بنو سلـمة، وبنو حارثة، حيان من الأنصار، فذكر مثل قول قتادة.

٦٢٤٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى أحد فـي ألف رجل، وقد وعدهم الفتـح إن صبروا¹ فلـما رجع عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول فـي ثلثمائة، فتبعهم أبو جابر السلـمي يدعوهم، فلـما غلبوه وقالوا له: ما نعمل قتالاً، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا، وقال: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا} وهم بنو سلـمة، وبنو حارثة، هموا بـالرجوع حين رجع عبد اللّه بن أبـيّ، فعصمهم اللّه ، وبقـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي سبعمائة.

٦٢٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرة: نزلت فـي بنـي سلـمة من الـخزرج، وبنى حارثة من الأوس، ورأسهم عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول.

٦٢٤٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا} فهو بنو حارثة وبنو سلـمة.

٦٢٤٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشلا} والطائفتان: بنو سلـمة من جشم بن الـخزرج، وبنو حارثة بن النبـيت من الأوس، وهما الـجناحان.

٦٢٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشَلا}.. الاَية، قال: هما طائفتان من الأنصار همّا أن يفشلا، فعصمهم اللّه ، وهزم عدوّهم.

٦٢٤٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه

يقول: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ منكم أنْ تَفْشلاَ} قال: هم بنو سلـمة، وبنو حارثة وما نـحبّ أن لو لـم تكن همتا لقول اللّه عزّ وجلّ: {وَاللّه وَلِـيّهُما}.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن عمرو، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول، فذكر نـحوه.

٦٢٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أنْ تَفْشلا} قال: هذا يوم أحد.

وأما قوله {أنْ تَفْشَلا} فإنه يعنـي: همّا أن يضعفـا ويجبنا عن لقاء عدوّهما، يقال منه: فشل فلان عن لقاء عدوّه يفشل فشلاً. كما:

٦٢٥٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : الفشل: الـجبن.

وكان همهما الذي همّا به من الفشل: الانصراف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمؤمنـين حين انصرف عنهم عبد اللّه بن أبـيّ بن سلول ابن معه، جبنا منهم، من غير شكّ منهم فـي الإسلام ولا نفـاق¹ فعصمهم اللّه مـما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول والـمنافقـين معه، فأثنى اللّه عزّ وجلّ علـيهما بثبوتهما علـى الـحقّ، وأخبر أنه ولـيهما وناصرهما علـى أعدائهما من الكفـار. كما:

٦٢٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه وَلِـيّهُما}: أي الدافع عنهما ما هما به من فشلهما، وذلك أنه إنـما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما من غير شكّ أصابهما فـي دينهما، فتولـى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته، حتـى سلـمتا من وهنهما وضعفهما، ولـحقتا بنبـيهما صلى اللّه عليه وسلم¹

يقول: {وَعَلـى اللّه فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ} أي من كان به ضعف من الـمؤمنـين أو وهن فلـيتوكل علـيّ، ولـيستعن بـي، أعنه علـى أمره، وأدفع عنه، حتـى أبلغ به وأقوّيه علـى نـيته.

وذكر أن ابن مسعود رضي اللّه عنه كان يقرأ: (وَاللّه وَلِـيّهُمْ). وإنـما جاز أن يقرأ ذلك كذلك، لأن الطائفتـين وإن كانتا فـي لفظ اثنـين، فإنهما فـي معنى جماع بـمنزلة الـخصمين والـحزبـين.

١٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُواْ اللّه لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإن تصبروا وتتقوا، لا يضرّكم كيدهم شيئا، وينصركم ربكم، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بَبدْرٍ} علـى أعدائكم {وأَنْتُـمْ} يومئذٍ {أذِلّةٌ} يعنـي قلـيـلون، فـي غير منعة من الناس، حتـى أظهركم اللّه علـى عدوّكم مع كثرة عددهم، وقلة عددكم، وأنتـم الـيوم أكثر عددا منكم حينئذٍ، فإن تصبروا لأمر اللّه ينصركم كما نصركم ذلك الـيوم {فـاتّقُوا اللّه }

يقول تعالـى ذكره: فـاتقوا ربكم بطاعته واجتناب مـحارمه {لَعلّكُمْ تَشْكُرُونَ}

يقول: لتشكروه علـى ما منّ به علـيكم من النصر علـى أعدائكم، وإظهار دينكم، ولـما هداكم له من الـحقّ الذي ضلّ عنه مخالفوكم. كما:

٦٢٥٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ولَقَدْ نَصَركُمْ اللّه بِبَدْرٍ وأنْتُـمْ أذِلّةٌ}

يقول: وأنتـم أقلّ عددا، وأضعف قوّة. {فـاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي فـاتقون، فإنه شكر نعمتـي.

واختلف فـي الـمعنى الذي من أجله سمي بدر بدرا،

فقال بعضهم: سمي بذلك لأنه كان ماء لرجل يسمى بدرا، فسمي بـاسم صاحبه. ذكر من قال ذلك:

٦٢٥٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن زكريا، عن الشعبـي، قال: كانت بدر لرجل يقال له بدر، فسميت به.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبـي أنه قال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ} قال: كانت بدر بئرا لرجل يقال له بدر، فسميت به.

وأنكر ذلك آخرون و

قالوا: ذلك اسم سميت به البقعة كما سمي سائر البلدان بأسمائها ذكر من قال ذلك:

٦٢٥٤ـ حدثنا الـحرث بن مـحمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا مـحمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا منصور، عن أبـي الأسود، عن زكريا، عن الشعبـي، قال: إنـما سمي بدرا لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له بدر

وقال الـحرث: قال ابن سعد: قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد اللّه بن جعفر ومـحمد بن صالـح، فأنكراه، وقالا: فلأيّ شيء سميت الصفراء؟ ولأيّ شيء سميت الـحمراء؟ ولأيّ شيء سمي رابغ؟ هذا لـيس بشيء، إنـما هو اسم الـموضع

قال: وذكرت ذلك لـيحيـى بن النعمان الغفـاري،

فقال: سمعت شيوخنا من بنـي غفـار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة إنـما هي بلاد غفـار. قال الواقدي: فهذا الـمعروف عندنا.

٦٢٥٥ـ حُدثت عن الـحسن بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك

يقول: بدر ماء عن يـمين طريق مكة بـين مكة والـمدينة.

وأما قوله: {أذِلّةٌ} فإنه جمع ذلـيـل، كما الأعزّة جمع عزيز، والألبّة جمع لبـيب. وإنـما سماهم اللّه عزّ وجلّ أذلة لقلة عددهم، لأنهم كانوا ثلثمائة نفس وبضعة عشر، وعدوّهم ما بـين التسعمائة إلـى الألف، علـى ما قد بـينا فـيـما مضى، فجعلهم لقلة عددهم أذلة.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٢٥٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وأنْتُـمْ أذِلّةٌ فـاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} وبدر: ماء بـين مكة والـمدينة، التقـى علـيه نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم والـمشركون، وكان أوّل قتال قاتله نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذٍ: (أنْتُـمْ الـيَوْمَ بعدّةِ أصحَابِ طالُوتَ يَوْمَ لَقِـيَ جالُوتَ): فكانُوا ثَلَثَمِائةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، وَالـمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ ألْفٌ أوْ رَاهَقُوا ذَلِكَ.

٦٢٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وأنْتُـمْ أذِلّةٌ فـاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال:

يقول: وأنتـم أذلة قلـيـل، وهم يومئذٍ بضعة عشر وثلثمائة.

٦٢٥٨ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، نـحو قول قتادة.

٦٢٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وأنْتُـمْ أذِلّةٌ} أقلّ عددا وأضعف قوّة.

وأما قوله: {فـاتّقُوا اللّه لَعَلّكُم تَشْكُرُونَ} فإن تأويـله كالذي قد بـينت كما:

٦٢٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فَـاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي فـاتقونـي، فإنه شكر نعمي.

١٢٤

انظر تفسير الآية: ١٢٥

١٢٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ...}

يعنـي تعالـى ذكره: {وَلَقَدْ نَصَركُمُ اللّه بِبَدْرٍ وأنْتُـمْ أذِلّةٌ} إذ تقول للـمؤمنـين بك من أصحابك: {ألَنْ يَكْفِـيكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُنْزلِـينَ}؟ وذلك يوم بدر.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي حضور الـملائكة يوم بدر حربهم، فـي أيّ يوم وعدوا ذلك؟

فقال بعضهم: إن اللّه عزّ وجلّ كان وعد الـمؤمنـين يوم بدر أن يـمدّهم بـملائكته إن أتاهم العدوّ من فورهم، فلـم يأتوهم، ولـم يـمدّوا. ذكر من قال ذلك:

٦٢٦١ـ حدثنـي حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، عن عامر، قال: حدث الـمسلـمون أن كرز بن جابر الـمـحاربـي يـمدّ الـمشركين، قال: فشقّ ذلك علـى الـمسلـمين، فقـيـل لهم: {ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُنْزَلِـينَ بَلـى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُـمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائكَةِ مُسَوّمِينَ} قال: فبلغت كرزا الهزيـمة فرجع، ولـم يـمدّهم بـالـخمسة.

حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عامر، قال: لـما كان يوم بدر، بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه قال: {وَيأتْوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}: يعنـي كرزا وأصحابه، {يُـمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} قال: فبلغ كرزا وأصحابه الهزيـمة، فلـم يـمدّهم، ولـم تنزل الـخمسة، وأمدّوا بعد ذلك بألف، فهم أربعة آلاف من الـملائكة مع الـمسلـمين.

٦٢٦٢ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {إذْ تَقُولُ للْـمُؤْمِنِـينَ ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ}.. الاَية كلها، قال: هذا يوم بدر.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن داود، عن الشعبـي، قال: حدث الـمسلـمون أن كرز بن جابر الـمـحاربـي يريد أن يـمدّ الـمشركين ببدر، قال: فشقّ ذلك علـى الـمسلـمين، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمدّكُمْ رَبّكُمْ}.. إلـى قوله: {مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} قال: فبلغته هزيـمة الـمشركين فلـم يـمدّ أصحابه، ولـم يـمدّوا بـالـخمسة.

وقال آخرون: كان هذا الوعد من اللّه لهم يوم بدر، فصبر الـمؤمنون واتقوا اللّه ، فأمدّهم بـملائكته علـى ما وعدهم. ذكر من قال ذلك:

٦٢٦٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي عبد اللّه بن أبـي بكر، عن بعض بنـي ساعدة، قال: سمعت أبـا أسيد مالك بن ربـيعة بعد ما أصيب بصره

يقول: لو كنت معكم ببدر الاَن ومعي بصري لأخبرتكم بـالشّعْب الذي خرجت منه الـملائكة، لا أشك ولا أتـمارى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق، وثنى عبد اللّه بن أبـي بكر، عن بعض بنـي ساعدة، عن أبـي أسيد مالك بن ربـيعة، وكان شهد بدرا أنه قال بعد إذ ذهب بصره: لو كنت معكم الـيوم ببدر، ومعي بصري، لأريتكم الشّعْبَ الذي خرجت منه الـملائكة لا أشك ولا أتـمارى.

٦٢٦٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي عبد اللّه بن أبـي بكر أنه حدث عن ابن عبـاس ، أن ابن عبـاس ، قال: ثنـي رجل من بنـي غفـار، قال: أقبلت أنا وابن عمّ لـي حتـى أصعدنا فـي جبل يشرف بنا علـى بدر، ونـحن مشركان ننتظر الوقعة علـى من تكون الدّبْرة، فنتهب مع من ينتهب

قال: فبـينا نـحن فـي الـجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فـيها حمـحمة الـخيـل، فسمعت قائلاً

يقول: أقْدِمْ حيزوم! قال: فأما ابن عمي فـانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم تـماسكت.

٦٢٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: وثنى الـحسين بن عمارة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن مقسم، مولـى عبد اللّه بن الـحرث، عن عبد اللّه بن عبـاس، قال: لـم تقاتل الـملائكة فـي يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فـيـما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.

٦٢٦٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال مـحمد بن إسحاق، حدثنـي أبـي إسحاق بن يسار، عن رجال من بنـي مازن بن النـجار، عن أبـي داود الـمازنـي، وكان شهد بدرا، قال: إنـي لأتبع رجلاً من الـمشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إلـيه سيفـي، فعرفت ن قد قتله غيري.

٦٢٦٧ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال مـحمد: ثنـي حسين بن عبد اللّه بن عبـيد اللّه بن عبـاس، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، قال: قال أبو رافع مولـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: كنت غلاما للعبـاس بن عبد الـمطلب، وكان الإسلام قد دخـلنا أهل البـيت، فأسلـم العبـاس، وأسلـمت أمّ الفضل وأسلـمت، وكان العبـاس يهاب قومه، ويكره أن يخالفهم، وكان يكتـم إسلامه، وكان ذا مال كثـير متفرّق فـي قومه. وكان أبو لهب عدوّ اللّه قد تـخـلف عن بدر، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن الـمغيرة، وكذلك صنعوا لـم يتـخـلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً. فلـما جاء الـخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته اللّه وأخزاه، ووجدنا فـي أنفسنا قوّة وعونة، قال: وكنت رجلاً ضعيفـا، وكنت أعمل القداح أنـحتها فـي حجرة زمزم. فواللّه إنـي لـجالس فـيها أنـحت القداح، وعندي أمّ الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاءنا من الـخبر، إذ أقبل الفـاسق أبو لهب يجرّ رجلـيه بشرّ، حتـى جلس علـى طُنُب الـحجرة، فكان ظهره إلـى ظهري، فبـينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفـيان بن الـحرث بن عبد الـمطلب، قد قدم

قال: قال أبو لهب: هلـم إلـيّ يا ابن أخي، فعندك الـخبر! قال: فجلس إلـيه، والناس قـيام علـيه،

فقال: يا ابن أخي أخبرنـي كيف كان أمر الناس! قال لا شيء واللّه إن كان إلا أن لقـيناهم، فمنـحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وايـم اللّه مع ذلك ما لـمت الناس، لقـينا رجالاً بـيضا علـى خيـل بلق ما بـين السماء والأرض ما يـلـيق لها شيء، ولا يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فرفعت طنب الـحجرة بـيدي ثم قلت: تلك الـملائكة.

٦٢٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد، قال: ثنـي الـحسن بن عمارة، عن الـحكم بن عتـيبة، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: كان الذي أسر العبـاس أبـا الـيسر كعب بن عمرو أخا بنـي سَلِـمة، وكان أبو الـيسر رجلاً مـجموعا، وكان العبـاس رجلاً جسيـما، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبـي الـيسر: (كَيْفَ أسَرْتَ العَبّـاسَ أبـا الـيُسْرِ؟) قال: يا رسول اللّه ، لقد أعاننـي علـيه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَقَدْ أعانَكَ عَلَـيْهِ مَلَكٌ كَرِيـمٌ).

٦٢٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُنْزَلِـينَ} أمدّوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. {بَلـى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُـمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} وذلك يوم بدر، أمدّهم اللّه بخمسة آلاف من الـملائكة.

٦٢٧٠ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي نـجيح، عن أبـيه، عن الربـيع، بنـحوه.

٦٢٧١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {يُـمْدِدْكُمْ ربّكُمْ بخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} فإنهم أتوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم مسوّمين.

٦٢٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن خثـيـم، عن مـجاهد، قال: لـم تقاتل الـملائكة إلا يوم بدر.

وقال آخرون: إن اللّه عزّ وجلّ إنـما وعدهم يوم بدر أن يـمدّهم إن صبروا عند طاعته، وجهاد أعدائه واتقوه بـاجتناب مـحارمه، أن يـمدْهم فـي حروبهم كلها، فلـم يصبروا ولـم يتقوا إلا فـي يوم الأحزاب، فأمدّهم حين حاصروا قريظة. ذكر من قال ذلك:

٦٢٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبد اللّه بن موسى، قال: أخبرنا سلـيـمان بن زيد أبو آدم الـمـحاربـي، عن عبد اللّه بن أبـي أوفـى، قال: كنا مـحاصري قريظة والنضير ما شاء اللّه أن نـحاصرهم، فلـم يفتـح علـينا، فرجعنا. فبـينـما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي بـيته يغسل رأسه، إذ جاءه جبريـل صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: يا مـحمد وضعتـم أسلـحتكم، ولـم تضع الـملائكة أوزارها! فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخرقة، فلفّ بها رأسه ولـم يغسله، ثم نادى فـينا، فقمنا كالزمعين لا نعبأ بـالسير شيئا، حتـى أتـينا قريظة والنضير، فـيومئذٍ أمدّنا اللّه عزّ وجلّ بثلاثة آلاف من الـملائكة، وفتـح اللّه لنا فتـحا يسيرا، فـانقلبنا بنعمة من اللّه وفضل.

وقال آخرون بنـحو هذا الـمعنى، غير أنهم

قالوا: لـم يصبر القوم، ولـم يتقوا، ولـم يـمدّوا بشيء فـي أُحُد. ذكر من قال ذلك:

٦٢٧٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنـي عمرو بن دينار، عن عكرمة، سمعه

يقول: {بَلـى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال: يوم بدر قال: فلـم يصبروا ولـم يتقوا، فلـم يـمدّوا يوم أُحُد، ولو مدّوا لـم يهزموا يومئذٍ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عكرمة

يقول: لـم يـمدّوا يوم أحد ولا بـملك واحد ـ أو قال: إلا بـملك واحد، أبو جعفر يشكّ.

٦٢٧٥ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: سمعت عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك ، قوله: {ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ} إلـى: {خَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} كان هذا موعدا من اللّه يوم أحد، عرضه علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أن الـمؤمنـين إن اتقوا وصبروا أمدّهم بخمسة آلاف من الـملائكة مسوّمين، ففرّ الـمسلـمون يوم أحد، وولوا مدبرين، فلـم يـمدّهم اللّه .

٦٢٧٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {بَلـى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}.. الاَية كلها قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم ينظرون الـمشركين: يا رسول اللّه ألـيس يـمدّنا اللّه كما أمدّنا يوم بدر؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةٍ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُنْزَلِـينَ، وإنـما أمدّكم يوم بدر بألف؟) قال: فجاءت الزيادة من اللّه علـى أن يصبروا ويتقوا، قال: بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يـمددكم ربكم... الاَية كلها.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه أخبر عن نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم أنه قال للـمؤمنـين: {ألَنْ يَكْفِـيَكُمْ أنْ يُـمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائكَةِ}؟ فوعدهم اللّه بثلاثة آلاف من الـملائكة مددا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الاَلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، واتقوا اللّه . ولا دلالة فـي الاَية علـى أنهم أمدّوا بـالثلاثة آلاف، ولا بـالـخمسة آلاف، ولا علـى أنهم لـم يـمدّوا بهم.

وقد يجوز أن يكون اللّه عزّ وجلّ أمدّهم علـى نـحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدّهم. وقد يجوز أن يكون لـم يـمدّهم علـى نـحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بـالثلاثة الاَلاف ولا بـالـخمسة الاَلاف. وغير جائز أن يقال فـي ذلك قول إلا بخبر تقوم الـحجة به، ولا خبر به كذلك فنسلـم لأحد الفريقـين قوله، غير أن فـي القرآن دلالة علـى أنهم قد أمدّوا يوم بدر بألف من الـملائكة وذلك قوله: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فـاسْتَـجابَ لَكُمْ أنّـي مُـمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ} فأما فـي يوم أُحد، فـالدلالة علـى أنهم لـم يـمدّوا أبـين منها فـي أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدّوا لـم يهزموا وينال منهم ما نـيـل منهم.

فـالصواب فـيه من القول أن يقال كما قال تعالـى ذكره. وقد بـينا معنى الإمداد فـيـما مضى، والـمدد، ومعنى الصبر والتقوى.

وأما قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيه،

فقال بعضهم: معنى قوله: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}: من وجههم هذا. ذكر من قال ذلك:

٦٢٧٧ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة، قال: {وَيأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال: من وجههم هذا.

٦٢٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

يقول: من وجههم هذا.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٦٢٧٩ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنَ فَوْرِهِمْ هَذَا}: من وجههم هذا.

٦٢٨٠ـ حُدثت عن عمار بن الـحسن، عن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

يقول: من وجههم هذا.

٦٢٨١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: {ويَأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

يقول: من وجههم هذا.

٦٢٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

يقول: من سفرهم هذا، ويقال: يعنـي عن غير ابن عبـاس ، بل هو من غضبهم هذا.

٦٢٨٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} من وجههم هذا

وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبهم هذا. ذكر من قال ذلك:

٦٢٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة فـي قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُـمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ} قال: فورهم ذلك كان يوم أُحد، غضبوا لـيوم بدر مـما لقوا.

٦٢٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، قال: سمعت أبـا صالـح مولـى أمّ هانىء

يقول: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

يقول: من غضبهم هذا.

٦٢٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال: غضب لهم، يعنـي الكفـار، فلـم يقاتلوهم عند تلك الساعة، وذلك يوم أُحد.

٦٢٨٧ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال: من غضبهم هذا.

٦٢٨٨ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}

يقول: من وجههم وغضبهم.

وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فـيه، ثم يوصل بآخر، يقال منه: فـارت القدر فهي تفور فورا وفورانا: إذا ما ابتدأ ما فـيها بـالغلـيان ثم اتصل¹ ومضيت إلـى فلان من فوري ذلك، يراد به: من وجهي الذي ابتدأت فـيه.

فـالذي قال فـي هذه الاَية: معنى قوله: {مِنْ فَوْرِهِم هَذَا}: من وجههم هذا، قصد إلـى أن تأويـله: ويأتـيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر، من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من الـمشركين.

وأما الذين

قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا، فإنـما عنوا أن تأويـل ذلك: ويأتـيكم كفـار قريش وتُبّـاعهم يوم أُحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها {يُـمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ}. كذلك من اختلاف تأويـلهم فـي معنى قوله {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} اختلف أهل التأويـل فـي إمداد اللّه الـمؤمنـين بأحد بـملائكته،

فقال بعضهم: لـم يـمدّوا بهم، لأن الـمؤمنـين لـم يصبروا لأعدائهم، ولـم يتقوا اللّه عزّ وجلّ بترك من ترك من الرماة طاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي ثبوته فـي الـموضع الذي أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالثبوت فـيه، ولكنهم أخـلوا به طلبـا للغنائم، فقتل من الـمسلـمين، ونال الـمشركون منهم ما نالوا. وإنـما كان اللّه عزّ وجلّ وعد نبـيه صلى اللّه عليه وسلم إمدادهم بهم إن صبروا واتقوا اللّه .

وأما الذين

قالوا: كان ذلك يوم بدر بسبب كرز بن جابر، فإن بعضهم

قالوا: لـم يأت كرز وأصحابه إخوانهم من الـمشركين مددا لهم ببدر، ولـم يـمدّ اللّه الـمؤمنـين بـملائكته، لأن اللّه عزّ وجلّ إنـما وعدهم أن يـمدّهم بـملائكته إن أتاهم كرز ومدد الـمشركين من فورهم، ولـم يأتهم الـمدد.

وأما الذين

قالوا: إن اللّه تعالـى ذكره أمدّ الـمسلـمين بـالـملائكة يوم بدر، فإنهم اعتلوا بقول اللّه عزّ وجلّ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فـاسْتَـجابَ لَكُمْ أنّـي مُـمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُرْدِفِـينَ}، قال: فـالألف منهم قد أتاهم مددا، وإنـما الوعد الذي كانت فـيه الشروط فـيـما زاد علـى الألف، فأما الألف فقد كانوا أمدّوا به، لأن اللّه عزّ وجلّ كان قد وعدهم ذلك، ولن يخـلف اللّه وعده.

واختلف القراء فـي قراءة قوله: {مُسَوّمِينَ} فقرأ ذلك عامة قراء أهل الـمدينة والكوفة: (مُسَوّمِينَ) بفتـح الواو، بـمعنى أن اللّه سوّمها. وقرأ ذلك بعض قراء أهل الكوفة والبصرة: {مُسَوّمِينَ} بكسر الواو، بـمعنى أن الـملائكة سوّمت لنفسها.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ بكسر الواو، لتظاهر الأخبـار عن (أصحاب) رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأهل التأويـل منهم ومن التابعين بعدهم، بأن الـملائكة هي التـي سوّمت أنفسها من غير إضافة تسويـمها إلـى اللّه عزّ وجلّ أو إلـى غيره من خـلقه.

ولا معنى لقول من قال: إنـما كان يختار الكسر فـي قوله: {مُسَوّمِينَ} لو كان فـي البشر، فأما الـملائكة فوصفهم غير ذلك ظنا منه بأن الـملائكة غير مـمكن فـيها تسويـم أنفسها إن كانوا ذلك فـي البشر وذلك أن غير مستـحيـل أن يكون اللّه عز وجل مكنها من تسويـم أنفسها بحقّ تـمكينه البشر من تسويـم أنفسهم، فسوموا أنفسهم بحقّ الذي سوّم البشر طلبـا منها بذلك طاعة ربها، عن فأضيف تسويـمها أنفسها إلـيها، وإن كان ذلك عن تسبـيب اللّه لهم أسبـابه، وهي إذا كانت موصوفة بتسويـمها أنفسها تقرّبـا منها إلـى ربها، كان أبلغ فـي مدحها لاختـيارها طاعة اللّه من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها.

ذكر الأخبـار بـما ذكرنا من إضافة من أضاف التسويـم إلـى الـملائكة دون إضافة ذلك إلـى غيرهم، علـى نـحو ما قلنا فـيه:

٦٢٨٩ـ حدثنـي يعقوب، قال: أخبرنا ابن علـية، قال: أخبرنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: إن أوّل ما كان الصوف لـيومئذٍ، يعنـي يوم بدر، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (تَسَوّمُوا فإنّ الـمَلائِكَةَ قَدْ تَسَوّمَتْ).

٦٢٩٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مختار بن غسان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيـل، عن الزبـير بن الـمنذر، عن جده أبـي أسيد، وكان بدريا، فكان

يقول: لو أن بصري معي ثم ذهبتـم معي إلـى أُحد، لأخبرتكم بـالشّعب الذي خرجت منه الـملائكة فـي عمائم صفر قد طرحوها بـين أكتافهم.

٦٢٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ}

يقول: معلـمين، مـجزوزة أذناب خيـلهم ونواصيها، فـيها الصوف أو العهن، وذلك التسويـم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزة، عن مـجاهد فـي قوله: {بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} قال: مـجزوزة أذنابها وأعرافها، فـيها الصوف أو العهن، فذلك التسويـم.

٦٢٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مُسَوّمِينَ} ذكر لنا أن سيـماها يومئذٍ الصوف بنواصي خيـلهم وأذنابهم، وأنهم علـى خيـل بلق.

٦٢٩٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {مُسَوّمِينَ} قال: كان سمياها صوفـا فـي نواصيها.

حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، عن مـجاهد، أنه كان

يقول: {مُسَوّمينَ} قال: كانت خيولهم مـجزوزة الأعراف، معلـمة نواصيها وأذنابها بـالصوف والعهن.

٦٢٩٤ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: كانوا يومئذٍ علـى خيـل بلق.

٦٢٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، وبعض أشياخنا، عن الـحسن، نـحو حديث معمر، عن قتادة.

٦٢٩٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {مُسَوّمِينَ}: معلـمين.

٦٢٩٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {بِخَمْسَةِ آلافِ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ} فإنهم أتوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، مسوّمين بـالصوف، فسوّم مـحمد وأصحابه أنفسهم وخيـلهم علـى سيـماهم بـالصوف.

٦٢٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عبـاد بن حمزة، قال: نزلت الـملائكة فـي سيـما الزبـير، علـيهم عمائم صفر، وكانت عمامة الزبـير صفراء.

٦٢٩٩ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {مُسَوّمِينَ} قال: بـالصوف فـي نواصيها وأذنابها.

٦٣٠٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، قال: نزلت الـملائكة يوم بدر علـى خيـل بلق، علـيهم عمائم صفر، وكان علـى الزبـير يومئذٍ عمامة صفراء.

٦٣٠١ـ حدثنـي أحمد بن يحيـى الصوفـي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عبد اللّه بن الزبـير: أن الزبـير كانت علـيه ملاءة صفراء يوم بدر، فـاعتـمّ بها، فنزلت الـملائكة يوم بدر علـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم معمـمين بعمائم صفر.

فهذه الأخبـار التـي ذكرنا بعضها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (تَسَوّمُوا فإنّ الـمَلائِكَةَ قَدْ تَسَوّمَتْ) وقول أبـي أسيد: خرجت الـملائكة فـي عمائم صفر قد طرحوها بـين أكتافهم، وقول من قال منهم: {مُسَوّمِينَ}: معلـمين، ينبىء جميع ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة فـي ذلك، وأن التسويـم كان من الـملائكة بأنفسها، علـى نـحو ما قلنا فـي ذلك فـيـما مضىوأما الذين قرءوا ذلك (مسوّمين) بـالفتـح، فإنهم أراهم تأوّلوا فـي ذلك ما:

٦٣٠٢ـ حدثنا به حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة: (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ)

يقول: علـيهم سيـما القتال.

٦٣٠٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ)

يقول: علـيهم سيـما القتال، وذلك يوم بدر، أمدّهم اللّه بخمسة آلاف من الـملائكة مسوّمين،

يقول: علـيهم سيـما القتال.

فقالوا: كان سيـما القتال علـيهم، لا أنهم كانوا تسوّموا بسيـما فـيضاف إلـيهم التسويـم، فمن أجل ذلك قرءوا: (مُسَوّمِينَ) بـمعنى أن اللّه تعالـى أضاف التسويـم إلـى من سوّمهم تلك السيـما. والسيـما: العلامة، يقال: هي سيـما حسنة، وسيـمياء حسنة، كما قال الشاعر:

غُلامٌ رَماهُ اللّه بـالـحُسْنِ يافِعالَهُ سِيـمياءُ لا تَشُقّ علـى البَصَرْ

يعنـي بذلك علامة من حسن. فإذا أعلـم الرجل بعلامة يعرف بها فـي حرب أو غيره،

قـيـل: سوّم نفسه، فهو يسوّمها تسويـما.

١٢٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلاّ بُشْرَىَ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }

يعنـي تعالـى ذكره: وما جعل اللّه وعده إياكم ما وعدكم من إمداده إياكم بـالـملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم، يعنـي بشرى يبشركم بها، {ولِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}

يقول: وكي تطمئنّ بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبُكم، فتسكن إلـيه، ولا تـجزع من كثرة عدد عدوّكم، وقلة عددكم. {وَما النّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّه }: يعنـي وما ظفركم إن ظفرتـم بعدوّكم إلا بعون اللّه ، لا من قبل الـمدد الذي يأتـيكم من الـملائكة،

يقول: فعلـى اللّه فتوكلوا، وبه فـاستعينوا، لا بـالـجموع وكثرة العدد، فإن نصركم إن كان إنـما يكون بـاللّه وبعونه ومعكم من ملائكته خمسة آلاف، فإنه إلـى أن يكون ذلك بعون اللّه وبتقويته إياكم علـى عدوّكم، وإن كان معكم من البشر جموع كثـيرة أخرى، فـاتقوا اللّه واصبروا علـى جهاده عدوّكم، فإن اللّه ناصركم علـيهم. كما:

٦٣٠٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وما جَعَلَهُ اللّه إلاّ بُشْرَى لَكُمْ}

يقول: إنـما جعلهم لـيستبشروا بهم، ولـيطمئنوا إلـيهم، ولـم يقاتلوا معهم يومئذٍ، يعنـي يوم أُحد. قال مـجاهد: ولـم يقاتلوا معهم يومئذٍ ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر.

٦٣٠٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَما جَعَلَهُ اللّه إلاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} لـما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عندي بسلطانـي وقدرتـي، وذلك أنـي أعرف الـحكمة التـي لا إلـى أحد من خـلقـي.

٦٣٠٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَما النّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّه } لو شاء أن ينصركم بغير الـملائكة فعل العزيز الـحكيـم.

وأما معنى قوله: {العَزِيزِ الـحَكِيـم} فإنه جل ثناؤه يعنـي: العزيز فـي انتقامه من أهل الكفر بأيدي أولـيائه من أهل طاعته، الـحكيـم فـي تدبـيره لكم أيها الـمؤمنون علـى أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره.

يقول: فأبشروا أيها الـمؤمنون بتدبـيري لكم علـى أعدائكم، ونصري إياكم علـيهم إن أنتـم أطعتـمونـي فـيـما أمرتكم به وصبرتـم لـجهاد عدوّي وعدوّكم.

١٢٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولقد نصركم اللّه ببدر {لَـيْقَطَع طَرَفـا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} ويعنـي بـالطرف: الطائفة والنفر.

يقول تعالـى ذكره: ولقد نصركم اللّه ببدر كما يهلك طائفة من الذين كفروا بـاللّه ورسوله فجحدوا وحدانـية ربهم ونبوّة نبـيهم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. كما: ٦٣٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لِـيَقْطَعَ طَرَفـا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} فقطع اللّه يوم بدر طرفـا من الكفـار، وقتل صناديدهم ورؤساءهم، وقادتهم فـي الشرّ.

٦٣٠٨ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، نـحوه.

٦٣٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {لِـيَقْطَعَ طَرَقا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا}.. الاَية كلها، قال: هذا يوم بدر، قطع اللّه طائفة منهم، وبقـيت طائفة.

٦٣١٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {لـيَقْطَعَ طَرَفـا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} أي لـيقطع طرفـا من الـمشركين بقتل ينتقم به منهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما النصر إلا من عند اللّه لـيقطع طرفـا من الذين كفروا، وقال: إنـما عنى بذلك من قتل بـأُحد. ذكر من قال ذلك:

٦٣١١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: ذكر اللّه قتلـى الـمشركين، يعنـي بـأُحد، وكانوا ثمانـية عشر رجلاً،

فقال: {لِـيَقْطَعَ طَرَفـا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا} ثم ذكر الشهداء فقال: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتا}.. الاَية.

وأما قوله: {أوْ يَكْبِتَهُمْ} فإنه يعنـي بذلك أو يخزيهم بـالـخيبة بـما رجوا من الظفر بكم. وقد

قـيـل: إن معنى قوله: {أوْ يَكْبِتَهُمْ}: أو يصرعهم لوجوههم، ذكر بعضهم أنه سمع العرب تقول: كَبَتَه اللّه لوجهه، بـمعنى صرعه اللّه .

فتأويـل الكلام: ولقد نصركم اللّه ببدر، لـيهلك فريقا من الكفـار بـالسيف، أو يخزيهم بخيبتهم مـما طمعوا فـيه من الظفر، {فَـيَنْقَلِبُوا خَائِبِـينَ}

يقول: فـيرجعوا عنكم خائبـين لـم يصيبوا منكم شيئا ما رجوا أن ينالوه منكم. كما:

٦٣١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {أوْ يَكْبِتَهُمْ فَـيَنْقَلِبُوا خائِبِـينَ} أو يردّهم خائبـين، أو يرجع من بقـي منهم خائبـين، لـم ينالوا شيئا مـما كانوا يأملون.

٦٣١٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {أوْ يَكْبِتَهُمْ}

يقول: يخزيهم فـينقلبوا خائبـين.

٦٣١٤ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله.

١٢٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ }

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: لـيقطع طرفـا من الذين كفروا أو يكبتهم، أو يتوب علـيهم، أو يعذبهم، فإنهم ظالـمون، لـيس لك من الأمر شيء، فقوله: {أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ} منصوب عطفـا علـى قوله: {أوْ يَكْبِتَهُمْ}. وقد يحتـمل أن يكون تأويـله: لـيس لك من الأمر شيء حتـى يتوب علـيهم، فـيكون نصب (يتوب) بـمعنى (أو) التـي هي فـي معنى (حتـى). والقول الأول أولـى بـالصواب، لأنه لا شيء من أمر الـخـلق إلـى أحد سوى خالقهم قبل توبة الكفـار وعقابهم وبعد ذلك.

وتأويـل قوله: {لَـيْسَ لكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ}: لـيس إلـيك يا مـحمد من أمر خـلقـي إلا أن تنفذ فـيهم أمري، وتنتهي فـيهم إلـى طاعتـي، وإنـما أمرهم إلـيّ والقضاء فـيهم بـيدي دون غيري أقضي فـيهم، وأحكم بـالذي أشاء من التوبة علـى من كفر بـي وعصانـي، وخالف أمري، أو العذاب إما فـي عاجل الدنـيا بـالقتل والنقم الـمبـيرة، وإما فـي آجل الاَخرة بـما أعددت لأهل الكفر بـي. كما:

حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم قال لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}: أي لـيس لك من الـحكم فـي شيء فـي عبـادي إلا ما أمرتك به فـيهم، أو أتوب علـيهم برحمتـي، فإن شئت فعلت. أو أعذبهم بذنوبهم، {فإنّهُمْ ظَالِـمُونَ} أي قد استـحقوا ذلك بـمعصيتهم إياي.

وذكر أن اللّه عزّ وجلّ إنـما أنزل هذه الاَية علـى نبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه لـما أصابه بأحد ما أصابه من الـمشركين، قال كالاَيس لهم من الهدى أو من الإنابة إلـى الـحقّ: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بنبّـيهم). ذكر الرواية بذلك.

٦٣١٥ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا حميد، قال: قال أنس: قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد، وكسرت ربـاعيته، وشجّ، فجعل يـمسح عن وجهه الدم و

يقول: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ خَضّبُوا نَبِـيّهُمْ بـالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى رَبّهِمْ؟) فأنزلت: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن حميد، عن أنس، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن حميد الطويـل، عن أنس، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه.

حدثنـي يحيـى بن طلـحة الـيربوعي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويـل، عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين شجّ فـي جبهته، وكسرت ربـاعيته: (لا يُفْلِـحُ قَوْمٌ صَنَعُوا هَذَا بِنَبِـيّهِمْ) فأوحى اللّه إلـيه: {لَـيْس لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيّءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِم أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

٦٣١٦ـ حدثنـي يعقوب عن ابن علـية، قال: حدثنا ابن عون، عن الـحسن أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال يوم أُحد: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ أدْمَوْا وَجْهَ نَبِـيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى اللّه عَزّ وَجَلّ) فنزلت: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن حميد، عن أنس، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، نـحو ذلك.

٦٣١٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ} ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد، وقد جرح نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي وجهه، وأصيب بعض ربـاعيته، فقال وسالـم مولـى أبـي حذيفة يغسل عن وجهه الدم: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِـيّهِمْ بـالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى رَبّهِمْ) فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح،، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن مطر، عن قتادة، قال: أصيب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد وكسرت ربـاعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعلـيه درعان والدم يسيـل، فمرّ به سالـم مولـى أبـي حذيفة، فأجلسه، ومسح عن وجهه، فأفـاق وهو

يقول: (كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِـيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى اللّه ) فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

٦٣١٨ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، قوله: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ}.. الاَية، قال: قال الربـيع بن أنس، أنزلت هذه الاَية علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد وقد شجّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي وجهه، وأصيبت ربـاعيته، فهمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يدعو علـيهم،

فقال: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ أدْمَوا وَجْهَ نَبِـيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى اللّه وَهُمْ يَدْعُونَهُ إلـى الشّيْطانِ وَيَدْعُوهُمْ إلـى الهُدَى وَيَدْعُونَهُ إلـى الضّلالَةِ، ويَدْعُوهُمْ إلـى الـجَنّةِ وَيَدْعُونَهُ إلـى النّارِ) فهمّ أن يدعو علـيهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ} فكفّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الدعاء علـيهم.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ}.. الاَية كلها،

فقال: جاء أبو سفـيان من الـحول غضبـان لـما صنع بأصحابه يوم بدر، فقاتل أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد قتالاً شديدا، حتـى قتل منهم بعدد الأسارى يوم بدر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلـمة علـم اللّه أنها قد خالطت غضبـا: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِـيّهِمْ بـالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى الإسْلامِ) فقال اللّه عزّ وجلّ: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أن ربـاعية النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أصيبت يوم أُحد، أصابها عتبة بن أبـي وقاص، وشجّه فـي وجهه، وكان سالـم مولـى أبـي حذيفة يغسل عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الدم، والنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ صَنَعُوا بِنَبِـيّهِمْ هَذَا) فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

٦٣١٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، وعن عثمان الـجزري، عن مقسم: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم دعا علـى عتبة بن أبـي وقاص يوم أحد حين كسر بـاعيته، ووثأ وجهه،

فقال: (اللّه مّ لا تُـحِلْ عَلَـيْهِ الـحَوْلَ حتـى يَـمُوتَ كافِرا!) قال: فما حال علـيه الـحول حتـى مات كافرا.

٦٣٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : شجّ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي فرق حاجبه، وكسرت ربـاعيته. قال ابن جريج: ذكر لنا أنه لـما جرح، جعل سالـم مولـى أبـي حذيفة يغسل الدم عن وجهه، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ خَضّبُوا وَجْهَ نَبِـيّهِمْ بـالدّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى اللّه ؟). فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ}.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، لأنه دعا علـى قوم، فأنزل اللّه عزّ وجل: لـيس الأمر إلـيك فـيهم. ذكر من الرواية بذلك:

٦٣٢١ـ حدثنـي يحيـى بن حبـيب بن عربـي، قال: حدثنا خالد بن الـحرث، قال: حدثنا مـحمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كان يدعو علـى أربعة نفر، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ} قال: وهداهم اللّه للإسلام.

٦٣٢٢ـ حدثنـي أبو السائب سلـم بن جنادة، قال: حدثنا أحمد بن سفـيان، عن عمر بن حمزة، عن سالـم، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ الْعَنْ أبـا سُفْـيانَ! اللّه مّ الْعَنِ الـحَارِثَ ابْنَ هِشامٍ! اللّه مّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ!) فنزلت: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

٦٣٢٣ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا مـحمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الـحارث بن عبد اللّه بن عياش بن أبـي ربـيعة، عن عبد اللّه بن كعب، عن أبـي بكر بن عبد الرحمن بن الـحرث بن هشام، قال: صلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفجر، فلـما رفع رأسه من الركعة الثانـية، قال: (اللّه مّ أنْـجٍ عَيّاشَ بْنَ أبـي رَبِـيعَةَ وَسَلْـمَةَ بْنَ هِشامٍ وَالَولِـيدَ بْنَ الوَلِـيدِ، اللّه مّ أنْـجِ الـمُسْتَضْعفـينَ مِنَ الـمُسْلِـمينَ، اللّه مّ اشْدُدْ وَطأتَكَ علـى مُضَرَ، اللّه مّ سِنِـينَ كَسِنِـينَ آلِ يُوسَف!) فأنزل اللّه : {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِم}.. الاَية.

٦٣٢٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أخبره عن سعيد بن الـمسيب وأبـي سلـمة بن عبد الرحمن أنهما سمعا أبـا هريرة

يقول: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول حين يفرغ فـي صلاة الفجر من القراءة، ويكبر ويرفع رأسه: (سَمِعَ اللّه لـمن حَمِدَهْ، رَبّنَا وَلَكَ الـحَمْدُ) ثم يقول وهو قائم: (الّلهُمّ أنْـجِ الولِـيدَ بْنَ الوَلِـيدِ وَسَلَـمَةَ بْنَ هِشامٍ وعَيّاشَ بْن أبـي رَبـيعَةَ والـمُسْتَضْعَفِـينَ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ، اللّه مّ اشْدُدْ وَطأتَكَ علـى مُضرَ، وَاجْعَلْها عَلَـيْهِمْ كَسِنـي يُوسُفَ، اللّه مّ الْعَنِ لْـحْيانَ وَرعلاً وَذَكْوَانَ وعُصَيّةُ عَصَتِ اللّه وَرَسُولَهُ). ثم بلغنا أنه ترك ذلك لـما نزل قوله: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ أوْ يُعَذّبَهُمْ فإنّهُمْ ظالِـمُونَ}.

١٢٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّه غَفُورٌ رّحِيمٌ }

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: لـيس لك يا مـحمد من الأمر شيء، ولله جميع ما بـين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلـى مغربها دونك ودونهم، يحكم فـيهم بـما شاء، ويقضي فـيهم ما أحبّ، فـيتوب علـى من أحبّ من خـلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له ويعاقب من شاء منهم علـى جرمه، فـينتقم منه، وهو الغفور الذي يستر ذنوب من أحبّ أن يستر علـيه ذنوبه من خـلقه بفضله علـيهم بـالعفو والصفح، والرحيـم بهم فـي تركه عقوبتهم عاجلاً علـى عظيـم ما يأتون من الـمآثم. كما:

٦٣٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ}: أي يغفر الذنوب، ويرحم العبـاد علـى ما فـيهم.

١٣٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بـاللّه ورسوله، لا تأكلوا الربـا فـي إسلامكم، بعد إذ هداكم له، كما كنتـم تأكلونه فـي جاهلـيتكم. وكان أكلهم ذلك فـي جاهلـيتهم أن الرجل منهم كان يكون له علـى الرجل مال إلـى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فـيقول له الذي علـيه الـمال: أخر عنـي دينك، وأزيدك علـى مالك! فـيفعلان ذلك، فذلك هو الربـا أضعافـا مضاعفة، فنهاهم اللّه عزّ وجلّ فـي إسلامهم عنه. كما:

٦٣٢٦ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: كانت ثقـيف تَداين فـي بنـي الـمغيرة فـي الـجاهلـية، فإذا حلّ الأجل،

قالوا: نزيدكم وتؤخرون! فنزلت: {لا تَأْكُلُوا الرّبـا أضْعافـا مُضَاعَفَةً}.

٦٣٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا الرّبـا أضْعافـا مُضَاعَفَةً}: أي لا تأكلوا فـي الإسلام إذ هداكم له، ما كنتـم تأكلون إذ أنتـم علـى غيره مـما لا يحلّ لكم فـي دينكم.

٦٣٢٨ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرّبـا أضْعافا مُضَاعَفَةً} قال: ربـا الـجاهلـية.

٦٣٢٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {لاَتَأْكُلُوا الرّبـا أضْعافا مُضَاعَفَةً} قال: كان أبـي

يقول: إنـما كان الربـا فـي الـجاهلـية فـي التضعيف وفـي السنّ، يكون للرجل فضل دين، فـيأتـيه إذا حلّ الأجل، فـيقول له: تقضينـي أو تزيدنـي؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوّله إلـى السنّ التـي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون فـي السنة الثانـية، ثم حقة، ثم جذعة ثم ربـاعيا، ثم هكذا إلـى فوق. وفـي العين يأتـيه، فإن لـم يكن عنده أضعفه فـي العام القابل، فإن لـم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فـيجعلها إلـى قابل مائتـين، فإن لـم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة، أو يقضيه

قال: فهذا قوله: {لا تأكُلُوا الرّبـا أضْعَافا مُضَاعَفَةً}.

وأما قوله: {واتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ} فإنه يعنـي: واتقوا اللّه أيها الـمؤمنون فـي أمر الربـا فلا تأكلوه، وفـي غيره مـما أمركم به، أو نهاكم عنه، وأطيعوه فـيه لعلكم تفلـحون،

يقول: لتنـجحوا فتنـجوا من عقابه، وتدركوا ما رغبكم فـيه من ثوابه، والـخـلود فـي جنانه. كما:

٦٣٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ}: أي فأطيعوا اللّه لعلكم أن تنـجوا مـما حذّركم من عذابه، وتدركوا ما رغبكم فـيه من ثوابه.

١٣١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ }

يقول تعالـى ذكره للـمؤمنـين: واتقوا أيها الـمؤمنون النار أن تصلوها بأكلكم الربـا بعد نهيـي إياكم عنه التـي أعددتها لـمن كفر بـي، فتدخـلوا مداخـلهم بعد إيـمانكم بـي بخلافكم أمري، وترككم طاعتـي. كما:

٦٣٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {واتّقُوا النّارَ التـي أُعدّتْ للكافرِينَ} التـي جعلت دارا لـمن كفر بـي.

١٣٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَأَطِيعُواْ اللّه وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وأطيعوا اللّه أيها الـمؤمنون فـيـما نهاكم عنه من أكل الربـا وغيره من الأشياء، وفـيـما أمركم به الرسول.

يقول: أوطيعوا الرسول أيضا كذلك لعلكم ترحمون،

يقول: لترحموا فلا تعذّبوا.

 إن ذلك معاتبة من اللّه عزّ وجلّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين خالفوا أمره يوم أُحد، فأخـلوا بـمراكزهم التـي أمروا بـالثبـات علـيها. ذكر من قال ذلك:

٦٣٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة عن ابن إسحاق: {وأطِيعُوا اللّه وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ} معاتبة للذين عصوا رسوله حين أمرهم بـالذي أمرهم به فـي ذلك الـيوم وفـي غيره، يعنـي فـي يوم أُحد.

١٣٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ }

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَسَارِعُوا} وبـادروا وسابقوا إلـى مغفرة من ربكم، يعنـي: إلـى ما يستر علـيكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها علـيكم من عفوه عن عقوبتكم علـيها {وَجنّةِ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ} يعنى سارعوا أيضا إلـى جنة عرضها السموات والأرض، ذكر أن معنى ذلك: وجنة عرضها كعرض السموات السبع، والأرضين السبع، إذا ضمّ بعضها إلـى بعض. ذكر من قال ذلك:

٦٣٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} قال:

قال ابن عبـاس : تقرن السموات السبع والأرضون السبع، كما تقرن الثـياب بعضها إلـى بعض، فذاك عرض الـجنة.

وإنـما

قـيـل: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأَرْضُ} فوصف عرضها بـالسموات والأرضين، والـمعنى ما وصفنا من وصف عرضها بعرض السموات والأرض، تشبـيها به فـي السعة والعظم، كما

قـيـل: {مَا خَـلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعنـي إلا كبعث نفس واحدة، وكما قال الشاعر:

كأنّ عَذِيرَهُمْ بجَنُوبِ سِلّـىنَعامٌ قَاقَ فَـي بَلَدٍ قِـفـارِ

أي عذير نعام، وكما قال الاَخر:

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتـي عَناقاوَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بـالْعَناقِ

يريد صوت عناق. وقد ذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل فقـيـل له: هذه الـجنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال: (هَذَا النّهارُ إذَا جَاءَ، أيْنَ اللّـيْـلُ؟).

ذكر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وغيره.

٦٣٣٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مسلـم بن خالد، عن ابن خثـيـم، عن سعيد بن أبـي راشد، عن يعلـى بن مرة، قال: لقـيت التنوخيّ رسول هرقل إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحمص شيخا كبـيرا قد أقعد، قال: قدمت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلاً عن يساره، قال: قلت من صاحبكم الذي يقرأ؟

قالوا: معاوية، فإذا هو: إنك كتبت تدعونـي إلـى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للـمتقـين، فأين النار؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سُبْحانَ اللّه ، فأيْنَ اللّـيْـلُ إذَا جاءَ النّهارُ؟).

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن طارق بن شهاب: أن ناسا من الـيهود سألوا عمر بن الـخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض، أين النار؟ قال: (أرأيتـم إذا جاء اللـيـل أين يكون النهار؟)

فقالوا: اللهمّ نزعْتَ مثله من التوراة.

حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قـيس بن مسلـم، عن طارق بن شهاب: أن عمر أتاه ثلاثة نفر من أهل نـجران، فسألوه وعنده أصحابه،

فقالوا: أرأيت قوله: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتِ وَالأرْضُ} فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر: (أرأيتـم إذا جاء اللـيـل، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون اللـيـل؟)

فقالوا: نزعت مثلها من التوراة.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة، عن إبراهيـم بن مهاجر، عن طارق بن شهاب، عن عمر، بنـحوه فـي الثلاثة الرهط الذين أتوا عمر، فسألوه عن جنة عرضها كعرض السموات والأرض، بـمثل حديث قـيس بن مسلـم.

٦٣٣٥ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا جعفر بن عون، أخبرنا الأعمش، عن قـيس بن مسلـم، عن طارق بن شهاب، قال: جاء رجل من الـيهود إلـى عمر،

فقال: تقولون: جنة عرضها السموات والأرض أين تكون النار؟ فقال له عمر: أرأيت النهار إذا جاء، أين يكون اللـيـل؟ أرأيت اللـيـل إذا جاء، أين يكون النهار؟ فقال: إنه لـمثلها فـي التوراة، فقال له صاحبه: لـم أخبرته؟ فقال له صاحبه: دعه إنه بكلّ موقنٌ.

٦٣٣٦ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: أخبرنا أبو نعيـم، قال: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا يزيد بن الأصم أن رجلاً من أهل الكتاب أتـى ابن عبـاس ،

فقال: تقولون جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟

فقال ابن عبـاس : أرأيت اللـيـل إذا جاء، أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار، أين يكون اللـيـل؟

وأما قوله: {أُعِدّتْ للْـمُتّقِـينَ} فإنه يعنـي: إن الـجنة التـي عرضها كعرض السموات والأرضين السبع أعدها اللّه للـمتقـين، الذين اتقوا اللّه ، فأطاعوه فـيـما أمرهم ونهاهم، فلـم يتعدّوا حدوده، ولـم يقصروا فـي واجب حقه علـيهم فـيضيعوه. كما:

٦٣٣٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: {وَسَارِعُوا إلـى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْـمُتّقِـينَ}: أي ذلك لـمن أطاعنـي وأطاع رسولـي.

١٣٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ ...}

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ} أُعدت الـجنة التـي عرضها السموات والأرض للـمتقـين، وهم الـمنفقون أموالهم فـي سبـيـل اللّه ، إما فـي صرفه علـى مـحتاج، وإما فـي تقوية مضعف علـى النهوض للـجهاد فـي سبـيـل اللّه .

وأما قوله: {فِـي السّرّاء} فإنه يعنـي: فـي حال السرور بكثرة الـمال، ورخاء العيش والسرّاء: مصدر من قولهم سرّنـي هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء: مصدر من قولهم: قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ، وذلك إذا أصابه الضيق والـجهد فـي عيشه.

٦٣٣٨ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ}

يقول: فـي العسر والـيسر.

فأخبر جل ثناؤه أن الـجنة التـي وصف صفتها لـمن اتّقاه وأنفق ماله فـي حال الرخاء والسعة وفـي حال الضيق والشدة فـي سبـيـله.

وقوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ} يعنـي: والـجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: كظم فلان غيظه: إذا تـجرّعه فحفظ نفسه من أن تـمضي ما هي قادرة علـى إمضائه بـاستـمكانها مـمن غاظها وانتصارها مـمن ظلـمها. وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: كظمتُ القربة: إذا ملأتها ماء، وفلان كظيـم ومكظوم إذا كان مـمتلئا غمّا وحزنا، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ، {وابْـيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الـحُزْنِ فَهُوَ كَظِيـمٌ} يعنـي مـمتلـىء من الـحزن، ومنه قـيـل لـمـجاري الـمياه الكظائم لامتلائها بـالـماء، ومن

قـيـل: أخذت بكظمه يعنـي بـمـجاري نفسه. والغيظ: مصدر من قول القائل: غاظنـي فلان فهو يغيظنـي غيظا، وذلك إذا أحفظه وأغضبه.

وأما قوله: {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ} فإنه يعنـي: والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إلـيهم، وهم علـى الانتقام منهم قادرون، فتاركوها لهم.

وأما قوله {واللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ} فإنه يعنـي: فإن اللّه يحبّ من عمل بهذه الأمور التـي وصف أنه أعدّ للعاملـين بها الـجنة التـي عرضها السموات والأرض. والعاملون بها هم الـمـحسنون، وإحسانهم هو عملهم بها. كما:

٦٣٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ}.. الاَية: {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ واللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ} أي وذلك الإحسان، وأنا أحبّ من عمل به.

٦٣٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ واللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}: قوم أنفقوا فـي العسر والـيسر، والـجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشرّ بـالـخير فلـيفعل، ولا قوّة إلا بـالله، فنعمت واللّه يا ابن آدم الـجرعة تـجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم.

٦٣٤١ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مـحمد بن بشر، قال: حدثنا مـحرز أبو رجاء، عن الـحسن، قال: يقال يوم القـيامة: لـيقم من كان له علـى اللّه أجر! فما يقوم إلا إنسان عفـا. ثم قرأ هذه الاَية: {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ واللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}.

٦٣٤٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا داود بن قـيس، عن زيد بن أسلـم، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الـجلـيـل، عن عمّ له، عن أبـي هريرة فـي قوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ} أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ علـى إنْفَـاذِهِ مَلأَهُ اللّه أمْنا وإيـمانا).

٦٣٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ}.. إلـى الاَية: {واللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}، فـالكاظمين الغيظ كقوله: {وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ}¹ يغضبون فـي الأمر لو وقعوا به كان حراما فـيغفرون ويعفون، يـلتـمسون بذلك وجه اللّه ¹ {وَالعَافِـينَ عَنِ النّاسِ} كقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ}.. إلـى: {ألاَ تُـحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّه لَكُمْ}

يقول: لا تقسموا علـى أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا.

١٣٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ...}

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً}: أن الـجنة التـي وصف صفتها أعدت للـمتقـين، الـمنفقـين فـي السرّاء والضرّاء، والذين إذا فعلوا فـاحشة وجميع هذه النعوت من صفة الـمتقـين الذين قال تعالـى ذكره: {وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْـمُتَقِـينَ}. كما

٦٣٤٤ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان، عن ثابت البنانـي، قال: سمعت الـحسن قرأ هذه الاَية: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِـي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعافِـينَ عَنِ النّاسِ وَاللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}، ثم قرأ: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فَـاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}.. إلـى {أجْرُ العامِلِـينَ} فقال: إن هذين النعتـين لنعت رجل واحد.

٦٣٤٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} قال: هذان ذنبـان: الفـاحشة ذنب، وظلـموا أنفسهم ذنب.

وأما الفـاحشة فهي صفة لـمتروك، ومعنى الكلام: والذين إذا فعلوا فعلة فـاحشة. ومعنى الفـاحشة: الفعلة القبـيحة الـخارجة عما أذن اللّه عزّ وجلّ فـيه. وأصل الفحش القبح والـخروج عن الـحدّ والـمقدار فـي كل شيء، ومنه قـيـل للطويـل الـمفرط الطول: إنه لفـاحش الطول، يراد به: قبـيح الطول، خارج عن الـمقدار الـمستـحسن¹ ومنه قـيـل للكلام القبـيح غير القصد: كلام فـاحش، وقـيـل للـمتكلـم به: أفحش فـي كلامه: إذا نطق بفحش.

وقـيـل: إن الفـاحشة فـي هذا الـموضع معنّـي بها الزنا. ذكر من قال ذلك:

٦٣٤٦ـ حدثنا العبـاس بن عبد العظيـم، قال: حدثنا حبـان، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن جابر: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} قال: زنى القوم وربّ الكعبة.

٦٣٤٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً} أما الفـاحشة: فـالزنا.

وقوله: {أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} يعنـي به: فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها. والذي فعلوا من ذلك ركوبهم من معصية اللّه ما أوجبوا لها به عقوبته. كما

٦٣٤٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم، قوله: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} قال: الظلـم من الفـاحشة، والفـاحشة من الظلـم.

وقوله: {ذَكَرُوا اللّه } يعنـي بذلك ذكروا وعيد اللّه علـى ما أتوا من معصيتهم إياه. {فـاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ}

يقول: فسألوا ربهم أن يستر علـيهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة علـيها. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّه }

يقول: وهل يغفر الذنوب: أي يعفو عن راكبها فـيسترها علـيه إلا اللّه ؟ {وَلَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا}

يقول: ولـم يقـيـموا علـى ذنوبهم التـي أتوها، ومعصيتهم التـي ركبوها {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}

يقول: لـم يقـيـموا علـى ذنوبهم عامدين للـمقام علـيها، وهم يعلـمون أن اللّه قد تقدّم بـالنهي عنها، وأوعد علـيها العقوبة، من ركبها. وذكر أن هذه الاَية أنزلت خصوصا بتـخفـيفها ويسرها أُمّتَنا مـما كانت بنو إسرائيـل مـمتـحنة به من عظيـم البلاء فـي ذنوبها.

٦٣٤٩ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبـي ربـاح: أنهم

قالوا: يا نبـي اللّه ، بنو إسرائيـل أكرم علـى اللّه منا، كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفـارة ذنبه مكتوبة فـي عتبة بـابه: اجدع أذنك، أجدع أنفك، افعل! فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {وَسارِعُوا إلـى مَغْفِزَةٍ مِنَ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْض أُعِدّتْ للْـمُتّقِـينَ}.. إلـى قوله: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فـاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ ذَلِكَ؟) فقرأ هؤلاء الاَيات.

٦٣٥٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي عمر أبـي خـلـيفة العبديّ، قال: حدثنا علـيّ بن زيد بن جدعان، قال: قال ابن مسعود: كانت بنو إسرائيـل إذا أذنبوا، أصبح مكتوبا علـى بـابه الذنب وكفـارته، فأعطينا خيرا من ذلك هذه الاَية.

٦٣٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا جعفر بن سلـيـمان، عن ثابت البنانـي، قال: لـما نزلت: {وَمَنْ يَعْمَلْ سَواءً أوْ يَظْلِـمْ نَفْسَهُ} بكى إبلـيس فزعا من هذه الاَية.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سلـيـمان، عن ثابت البنانـي، قال: بلغنـي أن إبلـيس حين نزلت هذه الاَية: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} بكى.

٦٣٥٢ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عثمان مولـى آل أبـي عقـيـل الثقـفـي، قال: سمعت علـيّ بن ربـيعة، يحدث عن رجل من فزارة يقال له أسماء أو ابن أسماء، عن علـيّ، قال: كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا، نفعنـي اللّه بـما شاء أن ينفعنـي، فحدثنـي أو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم، قال: (ما مِنْ عَبْدٍ) قال شعبة: وأحسبه قال (مُسْلِـمٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثم يَتَوضّأُ ثم يُصّلّـي ركْعَتَـيْنِ، ثم يَسْتَغْفِرُ اللّه لِذَلِكَ الذّنْبِ...) وقال شعبة: وقرأ إحدى هاتـين الاَيتـين: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ}.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، وحدثنا الفضل بن إسحاق، قال: حدثنا وكيع، عن مسعر وسفـيان، عن عثمان بن الـمغيرة الثقـفـي، عن علـيّ بن ربـيعة الوالبـي، عن أسماء بن الـحكم الفزاري، عن علـيّ بن أبـي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديثا نفعنـي اللّه بـما شاء منه، وإذا حدثنـي عنه غيره، استـحلفته، فإذا حلف لـي صدقته¹ وحدثنـي أبو بكر وصدق أبو بكر أنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما مِنْ رَجُلٍ يَذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَتَوَضّأُ، ثُمّ يُصَلّـي)، قال

أحدهما: (رَكْعَتَـيْنِ) وقال الاَخر: (ثُمّ يُصَلّـي وَيَسْتَغْفِرُ اللّه إلاّ غَفَرَ لَهُ).

حدثنا الزبـير بن بكار، قال: ثنـي سعد بن أبـي سعيد الـمقبري، عن أخيه، عن جده عن علـيّ بن أبـي طالب أنه قال: ما حدثنـي أحد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لـي بـاللّه لهو سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا أبـا بكر، فإنه كان لا يكذب. قال علـيّ رضي اللّه عنه: فحدثنـي أبو بكر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَـيَتَوَضّأُ ثُمّ يُصَلّـي رَكْعَتَـيْنِ، وَيَسْتَغْفِرُ اللّه مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ إلاّ غَفَرهُ اللّه لَهُ).

وأما قوله {ذَكَرُوا اللّه فـاسْتَغْفرُوا لِذُنُوبِهِمْ} فإنه كما بـينا تأويـله¹ وبنـحو ذلك كان أهل التأويـل يقولون.

٦٣٥٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، حدثنا ابن إسحاق: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً}: أي إن أتوا فـاحشة {أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ} بـمعصية ذكروا نهي اللّه عنها، وما حرّم اللّه عنها، فـاستغفروا لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو.

وأما قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّه } فإن اسم اللّه مرفوع، ولا جحد قبله، وإنـما يرفع ما بعده إلا بـاتبـاعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد، كقول القائل: ما فـي الدار أحد إلا أخوك¹ فأما إذا

قـيـل: قام القوم إلا أبـاك، فإن وجه الكلام فـي الأب النصب. و (مَنْ) بصلته فـي قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنْوبَ إلاّ اللّه } معرفة فإن ذلك إنـما جاء رفعا، لأن معنى الكلام: وهل يغفر الذنوب أحد، أو ما يغفر الذنوب أحد إلا اللّه ، فرفع ما بعد إلا من اللّه علـى تأويـل الكلام، لا علـى لفظه.

وأما قوله: {وَلَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـل الإصرار ومعنى الكلـمة

فقال بعضهم: معنى ذلك: لـم يثبتوا علـى ما أتوا من الذنوب، ولـم يقـيـموا علـيه، ولكنهم تابوا واستغفروا، كما وصفهم اللّه به. ذكر من قال ذلك:

٦٣٥٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلَـمْ يُصِرّوا عَلـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} فإياكم والإصرار، فإنـما هلك الـمصرّون الـماضون قُدُما، لا ينهاهم مخافة اللّه عن حرام حرّمه اللّه علـيهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتـى أتاهم الـموت وهم علـى ذلك.

حدثنا الـحسن بن يحيـى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَلَـمْ يِصِرّوا علـى مَا فعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} قال: قُدُما قُدُما فـي معاصي اللّه ، لا ينهاهم مخافة اللّه حتـى جاءهم أمر اللّه .

٦٣٥٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {لا يَصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَـمُونَ}: أي لـم يقـيـموا علـى معصيتـي، كفعل من أشرك بـي فـيـما عملوا به من كفر بـي.

وقال آخرون: معنى ذلك: لـم يواقعوا الذنب إذا هموا به. ذكر من قال ذلك:

٦٣٥٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: {ولَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا} قال: إتـيان العبد ذنبـا إصرارا حتـى يتوب.

٦٣٥٧ـ حدثنـي مـحمد عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَلَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا}

قالوا: لـم يواقعوا.

وقال آخرون: معنى الإصرار: السكوت علـى الذنب، وترك الاستغفـار. ذكر من قال ذلك:

٦٣٥٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {ولـم يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}: أما يصرّوا: فـيسكتوا ولا يستغفروا.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندنا قول من قال: الإصرار الإقامة علـى الذنب عامدا، أو ترك التوبة منه. ولا معنى لقول من قال: الإصرار علـى الذنب: هو مواقعته¹ لأن اللّه عزّ وجلّ مدح بترك الإصرار علـى الذنب مواقع الذنب،

فقال: {وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً أوْ ظَلَـمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فـاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّه ولَـمْ يُصِرّوا علـى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}¹ ولو كان الـمواقع الذنب مصرا بـمواقعته إياه، لـم يكن للاستغفـار وجه مفهوم، لأن الاستغفـار من الذنب إنـما هو التوبة منه والندم، ولا يعرف للاستغفـار من ذنب لـم يواقعه صاحبه وجه. وقد رُوي عن النبـي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِـي الـيَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً).

٦٣٥٩ـ حدثنـي بذلك الـحسين بن يزيد السبـيعي، قال: حدثنا عبد الـحميد الـحمانـي، عن عثمان بن واقد، عن أبـي نصيرة، عن مولـى لأبـي بكر، عن أبـي بكر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

فلو كان مواقع الذنب مصرّا، لـم يكن لقوله (ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِـي الـيَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً) معنى، لأن مواقعة الذنب، إذا كانت هي الإصرار، فلا يزيـل الاسم الذي لزمه معنى غيره، كما لا يزيـل عن الزانـي اسم زان، وعن القاتل اسم قاتل توبته منه، ولا معنى غيرها، وقد أبـان هذا الـخبر أن الـمستغفر من ذنبه غير مصرّ علـيه، فمعلوم بذلك أن الإصرار غير الـموقعة، وأنه الـمقام علـيه علـى ما قلنا قبل.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قولهم: {وَهْمْ يَعْلَـمُونَ}

فقال بعضهم: معناه: وهم يعلـمون أنهم قد أذنبوا. ذكر من قال ذلك:

٦٣٦٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}: فـيعلـمون أنهم قد أذنبوا، ثم أقاموا فلـم يستغفروا.

وقال آخرون: معنى ذلك: وهم يعلـمون أن الذي أتوا معصية اللّه . ذكر من قال ذلك:

٦٣٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ} قال: يعلـمون ما حرمت علـيهم من عبـادة غيري.

قال أبو جعفر: وقد تقدم بـياننا أولـى ذلك بـالصواب.

١٣٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أُوْلَـَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ ...}

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: أولئك الذين ذكر أنه أعدّ لهم الـجنة التـي عرضها السموات والأرض من الـمتقـين، ووصفهم به، ثم قال: هؤلاء الذين هذه صفتهم {جَزَاؤُهُمْ} يعنـي ثوابهم من أعمالهم التـي وصفهم تعالـى ذكره أنهم عملوها، {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ}

يقول: عفو لهم من اللّه عن عقوبتهم علـى ما سلف من ذنوبهم، ولهم علـى ما أطاعوا اللّه فـيه من أعمالهم بـالـحسن منها جنات، وهي البساتـين {تَـجْري مِنْ تَـحْتها الأنْهارُ}

يقول: تـجري خلال أشجارها الأنهار، وفـي أسافلها جزاء لهم علـى صالـح أعمالهم، {خَالِدينَ فـيها} يعنـي دائمي الـمقام فـي هذه الـجنات التـي وصفها، {ونِعْمَ أجْرُ العَامِلـينَ} يعنـي ونعم جزاء العاملـين لله الـجنات التـي وصفها كما:

٦٣٦٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {أُولَئِكَ جَزَاؤْهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَـجْري مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ خالِدِينَ فِـيها وَنِعْمَ أجْرُ العامِلِـينَ}: أي ثواب الـمطيعين.

١٣٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ }

يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} مضت وسلفت منـي فـيـمن كان قبلكم يا معشر أصحاب مـحمد وأهل الإيـمان به، من نـحو قوم عاد وثمود، وقوم هود، وقوم لوط وغيرهم من سُلاف الأمـم قبلكم سنن، يعنـي ثلاث سير بها فـيهم وفـيـمن كذبوا به من أنبـيائهم الذين أرسلوا إلـيهم، بإمهالـي أهل التكذيب بهم، واستدراجي إياهم، حتـى بلغ الكتاب فـيهم أجله الذي أجلته لإدالة أنبـيائهم وأهل الإيـمان بهم علـيهم، ثم أحللت بهم عقوبتـي، ونزلت بساحتهم نقمتـي، فتركتهم لـمن بعدهم أمثالاً وعبرا. {فَسِيرُوا فِـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الـمُكَذّبِـينَ}

يقول: فسيروا أيها الظانون أن إدالتـي من أدلت من أهل الشرك يوم أُحد علـى مـحمد وأصحابه لغير استدراج منـي لـمن أشرك بـي، وكفر برسلـي، وخالف أمري فـي ديار الأمـم الذين كانوا قبلكم، مـمن كان علـى مثل الذي علـيه هؤلاء الـمكذّبون برسولـي، والـجاحدون وحدانـيتـي، فـانظروا كيف كان عاقبة تكذيبهم أنبـيائي، وما الذي آل إلـيه عن خلافهم أمري، وإنكارهم وحدانـيتـي، فتعلـموا عند ذلك أن إدالتـي من أدلت من الـمشركين علـى نبـي مـحمد وأصحابه بأحد، إنـما هي استدراج وإمهال، لـيبلغ الكتاب أجله الذي أجلت لهم، ثم إما أن يئول حالهم إلـى مثل ما آل إلـيه حال الأمـم الذين سلفوا قبلهم من تعجيـل العقوبة علـيهم، أو ينـيبوا إلـى طاعتـي واتبـاع رسولـي.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٣٦٣ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الـمُكَذّبـين} فقال: ألـم تسيروا فـي الأرض، فتنظروا كيف عذّب اللّه قوم نوح، وقوم لوط، وقوم صالـح، والأمـم التـي عذب اللّه عزّ وجلّ؟

٦٣٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}

يقول: فـي الكفـار والـمؤمنـين، والـخير والشر.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} فـي الـمؤمنـين والكفـار.

٦٣٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: استقبل ذكر الـمصيبة التـي نزلت بهم ـ يعنـي بـالـمسلـمين يوم أحد ـ والبلاء الذي أصابهم، والتـمـحيص لـما كان فـيهم، واتـخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم، وتعريفا لهم فـيـما صنعوا وما هو صانع بهم: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ الـمُكذّبِـينَ} أي قد مضت منـي وقائع نقمة فـي أهل التكذيب لرسلـي والشرك بـي: عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فسيروا فـي الأرض تروا مُثلات قد مضت فـيهم، ولـمن كان علـى مثل ما هم علـيه من ذلك منـي، وإن أمكنت لهم: أي لئلا يظنوا أن نقمتـي انقطعت عن عدوّهم وعدّوي للدولة التـي أدلتها علـيكم بها¹ لأبتلـيكم بذلك، لأعلـم ما عندكم.

٦٣٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الـمُكذّبِـينَ}

يقول: متعهم فـي الدنـيا قلـيلاً، ثم صيرهم إلـى النار.

وأما السنن، فإنها جمع سُنّة، والسنّة، هي الـمثال الـمتبع، والإمام الـموتـمّ به، يقال منه: سنّ فلان فـينا سنة خمسة، وسنّ سنة سيئة: إذا عمل عملاً اتبع علـيه من خير وشرّ، ومنه قول لبـيد ابن ربـيعة:

مِنْ مَعْشَرٍ سَنّتْ لَهُمْ آبـاؤُهُمْولِكُلّ قَوْمٍ سُنّةٌ وإمامُها

وقول سلـيـمان بن قَتّة:

وإنّ الأُلَـى بـالطّفّ منْ آلِ هاشمٍتَآسَوْا فَسَنّوا للْكِرَامِ التّآسيا

وقال ابن زيد فـي ذلك ما:

٦٣٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} قال: أمثال.

١٣٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هَـَذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتّقِينَ }

اختلف أهل التأويـل فـي الـمعن الذي أشير إلـيه بهذا،

فقال بعضهم: عَنَى بقوله هذا: القرآن. ذكر من قال ذلك:

٦٣٦٨ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: ثنا: عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْـمُتّقِـينَ} قال: هذا القرآن.

٦٣٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة. قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ} وهو هذا القرآن جعله اللّه بـيانا للناس عامة، وهدى وموعظة للـمتقـين خصوصا.

٦٣٧٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال فـي قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْـمُتّقِـينَ} خاصة.

٦٣٧١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج فـي قوله: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْـمُتّقِـينَ} خاصة.

وقال آخرون: إنـما أشير بقوله هذا إلـى قوله: {قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِـي الأرْضِ فـانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الـمُكَذّبِـينَ} ثم قال: هذا الذي عرفتكم يا معشر أصحاب مـحمد بـيان للناس. ذكر من قال ذلك:

٦٣٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق بذلك.

وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب، قول من قال: قوله هذا إشارة إلـى ما تقدّم هذه الاَية من تذكير اللّه جل ثناؤه الـمؤمنـين، وتعريفهم حدوده، وحضهم علـى لزوم طاعته، والصبر علـى جهاد أعدائه وأعدائهم، لأن قوله هذا إشارة إلـى حاضر، إما مرئي، وإما مسموع، وهو فـي هذا الـموضع إلـى حاضر مسموع من الاَيات الـمتقدمة. فمعنى الكلام: هذا الذي أوضحت لكم وعرّفتكموه، بـيان للناس¹ يعنـي بـالبـيان: الشرح والتفسير. كما

٦٣٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ} أي هذا تفسير للناس إن قبلوه.

٦٣٧٤ـ حدثنا أحمد بن حازم والـمثنى، قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن بـيان، عن الشعبـي: {هَذَا بَـيانٌ للنّاسِ} قال: من العَمَى.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الشعبـي، مثله.

وأما قوله: {وهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} فإنه يعنـي بـالهدى: الدلالة علـى سبـيـل الـحقّ ومنهج الدين، وبـالـموعظة: التذكرة للصواب والرشاد. كما:

٦٣٧٥ـ حدثنا أحمد بن حازم والـمثنى، قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن بـيان، عن الشعبـي: {وَهُدًى} قال: من الضلالة، {وَمَوْعِظَةٌ} من الـجهل.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن بـيان، عن الشعبـي مثله.

٦٣٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {للْـمُتّقِـينَ}: أي لـمن أطاعنـي وعرف أمري.

١٣٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }

وهذا من اللّه تعالـى ذكره تعزية لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى ما أصابهم من الـجراح والقتل بـأُحد، قال: ولا تهنوا ولا تـحزنوا يا أصحاب مـحمد، يعنـي ولا تضعفوا بـالذي نالكم من عدوّكم بـأُحد من القتل والقروح، عن جهاد عدوكم وحربهم، من قول القائل: وهن فلان فـي هذا الأمر فهو يهن وهنا: {وَلا تَـحْزَنُوا}: ولا تأسوا فتـجزعوا علـى ما أصابكم من الـمصيبة يومئذ، فإنكم أنتـم الأعلون، يعنـي الظاهرون علـيهم، ولكم العقبى فـي الظفر والنصرة علـيهم،

يقول: إن كنتـم مؤمنـين،

يقول: إن كنتـم مصدّقـي فـي نبـيـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـيـما يعدكم، وفـيـما ينبئكم من الـخبر عما يئول إلـيه أمركم وأمرهم. كما:

٦٣٧٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن يونس، عن الزهري، قال: كثر فـي أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم القتل والـجراح، حتـى خـلص إلـى كل امرىء منهم الـيأس، فأنزل اللّه عزّ وجلّ القرآن، فآسى فـيه الـمؤمنـين بأحسن ما آسى به قوما من الـمسلـمين كانوا قبلهم من الأمـم الـماضية فقال: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْنُـمْ مُوءْمِنِـينَ} إلـى قوله: {لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِمْ}.

٦٣٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}: يعزّي أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم كما تسمعون، ويحثهم علـى قتال عدوّهم، وينهاهم عن العجز والوهن فـي طلب عدوّهم فـي سبـيـل اللّه .

٦٣٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن، فـي قوله: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ} قال: يأمر مـحمدا

يقول: ولا تهنوا أن تـمضوا فـي سبـيـل اللّه .

٦٣٨٠ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَلاَ تَهْنُوا}: ولا تضعفوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٣٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، فـي قوله: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا}

يقول: ولا تضعفوا.

٦٣٨٢ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَلاَ تَهْنُوا} قال ابن جريج: ولا تضعفوا فـي أمر عدوكم، {وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ} قال: انهزم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الشعب،

فقالوا: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضا، وتـحدثوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، فكانوا فـي همّ وحزن. فبـينـما هم كذلك، إذ علا خالد بن الولـيد الـجبل بخيـل الـمشركين فوقهم وهم أسفل فـي الشعب¹ فلـما رأوا النبـي صلى اللّه عليه وسلم فرحوا، وقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ لا قُوّةَ لَنا إلاّ بِكَ، ولَـيْسَ يَعْبُدُكَ بِهَذِهِ البَلْدَةِ غَيْرُ هَولاءِ النّفَرِ)

قال: وثاب نفر من الـمسلـمين رماة، فصعدوا، فرموا خيـل الـمشركين حتـى هزمهم اللّه ، وعلا الـمسلـمون الـجبل¹ فذلك قوله: {وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}.

٦٣٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلاَ تَهْنُوا} أي لا تضعفوا، {وَلا تَـحْزَنُوا} ولا تأسوا علـى ما أصابكم، {وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ} أي لكم تكون العاقبة والظهور، {إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}: إن كنتـم صدقتـم نبـيـي بـما جاءكم به عنـي.

٦٣٨٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: أقبل خالد بن الولـيد يريد أن يعلو علـيهم الـجبل، فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ لا يَعْلُونَ عَلَـيْنَا!) فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلاَ تَهْنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُوءْمِنِـينَ}.

١٤٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ... }

اختلف القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الـحجاز والـمدينة والبصرة: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} كلاهما بفتـح القاف، بـمعنى: إن يـمسسكم القتل والـجراح يا معشر أصحاب مـحمد، فقد مسّ القوم من أعدائكم من الـمشركين قرح قتل وجراح مثله. وقرأ عامة قراء الكوفة: (إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ).

وأولـى القراءتـين بـالصواب، قراءة من قرأ: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} بفتـح القاف فـي الـحرفـين لإجماع أهل التأويـل علـى أن معناه القتل والـجراح، فذلك يدلّ علـى أن القراءة هي الفتـح. وكان بعض أهل العربـية يزعم أن القَرْح والقُرْح لغتان بـمعنى واحد، والـمعروف عند أهل العلـم بكلام العرب ما قلنا. ذكر من قال: إن القرح الـجراح والقتل:

٦٣٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال: جراح وقتل.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٣٨٦ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن، فـي قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال: إن يقتلوا منكم يوم أُحد، فقد قتلتـم منهم يوم بدر.

٦٣٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}. والقرح: الـجراحة، وذاكم يوم أُحد، فشا فـي أصحاب نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ القتل والـجراحة، فأخبرهم اللّه عزّ وجلّ أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم، وأن الذي أصابكم عقوبة.

٦٣٨٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} قال: ذلك يوم أُحد، فشا فـي الـمسلـمين الـجراح، وفشا فـيهم القتل، فذلك قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}

يقول: إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله، يعزّي أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ويحثهم علـى القتال.

٦٣٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} والقرح: هي الـجراحات.

٦٣٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ} أي جراح، {فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}: أي جراح مثلها.

٦٣٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: نام الـمسلـمون وبهم الكلوم ـ يعنـي يوم أُحد ـ قال عكرمة: وفـيهم أنزلت: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلكَ الأيّامُ نُداوِلِهَا بـينَ الناسِ} وفـيهم أنزلت: {إنْ تَكُونُوا تَأْلَـمُونَ فإنّهُمْ يأْلَـمُونَ كَما تَأْلَـمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه مَا لا يَرْجُونَ}.

وأما تأويـل قوله: {إنْ يَـمسَسْكُمْ قَرْحٌ} فإنه: إن يصبكم. كما:

٦٣٩٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إن يـمْسَسْكُم}: إن يصبكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَتِلكَ الأيّامُ نُدَاوِلهَا بَـيْنَ النّاسِ}.

يعنـي تعالـى ذكره (بقوله): {وتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُها بَـيْنَ النّاسِ} أيام بدر وأُحد، ويعنـي بقوله: {نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ النّاسِ}: نـجعلها دولاً بـين الناس مصرفة، ويعنـي بـالناس: الـمسلـمين والـمشركين. وذلك أن اللّه عزّ وجلّ أدال الـمسلـمين من الـمشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين، وأدال الـمشركين من الـمسلـمين بـأُحد، فقتلوا منهم سبعين سوى من جرحوا منهم، يقال منه: أدال اللّه فلانا من فلان فهو يديـله منه إدالة إذا ظفر به فـانتصر منه مـما كان نال منه الـمدال منه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٣٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ النّاسِ} قال: جعل اللّه الأيام دولاً، أدال الكفـار يوم أحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٦٣٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ}: إنه واللّه لولا الدول ما أوذي الـمؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من الـمؤمن، ويبتلـى الـمؤمن بـالكافر لـيعلـم اللّه من يطيعه مـمن يعصيه ويعلـم الصادق من الكاذب.

٦٣٩٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} فأظهر اللّه عزّ وجلّ نبـيه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه علـى الـمشركين يوم بدر، وأظهر علـيهم عدوّهم يوم أُحد. وقد يدال الكافر من الـمؤمن، ويبتلـى الـمؤمن بـالكافر، لـيعلـم اللّه من يطيعه مـمن يعصيه ويعلـم الصادق من الكاذب، وأما من ابتلـي منهم من الـمسلـمين يوم أُحد، فكان عقوبة بـمعصيتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٦٣٩٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ}: يوما لكم، ويوما علـيكم.

٦٣٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج:

قال ابن عبـاس : {نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} قال: أدال الـمشركين علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد.

٦٣٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} فإنه كان يوم أُحد بـيوم بدر، قتل الـمؤمنون يوم أُحد، اتـخذ اللّه منهم شهداء، وغلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر الـمشركين، فجعل له الدولة علـيهم.

٦٣٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما كان قتال أُحد، وأصاب الـمسلـمين ما أصاب، صعد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الـجبل، فجاء أبو سفـيان،

فقال: يا مـحمد، يا مـحمد، ألا تـخرج، ألا تـخرج؟ الـحرب سجال، يوم لنا، ويوم لكم! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: (أَجِيبُوهُ!)

فقالوا: لا سواء لا سواء، قتلانا فـي الـجنة، وقتلاكم فـي النار. فقال أبو سفـيان: لنا عزّى، ولا عزّى لكم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قُولُوا: اللّه مَوْلانا وَلا مَوْلَـى لَكُمْ). فقال أبو سفـيان: اعل هبل! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، (قُولُوا: اللّه أعلَـى وأجَلّ). فقال أبو سفـيان: موعدكم وموعدنا بدر الصغرى. قال عكرمة: وفـيهم أنزلت: {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ}.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابن الـمبـارك. عن ابن جريج. عن ابن عبـاس ، فـي قوله: {وَتِلْكَ الأيامُ نُداوِلُهَا بَـيْنَ النّاسِ}: فإنه أدال علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد.

٦٤٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَتِلَكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَ بَـيَنَ النّاسِ}: أي نصرفها للناس بـالبلاء والتـمـحيص.

٦٤٠١ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد اللّه ، أخبرنا عبد اللّه بن عبد الوهاب الـحجبـي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن مـحمد فـي قول اللّه : {وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَـيْنَ الناسِ} قال: يعنـي الأمراء.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّه لا يُحبّ الظّالِـمينَ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولـيعلـم اللّه الذين آمنوا ويتـخذ منكم شهداء نداولها بـين الناس. ولو لـم يكن فـي الكلام واو لكان قوله: (لـيعلـم) متصلاً بـما قبله، وكان: وتلك الأيام نداولها بـين الناس لـيعلـم اللّه الذين آمنوا. ولكن لـما دخـلت الواو فـيه آذنت بأن الكلام متصل بـما قبلها، وأن بعدها خبرا مطلوبـا للام التـي فـي قوله: (ولـيعلـم)، متعلقة به.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا} معرفة، وأنت لا تستـجيز فـي الكلام: قد سألت فعلـمت عبد اللّه ، وأنت تريد: علـمت شخصه، إلا أن تريد: علـمت صفته وما هو؟

قـيـل: إن ذلك إنـما جاز مع الذين، لأن فـي (الذين) تأويـل (مَنْ) و(أيّ)، وكذلك جائز مثله فـي الألف واللام، كما قال تعالـى ذكره: {فَلَـيَعْلَـمَنّ اللّه الّذِينَ صَدَقُوا وَلَـيَعْلَـمَنّ الكاذِبِـينَ} لأن فـي الألف واللام من تأويـل (أيّ)، و(من) مثل الذي فـي (الذي). ولو جعل مع الاسم الـمعرفة اسم فـيه دلالة علـى (أيّ) جاز، كما يقال: سألت لأعلـم عبد اللّه من عمرو، ويراد بذلك: لأعرف هذا من هذا.

فتأويـل الكلام: ولـيعلـم اللّه الذين آمنوا منكم أيها القوم من الذين نافقوا منكم، نداول بـين الناس، فـاستغنى بقوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا منكم} عن ذكر قوله: {مِنَ الّذِينَ نافَقُوا} لدلالة الكلام علـيه، إذ كان فـي قوله: {الّذِينَ آمَنُوا} تأويـل (أيّ) علـى ما وصفنا. فكأنه

قـيـل: ولـيعلـم اللّه أيكم الـمؤمن، كما قال جل ثناؤه: {لنَعْلَـمَ أيّ الـحِزْبَـيْنِ أحْصَى} غير أن الألف واللام والذي ومِن، إذا وضعت مع العلـم موضع أيّ نصبت بوقوع العلـم علـيه، كما

قـيـل: ولـيعلـمنّ الكاذبـين، فأما (أيّ) فإنها ترفع.

وأما قوله: {وَيَتّـخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} فإنه يعنـي: ولـيعلـم اللّه الذين آمنوا، ولـيتـخذ منكم شهداء: أي لـيكرم منكم بـالشهادة من أراد أن يكرمه بها. والشهداء جمع شهيد¹ كما:

٦٤٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} أي لـيـميز بـين الـمؤمنـين والـمنافقـين، ولـيكرم من أكرم من أهل الإيـمان بـالشهادة.

٦٤٠٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك قراءة علـى ابن جريج فـي قوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} قال: فإن الـمسلـمين كانوا يسألون ربهم: ربنا أرنا يوما كيوم بدر، نقاتل فـيه الـمشركين، ونُبْلـيكَ فـيه خيرا، ونلتـمس فـيه الشهادة! فلقوا الـمشركين يوم أُحد، فـاتـخذ منهم شهداء.

٦٤٠٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} فكرّم اللّه أولـياءه بـالشهادة بأيدي عدوّهم، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة اللّه .

٦٤٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} قال:

قال ابن عبـاس : كانوا يسألون الشهادة، فلقوا الـمشركين يوم أُحد، فـاتـخذ منهم شهداء.

٦٤٠٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَلـيَعْلَـمَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّـخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ} كان الـمسلـمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر، يبلون فـيه خيرا، ويرزقون فـيه الشهادة، ويرزقون الـجنة والـحياة والرزق. فلقـي الـمسلـمون يوم أُحد فـاتـخذ اللّه منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم اللّه عزّ وجلّ،

فقال: {وَلا تَقُولُوا لِـمَنْ يُقتَلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتٌ}.. الاَية.

وأما قوله: {وَاللّه لا يُحِبّ الظالِـمِينَ} فإنه يعنـي به: الذين ظلـموا أنفسهم بـمعصيتهم ربهم. كما:

٦٤٠٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه لا يُحِبّ الظّالِـمِينَ}: أي الـمنافقـين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرّة علـى الـمعصية.

١٤١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلِيُمَحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا}: ولـيختبر اللّه الذين صدقوا اللّه ورسوله فـيبتلـيهم بإدالة الـمشركين منهم حتـى يتبـين الـمؤمن منهم الـمخـلص الصحيح الإيـمان من الـمنافق. كما:

٦٤٠٨ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله، فـي قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا} قال: لـيبتلـي.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٤٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا} قال: لـيـمـحص اللّه الـمؤمن حتـى يصدق.

٦٤١٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا}

يقول: يبتلـي الـمؤمنـين.

٦٤١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا} قال: يبتلـيهم.

٦٤١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} فكان تـمـحيصا للـمؤمنـين، ومـحقا للكافرين.

٦٤١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا}: أي يختبر الذين آمنوا حتـى يخـلصهم بـالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقـينهم.

٦٤١٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلِـيُـمَـحّصَ اللّه الّذِينَ آمَنُوا ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} قال: يـمـحق من مُـحق فـي الدنـيا، وكان بقـية من يـمـحق فـي الاَخرة فـي النار.

وأما قوله: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} فإنه يعنـي به: أنه ينقصهم ويفنـيهم، يقال منه: مـحق فلان هذا الطعام: إذا نقصه أو أفناه، يـمـحقه مـحقا، ومنه قـيـل لـمـحاق القمر: مُـحاق، وذلك نقصانه وفناؤه. كما:

٦٤١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} قال: ينقصهم.

٦٤١٦ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} قال: يـمـحق الكافر حتـى يكذبه.

٦٤١٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ويَـمْـحَقَ الكافِرينَ} أي يبطل من الـمنافقـين قولهم بألسنتهم ما لـيس فـي قلوبهم، حتـى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به منكم.

١٤٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أم حسبتـم يا معشر أصحاب مـحمد، وظننتـم أن تدخـلوا الـجنة، وتنالوا كرامة ربكم، وشرف الـمنازل عنده¹ {وَلـمّا يَعلَـمِ اللّه الّذِينَ جاهَدُوا مِنَكُمْ}

يقول: ولـما يتبـين لعبـادي الـمؤمنـين، الـمـجاهد منكم فـي سبـيـل اللّه ، علـى ما أمره به. وقد بـينت معنى قوله: {وَلـمّا يَعلَـمِ اللّه }: ولـيعلـم اللّه ، وما أشبه ذلك بأدلته فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته

وقوله: {وَيَعْلَـمَ الصّابِرِينَ} يعنـي: الصابرين عند البأس علـى ما ينالهم فـي ذات اللّه من جرح وألـم ومكروه. كما:

٦٤١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّةَ} وتصيبوا من ثوابـي الكرامة، ولـم أختبركم بـالشدّة، وأبتلـيكم بـالـمكاره، حتـى أعلـم صدق ذلك منكم الإيـمان بـي، والصبر علـى ما أصابكم فـيّ.

ونصب {وَيَعْلَـمَ الصّابِرِينَ} علـى الصرف، والصرف أن يجتـمع فعلان ببعض حروف النسق، وفـي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق، فـينصب الذي بعد حرف العطف علـى الصرف، لأنه مصروف عن معنى الأوّل، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي فـي أول الكلام، وذلك كقولهم: لا يسعنـي شيء ويضيق عنك، لأن (لا) التـي مع (يسعنـي) لا يحسن إعادتها مع قوله: (ويضيق عنك)، فلذلك نصب. والقراء فـي هذا الـحرف علـى النصب¹ وقد روى عن الـحسن أنه كان يقرأ: (وَيَعْلَـمِ الصّابِرِينَ) فـيكسر الـميـم من (يعلـم)، لأنه كان ينوي جزمها علـى العطف به علـى قوله: {وَلـمّا يَعْلَـمِ اللّه }.

١٤٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ}: ولقد كنتـم يا معشر أصحاب مـحمد تـمنون الـموت يعنـي أسبـاب الـموت وذلك القتال¹ {فقدْ رَأيتـموه} فقد رأيتـم ما كنتـم تـمنونه. والهاء فـي قوله (رأيتـموه)، عائدة علـى الـموت، ومعنى: {وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ} يعنـي: قد رأيتـموه بـمرأى منكم ومنظر: أي بقرب منكم. وكان بعض أهل العربـية يزعم أنه

قـيـل: {وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ} علـى وجه التوكيد للكلام، كما يقال: رأيته عيانا، ورأيته بعينـي، وسمعته بأذنـي¹ وإنـما

قـيـل: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ} لأن قوما من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مـمن لـم يشهد بدرا، كانوا يتـمنون قبل أُحد يوما مثل يوم بدر، فـيِبلوا اللّه من أنفسهم خيرا، وينالوا من الأجر مثل ما نال أهل بدر¹ فلـما كان يوم أُحد فرّ بعضهم وصبر بعضهم، حتـى أوفـى بـما كان عاهد اللّه قبل ذلك، فعاتب اللّه من فرّ منهم،

فقال: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ}.. الاَية، وأثنى علـى الصابرين منهم والـموفـين بعهدهم. ذكر الأخبـار بـما ذكرنا من ذلك:

٦٤١٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ} قال: غاب رجال عن بدر، فكانوا يتـمنون مثل يوم بدر أن يـلقوه، فـيصيبوا من الـخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر. فلـما كان يوم أُحد ولـى من ولـى، فعاتبهم اللّه ـ أو فعابهم، أو فعتبهم ـ علـى ذلك، شك أبو عاصم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد نـحوه، إلا أنه قال: فعاتبهم اللّه علـى ذلك، ولـم يشكّ.

٦٤٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنُتـمْ تَنْظُرُونَ}: أناس من الـمؤمنـين لـم يشهدوا يوم بدر والذي أعطى اللّه أهل بدر من الفضل والشرف والأجر، فكانوا يتـمنون أن يرزقوا قتالاً فـيقاتلوا، فسيق إلـيهم القتال حتـى كان فـي ناحية الـمدينة يوم أُحد، فقال اللّه عزّ وجلّ كما تسمعون: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ} حتـى بلغ: {الشّاكِرِينَ}.

٦٤٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ} قال: كانوا يتـمنون أن يـلقوا الـمشركين فـيقاتلوهم، فلـما لقوهم يوم أُحد ولّوا.

٦٤٢٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: إن أناسا من الـمؤمنـين لـم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم اللّه من الفضل، فكانوا يتـمنون أن يروا قتالاً فـيقاتلوا، فسيق إلـيهم القتال، حتـى كان بناحية الـمدينة يوم أُحد، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ}.. الاَية.

٦٤٢٣ـ حدثنـي مـحمد بن بشار، قال: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، قال: بلغنـي أن رجالاً من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كانوا يقولون: لئن لقـينا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ! فـابتلوا بذلك، فلا واللّه ما كلهم صدق، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ}.

٦٤٢٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: كان ناس من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـم يشهدوا بدرا، فلـما رأوا فضيـلة أهل بدر،

قالوا: اللهمّ إنا نسألك أن ترينا يوما كيوم بدر، نبلـيك فـيه خيرا! فرأوا أُحدا، فقال لهم: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقدْ رأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ}.

٦٤٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ كُنتُـمْ تَـمَنّوْنَ الـمَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رأيتُـمُوهُ وأنتُـمْ تَنْظُرُونَ}: أي لقد كنتـم تـمنون الشهادة علـى الذي أنتـم علـيه من الـحقّ قبل أن تلقوا عدوكم، يعنـي الذين حملوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى خروجه بهم إلـى عدوّهم لـما فـاتهم من الـحضور فـي الـيوم الذي كان قبله ببدر، رغبة فـي الشهادة التـي قد فـاتتهم به

يقول: {فقدْ رَأيْتُـمُوهُ وأنْتُـمْ تَنْظُرُونَ}: أي الـموت بـالسيوف فـي أيدي الرجال، قد حلّ بـينكم وبـينهم، وأنتـم تنظرون إلـيهم، فصددتـم عنهم.

١٤٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ...}

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما مـحمد إلا رسول كبعض رسل اللّه الذين أرسلهم إلـى خـلقه داعيا إلـى اللّه وإلـى طاعته، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم اللّه إلـيه يقول. جلّ ثناؤه: فمـحمد صلى اللّه عليه وسلم إنـما هو فـيـما اللّه به صانع من قبضه إلـيه عند انقضاء مدة أجله كسائر مدة رسله إلـى خـلقه الذين مضوا قبله وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم. ثم قال لأصحاب مـحمد معاتبهم علـى ما كان منهم من الهلع والـجزع حين قـيـل لهم بـأُحد: إن مـحمدا قتل، ومقبحا إلـيهم انصراف من انصرف منهم عن عدوّهم وانهزامه عنهم: {أفِئنْ مَاتَ} مـحمد أيها القوم لانقضاء مدة أجله، أو قتله عدوّكم، {انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقَابِكُمْ} يعنـي ارتددتـم عن دينكم الذي بعث اللّه مـحمدا بـالدعاء إلـيه، ورجعتـم عنه كفـارا بـاللّه بعد الإيـمان به، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم مـحمد إلـيه، وحقـيقة ما جاءكم به من عند ربه. {وَمَنْ يَنقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ} يعنـي بذلك: ومن يرتدد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيـمانه، {فَلَنْ يَضُرّ اللّه شَيْئا}

يقول: فلن يوهن ذلك عزّة اللّه ولا سلطانه، ولا يدخـل بذلك نقص فـي ملكه، بل نفسه يضرّ بردته، وحظّ نفسه ينقص بكفره. {وَسَيَجزِي اللّه الشّاكِرِين}

يقول: وسيثـيب اللّه من شكره علـى توفـيقه وهدايته إياه لدينه بنبوّته علـى ما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم إن هو مات أو قتل واستقامته علـى منهاجه، وتـمسكه بدينه وملته بعده. كما:

٦٤٢٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن هاشم، قال: أخبرنا سيف بن عمر، عن أبـي روق، عن أبـي أيوب، عن علـيّ فـي قوله: {وَسَيَجزِي اللّه الشّاكِرِين}: الثابتـين علـى دينهم أبـا بكر وأصحابه. فكان علـيّ رضي اللّه عنه

يقول: كان أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أحبـاء اللّه ، وكان أشكرهم وأحبهم إلـى اللّه .

٦٤٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر، قال: إن أبـا بكر أمين الشاكرين. وتلا هذه الاَية: {وَسَيَجزِي اللّه الشّاكِرِين}.

٦٤٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَسَيَجزِي اللّه الشّاكِرِين}: أي من أطاعه وعمل بأمره.

وذكر أن هذه الاَية أنزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيـمن انهزم عنه بـأُحد من أصحابه. ذكر الأخبـار الواردة بذلك:

٦٤٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ} إلـى قوله: {وَسَيَجزِي اللّه الشّاكِرِين} ذاكم يوم أُحد حين أصابهم القرح والقتل، ثم تنازعوا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقـية ذلك، فقال أناس: لو كان نبـيا ما قتل

وقال أناس من علـية أصحاب نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: قاتلوا علـى ما قاتل علـيه مـحمد نبـيكم، حتـى يفتـح اللّه لكم، أو تلـحقوا به. فقال اللّه عزّ وجلّ: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ}

يقول: إن مات نبـيكم، أو قتل، ارتددتـم كفـارا بعد إيـمانكم.

٦٤٣٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بنـحوه، وزاد فـيه: قال الربـيع: وذكر لنا واللّه أعلـم أن رجلاً من الـمهاجرين مر علـى رجل من الأنصار وهو يتشحط فـي دمه،

فقال: يا فلان أشعرت أن مـحمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان مـحمد قد قتل، فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم! فأنزل اللّه عز وجل: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أفِئنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ؟}

يقول: ارتددتـم كفـارا بعد إيـمانكم.

٦٤٣١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما برز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد إلـيهم ـ يعنـي إلـى الـمشركين ـ أمر الرماة فقاموا بأصل الـجبل فـي وجه خيـل الـمشركين، وقال: (لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ، فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ) وأمّر علـيهم عبد اللّه بن جبـير أخا خوات بن جبـير. ثم شد الزبـير بن العوام والـمقداد بن الأسود علـى الـمشركين، فهزماهم، وحمل النبـي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فهزموا أبـا سفـيان¹ فلـما رأى ذلك خالد بن الولـيد وهو علـى خيـل الـمشركين قدم، فرمته الرماة فـانقمع. فلـما نظر الرماة إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـي جوف عسكر الـمشركين ينتهونه، بـادروا الغنـيـمة،

فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم! فـانطلق عامتهم فلـحقوا بـالعسكر¹ فلـما رأى خالد قلة الرماح، صاح فـي خيـله، ثم حمل فقتل الرماة، وحمل علـى أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلـما رأى الـمشركون أن خيـلهم تقاتل، تبـادروا فشدّوا علـى الـمسلـمين فهزموهم وقتلوهم، فأتـى ابن قميئة الـحارثـي أحد بنـي الـحارث بن عبد مناف بن كنانة، فرمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحجر فكسر أنفه وربـاعيته، وشجّه فـي وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، ودخـل بعضهم الـمدينة، وانطلق بعضهم فوق الـجبل إلـى الصخرة، فقاموا علـيها، وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو الناس: (إلـيّ عبـادَ اللّه ! إلـيّ عِبـادَ اللّه !) فـاجتـمع إلـيه ثلاثون رجلاً، فجعلوا يسيرون بـين يديه، فلـم يقـف أحد إلا طلـحة وسهل بن حنـيف، فحماه طلـحة، فُرمي بسهم فـي يده فـيبست يده، وأقبل أبـيّ بن خـلف الـجمـحيّ ـ وقد حلف لـيقتلنّ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (بَلْ أنا أقْتُلُكَ) ـ فقال: يا كَذّاب أين تفرّ؟ فحمل علـيه فطعنه النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـي جنب الدرع، فجرح جرحا خفـيفـا، فوقع يخور خوران الثور، فـاحتـملوه و

قالوا: لـيس بك جراحة، قال: ألـيس قال: لأقتلنك؟ لو كانت لـجميع ربـيعة ومضر لقتلتهم. ولـم يـلبث إلا يوما أو بعض يوم حتـى مات من ذلك الـجرح. وفشا فـي الناس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: لـيت لنا رسولاً إلـى عبد اللّه بن أبـيّ، فنأخذ لنا أمنة من أبـي سفـيان! يا قوم إن مـحمدا قد قتل، فـارجعوا إلـى قومكم قبل أن يأتوكم فـيقتلوكم! قال أنس بن النضر: يا قوم إن كان مـحمد قد قتل، فإنّ ربّ مـحمد لـم يقتل، فقاتلوا علـى ما قاتل علـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم! اللهمّ إنـي أعتذر إلـيك مـما يقول هؤلاء، وأبرأ إلـيك مـما جاء به هؤلاء. ثم شدّ بسيفه فقاتل حتـى قتل. وانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو الناس حتـى انتهى إلـى أصحاب الصخرة¹ فلـما رأوه وضع رجل سهما فـي قوسه فأراد أن يرميه،

فقال: (أنا رَسُولُ اللّه )، ففرحوا حين وجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيا، وفرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رأى أن فـي أصحابه من يـمتنع. فلـما اجتـمعوا وفـيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ذهب عنهم الـحزن، فأقبلوا يذكرون الفتـح وما فـاتهم منه ويذكرون أصحابه الذين قتلوا، فقال اللّه عزّ وجلّ للذين

قالوا: إن مـحمدا قد قتل فـارجعوا إلـى قومكم: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ ...}.

٦٤٣٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ} قال: يرتد.

٦٤٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن أبـيه¹ وحدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن أبـيه: أن رجلاً من الـمهاجرين مرّ علـى رجل من الأنصار وهو يتشحط فـي دمه،

فقال: يا فلان أشعرت أن مـحمدا قد قتل؟ فقال الأنصاريّ: إن كان مـحمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.

٦٤٣٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: ثنـي القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخو بنـي عبد النـجار، قال: انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلـى عمر وطلـحة بن عبـيد اللّه فـي رجال من الـمهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم،

فقال: ما يجلسكم؟

قالوا: قد قتل مـحمد رسول اللّه

قال: فما تصنعون بـالـحياة بعده؟ قوموا فموتوا علـى ما مات علـيه رسول اللّه ! واستقبل القوم فقاتل حتـى قتل. وبه سمي أنس بن مالك.

٦٤٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبوزهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: ألا إن مـحمدا قد قتل، فـارجعوا إلـى دينكم الأوّل! فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}.. الاَية.

٦٤٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: ألقـي فـي أفواه الـمسلـمين يوم أُحد أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قد قُتِل، فنزلت هذه الاَية: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}.. الاَية.

٦٤٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ علـى أكمة، والناس يفرّون، ورجل قائم علـى الطريق يسألهم: ما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ وجعل كلـما مرّوا علـيه يسألهم، فـيقولون: واللّه ما ندري ما فعل! فقال: والذي نفسي بـيده لئن كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قتل لنعطينهم بأيدينا، إنهم لعشائرنا وإخواننا! و

قالوا: إن مـحمدا إن كان حيا لـم يهزم، ولكنه قد قتل، فترخصوا فـي الفرار حينئذ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ علـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}.. الاَية.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ}.. الاَية: ناس من أهل الارتـياب والـمرض والنفـاق، قالوا يوم فرّ الناس عن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وشجّ فوق حاجبه، وكسرت ربـاعيته: قتل مـحمد، فـالـحقوا بدينكم الأوّل! فذلك قوله: {أفَئِنْ ماتَ أوْ قُتِل انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ}.

٦٤٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أفَئِنْ مات أوْ قُتِل انْقَلَبْتُـمْ علـى أعْقابِكُمْ}؟ قال: ما بـينكم وبـين أن تدعو الإسلام وتنقلبوا علـى أعقابكم، إلا أن يـموت مـحمد أو يقتل، فسوق يكون أحد هذين، فسوف يـموت أو يقتل.

٦٤٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَما مُـحَمّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَـلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ} إلـى قوله: {وَسَيَجزِي اللّه الشّاكِرِين}: أي لقول الناس قتل مـحمد، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوّهم، أي أفَئِنْ مات نبـيكم أو قتل رجعتـم عن دينكم كفـارا كما كنتـم، وتركتـم جهاد عدوكم وكتاب اللّه ، وما قد خـلف نبـيه من دينه معكم وعندكم¹ وقد بـين لكم فـيـما جاءكم عنـي أنه ميت ومفـارقكم؟ {ومَنْ يَنْقَلِبْ علـى عَقِبَـيْهِ}: أي يرجع عن دينه، {فَلَنْ يَضُرّ اللّه شَيْئا}: أي لن ينقص ذلك من عزّ اللّه ولا ملكه ولا سلطانه.

٦٤٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قال: أهل الـمرض والارتـياب والنفـاق، حين فرّ الناس عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: قد قتل مـحمد، فألـحقوا بدينكم الأول! فنزلت هذه الاَية.

ومعنى الكلام: وما مـحمد إلا رسول قد خـلت من قبله الرسل، أفتنقلبون علـى أعقابكم إن مات مـحمد أو قتل؟ ومن ينقلب علـى عقبـيه فلن يضرّ اللّه شيئا! فجعل الاستفهام فـي حرف الـجزاء، ومعناه أن يكون فـي جوابه (خبر) وكذلك كل استفهام دخـل علـى جزاء، فمعناه أن يكون فـي جوابه (خبر) لأن الـجواب خبر يقوم بنفسه والـجزاء شرط لذلك الـخبر ثم يجزم جوابه وهو كذلك، ومعناه الرفع لـمـجيئه بعد الـجزاء، كما قال الشاعر:

حَلَفْتُ لَهُ إنْ تُدلِـجِ اللّـيـلَ لا يَزلْأمامَك بَـيْتٌ مِنْ بَـيُوِتـيَ سائِرُ

فمعنى (لا يزل) رفع، ولكنه جزم لـمـجيئه بعد الـجزاء فصار كالـجواب. ومثله: {أفَئِنْ مُتّ فَهُمُ الـخالدونَ} و{فَكيفَ تتقونَ إنْ كفرتـم} ولو كان مكان فهم الـخالدون يخـلدون¹

وقـيـل: أفَئِنْ متّ يخـلدوا جاز الرفع فـيه والـجزم، وكذلك لو كان مكان (انقلبتـم) (تنقلبوا) جاز الرفع والـجزم لـما وصفت قبل. وتركت إعادة الاستفهام ثانـية مع قوله: (انقلبتـم) اكتفـاء بـالاستفهام فـي أول الكلام، وأن الاستفهام فـي أوله دالّ علـى موضعه ومكانه. وقد كان بعض القراء يختار فـي قوله: {أئِذا مِتْنَا وكُنّا تُرابـا وعظاما أئِنّا لَـمْبعُوثُون} ترك إعادة الاستفهام مع (أئنا)، اكتفـاء بـالاستفهام فـي قوله: {أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُرابـا}، ويستشهد علـى صحة وجه ذلك بـاجتـماع القراء علـى تركهم إعادة الاستفهام مع قوله: (انقلبتـم)، اكتفـاء بـالاستفهام فـي قوله: {أفَئِنْ مات} إذا كان دالاّ علـى معنى الكلام وموضع الاستفهام منه، وكان يفعل مثل ذلك فـي جميع القرآن، وسنأتـي علـى الصواب من القول فـي ذلك إن شاء اللّه إذا انتهينا إلـيه.

١٤٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّه ...}

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: وما يـموت مـحمد ولا غيره من خـلق اللّه إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله اللّه غاية لـحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه اللّه له وأذن له بـالـموت فحينئذ يـموت، فأما قبل ذلك فلن تـموت بكيد كائد ولا بحيـلة مـحتال. كما:

٦٤٤١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَـمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّه كِتابـا مُؤَجّلاً}: أي أن لـمـحمد أجلاً هو بـالغه إذا أذن اللّه له فـي ذلك كان.

 إن معنى ذلك: وما كانت نفس لتـموت إلا بإذن اللّه .

وقد اختلف أهل العربـية فـي معنى الناصب قوله: {كِتابـا مُؤجّلاً}¹ فقال بعض نـحويـي البصرة: هو توكيد، ونصبه علـى: كتب اللّه كتابـا مؤجلاً، قال: وكذلك كل شيء فـي القرآن من قوله (حقّا)، إنـما هو: أحقّ ذلك حقّا، وكذلك: {وَعْدَ اللّه } و{رحْمَةً مِنْ رَبّكَ} وَ{صُنْعَ اللّه الّذِي أتْقَنَ كلّ شيءٍ} و{كِتَابَ اللّه عَلَـيكُمْ} إنـما هو: صنع اللّه هكذا صنعا، فهكذا تفسير كل شيء فـي القرآن من نـحو هذا، فإنه كثـير.

وقال بعض نـحويـي الكوفة فـي قوله: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَـمُوتَ إلاّ بإذْنِ اللّه } معناه: كتب اللّه آجال النفوس، ثم

قـيـل: كتابـا مؤجلاً، فأخرج قوله: كتابـا مؤجلاً، نصبـا من الـمعنى الذي فـي الكلام، إذ كان قوله: {وَما كان لِنَفْسٍ أنْ تَـمُوتَ إلاّ بـاذْنِ اللّه } قد أدّى عن معنى (كتب)، قال: وكذلك سائر ما فـي القرآن من نظائر ذلك، فهو علـى هذا النـحو.

وقال آخرون منهم: قول القائل: زيد قائم حقا، بـمعنى: أقول زيد قائم حقا، لأن كل كلام قول، فأدّى الـمقول عن القول، ثم خرج ما بعده منه، كما تقول: أقول قولاً حقّا، وكذلك ظنّا ويقـينا، وكذلك وَعْدَ اللّه ، وما أشبهه.

والصواب من القول فـي ذلك عندي، أن كل ذلك منصوب علـى الـمصدر من معنى الكلام الذي قبله، لأن فـي كل ما قبل الـمصادر التـي هي مخالفة ألفـاظها ألفـاظ ما قبلها من الكلام معانـي ألفـاظ الـمصادر وإن خالفها فـي اللفظ فنصبها من معانـي ما قبلها دون ألفـاظه.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: من يرد منكم أيها الـمؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنـيا دون ما عند اللّه من الكرامة، لـمن ابتغى بعمله ما عنده {نُؤْتِهِ مِنْها}

يقول: نعطه منها، يعنـي: من الدنـيا، يعنـي: أنه يعطيه منها ما قسم له فـيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له فـي كرامة اللّه التـي أعدّها لـمن أطاعه، وطلب ما عنده فـي الاَخرة. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ}

يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الاَخرة، يعنـي ما عند اللّه من كرامته التـي أعدّها للعاملـين له فـي الاَخرة، {نُؤْتِهِ مِنْهَا}

يقول: نعطه منها، يعنـي من الاَخرة¹ والـمعنى: من كرامة اللّه التـي خصّ بها أهل طاعته فـي الاَخرة. فخرج الكلام علـى الدنـيا والاَخرة، والـمعنى ما فـيهما. كما:

٦٤٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ومَنْ يُرِدْ ثَواب الدّنـيْا نُؤْتِهِ مِنْها وَمْن يُرِدْ ثَوابَ الاَخِرِةِ نُؤْتِهِ مِنْها}: أي فمن كان منكم يريد الدنـيا لـيست له رغبة فـي الاَخرة، نؤته ما قسم له منها من رزق، ولا حظّ له فـي الاَخرة، ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها ما وعده مع ما يُجْرَى علـيه من رزقه فـي دنـياه.

وأما قوله: {وَسَنَـجْزِي اللّه الشّاكِرِين}

يقول: وسأثـيب من شكر لـي ما أولـيته من إحسانـي إلـيه بطاعته إياي وانتهائه إلـى أمري وتـجنبه مـحارمي فـي الاَخرة، مثل الذي وعدت أولـيائي من الكرامة علـى شكرهم إياي

وقال ابن إسحاق فـي ذلك بـما:

٦٤٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَسَنَـجْزِي اللّه الشّاكِرِين} أي ذلك جزاء الشاكرين، يعنى بذلك: إعطاء اللّه إياه ما وعده فـي الاَخرة مع ما يجرى علـيه من الرزق فـي الدنـيا.

١٤٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ... }

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {وكَأَيّنْ} بهمز الألف وتشديد الـياء وقرأه آخرون: بـمدّ الألف وتـخفـيف الـياء. وهما قراءتان مشهورتان فـي قراءة الـمسلـمين، ولغتان معروفتان لا اختلاف فـي معناهما، فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك قارىء فمصيب، لاتفـاق معنى ذلك وشهرتهما فـي كلام العرب. ومعناه: وكم من نبـيّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ}.

اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ}¹ فقرأ ذلك جماعة من قراء الـحجاز والبصرة: (قُتِل) بضم القاف، وقرأه جماعة أخرى بفتـح القاف وبـالألف، وهي قراءة جماعة من قراء الـحجاز والكوفة. فأما من قرأ {قَاتَلَ} فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا لـم يكن لقوله: {فمَا وهَنُوا} وجه معروف، لأنه يستـحيـل أن يوصفوا بأنهم لـم يهنوا ولـم يضعفوا بعد ما قتلواوأما الذين قرءوا ذلك: (قتل)، فإنهم

قالوا: إنـما عنى بـالقتل النبـيّ وبعض من معه من الربـيـين دون جميعهم، وإنـما نفـى الوهن والضعف عمن بقـي من الربـيـين مـمن لـم يقتل.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب، قراءة من قرأ بضمّ القاف: (قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) لأن اللّه عزّ وجلّ إنـما عاتبَ بهذه الاَية، والاَيات التـي قبلها من قوله: {أمْ حَسِبْتُـمْ أنْ تَدْخُـلُوا الـجَنّة ولـمّا يَعْلَـمِ اللّه الّذِين جاهَدُوا مِنْكُمْ} الذين انهزموا يوم أُحد، وتركوا القتال، أو سمعوا الصائح يصيح: إن مـحمدا قد قتل، فعذلهم اللّه عزّ وجلّ علـى فرارهم وتركهم القتال،

فقال: أفَئِنْ مات مـحمد أو قتل أيها الـمؤمنون ارتددتـم عن دينكم، وانقلبتـم علـى أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثـير من أتبـاع الأنبـياء قبلهم وقال لهم: هلا فعلتـم كما كان أهل الفضل والعلـم من أتبـاع الأنبـياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبـيهم من الـمضيّ علـى منهاج نبـيهم والقتال علـى دينه أعداء دين اللّه علـى نـحو ما كانوا يقاتلون مع نبـيهم، ولـم تهنوا ولـم تضعفوا كما لـم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلـم والبصائر من أتبـاع الأنبـياء إذا قتل نبـيهم، ولكنهم صبروا لأعدائهم حتـى حكم اللّه بـينهم وبـينهم! وبذلك من التأويـل جاء تأويـل الـمتأوّل.

وأما (الرّبّـيّون)، فإنهم مرفوعون بقوله: (معه)، لا بقوله: (قتل).

وإنـما تأويـل الكلام: وكائن من نبـيّ قتل ومعه ربـيون كثـير، فما وهنوا لـما أصابهم فـي سبـيـل اللّه . وفـي الكلام إضمار واو، لأنها واو تدلّ علـى معنى حال قتل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، غير أنه اجتزأ بدلالة ما ذكر من الكلام علـيها من ذكرها، وذلك كقول القائل فـي الكلام: قتل الأمير معه جيش عظيـم، بـمعنى: قتل ومعه جيش عظيـم.

وأما الرّبّـيّون، فإن أهل العربـية اختلفوا فـي معناه، فقال بعض نـحويـي البصرة: هم الذين يعبدون الربّ واحدهم رِبّـيّ

وقال بعض نـحويـي الكوفة: لو كانوا منسوبـين إلـى عبـادة الربّ لكانوا (رَبّـيون) بفتـح الراء، ولكنه العلـماء والألوف، والرّبّـيّونَ عندنا: الـجماعة الكثـيرة، واحدهم رِبّـي، وهم جماعة.

واختلف أهل التأويـل فـي معناه، فقال بعضهم مثل ما قلنا. ذكر من قال ذلك:

٦٤٤٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه : الربـيون: الألوف.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن الثوري، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري وابن عيـينة، عن عاصم بن أبـي النـجود، عن زر بن حبـيش، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عمرو بن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه ، مثله.

٦٤٤٥ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عوف عمن حدثه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {رِبّـيُون كَثِـيرٌ} قال: جموع كثـيرة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {قاتَلَ مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ} قال: جموع.

حدثنـي حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد اللّه : (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) قال: الألوف.

وقال آخرون بـما:

٦٤٤٦ـ حدثنـي به سلـيـمان بن عبد الـجبـار، قال: حدثنا مـحمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) قال: علـماء كثـير.

٦٤٤٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) قال: فقهاء علـماء.

٦٤٤٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية. عن أبـي رجاء، عن الـحسن، فـي قوله: (وكأيّنْ مِنْ نَبـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) قال: الـجموع الكثـيرة. قال يعقوب: وكذلك قرأها إسماعيـل: (قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ).

٦٤٤٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ)

يقول: جموع كثـيرة.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: (قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) قال: علـماء كثـيرة

وقال قتادة: جموع كثـيرة.

٦٤٥٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو، عن عكرمة فـي قوله: {رِبّـيُون كَثِـيرٌ} قال: جموع كثـيرة.

حدثنـي عمرو بن عبد الـحميد الاَملـي، قال: حدثنا سفـيان، عن عمرو، عن عكرمة، مثله.

٦٤٥١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: (قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ) قال: جموع كثـيرة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٤٥٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: (قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ)

يقول: جموع كثـيرة.

٦٤٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: (وكأيّنْ مِنْ نَبَـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ)

يقول: جموع كثـيرة قتل نبـيهم.

٦٤٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن جعفر بن حبـان، والـمبـارك عن الـحسن فـي قوله: (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قاتَل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ) قال جعفر: علـماء صبروا

وقال ابن الـمبـارك: أتقـياء صبروا.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: (قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ) يعنـي الـجموع الكثـيرة قتل نبـيهم.

٦٤٥٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {قاتَلَ مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ}

يقول: جموع كثـيرة.

٦٤٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قوله: (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيُون كَثِـيرٌ) قال: وكأين من بنـيّ أصابه القتل، ومعه جماعات.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِل مَعَهُ رِبّـيّون كَثِـيرٌ) الربـيون: الـجموع الكثـيرة.

وقال آخرون: الربـيون: الإتبـاع. ذكر من قال ذلك:

٦٤٥٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: (وكأيّنْ مِنْ نَبِـيّ قُتِلَ مَعَهُ رِبّـيّونَ كَثِـيرٌ) قال: الربـيون: الأتبـاع، والربـانـيون: الولاة، والربّـيون: الرعية. وبهذا عاتبهم اللّه حين انهزموا عنه، حين صاح الشيطان إن مـحمدا قد قتل، قال: كانت الهزيـمة عند صياحه فـي سنـينة صاح: أيها الناس إن مـحمدا رسول اللّه قد قتل، فـارجعوا إلـى عشائركم يؤمنوكم.

القول فـي تأويـل قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا وَاللّه يُحِبّ الصّابِرِينَ}.

يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّه }: فما عجزوا لـما نالهم من ألـم الـجراح الذي نالهم فـي سبـيـل اللّه ، ولا لقتل من قتل منهم عن حرب أعداء اللّه ، ولا نكلوا عن جهادهم. {وَما ضَعُفُوا}

يقول: وما ضعفت قواهم لقتل نبـيهم. {وَما اسْتَكانُوا} يعنـي: وما ذلوا فـيتـخشعوا لعدوّهم بـالدخول فـي دينهم، ومداهنتهم فـيه، خيفة منهم، ولكن مضوا قدما علـى بصائرهم ومنهاج نبـيهم، صبرا علـى أمر اللّه وأمر نبـيهم وطاعة اللّه ، واتبـاعا لتنزيـله ووحيه. {وَاللّه يُحِبّ الصّابِرِينَ}

يقول: واللّه يحبّ هؤلاء وأمثالهم من الصابرين لأمره وطاعته، وطاعة رسوله، فـي جهاد عدوّه، لا من فشل ففرّ عن عدوّه، ولا من انقلب علـى عقبـيه فذلّ لعدوّه لأن قتل نبـيه أو مات، ولا من دخـله وهن عن عدوّه وضعف لفقد نبـيه.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٤٥٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا وَما اسْتَكانُوا}

يقول: ما عجزوا، وما تضعضعوا لقتل نبـيهم، {وما اسْتَكَانُوا}

يقول: ما ارتدّوا عن نصرتهم ولا عن دينهم، بل قاتلوا علـى ما قاتل علـيه نبـيّ اللّه حتـى لـحقوا بـالله.

٦٤٥٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أصَابَهُمْ فـي سَبِـيـلِ اللّه وَمَا ضَعُفُوا}

يقول: ما عجزوا، وما ضعفوا لقتل نبـيهم، {وَما اسْتَكانُوا}

يقول: وما ارتدّوا عن نصرتهم، قاتلوا علـى ما قاتل علـيه نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى لـحقوا بـالله.

٦٤٦٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {فَمَا وَهَنُوا}: فما وهن الربـيون لـما أصابهم فـي سبـيـل اللّه ، من قتل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم¹ {وَما ضَعُفُوا}

يقول: ما ضعفوا فـي سبـيـل اللّه لقتل النبـيّ¹ {وَما اسْتَكانُوا}

يقول: ما ذلوا حين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اللّه مّ لَـيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا)، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَـحْزَنُوا وأنْتُـمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُـمْ مُؤْمِنِـينَ}.

٦٤٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فَمَا وَهَنُوا} لفقد نبـيهم، {وَما ضَعُفُوا} عن عدوهم، {وَما اسْتَكانُوا} لـما أصابهم فـي الـجهاد عن اللّه ، وعن دينهم، وذلك الصبر {وَاللّه يُحِبّ الصّابِرين}.

٦٤٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَما اسْتَكانُوا} قال: تـخشعوا.

٦٤٦٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَما اسْتَكانُوا} قال: ما استكانوا لعدوّهم¹ {وَاللّه يُحِبّ الصّابِرِينَ}.

١٤٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ...}

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ}: وما كان قول الربـيـين. والهاء والـميـم من ذكر أسماء الربـيـين. {إلاّ أنْ قالُوا} يعنـي ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبـيهموقوله: {رَبّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا}

يقول: لـم يعتصموا إذ قتل نبـيهم إلا بـالصبر علـى ما أصابهم، ومـجاهدة عدوّهم، وبـمسألة ربهم الـمغفرة والنصر علـى عدوّهم. ومعنى الكلام: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}وأما الإسراف: فإنه الإفراط فـي الشيء، يقال منه: أسرف فلان فـي هذا الأمر إذا تـجاوز مقداره فأفرط، ومعناه ههنا: اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فـيه منها فتـخطينا إلـى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبـائر. كما:

٦٤٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه : {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا} قال: خطايانا.

٦٤٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أيو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا}: خطايانا وظلـمنا أنفسنا.

٦٤٦٦ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد اللّه بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا} يعنـي: الـخطايا الكبـار.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك بن مزاحم، قال: الكبـائر.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا} قال: خطايانا.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا}

يقول: خطايانا.

وأما قوله: {وَثَبّتْ أقْدَامَنا} فإنه

يقول: اجعلنا مـمن يثبت لـحرب عدوّك وقتالهم، ولا تـجعلنا مـمن ينهزم فـيفرّ منهم، ولا يثبت قدمه فـي مكان واحد لـحربهم. {وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ}

يقول: وانصرنا علـى الذين جحدوا وحدانـيتك ونبوّة نبـيك. وإنـما هذا تأنـيب من اللّه عزّ وجلّ عبـاده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديب لهم، يقول اللّه عزّ وجلّ: هلا فعلتـم إذ قـيـل لكم: قتل نبـيكم، كما فعل هؤلاء الربـيون، الذين كانوا قبلكم من أتبـاع الأنبـياء، إذ قتلت أنبـياؤهم، فصبرتـم لعدوكم صبرهم، ولـم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتـحاولوا الارتداد علـى أعقابكم، كما لـم يضعف هؤلاء الربـيون ولـم يستكينوا لعدوّهم، وسألتـم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فـينصركم اللّه علـيهم كما نصروا، فإن اللّه يحبّ من صبر لأمره وعلـى جهاد عدوّه، فـيعطيه النصر والظفر علـى عدوّه. كما:

٦٤٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنا فـي أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا وَانْصُرْنا علـى القَوْمِ الكافِرِينَ}: أي فقولوا كما قالوا، واعلـموا أنـما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا علـى دينكم كما مضوا علـى دينهم، ولا ترتدّوا علـى أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه علـى القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبـيهم، فلـم يفعلوا كما فعلتـم.

والقراءة التـي هي القراءة فـي قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ} النصب لإجماع قراء الأمصار علـى ذلك نقلاً مستفـيضا وراثة عن الـحجة. وإنـما اختـير النصب فـي القول، لأن (إلا أن) لا تكون إلا معرفة، فكانت أولـى بأن تكون هي الاسم دون الأسماء التـي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا، ولذلك اختـير النصب فـي كل اسم ولـي (كان) إذا كان بعده (أن) الـخفـيفة، كقوله: {فَما كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ}

وقوله: {ثُمّ لَـمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا}. فأما إذا كان الذي يـلـي كان اسما معرفة، والذي بعده مثله، فسواء الرفع والنصب فـي الذي ولـي (كان)، فإن جعلت الذي ولـي (كان) هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده، وإن جعلت الذي ولـي (كان) هو الـخبر نصبته ورفعت الذي بعده، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى} إن جعلت (العاقبة) الاسم رفعتها، وجعلت (السوأى) هي الـخبر منصوبة، وإن جعلت (العاقبة) الـخبر نصبت، فقلت: وكان عاقبة الذين أساءوا السوأى، وجعلت السوأى هي الاسم، فكانت مرفوعة، وكما قال الشاعر:

لقدْ عَلِـمَ الأقوَامُ ما كانَ دَاءَهابَثهْلانَ إلا الـخِزْيُ مِـمّنْ يَقُودُها

رُوى أيضا: (ما كان داؤها بثهلان إلا الـخزيَ)، نصبـا ورفعا، علـى ما قد بـينت، ولو فعل مثل ذلك مع (أن) كان جائزا، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب.

١٤٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَآتَاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ وَاللّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: فأعطى اللّه الذين وصفهم بـما وصفهم من الصبر علـى طاعة اللّه بعد مقتل أنبـيائهم، وعلـى جهاد عدوّهم، والاستعانة بـاللّه فـي أمورهم، واقتفـائهم مناهج إمامهم، علـى ما أبلوا فـي اللّه {ثَوَابَ الدّنْـيَا} يعنـي: جزاء فـي الدنـيا، وذلك النصر علـى عدوّهم وعدوّ اللّه ، والظفر والفتـح علـيهم، والتـمكين لهم فـي البلاد¹ {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} يعنـي: وخير جزاء الاَخرة، علـى ما أسلفوا فـي الدنـيا من أعمالهم الصالـحة، وذلك الـجنة ونعيـمها. كما:

٦٤٦٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} فقرأ حتـى بلغ: {وَاللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}: أي واللّه لاَتاهم اللّه الفتـح والظهور والتـمكين والنصر علـى عدوّهم فـي الدنـيا، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ}

يقول: حسن الثواب فـي الاَخرة: هي الـجنة.

٦٤٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ} ثم ذكر نـحوه.

٦٤٧٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، فـي قوله: {فَآتاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدّنْـيا} قال: النصر والغنـيـمة، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ} قال: رضوان اللّه ورحمته.

٦٤٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فآتاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدّنْـيا}: حسن الظهور علـى عدوّهم، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ}: الـجنة، وما أعدّ فـيهاوقوله: {وَاللّه يُحِبّ الـمُـحْسِنِـينَ}

يقول تعالـى ذكره: فعل اللّه ذلك بإحسانهم، فإنه يحب الـمـحسنـين، وهم الذين يفعلون مثل الذي وصف عنهم تعالـى ذكره أنهم فعلوه حين قتل نبـيهم.

١٤٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ ... }

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، فـي وعد اللّه ووعيده وأمره ونهيه {إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا}، يعنـي: الذين جحدوا نبوّة نبـيكم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الـيهود والنصارى، فـيـما يأمرونكم به، وفـيـما ينهونكم عنه، فتقبلوا رأيهم فـي ذلك، وتنتصحوهم فـيـما تزعمون أنهم لكم فـيه ناصحون، {يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ}

يقول: يحملوكم علـى الردّة بعد الإيـمان والكفر بـاللّه وآياته وبرسوله بعد الإسلام، {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ}

يقول: فترجعوا عن إيـمانكم ودينكم الذي هداكم اللّه له خاسرين، يعنـي: هالكين، قد خسرتـم أنفسكم، وضللتـم عن دينكم، وذهبت دنـياكم وآخرتكم. ينهي بذلك أهل الإيـمان بـاللّه أن يطيعوا أهل الكفر فـي آرائهم، وينتصحوهم فـي أديانهم. كما:

٦٤٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ}: أي عن دينكم: فتذهب دنـياكم وآخرتكم.

٦٤٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا} قال ابن جريج:

يقول: لا تنتصحوا الـيهود والنصارى علـى دينكم، ولا تصدّقوهم بشيءٍ فـي دينكم.

٦٤٧٤ـ حدثنا مـحمد قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ}

يقول: إن تطيعوا أبـا سفـيان يردّكم كفـارا.

١٥٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَلِ اللّه مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ }

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: أن اللّه مسدّدكم أيها الـمؤمنون، فمنقذكم من طاعة الذين كفروا.

وإنـما قـيـل: {بَلِ اللّه مَوْلاكُمْ} لأن قوله: {إنْ تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ علـى أعْقابِكُمْ} نهيٌ لهم عن طاعتهم، فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا، فـيردّوكم علـى أعقابكم، ثم ابتدأ الـخبر،

فقال: {بَلِ اللّه مَوْلاكُمْ} فأطيعوه دون الذين كفروا فهو خير من نصر، ولذلك رفع اسم اللّه ، ولو كان منصوبـا علـى معنى: بل أطيعوا اللّه مولاكم دون الذين كفروا، كان وجها صحيحا. ويعنـي بقوله: {بَلِ اللّه مَوْلاكُمْ}: ولـيكم وناصركم علـى أعدائكم الذين كفروا، {وَهُوَ خَيْرُ النّاصرِين} لا من فررتـم إلـيه من الـيهود وأهل الكفر بـالله، فبـاللّه الذي هو ناصركم ومولاكم فـاعتصموا وإياه فـاستنصروا دون غيره مـمن يبغيكم الغوائل ويرصدكم بـالـمكاره. كما:

٦٤٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {بَلِ اللّه مَوْلاكُمْ} إن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا فـي قلوبكم، {وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ}: أي فـاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره، ولا ترجعوا علـى أعقابكم مرتدين عن دينكم.

١٥١

          

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: سيـلقـى اللّه أيها الـمؤمنون فـي قلوب الذين كفروا بربهم، وجحدوا نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم مـمن حاربكم بـأُحد الرعب، وهو الـجزع والهلع بـما أشركوا بـالله، يعنـي بشركهم بـاللّه وعبـادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التـي لـم أجعل لهم بها حجة، وهي السلطان التـي أخبر عزّ وجلّ أنه لـم ينزله بكفرهم وشركهم، وهذا وعد من اللّه جل ثناؤه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالنصر علـى أعدائهم، والفلـج علـيهم ما استقاموا علـى عهده، وتـمسكوا بطاعته، ثم أخبرهم ما هو فـاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إلـيه، فقال جلّ ثناؤه: {وَمأْوَاهُمُ النّارُ} يعنـي: ومرجعهم الذي يرجعون إلـيه يوم القـيامة النار {وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِـمِينَ}

يقول: وبئس مقام الظالـمين الذين ظلـموا أنفسهم بـاكتسابهم ما أوجب لها عقاب اللّه النار. كما:

٦٤٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق:{سَنُلْقِـي فـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِـمَا أشْرَكُوا بـاللّه ما لَـمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطانا وَمأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثُوَى الظّالِـمِينَ} إنـي سألقـي فـي قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم علـيهم، بـما أشركوا بـي ما لـم أجعل لهم به حجة، أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر، ولا ظهور علـيكم ما اعتصمتـم واتبعتـم أمري، للـمصيبة التـي أصابتكم منهم بذنوب قدمتـموها لأنفسكم، خالفتـم بها أمري، وعصيتـم فـيها نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٦٤٧٧ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما ارتـحل أبو سفـيان والـمشركون يوم أُحد متوجهين نـحو مكة، انطلق أبو سفـيان حتـى بلغ بعض الطريق، ثم إنهم ندموا

فقالوا: بئس ما صنعتـم، إنكم قتلتـموهم، حتـى إذا لـم يبق إلا الشرّير تركتـموهم، ارجعوا فـاستأصلوهم، فقذف اللّه عزّ وجلّ فـي قلوبهم الرعب، فـانهزموا، فلقوا أعرابـيا، فجعلوا له جُعْلاً، وقالوا له: إن لقـيت مـحمدا فأخبره بـما قد جمعنا لهم! فأخبر اللّه عزّ وجلّ رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـي ذلك، فذكر أبـا سفـيان حين أراد أن يرجع إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وما قذف فـي قلبه من الرعب،

فقال: {سَنُلْقِـي فِـي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِـمَا أشْرَكُوا بـاللّه }.

١٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ ...}

يعنـي بقوله تعالـى ذكره: ولقد صدقكم اللّه أيها الـمؤمنون من أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بـأُحد وعده الذي وعدهم علـى لسان رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. والوعد الذي كان وعدهم علـى لسانه بـأُحد قوله للرماة: (اثْبُتُوا مَكانَكُمْ وَلا تَبْرَحُوا وَإنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ، فإنّا لَنْ نَزاَلَ غالبـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ)، وكان وعدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلـى أمره¹ كالذي:

٦٤٧٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما برز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمشركين بـأُحد، أمر الرماة، فقاموا بأصل الـجبل فـي وجوه خيـل الـمشركين، وقال: (لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُـمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ، فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِـينَ ما ثَبَتّـمْ مَكانَكُمْ) وأمّر علـيهم عبد اللّه بن جبـير أخا خوّات بن جبـير، ثم إن طلـحة بن عثمان صاحب لواء الـمشركين قام فقال: يا معشر أصحاب مـحمد، إنكم تزعمون أن اللّه يعجلنا بسيوفكم إلـى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلـى الـجنة، فهل منكم أحد يعجله اللّه بسيفـي إلـى الـجنة، أو يعجلنـي بسيفه إلـى النار؟ فقام إلـيه علـيّ بن أبـي طالب،

فقال: والذي نفسي بـيده، لا أفـارقك حتـى يعجلك اللّه بسيفـي إلـى النار، أو يعجلنـي بسيفك إلـى الـجنة! فضربه علـيّ، فقطع رجله فسقط، فـانكشفت عورته،

فقال: أنشدك اللّه والرحم يا ابن عم! فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وقال لعلـيّ أصحابه: ما منعك أن تـجهز علـيه؟ قال: إن ابن عمي ناشدنـي حين انكشفت عورته فـاستـحيـيت منه. ثم شدّ الزبـير بن العوّام والـمقداد بن الأسود علـى الـمشركين، فهزماهم، وحمل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فهزموا أبـا سفـيان، فلـما رأى ذلك خالد بن الولـيد وهو علـى خيـل الـمشركين حمل، فرمته الرماة، فـانقمع¹ فلـما نظر الرماة إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـي جوف عسكر الـمشركين ينتهبونه، بـادروا الغنـيـمة،

فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فـانطلق عامتهم، فلـحقوا بـالعسكر¹ فلـما رأى خالد قلة الرماة، صاح فـي خيـله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل علـى أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم¹ فلـما رأى الـمشركون أن خيـلهم تقاتل، تنادوا، فشدّوا علـى الـمسلـمين، فهزموهم وقتلوهم.

٦٤٧٩ـ حدثنا هارون بن إسحاق، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: لـما كان يوم أُحد ولقـينا الـمشركين، أجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة، وأمّر علـيهم عبد اللّه بن جبـير أخا خوّات بن جبـير، وقال لهم: (لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ! إنْ رأيْتُـمُونا ظَهَرْنا عَلَـيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا، وَإنْ رأيْتُـمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَـيْنا فَلا تُعِينُونا) فلـما التقـى القوم، هُزم الـمشركون حتـى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن، وبدت خلاخـلهن، فجعلوا يقولون: الغنـيـمة الغنـيـمة! قال عبد اللّه : مهلاً، أما علـمتـم ما عهد إلـيكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فأبوا، فـانطلقوا، فلـما أتوهم صرف اللّه وجوههم، فأصيب من الـمسلـمين سبعون قتـيلاً.

حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن أبـي أسحاق، عن البراء، بنـحوه.

٦٤٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، ابن عبـاس قوله: {وَلَقَدْ صَدقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّونهُمْ بإذْنِهِ} فإن أبـا سفـيان أقبل فـي ثلاث لـيال خـلون من شوّال، حتـى نزل أُحدا، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأذن فـي الناس، فـاجتـمعوا، وأمّر علـى الـخيـل الزبـير بن العوّام، ومعه يومئذ الـمقداد بن الأسود الكندي، وأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد الـمطلب بـالـحُسّر، وبعث حمزة بـين يديه، وأقبل خالد بن الولـيد علـى خيـل الـمشركين ومعه عكرمة بن أبـي جهل، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الزبـير، وقال: (اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الوَلِـيدِ فَكُنْ بإزَائِهِ حَتّـى أوذِنْكَ!) وأمر بخيـل أخرى، فكانوا من جانب آخر،

فقال: (لا تَبْرَحُوا حتـى أوذِنَكُمْ!) وأقبل أبو سفـيان يحمل اللات والعزّى، فأرسل النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلـى الزبـير أن يحمل، فحمل علـى خالد بن الولـيد، فهزمه ومن معه، كما قال: {لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وإن اللّه وعد الـمؤمنـين أن ينصرهم، وأنه معهم.

٦٤٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن عبـيد اللّه الزهري، أن مـحمد بن يحيـى بن حبـان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا فـي قصة ذكرها عن أُحد، ذكر أن كلهم قد حدّث ببعضها، وأن حديثهم اجتـمع فـيـما ساق من الـحديث، فكان فـيـما ذكر فـي ذلك: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نزل الشعب من أحد فـي عُدْوة الوادي إلـى الـجبل، فجعل ظهره وعسكره إلـى أحد، وقال: (لا تُقَاتِلُوا حَتّـى نَأْمُرَ بـالِقَتال)، وقد سرحت قريش الظهر والكُراع فـي زروع كانت بـالصّمْغة من قناة للـمسلـمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن القتال: أتُرْعى زروع بنـي قـيـلة ولـما نُضارب! وصفّنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للقتال، وهو فـي سبعمائة رجل، وتصافّ قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جَنَبُوها، فجعلوا علـى ميـمنة الـخيـل خالد بن الولـيد، وعلـى ميسرتها عكرمة بن أبـي جهل. وأمّر رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى الرماة عبد اللّه بن جبـير أخا بنـي عمرو بن عوف، وهو يومئذ معلـم بثـياب بـيض، والرماة خمسون رجلاً، وقال: (انْضَحْ عَنّا الـخَيْـلَ بـالّنْبِل لا يَأْتُونَا مِنْ خَـلْفِنَا! إنْ كَانَتْ لنا أو عَلَـيْنَا فـاثْبُتْ مَكَانَكَ، لا نُؤْتَـيَنّ مِنْ قَبِلِكَ!) فلـما التقـى الناس، ودنا بعضهم من بعض، واقتتلوا حتـى حميت الـحرب، وقاتل أبو دجانة حتـى أمعن فـي الناس، وحمزة بن عبد الـمطلب، وعلـيّ بن أبـي طالب فـي رجال من الـمسلـمين، فأنزل اللّه عزّ وجلّ نصره، وصدقهم وعده، فحسّوهم بـالسيوف حتـى كشفوهم، وكانت الهزيـمة لا شك فـيها.

٦٤٨٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن يحيـى بن عبـاد بن عبد اللّه بن الزبـير، عن أبـيه، عن جده، قال: قال الزبـير: واللّه لقد رأيتنـي أنظر إلـى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوازم، ما دون إحداهن قلـيـل ولا كثـير، إذ مالت الرماة إلـى العسكر حين كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخـلوا ظهورنا للـخيـل، فـأُتـينا من أدبـارنا، وصرخ صارخ: ألا إن مـحمدا قد قُتل! فـانكفأنا وأنكفأ علـينا القوم بعد أن هزمنا أصحاب اللواء، حتـى ما يدنو منه أحد من القوم.

٦٤٨٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـي قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ}: أي لقد وفـيت لكم بـما وعدتكم من النصر علـى عدوّكم.

٦٤٨٤ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللّه وَعْدَهُ}، وذلك يوم أُحد، قال لهم: (إنّكُمْ سَتَظْهَرُونَ فَلاَ تَأْخُذُوا ما أصَبْتُـمْ مِنْ غَنائمهِمْ شَيْئا حتـى تَفْرُغُوا) فتركوا أمر نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعصوا، ووقعوا فـي الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إلـيهم، وخالفوا إلـى غير ما أمرهم به.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ}.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولقد وفـى اللّه لكم أيها الـمؤمنون من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـما وعدكم من النصر علـى عدوّكم بأحُد، حين تـحسّونهم، يعنـي: حين تقتلونهم. يقال منه: حَسّهُ يَحُسّهُ حَسّا: إذا قتله. كما:

٦٤٨٥ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن سعيد الواسطي، قال: حدثنا يعقوب بن عيسى، قال: ثنـي عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن مـحمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن الـمسور بن مخرمة، عن أبـيه، عن عبد الرحمن بن عوف فـي قوله: {إذْ تَـحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ} قال: الـحَسّ: القتل.

٦٤٨٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن أبـي الزناد، عن أبـيه، قال: سمعت عبـيد اللّه بن عبد اللّه يقول في قول اللّه عز وجل: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} قال: القتل.

٦٤٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {إذْ تَـحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ} قال: تقتلونهم.

٦٤٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّوَنهُمْ} أي قتلاً بإذنه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ}

يقول: إذ تقتلونهم.

٦٤٨٩ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ} والـحَسّ القتل.

٦٤٩٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ}

يقول: تقتلونهم.

٦٤٩١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} بـالسيوف: أي بـالقتل.

٦٤٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن مبـارك، عن الـحسن: {إذْ تَـحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ} يعنـي: القتل.

٦٤٩٣ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : قوله: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ}

يقول: تقتلونهم.

وأما قوله: {بإذْنِهِ} فإنه يعنـي: بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسلـيطي إياكم علـيهم. كما:

٦٤٩٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إذْ تَـحُسّوَنَهُمْ} بإذنـي وتسلـيطي أيديكم علـيهم، وكفـي أيديهم عنكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أراكُمْ ما تُـحِبّونَ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}: حتـى إذا جبنتـم وضعفتـم، {وتَنازَعتـمْ فـي الأمْرِ} بقول: واختلفتـم فـي أمر اللّه ¹

يقول: وعصيتـم وخالفتـم بنـيكم، فتركتـم أمره، وما عهد إلـيكم. وإنـما يعنـي بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى اللّه عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بـأُحد، بإزاء خالد بن الولـيد ومن كان معه من فرسان الـمشركين الذين ذكرنا قبلُ أمرهم.

وأما قوله: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} فإنه يعنـي بذلك: من بعد الذي أراكم اللّه أيها الـمؤمنون بـمـحمد من النصر والظفر بـالـمشركين، وذلك هو الهزيـمة التـي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التـي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقعدهم فـيها، وقبل خروج خيـل الـمشركين علـى الـمؤمنـين من ورائهم.

وبنـحو الذي قلنا تظاهرت الأخبـار عن أهل التأويـل، وقد مضى ذكر بعض من قال، وسنذكر قول بعض من لـم يذكر قوله فـيـما مضى. ذكر من قال ذلك:

٦٤٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} أي اختلفتـم فـي الأمر، {وعصيتـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وذاكم يوم أُحد، عهد إلـيهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمرهم بأمر، فنسوا العهد وجاوزوا وخالفوا ما أمرهم بنـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فـانصرف علـيهم عدوّهم بعد ما أراهم من عدوّهم ما يحبون.

٦٤٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث ناسا من الناس ـ يعنـي: يوم أُحد ـ فكانوا من ورائهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (كُونُوا هَهُنا فَرُدّوا وَجْهَ مَنْ قَدِمَنا، وكُونُوا حَرَسا لَنا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنا) وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـما هزم القوم هو وأصحابه، اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم، فقال بعضهم لبعض لـما رأوا النساء مصعدات فـي الـجبل، ورأوا الغنائم،

قالوا: انطلقوا إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأدركوا الغنـيـمة قبل أن تسبقوا إلـيها! وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنثبت مكاننا. فذلك قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا} للذين أرادوا الغنـيـمة، {وِمِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الاَخِرَةَ} للذين

قالوا: نطيع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونثبت مكاننا. فأتوا مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، فكان فشلاً حين تنازعوا بـينهم¹

يقول: {وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْد مَا أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} كانوا قد رأوا الفتـح والغنـيـمة.

٦٤٩٧ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}

يقول: جبنتـم عن عدوّكم، {وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ}

يقول: اختلفتـم وعصيتـم، {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} وذلك يوم أُحد، قال لهم: (إنّكَم سَتَظْهَرُونَ فلا أعَرِفنّ ما أصَبْتُـمْ مِنْ غَنَائمهم شَيْئا حتـى تفَرغُوا)، فتركوا أمر نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعصوا، ووقعوا فـي الغنائم، ونسوا عهده الذي عهده إلـيهم، وخالفوا إلـى غير ما أمرهم به، فـانصرف علـيهم عدوّهم من بعد ما أراهم فـيهم ما يحبون.

٦٤٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ} قال ابن جريج:

قال ابن عبـاس : الفشل: الـجبن.

٦٤٩٩ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} من الفتـح.

٦٥٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ}: أي تـخاذلتـم، {وَتَنَازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ} أي اختلفتـم فـي أمري، {وَعَصَيْتُـمْ}: أي تركتـم أمر نبـيكم صلى اللّه عليه وسلم وما عهد إلـيكم، يعنـي: الرماة. {مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} أي الفتـح لا شكّ فـيه، وهزيـمة القوم عن نسائهم وأموالهم.

٦٥٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن الـمبـارك، عن الـحسن: {مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ مَا تُـحِبّونَ} يعنـي: من الفتـح.

وقـيـل: معنى قوله: {حتـى إذَا فَشِلْتُـمْ وَتَنَازَعْتُـمْ فِـي الأمْرِ وَعَصَيْتُـمْ مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُـحِبّونَ} حتـى إذا تنازعتـم فـي الأمر فشلتـم وعصيتـم من بعد ما أراكم ما تـحبون أنه من الـمقدّم الذي معناه التأخير، وإن الواو دخـلت فـي ذلك، ومعناها: السقوط كما قلنا فـي: {فَلَـمّا أسْلَـما وَتَلّهُ للْـجَبِـينِ وَنادَيْناهُ} معناه: ناديناه، وهذا مقول فـي (حتـى إذا) وفـي (فلـما أنْ)، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ: {حتـى إذَا فُتِـحَتْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ} ثم قال: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الـحَقّ} ومعناه: اقترب، وكما قال الشاعر:

حتـى إذَا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُوَرأيْتُـمُ أبْناءَكُمْ شَبّوا

وَقلبْتُـمْ ظَهْرَ الـمِـجَنّ لنَاإنّ اللّئِيـمَ العاجِزُ الـخَبّ

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا}: الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الشعب من أحد لـخيـل الـمشركين، ولـحقوا بـمعسكر الـمسلـمين طلب النهب إذ رأوا هزيـمة الـمشركين {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} يعنـي بذلك: الذين ثبتوا من الرماة فـي مقاعدهم التـي أقعدهم فـيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واتبعوا أمره، مـحافظة علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وابتغاء ما عند اللّه من الثواب بذلك من فعلهم، والدار الاَخرة. كما:

٦٥٠٢ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فـالذين انطلقوا يريدون الغنـيـمة، هم أصحاب الدنـيا والذين بقوا، و

قالوا: لا نـخالف قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرادوا الاَخرة.

٦٥٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس مثله.

٦٥٠٤ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فإن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر يوم أُحد طائفة من الـمسلـمين،

فقال: (كُونُوا مَسْلَـحَةً للنّاسِ) بـمنزلة أمرهم أن يثبوا بها، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتـى يأذن لهم، فلـما لقـي بنـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد أبـا سفـيان ومن معه من الـمشركين، هزمهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فلـما رأى الـمسلـحةُ أن اللّه عزّ وجلّ هزم الـمشركين، انطلق بعضهم وهم يتنادون: الغنـيـمة الغنـيـمة لا تفتكم! وثبت بعضهم مكانهم، و

قالوا: لا نريـم موضعنا حتـى يأذن لنا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ففـي ذلك نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} فكان ابن مسعود

يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يريد الدنـيا وعَرَضها حتـى كان يوم أحد.

٦٥٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج:

قال ابن عبـاس : لـما هزم اللّه الـمشركين يوم أُحد، قال الرماة: أدركوا الناس ونبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يسبقوكم إلـى الغنائم فتكون لهم دونكم! .

وقال بعضهم: لا نريـم حتـى يأذن لنا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {مِنكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} قال ابن جريج: قال ابن مسعود: ما علـمنا أن أحدا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يريد الدنـيا وعرضها حتـى كان يومئذٍ.

٦٥٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن الـمبـارك، عن الـحسن: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا} هؤلاء الذين يحوزون الغنائم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ} الذين يتبعونهم يقتلونهم.

٦٥٠٧ـ حدثنا الـحسين بن عمرو بن مـحمد العنقزيّ، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ عن عبد خير، قال: قال عبد اللّه : ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الدنـيا، حتـى نزل فـينا يوم أُحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْـيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ}.

حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، عن عبد خير، قال: قال ابن مسعود: ما كنت أظن أن من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذٍ أحدا يريد الدنـيا حتـى قال اللّه ما قال.

٦٥٠٨ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: قال عبد اللّه بن مسعود لـما رآهم وقعوا فـي الغنائم: ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الدنـيا حتـى كان الـيوم.

٦٥٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: كان ابن مسعود

يقول: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان يريد الدنـيا وَعَرَضها حتـى كان يومئذٍ.

٦٥١٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنـيْا} أي الذين أرادوا النهب رغبة فـي الدنـيا وترك ما أمروا به من الطاعة التـي علـيها ثواب الاَخرة، {وَمِنْكُمْ مَنْ يَرِيدُ الاَخرَةَ}: أي الذين جاهدوا فـي اللّه لـم يخالفوا إلـى ما نهوا عنه لعرض من الدنـيا رغبة فـي رجاء ما عند اللّه من حسن ثوابه فـي الاَخرة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلِـيَكُمْ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ثم صرفكم أيها الـمؤمنون عن الـمشركين بعد ما أراكم ما تـحبون فـيهم، وفـي أنفسكم من هزيـمتكم إياهم، وظهوركم علـيهم، فردّ وجوهكم عنهم لـمعصيتكم أمر رسولـي، ومخالفتكم طاعته، وإيثاركم الدنـيا علـى الاَخرة، عقوبة لكم علـى ما فعلتـم، لـيبتلـيكم،

يقول: لـيختبركم، فـيتـميز الـمنافق منكم من الـمخـلص، الصادق فـي إيـمانه منكم. كما:

٦٥١١ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: ثم ذكر حين مال علـيهم خالد بن الولـيد: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلـيكُمْ}.

٦٥١٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن مبـارك، عن الـحسن فـي قوله: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} قال: صرف القوم عنهم، فقتل من الـمسلـمين بعدّة من أسروا يوم بدر، وقتل عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكسرت ربـاعيته، وشجّ فـي وجهه، وكان يـمسح الدم عن وجهه، و

يقول: (كَيْفَ يُفْلِـحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِـيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلـى رَبّهِمْ؟)¹ فنزلت: {لَـيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ}.. الاَية،

فقالوا: ألـيس كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعدنا النصر؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ} إلـى قوله: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلَـيكُمْ وَلَقَدْ عَفَـا عَنْكُمْ}.

٦٥١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِـيَبْتَلَـيكُمْ}: أي صرفكم عنهم لـيختبركم، وذلك ببعض ذنوبكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ وَاللّه ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـين}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ}: ولقد عفـا اللّه أيها الـمخالفون أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والتاركون طاعته، فـيـما تقدم إلـيكم من لزوم الـموضع الذي أمركم بلزومه عنكم، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتـيتـموه عما هو أعظم مـما عاقبكم به من هزيـمة أعدائكم إياكم، وصرف وجوهكم عنهم إذ لـم يستأصل جمعكم. كما:

٦٥١٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن مبـارك، عن الـحسن، فـي قوله: {وَلَقَد عَفـا عَنْكُمْ} قال: قال الـحسن وصفق بـيديه: وكيف عفـا عنهم وقد قتل منهم سبعون، وقتل عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكسرت ربـاعيته، وشجّ فـي وجهه؟ قال: ثم

يقول: قال اللّه عزّ وجلّ: قد عفوت عنكم إذ عصيتـمونـي أن لا أكون استأصلتكم

قال: ثم يقول الـحسن: هؤلاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفـي سبـيـل اللّه غضاب لله، يقاتلون أعداء اللّه ، نهوا عن شيء فصنعوه، فواللّه ما تركوا حتـى غموا بهذا الغمّ، فأفسق الفـاسقـين الـيوم يتـجرأ علـى كل كبـيرة، ويركب كل داهية، ويسحب علـيها ثـيابه، ويزعم أن لا بأس علـيه، فسوف يعلـم.

٦٥١٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ} قال: لـم يستأصلكم.

٦٥١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ}: ولقد عفـا اللّه عن عظيـم ذلك لـم يهلككم بـما أتـيتـم من معصية نبـيكم، ولكن عُدْت بفضلـي علـيكم.

وأما قوله: {وَاللّه ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـينَ} فإنه يعنـي: واللّه ذو طول علـى أهل الإيـمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثـير ما يستوجبون به العقوبة علـيه من ذنوبهم، فإن عاقبهم علـى بعض ذلك، فذو إحسان إلـيهم بجميـل أياديه عندهم. كما:

٦٥١٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلَقَدْ عَفـا عَنْكُمْ وَاللّه ذُو فَضْلٍ علـى الـمُؤْمِنِـينَ}

يقول: وكذلك منّ اللّه علـى الـمؤمنـين أن عاقبهم ببعض الذنوب فـي عاجل الدنـيا أدبـا وموعظة، فإنه غير مستأصل لكل ما فـيهم من الـحقّ له علـيهم، لـما أصابوا من معصيته، رحمة لهم، وعائدة علـيهم لـما فـيهم من الإيـمان.

١٥٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىَ أحَدٍ ... }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولقد عفـا عنكم أيها الـمؤمنون إذ لـم يستأصلكم، إهلاكا منه جمعكم بذنوبكم، وهربكم¹ {إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلَـى أَحَدٍ}.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء الـحجاز والعراق والشام سوى الـحسن البصري: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضمّ التاء وكسر العين، وبه القراءة عندنا لإجماع الـحجة من القراء علـى القراءة به، واستنكارهم ما خالفه. ورُوي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: (إذْ تَصْعَدُونَ) بفتـح التاء والعين.

٦٥١٨ـ حدثنـي بذلك أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج، عن هارون، عن يونس بن عبـيد، عن الـحسن.

فأما الذين قرءوا: {تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلـى أن القوم حين انهزموا عن عدوّهم أخذوا فـي الوادي هاربـين. وذكروا أن ذلك فـي قراءة أبـيّ: (إذْ تُصْعِدون فـي الوادي).

٦٥١٩ـ حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا أبو عبـيد، قال: حدثنا حجاج، عن هارون.

قالوا: الهرب فـي مستوى الأرض، وبطون الأودية والشعاب، إصعاد لا صعود، قالوا وإنـما يكون الصعود علـى الـجبـال والسلالـيـم والدّرَج، لأن معنى الصعود: الارتقاء والارتفـاع علـى الشيء علوّا.

قالوا: فأما الأخذ فـي مستوى الأرض الهبوط، فإنـما هو إصعاد، كما يقال: أصعدنا من مكة، إذا ابتدأت فـي السفر منها والـخروج، وأصعدنا من الكوفة إلـى خراسان، بـمعنى خرجنا منها سفرا إلـيها، وابتدأنا منها الـخروج إلـيها.

قالوا: وإنـما جاء تأويـل أكثر أهل التأويـل بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوّهم فـي بطن الوادي. ذكر من قال ذلك:

٦٥٢٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلا تَلْوُونَ علـى أحَدٍ} ذاكم يوم أُحد أصعدوا فـي الوادي فرارا، ونبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوهم فـي أخراهم، قال: (إلـيّ عِبـادَ اللّه ، إلـيّ عبـادَ اللّه ).

وأما الـحسن فإنـي أراه ذهب فـي قراءته: (إذْ تَصْعَدُونَ) بفتـح التاء والعين إلـى أن القوم حين انهزموا عن الـمشركين صَعِدوا الـجبل. وقد قال ذلك عدد من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٥٢١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لـما شدّ الـمشركون علـى الـمسلـمين بـأُحد فهزموهم، دخـل بعضهم الـمدينة، وانطلق بعضهم فوق الـجبل إلـى الصخرة، فقاموا علـيها، وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو الناس: (إلـيّ عِبَـادَ اللّه ، إلـيّ عِبـادَ اللّه !) فذكر اللّه صعودهم علـى الـجبل، ثم ذكر دعاء نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياهم،

فقال: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ علـى أحَدٍ والرّسُولُ يَدْعُوكُم فِـي أُخْرَاكُمْ}.

٦٥٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: انـحازوا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فجعلوا يصعدون فـي الـجبل، والرسول يدعوهم فـي أخراهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٥٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس ، قوله: {إذْ تُصْعدُونَ وَلا تَلْوُونَ علـى أحَد} قال: صعدوا فـي أُحد فرارا.

قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ: {إذْ تُصْعِدُونَ} بضم التاء وكسر العين، بـمعنى السبق والهرب فـي مستوى الأرض، أو فـي الـمهابط، لإجماع الـحجة علـى أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففـي إجماعها علـى ذلك الدلـيـل الواضح علـى أن أولـى التأويـلـين بـالاَية تأويـل من قال: أصعدوا فـي الوادي، ومضوا فـيه، دون قول من قال: صعدوا علـى الـجبل.

وأما قوله: {وَلا تَلْوْونَ علـى أحَدٍ} فإنه يعنـي: ولا تعطفون علـى أحد منكم، ولا يـلتفت بعضكم إلـى بعض هربـا من عدوّكم مصعدين فـي الوادي. ويعنـي بقوله: {وَالرّسُولُ يَدعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوكم أيها الـمؤمنون به من أصحابه فـي أخراكم، يعنـي أنه يناديكم من خـلفكم: (إلـيّ عِبـادَ اللّه ، إلـيّ عِبـادَ اللّه !). كما:

٦٥٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: إلـيّ عبـاد اللّه ارْجِعُوا، إلـيّ عِبَـاد اللّه ارْجِعُوا!.

٦٥٢٥ـ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ}: رأوا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوهم: إلـيّ عبـاد اللّه !

٦٥٢٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، مثله.

٦٥٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: أنّبهم اللّه بـالفرار عن نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم، وهو يدعوهم لا يعطفون علـيه لدعائه إياهم،

فقال: {إذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوونَ علـى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فـيِ أُخْرَاكُمْ}.

٦٥٢٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فـي أُخْرَاكُمْ} هذا يوم أُحد حين انكشف الناس عنه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ وَاللّه خَبِـيرٌ بِـمَا تَعْمَلُونَ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} يعنـي: فجازاكم بفراركم عن نبـيكم، وفشلكم عن عدوّكم، ومعصيتكم ربكم غما بغمّ،

يقول: غمّا علـى غمّ. وسمى العقوبة التـي عاقبهم بها من تسلـيط عدوّهم علـيهم حتـى نال منهم ما نال ثوابـا، إذ كان ذلك من عملهم الذي سخطه ولـم يرضه منهم، فدلّ بذلك جل ثناؤه أن كل عوض كالـمعوّض من شيء من العمل، خيرا كان أو شرّا، أو العوض الذي بذله رجل لرجل أو يد سلفت له إلـيه، فإنه مستـحقّ اسم ثواب كان ذلك العوض تكرمة أو عقوبة، ونظير ذلك قول الشاعر:

أخافُ زِيادا أنْ يَكُونَ عَطاؤُهُأدَاهِمَ سُودا أوْ مُـحَدْرَجةً سُمْرا

فجعل العطاء العقوبة، وذلك كقول القائل لاَخر سلف إلـيه منه مكروه: لأجازينك علـى فعلك، ولأثـيبنك ثوابك.

وأما قوله: {غَمّا بِغَمّ} فإنه

قـيـل: غما بغمّ، معناه: غما علـى غم، كما

قـيـل: {وَلأصَلّبَنّكُمْ فِـي جُذُوعِ النّـخْـلِ} بـمعنى: ولأصلبنكم علـى جذوع النـخـل. وإنـما جاز ذلك، لأن معنى قول القائل: أثابك اللّه غما علـى غمّ: جزاك اللّه غما بعد غمّ تقدّمه، فكان كذلك معنى: فأثابكم غما بغمّ، لأن معناه: فجزاكم اللّه غما بعقب غمّ تقدّمه، وهو نظير قول القائل: نزلت ببنـي فلان، ونزلت علـى بنـي فلان، وضربته بـالسيف، وعلـى السيف.

واختلف أهل التأويـل فـي الغمّ الذي أثـيب القوم علـى الغمّ، وما كان غمهم الأوّل والثانـي،

فقال بعضهم: أما الغمّ الأوّل، فكان ما تـحدّث به القوم أن نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم قد قُتِلوأما الغمّ الاَخر، فإنه كان ما نالهم من القتل والـجراح. ذكر من قال ذلك:

 

٦٥٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فأثابَكُمْ غَمّا بغَمّ} كانوا تـحدثوا يومئذٍ أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصيب، وكان الغمّ الاَخر قتل أصحابهم والـجراحات التـي أصابتهم¹ قال: وذكر لنا أنه قتل يومئذٍ سبعون رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة وستون رجلاً من الأنصار، وأربعة من الـمهاجرينوقوله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ}

يقول: ما فـاتكم من غنـيـمة القوم، ولا ما أصابكم فـي أنفسكم من القتل والـجراحات.

٦٥٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} قال: فرّة بعد فرّة، الأولـى: حين سمعوا الصوت أن مـحمدا قد قُتِل¹ والثانـية: حين رجع الكفـار فضربوهم مدبرين، حتـى قتلوا منهم سبعين رجلاً، ثم انـحازوا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فجعلوا يصعدون فـي الـجبل، والرسول يدعوهم فـي أخراهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، نـحوه.

وقال آخرون: بل غمهم الأول كان قتل من قُتل منهم، وجرح من جُرح منهم¹ والغمّ الثانـي: كان من سماعهم صوت القائل: قُتل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٦٥٣١ـ حدثنا الـحسين بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {غَمّا بِغَمّ} قال: الغمّ الأول: الـجراح والقتل¹ والغمّ الثانـي: حين سمعوا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قُتل. فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الـجراح والقتل وما كانوا يرجون من الغنـيـمة، وذلك حين

يقول: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}.

٦٥٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمْ} قال: الغمّ الأوّل: الـجراح والقتل¹ والغمّ الاَخر: حين سمعوا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغمّ الاَخر ما أصابهم من الـجراح والقتل، وما كانوا يرجون من الغنـيـمة، وذلك حين يقول اللّه : {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}.

وقال آخرون: بل الغمّ الأوّل ما كان فـاتهم من الفتـح والغنـيـمة¹ والثانـي إشراف أبـي سفـيان علـيهم فـي الشعب. وذلك أن أبـا سفـيان فـيـما زعم بعض أهل السير لـما أصاب من الـمسلـمين ما أصاب، وهرب الـمسلـمون، جاء حتـى أشرف علـيهم وفـيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي شعب أُحد الذي كانوا ولوا إلـيه عند الهزيـمة، فخافوا أن يصطلـمهم أبو سفـيان وأصحابه. ذكر الـخبر بذلك:

٦٥٣٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: انطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذٍ يدعو الناس حتـى انتهى إلـى أصحاب الصخرة، فلـما رأوه، وضع رجل سهما فـي قوسه، فأراد أن يرميه،

فقال: (أنا رَسُولُ اللّه ) ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيا، وفرح رسول اللّه حين رأى أن فـي أصحابه من يـمتنع. فلـما اجتـمعوا وفـيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ذهب عنهم الـحزن، فأقبلوا يذكرون الفتـح وما فـاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. فأقبل أبو سفـيان حتـى أشرف علـيهم¹ فلـما نظروا إلـيه، نسوا ذلك الذي كانوا علـيه، وهمّهم أبو سفـيان فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَـيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا، اللّه مّ إنْ تُقْتَلْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدُ) ثم ندب أصحابه فرموهم بـالـحجارة حتـى أنزلوهم، فقال أبو سفـيان يومئذٍ: اعل هبل! حنظلة بحنظلة، ويوم بـيوم بدر. وقتلوا يومئذٍ حنظلة بن الراهب وكان جنبـا فغسلته الـملائكة، وكان حنظلة بن أبـي سفـيان قُتل يوم بدر¹ قال أبو سفـيان: لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمر: (قُلِ اللّه مَوْلانا وَلا مَوْلـى لَكُمْ). فقال أبو سفـيان: فـيكم مـحمد؟

قالوا: نعم، قال: أما إنها قد كانت فـيكم مثلة، ما أمرت بها، ولا نهيت عنها، ولا سرّتنـي، ولا ساءتنـي. فذكر اللّه إشراف أبـي سفـيان علـيهم،

فقال: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} الغمّ الأوّل: ما فـاتهم من الغنـيـمة والفتـح¹ والغمّ الثانـي: إشراف العدوّ علـيهم، لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم من الغنـيـمة، ولا ما أصابكم من القتل حين تذكرون، فشغلهم أبو سفـيان.

٦٥٣٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي ابن شهاب الزهري، ومـحمد بن يحيـى بن حبـان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علـمائنا فـيـما ذكروا من حديث أُحد،

قالوا: كان الـمسلـمون فـي ذلك الـيوم لـما أصابهم فـيه من شدّة البلاء أثلاثا: ثلث قتـيـل، وثلث جريح، وثلث منهزم، وقد بلغته الـحرب حتـى ما يدري ما يصنع، وحتـى خـلص العدو إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدُثّ بـالـحجارة حتـى وقع لشقه، وأصيبت ربـاعيته، وشُجّ فـي وجهه، وكلـمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبـي وقاص. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه لواؤه حتـى قتل، وكان الذي أصابه ابن قميئة اللـيثـي، وهو يظن أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فرجع إلـى قريش فقال: قتلت مـحمدا.

٦٥٣٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: فكان أوّل من عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الهزيـمة، وقول الناس: قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنا ابن شهاب الزهري كعب بن مالك أخو بنـي سلـمة، قال: عرفت عينـيه تزهران تـحت الـمغفر، فناديت بأعلـى صوتـي: يا معشر الـمسلـمين أبشروا، هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم! فأشار إلـيّ رسول اللّه أن أنصت. فلـما عرف الـمسلـمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهضوا به ونهض نـحو الشعب معه علـيّ بن أبـي طالب وأبو بكر بن أبـي قحافة وعمر بن الـخطاب، وطلـحة بن عبـيد اللّه ، والزبـير بن العوّام، والـحارث بن الصامت فـي رهط من الـمسلـمين

قال: فبـينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، إذ علت عالـية من قريش الـجبل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (اللّه مّ إنّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أن يَعْلُونا) فقاتل عمر بن الـخطاب ورهط معه من الـمهاجرين، حتـى أهبطوهم عن الـجبل. ونهض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى صخرة من الـجبل لـيعلوها، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بدّن، فظاهر بـين درعين، فلـما ذهب لـينهض، فلـم يستطع، جلس تـحته طلـحة بن عبـيد اللّه ، فنهض حتـى استوى علـيها ثم إن أبـا سفـيان حين أراد الانصراف، أشرف علـى الـجبل، ثم صرخ بأعلـى صوته أنعمت فعالِ، إن الـحرب سجال، يوم بـيوم بدر، أعل هبل! أي أظْهِرْ دينك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمر: (قُمْ فأجِبْهُ فَقُلْ: اللّه أعْلَـى وأجَلّ، لا سَوَاءٌ، قَتْلانا فـي الـجَنّةِ، وقَتْلاَكُمْ فِـي النّارِ) فلـما أجاب عمر رضي اللّه عنه أبـا سفـيان، قال له أبو سفـيان: هلـمّ إلـيّ يا عمر! فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ائْتِهِ فـانْظُرْ ما شأْنُهُ!) فجاءه فقال له أبو سفـيان: أنشدك اللّه يا عمر، أقتلنا مـحمدا؟ فقال عمر: اللهمّ لا، وإنه لـيسمع كلامك الاَن. فقال: أنا أصدق عندي من ابن قميئة، وأشار لقول ابن قميئة لهم: إنـي قتلت مـحمدا. ثم نادى أبو سفـيان،

فقال: إنه قد كان فـي قتلاكم مثله، واللّه ما رضيت، ولا سخطت، ولا نهيت، ولا أمرت.

٦٥٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ}: أي كربا بعد كرب قتلُ من قُتل من إخوانكم، وعلوّ عدوّكم علـيكم، وما وقع فـي أنفسكم من قول من قال: قتل نبـيكم، فكان ذلك مـما تتابع علـيكم غما بغم، لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم من ظهوركم علـى عدوّكم بعد أن رأيتـموه بأعينكم، ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم¹ حتـى فرّجت بذلك الكرب عنكم، واللّه خبـير بـما تعلـمون. وكان الذي فرّج عنهم ما كانوا فـيه من الكرب والغمّ الذي أصابهم أن اللّه عزّ وجلّ ردّ عنهم كذبة الشيطان بقتل نبـيهم، فلـما رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيّا بـين أظهرهم، هان علـيهم ما فـاتهم من القوم، فهان الظهور علـيهم والـمصيبة التـي أصابتهم فـي إخوانهم، حين صرف اللّه القتل عن نبـيهم صلى اللّه عليه وسلم.

٦٥٣٧ـ حدثنا قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} قال ابن جريج: قال مـجاهد: أصاب الناس حزن وغمّ علـى ما أصابهم فـي أصحابهم الذين قتلوا، فلـما تولـجوا فـي الشعب يتصافون وقـف أبو سفـيان وأصحابه ببـاب الشعب، فظنّ الـمؤمنون أنهم سوف يـميـلون علـيهم فـيقتلونهم أيضا، فأصابهم حزن فـي ذلك أيضا أنساهم حزنهم فـي أصحابهم، فذلك قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} قال ابن جريج: قوله: {علـى ما فـاتَكُمْ}

يقول: علـى ما فـاتكم من غنائم القوم {ولا مَا أصَابَكُمُ} فـي أنفسكم.

٦٥٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن عبـيد بن عمير، قال: جاء أبو سفـيان بن حرب، ومن معه، حتـى وقـف بـالشعب، ثم نادى: أفـي القوم ابن أبـي كبشة؟ فسكتوا، فقال أبو سفـيان: قتل وربّ الكعبة، ثم قال: أفـي القوم ابن أبـي قحافة؟ فسكتوا،

فقال: قتل وربّ الكعبة! ثم قال: أفـي القوم عمر بن الـخطاب؟ فسكتوا،

فقال: قتل وربّ الكعبة! ثم قال أبو سفـيان: اعل هبل، يوم بـيوم بدر، وحنظلة بحنظلة، وأنتـم واجدون فـي القوم مُثلاً لـم يكن عن رأي سَراتنا وخيارنا، ولـم نكرهه حين رأيناه! فقال النبـي صلى اللّه عليه وسلم لعمر بن الـخطاب: (قُمْ فَنادِ فَقُلْ: اللّه أعْلَـى وأجَلّ، نعم هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا¹ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الـجنة، أصحاب الـجنة هم الفـائزون، قتلانا فـي الـجنة، وقتلاكم فـي النار).

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

٦٥٣٩ـ حدثنـي به مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ علـى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِـي أُخْرَاكُمْ} فرجعوا

فقالوا: واللّه لنأتـينهم، ثم لنفتلنهم، قد خرجوا منا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَهْلاً فإنّـمَا أصَابَكُمْ الّذي أصَابَكُمْ مِنْ أجْلِ أنّكُمْ عَصَيْتُـمُونِـي). فبـينـما هم كذلك، إذ أتاهم القوم، قد أنسوا، وقد اخترطوا سيوفهم، فكان غمّ الهزيـمة وغمهم حين أتوهم¹ {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ} من القتل {وَلا ما أصَابَكُمْ} من الـجراحة {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلا تَـحْزَنُوا}.. الاَية، وهو يوم أُحد.

وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية قول من قال: معنى قوله: {فَأثابَكُمْ غَمّا بِغَمّ} أيها الـمؤمنون بحرمان اللّه إياكم غنـيـمة الـمشركين، والظفر بهم، والنصر علـيهم، وما أصابكم من القتل والـجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم فـي كل ذلك ما تـحبون بـمعصيتكم ربكم، وخلافكم أمر نبـيكم صلى اللّه عليه وسلم، غمّ ظنكم أن نبـيكم صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، وميـل العدوّ علـيكم بعد فلولكم منهم.

والذي يدلّ علـى أن ذلك أولـى بتأويـل الاَية مـما خالفه، قوله: {لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} والفـائت لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إلـيه من غيرهم، إما من ظهور علـيهم بغلبهم، وإما من غنـيـمة يحتازونها، وأن قوله: {وَلا ما أصَابَكُمْ} هو ما أصابهم إما فـي أبدانهم، وإما فـي إخوانهم. فإن كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الغمّ الثانـي هو معنى غير هذين، لأن اللّه عزّ وجلّ أخبر عبـاده الـمؤمنـين به من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أنه ثابهم غما بغمّ، لئلا يحزنهم ما نالهم من الغمّ الناشىء عما فـاتهم من غيرهم، ولا ما أصابهم قبل ذلك فـي أنفسهم، وهو الغمّ الأول علـى ما قد بـيناه قبل.

وأما قوله: { لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} فإن تأويـله علـى ما قد بـينت من أنه لكيلا تـحزنوا علـى ما فـاتكم فلـم تدركوه مـما كنتـم ترجون إدراكه من عدوّكم بـالظفر علـيهم والظهور وحيازة غنائمهم، ولا ما أصابكم فـي أنفسكم من جرح من جُرح وقَتل من قُتل من إخوانكم.

وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـيه قبل علـى السبـيـل التـي اختلفوا فـيه، كما:

٦٥٤٠ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { لِكَيْلا تَـحْزَنُوا علـى ما فـاتَكُمْ وَلا ما أصَابَكُمْ} قال: علـى ما فـاتكم من الغنـيـمة التـي كنتـم ترجون، {وَلا ما أصَابَكُمْ} من الهزيـمة.

وأما قوله: {وَاللّه خَبِـيرٌ بِـمَا تَعْلَـمُونَ} فإنه يعنـي جلّ ثناؤه: واللّه بـالذي تعلـمون ـ أيها الـمؤمنون من إصعادكم فـي الوادي هربا من عدوكم، وانهزامكم منهم، وتنرككم نبـيكم وهو يدعوكم فـي أخراكم، وحزنكم علـى ما فـاتكم من عدوّكم، وما أصابكم فـي أنفسهم ـ ذو خبرة وعلـم، وهو مـحص ذلك كله علـيكم حتـى يجازيكم به الـمـحسن منكم بإحسانه، والـمسيء بإساءته، أو يعفو عنه.

١٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً ...}

يعنـي بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل اللّه أيها الـمؤمنون من بعد الغمّ الذي أثابكم ربكم بعد غمّ تقدمه قبله أمنة، وهي الأمان علـى أهل الإخلاص منكم والـيقـين، دون أهل النفـاق والشك. ثم بـين جل ثناؤه عن الأمنة التـي أنزلها علـيهم ما هي؟ فقال: نعاسا، بنصب النعاس علـى الإبدال من الأمنة.

ثم اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {يَغْشَى} فقرأ ذلك عامة قراء الـحجاز والـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين بـالتذكير بـالـياء: {يَغْشَى}. وقرأ جماعة من قراء الكوفـيـين بـالتأنـيث: {تَغْشَى} بـالتاء. وذهب الذين قرءوا ذلك بـالتذكير إلـى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من الـمؤمنـين دون الأمنة، فذكره بتذكير النعاس. وذهب الذين قرءوا ذلك بـالتأنـيث إلـى أن الأمنة هي التـي تغشاهم، فأنثوه لتأنـيث الأمنة.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفـيضتان فـي قراء الأمصار غير مختلفتـين فـي معنى ولا غيره، لأن الأمنة فـي هذا الـموضع هي النعاس، والنعاس: هو الأمنة. وسواء ذلك، وبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الـحقّ فـي قراءته، وكذلك جميع ما فـي القرآن من نظائره من نـحوقوله: {إنّ شَجَرَةَ الزّقُومِ طعَامُ الأثِـيـمِ كالـمُهْلِ تَغْلـي فـي البُطُونِ} و {ألَـمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ منّـي تُـمْنَى} {وَهُزّي إلَـيْكِ بِجذْعِ النّـخْـلَةِ تُسَاقِطْ}.

فإن قال قائل: وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما اللّه عزّ وجلّ فـيـما افترقتا فـيه من صفتهما، فآمنت إحداهما بنفسها حتـى نعست، وأهمت الأخرى نفسها حتـى ظنت بـاللّه غير الـحقّ ظنّ الـجاهلـية؟

قـيـل: كان سبب ذلك فـيـما ذكر لنا، كما:

٦٥٤١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أن الـمشركين انصرفوا يوم أُحُد بعد الذي كان من أمرهم وأمر الـمسلـمين، فواعدوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بدرا من قابل، فقال لهم: (نعم) فتـخوّف الـمسلـمون أن ينزلوا الـمدينة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً،

فقال: (انْظُر فإنْ رأيتهم قَعدُوا علـى أثْقَالهم وجَنَبُوا خُيُولَهُمْ، فإنّ القَوْمَ ذَاهِبُونَ، وإنْ رأيْتُهمْ قد قعدوا علـى خيولهم وجَنَبُوا علـى أثقالهم، فإنّ القَوْم يَنْزِلُونَ الـمَدِينَةَ، فـاتّقُوا اللّه واصْبِرُوا!) ووطنهم علـى القتال¹ فلـما أبصرهم الرسول تعدوا علـى الأثقال سراعا عجالاً، نادى بأعلـى صوته بذهابهم¹ فلـما رأى الـمؤمنون ذلك صدّقوا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فناموا، وبقـي أناس من الـمنافقـين يظنون أن القوم يأتونهم، فقال اللّه جلّ وعزّ يذكر حين أخبرهم النبـي صلى اللّه عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمنَةً نُعاسا يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ويَظُنّونَ بـاللّه غيرِ الـحَقّ ظَنّ الـجاهِلِـيّة}.

٦٥٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم، وإنـما ينعس من يأمن¹ {يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُم يَظُنّونَ بـاللّه غير ظَنّ الـجاهِلِـيّةِ}.

٦٥٤٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن أبـي طلـحة، قال: كنت فـيـمن أنزل علـيه النعاس يوم أُحد أمنة، حتـى سقط من يدي مرارا.

قال أبو جعفر: يعنـي: سوطه، أو سيفه.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبـي طلـحة، قال: رفعت رأسي يوم أُحد، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا تـحت حجفته يـميد من النعاس.

حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، عن أبـي طلـحة قال: كنت فـيـمن صبّ علـيه النعاس يوم أُحد.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، عن أبـي طلـحة: أنه كان يومئذٍ مـمن غشيه النعاس، قال: كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه من النعاس.

٦٥٤٤ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ذكر لنا واللّه أعلـم عن أنس أن أبـا طلـحة حدثهم أنه كان يومئذٍ مـمن غشيه النعاس، قال: فجعل سيفـي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه ويسقط، والطائفة الأخرى: الـمنافقون، لـيس لهم همة إلا أنفسهم {يَظُنونَ بـاللّه غيرَ الـحَقّ ظَنّ الـجاهِلِـيّةِ}.. الاَية كلها.

٦٥٤٥ـ حدثنا أحمد بن الـحسن الترمذي، قال: حدثنا ضرار بن صرد، قال: حدثنا عبد العزيز بن مـحمد، عن مـحمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن الـمسور بن مخرمة، عن أبـيه قال: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول اللّه عزّ وجلّ: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا} قال: ألقـي علـينا النوم يوم أُحد.

٦٥٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا}.. الاَية، وذاكم يوم أُحد، كانوا يومئذٍ فريقـين¹ فأما الـمؤمنون فغشاهم اللّه النعاس أمنة منه ورحمة.

٦٥٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، نـحوه.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {أمَنَةً نُعاسا} قال: ألقـي علـيهم النعاس، فكان ذلك أمنة لهم.

٦٥٤٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن أبـي رزين، قال: قال عبد اللّه : النعاس فـي القتال أمنة، والنعاس فـي الصلاة من الشيطان.

٦٥٤٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا} قال: أنزل النعاس أمنة منه علـى أهل الـيقـين به، فهم نـيام لا يخافون.

٦٥٥٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {أمَنَةً نُعاسا} قال: ألقـى اللّه علـيهم النعاس، فكان أمنة لهم. وذكر أن أبـا طلـحة قال: ألقـي علـيّ النعاس يومئذٍ، فكنت أنعس حتـى يسقط سيفـي من يدي.

٦٥٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبـي طلـحة، وهشام بن عروة بن الزبـير أنهما قالا: لقد رفعنا رءوسنا يوم أُحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يـميـل بجنب حجفته قال: وتلا هذه الاَية: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بـاللّه غيرَ الـحَقّ ظَن الـجاهِلِـيّة}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وطائفة منكم أيها الـمؤمنون قد أهمتهم أنفسهم،

يقول: هم الـمنافقون لا همّ لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل علـى أنفسهم، وخوف الـمنـية علـيها فـي شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بـاللّه الظنون الكاذبة، ظنّ الـجاهلـية من أهل الشرك بـالله، شكا فـي أمر اللّه ، وتكذيبـا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وَمَـحْسَبَةً منهم أن اللّه خاذل نبـيه، ومعل علـيه أهل الكفر به، يقولون: هل لنا من الأمر شيء. كالذي:

٦٥٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: والطائفة الأخرى: الـمنافقون، لـيس لهم همّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للـحقّ، يظنون بـاللّه غير الـحقّ ظنونا كاذبة، إنـما هم أهل شكّ وريبة فـي أمر اللّه ، يقولون: {لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبرزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمْ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِم}.

٦٥٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: والطائفة الأخرى: الـمنافقون لـيس لهم همة إلا أنفسهم، يظنون بـاللّه غير الـحقّ ظنّ الـجاهلـية، يقولون: {لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا} قال اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِمْ}.. الاَية.

٦٥٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ} قال: أهل النفـاق قد أهمتهم أنفسهم تـخوّف القتل، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة.

٦٥٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفسُهُمْ} إلـى آخر الاَية، قال: هؤلاء الـمنافقون.

وأما قوله: {ظَنّ الـجاهِلِـيّةِ} فإنه يعنـي أهل الشرك. كالذي:

٦٥٥٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {ظَنّ الـجاهِلِـيّة} قال: ظنّ أهل الشرك.

٦٥٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {ظَنّ الـجاهِلِـيّة} قال: ظنّ أهل الشرك.

وفـي رفع قوله: {وَطائِفَةٌ} وجهان: أحدهما أن تكون مرفوعة بـالعائد من ذكرها فـي قوله: {قَدْ أهَمّتْهُمْ}، والاَخر بقوله: {يَظُنّونَ بـاللّه غيرَ الـحَقّ} ولو كانت منصوبة كان جائزا، وكانت الواو فـي قوله: {وَطائفَةٌ} ظرفـا للفعل، بـمعنى: وأهمت طائفة أنفسهم، كما قال: {وَالسّماءَ بَنَـيْناها بأيْدٍ}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَقُولُونَ هَلْ لنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيّءٍ ...}:

يعنـي بذلك: الطائفة الـمنافقة التـي قد أهمتهم أنفسهم، يقولون: لـيس لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا. كما:

٦٥٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قـيـل لعبد اللّه بن أبـيّ: قتل بنو الـخزرج الـيوم! قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قل إن الأمر كله لله.

وهذا أمر مبتدأ من اللّه عزّ وجلّ، يقول لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمنافقـين إن الأمر كله لله، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ، ثم عاد إلـى الـخبر عن ذكر نفـاق الـمنافقـين،

فقال: {يُخْفُونَ فـي أنْفُسِهُمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ}

يقول: يخفـي يا مـحمد هؤلاء الـمنافقون الذين وصفت لك صفتهم فـي أنفسهم من الكفر والشكّ فـي اللّه ما لا يبدون لك، ثم أظهر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى ما كانوا يخفونه بـينهم من نفـاقهم، والـحسرة التـي أصابتهم علـى حضورهم مع الـمسلـمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرا عن قـيـلهم الكفر، وإعلانهم النفـاق بـينهم، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، يعنـي بذلك أن هؤلاء الـمنافقـين يقولون: لو كان الـخروج إلـى حرب من خرجنا لـحربه من الـمشركين إلـينا، ما خرجنا إلـيهم، ولا قتل منا أحد فـي الـموضع الذي قُتلوا فـيه بـأُحد. وذكر أن مـمن قال هذا القول معتب بن قشير أخو بنـي عمرو بن عوف. ذكر الـخبر بذلك:

٦٥٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: ثنـي يحيـى بن عبـاد بن عبد اللّه بن الزبـير عن أبـيه، عن عبد اللّه بن الزبـير، عن الزبـير، قال: واللّه إنـي لأسمع قول معتب بن قشير أخي بنـي عمرو بن عوف، والنعاس يغشانـي ما أسمعه إلا كالـحلـم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.

حدثنـي سعيد بن يحيـى بن الأموي، قال: ثنـي أبـي، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي يحيـى بن عبـاد بن عبد اللّه بن الزبـير، عن أبـيه، عن عبد اللّه بن الزبـير، عن أبـيه، بـمثله.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـحجاز والعراق: {قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ} بنصب الكلّ علـى وجه النعت للأمر والصفة له. وقرأه بعض قراء أهل البصرة: {قُلْ إنّ الأمْرُ كُلّهُ لِلّهِ} برفع الكلّ علـى توجيه الكلّ إلـى أنه اسم، وقوله (للّه) خبره، كقول القائل: إن الأمر بعضه لعبد اللّه . وقد يجوز أن يكون الكلّ فـي قراءة من قرأه بـالنصب منصوبـا علـى البدل. والقراءة التـي هي القراءة عندنا النصب فـي الكلّ لإجماع أكثر القراء علـيه، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ فـي معنى أو عربـية. ولو كانت القراءة بـالرفع فـي ذلك مستفـيضة فـي القراء، لكانت سواء عندي القراءة بأيّ ذلك قرىء لاتفـاق معانـي ذلك بأي وجهيه قرىء.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِمْ وَلِـيَبْتَلِـيَ اللّه ما فِـي صُدُورِكُمُ وَلِـيُـمَـحّصَ ما فِـي قُلُوبِكُمُ وَاللّه عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}:

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد للذين وصفت لك صفتهم من الـمنافقـين: لو كنتـم فـي بـيوتكم لـم تشهدوا مع الـمؤمنـين مشهدهم، ولـم تـحضروا معهم حرب أعدائهم من الـمشركين، فـيظهر للـمؤمنـين ما كنتـم تـخفونه من نفـاقكم، وتكتـمونه من شرككم فـي دينكم، لبرز الذين كتب علـيهم القتل،

يقول: لظهر للـموضع الذي كتب علـيه مصرعه فـيه من قد كتب علـيه القتل منهم، ويخرج من بـيته إلـيه، حتـى يصرع فـي الـموضع الذي كتب علـيه أن يصرع فـيه.

وأما قوله: {وَلِـيَبْتَلِـيَ اللّه ما فِـي صُدُورِكُمْ}: فإنه يعنـي به: ولـيبتلـي اللّه ما فـي صدوركم أيها الـمنافقون كنتـم تبرزون من بـيوتكم إلـى مضاجعكم. ويعنـي بقوله: {وَلِـيَبْتَلِـيَ اللّه ما فِـي صُدُورِكُم}: ولـيختبر اللّه الذي فـي صدوركم من الشكّ، فـيـميزكم بـما يظهره للـمؤمنـين من نفـاقكم من الـمؤمنـين.

وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معانـي نظائر قوله: {لِـيَبْتَلَـيَ اللّه } {ولِـيَعْلَـمَ اللّه } وما أشبه ذلك، وإن كان فـي ظاهر الكلام مضافـا إلـى اللّه الوصف به، فمراد به أولـياؤه وأهل طاعته¹ وأن معنى ذلك: ولـيختبر أولـياء اللّه ، وأهل طاعته، الذي فـي صدوركم من الشكّ والـمرض، فـيعرفوكم من أهل الإخلاص والـيقـين. {ولِـيُـمَـحّصَ ما فـي قُلُوبِكُمْ}

يقول: ولـيتبـينوا ما فـي قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين من العداوة أو الولاية. {وَاللّه عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}

يقول: واللّه ذو علـم بـالذي فـي صدور خـلقه من خير وشرّ وإيـمان وكفر، لا يخفـى علـيه شيء من أمورهم، سرائرها وعلانـيتها، وهو لـجميع ذلك حافظ، حتـى يجازي جميعم جزاءهم علـى قدر استـحقاقهم.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان ابن إسحاق يقول.

٦٥٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة. عن ابن إسحاق، قال: ذكر اللّه تلاومهم، يعنـي: تلاوم الـمنافقـين وحسرتهم علـى ما أصابهم. ثم قال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل لو كنتـم فـي بـيوتكم لـم تـحضروا هذا الـموضع الذي أظهر اللّه جل ثناؤه فـيه منكم ما أظهر من سرائركم، لأخرج الذي كتب علـيهم القتل إلـى موطن غيره يصرعون فـيه، حتـى يبتلـي به ما فـي صدوركم¹ ولـيـمـحص ما فـي قلوبكم، واللّه علـيـم بذات الصدور، أي لا يخفـي علـيه شيء مـما فـي صدورهم مـما استـخفوا به منكم.

٦٥٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا الـحرث بن مسلـم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبـيد، عن الـحسن، قال: سئل عن قوله: {قُلْ لَوْ كَنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلـيْهمْ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعَهُمْ} قال: كتب اللّه علـى الـمؤمنـين أن يقاتلوا فـي سبـيـله، ولـيس كل من يقاتل يقتل، ولكن يقتل من كتب اللّه علـيه القتل.

١٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ... }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين ولوا عن الـمشركين من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد وانهزموا عنهم،

وقوله: {تَوَلّوْا}: تفّعَلوا، من قولهم: ولّـى فلان ظهرهوقوله: {يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ} يعنـي: يوم التقـى جمع الـمشركين والـمسلـمين بـأُحد، {إنّـمَا اسْتَنزَلّهُمْ الشّيْطانُ}: أي إنـما دعاهم إلـى الزلة الشيطان. وقوله استزلّ: استفعل، من الزلة، والزلة: هي الـخطيئة. {بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} يعنـي: ببعض ما عملوا من الذنوب. {وَلَقَدْ عَفـا اللّه عَنْهُمْ}

يقول: ولقد تـجاوز اللّه عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه. {إنّ اللّه غَفُورٌ} يعنـي به: مغطّ علـى ذنوب من آمن به واتبع رسوله بعفوه عن عقوبته إياهم علـيها. {حَلِـيـمٌ} يعنـي: أنه ذو أناة، لا يعجل علـى من عصاه وخالف أمره بـالنقمة.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي أعيان القوم الذين عنوا بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عنـي بها كلّ من ولـى الدبر عن الـمشركين بـأُحد. ذكر من قال ذلك:

٦٥٦٢ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: حدثنا عاصم بن كلـيب، عن أبـيه، قال: خطب عمر يوم الـجمعة، فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلـما انتهى إلـى قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ} قال: لـما كان يوم أحد هزمناهم، ففررت حتـى صعدت الـجبل، فلقد رأيتنـي أنزو كأننـي أَرْوَى، والناس يقولون: قتل مـحمد! فقلت: لا أجد أحدا يقول قتل مـحمد إلا قتلته. حتـى اجتـمعنا علـى الـجبل، فنزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ}.. الاَية كلها.

٦٥٦٣ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ}.. الاَية، وذلك يوم أُحد، ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبـيّ اللّه يومئذٍ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتـخويفه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ ما تسمعون أنه قد تـجاوز لهم عن ذلك، وعفـا عنهم.

٦٥٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنـي عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمَعانِ}.. الاَية، فذكر نـحو قول قتادة.

وقال آخرون: بل عنـي بذلك خاصّ مـمن ولـى الدبر يومئذٍ،

قالوا: وإنـما عنى به الذين لـحقوا بـالـمدينة منهم دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:

٦٥٦٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما انهزوا يومئذٍ تفرّق عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه، فدخـل بعضهم الـمدينة، وانطلق بعضهم فوق الـجبل إلـى الصخرة، فقاموا علـيها، فذكر اللّه عزّ وجلّ الذين انهزموا، فدخـلوا الـمدينة،

فقال: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل نزل ذلك فـي رجال بأعيانهم معروفـين. ذكر من قال ذلك:

٦٥٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة، قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ} قال: نزلت فـي رافع بن الـمعلـى وغيره من الأنصار وأبـي حذيفة بن عتبة، ورجل آخر. قال ابن جريج:

وقوله: {إنّـمَا اسْتَزلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفـا اللّه عَنْهُمْ} إذ لـم يعاقبهم.

٦٥٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: فرْ عثمان بن عفـان، وعقبة بن عثمان، وسعد بن عثمان ـ رجلان من الأنصار ـ حتـى بلغوا الـجَلَعْب، جبل بناحية الـمدينة مـما يـلـي الأعوص. فأقاموا به ثلاثا، ثم رجعوا إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال لهم: (لقد ذَهَبْتُـمْ فـيها عَرِيضَةً).

٦٥٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ إنّـمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا}.. الاَية، والذين استزلهم الشيطان: عثمان بن عفـان، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان الأنصاريان، ثم الزّرَقـيان.

وأما قوله: {ولَقَدْ عَفَـا اللّه عَنْهُمْ} فإن معناه: ولقد تـجاوز اللّه عن الذين تولوا منكم يوم التقـى الـجمعان، أن يعاقبهم، بتولـيهم عن عدوّهم. كما:

٦٥٦٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قوله: {وَلَقَدْ عَفـا اللّه عَنْهُمْ}

يقول: ولقد عفـا اللّه عنهم إذ لـم يعاقبهم.

٦٥٧٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله فـي تولـيهم يوم أُحد: {وَلَقَدْ عَفَـا اللّه عَنْهُمْ} فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة، أم عفو عن الـمسلـمين كلهم.

وقد بـينا تأويـل قوله: {إنّ اللّه غَفُورٌ حَلِـيـمٌ} فـيـما مضى.

١٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ كَفَرُواْ ... }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا بـما جاء به مـحمد من عند اللّه ، لا تكونوا كمن كفر بـاللّه وبرسوله، فجحد نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال لإخوانه من أهل الكفر {إذا ضَرَبُوا فـي الأَرْضِ} فخرجوا من بلادهم سفرا فـي تـجارة، {أو كَانُوا غُزّى}

يقول: أو كان خروجهم من بلادهم غزاة، فهلكوا فماتوا فـي سفرهم، أو قتلوا فـي غزوهم، {لو كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وما قُتِلُوا} يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفـار، أنهم يقولون لـمن غزا منهم فقتل أو مات فـي سفر خرج فـيه فـي طاعة اللّه أو تـجارة: لو لـم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا فـي بلادهم ما ماتوا وما قتلوا. {لِـيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فـي قُلُوبِهِمْ} يعنـي: أنهم يقولون ذلك، كي يجعل اللّه قولهم ذلك حزنا فـي قلوبهم وغمّا، ويجهلون أن ذلك إلـى اللّه جل ثناؤه وبـيده. وقد

قـيـل: إن الذين نهى اللّه الـمؤمنـين بهذه الاَية أن يتشبهوا بهم فـيـما نهاهم عنه من سوء الـيقـين بـالله، هم عبد اللّه بن أبـيّ ابن سَلُول وأصحابه. ذكر من قال ذلك:

٦٥٧١ـ حدثنـي مـحمد قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ}.. الاَية

قال: هؤلاء الـمنافقون أصحاب عبد اللّه بن أبـيّ.

٦٥٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ أوْ كانُوا غُزّى} قول الـمنافق عبد اللّه بن أبـيّ ابن سَلُول.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون فـي ذلك: هم جميع الـمنافقـين. ذكر من قال ذلك:

٦٥٧٣ـ حدثنا ابن حميد

قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {يا أيها الّذِينَ آمَنوا لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإِخْوَانِهِمْ}.. الاَية: أي لا تكونوا كالـمنافقـين الذي ينهون إخوانهم عن الـجهاد فـي سبـيـل اللّه ، والضرب فـي الأرض فـي طاعة اللّه ، وطاعة رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا، وما قتلوا.

وأما قوله: {إذَا ضَرَبُوا فـي الأرْضِ} فإنه اختُلِف فـي تأويـله،

فقال بعضهم: هو السفر فـي التـجارة، والسير فـي الأرض لطلب الـمعيشة. ذكر من قال ذلك:

٦٥٧٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إذَا ضَرَبُوا فـي الأرضِ} وهي التـجارة.

وقال آخرون: بل هو السير فـي طاعة اللّه وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٦٥٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ}: الضرب فـي الأرض فـي طاعة اللّه وطاعة رسوله.

وأصل الضرب فـي الأرض: الإبعاد فـيها سيراوأما قوله: {أوْ كانُوا غُزّى} فإنه يعنـي: أو كانوا غُزاة فـي سبـيـل اللّه . والغُزّى: جمع غاز، جمع علـى فُعّل كما يجمع شاهد: شُهّد، وقائل: قُوّل. وقد ينشد بـيت رؤبة:

فـالـيَوْمَ قَدْ نَهْنَهَنِـي تَنَهْنُهيوأَوْلُ حِلْـمٍ لَـيْسَ بـالـمُسَفّةِ

وَقُوّلٌ إلاّ دَهٍ فَلا دَهِ

وينشد أيضا:

وقولهُمْ إلاّ دَهٍ فَلا دَهِ

وإنـما قـيـل: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ أوْ كانُوا غُزّى} بإصحاب ماضي الفعل الـحرف الذي لا يصحب مع الـماضي منه إلا الـمستقبل، فقـيـل: وقالوا لإخوانهم ثم

قـيـل: إذا ضربوا. وإنـما يقال فـي الكلام: أكرمتك إذ زرتنـي، ولا يقال: أكرمتك إذا زرتنـي، لأن القول الذي فـي قوله: {وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ} وإن كان فـي لفظ الـماضي فإنه بـمعنى الـمستقبل، وذلك أن العرب تذهب بـالذين مذهب الـجزاء، وتعاملها فـي ذلك معاملة (مَنْ) و(ما)، لتقارب معانـي ذلك فـي كثـير من الأشياء، وإن جمعهن أشياء مـجهولات غير مؤقتات توقـيت عمرو وزيد. فلـما كان ذلك كذلك، وكان صحيحا فـي الكلام فصيحا أن يقال للرجال: أكرم من أكرمك، وأكرم كل رجل أكرمك، فـيكون الكلام خارجا بلفظ الـماضي مع مَن وكل مـجهول، ومعناه الاستقبـال، إذ كان الـموصوف بـالفعل غير موقت، وكان (الذين) فـي قوله: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ} غير موقتـين، أجريت مـجرى (من) و(ما) فـي ترجمتها التـي تذهب مذهب الـجزاء وإخراج صلاتها بألفـاظ الـماضي من الأفعال وهي بـمعنى الاستقبـال، كما قال الشاعر فـي (ما):

وإنـي لاَتِـيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَىمن الأمْرِ وَاسْتـيجابَ ما كان فـي غَدِ

فقال: ما كان فـي غد، وهو يريد: ما يكون فـي غد، ولو كان أراد الـماضي لقال: ما كان فـي أمس، ولـم يجز له أن

يقول: ما كان فـي غد. ولو كان الذي موقتا، لـم يجز أن يقال: ذلك خطأ أن يقال لك: من هذا الذي أكرمك إذا زرته؟ لأن الذي ههنا موقت، فقد خرج من معنى الـجزاء، ولو لـم يكن فـي الكلام هذا، لكان جائزا فصيحا، لأن الذي يصير حينئذٍ مـجهولاً غير موقت، ومن ذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه } فردّ (يصدون) علـى (كفروا)، لأن (الذين) غير موقتة، فقوله: {كَفَرُوا} وإن كان فـي لفظ ماض، فمعناه الاستقبـال، وكذلك قوله: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعِمل صَالِـحا}،

وقوله: {إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ} معناه: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا علـيهم، وإلا من يتوب ويؤمن، ونظائر ذلك فـي القرآن والكلام كثـير¹ والعلة فـي كل ذلك واحدةوأما قوله: {لِـيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فـي قُلُوبِهِمْ} فإنه يعنـي بذلك: حزنا فـي قلوبهم. كما:

٦٥٧٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {فِـي قُلُوبِهِمْ} قال: يحزنهم قولهم لا ينفعهم شيئا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٥٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {لِـيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فِـي قُلُوبِهِمْ} لقلة الـيقـين بربهم جلّ ثناؤه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه يُحْيِـي ويُـمِيتُ وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {واللّه يُحْيـي ويُـمِيتُ}: واللّه الـمعجل الـموت لـمن يشاء من حيث يشاء، والـمـميت من يشاء كلـما شاء دون غيره من سائر خـلقه. وهذا من اللّه عزّ وجلّ ترغيب لعبـاده الـمؤمنـين علـى جهاد عدوّه، والصبر علـى قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قلّ عددهم، وكثر عدد أعدائهم وأعداء اللّه ، وإعلام منه لهم أن الإماتة والإحياء بـيده، وأنه لن يـموت أحد ولا يقتل إلابعد فناء أجله الذي كتب له، ونهي منه لهم إذ كان كذلك أن يجزعوا لـموت من مات منهم أو قتل من قُتل منهم فـي حرب الـمشركين. ثم قال جلّ ثناؤه: {وَاللّه بِـمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ}

يقول: إن اللّه يرى ما تعملون من خير وشرّ، فـاتقوه أيها الـمؤمنون، فإنه مـحص ذلك كله، حتـى يجازي كل عامل بعمله علـى قدر استـحقاقه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال ابن إسحاق.

٦٥٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه يُحيِـي ويُـمِيتُ}: أي يعجل ما يشاء ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته.

١٥٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه أَوْ مُتّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ }

يخاطب جل ثناؤه عبـاده الـمؤمنـين يقول لهم: لا تكونوا أيها الـمؤمنون فـي شكّ من أن الأمور كلها بـيد اللّه ، وأن إلـيه الإحياء والإماتة، كما شكّ الـمنافقون فـي ذلك، ولكن جاهدوا فـي سبـيـل اللّه ، وقاتلوا أعداء اللّه علـى يقـين منكم بأنه لا يقتل فـي حرب، ولا يـموت فـي سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفـاته. ثم وعدهم علـى جهادهم فـي سبـيـله الـمغفرة والرحمة، وأخبرهم أن موتا فـي سبـيـل اللّه وقتلاً فـي اللّه خير لهم مـما يجمعون فـي الدنـيا من حطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الـجهاد فـي سبـيـل اللّه ويتأخرون عن لقاء العدوّ. كما:

٦٥٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلَئِنْ قُتِلُتْـم فِـي سَبِـيـلِ اللّه أوْ مُتّـمْ لـمَغفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحمَةٌ خَيرٌ مِـمّا يَجمَعُونَ}: أي إن الـموت كائن لا بد منه، فموت فـي سبـيـل اللّه أو قتل خير لو علـموا فأيقنوا مـما يجمعون فـي الدنـيا التـي لها يتأخرون عن الـجهاد، تـخوّفـا من الـموت والقتل لـما جمعوا من زهيد الدنـيا وزهادة فـي الاَخرة.

وإنـما قال اللّه عزّ وجلّ: {لَـمَغفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِـمّا يَجْمَعُونَ} وابتدأ الكلام: (ولئن متـم أو قتلتـم) بحذف جزاء (لئن) لأن فـي قوله: {لَـمَغَفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِـمّا يَجْمَعُونَ} معنى جواز للـجزاء، وذلك أنه وعد خرج مخرج الـخبر.

فتأويـل الكلام: ولئن قتلتـم فـي سبـيـل اللّه أو متـم، لـيغفرنّ اللّه لكم ولـيرحمنكم، فدلّ علـى ذلك بقوله: {لَـمَغفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِـمّا يَجْمَعُونَ} وجمع مع الدلالة به علـيه الـخبر عن فضل ذلك علـى ما يؤثرونه من الدنـيا، وما يجمعون فـيها.

وقد زعم بعض أهل العربـية من أهل البصرة أنه إن

قـيـل: كيف يكون: {لَـمَغفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ} جوابـا لقوله: {وَلَئِنَ قُتِلتُـمْ فِـي سَبِـيـلِ اللّه أوْ مُتّـمْ} فإن القول فـيه أن يقال فـيه: كأنه قال: ولئن متـم أو قتلتـم، فذكر لهم رحمة من اللّه ومغفرة، إذ كان ذلك فـي السبـيـل،

فقال: {لَـمَغفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ}

يقول: لذلك {خَيرٌ مِـمّا تَـجْمَعُونَ} يعنـي لتلك الـمغفرة والرحمة خير مـما تـجمعون. ودخـلت اللام فـي قوله: {لَـمَغفِرَةٌ مِنَ اللّه } لدخولها فـي قوله: (ولئن)، كما

قـيـل: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَـيُولّنّ الأدْبـارَ}

١٥٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَئِنْ مّتّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللّه تُحْشَرُونَ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولئن متـم أو قتلتـم أيها الـمؤمنون، فإن إلـى اللّه مرجعكم ومـحشركم، فـيجازيكم بأعمالكم، فآثِروا ما يقرّبكم من اللّه ، ويوجب لكم رضاه، ويقرّبكم من الـجنة، من الـجهاد فـي سبـيـل اللّه ، والعمل بطاعته علـى الركون إلـى الدنـيا، وما تـجمعون فـيها من حطامها الذي هو غير بـاق لكم، بل هو زائل عنكم، وعلـى ترك طاعة اللّه والـجهاد، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم، ويوجب لكم سخطه، ويقرّبكم من النار.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال ابن إسحاق.

٦٥٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلَئِنْ مُتّـمْ أوْ قُتِلْتُـمْ} أيّ ذلك كان، {لإلِـى اللّه تُـحْشَرُونَ} أي أن إلـى اللّه الـمرجع، فلا تغرّنكم الـحياة الدنـيا، ولا تغترّوا بها، ولـيكن الـجهاد وما رغبكم اللّه فـيه منه آثر عندكم منها.

وأدخـلت اللام فـي قوله: {لإلِـى اللّه تُـحْشَرُونَ} لدخولها فـي قوله (ولئن)، ولو كانت اللام مؤخرة، إلـى قوله: (تـحشرون)، لأحدثت النون الثقـيـلة فـيه، كما تقول فـي الكلام: لئن أحسنت إلـيّ لأحسننّ إلـيك، بنون مثقلة، فكان كذلك قوله: (ولئن متـم أو قتلتـم لتـحشرنّ إلـى اللّه )، ولكن لـما حيز بـين اللام وبـين تـحشرون بـالصفة أدخـلت فـي الصفة، وسلـمت (تـحشرون)، فلـم تدخـلها النون الثقـيـلة، كما تقول فـي الكلام: لئن أحسنت إلـيّ لإلـيك أحسن، بغير نون مثقلة.

١٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّه لِنتَ لَهُمْ ...}

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه }: فبرحمة من اللّه و(ما) صلة، وقد بـينت وجه دخولها فـي الكلام فـي قوله: {إنّ اللّه لا يَستَـجِيـي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها} والعرب تـجعل (ما) صلة فـي الـمعرفة والنكرة، كما قال: {فبـمَا نقضِهِمْ ميثاقهُمْ} والـمعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وهذا فـي الـمعرفة، وقال فـي النكرة: {عمّا قلـيـلٍ لـيُصبحنَ نادمينَ} والـمعنى: عن قلـيـل. وربـما جعلت اسما وهي فـي مذهب صلة، فـيرفع ما بعدها أحيانا علـى وجه الصلة، ويخفض علـى إتبـاع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر:

فكَفَـى بِنَا فَضْلاً علـى مَنْ غيرِناحُبّ النَبِـيّ مـحَمّدٍ إيّانا

إذا جعل غير صلة رفعت بإضمار هو، وإن حفضت أتبعت من فأعربته، فذلك حكمة علـى ما وصفنا مع النكرات، فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من الكلام الإتبـاع، كما

قـيـل: {فبـما نَقْضِهْم مِيثَاقَهُمْ} والرفع جائز فـي العربـية.

وبنـحو ما قلنا فـي قوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ} قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٥٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ}

يقول: فبرحمة من اللّه لنت لهم.

وأما قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِـيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك} فإنه يعنـي بـالفظّ: الـجافـي، وبـالغلـيظ القلب: القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة، وكذلك صفته صلى اللّه عليه وسلم، كما وصفه اللّه : {بـالـمُؤْمِنِـينَ رَءُوفٌ رَحِيـمٌ}.

فتأويـل الكلام: فبرحمة اللّه يا مـحمد ورأفته بك، وبـمن آمن بك من أصحابك، لنت لهم لتبّـاعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتـى احتـملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الـجرم منهم جرمه، وأغضبت عن كثـير مـمن لو جفوت به، وأغلظت علـيه، لتركك ففـارقك، ولـم يتبعك، ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن اللّه رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من اللّه لنت لهم. كما:

٦٥٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِـيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ}: إي والله، لطهره اللّه من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبـا رحيـما بـالـمؤمنـين رءوفـا. وذكر لنا أن نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي التوراة: (لـيس بفظّ ولا غلـيظ ولا صخوب فـي الأسواق، ولا يجزي بـالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح).

٦٥٨٣ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بنـحوه.

٦٥٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـي قوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِـيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال: ذكر لـينه لهم، وصبره علـيهم لضعفهم، وقلة صبرهم علـى الغلظة لو كانت منه فـي كل ما خالفوا فـيه مـما افترض علـيهم من طاعة نبـيهم.

وأما قوله: {لانْفَضُوا مِنْ حَوْلِكَ} فإنه يعنـي: لتفرّقوا عنك. كما:

٦٥٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : قوله: {لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال: انصرفوا عنك.

٦٥٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {لا نْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي لتركوك.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...}.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {فـاعْفُ عَنْهُمْ}: فتـجاوز يا مـحمد عن تبـاعك وأصحابك من الـمؤمنـين بك، وبـما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم، ومكروه فـي نفسك. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وادع ربك لهم بـالـمغفرة لـما أتوا من جرم، واستـحقوا علـيه عقوبة منه. كما:

٦٥٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فـاعْفُ عَنْهُمْ}: أي فتـجاوز عنهم، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ذنوب من قارف من أهل الإيـمان منهم.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي من أجله أمر تعالـى ذكره نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يشاورهم، وما الـمعنى الذي أمره أن يشاورهم فـيه؟

فقال بعضهم: أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ} بـمشاورة أصحابه فـي مكايد الـحرب وعند لقاء العدوّ، تطيـيبـا منه بذلك أنفسهم، وتألفـا لهم علـى دينهم، ولـيروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان اللّه عزّ وجلّ قد أغناه بتدبـيره له أموره وسياسته إياه وتقويـمه أسبـابه عنهم. ذكر من قال ذلك:

٦٥٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه إنّ اللّه يُحِبّ الـمُتَوَكّلِـينَ} أمر اللّه عزّ وجلّ نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يشاور أصحابه فـي الأمور، وهو يأتـيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه اللّه عزم لهم علـى أرشده.

٦٥٨٩ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ} قال: أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يشاور أصحابه فـي الأمور، وهو يأتـيه الوحي من السماء لأنه أطيب لأنفسهم.

٦٥٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ}: أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت عنهم غنـيا، تؤلفهم بذلك علـى دينهم.

وقال آخرون: بل أمره بذلك فـي ذلك، وإن كان له الرأي وأصوب الأمور فـي التدبـير، لـما علـم فـي الـمشورة تعالـى ذكره من الفضل. ذكر من قال ذلك:

٦٥٩١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ} قال: ما أمر اللّه عزّ وجلّ نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بـالـمشورة إلا لـما علـم فـيها من الفضل.

٦٥٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن إياس بن دغفل، عن الـحسن: ما شاور قوم قط، إلا هدوا لأرشد أمورهم.

وقال آخرون: إنـما أمره اللّه بـمشاورة أصحابه فـيـما أمره بـمشاورتهم فـيه، مع إغنائه بتقويـمه إياه، وتدبـيره أسبـابه عن آرائهم، لـيتبعه الـمؤمنون من بعده، فـيـما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته فـي ذلك، ويحتذوا الـمثال الذي رأوه يفعله فـي حياته من مشاورته فـي أموره مع الـمنزلة التـي هو بها من اللّه أصحابه وتبـاعه فـي الأمر، ينزل بهم من أمر دينهم ودنـياهم، فـيتشاوروا بـينهم، ثم يصدروا عما اجتـمع علـيه ملؤهم¹ لأن الـمؤمنـين إذا تشاوروا فـي أمور دينهم متبعين الـحقّ فـي ذلك، لـم يخـلهم اللّه عزّ وجلّ من لطفه، وتوفـيقه للصواب من الرأي والقول فـيه.

قالوا: وذلك نظير قوله عزّ وجل الذي مدح به أهل الإيـمان: {وَأمْرُهُمْ شُورَى بَـيْنَهُمْ}. ذكر من قال ذلك:

٦٥٩٣ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: قال سفـيان بن عيـينة فـي قوله: {وَشاوِرهُمْ فِـي الأمْرِ} قال: هي للـمؤمنـين أن يتشاوروا فـيـما لـم يأتهم عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيه أثر.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ أمر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم وسلـم بـمشاورة أصحابه، فـيـما حزبه من أمر عدوّه ومكايد حربه، تألفـا منه بذلك من لـم تكن بصيرته بـالإسلام البصيرة التـي يؤمن علـيه معها فتنة الشيطان، وتعريفـا منه أمته ما فـي الأمور التـي تـحزبهم من بعده ومطلبها، لـيقتدوا به فـي ذلك عند النوازل التـي تنزل بهم، فـيتشاوروا فـيـما بـينهم، كما كانوا يرونه فـي حياته صلى اللّه عليه وسلم يفعله. فأما النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإن اللّه كان يعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلكوأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنـين بفعله فـي ذلك علـى تصادق وتأخّ للـحقّ وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميـل إلـى هوى، ولا حيد عن هدى¹ فـاللّه مسدّدهم وموفقهم.

وأما قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه } فإنه يعنـي: فإذا صحّ عزمك بتثبـيتنا إياك وتسديدنا لك فـيـما نابك وحزبك من أمر دينك ودنـياك، فـامض لـما أمرناك به علـى ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به علـيك أو خالفها، وتوكل فـيـما تأتـي من أمورك وتدع وتـحاول أو تزاول علـى ربك، فثق به فـي كل ذلك، وارض بقضائه فـي جميعه دون آراء سائر خـلقه ومعونتهم، فإن اللّه يحبّ الـمتوكلـين، وهم الراضون بقضائه، والـمستسلـمون لـحكمه فـيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. كما:

٦٥٩٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه إنّ اللّه يُحِبّ الـمُتَوكّلِـينَ} فإذا عزمت: أي علـى أمر جاءك منـي، أو أمر من دينك فـي جهاد عدوّك، لا يصلـحك ولا يصلـحهم إلا ذلك، فـامض علـى ما أمرت به، علـى خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك، وتوكل علـى اللّه : أي ارض به من العبـاد، إن اللّه يحبّ الـمتوكلـين.

٦٥٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه } أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، إذا عزم علـى أمر أن يـمضي فـيه، ويستقـيـم علـى أمر اللّه ، ويتوكل علـى اللّه .

٦٥٩٦ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه }.. الاَية، أمره اللّه إذا عزم علـى أمر أن يـمضي فـيه ويتوكل علـيه.

١٦٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللّه فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ... }

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: إن ينصركم اللّه أيها الـمؤمنون بـاللّه ورسوله، علـى من ناوأكم وعاداكم من أعدائه، والكافرين به، فلا غالب لكم من الناس،

يقول: فلن يغلبكم مع نصره إياكم أحد، ولو اجتـمع علـيكم من بـين أقطارها من خـلقه، فلا تهابوا أعداء اللّه لقلة عددكم، وكثرة عددهم، ما كنتـم علـى أمره، واستقمتـم علـى طاعته وطاعة رسوله، فإن الغلبة لكم والظفر دونهم. {وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} يعنـي: إن يخذلكم ربكم، بخلافكم أمره، وترككم طاعته وطاعة رسوله، فـيكلكم إلـى أنفسكم، فمن ذا الذي ينصركم من بعده،

يقول: فأيسوا من نصرة الناس، فإنكم لا تـجدون أمرا من بعد خذلان اللّه إياكم أن خذلكم،

يقول: فلا تتركوا أمري، وطاعتـي وطاعة رسولـي، فتهلكوا بخذلانـي إياكم. {وَعَلـى اللّه فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤمِنُونَ} يعنـي: ولكن علـى ربكم أيها الـمؤمنون فتوكلوا دون سائر خـلقه، وبه فـارضوا من جميع من دونه، ولقضائه فـاستسلـموا، وجاهدوا فـيه أعداءه، يكفكم بعونه، ويـمددكم بنصره. كما:

٦٥٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إنْ يَنْصُرْكُمْ اللّه فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعلـى اللّه فَلْـيَتَوكّلِ الـمُؤْمِنُونَ}: أي إن ينصرك اللّه فلا غالب لك من الناس، لن يضرّك خذلان من خذلك، وإن يخذلك، فلن ينصرك الناس، فمن الذي ينصركم من بعده: أي لا تترك أمري للناس، وارفُضْ (أمر) الناس لأمري {وَعَلـى اللّه } (لا علـى الناس) {فَلْـيَتَوَكّلِ الـمُؤْمِنُونَ}.

١٦١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَغُلّ وَمَن يَغْلُلْ ... }

اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء الـحجاز والعراق: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} بـمعنى: أن يخون أصحابه فـيـما أفـاء اللّه علـيهم من أموال أعدائهم. واحتـجّ بعض قارئي هذه القراءة، أن هذه الاَية نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فـي قطيفة فقدت من مغانـم القوم يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: لعلّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذها. ورووا فـي ذلك روايات. فمنها ما:

٦٥٩٨ـ حدثنا به مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا خصيف، قال: حدثنا مقسم، قال: ثنـي ابن عبـاس ، أن هذه الاَية: {وَما كانَ لِبَنِـيّ أنْ يَغُلّ} نزلت فـي قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، قال: فقال بعض الناس: أخذها! قال: فأكثروا فـي ذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القِـيامَةِ}.

٦٥٩٩ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد، قال: حدثنا خصيف، قال: سألت سعيد بن جبـير: كيف تقرأ هذه الاَية: {وَما ان لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} أو يُغَلّ؟ قال: لا، بل يَغُلّ، فقد كان النبـيّ واللّه يُغَلّ ويُقتل.

٦٦٠٠ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عبـاس : {وَما كانَ لِنَبِـيّ أن يَغُلّ} قال: كان ذلك فـي قطيفة حمراء فقدت فـي غزوة بدر، فقال من أصحاب النبـي صلى اللّه عليه وسلم: فلعلّ النبـيّ أخذها، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} قال سعيد: بل واللّه إن النبـيّ لُـيغلّ ويُقتل.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خلاد، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر،

فقالوا: أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ}.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مالك بن إسماعيـل، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبـير وعكرمة، فـي قوله: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} قالا: يَغُلّ، قال: قال عكرمة أو غيره، عن ابن عبـاس ، قال: كانت قطيفة فقدت يوم بدر،

فقالوا: أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: فأنزل اللّه هذه الاَية: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ}.

٦٦٠١ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا قزعة بن سويد البـاهلـي، عن حميد الأعرج، عن سعيد بن جبـير، قال: نزلت هذه الاَية: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} فـي قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنـيـمة.

٦٦٠٢ـ حدثنا نصر بن علـي الـجهضمي، قال: حدثنا معتـمر، عن أبـيه، عن سلـيـمان الأعمش، قال: كان ابن مسعود يقرأ: {مَا كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغَلّ}

فقال ابن عبـاس : بلـى، ويُقتل

قال: فذكر ابن عبـاس أنه إنـما كانت فـي قطيفة،

قالوا: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، غلّها يوم بدر، فأنزل اللّه : {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ}.

وقال آخرون مـمن قرأ ذلك كذلك بفتـح الـياء وضمّ الغين: إنـما نزلت هذه الاَية فـي طلائع كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجههم فـي وجه، ثم غنـم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلـم يقسم للطلائع، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الاَية علـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، يعلـمه فـيها أن فعله الذي فعله خطأ، وأن الواجب علـيه فـي الـحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم، ويعرّفه الواجب علـيه من الـحكم فـيـما أفـاء اللّه علـيه من الغنائم، وأنه لـيس له أن يخصّ بشيء منها أحدا مـمن شهد الوقعة أو مـمن كان ردءا لهم فـي غزوهم دون أحد. ذكر من قال ذلك:

٦٦٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القـيامَةِ}

يقول: ما كان للنبـيّ أن يقسم لطائفة من الـمسلـمين ويترك طائفة ويجور فـي القسم، ولكن يقسم بـالعدل، ويأخذ فـيه بأمر اللّه ، ويحكم فـيه بـما أنزل اللّه .

يقول: ما كان اللّه لـيجعل نبـيا يغلّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، استنّوا به.

٦٦٠٤ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك ، أنه كان يقرأ: {ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} قال: أن يعطي بعضا، ويترك بعضا، إذا أصاب مغنـما.

٦٦٠٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك ، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلائع، فغنـم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلـم يقسم للطلائع، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ}.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك : {ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ}

يقول: ما كان لنبـيّ أن يقسم لطائفة من أصحابه، ويترك طائفة، ولكن يعدل، ويأخذ فـي ذلك بأمر اللّه عزّ وجلّ، ويحكم فـيه بـما أنزل اللّه .

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} قال: ما كان له إذا أصاب مغنـما أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضا، ولكن يقسم بـينهم بـالسوية.

وقال آخرون مـمن قرأ ذلك بفتـح الـياء وضمّ الغين: إنـما أنزل ذلك تعريفـا للناس أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، لا يكتـم من وحي اللّه شيئا. ذكر من قال ذلك:

٦٦٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القـيامَةِ ثُمّ تُوَفّـى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ}: أي ما كان لنبـيّ أن يكتـم الناس ما بعثه اللّه به إلـيهم عن رهبة من الناس ولا رغبة، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القـيامة.

فتأويـل قراءة من قرأ ذلك كذلك: ما ينبغي لنبـيّ أن يكون غالاّ، بـمعنى: أنه لـيس من أفعال الأنبـياء خيانة أمـمهم. يقال منه: غلّ الرجل فهو يغلّ، إذا خان، غلولاً، ويقال أيضا منه: أغلّ الرجل فهو يُغِلّ إغلالاً، كما قال شريح: لـيس علـى الـمستعير غير الـمغلّ ضمان، يعنـي: غير الـخائن¹ ويقال منه: أغلّ الـجازر: إذا سرق من اللـحم شيئا مع الـجلد.

وبـما قلنا فـي ذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٦٠٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ}

يقول: ما كان ينبغي له أن يخون، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تـخونوا.

٦٦٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} قال: أن يخون.

وقرأ ذلك آخرون: (ما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغَلّ) بضم الـياء وفتـح الغين، وهي قراءة عُظْم قراء أهل الـمدينة والكوفة.

واختلف قارئو ذلك كذلك فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معناه: ما كان لنبـيّ أن يغله أصحابه. ثم أسقط الأصحاب، فبقـي الفعل غير مسمى فـاعله¹ وتأويـله: وما كان لنبـيّ أن يخان. ذكر من قال ذلك:

٦٦٠٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عوف، عن الـحسن أنه كان يقرأ: (وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغَلّ) قال عوف: قال الـحسن: أن يُخان.

٦٦١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغْلّ)

يقول: وما كان لنبـيّ أن يغله أصحابه الذين معه من الـمؤمنـين، ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر، وقد غلّ طوائف من أصحابه.

 

٦٦١١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: (وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغَلّ) قال: أن يغله أصحابه.

٦٦١٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: (وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغَلّ) قال الربـيع بن أنس،

يقول: ما كان لنبـيّ أن يغله أصحابه الذين معه، قال: ذكر لنا ـ واللّه أعلـم ـ أن هذه الاَية أنزلت علـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر، وقد غلّ طوائف من أصحابه.

وقال آخرون منهم: معنى ذلك: وما كان لنبـيّ أن يتهم بـالغلول فـيخون ويسرق. وكأن متأوّلـي ذلك كذلك وجهوا قوله: (وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يُغَلّ) إلـى أنه مراد به يغلّل، ثم خففت العين من يُفَعّل فصارت يفعل، كما قرأ من قرأ قوله: (فإنّهُمْ لا يُكْذِبُونك) بتأوّل يُكَذّبُونك.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} بـمعنى: ما الغلول من صفـات الأنبـياء، ولا يكون نبـيا من غلّ. وإنـما اخترنا ذلك، لأن اللّه عزّ وجلّ أوعد عقـيب قوله: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} أهل الغلول،

فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القِـيامَةِ}.. الاَية، والتـي بعدها، فكان فـي وعيده عقـيب ذلك أهل الغلول، الدلـيـل الواضح علـى أنه إنـما نهى بذلك عن الغلول، وأخبر عبـاده أن الغلول لـيس من صفـات أنبـيائه بقوله: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} لأنه لو كان إنـما نهى بذلك أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتهموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالغلول، لعقب ذلك بـالوعيد علـى التهمة، وسوء الظنّ برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لا بـالوعيد علـى الغلول، وفـي تعقـيبه ذلك بـالوعيد علـى الغلول بـيان بـين، أنه إنـما عرف الـمؤمنـين وغيرهم من عبـاده أن الغلول منتف من صفة الأنبـياء وأخلاقهم، لأن ذلك جرم عظيـم، والأنبـياء لا تأتـي مثله.

فإن قال قائل مـمن قرأ ذلك كذلك: فأولـى منه: وَما كان لنبـيّ أن يخونه أصحابه إن ذلك كما ذكرت، ولـم يعقب اللّه قوله: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ} إلا بـالوعيد علـى الغلول، ولكنه إنـما وجب الـحكم بـالصحة لقراءة من قرأ: (يُغَلّ) بضم الـياء وفتـح الغين، لأن معنى ذلك: وما كان للنبـيّ أن يغله أصحابه، فـيخونوه فـي الغنائم¹

قـيـل له: أفكان لهم أن يغلوا غير النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيخونوه، حتـى خصوا بـالنهي عن خيانة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإن

قالوا: نعم، خرجوا من قول أهل الإسلام، لأن اللّه لـم يبح خيانة أحد فـي قول أحد من أهل الإسلام قط.

وإن قال قائل: لـم يكن ذلك لهم فـي نبـيّ ولا غيره؟

قـيـل: فما وجه خصوصهم إذا بـالنهي عن خيانة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وغلوله وغلول بعض الـيهود، بـمنزلة فـيـما حرّم اللّه علـى الغالّ من أموالهما، وما يـلزم الـمؤتـمن من أداء الأمانة إلـيهما. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا من أن اللّه عزّ وجلّ نفـى بذلك أن يكون الغلول والـخيانة من صفـات أنبـيائه، ناهيا بذلك عبـاده عن الغلول، وآمرا لهم بـالاستنان بـمنهاج نبـيهم، كما قال ابن عبـاس فـي الرواية التـي ذكرناها من رواية عطية ثم عقب تعالـى ذكره نهيهم عن الغلول بـالوعيد علـيه،

فقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القِـيامَةِ}.. الاَيتـين معا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القِـيامَةِ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ومن يخن من غنائم الـمسلـمين شيئا، وفـيئهم، وغير ذلك، يأت به يوم القـيامة فـي الـمـحشر. كما:

٦٦١٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن يحيـى بن سعيد أبـي حيان، عن أبـي زرعة، عن أبـي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنه قام خطيبـا، فوعظ وذكر،

ثم قال: (ألا عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى رَقَبَتِهِ شاةٌ لَهَا ثُغاءٌ،

يَقُولُ: يا رَسُولَ اللّه أغِثْنِـي، فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا، قَدْ أبْلَغْتُكَ ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْـحَمَةٌ،

يَقُولُ: يا رَسُولَ اللّه أغِثْنِـي، فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ. ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى رَقَبَتِهِ صَامِت، فَـ

يَقُولُ: يا رَسُولَ اللّه أغِثْنِـي، فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ. ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى رَقَبَتِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ،

يَقُولُ: يا رَسُولَ اللّه أغِثْنِـي فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى رَقَبَتِهِ رِقاعٌ تَـخْفِقُ،

يَقُولُ: يا رَسُولَ اللّه أغِثْنِـي، فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن أبـي حيان، عن أبـي زرعة، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثل هذا، زاد فـيه: (علـى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغاءٌ، لا أُلْفِـيَنّ أحَدَكُمْ علـى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِياحٌ).

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أبو حيان، عن أبـي زرعة، عن عمرو بن جرير، عن أبـي هريرة، قال: قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـينا يوما، فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره،

فقال: (لا ظأُلْفَـينّ أحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغاءٌ،

يَقُولُ: يا رَسُولَ اللّه أغِثْنِـي) ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب، عن عبد الرحمن.

٦٦١٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، عن يعقوب القمي، قال: حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتـي يَوْمَ القِـيامَةِ يَحْمِلَ شاةً لَهَا ثُغاءٌ، يُنادِي: يا مُـحَمّدُ يا مُـحَمّدُ! فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّه شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتـي يَوْمَ القِـيامَةِ يَحْمِلُ جَمَلاً لَهُ رُغاءٌ،

يَقُولُ: يا مُـحَمّدُ يا مُـحَمّدُ! فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّه شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتـي يَوْمَ القِـيامَةِ يَحْمِلُ فَرَسا لَهُ حَمْـحَمَةٌ، يُنادِي: يا مُـحَمّدُ يا مُـحَمّدُ! فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّه شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتـي يَوْمَ القِـيامَةِ يَحْمِلُ قِشْعا مِنْ أدَمٍ يُناديٍ: يا مُـحَمّدُ يا مُـحَمّدُ! فَأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّه شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ).

٦٦١٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد، قال: حدثنا أبو إسحاق الشيبـانـي، عن عبد اللّه بن ذكوان، عن عروة بن الزبـير، عن أبـي حميد، قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصدّقا، فجاء بسواد كثـير، قال: فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يقبضه منه فلـما أتوه، جعل

يقول: هذا لـي، وهذا لكم¹ قال:

فقالوا: من أين لك هذا؟ قال: أهدي إلـيّ، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأخبروه بذلك، فخرج فخطب،

فقال: (أيّها النّاسُ، ما بـالـي أبْعَثُ قَوْما إلـى الصّدَقَةِ، فَـيَجِيءُ أحَدُهُمْ بـالسّوَادِ الكَثِـيرِ، فإذَا بَعَثْتُ مَنْ يَقْبِضُهُ قالَ: هَذَا لـي، وَهَذَا لَكُمْ! فإنْ كانَ صَادِقا أفَلا أُهْدِيَ لَهُ وَهُوَ فِـي بَـيْتِ أبِـيهِ، أوْ فِـي بَـيْتِ أُمّهِ؟)

ثُمّ قالَ: (أيّها النّاسُ، مَنْ بَعَثْناهُ علـى عَمَلٍ فَغَلّ شَيْئا، جاءَ بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى عُنُقِهِ يَحِملُهُ، فـاتّقُوا اللّه أنْ يَأتـي أحَدُكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغاءٌ، أوْ بَقَرَةٌ تَـخُورُ، أوْ شاةٌ تَثْغُو).

٦٦١٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية وابن نـمير وعبدة بن سلـيـمان، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن أبـي حميد الساعدي، قال: استعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له ابن الأتبـيّة علـى صدقات بنـي سلـيـم فلـما جاء قال: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لـي.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أفَلاَ يَجْلِسُ أحَدُكُمْ فِـي بَـيْتِهِ فَتأْتِـيهِ هَدِيّتُهُ!) ثُم حَمِدَ اللّه وأثْنَى عَلَـيْهِ،

ثُمّ قالَ: (أمّا بَعْدُ فإنّـي أسْتَعْمِلُ رِجالاً مِنْكُمْ علـى أُمُورٍ مِـمّا وَلانّـيِ اللّه ، فَـيَقُولُ أحَدُهُمْ: هَذَا الّذِي لَكُمْ، وَهَذَا هَدِيّةٌ أهْدِيَتْ إلـيّ أفَلاَ يَجْلِسُ فِـي بَـيْتِ أبِـيهِ أوْ بَـيْتِ أمّهِ فتأْتِـيهَ هَدِيّتُهُ! وَالّذِي نَفْسِي بِـيَدِهِ، لا يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا إلاّ جاءَ بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ يَحْمِلُهُ علـى عُنُقِهِ، فَلا أعْرِفَنّ ما جاء رَجُلٌ يَحْمِلُ بَعِيرا لَهُ رُغاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شاةً تَثْغُو). ثم رفع يده فقال: (ألا هَلْ بَلّغْتُ).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيـم، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن أبـي حميد، حدثه بـمثل هذا الـحديث،

قال: (أفَلا جَلَسْتَ فِـي بَـيْتِ أبِـيكَ وأُمّكَ حتـى تَأْتِـيَكَ هَدِيّتُكَ؟) ثم رفع يده حتـى إنـي لأنظر إلـى بـياض إبطيه، ثم قال (اللّه مّ هَلْ بَلّغْتُ) قال أبو حميد: بصر عينـي، وسمع أذنـي.

٦٦١٧ـ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنـي عمي عبد اللهبن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحرث أن موسى بن جبـير، حدّثه أن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الـحبـاب الأنصاري، حدّثه أن عبد اللّه بن أنـيس حدّثه: أنه تذاكر هو وعمر يوما الصدقة،

فقال: ألـم تسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: (مَنْ غَلّ منها بَعِيرا أو شَاةً فإنّه يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِـيَامَةِ)؟ قال عبد اللّه بن أنـيس: بلـى.

ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث سعد بن عبـادة مصدّقا،

فقال: (إياكَ يا سَعْدُ أنْ تَـجِيء يَوْمَ القِـيامَةِ بِبَعِيرٍ تَـحْمِلُهُ لَهُ رُغاء!) قال: لا آخذه ولا أجيء به فأعفـاه.

حدثنا أحمد بن الـمغيرة الـحمصي أبو حميد، قال: حدثنا الربـيع بن روح، قال: حدثنا ابن عياش، قال: حدثنا عبـيد اللّه بن عمر بن حفص، عن نافع مولـى ابن عمر، عن عبد اللّه بن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: أنه استعمل سعد بن عبـادة، فأتـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فسلـم علـيه، فقال له النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إيّاكَ يا سَعْدُ أنْ تَـجِيءَ يَوْمَ القِـيامَةِ تَـحْمِلُ علـى عُنُقِكَ بَعِيرا لَهُ رُغاءٌ!) فقال سعد: فإن فعلتُ يا رسول اللّه إن ذلك لكائن؟ قال: (نَعَمْ)، قال سعد: قد علـمت يا رسول اللّه أنـي أُسْأَلُ فـأُعْطِي، فأعفنـي! فأعفـاه.

٦٦١٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن حبـان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الـحرث، قال: ثنـي جدي عبـيد بن أبـي عبـيد، وكان أوّل مولود بـالـمدينة، قال: استعملت علـى صدقة دَوْس، فجاءنـي أبو هريرة فـي الـيوم الذي خرجت فـيه، فسلـم، فخرجت إلـيه، فسلـمت علـيه،

فقال: كيف أنت والبعير؟ كيف أنت والبقر؟ كيف أنت والغنـم؟ ثم قال: سمعت حِبّـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(مَنْ أخَذَ بَعِيرا بغَيْرِ حَقّهِ جاءَ بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ لَهْ رُغاءٌ، وَمَنْ أخَذَ بَقَرَةً بغَيْرِ حَقّها جاءَ بِها يَوْمَ القِـيامَةِ لَهَا خُوَارٌ، وَمَنْ أخَذَ شاةً بغَيْرِ حَقّها جاءَ بهَا يَوْمَ القِـيامةِ علـى عُنُقِهِ لَهَا ثُغاءٌ فإيّاكَ والبَقَرَ فإنّها أحَدّ قُرُونا وأشَدّ أظْلافـا!).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد بن مخـلد، قال: ثنـي مـحمد، عن عبد الرحمن بن الـحرث، عن جده عبـيد بن أبـي عبـيد، قال: استُعملت علـى صدقة دوس¹ فلـما قضيت العمل قدمت، فجاءنـي أبو هريرة فسلـم علـيّ،

فقال: أخبرنـي كيف أنت والإبل؟ ثم ذكر نـحو حديثه عن زيد، إلا أنه قال: (جاء بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ علـى عُنُقِهِ لَهُ رُغاءٌ).

٦٦١٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَما كانَ لِنَبِـيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِـمَا غَلّ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال قتادة: كان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، إذا غنـم مغنـما، بعث مناديا: (ألا لا يغلّنّ رجل مخيطا فما دونه! ألا لا يغلنّ رجل بعيرا فـيأتـي به علـى ظَهْرِهِ يَوْمَ القِـيَامَةِ له رُغَاءٌ! ألا لا يغلنّ رَجُلٌ فَرَسا، فـيأتـي به علـى ظهره يوم القـيامة له حمـحمة!).

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ تُوَفّـى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {ثُمّ تُوَفّـى كُلّ نَفْسٍ}: ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها وافـيا غير منقوص ما استـحقه واستوجبه من ذلك: {وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ}

يقول: لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم من غير أن يعتدي علـيهم، فـينقصوا عما استـحقوه. كما:

٦٦٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ثُمّ تُوَفّـي كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَـمُونَ} ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى علـيه.

١٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّه ك...}

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: أفمن اتبع رضوان اللّه فـي ترك الغلول كمن بـاء بسخط من اللّه بغلوله ما غلّ. ذكر من قال ذلك:

٦٦٢١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن طريف، عن الضحاك فـي قوله: {أفَمَنِ اتّبَعَ رِضُوَانَ اللّه } قال: من لـم يغلّ. {كَمَنْ بَـاءَ بَسَخطٍ مِنَ اللّه }: كمن غلّ.

٦٦٢٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي سفـيان بن عيـينة، عن مطرف بن مطرف، عن الضحاك قوله: {أفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّه } قال: من أدّى الـخمس. {كَمَنْ بَـاءَ بِسَخْطٍ مِنَ اللّه }: فـاستوجب سخطا من اللّه .

وقال آخرون فـي ذلك بـما:

٦٦٢٣ـ حدثنـي به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {أفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّه } علـى ما أحبّ الناس وسخطوا، {كَمَنْ بَـاءَ بِسَخْطٍ مِنَ اللّه } لرضا الناس وسخطهم؟

يقول: أفمن كان علـى طاعتـي، فثوابه الـجنة ورضوان من ربه، كمن بـاء بسخط من اللّه ، فـاستوجب غضبه، وكان مأواه جهنـم وبئس الـمصير؟ أسوأ الـمثلان؟ أي فـاعرفوا.

وأولـى التأولـين بتأويـل الاَية عندي، قول الضحاك بن مزاحم¹ لأن ذلك عقـيب وعبـيد اللّه علـى الغلول ونهيه عبـاده عنه، ثم قال لهم بعد نهيه عن ذلك ووعيده، أسواء الـمطيع لله فـيـما أمره ونهاه، والعاصي له فـي ذلك: أي أنهما لا يستويان ولا تستوي حالتاهما عنده، لأن لـمن أطاع اللّه فـيـما أمره ونهاه: الـجنة، ولـمن عصاه فـيـما أمره ونهاه: النار. فمعنى قوله: {أفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّه كَمَنْ بَـاءَ بِسَخْطٍ مِنَ اللّه } إذا: أفمن ترك الغلول وما نهاه اللّه عنه عن معاصيه وعمل بطاعة اللّه فـي تركه ذلك وفـي غيره مـما أمره به ونهاه من فرائضه، متبعا فـي كل ذلك رضا اللّه ، ومـجتنبا سخطه، {كَمَنْ بَـاءَ بِسَخْطٍ مِنَ اللّه } يعنـي: كمن انصرف متـحملاً سخط اللّه وغضبه، فـاستـحقّ بذلك سكنى جهنـم،

يقول: لـيسا سواءوأما قوله: {وَبِئْسَ الـمَصِير} فإنه يعنـي: وبئس الـمصير الذي يصير إلـيه ويئوب إلـيه من بـاء بسخط من اللّه جهنـم.

١٦٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّه واللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أن من اتبع رضوان اللّه ، ومن بـاء بسخط من اللّه مختلفو الـمنازل عند اللّه ، فلـمن اتبع رضوان اللّه الكرامة والثواب الـجزيـل، ولـمن بـاء بسخط من اللّه الـمهانة والعقاب الألـيـم. كما:

٦٦٢٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه وَاللّه بِصِيرٌ بِـمَا يَعْمَلُونَ}: أي لكل درجات مـما عملوا فـي الـجنة والنار، إن اللّه لا يخفـى علـيه أهل طاعته من أهل معصيته.

٦٦٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه }

يقول: بأعمالهم.

وقال آخرون: معنى ذلك لهم درجات عند اللّه ، يعنـي: لـمن اتبع رضوان اللّه منازل عند اللّه كريـمة. ذكر من قال ذلك:

٦٦٢٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه } قال: هي كقوله لهم درجات عند اللّه .

٦٦٢٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه }

يقول: لهم درجات عند اللّه .

وقـيـل قوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} كقول القائل: هم طبقات، كما قال ابن هَرْمة:

إنْ حُمّ الـمَنُونُ يكُون قَوْمٌلِرَيْبِ الدّهْرِ أمْ دَرَجَ السّيُول

وأما قوله: {وَاللّه بِصِيرٌ بِـمَا يَعْمَلُونَ} فإنه يعنـي: واللّه ذو علـم بـما يعمل أهل طاعته ومعصيته، لا يخفـى علـيه من أعمالهم شيء، يحصي علـى الفريقـين جميعا أعمالهم، حتـى توفـى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشرّ. كما:

٦٦٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه بِصِيرٌ بِـمَا يَعْمَلُونَ}

يقول: إن اللّه لا يخفـى علـيه أهل طاعته من أهل معصيته.

١٦٤

{لَقَدْ مَنّ اللّه عَلَى الْمُؤمِنِينَ ... }

يعنـي بذلك: لقد تطوّل اللّه علـى الـمؤمنـين، إذ بعث فـيهم رسولاً، حين أرسل فـيهم رسولاً من أنفسهم، نبـيا من أهل لسانهم، ولـم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول {يَتْلُو عَلَـيْهِمْ آيَاتِهِ}

يقول: يقرأ علـيهم آي كتابه وتنزيـله. {ويزكّيهم} يعنـي: يطهرهم من ذنوبهم بـاتبـاعهم إياه، وطاعتهم له فـيـما أمرهم ونهاهم {وَيُعَلّـمُهُمُ الكِتَابَ والـحِكْمَةَ} يعنـي: ويعلـمهم كتاب اللّه الذي أنزل علـيه، ويبـين لهم تأويـله ومعانـيه، والـحكمة ويعنـي بـالـحكمة: السنة التـي سنها اللّه جل ثناؤه للـمؤمنـين علـى لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبـيانه لهم {وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ} يعنـي: إن كانوا من قبل أن يـمنّ اللّه علـيهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته، لفـي ضلال مبـين،

يقول: فـي جهالة جهلاء، وفـي حيرة عن الهدى عمياء، لا يعرفون حقا، ولا يبطلون بـاطلاً. وقد بـينا أصل الضلالة فـيـما مضى، وأنه الأخذ علـى غير هدى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع والـمبـين: الذي يبـين لـمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه أنه علـى غير استقامة ولا هدى.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٦٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لَقَدْ مَنّ اللّه علـى الـمُؤْمِنِـينَ إذْ بَعَثَ فِـيهمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ} منّ اللّه علـيهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة، جعله اللّه رحمة لهم، لـيخرجهم من الظلـمات إلـى النور، ويهديهم إلـى صراط مستقـيـم قوله: {وَيُعَلّـمُهُمُ الكِتَابَ والـحِكْمَةَ} الـحكمة: السنة. {وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ}: لـيس اللّه كما تقول أهل حَرُوراء: مـحنة غالبة من أخطأها أهريق دمه، ولكن اللّه بعث نبـيه صلى اللّه عليه وسلم إلـى قوم لا يعلـمون فعلـمهم، وإلـى قوم لا أدب لهم فأدبهم.

٦٦٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: {لَقَدْ مَنّ اللّه عَلـى الـمُوءْمِنـينَ} إلـى قوله {لَفِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ}: أي لقد منّ اللّه علـيكم يا أهل الإيـمان إذ بعث فـيكم رسولاً من أنفسكم، يتلو علـيكم آياته، ويزكيكم فـيـما أخذتـم، وفـيـما علـمتـم، ويعلـمكم الـخير والشرّ، لتعرفوا الـخير فتعملوا به، والشرّ فتتقوه، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتـموه، لتستكثروا من طاعته، وتـجتنبوا ما سخط منكم من معصيته، فتتـخـلصوا بذلك من نقمته، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته. {وَإنْ كُنْتُـمْ مِنْ قَبْلُ لَفِـي ضَلالٍ مُبِـينٍ} أي فـي عمياء من الـجاهلـية لا تعرفون حسنة، ولا تستغيثون من سيئة، صمّ عن الـحقّ، عمي عن الهدى.

١٦٥

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ ...}

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: أو حين أصابتكم أيها الـمؤمنون مصيبة، وهي القتلـى الذين قتلوا منهم يوم أحد، والـجرحى الذين جرجوا منهم بـأُحد، وكان الـمشركون قتلوا منهم يومئذ سبعين نفرا. {قد أصبتـم مثلـيها}

يقول: قد أصبتـم أنتـم أيها الـمؤمنون من الـمشركين مثلـي هذه الـمصيبة التـي أصابوا هم منكم، وهي الـمصيبة التـي أصابها الـمسلـمين من الـمشركين ببدر، وذلك أنهم قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين. {قُلْتُـمْ أنّى هَذَا} يعنـي: قلتـم لـما أصابتكم مصيبتكم بـأُحد: {أنّى هَذَا} من أيّ وجه هذا، ومن أين أصابنا هذا الذي أصابنا، ونـحن مسلـمون، وهم مشركون، وفـينا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يأتـيه الوحي من السماء، وعدوّنا أهل كفر بـاللّه وشرك؟ قل يا مـحمد للـمؤمنـين بك من أصحابك: {هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمُ}

يقول: قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري، وترككم طاعتـي، لا من عند غيركم، ولا من قبل أحد سواكم. {إنّ اللّه علـى كُلّ شيءٍ قَدِيرٌ}

يقول: إن اللّه علـى جميع ما أراد بخـلقه من عفو وعقوبة وتفضل وانتقام قدير، يعنـي: ذو قدرة.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ} بعد إجماع جميعهم علـى أن تأويـل سائر الاَية علـى ما قلنا فـي ذلك من التأويـل،

فقال بعضهم: تأويـل ذلك: قل هو من عند أنفسكم، بخلافكم علـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ أشار علـيكم بترك الـخروج إلـى عدوّكم والإصحار لهم، حتـى يدخـلوا علـيكم مدينتكم، ويصيروا بـين آطامكم، فأبـيتـم ذلك علـيه، وقلتـم: أخرج بنا إلـيهم حتـى نُصْحر لهم فنقاتلهم خارج الـمدينة. ذكر من قال ذلك:

٦٦٣١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها قُلْتُـمْ أنّى هَذَا} أصيبوا يوم أُحد، قتل منهم سبعون يومئذ، وأصابوا مثلـيها يوم بدر، قتلوا من الـمشركين سبعين، وأسروا سبعين. {قُلْتُـمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ} ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه يوم أُحد حين قدم أبو سفـيان والـمشركون، فقال نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: (إنّا فِـي جُنّةٍ حَصِينَةٍ) ـ يعنـي بذلك: الـمدينة ـ (فَدَعُوا القَوْمَ أنْ يَدْخُـلُوا عَلَـيْنا نُقاتِلْهُمْ) فقال ناس له من أصحابه من الأنصار: يا نبـيّ اللّه : إنا نكره أن نقتل فـي طرق الـمدينة، وقد كنا نـمتنع فـي الغزو فـي الـجاهلـية، فبـالإسلام أحقّ أن نـمتنع فـيه، فـابرز بنا إلـى القوم! فـانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلبس لأمته، فتلاوم القوم، فقالوا عرّض نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأمر، وعرّضتـم بغيره، اذهب يا حمزة فقل لنبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أمرنا لأمرك تبع! فأتـى حمزة فقال له: يا نبـيّ اللّه إن القوم قد تلاوموا، و

قالوا: أمرنا لأمرك تبع. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّهُ لَـيْسَ لِنَبِـيّ إذَا لَبِسَ لأْمَتَهُ أنْ يَضَعَها حتـى يُناجِزَ، وَإنّهُ سَتَكُوُنُ فِـيكُمْ مُصِيبَةٌ)

قالوا: يا نبـيّ اللّه خاصة أو عامة؟ قال: (سَترَوْنَها). ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى فـي الـمنام أن بقرا تنـحر، فتأوّلها قتلاً فـي أصحابه. ورأى أن سيفه ذا الفقار انقصم، فكان قتل عمه حمزة، قُتِل يومئذ، وكان يقال له أسد اللّه . ورأى أن كبشا عُتِرَ، فتأوّله كبش الكتـيبة عثمان بن أبـي طلـحة أصيب يومئذ، وكان معه لواء الـمشركين.

٦٦٣٢ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بنـحوه، غير أنه قال: {قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها}

يقول: مثلـي ما أصيب منكم، {قُلْتُـمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ}

يقول: بـما عصيتـم.

٦٦٣٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: أصيب الـمسلـمون يوم أُحد مصيبة، وكانوا قد أصابوا مثلـيها يوم بدر مـمن قتلوا وأسروا، فقال اللّه عزّ وجلّ: {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها}.

٦٦٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، قال: قتل الـمسلـمون من الـمشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين¹ وقتل الـمشركون يوم أُحد من الـمسلـمين سبعين، فذلك قوله: {قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها قُلْتُـمْ أنّى هَذَا} إذ نـحن مسلـمون نقاتل غضبـا لله، وهؤلاء مشركون¹ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ} عقوبة لكم بـمعصيتكم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حين قال ما قال.

٦٦٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن مبـارك، عن الـحسن: {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها قُلْتُـمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ}

قالوا: فإنـما أصابنا هذا، لأنا قبلنا الفداء يوم بدر من الأسارى، وعصينا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد، فمن قتل منا كان شهيدا، ومن بقـي منا كان مطهرا، رضينا بـاللّه ربّـا.

٦٦٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن مبـارك، عن الـحسن وابن جريج، قالا: معصيتهم أنه قال لهم: لا تتبعوهم يوم أُحد فـاتبعوهم.

٦٦٣٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، ثم ذكر ما أصيب من الـمؤمنـين، يعنـي بـأُحد، وقتل منهم سبعون إنسانا¹ {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها} كانوا يوم بدر أسروا سبعين رجلاً وقتلوا سبعين. {قُلْتُـمْ أنّى هَذَا}: أي من أين هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ} أنكم عصيتـم.

٦٦٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها}

يقول: إنكم أصبتـم من الـمشركين يوم بدر، مثلـي ما أصابوا منكم يوم أُحد.

٦٦٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: ثم ذكر الـمصيبة التـي أصابتهم،

فقال: {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها قُلْتُـمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ}: أي إن تك قد أصابتكم مصيبة فـي إخوانكم فبذنوبكم قد أصبتـم مثلـيها قتلاً من عدوّكم فـي الـيوم الذي كان قبله ببدر، قتلـى وأسرى، ونسيتـم معصيتكم وخلافكم ما أمركم به نبـيكم صلى اللّه عليه وسلم، إنكم أحللتـم ذلك بأنفسكم. {إنّ اللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: أي إن اللّه علـى كل ما أراد بعبـاده من نقمة أو عفو قدير.

٦٦٤٠ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {أوْ لَـمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُـمْ مِثْلَـيْها}.. الاَية، يعنـي بذلك: أنكم أصبتـم من الـمشركين يوم بدر مثلـي ما أصابوا منكم يوم أُحد.

وقال بعضهم: بل تأويـل ذلك: قل هو من عند أنفسكم بإسارتكم الـمشركين يوم بدر، وأخذكم منهم الفداء، وترككم قتلهم. ذكر من قال ذلك:

٦٦٤١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبـيدة، قال: أسر الـمسلـمون من الـمشركين سبعين، وقتلوا سبعين، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اخْتارُوا أنْ تَأْخُذُوا مِنْهُمُ الفِدَاءَ فَتَتَقَوّوْا بِهِ علـى عَدُوّكُمْ، وَإنْ قَبِلْتُـمُوهُ قُتِلَ مِنْكُمْ سَبْعونَ أوْ تَقْتُلُوهُمْ)

فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، ويقتل منا سبعون

قال: فأخذوا الفدية منهم، وقتلوا منهم سبعين¹ قال عبـيدة: وطلبوا الـخيرتـين كلتـيهما.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبـيدة أنه قال فـي أسارى بدر: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنْ شِئْتُـمْ قَتَلْتُـمُوهُمْ، وَإنْ شئْتُـمْ فـادَيْتُـمُوهُمْ وَاسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ بِعِدّتِهِمْ).

قالوا: بل نأخذ الفداء فنستـمتع به، ويستشهد منا بعدّتهم.

٦٦٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي إسماعيـل، عن ابن عون، عن مـحمد، عن عبـيدة السلـمانـي¹ وحدثنـي حجاج عن جرير، عن مـحمد، عن عبـيدة السلـمانـي، عن علـيّ، قال: جاء جبريـل إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال له: يا مـحمد إن اللّه قد كره ما صنع قومك فـي أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تـخيرهم بـين أمرين، أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وبـين أن يأخذوا الفداء علـى أن يقتل منهم عدتهم

قال: فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس، فذكر ذلك لهم.

فقالوا: يا رسول اللّه ، عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوّى به علـى قتال عدوّنا ويستشهد منا عدتهم، فلـيس فـي ذلك ما نكره! قال: فقتل منهم يوم أُحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر.

١٦٦

انظر تفسير الآية: ١٦٧

١٦٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ...}

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذي أصابكم يوم التقـى الـجمعان، وهو يوم أُحد حين التقـى جمع الـمسلـمين والـمشركين. ويعنـي بـالذي أصابهم: ما نال من القتل من قُتِل منهم، ومن الـجراح من جُرح منهم {فبإذْنِ اللّه }

يقول: فهو بإذن اللّه كان، يعنـي: بقضائه وقدره فـيكم. وأجاب (ما) بـالفـاء، لأن (ما) حرف جزاء، وقد بـينت نظير ذلك فـيـما مضى قبل: {وَلِـيَعْلَـمَ الـمُؤمِنِـينَ ولـيعلـمَ الّذَينَ نافَقُوا} بـمعنى: ولـيعلـم اللّه الـمؤمنـين، ولـيعلـم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقـى الـجمعان بـأُحد، لـيـميز أهل الإيـمان بـاللّه ورسوله الـمؤمنـين منكم من الـمنافقـين فـيعرفونهم، لا يخفـى علـيهم أمر الفريقـين. وقد بـينا تأويـل قوله: {وَلِـيَعْلَـمَ الـمُؤمِنِـينَ} فـيـما مضى، وما وجه ذلك، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك، قال ابن إسحاق.

٦٦٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَما أصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَـى الـجَمْعانِ فَبإذْنِ اللّه وَلِـيَعْلَـمَ الـمؤمِنِـينَ}: أي ما أصابكم حين التقـيتـم أنتـم وعدوّكم فبإذنـي، كان ذلك حين فعلتـم ما فعلتـم بعد أن جاءكم نصري وصدقتـم وعدي، لـيـميز بـين الـمنافقـين والـمؤمنـين، {وَلِـيَعْلَـمَ الّذِينَ نَافَقُوا} منكم، أي لـيظهرُوا ما فـيهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقِـيـلَ لَهمْ تَعَالَوْا قاتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه ...}.

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول الـمنافق وأصحابَهُ الذين رجعوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى الـمشركين بـأُحد لقتالهم، فقال لهم الـمسلـمون: تعالوا قاتلوا الـمشركين معنا، أو ادفعوا بتكثـيركم سوادنا!

فقالوا: لو نعلـم أنكم تقاتلون لسرنا معكم إلـيهم، ولكنا معكم علـيهم، ولكن لا نرى أنه يكون بـينكم وبـين القوم قتال. فأبدوا من نفـاق أنفسهم ما كانوا يكتـمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً لاتّبَعْناكُمْ} غير ما كانوا يكتـمونه ويخفونه، من عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهل الإيـمان به. كما:

٦٦٤٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن مسلـم بن شهاب الزهري، ومـحمد بن يحيـى بن حبـان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والـحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علـمائنا كلهم، قد حدّث، قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ يعنـي: حين خرج إلـى أُحد ـ فـي ألف رجل من أصحابه، حتـى إذا كانوا بـالشوط بـين أُحد والـمدينة انـخزل عنهم عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول بثلث الناس، فقال أطاعهم فخرج وعصانـي، واللّه ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس¹ فرجع بـمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفـاق وأهل الريب، واتبعهم عبد اللّه بن عمرو بن حرام أخو بنـي سلـمة،

يقول: يا قوم أذكركم اللّه أن تـخذلوا نبـيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم،

فقالوا: لو نعلـم أنكم تقاتلون ما أسلـمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلـما استعصوا علـيه، وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم اللّه أعداء اللّه ، فسيغنـي اللّه عنكم! ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٦٦٤٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَقِـيـلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أوِ ادْفَعُوا} يعنـي: عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول وأصحابه، الذين رجعوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حين سار إلـى عدوّه من الـمشركين بـأُحدوقوله: {لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً لاتّبَعْناكُمْ}

يقول: لو نعلـم أنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولدفعنا عنكم، ولكن لا نظنّ أن يكون قتال، فظهر منهم ما كانوا يخفون فـي أنفسهم. يقول اللّه عزّ وجلّ: {هُمْ للْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْربُ مِنْهمْ للإيِـمَانِ} ولـيس فـي قلوبهم {وَاللّه أعْلَـمُ بِـمَا يَكْتُـمُونَ}: أي يخفون.

٦٦٤٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ يعنـي: يوم أُحد ـ فـي ألف رجل، وقد وعدهم الفتـح إن صبروا¹ فلـما خرجوا رجع عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول فـي ثلثمائة، فتبعهم أبو جابر السلـمي يدعوهم، فلـما غلبوه وقالوا له: ما نعلـم قتالاً، ولئن أطعتنا لترجعنّ معنا.

قال: فذكر اللّه أصحاب عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول، وقول عبد اللّه بن جابر بن أبـي عبد اللّه الأنصاري حين دعاهم،

فقالوا: ما نعلـم قتالاً، ولئن أطعتـمونا لترجعنّ معنا،

فقال: {الّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطَاعُوَنا ما قُتِلُوا قُلْ فـادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الـمَوْتَ}.

٦٦٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج قال: قال ابن جريج: قال عكرمة: {قالُوا لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً لاتّبَعْناكمْ} قال: نزلت فـي عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد: {لَوْ نَعْلَـمُ قِتالاً} قال: لو نعلـم أنا واجدون معكم قتالاً، لو نعلـم مكان قتال لاتبعناكم.

واختلفوا فـي تأويـل قوله {أوِ ادْفَعُوا}

فقال بعضهم: معناه: أو كثّروا، فإنكم إذا كثرتـم دفعتـم القوم. ذكر من قال ذلك:

٦٦٤٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {أوِ ادْفَعُوا}

يقول: أو كثروا.

٦٦٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {أوِ ادْفَعُوا} قال: بكثرتكم العدوّ وإن لـم يكن قتال.

وقال آخرون: معنى ذلك: أو رابطوا إن لـم تقاتلوا. ذكر من قال ذلك:

٦٦٥٠ـ حدثنا إسماعيـل بن حفص الاَملـي وعلـيّ بن سهل الرملـي، قالا: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: حدثنا عتبة بن ضمرة، قال: سمعت أبـا عون الأنصاريّ فـي قوله: {قاتِلوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أوِ ادْفَعُوا} قال: رابطوا.

وأما قوله: {وَاللّه أعْلَـمُ بِـمَا يَكْتُـمونَ} فإنه يعنـي به: واللّه أعلـم من هؤلاء الـمنافقـين الذين يقولون من العداوة والشنآن، وأنهم لو علـموا قتالاً ما تبعوهم، ولا دافعوا عنهم، وهو تعالـى ذكره مـحيط بـما يخفونه من ذلك، مطلع علـيه، ومـحصيه علـيهم حتـى يهتك أستارهم فـي عاجل الدنـيا، فـيفضحهم به، ويصلـيهم به الدرك الأسفل من النار فـي الاَخرة.

١٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ ... }

يعنـي تعالـى ذكره بذلك: ولـيعلـم اللّه الذين نافقوا، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا. فموضع (الذين) نصب علـى الإبدال من (الذين نافقوا)، وقد يجوز أن يكون رفعا علـى الترجمة عما فـي قوله: {يَكْتُـمُوْنَ} من ذكر (الذين نافقوا)

فمعنى الاَية: ولـيعلـم اللّه الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع الـمسلـمين فـي حربهم الـمشركين بـأُحد يوم أُحد، فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم، {وقَعَدُوا} يعنـي: وقعد هؤلاء الـمنافقون القائلون ما قالوا مـما أخبر اللّه عزّ وجلّ عنهم من قـيـلهم عن الـجهاد مع إخوانهم وعشائرهم فـي سبـيـل اللّه : {لو أَطاعُونَا} يعنـي: لو أطاعنا من قتل بـأُحد من إخواننا وعشائرنا {ما قُتِلُوا} يعنـي: ما قتلوا هنالك. قال اللّه عزّ وجلّ لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء القائلـين هذه الـمقالة من الـمنافقـين: فـادرءوا، يعنـي: فـادفعوا من قول القائل: درأت عن فلان القتل، بـمعنى: دفعت عنه، أدرؤه درءا، ومنه قول الشاعر:

تَقولُ وَقدْ دَرأْتُ لهَا وَضِيِنـيأهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِيِنـي

يقول تعالـى ذكره: قل لهم: فـادفعوا إن كنتـم أيها الـمنافقون صادقـين فـي قـيـلكم: لو أطاعنا إخواننا فـي ترك الـجهاد فـي سبـيـل اللّه مع مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وقتالهم أبـا سفـيان ومن معه من قريش، ما قتلوا هنالك بـالسيف، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتـخـلفهم عن مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وشهود جهاد أعداء اللّه معه¹ الـموت، فإنكم قد قعدتـم عن حربهم، وقد تـخـلفتـم عن جهادهم، وأنتـم لا مـحالة ميتون. كما:

٦٦٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ} الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم: {لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا}.. الاَية: أي أنه لا بد من الـموت، فإن استطعتـم أن تدفعوه عن أنفسكم فـافعلوا، وذلك أنهم إنـما نافقوا وتركوا الـجهاد فـي سبـيـل اللّه ، حرصا علـى البقاء فـي الدنـيا وفرارا من الـموت.

ذكر من قال: الذين قالوا لإخوانهم هذا القول هم الذين قال اللّه فـيهم: {وَلِـيَعْلَـمَ الّذِينَ نافَقُوا}.

٦٦٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا}.. الاَية، ذكر لنا أنها نزلت فـي عدوّ اللّه عبد اللّه بن أبـيّ.

٦٦٥٣ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدّيّ، قال: هم عبد اللّه بن أبـيّ وأصحابه.

٦٦٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: هو عبد اللّه بن أبـيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد: {لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا}.. الاَية. قال ابن جريج عن مـجاهد، قال: قال جابر بن عبد اللّه : هو عبد اللّه بن أبـيّ ابن سلول.

٦٦٥٥ـ حدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله: {الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا}.. الاَية، قال: نزلت فـي عدوّ اللّه عبد اللّه بن أبـيّ.

١٦٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتاً ...}

يعنـي تعالـى ذكره {وَلا تَـحْسَبنّ}: ولا تظننّ. كما:

٦٦٥٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلا تَـحْسَبنّ}: ولا تظننّ.

وقوله: {الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه } يعنـي: الذين قُتِلوا بـأُحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {أمواتا}

يقول: ولا تـحسبنهم يا مـحمد أمواتا، لا يحسون شيئا، ولا يـلتذّون، ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون فـي رزقـي، فرحون مسرورون بـما آتـيتهم من كرامتـي وفضلـي، وحبوتهم به من جزيـل ثوابـي وعطائي. كما:

٦٦٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، وحدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا إسماعيـل بن عياش، عن ابن إسحاق، عن إسماعيـل بن أمية، عن أبـي الزبـير الـمكي، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لَـمّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِـأُحُدٍ، جَعَلَ اللّه أرْوَاحَهُمْ فِـي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أنْهارَ الـجَنّةِ، وَتأكُلُ مِنِ ثِمَارِها، وَتأْوِي إلـى قَنادِيـلَ مِنْ ذَهَبٍ فِـي ظِلّ العَرْشِ¹ فَلَـمّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمأْكَلِهِمْ وَحُسْنِ مَقِـيِـلهِمْ،

قالوا: يا لَـيْتَ إخْوَانَنا يَعْلَـمونَ ما صَنَعَ اللّه بِنا! لِئَلاّ يَزْهَدُوا فِـي الـجِهادِ وَلا يَنْكَلوا عَنِ الـحَرْبِ، فقال اللّه عزّ وجلّ: أنا أُبَلّغُهمْ عَنْكمْ) فأنزل اللّه عز وجل علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هؤلاء الاَيات.

٦٦٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير بن عبد الـحميد، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قالا جميعا: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن الأعمش، عن أبـي الضحى، عن مسروق بن الأجدع، قال: سألنا عبد اللّه بن مسعود، عن هذه الاَيات: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }.. الاَية، قال: أما إنا قد سألنا عنها،

فقـيـل لنا: (إنّه لـما أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بـأُحُدٍ، جَعَلَ اللّه أرْوَاحَهُمْ فـي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنْهارَ الـجَنّةِ وَتأْكُلُ مِنْ ثمارِهَا وتأوي إلـى قَنَادِيـلَ مِنْ ذَهَبٍ فـي ظِلّ العَرْشِ، فـيطّلع اللّه إلـيهم اطّلاعَةً، فـ

يقول: يا عبـادي ما تَشْتَهُونَ فَـأَزِيُدكُمْ؟ فَـيَقُولُونَ: رَبّنا لا فَوْقَ ما أعْطَيْتَنَا الـجَنّةَ، نَأْكُلُ منها حيث شِئْنَا ـ ثلاث مرات ـ ثم يَطّلِعُ فَـ

يَقُولُ: يا عِبَـادي ما تَشْتَهُونَ فأزيدكم؟ فـيقولون: رَبّنا لا فَوْقَ ما أعْطَيْتَنَا الـجَنّةَ، نَأْكُلُ منها حَيْثُ شِئْنا، إلا أنا نَـخْتَارُ أن تَرُدّ أرْوَاحَنا فـي أجْسَادِنا، ثم تَرُدّنا إلـى الدّنْـيا، فنُقَاتل فـيك حتـى نُقْتَلَ فـيك مرّة أخْرَى).

حدثنا الـحسن بن يحيـى العبدي، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبـي الضحى، عن مسروق، قال: سألنا عبد اللّه ، عن هذه الاَية، ثم ذكر نـحوه، وزاد فـيه: (أنّـي قَدْ قَضَيْتُ أنْ لا تُرْجَعُوا).

٦٦٥٩ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن سلـيـمان، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروق، قال: سألنا عبد اللّه عن أرواح الشهداء ـ ولولا عبد اللّه ما أخبرنا به أحد ـ قال: أرواح الشهداء عند اللّه فـي أجواف طير خضر، فـي قناديـل تـحت العرش، تسرح فـي الـجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلـى قناديـلها، فـيطلع إلـيها ربها، فـ

يقول: ماذا تريدون؟ فـيقولون: نريد أن نرجع إلـى الدنـيا فنقتل مرة أخرى.

٦٦٦٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيـم بن سلـيـمان، وعبدة بن سلـيـمان، عن مـحمد بن إسحاق، عن الـحرث بن فضيـل، عن مـحمود بن لبـيد، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الشّهَداءُ علـى بـاِرقٍ: نَهْرٍ بِبـابِ الـجَنّةِ فـي قُبّةٍ خَضْرَاءَ) وقال عبدة: (فِـي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، يخْرُجُ عَلَـيْهِمْ رِزْقَهُمْ مِنَ الـجَنّةِ بُكْرَةً وَعَشِيّا).

حدثنا أبو كريب، وأنبأنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي الـحرث بن فضيـل، عن مـحمود بن لبـيد، عن ابن عبـاس ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـمثله، إلا أنه قال: (فـي قُبّةٍ خَضْرَاء) وقال: (يَخْرُجُ عَلَـيهِم فِـيها).

حدثنا ابن وكيع، وأنبأنا ابن إدريس، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي الـحرث بن فضيـل، عن مـحمود بن لبـيد، عن ابن عبـاس ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال مـحمد بن إسحاق: حدثنـي الـحرث بن الفضيـل الأنصاريّ عن مـحمود بن لبـيد الأنصاريّ، عن ابن عبـاس ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الشّهَداءُ علـى بـارِقٍ نَهْرٍ بِبـابِ الـجَنّةِ فـي قُبّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُج عَلَـيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الـجَنّةِ بُكْرَةً وَعشِيّا).

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي أيضا، يعنـي: إسماعيـل بن عياش، عن ابن إسحاق، عن الـحرث بن الفضيـل، عن مـحمود بن لبـيد، عن ابن عبـاس ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بنـحوه.

٦٦٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال مـحمد بن إسحاق: وحدثنـي بعض أصحابـي، عن عبد اللّه بن مـحمد بن عقـيـل بن أبـي طالب، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه

يقول: قال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أُبَشّرُكَ يا جابِرُ؟) قال: قلت: بلـى يا رسول اللّه ! قال: (إنّ أبـاكَ حَيْثُ أُصيب بـأُحُدٍ أحيْاهُ اللّه ، ثُمّ قالَ لَهُ: ما تُـحِبّ يا عَبْدَ اللّه بْنَ عَمْرٍو أنْ أفْعَلَ بِكَ؟ قالَ: يا رَبّ أُحِبّ أنْ تَرُدّنـي إلـى الدّنْـيا فَـأُقاتِلَ فِـيكَ فـأُقْتَلُ مَرّةً أُخْرَى).

٦٦٦٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

قالوا: يا لـيتنا نعلـم ما فعل إخواننا الذين قُتِلوا يوم أُحد! فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى فـي ذلك القرآن: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْوَاتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ يُرْزَقُونَ}. كنا نـحدّث أن أرواح الشهداء تعارف فـي طير بـيض تأكل من ثمار الـجنة، وأن مساكنهم السدرة.

٦٦٦٣ـ حُدثت عن عمار، وأنبأنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بنـحوه، إلا أنه قال: تعارف فـي طير خضر وبـيض وزاد فـيه أيضا: وذكر لنا عن بعضهم فـي قوله: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ} قال: هم قتلـى بدر وأُحد.

٦٦٦٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـحمد بن قـيس بن مخرمة قال:

قالوا: يا ربّ! ألا رسول لنا يخبر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عنا بـما أعطيتنا؟ فقال اللّه تبـارك وتعالـى: أنا رسولكم، فأمر جبريـل علـيه السلام أن يأتـي بهذه الاَية: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه }.. الاَيتـين.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن مرة، عن مسروق، قال: سألنا عبد اللّه عن هذه الاَيات: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون} قال: أرواح الشهداء عند اللّه كطير خضر، لها قناديـل معلقة بـالعرش، تسرح فـي الـجنة حيث شاءت، قال: فـاطّلع إلـيهم ربك أطلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟

قالوا: ربنا ألسنا نسرح فـي الـجنة فـي أيها شئنا ثم اطّلع علـيهم الثالثة،

فقال: هل تستهون من شيء فأزيدكموه؟

قالوا: تعيد أرواحنا فـي أجسادنا، فنقاتل فـي سبـيـلك مرّة أخرى! فسكت عنهم.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عطاء بن السائب، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه : أنهم قالوا فـي الثالثة حين قال لهم: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟

قالوا: تقرىء نبـينا عنا السلام، وتـخبره أن قد رضينا ورُضيَ عنا!

٦٦٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: قال اللّه تبـارك وتعالـى لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم يرغّب الـمؤمنـين فـي ثواب الـجنة ويهوّن علـيهم القتل: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ يُرْزَقُون}: أي قد أحيـيتهم، فهم عندي يرزقون فـي روح الـجنة وفضلها، مسرورين بـما آتاهم اللّه من ثوابه علـى جهادهم عنه.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك ، قال: كان الـمسلـمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر، يبلون فـيه خيرا، ويرزقون فـيه الشهادة، ويرزقون فـيه الـجنة، والـحياة فـي الرزق. فلقوا الـمشركين يوم أُحد، فـاتـخذ اللّه منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم اللّه فقال: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا}.. الاَية.

٦٦٦٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: ذكر الشهداء،

فقال: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ ربّهِمْ} إلـى قوله: {ولا هُمْ يْحزنُون}. زعم أن أرواح الشهداء فـي أجواف طير خضر فـي قناديـل من ذهب معلقة بـالعرش، فهي ترعى بكرة وعشية فـي الـجنة، تبـيت فـي القناديـل، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون؟ ماذا تشتهون؟ فـيقولون: ربنا نـحن فـيـما اشتهت أنفسنا! فـيسألهم ربهم أيضا: ماذا تشتهون؟ وماذا تريدون؟ فـيقولون: نـحن فـيـما اشتهت أنفسنا! فـيسألون الثالثة فـيقولون ما

قالوا: ولكنا نـحبّ أن تردّ أرواحنا فـي أجسادنا! لـما يرون من فضل الثواب.

٦٦٦٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا عبـاد، قال: حدثنا إبراهيـم بن معمر، عن الـحسن، قال: ما زال ابن آدم يتـحمّد حتـى صار حيّا ما يـموت ثم تلا هذه الاَية: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون}.

٦٦٦٨ـ حدثنا مـحمد بن مرزوق، قال: حدثنا عمر بن يونس، قال: حدثنا إسحاق بن أبـي طلـحة، قال: ثنـي أنس بن مالك فـي أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم الذين أرسلهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى أهل بئر معونة، قال: لا أدري أربعين، أو سبعين، قال: وعلـى ذلك الـماء عامر بن الطفـيـل الـجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حتـى أتوا غارا مشرفـا علـى الـماء قعدوا فـيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل هذا الـماء؟ فقال ـ أراه أبو ملـحان الأنصاري ـ: أنا أبلغ رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم! فخرج حتـى أتـى حيا منهم، فـاحتبى أمام البـيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إنـي رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـيكم، إنـي أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن مـحمدا عبده ورسوله، فآمنوا بـاللّه ورسوله! فخرج إلـيه رجل من كِسْر البـيت برمـح، فضرب به فـي جنبه حتـى خرج من الشقّ الاَخر،

فقال: اللّه أكبر، فزت وربّ الكعبة! فـاتبعوا أثره حتـى أتوا أصحابه، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفـيـل

قال: قال إسحاق: حدثنـي أنس بن مالك: أن اللّه تعالـى أنزل فـيهم قرآنا رفع بعد ما قرأناه زمانا، وأنزل اللّه : {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون}.

٦٦٦٩ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: لـما أصيب الذين أصيبوا يوم أُحد من أصحاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، لقوا ربهم، فأكرمهم، فأصابوا الـحياة والشهادة والرزق الطيب،

قالوا: يا لـيت بـيننا وبـين إخواننا من يبلغهم أنا لقـينا ربنا فرضي عنا وأرضانا! فقال اللّه تبـارك وتعالـى: أنا رسولكم إلـى نبـيكم وإخوانكم. فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى علـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُون} إلـى قوله: {ولا هُمْ يحْزنُون}، فهذا النبأ الذي بلغ اللّه ورسوله والـمؤمنـين ما قال الشهداء.

١٧٠

وفـي نصب قوله: {فَرِحِين} وجهان:

أحدهما: أن يكون منصوبـا علـى الـخروج من قوله: {عِنْدَ رَبّهِمْ} والاَخر من قوله: {يُرْزَقُون}. ولو كان رفعا بـالردّ علـى قوله: (بل أحياء فرحون) كان جائزا.

القول فـي تأويـل قوله: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ أنْ لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ويفرحون بـمن لـم يـلـحق بهم من إخوانهم الذين فـارقوهم وهم أحياء فـي الدنـيا علـى مناهجهمّ، من جهاد أعداء اللّه مع رسوله، لعلـمهم بأنهم إن استشهدوا فلـحقوا بهم، صاروا من كرامة اللّه إلـى مثل الذي صاروا هم إلـيه، فهم لذلك مستبشرون بهم، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك، {لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعنـي بذلك: لا خوف علـيهم لأنهم قد أمنوا عقاب اللّه ، وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الـخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك فـي الدنـيا، ولا هم يحزنون علـى ما خـلفوا وراءهم من أسبـاب الدنـيا، ونكد عيشها، للـخَفْض الذي صاروا إلـيه والدعة والزّلفة، ونصب أن لا بـمعنى: يستبشرون لهم بأنهم لا خوف علـيهم ولا هم يحزنون.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٦٧٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}.. الاَية،

يقول: لإخوانهم الذين فـارقوهم علـى دينهم وأمرهم لـما قدموا علـيه من الكرامة والفضل والنعيـم الذي أعطاهم.

٦٦٧١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}.. الاَية، قال

يقول: إخواننا يقتلون كما قتلنا، يـلـحقون فـيصيبون من كرامة اللّه تعالـى ما أصبنا.

٦٦٧٢ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ذكر لنا عن بعضهم فـي قوله: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّه أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: هم قتلـى بدر وأُحد، زعموا أن اللّه تبـارك وتعالـى لـما قبض أرواحهم، وأدخـلهم الـجنة، جعلت أرواحهم فـي طير خضر ترعى فـي الـجنة، وتأوي إلـى قناديـل من ذهب تـحت العرش. فلـما رأوا ما أعطاهم اللّه من الكرامة،

قالوا: لـيت إخواننا الذين بعدنا يعلـمون ما نـحن فـيه! فإذا شهدوا قتالاً تعجلوا إلـى ما نـحن فـيه! فقال اللّه تعالـى: إنـي منزل علـى نبـيكم ومخبر إخوانكم بـالذي أنتـم فـيه! ففرحوا به واستبشروا، و

قالوا: يخبر اللّه نبـيكم وإخوانكم بـالذي أنتـم فـيه، فإذا شهدوا قتالاً أتوكم

قال: فذلك قوله: {فَرِحِينَ بـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.. إلـى قول: {أجْرَ الـمُؤْمِنِـينَ}.

٦٦٧٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}: أي ويُسَرّون بلـحوق من لـحق بهم من إخوانهم علـى ما مضوا علـيه من جهادهم، لـيشركوهم فـيـما هم فـيه من ثواب اللّه الذي أعطاهم، وأذهب اللّه عنهم الـخوف والـحزن.

٦٦٧٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ويَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ} قال: هم إخوانهم من الشهداء مـمن يستشهد من بعدهم، {لا خَوْفٌ عَلَـيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} حتـى بلغ: {وأنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْرَ الـمُؤْمِنِـينَ}.

٦٦٧٥ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما {يَسْتَبْشِرُونَ بـالّذِينَ لَـمْ يَـلْـحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَـلْفِهِمْ}، فإن الشهيد يؤتـى بكتاب فـيه من يقدم علـيه من إخوانه وأهله، فـيقال: يقدم علـيك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم علـيك فلان يوم كذا وكذا! فـيستبشر حين يقدم علـيه، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه فـي ما الدنـيا.

١٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّه وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّه لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }

يقول جل ثناؤه: {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون، {بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّه } يعنـي بـما حبـاهم به تعالـى ذكره من عظيـم كرامته عند ورودهم علـيه، {وفَضْلٍ}

يقول: وبـما أسبغ علـيهم من الفضل وجزيـل الثواب علـى ما سلف منهم من طاعة اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم وجهاد أعدائه. {وأنّ اللّه لا يُضِيع أجْر الـمُؤْمِنِـينَ}. كما:

٦٦٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن أبـي إسحاق: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّه وفَضْلٍ}.. الاَية، لـما عاينوا من وفـاء الـموعود وعظيْـم الثواب.

واختلف القراء فـي قراءة قوله: {وأنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْر الـمُؤْمِنِـينَ}، فقرأ ذلك بعضهم بفتـح الألف من (أنّ) بـمعنى: يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل، وبأن اللّه لا يضيع أجر الـمؤمنـين. وبكسر الألف علـى الاستئناف¹ واحتـج من قرأ ذلك كذلك بأنها فـي قراءة عبد اللّه : (وفَضْلٍ واللّه لا يُضِيعُ أجْر الـمُؤْمِنِـينَ)

قالوا: فذلك دلـيـل علـى أن قوله: (وإِنّ اللّه ) مستأنف غير متصل بـالأول.

ومعنى قوله: {لا يُضِيعُ أجْر الـمُؤْمِنِـينَ}: لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بـما جاءه من عند اللّه .

وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ ذلك: {وأنّ اللّه } بفتـح الألف، لإجماع الـحجة من القراء علـى ذلك.

١٧٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّهِ وَالرّسُولِ ...}

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وأن اللّه لا يضيع أجر الـمؤمنـين، الـمستـجيبـين لله والرسول، من بعد ما أصابهم الـجراح والكلوم¹ وإنـما عنى اللّه تعالـى ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى حمراء الأسد فـي طلب العدو أبـي سفـيان، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أحد¹ وذلك أن أبـا سفـيان لـما انصرف عن أحد خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي أثره حتـى بلغ حمراء الأسد وهي علـى ثمانـية أميال من الـمدينة، لـيري الناس أن به وأصحابه قوة علـى عدوهم. كالذي:

٦٦٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي حسان بن عبد اللّه ، عن عكرمة، قال: كان يوم أُحُد السبت للنصف من شوال¹ فلـما كان الغد من يوم أُحد، يوم الأحد لست عشرة لـيـلة مضت من شوال أذّن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بـالأمس، فكلـمه جابر بن عبد اللّه بن عمرو بن حرام،

فقال: يا رسول اللّه إن أبـي كان خـلفنـي علـى أخوات لـي سبع وقال لـي يا بنـي إنه لا ينبغي لـي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فـيهن، ولست بـالذي أوثرك بـالـجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علـى نفسي، فتـخـلف علـى أخواتك! فتـخـلفت علـيهن. فأذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فخرج معه. وإنـما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرهبـا للعدو، لـيبلغهم أنه خرج فـي طلبهم لـيظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لـم يوههم عن عدوهم.

٦٦٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: فحدثنـي عبد اللّه بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبـي السائب مولـى عائشة بنت عثمان: أن رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من بنـي عبد الأشهل كان شهد أُحُدا، قال: شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أُحدا أنا وأخ لـي، فرجعنا جريحين¹ فلـما أذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالـخروج فـي طلب العدوّ، قلت لأخي، أو قال لـي: أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ واللّه ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقـيـل! فخرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكنت أيسر جرحا منه، فكنت إذا غلب حملته عُقْبة ومشى عقبة، حتـى انتهينا إلـى ما انتهى إلـيه الـمسلـمون، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتـى انتهى إلـى حمراء الأسد، وهي من الـمدينة علـى ثمانـية أميال، فأقام بها ثلاثا: الاثنـين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلـى الـمدينة.

٦٦٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}: أي الـجراح، وهم الذين ساروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغد من يوم أُحد إلـى حمراء الأسد علـى ما بهم من ألـم الـجراح. {للّذِينَ أحْسَنُوا مِنْهُمْ واتّقَوْا أجْرٌ عَظِيـمٌ}.

٦٦٨٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.. الاَية، وذلك يوم أُحد بعد القتل والـجراح، وبعد ما انصرف الـمشركون أبو سفـيان وأصحابه، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (ألا عِصَابةٌ تَشدّ لأمْرِ اللّه تَطْلُبُ عَدُوّها؟ فإنه أنْكَى للعَدُوّ، وأبْعَدُ للسّمعِ) فـانطلق عصابة منهم علـى ما يعلـم اللّه تعالـى من الـجهد.

٦٦٨١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: انطلق أبو سفـيان منصرفـا من أُحد حتـى بلغ بعض الطريق. ثم إنهم ندموا، و

قالوا: بئسما صنعتـم إنكم قتلتـموهم، حتـى إذا لـم يبق إلا الشريد تركتـموهم، ارجعوا واستأصلوهم! فقذف اللّه فـي قلوبهم الرعب، فهزموا. فأخبر اللّه رسوله، فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل اللّه جل ثناؤه فـيهم: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.

٦٦٨٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: إن اللّه جلّ وعزّ قذف فـي قلب أبـي سفـيان الرعب ـ يعنـي: يوم أُحد ـ بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلـى مكة، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ أبـا سُفْـيان قَدْ أصاب مِنْكُمْ طَرفـا وقَدْ رجَع وقَذف اللّه فـي قَلْبِهِ الرّعْب). وكانت وقعة أُحد فـي شوّال، وكان التـجار يقدمون الـمدينة فـي ذي القعدة، فـينزلون ببدر الصغرى فـي كل سنة مرة. وإنهم قدموا بعد وقعة أُحد، وكان أصاب الـمؤمنـين القرح، واشتكوا ذلك إلـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واشتدّ علـيهم الذي أصابهم. وإن رسول اللّه ندب الناس لـينطلقوا معه، ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال: (إنّـما يَرْتَـجِلُونَ الاَنَ فَـيَأْتُونَ الـحَجّ ولا يَقْدِرُونَ علـى مِثْلِها حَتّـى عام مُقْبل) فجاء الشيطان فخوّف أولـياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم. فأبى علـيه الناس أن يتبعوه،

فقال: (إنـي ذَاهِبٌ وإنْ لـم يَتْبَعْنـي أحَدٌ لأُحَضّضَ النّاسَ) فـانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلـيّ والزبـير وسعد وطلـحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن مسعود وحذيفة بن الـيـمان وأبو عبـيدة بن الـجرّاح فـي سبعين رجلاً. فساروا فـي طلب أبـي سفـيان، فطلبوه حتـى بلغوا الصفراء، فأنزل اللّه تعالـى: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ للّذِين أحْسَنُوا مِنْهُمْ واتّقَوْا أجْرٌ عَظِيـمٌ}.

٦٦٨٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة أنها قالت لعبد اللّه بن الزبـير: يا ابن أختـي، أما واللّه إن أبـاك وجّدك ـ تعنـي: أبـا بكر والزبـير ـ مـمن قال اللّه تعالـى فـيهم: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.

٦٦٨٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن أبـا سفـيان بن حرب لـما راح هو وأصحابه يوم أُحد قال الـمسلـمون للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: إنهم عامدون إلـى الـمدينة،

فقال: (إنْ ركِبُوا الـخَيْـل وتَركُوا الأثْقال فإنّهُمْ عامِدُون إلـى الـمَدِينَةِ، وإنْ جَلَسُوا علـى الأثْقالِ وتَركُوا الـخَيْـل فَقَدْ أرْعَبَهُمُ اللّه ولَـيْسُوا بِعامِدِيها)، فركبوا الأثقال، فرعبهم اللّه . ثم ندب ناسا يتبعونهم لـيُروا أن بهم قوّة، فـاتبعوهم لـيـلتـين أو ثلاثا، فنزلت: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ}.

حدثنـي سعيد بن الربـيع، قال: حدثنا سفـيان، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، قال: قالت لـي عائشة: إن كان أبواك لـمن الذين استـجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. تعنـي: أبـا بكر والزبـير.

٦٦٨٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: كان عبد اللّه من الذين استـجابوا لله والرسول.

فوعد تعالـى ذكره مـحسن من ذكرنا أمره من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ والرّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أصابهُمُ القَرْحُ} إذا اتقـى اللّه فخافه، فأدّى فرائضه وأطاعه فـي أمره ونهيه فـيـما يستقبل من عمره أجرا عظيـما، وذلك الثواب الـجزيـل، والـجزاء العظيـم، علـى ما قدّم من صالـح أعماله فـي الدنـيا.

١٧٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ ...}

يعنـي تعالـى ذكره: وأن اللّه لا يضيع أجر الـمؤمنـين الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم، والذين فـي موضع خفض مردود علـى الـمؤمنـين، وهذه الصفة من صفة الذين استـجابوا لله والرسول والناس الأول هم قوم فـيـما ذكر لنا، كان أبو سفـيان سألهم أن يثبطوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا فـي طلبه بعد منصرفه عن أُحد إلـى حمراء الأسد¹ والناس الثانـي: هم أبو سفـيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بـأُحد، يعنـي بقوله: {قَدْ جَمعُوا لَكُمْ}: قد جمعوا الرجال للقائكم، والكرّة إلـيكم لـحربكم {فـاخْشَوْهُمْ}

يقول: فـاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، {فَزادهُمْ إيـمَانا}

يقول: فزادهم ذلك من تـخويف من خوّفهم أمر أبـي سفـيان وأصحابه من الـمشركين يقـينا إلـى يقـينهم، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلـى تصديقهم، ولـم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالسير فـيه، ولكن ساروا حتـى بلغوا رضوان اللّه منه، وقالوا ثقة بـالله، وتوكلاً علـيه، إذ خوفهم من خوفهم أبـا سفـيان وأصحابه من الـمشركين {حَسْبُنا اللّه ونِعْم الوكِيـل} يعنـي بقوله: حسبنا اللّه : كفـانا اللّه ، يعنـي: يكفـينا اللّه ¹ ونعم الوكيـل،

يقول: ونعم الـمولـى لـمن ولـيه وكفله¹ وإنـما وصف تعالـى نفسه بذلك لأن الوكيـل فـي كلام العرب: هو الـمسند إلـيه القـيام بأمر من أسند إلـيه القـيام بأمره¹ فلـما كان القوم الذين وصفهم اللّه بـما وصفهم به فـي هذه الاَيات قد كانوا فوّضوا أمرهم إلـى اللّه ، ووثقوا به، وأسندوا ذلك إلـيه وصف نفسه بقـيامه لهم بذلك، وتفويضهم أمرهم إلـيه بـالوكالة،

فقال: ونعم الوكيـل اللّه تعالـى لهم.

واختلف أهل التأويـل فـي الوقت الذي قال من قال لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {إنّ النّاس قَدْ جَمعُوا لَكُمْ}

فقال بعضهم: قـيـل ذلك لهم فـي وجههم الذي خرجوا فـيه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أُحد إلـى حمراء الأسد فـي طلب أبـي سفـيان ومن معه من الـمشركين.

ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله قـيـل ذلك، ومَن قائله:

٦٦٨٦ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبـي بكر بن مـحمد بن عمرو بن حزم، قال: مرّ به، يعنـي برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معبد الـخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلـمهم ومشركهم عَيْبَةَ نُصْحٍ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه، لا يخفون علـيه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك،

فقال: واللّه يا مـحمد، أما واللّه لقد عزّ علـينا ما أصابك فـي أصحابك، ولوددنا أن اللّه كان أعفـاك فـيهم! ثم خرج من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حمراء الأسد، حتـى لقـي أبـا سفـيان بن حرب ومن معه بـالروحاء، قد أجمعوا الرجعة إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، و

قالوا: أصبنا فـي أُحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرنّ علـى بقـيتهم فلنفرغنّ منهم. فلـما رأى أبـا سفـيان معبدا، قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: مـحمد قد خرج فـي أصحابه يطلبكم فـي جمع لـم أر مثله قط، يتـحرّقون علـيكم تـحرّقا، قد اجتـمع معه من كان تـخـلف عنه فـي يومكم، وندموا علـى ما صنعوا، فهم من الـحنق علـيكم بشيء لـم أر مثله قط

قال: ويـلك ما تقول؟ قال: واللّه ما أراك ترتـحل حتـى ترى نواصي الـخيـل

قال: فواللّه لقد أجمعنا الكرّة علـيهم لنستأصل بقـيتهم

قال: فإنـي أنهاك عن ذلك! فواللّه لقد حملنـي ما رأيت علـى أن قلت فـيه أبـياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:

كادَتْ تُهَدّ مِنَ الأصْوَات رَاحِلَتِـيإذْ سالَتِ الأرْضُ بـالـجُرْدِ الإبـابِـيـلِ

تَرْدِي بِـأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَناِبَلةٍعِنْدَ اللّقاءِ وَلا مِيـلٍ مَعازِيـلِ

فَظَلْتُ عَدْوا أظُنّ الأرْضَ مائِلَةًلَـمّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ

فَقُلْتُ وَيْـلُ ابنِ حَرْبٍ منْ لِقائِكُمُإذَا تَغَطْمَطَتِ البَطْحاءُ بـالـجِيـلِ

إنـي نَذِيرٌ لأهْلِ البَسْلِ ضَاحِيَةًلكُلّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ

مِنْ جَيْشِ أحمَدَ لا وَخْشٍ تَنابِلَةٍوَلَـيْسَ يُوصَفُ ما أنْذَرْتُ بـالقِـيـلِ

قال: فثنى ذلك أبـا سفـيان ومن معه ومرّ به ركب من عبد القـيس،

فقال: أين تريدون؟

قالوا: نريد الـمدينة

قال: ولـم؟

قالوا: نريد الـمِيرة

قال: فهل أنتـم مبلغون عنـي مـحمدا رسالة أرسلكم بها، وأُحَمّلُ لكم إبلكم هذه غدا زبـيبـا بعكاظ إذا وافـيتـموها؟

قالوا: نعم

قال: فإذا جئتـموه، فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إلـيه وإلـى أصحابه لنستأصل بَقِـيتهم! فمرّ الركب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بـالذي قال أبو سفـيان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ).

٦٦٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: فقال اللّه : {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيـمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}. والناس الذين قال لهم ما

قالوا: النفر من عبد القـيس، الذين قال لهم أبو سفـيان ما قال، إن أبـا سفـيان ومن معه راجعون إلـيكم، يقول اللّه تبـارك وتعالـى: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ}.. الاَية.

٦٦٨٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: لـما ندموا ـ يعنـي: أبـا سفـيان وأصحابه ـ علـى الرجوع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه و

قالوا: ارجعوا فـاستأصلوهم! فقذف اللّه فـي قلوبهم الرعب، فهزموا، فلقوا أعرابـيا، فجعلوا له جعلاً: إن لقـيت مـحمدا وأصحابه، فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم.

 فأخبر اللّه جل ثناؤه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فطلبهم حتـى بلغ حمراء الأسد، فلقوا الأعرابـي فـي الطريق، فأخبرهم الـخبر،

فقالوا: (حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ) ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل اللّه تعالـى فـيهم وفـي الأعرابـي الذي لقـيهم: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيـمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}.

٦٦٨٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قال: استقبل أبو سفـيان فـي منصرفه من أُحد عيرا واردة الـمدينة ببضاعة لهم وبـينهم وبـين النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حبـال،

فقال: إن لكم علـيّ رضاكم إن أنتـم رددتـم عنـي مـحمدا ومن معه إن أنتـم وجدتـموه فـي طلبـي وأخبرتـموه أنـي قد جمعت له جموعا كثـيرة! فـاستقبلت العيرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قالوا له: يا مـحمد إنا نـخبرك أن أبـا سفـيان قد جمع لك جموعا كثـيرة، وأنه مقبل إلـى الـمدينة، وإن شئت أن ترجع فـافعل. ولـم يزده ذلك ومن معه إلا يقـينا، {وَقالُوا حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـل}، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}.. الاَية.

٦٦٩٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: انطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعصابة من أصحابه بعدما انصرف أبو سفـيان وأصحابه من أُحد خـلفهم، حتـى كانوا بذي الـحلـيفة، فجعل الأعراب والناس يأتون علـيهم، فـيقولون لهم: هذا أبو سفـيان مائل علـيكم بـالناس،

فقالوا: {حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}، فأنزل اللّه تعالـى فـيهم: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخُشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيـمَانا وَقالُوا حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}.

وقال آخرون: بل قال ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من قال ذلك له فـي غزوة بدر الصغرى وذلك فـي مسير النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عام قابل من وقعة أُحد للقاء عدوّه أبـي سفـيان وأصحابه للـموعد الذي كان واعده الالتقاء بها. ذكر من قال ذلك:

٦٦٩١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} قال: هذا أبو سفـيان، قال لـمـحمد: موعدكم بدر حيث قتلتـم أصحابنا! فقال مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: (عَسَى!) فـانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـموعده حتـى نزل بدرا، فوافقوا السوق فـيها، وابتاعوا¹ فذلك قوله تبـارك وتعالـى: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ} وهي غزوة بدر الصغرى.

٦٦٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد بنـحوه، وزاد فـيه: وهي بدر الصغرى. قال ابن جريح: لـما عمد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لـموعد أبـي سفـيان، فجعلوا يـلقون الـمشركين، ويسألونهم عن قريش، فـيقولون: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرعبوهم، فـيقول الـمؤمنون: {حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الَوكِيـلُ} حتـى قدموا بدرا، فوجدوا أسواقها عافـية لـم ينازعهم فـيها أحد

قال: وقدم رجل من الـمشركين وأخبر أهل مكة بخيـل مـحمد علـيه الصلاة والسلام وقال فـي ذلك:

نَفَرَتْ قَلُوصِي عَنْ خُيولِ مُـحَمّدِوَعَجْوَةٍ مَنْثُورَةٍ كالعُنْـجُدِ

(واتـخذتْ ماءَ قُدَيدٍ مَوْعِدِي )

قال أبو جعفر: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنـما هو:

قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتـيْ مُـحَمّدِوَعَجْوَةٍ مِنْ يَثرِبٍ كالعُنْـجُدِ

تَهْوِى علـى دِينِ إبـيِها الأتْلَدِقدْ جَعَلَتْ ماءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي

(وَماءَ ضَجْنانَ لَهَا ضُحَى الغَدِ )

٦٦٩٣ـ حدثنـي الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كانت بدر متـجرا فـي الـجاهلـية، فخرج ناس من الـمسلـمين يريدون، ولقـيهم ناس من الـمشركين فقالوا لهم: {إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ}، فأما الـجبـان فرجع، وأما الشجاع فأخذ الأهبة للقتال وأهبة التـجارة، {وَقالُوا حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ}، فأتوهم فلـم يـلقوا أحدا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيهم: {إنّ النّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فـاخْشَوْهُمْ}. قال ابن يحيـى، قال عبد الرزاق، قال ابن عيـينة: وأخبرنـي زكريا عن الشعبـي، عن عبد اللّه بن عمرو قال: هي كلـمة إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم حين ألقـي فـي النار،

فقال: {حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الَوكِيـلُ}.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: إن الذي قـيـل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من أن الناس قد جمعوا لكم فـاخشوهم، كان فـي حال خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وخروج من خرج معه فـي أثر أبـي سفـيان، ومن كان معه من مشركي قريش منصرفهم عن أُحد إلـى حمراء الأسد¹ لأن اللّه تعالـى ذكره إنـما مدح الذين وصفهم بقـيـلهم: {حَسْبُنا اللّه وَنِعْمَ الوَكِيـلُ} لـما قـيـل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فـاخشوهم، بعد الذي قد كان نالهم من القروح والكلوم، بقوله: {الّذِينَ اسْتَـجابُوا لِلّهِ وَالرّسولِ مِنْ بَعْدِ ما أصَابَهُمُ القَرْحُ} ولـم تكن هذه الصفة إلا صفة من تبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من جرحى أصحابه بأحد إلـى حمراء الأسدوأما قول الذين خرجوا معه إلـى غزوة بدر الصغرى، فإنه لـم يكن فـيهم جريج، إلا جريح قد تقادم اندمال جرحه، وبرأ كلـمه، وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنـما خرج إلـى بدر الـخرجة الثانـية إلـيها لـموعد أبـي سفـيان الذي كان واعده اللقاء بها بعد سنة من غزوة أُحد فـي شعبـان سنة أربع من الهجرة، وذلك أن وقعة أُحد كانت فـي النصف من شوّال من سنة ثلاث، وخروج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم لغزوة بدر الصغرى إلـيها فـي شعبـان من سنة أربع، ولـم يكن للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بـين ذلك وقعة مع الـمشركين كانت بـينهم فـيها حرب جرح فـيها أصحابه، ولكن قد كان قتل فـي وقعة الرجيع من أصحابه جماعة لـم يشهد أحد منهم غزوة بدر الصغرى، وكانت وقعة الرجيع فـيـما بـين وقعة أُحد وغزوة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بدر الصغرى.

١٧٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّه وَفَضْلٍ لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوَءٌ وَاتّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّه وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه } فـانصرف الذين استـجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح من وجههم الذي توجهوا فـيه، وهو سيرهم فـي أثر عدوّهم إلـى حمراء الأسد. {بنعمةٍ من اللّه } يعنـي: بعافـية من ربهم لـم يـلقوا بها عدوّا. {وفضل} يعنـي: أصابوا فـيها من الأربـاح بتـجارتهم التـي اتـجروا بها، والأجر الذي اكتسبوه. {لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ} يعنـي: لـم ينلهم بها مكروه من عدوّهم ولا أذى. {وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه } يعنـي بذلك أنهم أرضَوا اللّه بفعلهم ذلك واتبـاعهم رسوله إلـى ما دعاهم إلـيه من اتبـاع أثر العدوّ وطاعتهم. {وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيـمٍ} يعنـي: واللّه ذو إحسان وطول علـيهم بصرف عدوّهم الذي كانوا قد هموا بـالكرّة إلـيهم، وغير ذلك من أياديه عندهم، وعلـى غيرهم بنعمه، عظيـم عند من أنعم به علـيه من خـلقه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٦٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فـانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ} قال: والفضل: ما أصابوا من التـجارة والأجر.

٦٦٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: وافقوا السوق فـابتاعوا، وذلك قوله: {فـانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ} قال: الفضل ما أصابوا من التـجارة والأجر. قال ابن جريج: ما أصابوا من البـيع نعمة من اللّه وفضل، أصابوا عفوه وعزّته، لا ينازعهم فـيه أحد

قال:

وقوله: {لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ} قال: قتل، {وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه } قال: طاعة النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٦٦٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيـمٍ} لـما صرف عنهم من لقاء عدوّهم.

٦٦٩٧ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: أطاعوا اللّه ، وابتغوا حاجتهم، ولـم يؤذهم أحد. {فـانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيـمٍ}.

٦٦٩٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: أعطي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ـ يعنـي: حين خرج إلـى غزوة بدر الصغرى ـ ببدر دراهم ابتاعوا بها من موسم بدر، فأصابوا تـجارة¹ فذلك قول اللّه : {فـانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ لَـمْ يَـمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه }. أما النعمة: فهي العافـية، وأما الفضل: فـالتـجارة، والسوء: القتل

١٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ }

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: إنـما الذي قال لكم أيها الـمؤمنون: إن الناس قد جمعوا لكم، فخوفوكم بجموع عدوكم، ومسيرهم إلـيكم، من فعل الشيطان، ألقاه علـى أفواه من قال ذلك لكم، يخوفكم بأولـيائه من الـمشركين أبـي سفـيان وأصحابه من قريش، لترهبوهم، وتـجبنوا عنهم. كما:

٦٦٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} يخوف واللّه الـمؤمن بـالكافر، ويرهب الـمؤمن بـالكافر.

٦٧٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} قال: يخوف الـمؤمنـين بـالكفـار.

٦٧٠١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ}

يقول: الشيطان يخوف الـمؤمنـين بأولـيائه.

٦٧٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ}: أي أولئك الرهط، يعنـي: النفر من عبد القـيس الذين قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قالوا، وما ألقـى الشيطان علـى أفواههم، {يُخَوّفُ أوْلـياءَهُ} أي يرهبكم بأولـيائه.

٦٧٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا علـي بن معبد، عن عتاب بن بشير، مولـى قريش، عن سالـم الأفطس، فـي قوله: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} قال: يخوفكم بأولـيائه.

وقال آخرون: معنى ذلك: إنـما ذلكم الشيطان يعظم أمر الـمشركين أيها الـمنافقون فـي أنفسكم فتـخافونه. ذكر من قال ذلك:

٦٧٠٤ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: ذكر أمر الـمشركين وعظمهم فـي أعين الـمنافقـين فقال: {إنّـمَا ذَلِكُمُ الشّيطانُ يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ}: يعظم أولـياءه فـي صدوركم فتـخافونهم.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: {يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} وهل يخوف الشيطان أولـياءه؟

قـيـل: إن كان معناه يخوفكم بأولـيائه يخوف أولـياءه. قـيـل ذلك نظير قوله: {لِـيُنذِرَ بَـأْسا شَدِيدا} بـمعنى: لـينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا ينذر، وإنـما ينذر به. وقد كان بعض أهل العربـية من أهل البصرة

يقول: معنى ذلك: يخوّف الناس أولـياءه، كقول القائل: هو يعطي الدراهم، ويكسو الثـياب، بـمعنى: هو يعطي الناس الدراهم، ويكسوهم الثـياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه. ولـيس الذي شبه ذلك بـمشبه، لأن الدراهم فـي قول القائل: هو يعطي الدراهم معلوم أن الـمُعْطَى هي الدراهم، ولـيس كذلك الأولـياء فـي قوله: {يُخَوّفُ أوْلِـياءَهُ} مخوفـين، بل التـخويف من الأولـياء لغيرهم، فلذلك افترقا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَلا تَـخافُوهُمْ وَخافُونِ إنْ كُنُتـمْ مُؤْمِنِـينَ}.

يقول: فلا تـخافوا أيها الـمؤمنون الـمشركين، ولا يعظمنّ علـيكم أمرهم، ولا ترهبوا جمعهم مع طاعتكم إياي، ما أطعتـمونـي، واتبعتـم أمري، وإنـي متكفل لكم بـالنصر والظفر، ولكن خافون، واتقوا أن تعصونـي وتـخالفوا أمري، فتهلكوا إن كنتـم مؤمنـين.

يقول: ولكن خافونـي دون الـمشركين، ودون جميع خـلقـي أن تـخالفوا أمري إن كنتـم مصدّقـي رسولـي وما جاءكم به من عندي.

١٧٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...}

 

يقول جلّ ثناؤه: ولا يحزنك يا مـحمد كفر الذين يسارعون فـي الكفر مرتدّين علـى أعقابهم من أهل النفـاق، فإنهم لن يضرّوا اللّه بـمسارعتهم فـي الكفر شيئا، كما أن مسارعتهم لو سارعوا إلـى الإيـمان لـم تكن بنافعته، كذلك مسارعتهم إلـى الكفر غير ضارّته. كما:

٦٧٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَلا يَحزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِـي الكُفرِ} يعنـي: هم الـمنافقون.

٦٧٠٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَلا يَحزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِـي الكُفرِ} أي الـمنافقون.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُرِيدُ اللّه أنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فِـي الاَخِرَةِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يريد اللّه أن لا يجعل لهؤلاء الذين يسارعون فـي الكفر نصيبـا فـي ثواب الاَخرة، فلذلك خذلهم، فسارعوا فـيه. ثم أخبر أنهم مع حرمانهم ما حرموا من ثواب الاَخرة، لهم عذاب عظيـم فـي الاَخرة، وذلك عذاب النار

وقال ابن إسحاق فـي ذلك بـما:

٦٧٠٧ـ حدثنـي ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {يُرِيدُ اللّه أنْ لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّا فِـي الاَخِرَةِ}: أن يحبط أعمالهم.

١٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرّواْ اللّه شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: الـمنافقـين الذين تقدم إلـى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم فـيهم، أن لا يحزنه مسارعتهم إلـى الكفر، فقال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: إن هؤلاء الذين ابتاعوا الكفر بإيـمانهم، فـارتدّوا عن إيـمانهم بعد دخولهم فـيه، ورضوا بـالكفر بـاللّه وبرسوله، عوضا من الإيـمان، لن يضرّوا اللّه بكفرهم وارتدادهم، عن إيـمانهم شيئا، بل إنـما يضرّون بذلك أنفسهم بإيجابهم بذلك لها من عقاب اللّه ما لا قبل لها به.

وإنـما حثّ اللّه جل ثناؤه بهذه الاَيات من قوله: {وَما أصَابَكُمْ يَوْمَ الَتْقَـى الـجَمْعانِ فَبإذْنِ اللّه } إلـى هذه الاَية عبـاده الـمؤمنـين علـى إخلاص الـيقـين، والانقطاع إلـيه فـي أمورهم، والرضا به ناصرا وحده دون غيره من سائر خـلقه، ورغب بها فـي جهاد أعدائه وأعداء دينه، وشجع بها قلوبهم، وأعلـمهم أن من ولـيه بنصره فلن يخذل ولو اجتـمع علـيه جميع من خالفه وحاده، وأن من خذله فلن ينصره ناصر ينفعه نصره ولو كثرت أعوانه أو نصراؤه. كما:

٦٧٠٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إنّ الّذِينَ اشَترَوُا الكُفرَ بـالإيِـمَانِ}: أي الـمنافقـين {لَنْ يَضُرّوا اللّه شَيْئا وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ}: أي موجع.

٦٧٠٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هم الـمنافقون.

١٧٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ ...}

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولا يظنن الذين كفروا بـاللّه ورسوله، وما جاء به من عند اللّه ، أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم. ويعنـي بـالإملاء: الإطالة فـي العمر والإنساء فـي الأجل¹ ومنه قوله جل ثناؤه: {وَاهجُرْنِـي مَلِـيّا}: أي حينا طويلاً¹ ومنه

قـيـل: عشت طويلاً وتـملـيت حينا والـملا نفسه: الدهر، والـملوان: اللـيـل والنهار، ومنه قول تـميـم بن مقبل:

ألا يا دِيارَ الـحَيّ بـالسّبُعانِأمَلّ عَلَـيها بـالبِلَـى الـمَلَوَانِ

يعنـي بـالـملوان: اللـيـل والنهار.

وقد اختلفت القراء فـي قراءة قوله: (وَلا تَـحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـملِـيَ لهُمْ خَيرٌ لأَنفُسِهِمْ) فقرأ ذلك جماعة منهم: {وَلا يَحسَبنّ} بـالـياء وفتـح الألف من قوله {أنّـمَا} علـى الـمعنى الذي وصفت من تأويـله. وقرأه آخرون: (وَلا تَـحسَبنّ) بـالتاء و{أنّـمَا} أيضا بفتـح الألف من (أنـما)، بـمعنى: ولا تـحسبن يا مـحمد الذين كفروا أنـما نـملـي لهم خير لأنفسهم.

فإن قال قائل: فما الذي من أجله فتـحت الألف من قوله: {أنّـمَا} فـي قراءة من قرأ بـالتاء، وقد علـمت أن ذلك إذا قرىء بـالتاء فقد أعلـمت تـحسبنّ فـي الذين كفروا، وإذا أعملتها فـي ذلك لـم يجز لها أن تقع علـى (أنـما) لأن (أنّـما) إنـما يعمل فـيها عامل يعمل فـي شيئين نصبـا؟

قـيـل: أما الصواب فـي العربـية ووجه الكلام الـمعروف من كلام العرب كسر إن قرئت تـحسبن بـالتاء، لأن تـحسبن إذا إذا قرئت بـالتاء، فإنها قد نصبت الذين كفروا، فلا يجوز أن تعمل وقد نصبت اسما فـي أن، ولكنى أظن أن من قرأ ذلك بـالتاء فـي تـحسبن وفتـح الألف من أنـما، إنـما أراد تكرير تـحسبن علـى أنـما، كأنه قصد إلـى أن معنى الكلام: ولا تـحسبن يا مـحمد أنت الذين كفروا، لا تـحسبن أنـما نـملـي لهم خير لأنفسهم، كما قال جل ثناؤه: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِـيَهُمْ بَغتَةً} بتأويـل: هل ينظرون إلا الساعة، هل ينظرون إلا أن تأتـيهم بغتة؟ وذلك وإن كان وجها جائزا فـي العربـية، فوجه كلام العرب ما وصفنا قبل.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا قراءة من قرأ: {وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا} بـالـياء من (يحسبن)، وبفتـح الألف من (أنـما)، علـى معنى الـحسبـان للذين كفروا دون غيرهم، ثم يعمل فـي (أنـما) نصبـا¹ لأن (يحسبن) حينئذ لـم يشغل بشيء عمل فـيه، وهي تطلب منصوبـين. وإنـما اخترنا ذلك لإجماع القراء علـى فتـح الألف من (أنـما) الأولـى، فدل ذلك علـى أن القراءة الصحيحة فـي (يحسبن) بـالـياء لـما وصفنا¹ وأما ألف (إنـما) الثانـية فـالكسر علـى الابتداء بـالإجماع من القراء علـيه.

وتأويـل قوله: {إنّـمَا نُـملِـي لَهُمْ لِـيَزْدَادُوا إثْما}: إنـما نؤخر آجالهم فنطيـلها لـيزدادوا إثما،

يقول: يكتسبوا الـمعاصي فتزداد آثامهم وتكثر {ولَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}

يقول: ولهؤلاء الذين كفروا بـاللّه ورسوله فـي الاَخرة عقوبة لهم مهينة مذلة.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك جاء الأثر.

٦٧١٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود، قال: قال عبد اللّه : ما من نفس برة ولا فـاجرة إلا والـموت خير لها، وقرأ: {وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا ...}.

١٧٩

 

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مّا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىَ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ ...}

يعنـي بقوله: {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ} ما كان اللّه لـيدع الـمؤمنـين علـى ما أنتـم علـيه من التبـاس الـمؤمن منكم بـالـمنافق، فلا يعرف هذا من هذا {حَتّـى يِـمَيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} يعنـي بذلك: حتـى يـميز الـخبـيث، وهو الـمنافق الـمستسر للكفر، من الطيب، وهو الـمؤمن الـمخـلص الصادق الإيـمان بـالـمـحن والاختبـار، كما ميز بـينهم يوم أُحد عند لقاء العدو عند خروجهم إلـيه.

واختلف أهل التأويـل فـي الـخبـيث الذي عنى اللّه بهذه الاَية، فقال بعضهم فـيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك:

٦٧١١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنـي أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول اللّه : {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قال: ميز بـينهم يوم أُحد، الـمنافق من الـمؤمن.

٦٧١٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قال ابن جريج:

يقول: لـيبـين الصادق بإيـمانه من الكاذب

قال: ابن جريج: قال مـجاهد: يوم أُحد ميز بعضهم عن بعض، الـمنافق عن الـمؤمن.

٦٧١٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}: أي الـمنافق.

وقال آخرون: معنى ذلك: حتـى يـميز الـمؤمن من الكافر بـالهجرة والـجهاد. ذكر من قال ذلك:

٦٧١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ} يعنـي: الكفـار.

يقول: لـم يكن اللّه لـيدع الـمؤمنـين علـى ما أنتـم علـيه من الضلالة، {حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}: يـميز بـينهم فـي الـجهاد والهجرة.

٦٧١٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ} قال: حتـى يـميز الفـاجر من الـمؤمن.

٦٧١٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}

قالوا: إن كان مـحمد صادقا فلـيخبرنا بـمن يؤمن بـاللّه ومن يكفر! فأنزل اللّه : {ما كانَ اللّه لِـيَذَرَ الـمُؤْمِنِـينَ علـى ما أنْتُـمْ عَلَـيْهِ حتـى يَـمِيزَ الـخَبِـيثَ مِنَ الطّيّبِ}: حتـى يخرج الـمؤمن من الكافر.

والتأويـل الأوّل أولـى بتأويـل الاَية، لأن الاَيات قبلها فـي ذكر الـمنافقـين وهذه فـي سياقتها، فكونها بأن تكون فـيهم أشبه منها بأن تكون فـي غيرهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما كانَ لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ وَلَكِنّ اللّه يَجْتَبِـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم بـما:

٦٧١٧ـ حدثنا به مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَما كانَ اللّه لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ} وما كان اللّه لـيطلع مـحمدا علـى الغيب، ولكن اللّه اجتبـاه فجعله رسولاً.

وقال آخرون بـما:

٦٧١٨ـ حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَما كانَ اللّه لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ} أي فـيـما يريد أن يبتلـيكم به، لتـحذروا ما يدخـل علـيكم فـيه: {وَلَكِنّ اللّه يَجْتَبِـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} يعلـمه.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بتأويـله: وما كان اللّه لـيطلعكم علـى ضمائر قلوب عبـاده، فتعرفوا الـمؤمن منهم من الـمنافق والكافر، ولكنه يـميز بـينهم بـالـمـحن والابتلاء كما ميز بـينهم بـالبأساء يوم أُحد، وجهاد عدوّه، وما أشبه ذلك من صنوف الـمـحن، حتـى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم. غير أنه تعالـى ذكره يجتبـي من رسله من يشاء، فـيصطفـيه، فـيطلعه علـى بعض ما فـي ضمائر بعضهم بوحيه ذلك إلـيه ورسالته. كما:

٦٧١٩ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلَكِنّ اللّه يَجْتَبِـي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} قال: يخـلصهم لنفسه.

وإنـما قلنا هذا التأويـل أولـى بتأويـل الاَية، ابتداءَها خبر من اللّه تعالـى ذكره أنه غير تارك عبـاده، يعنـي بغير مـحن، حتـى يفرّق بـالابتلاء بـين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفـاقهم. ثم عقب ذلك بقوله: {وَما كانَ لِـيُطْلِعَكُمْ علـى الغَيْبِ}، فكان فـيـما افتتـح به من صفة إظهار اللّه نفـاق الـمنافق وكفر الكافر، دلالة واضحة علـى أن الذي ولـي ذلك هو الـخبر عن أنه لـم يكن لـيطلعهم علـى ما يخفـى عنهم من بـاطن سرائرهم إلا بـالذي ذكر أنه مـميز به نعتهم إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلـمه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَآمِنُوا بـاللّه وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيـمٌ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه بقوله: {وَإنْ تُؤْمِنُوا}: وإن تصدّقوا من اجتبـيته من رسلـي بعلـمي، وأطلعته علـى الـمنافقـين منكم، وتتقوا ربكم بطاعته فـيـما أمركم به نبـيكم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وفـيـما نهاكم عنه، {فَلَكُمْ أجرٌ عَظِيـمٌ}

يقول: فلكم بذلك من إيـمانكم واتقائكم ربكم ثواب عظيـم. كما:

٦٧٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فَآمِنُوا بـاللّه وَرُسُلِهِ وَإنْ تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا}: أي ترجعوا وتتوبوا، {فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيـمٌ}.

١٨٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ...}

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه جماعة من أهل الـحجاز والعراق: {وَلا يَحسَبنّ الّذِينَ يَبخَـلونَ} بـالـياء من يحسبنّ وقرأته جماعة أخر: (وَلا تَـحسَبنّ) بـالتاء.

ثم اختلف أهل العربـية فـي تأويـل ذلك، فقال بعض نـحويـي الكوفة: معنى ذلك: لا يحسبنّ البـاخـلون البخـل هو خيرا لهم. فـاكتفـى بذكر يبخـلون من البخـل، كما تقول: قدم فلان فسررت به، وأنت تريد فسررت بقدومه، وهو عماد

وقال بعض نـحويـي أهل البصرة: إنـما أراد بقوله: (وَلا تَـحسَبنّ الّذِينَ يَبخَـلونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ) لا تـحسبن البخـل هو خيرا لهم، فألقـى الاسم الذي أوقع علـيه الـحسبـان به وهو البخـل، لأنه قد ذكر الـحسبـان، وذكر ما آتاهم اللّه من فضله، فأضمرهما إذ ذكرهما، قال: وقد جاء من الـحذف ما هو أشد من هذا، قال: {لا يَستَوِي مِنكُمْ مَنْ انْفَقَ مِنْ قَبْل الفَتْـحِ وَقاتَلَ} ولـم يقل: ومن أنفق من بعد الفتـح، لأنه لـما قال: {أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الّذِينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ} كان فـيه دلـيـل علـى أنه قد عناهم.

وقال بعض من أنكر قول من ذكرنا قوله من أهل البصرة، أن (من) فـي قوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْـحِ} فـي معنى جمع. ومعنى الكلام: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتـح فـي منازلهم وحالاتهم، فكيف من أنفق من بعد الفتـح، فـالأول مكتف

وقال فـي قوله: {لا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيْرا لَهُمْ} مـحذوف، غير أنه لـم يحذف إلا وفـي الكلام ما قام مقام الـمـحذوف، لأن (هو) عائد البخـل، و(خيرا لهم) عائد الأسماء، فقد دلّ هذان العائدان علـى أن قبلهما اسمين، واكتفـى بقوله: يبخـلون، من البخـل

قال: وهذا إذا قرىء بـالتاء، فـالبخـل قبل الذين، وإذا قرىء بـالـياء، فـالبخـل بعد الذين، وقد اكتفـى بـالذين يبخـلون من البخـل، كما قال الشاعر:

إذَا نُهِيَ السّفِـيهُ جَرَى إلَـيْهِوخالَفَ وَالسّفـيهُ إلـى خِلافِ

كأنه قال: جرى إلـى السفه، فـاكتفـى عن السفه بـالسفـيه، كذلك اكتفـى بـالذين يبخـلون من البخـل.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي، قراءة من قرأ: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ} بـالتاء بتأويـل: ولا تـحسبنّ أنت يا مـحمد بخـل الذين يبخـلون بـما أتاهم اللّه من فضله، هو خيرا لهم، ثم ترك ذكر البخـل، إذ كان فـي قوله هو خيرا لهم، دلالة علـى أنه مراد فـي الكلام، إذ كان قد تقدّمه قوله: {الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـما آتاهُمْ اللّه مِنْ فَضلِهِ}.

وإنـما قلنا قراءة ذلك بـالتاء أولـى بـالصواب من قراءته بـالـياء، لأن الـمـحسبة من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرىء قوله: {وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ} بـالـياء لـم يكن للـمـحسبة اسم يكون قوله: {هُوَ خَيْرا لَهُمْ} خبرا عنه، وإذا قرىء ذلك بـالتاء كان قوله: {الّذِينَ يَبْخَـلُونَ} اسما له، قد أدّى عن معنى البخـل الذي هو اسم الـمـحسبة الـمتروك، وكان قوله: {هُوَ خَيْرا لَهُمْ} خبرا لها، فكان جاريا مـجرى الـمعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بـالتاء فـي ذلك علـى ما بـيناه، وإن كانت القراءة بـالـياء غير خطأ، ولكنه لـيس بـالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.

وأما تأويـل الاَية الذي هو تأويـلها علـى ما اخترنا من القراءة فـي ذلك: ولا تـحسبنّ يا مـحمد، بخـل الذين يبخـلون بـما أعطاهم اللّه فـي الدنـيا من الأموال، فلا يخرجون منه حقّ اللّه الذي فرضه علـيهم فـيه من الزكوات هو خيرا لهم عند اللّه يوم القـيامة، بل هو شرّ لهم عنده فـي الاَخرة. كما:

٦٧٢١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: (وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُو شَرّ لَهُمْ): هم الذين آتاهم اللّه من فضله، فبخـلوا أن ينفقوها فـي سبـيـل اللّه ، ولـم يؤدّوا زكاتها.

وقال آخرون: بل عنى بذلك الـيهود الذين بخـلوا أن يبـينوا للناس ما أنزل اللّه فـي التوراة من أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته. ذكر من قال ذلك:

٦٧٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي عمي، ثنـي أبـي، قال: قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: (وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ)... إلـى {سُيَطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} يعنـي بذلك: أهل الكتاب أنهم بخـلوا بـالكتاب أن يبـينوه للناس.

٦٧٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: (وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ) قال: هم يهود، إلـى قوله: {وَالكتاب الـمُنِـير}.

وأولـى التأويـلـين بتأويـل هذه الاَية التأويـل الأوّل وهو أنه معنـيّ بـالبخـل فـي هذا الـموضع: منع الزكاة لتظاهر الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه تأوّل قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: البخيـل الذي منع حقّ اللّه منه أنه يصير ثعبـانا فـي عنقه، ولقول اللّه عقـيب هذه الاَية: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنَـحْنُ أغْنِـياءُ} فوصف جل ثناؤه قول الـمشركين من الـيهود الذين زعموا عند أمر اللّه إياهم بـالزكاة أن اللّه فقـير.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخَـلِوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {سَيُطَوّقُونَ}: سيجعل اللّه ما بخـل به الـمانعون الزكاة طوقا فـي أعناقهم، كهيئة الأطواق الـمعروفة. كالذي:

٦٧٢٤ـ حدثنـي الـحسن بن قزعة، قال: حدثنا مسلـمة بن علقمة، قال: حدثنا داود، عن أبـي قزعة، عن أبـي مالك العبدي، قال: ما من عبد يأتـيه ذو رحم له يسأله من فضل عنده فـيبخـل علـيه إلا أخرج له الذي بخـل به علـيه شجاعا أقرع

وقال: وقرأ: (وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ)... إلـى آخر الاَية.

٦٧٢٥ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن أبـي قزعة، عن رجل، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِـيَ ذَا رَحِمِهِ فَـيَسألُهُ فَضْلٍ جَعَلَهُ اللّه عِنْدَهُ فَـيَبْخَـلَ بِهِ عَلَـيْهِ إلاّ أُخْرِجَ مِنْ لَهُ مِنْ جَهَنّـمَ شُجاعٌ يَتَلَـمّظُ حتـى يُطَوّقَهُ).

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو معاوية مـحمد بن خازم، قال: حدثنا داود، عن أبـي قزعة حجر بن بـيان، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِـي ذَا رَحِمِهِ فَـيَسألَهُ مِنْ فَضْلٍ أعْطاهُ اللّه إيّاهُ فَـيَبْخَـلَ بِهِ عَلَـيْهِ، إلاّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ شُجاعٌ مِنَ النّارِ يَتَلَـمّظُ حتـى يُطَوّقَهُ) ثم قرأ: (وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ) حتـى انتهى إلـى قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ}.

٦٧٢٦ـ حدثنـي زياد بن عبـيد اللّه الـمرّي، قال: حدثنا مروان بن معاوية، وحدثنـي مـحمد بن عبد اللّه الكلابـي، قال: حدثنا عبد اللّه بن بكر السهمي، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا عبد الواحد بن واصل أبو عبـيدة الـحداد، واللفظ لـيعقوب جميعا، عن بهز بن حكيـم بن معاوية بن حيدة، عن أبـيه، عن جده، قال: سمعت نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (لا يَأْتِـي رَجُلٌ مَوْلاهُ فَـيَسألَهُ مِنْ فَضْل مالٍ عِنْدَهُ فَـيَـمْنَعُهُ إيّاهُ إلاّ دَعا لَهُ يَوْمَ القِـيامَةِ شُجاعا يَتَلَـمّظُ فَضْلَهُ الّذِين مَنَعَ).

٦٧٢٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن أبـي وائل، عن عبد اللّه بن مسعود: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: ثعبـان ينقر رأس أحدهم،

يقول: أنا مالك الذي بخـلت به.

٦٧٢٨ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت أبـا وائل يحدّث أنه سمع عبد اللّه ، قال فـي هذه الاَية: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: شجاع يـلتوي برأس أحدهم.

حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، قال: حدثنا خلاد بن أسلـم، قال أخبرنا النضر بن شميـل، قال: أخبرنا شعبة، عن أبـي إسحاق، عن أبـي وائل، عن عبد اللّه ، بـمثله، إلا أنهما قالا: قال شجاع أسود.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي إسحاق، عن أبـي وائل، عن ابن مسعود، قال: يجيء ماله يوم القـيامة ثعبـانا، فـينقر رأسه فـ

يقول: أنا مالك الذي بخـلت به، فـينطوي علـى عنقه.

٦٧٢٩ـ حُدثت عن سفـيان بن عيـينة، قال: حدثنا جامع بن شداد وعبد الـملك بن أعين، عن أبـي وائل، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما مِنْ أحَدٍ لا يُؤَدّي زَكاةَ مالِهِ إلاّ مُثّلَ لَهُ شُجاعٌ أقْرَعُ يُطَوّقُهُ) ثم قرأ علـينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلونَ بِـما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ)... الاَية.

٦٧٣٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنـي أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما {سَيُطَوّقون ما بَخِـلُوا بِهِ} فإنه يجعل ماله يوم القـيامة شجاعا أقرع يطوّقه، فـيأخذ بعنقه، فـيتبعه حتـى يقذفه فـي النار.

٦٧٣١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا خـلف بن خـلـيفة، عن أبـي هاشم، عن أبـي وائل، قال: هو الرجل الذي يرزقه اللّه مالاً، فـيـمنع قرابته الـحقّ الذي جعل اللّه لهم فـي ماله، فـيجعل حية فـيطوّقها، فـ

يقول: مالـي ولك؟ فـ

يقول: أنا مالك.

٦٧٣٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا إسرائيـل، عن حكيـم بن جبـير، عن سالـم بن أبـي الـجعد عن مسروق، قال: سألت ابن مسعود عن قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: يطوّقون شجاعا أقرع، ينهش رأسه.

وقال آخرون: معنى ذلك: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} فـيجعل فـي أعناقهم طوقا من نار. ذكر من قال ذلك:

٦٧٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: طوقا من النار.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيـم أنه قال فـي هذه الاَية: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: طوقا من نار.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيـم، فـي قوله: {سَيُطَوّقُونَ} قال: طوقا من نار.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: طوق من نار.

وقال آخرون: معنى ذلك: سيحمل الذين كتـموا نبوّه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من أحبـار الـيهود ما كتـموا من ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٧٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي عن أبـيه عن ابن عبـاس ، قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} ألـم تسمع أنه قال: {يَبْخَـلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بـالبُخْـلِ} يعنـي: أهل الكتاب،

يقول: يكتـمون ويأمرون الناس بـالكتـمان.

وقال آخرون: معنى ذلك: سيكلفون يوم القـيامة أن يأتوا بـما بخـلوا به فـي الدنـيا من أموالهم. ذكر من قال ذلك:

٦٧٣٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ يَوْمَ القِـيامَةِ} قال: سيكلفون أن يأتوا بـما بخـلوا به، إلـى قوله: {وَالكِتابِ الـمُنِـير}.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {سَيُطَوّقونَ} سيكلفون أن يأتوا بـمثل ما بخـلوا به من أموالهم يوم القـيامة.

وأولـى الأقوال بتأويـل هذه الاَية التأويـل الذي قلناه فـي ذلك فـي مبدإ قوله: {سَيُطَوّقُونَ ما بَخِـلُوا بِهِ} للأخبـار التـي ذكرنا فـي ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا أحد أعلـم بـما عنى اللّه تبـارك وتعالـى بتنزيـله منه علـيه الصلاة والسلام.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وِللّهِ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرٌ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه الـحيّ الذي لا يـموت، والبـاقـي بعد فناء جميع خـلقه.

فإن قال قائل: فما معنى قوله: {لَهُ مِيرَاثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ} والـميراث الـمعروف: هو ما انتقل من ملك مالك إلـى وارثه بـموته ولله الدنـيا قبل فناء خـلقه وبعده؟

قـيـل: إن معنى ذلك ما وصفنا من وصفه نفسه بـالبقاء، وإعلام خـلقه أنه كتب علـيهم الفناء. وذلك أن ملك الـمالك إنـما يصير ميراثا بعد وفـاته، فإنـما قال جلّ ثناؤه: {ولِلّهِ مِيراثُ السّمَوَاتِ والأرْضِ} إعلاما بذلك منه عبـاده أن أملاك جميع خـلقه منتقلة عنهم بـموتهم، وأنه لاأحد إلا وهو فـان سواء، فإنه الذي إذا هلك جميع خـلقه، فزالت أملاكهم عنهم لـم يبق أحد يكون له ما كانوا يـملكونه غيره.

وإنـما معنى الاَية: لا تـحسبن الذي يبخـلون بـما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخـلوا به يوم القـيامة، بعد ما يهلكون، وتزول عنهم أملاكهم فـي الـحين الذي لا يـملكون شيئا، وصار لله ميراثه وميراث غيره من خـلقه. ثم أخبر تعالـى ذكره أنه بـما يعمل هؤلاء الذين يبخـلون بـما آتاهم اللّه من فضل، وغيرهم من سائر خـلقه، ذو خبرة وعلـم، مـحيط بذلك كله، حتـى يجازي كلاّ منهم علـى قدر استـحقاقه، الـمـحسن بـالإحسان، والـمسيء علـى ما يرى تعالـى ذكره.

١٨١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ ...}.

ذكر أن هذه الاَية وآيات بعدها نزلت فـي بعض الـيهود، الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر الاَثار بذلك:

٦٧٣٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أنه حدثه، عن ابن عبـاس ، قال: دخـل أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه بـيت الـمدارس، فوجد من يهود ناسا كثـيرا قد اجتـمعوا إلـى رجل منهم يقال له فنـحاص، كان من علـمائهم وأحبـارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر رضي اللّه عنه لفنـحاص: ويحك يا فنـحاص، اتق اللّه وأسلـم! فواللّه إنك لتعلـم أن مـحمدا رسول اللّه ، قد جاءكم بـالـحق من عند اللّه ، تـجدونه مكتوبـا عندكم فـي التوراة والإنـجيـل! قال فنـحاص: واللّه يا أبـا بكر ما بنا إلـى اللّه من فقر، وإنه إلـينا لفقـير، وما نتضرع إلـيه كما يتضرع إلـينا، وإنا عنه لأغنـياء، ولو كان عنا غنـيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربـا ويعطيناه، ولو كان غنـيا عنا ما أعطانا الربـا. فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنـحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بـيده، لولا العهد الذي بـيننا وبـينك لضربت عنقك يا عدو اللّه ، فأكذبونا ما استطعتـم إن كنتـم صادقـين! فذهب فنـحاص إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: يا مـحمد انظر ما صنع بـي صاحبك! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبـي بكر: (ما حَمَلَكَ علـى ما صَنَعْتَ؟) فقال: يا رسول اللّه إن عدو اللّه قال قولاً عظيـما، زعم أن اللّه فقـير، وأنهم عنه أغنـياء، فلـما قال ذلك غضبت لله مـما قال، فضربت وجهه. فجحد ذلك فنـحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى فـيـما قال فنـحاص ردّا علـيه وتصديقا لأبـي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنـحْنُ أغنِـياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِـيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الـحَرِيقِ} وفـي قول أبـي بكر وما بلغه فـي ذلك من الغضب: {لتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِـيرا وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، قال: دخـل أبو بكر، فذكر نـحوه، غير أنه قال: وإنا عنه لأغنـياء، وما هو عنا بغنـيّ، ولو كان غنـيا¹ ثم ذكر سائر الـحديث نـحوه.

٦٧٣٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنَـحْنُ أغْنِـيَاءُ} قالها فنـحاص الـيهودي من بنـي مرثد، لقـيه أبو بكر فكلـمه، فقال له: يا فنـحاص، اتق اللّه وآمن وصدق، وأقرض اللّه قرضا حسنا! فقال فنـحاص: يا أبـا بكر، تزعم أن ربنا فقـير، يستقرضنا أموالنا، وما يستقرض إلا الفقـير من الغنـي، إن كان ما تقول حقا، فإن اللّه إذا لفقـير. فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذا، فقال أبو بكر: فلولا هدنة كانت بـين النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وبـين بنـي مرثد لقتلته.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: صكّ أبو بكر رجلاً منهم الذين

قالوا: إن اللّه فقـير ونـحن أغنـياء لـمَ يستقرضنا وهو غنـيّ وهم يهود.

٦٧٣٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، قال الذين

قالوا: إن اللّه فقـير ونـحن أغنـياء، لـم يستقرضنا وهو غنـيّ؟ قال شبل: بلغنـي أنه فنـحاص الـيهودي، وهو الذي قال: إن اللّه ثالث ثلاثة، ويد اللّه مغلولة.

٦٧٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: ثنـي يحيـى بن واضح، قال: حدثت عن عطاء، عن الـحسن، قال: لـما نزلت: {مَنْ الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا} قالت الـيهود: إن ربكم يستقرض منكم! فأنزل اللّه : {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنـحْنُ أغْنِـياء}.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن الـحسن البصري، قال: لـما نزلت: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا} قال: عجبت الـيهود فقالت: إن اللّه فقـير يستقرض، فنزلت: {لَقَدَ سَمِعَ اللّه قوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنـحْنُ أغْنِـياءُ}.

٦٧٤٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ ونـحْنُ أغْنِـياءُ} ذكر لنا أنها نزلت فـي حيـي بن أخطب لـما أنزل اللّه : {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا فَـيُضَاعِفَهُ لَهُ أضْعافـا كَثِـيرَةً} قال: يستقرضنا ربنا، إنـما يستقرض الفقـير الغنـيّ.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبر نا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لـما نزلت: {مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضا حَسَنا} قالت الـيهود: إنـما يستقرض الفقـير من الغنـيّ، قال: فأنزل اللّه : {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنْـحنُ أغْنِـياءُ}.

٦٧٤١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ ونـحْنُ أغْنِـياءُ} قال: هؤلاء الـيهود.

فتأويـل الاَية إذا: لقد سمع اللّه قول الذين قالوا من الـيهود: إن اللّه فقـير إلـينا ونـحن أغنـياء عنه، سنكتب ما قالوا من الإفك والفرية علـى ربهم وقتلهم أنبـياءهم بغير حقّ.

واختلفت القراء فـي قراءة قوله: {سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمْ} فقرأ ذلك قراء الـحجاز وعامة قراء العراق: {سَنَكْتُبُ ما قَالُوا} بـالنون، {وَقَتْلَهُمْ الأنْبِـيَاءَ بِغَيْر حَقّ} بنصب القتل. وقرأ ذلك بعض قراء الكوفـيـين: (سَيُكْتَبُ ما قالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِـيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ) بـالـياء من سيكتب، وبضمها ورفع القتل علـى مذهب ما لـم يسمّ فـاعله، اعتبـارا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد اللّه فـي قوله: (ونقول ذوقوا)، يذكر أنها فـي قراءة عبد اللّه : (ويقال)¹ فأغفل قارىء ذلك وجه الصواب فـيـما قصد إلـيه من تأويـل القراءة التـي تنسب إلـى عبد اللّه ، وخالف الـحجة من قراء الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لـمن قرأ: (سيُكْتَبُ ما قالوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِـياء) علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله، أن يقرأ: ويقال، لأن قوله: (ونقول) عطف علـى قوله: (سنكتب).

فـالصواب من القراءة أن يوفق بـينهما فـي الـمعنى بأن يقرأ جميعا علـى مذهب ما لـم يسمّ فـاعله، أو علـى مذهب ما يسمى فـاعله، فأما أن يقرأ أحدهما علـى مذهب ما لـم يسمّ فـاعله، والاَخر علـى وجه ما قد سمي فـاعله من غير معنى ألـجأه علـى ذلك، فـاختـيار خارج عن الفصيح من كلام العرب.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {سَنَكْتُبُ} بـالنون {وَقَتْلَهُمُ} بـالنصب لقوله: (ونقول)، ولو كانت القراءة فـي (سَيُكْتَبُ) بـالـياء وضمها، لقـيـل: (ويقال)، علـى ما قد بـينا.

فإن قال قائل: كيف

قـيـل: {وَقَتْلَهُمُ الأنْبِـياءَ بِغَيْرِ حَقّ} وقد ذكرت الاَثار التـي رويت، أن الذين عنوا بقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ} بعض الـيهود الذين كانوا علـى عهد نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولـم يكن من أولئك أحد قتل نبـيا من الأنبـياء، لأنهم لـم يدركوا نبـيا من أنبـياء اللّه فـيقتلوه؟

قـيـل: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه، وإنـما قـيـل ذلك كذلك لأن الذين عنى اللّه تبـارك وتعالـى بهذه الاَية كانوا راضين بـما فعل أوائلهم من قتل من قتلوا من الأنبـياء، وكانوا منهم، وعلـى منهاجهم، من استـحلال ذلك واستـجازته. فأضاف جل ثناؤه فعل ما فعله من كانوا علـى منهاجه وطريقته إلـى جميعهم، إذ كانوا أهل ملة واحدة، ونـحلة واحدة، وبـالرضا من جميعهم فعل ما فعل فـاعل ذلك منهم علـى ما بـينا من نظائره فـيـما مضى قبل.

١٨٢

القول فـي تأويـل قوله: { ذَلِكَ بِـمَا قَدّمَتْ أيْدِيكُمْ وأنّ اللّه لَـيْسَ بِظلاّمٍ للْعَبـيِد}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ونقول للقائلـين بأن اللّه فقـير ونـحن أغنـياء، القاتلـين أنبـياء اللّه بغير حقّ يوم القـيامة: ذوقوا عذاب الـحريق، يعنـي بذلك: عذاب نار مـحرقة ملتهبة، والنار اسم جامع للـملتهبة منها وغير الـملتهبة، وإنـما الـحريق صفة لها، يراد أنها مـحرقة، كما

قـيـل: (عَذَاب ألِـيـمٌ) يعنـي: مؤلـم، و(وجيع) يعنـي: موجع.

وأما قوله: {ذَلِكَ بِـمَا قَدّمَتْ أيْدِيكُمْ}: أي قولنا لهم يوم القـيامة: ذوقوا عذاب الـحريق بـما أسلفت أيديكم، واكتسبتها أيام حياتكم فـي الدنـيا، وبأن اللّه عدل لا يجور، فـيعاقب عبدا له بغير استـحقاق منه العقوبة، ولكنه يجازي كلّ نفس بـما كسبت، ويوفـي كل عامل جزاء ما عمل، فجازى الذين قال لهم يوم القـيامة من الـيهود الذين وصف صفتهم، فأخبر عنهم أنهم

قالوا: إن اللّه فقـير ونـحن أغنـياء، وقتلوا الأنبـياء بغير حقّ، بـما جازاهم به من عذاب الـحريق، بـما اكتسبوا من الاَثام، واجترحوا من السيئات، وكذبوا علـى اللّه بعد الإعذار إلـيهم بـالإنذار، فلـم يكن تعالـى ذكره بـما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الـحريق ظالـما ولا واضعا عقوبته فـي غير أهلها، وكذلك هو جل ثناؤه غير ظلام أحدا من خـلقه، ولكنه العادل بـينهم، والـمتفضل علـى جميعهم بـما أحبّ من فواضله ونعمه.

١٨٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه عَهِدَ إلَـيْنا أنْ لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍوقوله: {الّذِينَ قالوا إنّ اللّه } فـي موضع خفص ردّا علـى قوله: {الّذِينَ قالُوا إنّ اللّه فَقِـيرٌ} ويعنـي بقوله: {قالُوا إنّ اللّه عَهِدَ إلَـيْنَا أن لا نُؤْمِنَ لرَسُولٍ} أوصانا وتقدّم إلـينا فـي كتبه وعلـى ألسن أنبـيائه، أن لا نؤمن لرسول.

يقول: أن لا نصدّق رسولاً فـيـما يقول إنه جاء به من عند اللّه ، من أمر ونهي وغير ذلك {حَتّـى يَأْتِـينَا بُقْرَبـانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ}

يقول: حتـى يجيئنا بقربـان، وهو ما تقرّب به العبد إلـى ربه من صدقة، وهو مصدر مثل العدوان والـخسران من قولك: قرّبت قربـانا. وإنـما قال: (تأكله النار)، لأن أكل النار ما قرّبه أحدهم لله فـي ذلك الزمان كان دلـيلاً علـى قبول اللّه منه ما قرّب له، ودلالة علـى صدق الـمقرب فـيـما ادّعى أنه مـحقّ فـيـما نازع أو قال. كما:

٦٧٤٢ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {حتـى يأتـينا بقُرْبـانٍ تأْكُلُهُ النّارُ} كان الرجل يتصدّق، فإذا تقبل منه أنزلت علـيه نار من السماء فأكلته.

٦٧٤٣ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ،

يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {بُقْربَـانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ} كان الرجل إذا تصدق بصدقة، فتقبلت منه بعث اللّه نارا من السماء، فنزلت علـى القربـان فأكلته.

فقال اللّه تعالـى لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {أن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتـى يَأْتِـينَا بِقُرْبـانِ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلـي بـالبَـيّنَاتِ} يعنـي: بـالـحجج الدالة علـى صدق نبوتهم وحقـيقة قولهم¹ {وَبـالّذِي قُلْتُـمْ} يعنـي: وبـالذي ادّعيتـم أنه إذا جاء به لزمكم تصديقه، والإقرار بنبوّته من أكل النار قربـانه إذا قرّب لله دلالة علـى صدقه¹ {فَلـمَ قَتَلْتُـمُوهُمْ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ} يقول له: قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذي كانوا من قبلـي بـالذي زعمتـم أنه حجة لهم علـيكم، فقتلتـموهم، فلـم قتلتـموهم وأنتـم مقرّون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم علـيكم إن كنتـم صادقـين فـي أن اللّه عهد إلـيكم أن تؤمنوا بـمن أتاكم من رسله بقربـان تأكله النار حجة له علـى نبوته؟

وإنـما أعلـم اللّه عبـاده بهذه الاَية، أن الذين وصف صفتهم من الـيهود الذين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لن يفرّوا، وأن يكونوا فـي كذبهم علـى اللّه ، وافترائهم علـى ربهم، وتكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وهم يعلـمونه صادقا مـحقا، وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه مكتوبـا عندهم فـي عهد اللّه تعالـى إلـيهم أنه رسوله إلـى خـلقه، مفروضة طاعته إلا كمن مضى من أسلافهم الذين كانوا يقتلون أنبـياء اللّه بعد قطع اللّه عذرهم بـالـحجج التـي أيديهم اللّه بها، والأدلة التـي أبـان صدقهم بها، افتراءً علـى اللّه ، واستـخفـافـا بحقوقه.

١٨٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَإِن كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ }.

وهذا تعزية من اللّه جل ثناؤه نبـيه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم علـى الأذى الذي كان يناله من الـيهود وأهل الشرك بـاللّه من سائر أهل الـملل. يقول اللّه تعالـى له: لا يحزنك يا مـحمد كذب هؤلاء الذين

قالوا: إن اللّه فقـير، و

قالوا: إن اللّه عهد إلـينا أن لا نؤمن لرسول حتـى يأتـينا بقربـان تأكله النار، وافتراؤهم علـى ربهم اغترارا بإمهال اللّه إياهم، ولا يعظمنّ علـيك تكذيبهم إياك، وادّعاؤهم الأبـاطيـل من عهود اللّه إلـيهم، فإنهم إن فعلوا ذلك بك فكذّبوك، كذبوا علـى اللّه ، فقد كذبت أسلافهم من رسل اللّه قبلك من جاءهم بـالـحجج القاطعة العذر، والأدلة البـاهرة العقل، والاَيات الـمعجزة الـخـلق، وذلك هو البـيناتوأما الزبر: فإنه جمع زبور: وهو الكتاب، وكل كتاب فهو زبور، ومنه قول امرىء القـيس:

لَـمِنْ طَلَلٌ أبْصَرْتُهُ فَشَجانِـيكَخَطّ زَبُورٍ فِـي عَسِيبِ يَـمَانِـي

ويعنـي بـالكتاب: التوراة والإنـجيـل، وذلك أن الـيهود كذّبت عيسى وما جاء به وحرّفت ما جاء به موسى علـيه السلام من صفة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وبدلت عهده إلـيهم فـيه، وأن النصارى جحدت ما فـي الإنـجيـل من نعته وغيرت ما أمرهم به فـي أمره.

وأما قوله: {الـمُنِـيرِ} فإنه يعنـي: الذي ينـير فـيبـين الـحقّ لـمن التبس علـيه ويوضحه، وإنـما هو من النور والإضاءة، يقال: قد أنار لك هذا الأمر، بـمعنى: أضاء لك وتبـين، فهو ينـير إنارة، والشيء الـمنـير. وقد:

٦٧٤٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {فإنْ كَذّبوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} قال: يعزّى نبـيه صلى اللّه عليه وسلم.

٦٧٤٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {فإنْ كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} قال: يعزّي نبـيه صلى اللّه عليه وسلم.

وهذا الـحرف فـي مصاحف أهل الـحجاز والعراق: (والزّبُرِ) بغير بـاء، وهو فـي مصاحف أهل الشام: (وبـالزبر) بـالبـاء مثل الذي فـي سورة فـاطر.

١٨٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ...}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: أن مصير هؤلاء الـمفترين علـى اللّه من الـيهود الـمكذبـين برسوله، الذين وصف صفتهم، وأخبر عن جراءتهم علـى ربهم، ومصير غيرهم من جميع خـلقه تعالـى ذكره، ومرجع جميعهم إلـيه، لأنه قد حتـم الـموت علـى جميعهم، فقال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: لا يحزنك تكذيب من كذّبك يا مـحمد من هؤلاء الـيهود وغيرهم، وافتراء من افترى علـيّ، فقد كذّب قبلك رسل جاءوا من الاَيات والـحجج من أرسلوا إلـيه بـمثل الذي جئت من أرسلت إلـيه، فلك فـيهم أسوة تتعزّى بهم، ومصير من كذّبك، وافترى علـيّ وغيرهم، ومرجعهم إلـيّ، فأوفـي كل نفس منهم جزاء عمله يوم القـيامة، كما قال جلّ ثناؤه: {وإنّـمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ} يعنـي أجور أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. {فمنْ زُحزِحَ عن النارِ}،

يقول: فمن نـحي عن النار وأبعد منها، {فقَدْ فـازَ}

يقول: فقد نـجا وظفر بحاجته، يقال منه: فـاز فلان بطلبته يفوز فوزا ومفـازا ومفـازة: إذا ظفر بها.

وإنـما معنى ذلك: فمن نُـحّـي عن النار فأبعد منها، وأدخـل الـجنة، فقد نـجا وظفر بعظيـم الكرامة. {وَما الـحَياةُ الدّنْـيا إلاّ مَتاعُ الغُرُورِ}

يقول: وما لذات الدنـيا وشهواتها، وما فـيها من زينتها وزخارفها، إلا متاع الغرور،

يقول: إلا متعة يـمتعكموها الغرور والـخداع الـمضمـحل، الذي لا حقـيقة له عند الامتـحان، ولا صحة له عند الاختبـار، فأنتـم تلتذّون بـما متعكم الغرور من دنـياكم، ثم هو عائد علـيكم بـالفجائع والـمصائب والـمكاره،

يقول تعالـى ذكره: لا تركنوا إلـى الدنـيا فتسكنوا إلـيها، فإنـما أنتـم منها فـي غرور تـمتعون، ثم أنتـم عنها بعد قلـيـل راحلون. وقد رُوي فـي تأويـل ذلك ما:

٦٧٤٦ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن عبد الرحمن بن سابط فـي قوله: {وَما الـحَياةُ الدّنـيْا إلاّ مَتاعٌ الغُرُورِ} قال: كزاد الراعي، تزوده الكف من التـمر، أو الشيء من الدقـيق، أو الشيء يشرب علـيه اللبن.

فكأن ابن سابط ذهب فـي تأويـله هذا إلـى أن معنى الاَية: وما الـحياة الدنـيا إلا متاع قلـيـل، لا يبلغ من تـمتعه ولا يكفـيه لسفره.

وهذا التأويـل وإن كان وجها من وجوه التأويـل، فإن الصحيح من القول فـيه هو ما قلنا، لأن الغرور إنـما هو الـخداع فـي كلام العرب، وإذ كان ذلك كذلك فلا وجه لصرفه إلـى معنى القلة، لأن الشيء قد يكون قلـيلاً وصاحبه منه فـي غير خداع ولا غرور¹ وأما الذي هو فـي غرور فلا القلـيـل يصح له ولا الكثـير مـما هو منه فـي غرور. والغرور مصدر من قول القائل: غرنـي فلان، فهو يغرنـي غرورا بضم الغين¹ وأما إذا فتـحت الغين من الغرور فهو صفة للشيطان الغرور الذي يغر ابن آدم حتـى يدخـله من معصية اللّه فـيـما يستوجب به عقوبته. وقد:

٦٧٤٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة وعبد الرحيـم، قالا: حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو وسلـمة، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَوْضعُ سَوْطٍ فِـي الـجَنّة خَيْرٌ مِنَ الدّنْـيا وَما فِـيها، وَاقْرَءُوا إنْ شِئْتُـمْ {وَما الـحَياةُ الدّنـيْا إلاّ مَتاعُ الغرُورِ})

١٨٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ... }.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: {لُتبْلَوُنّ فِـي أمْوَالِكُمْ} لتـختبرن بـالـمصائب فـي أموالكم وأنفسكم، يعنـي: وبهلاك الأقربـاء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم، {وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعنـي: من الـيهود وقولهم {إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنـحْنُ أغْنِـياءُ} وقولهم {يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ} وما أشبه ذلك من افترائهم علـى اللّه . {وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا} يعنـي النصارى، {أذًى كَثِـيرا} والأذى من الـيهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم: الـمسيح ابن اللّه ، وما أشبه ذلك من كفرهم بـالله. {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا}

يقول: وإن تصبروا لأمر اللّه الذي أمركم به فـيهم وفـي غيرهم من طاعته وتتقوا،

يقول: وتتقوا اللّه فـيـما أمركم ونهاكم، فتعملوا فـي ذلك بطاعته. {فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}

يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مـما عزم اللّه علـيه وأمركم به. وقـيـل إن ذلك كله نزل فـي فنـحاص الـيهودي سيد بنـي قـينقاع. كالذي:

٦٧٤٨ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة فـي قوله: {لَتُبْلَوُنّ فِـي أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثـيرا} قال: نزلت هذه الاَية فـي النبـي صلى اللّه عليه وسلم، وفـي أبـي بكر رضوان اللّه علـيه، وفـي فنـحاص الـيهودي سيد بنـي قـينقاع، قال: بعث النبـي صلى اللّه عليه وسلم أبـا بكر الصديق رحمه اللّه إلـى فنـحاص يستـمدّه، وكتب إلـيه بكتاب، وقال لأبـي بكر: (لا تَفْتَاتَنّ علـيّ بِشَيْءٍ حتـى تَرْجِعَ) فجاء أبو بكر وهو متوشح بـالسيف، فأعطاه الكتاب، فلـما قرأه قال: قد احتاج ربكم أن نـمده! فهمّ أبو بكر أن يضربه بـالسيف، ثم ذكر قول النبـي صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَفْتاتَنّ عَلـيّ بِشَيْءٍ حتـى تَرْجعَ) فكف ونزلت: {وَلا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَـلُونَ بِـمَا آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ} وما بـين الاَيتـين إلـى قوله: {لَتُبْلَوْنّ فِـي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ} نزلت هذه الاَيات فـي بنـي قـينقاع، إلـى قوله: {فإنْ كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}. قال ابن جريج: يعزي نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، قال: {لَتُبْلَوُنّ فِـي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ} قال: أعلـم اللّه الـمؤمنـين أنه سيبتلـيهم فـينظر كيف صبرهم علـى دينهم،

ثم قال: {وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعنـي: الـيهود والنصارى، {وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِـيرا} فكان الـمسلـمون يسمعون من الـيهود قولهم: عزير ابن اللّه ، ومن النصارى: الـمسيح ابن اللّه ، فكان الـمسلـمون ينصبون لهم الـحرب، ويسمعون إشراكهم، فقال اللّه : {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}

يقول: من القوة مـما عزم اللّه علـيه وأمركم به.

وقال آخرون: بل نزلت فـي كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويتشبب بنساء الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك:

٦٧٤٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري فـي قوله: {وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِـيرا} قال: هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض الـمشركين علـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه فـي شعره، ويهجو النبـي صلى اللّه عليه وسلم، فـانطلق إلـيه خمسة نفر من الأنصار فـيهم مـحمد بن مسلـمة، ورجل يقال له أبو عبس. فأتوه وهو فـي مـجلس قومه بـالعوالـي¹ فلـما رآهم ذعر منهم، فأنكر شأنهم،

وقالوا: جئناك لـحاجة، قال: فلـيدن إلـيّ بعضكم، فلـيحدثنـي بحاجته! فجاءه رجل منهم فقال: جئناك لنبـيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها،

فقال: واللّه لئن فعلتـم لقد جهدتـم منذ نزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس. فأتوه، فنادوه، فقالت امرأته: ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مـما تـحب! قال: إنهم حدثونـي بحديثهم وشأنهم. قال معمر: فأخبرنـي أيوب عن عكرمة أنه أشرف علـيهم فكلـمهم،

فقال: أترهنونـي أبناءكم؟ وأرادوا أن يبـيعهم تـمرا، قال: فقالوا إنا نستـحيـي أن تعير أبناؤنا فـيقال هذا رهينة وَسْق، وهذا رهينة وسقـين! فقال: أترهنونـي نسائكم؟

قالوا: أنت أجمل الناس، ولا نأمنك، وأي امرأة تـمتنع منك لـجمالك؟ ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علـمت حاجتنا إلـى السلاح الـيوم. فقال: ائتونـي بسلاحكم، واحتـملوا ما شئتـم!

قالوا: فـانزل إلـينا نأخذ علـيك، وتأخذ علـينا. فذهب ينزل، فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلـى أمثالهم من قومك يكونوا معك

قال: لو وجدنـي هؤلاء نائما ما أيقظونـي. قالت: فكلـمهم من فوق البـيت، فأبى علـيها، فنزل إلـيهم يفوح ريحه،

قالوا: ما هذه الريح يا فلان؟ قال: هذا عطر أم فلان! امرأته. فدنا إلـيه بعضهم يشم رائحته، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتلوا عدو اللّه ! فطعنه أبو عبس فـي خاصرته، وعلاه مـحمد بن مسلـمة بـالسيف، فقتلوه، ثم رجعوا. فأصبحت الـيهود مذعورين، فجاءوا إلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: قتل سيدنا غيـلة! فذكرهم النبـي صلى اللّه عليه وسلم صنـيعه، وما كان يحض علـيهم، ويحرض فـي قتالهم، ويؤذيهم، ثم دعاهم إلـى أن يكتب بـينه وبـينهم صلـحا،

فقال: فكان ذلك الكتاب مع علـيّ رضوان اللّه علـيه.

١٨٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الّذِينَ...}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: واذكر أيضا من هؤلاء الـيهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم يا مـحمد إذ أخذ اللّه ميثاقهم، لـيبـيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم علـى بـيانه للناس فـي كتابهم الذي فـي أيديهم، وهو التوراة والإنـجيـل، وأنك لله رسول مرسل بـالـحقّ، ولا يكتـمونه، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}

يقول: فتركوا أمر اللّه وضيعوه، ونقضوا ميثاقه الذي أخذ علـيهم بذلك، فكتـموا أمرك، وكذبوا بك، {واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً}

يقول: وابتاعوا بكتـمانهم ما أخذ علـيهم الـميثاق أن لا يكتـموه من أمر نبوّتك، عوضا منه، خسيسا قلـيلاً من عرض الدنـيا. ثم ذمّ جلّ ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك،

فقال: {فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ}.

واختلف أهل التأويـل فـيـمن عُنـي بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عنـي بها الـيهود خاصة. ذكر من قال ذلك:

٦٧٥٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة أنه حدثه، عن ابن عبـاس : {وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ} إلـى قوله: {عَذَابٌ ألِـيـمٌ} يعنـي: فنـحاص وأشيع وأشبـاههما من الأحبـار.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس ، مثله.

٦٧٥١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَه فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهورِهِمْ) كان أمرهم أن يتبعوا النبـيّ الأميّ الذي يؤمن بـاللّه وكلـماته، وقال: {اتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}. فلـما بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم قال: {أوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإيّايَ فـارْهَبُونِ} عاهدهم علـى ذلك، فقال حين بعث مـحمدا: صدّقوه، وتلقون الذي أحببتـم عندي.

٦٧٥٢ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ).. الاَية، قال: إن اللّه أخذ ميثاق الـيهود لـيبـيننه للناس مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، ولا يكتـمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قلـيلاً.

٦٧٥٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـي الـجحاف، عن مسلـم البطين، قال: سأل الـحجاج بن يوسف جلساءه عن هذه الاَية: {وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتابَ} فقام رجل إلـى سعيد بن جبـير فسأله،

فقال: وإذ أخذ اللّه ميثاق أهل الكتاب يهود، (لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ) مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم ولا يكتـمونه، فنبذوه.

٦٧٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ) قال: وكان فـيه إن الإسلام دين اللّه الذي افترضه علـى عبـاده، وإن مـحمدا يجدونه مكتوبـا عندهم فـي التوراة والإنـجيـل.

وقال آخرون: عنـي بذلك كلّ من أوتـي علـما بأمر الدين. ذكر من قال ذلك:

٦٧٥٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)... الاَية، هذا ميثاق أخذ اللّه علـى أهل العلـم، فمن علـم شيئا فلـيعلـمه وإياكم، وكتـمان العلـم، فإن كتـمان العلـم هلكة، ولا يتكلفنّ رجل ما لا علـم له به، فـيخرج من دين اللّه ، فـيكون من الـمتكلفـين، كان يقال: مثل علـم لا يقال به: كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تـخرج كمثل صنـم قائم لا يأكل ولا يشرب. وكان يقال: طوبى لعالـم ناطق، وطوبى لـمستـمع واع. هذا رجل علـم علـما فعلـمه وبذله ودعا إلـيه، ورجل سمع خيرا فحفظه ووعاه، وانتفع به.

٦٧٥٦ـ حدثنـي يحيـى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبـي عبـيدة، قال: جاء رجل إلـى قوم فـي الـمسجد وفـيه عبد اللّه بن مسعود فقال: إن أخاكم كعبـا يقرئكم السلام، ويبشركم أن هذه الاَية لـيس فـيكم: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ) فقال له عبد اللّه : وأنت فأقرئه السلام، وأخبره أنها نزلت وهو يهودي.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبـي عبـيدة بنـحوه، عن عبد اللّه وكعب.

وقال آخرون: معنى ذلك: وإذ أخذ اللّه ميثاق النبـيـين علـى قومهم. ذكر من قال ذلك:

٦٧٥٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن سفـيان، قال: ثنـي يحيـى بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير، قال: قلت لابن عبـاس : إن أصحاب عبد اللّه يقرءون: (وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِيثاقَهُمْ) قال: من النبـيـين علـى قومهم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا قبـيصة، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد، قال: قلت لابن عبـاس : إن أصحاب عبد اللّه يقرءون {وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ النّبِـيّـين) قال: فقال: أخذ اللّه ميثاق النبـيـين علـى قومهموأما قوله: (لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ). فإنه كما:

٦٧٥٨ـ حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا مـحمد بن ذكوان، قال: حدثنا أبو نعامة السعدي، قال: كان الـحسن يفسر قوله: (وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ) لـيتكلـمن بـالـحق ولـيصدقنه بـالعمل.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {لَتُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا تَكْتُـمُونَهُ} بـالتاء، وهي قراءة عُظْم قراء أهل الـمدينة والكوفة علـى وجه الـمخاطب، بـمعنى: قال لهم: لتبـيننه للناس ولا تكتـمونه وقرأ ذلك آخرون: (لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ) بـالـياء جميعا علـى وجه الـخبر عن الغائب، لأنهم فـي قوت إخبـار اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بذلك عنهم كانوا غير موجودين، فصار الـخبر عنهم كالـخبر عن الغائب. والقول فـي ذلك عندنا: أنهما قراءتان صحيحة وجوههما، مستفـيضتان فـي قراءة الإسلام، غير مختلفتـي الـمعانـي، فبأيتهما قرأ القارىء فقد أصاب الـحق

والصواب فـي ذلك. غير أن الأمر فـي ذلك وإن كان كذلك، فإن أحب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها: (لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ وَلا يَكْتُـمُونَهُ) بـالـياء جميعا استدلالاً بقوله: {فَنَبَذُوهُ} أنه إذا كان قد خرج مخرج الـخبر عن الغائب علـى سبـيـل قوله: {فَنَبَذُوهُ} حتـى يكون متسقا كله علـى معنى واحد ومثال واحد، ولو كان الأول بـمعنى الـخطاب لكان أن يقال: فنبذتـموه وراء ظهوركم، أولـى من أن يقال: فنبذوه وراء ظهورهم.

وأما قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} فإنه مثل لتضيـيعهم القـيام بـالـميثاق، وتركهم العمل به.

وقد بـينا الـمعنى الذي من أجله قبل ذلك كذلك فـيـما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٧٥٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا يحيـى بن أيوب البجلـي، عن الشعبـي فـي قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} قال: إنهم قد كانوا يقرءونه إنـما نبذوا العمل به.

٦٧٦٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} قال: نبذوا الـميثاق.

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا مالك بن مغول، قال: نبئت عن الشعبـي فـي هذه الاَية: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} قال: قذفوه بـين أيديهم، وتركوا العمل به.

وأما قوله: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً} فإن معناه ما قلنا من أخذهم ما أخذوا علـى كتـمانهم الـحق وتـحريفهم الكتاب. كما:

٦٧٦١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنا قَلِـيلاً} أخذوا طمعا، وكتـموا اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقوله: {فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ}

يقول: فبئس الشراء يشترون فـي تضيـيعهم الـميثاق وتبديـلهم الكتاب. كما:

٦٧٦٢ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ} قال: تبديـل الـيهود التوراة.

١٨٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ ...}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: عُنِـيَ بذلك قوم من أهل النفـاق كانوا يقعدون خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا غزا العدو، فإذا انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتذروا إلـيه، وأحبوا أن يحمدوا بـما لـم يفعلوا. ذكر من قال ذلك:

٦٧٦٣ـ حدثنا مـحمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيـم البرقـي، قالا: حدثنا ابن أبـي مريـم، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر بن أبـي كثـير، قال: ثنـي زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن أبـي سعيد الـخدري: أن رجالاً من الـمنافقـين كانوا علـى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذا خرج النبـي صلى اللّه عليه وسلم إلـى الغزو تـخـلفوا عنه وفرحوا بـمقعدهم خلاف رسول اللّه ، وإذا قدم النبـي صلى اللّه عليه وسلم من السفر اعتذروا إلـيه وأحبوا أن يحمدوا بـما لـم يفعلوا، فأنزل اللّه تعالـى فـيهم: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـما أتَوْا}.. الاَية.

٦٧٦٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} قال: هؤلاء الـمنافقون يقولون النبـي صلى اللّه عليه وسلم: لو قد خرجت لـخرجنا معك، فإذا خرج النبـي صلى اللّه عليه وسلم تـخـلفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيـلة احتالوا بها.

وقال آخرون: عُنِـي بذلك قوم من أحبـار الـيهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس، ونسبة الناس إياهم إلـى العلـم. ذكر من قال ذلك:

٦٧٦٥ـ حدثنا ابن حميد، حدثنا قال: سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس أو سعيد بن جبـير: {وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ} إلـى قوله {وَلهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ} يعنـي: فنـحاصا وأشيع وأشبـاههما من الأحبـار الذين يفرحون بـما يصيبون من الدنـيا علـى ما زينوا للناس من الضلالة {ويُحبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بـما لـم يَفْعَلُوا} أن يقول لهم الناس علـماء ولـيسوا بأهل علـم، لـم يحملوهم علـى هدى ولا خير، ويحبون أن يقول لهم الناس: قد فعلوا.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أنه حدثه عن ابن عبـاس بنـحو ذلك، إلا أنه قال: ولـيسوا بأهل علـم، لـم يحملوهم علـى هدى.

وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك قوم من الـيهود فرحوا بـاجتـماع كلـمتهم علـى تكذيب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم أهل صلاة وصيام. ذكر من قال ذلك:

٦٧٦٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، يقول فـي قوله: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا} فإنهم فرحوا بـاجتـماعهم علـى كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، و

قالوا: قد جمع اللّه كلـمتنا، ولـم يخالف أحد منا أحدا أنه نبـيّ، و

قالوا: نـحن أبناء اللّه وأحبـاؤه، ونـحن أهل الصلاة والصيام. وكذبوا، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء علـى اللّه ، قال اللّه : {يُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا}.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، فـي قوله: {لاَ تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} قال: كانت الـيهود أمر بعضكم بعضا، فكتب بعضهم إلـى بعض أن مـحمدا لـيس بنبـيّ، فـاجمعوا كلـمتكم، وتـمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم. ففعلوا وفرحوا بذلك، وفرحوا بـاجتـماعهم علـى الكفر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

٦٧٦٧ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: كتـموا اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ففرحوا بذلك، وفرحوا بـاجتـماعهم علـى الكفر بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

٦٧٦٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: كتـموا اسم مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وفرحوا بذلك حين اجتـمعوا علـيه، وكانوا يزكون أنفسهم، فـيقولون: نـحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة، ونـحن علـى دين إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم. فأنزل اللّه فـيهم: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا} من كتـمان مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} أحبوا أن تـحمدهم العرب بـما يزكون به أنفسهم، ولـيسوا كذلك.

٦٧٦٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن أبـي الـجَحّاف، عن مسلـم البطين، قال: سأل الـحجاج جلساءه عن هذه الاَية: {لا تَـحْسَبنّ الّذِيَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا} قال سعيد بن جبـير: بكتـمانهم مـحمدا، {ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} قال: هو قولهم: نـحن علـى دين إبراهيـم علـيه السلام.

٦٧٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {لاَ تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا}: هم أهل الكتاب أنزل علـيهم الكتاب، فحكموا بغير الـحقّ، وحرّفوا الكلـم عن مواضعه، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يحمدوا بـما لـم يفعلوا، فرحوا بأنهم كفروا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما أنزل اللّه ، وهم يزعمون أنهم يعبدون اللّه ، ويصومون، ويصلون، ويطيعون اللّه ¹ فقال اللّه جل ثناؤه لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا} كفروا بـاللّه وكفروا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، {ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} من الصلاة والصوم، فقال اللّه جلّ وعزّ لـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم: {فَلا تَـحْسَبَنّهُمْ بِـمَفـازَةٍ مِنَ العَذَابِ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ}.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تـحسبنّ الذين يفرحون بـما أتوا من تبديـلهم كتاب اللّه ، ويحبون أن يحمدهم الناس علـى ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٧٧١ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى: {لاَ تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا} قال: يهود، فرحوا بإعجاب الناس بتبديـلهم الكتاب وحمدهم إياهم علـيه، ولا تـملك يهود ذلك.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم فرحوا بـما أعطى اللّه تعالـى آل إبراهيـم علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:

٦٧٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي الـمعلـى، عن سعيد بن جبـير أنه قال فـي هذه الاَية: {ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} قال: الـيهود يفرحون بـما آتـى اللّه إبراهيـم علـيه السلام.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي الـمعلـى العطار، عن سعيد بن جبـير، قال: هم الـيهود، فرحوا بـما أعطى اللّه تعالـى إبراهيـم علـيه السلام.

وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك قوم من الـيهود سألهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شيء، فكتـموه، ففرحوا بكتـمانهم ذلك إياه. ذكر من قال ذلك:

٦٧٧٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنـي ابن أبـي ملـيكة أن علقمة بن أبـي وقاص أخبره: أن مروان قال لرافع: اذهب يا رافع إلـى ابن عبـاس فقل له: لئن كان كل امرىء منا فرح بـما أتـى وأحب أن يحمد بـما لـم يفعل معذبـا، لـيعذبنا اللّه أجمعين!

فقال ابن عبـاس : ما لكم ولهذه؟ إنـما دعا النبـي صلى اللّه عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتـموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استـجابوا لله بـما أخبروه عنه مـما سألهم، وفرحوا بـما أتوا من كتـمانهم إياه. ثم قال: {وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}.. الاَية.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرنـي عبد اللّه بن أبـي ملـيكة، أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الـحكم قال لبوابه: يا رافع اذهب إلـى ابن عبـاس ، فقل له: لئن كان كل امرىء منا فرح بـما أتـى وأحبّ أن يحمد بـما لـم يفعل معذّبـا، لنعذبن جميعا

فقال ابن عبـاس : ما لكم ولهذه الاَية؟ إنـما أنزلت فـي أهل الكتاب. ثم تلا ابن عبـاس : {وَإذْ أخَذَ اللّه مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَـيُبَـيّنُنّهُ للنّاسِ} إلـى قوله: {أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا}

قال ابن عبـاس : سألهم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عن شيء فكتـموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بـما قد سألهم عنه، فـاستـحمدوا بذلك إلـيه، وفرحوا بـما أتوا من كتـمانهم إياه ما سألهم عنه.

وقال آخرون: بل عنـي بذلك قوم من يهود أظهروا النفـاق للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم مـحبة منهم للـحمد، واللّه عالـم منهم خلاف ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٧٧٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن أعداء اللّه الـيهود يهود خيبر أتوا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فزعموا أنهم راضون بـالذي جاء به، وأنهم متابعوه وهم متـمسكون بضلالتهم، وأرادوا أن يحمدهم نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـما لـم يفعلوا، فأنزل اللّه تعالـى: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا}.. الاَية.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: إن أهل خيبر أتوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه،

فقالوا: إنا علـى رأيكم وهيئتكم، وإنا لكم ردء، فأكذبهم اللّه ،

فقال: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا}.. الاَيتـين.

٦٧٧٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبـي عبـيدة، قال: جاء رجل إلـى عبد اللّه ،

فقال: إن كعبـا يقرأ علـيك السلام، و

يقول: إن هذه الاَية لـم تنزل فـيكم: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا ويُحِبّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِـمَا لَـمْ يَفْعَلُوا} قال: أخبروه أنها نزلت وهو يهوديّ.

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرحُونَ بِـمَا أتَوْا}.. الاَية، قول من قال: عنـي بذلك أهل الكتاب الذين أخبر اللّه جلّ وعزّ أنه أخذ ميثاقهم، لـيبـيننّ للناس أمر مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولا يكتـمونه، لأن قوله: {لا تَـحْسَبنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِـمَا أتَوْا}.. الاَية فـي سياق الـخبر عنهم، وهو شبـيه بقصتهم مع اتفـاق أهل التأويـل علـى أنهم الـمعنـيون بذلك، فإذ كان ذلك كذلك،

فتأويـل الاَية: لا تـحسبن يا مـحمد الذين يفرحون بـما أتوا من كتـمانهم الناس أمرك، وأنك لـي رسول مرسل بـالـحقّ، وهم يجدونك مكتوبـا عندهم فـي كتبهم، وقد أخذت علـيهم الـميثاق بـالإقرار بنبوّتك، وبـيان أمرك للناس، وأن لا يكتـموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقـي الذي أخذت علـيهم بذلك، يفرحون بـمعصيتهم إياي فـي ذلك، ومخالفتهم أمري، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبـادة وصلاة وصوم، واتبـاع لوحيه، وتنزيـله الذي أنزله علـى أنبـيائه، وهم من ذلك أبرياء أخـلـياء لتكذيبهم رسوله، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ علـيهم، لـم يفعلوا شيئا مـما يحبون أن يحمدهم الناس علـيه، فلا تـحسبنهم بـمفـازة من العذاب، ولهم عذاب ألـيـموقوله: {فَلا تَـحْسَبَنّهُمْ بِـمَفـازَةٍ مِنَ العَذَابِ} فلا تظنهم بـمنـجاة من عذاب اللّه الذي أعدّه لأعدائه فـي الدنـيا من الـخسف والـمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب اللّه ، ولا هم ببعيد منه. كما:

٦٧٧٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {فَلا تَـحْسَبَنّهُمْ بِـمَفـازَةٍ مِنَ العَذَابِ} قال: بـمنـجاة من العذاب.

قال أبو جعفر: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ}

يقول: ولهم عذاب فـي الاَخرة أيضا مؤلـم، مع الذي لهم فـي الدنـيا معجل.

١٨٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّه عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.

وهذا تكذيب من اللّه جل ثناؤه الذين

قالوا: {إنّ اللّه فَقِـيرٌ وَنـحْنُ أغْنِـياءُ}

يقول تعالـى ذكره مكذّبـا لهم: لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض، فكيف يكون أيها الـمفترون علـى اللّه من كان ملك ذلك له فقـيرا! ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر علـى تعجيـل العقوبة لقائلـي ذلك ولكلّ مكذب به ومفتر علـيه وعلـى غير ذلك مـما أراد وأحبّ، ولكنه تفضل بحلـمه علـى خـلقه،

فقال: {وَاللّه علـى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعنـي: من إهلاك قائل ذلك، وتعجيـل عقوبته لهم، وغير ذلك من الأمور.

١٩٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ }.

وهذا احتـجاج من اللّه تعالـى ذكره علـى قائل ذلك وعلـى سائر خـلقه بأنه الـمدبر الـمصرف الأشياء، والـمسخر ما أحب، وإن الإغناء والإفقار إلـيه وبـيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا أيها الناس، واعتبروا ففـيـما أنشأته فخـلقته من السموات والأرض لـمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفـيـما عقّبت بـينه من اللـيـل والنهار، فجعلتهما يختلفـان ويعتقبـان علـيكم، تتصرفون فـي هذا لـمعاشكم، وتسكنون فـي هذا راحة لأجسادكم، معتبرٌ ومدّكر، وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لب وعقل، يعلـم أن من نسبنـي إلـى أنـي فقـير وهو غنـي كاذب مفتر، فإن ذلك كله بـيدي أقلبه وأصرفه، ولو أبطلت ذلك لهلكتـم، فكيف ينسب فقر إلـى من كان كل ما به عيش ما فـي السموات والأرض بـيده وإلـيه! أم كيف يكون غنـيا من كان رزقه بـيد غيره، إذا شاء رزقه، وإذا شاء حرمه! فـاعتبروا يا أولـي الألبـاب.

١٩١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً ... }.

وقوله: {الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِـياما وَقُعُودا} من نعت (أولـي الألبـاب)، و(الذين) فـي موضع خفض ردّا علـى قوله: (لأولـي الألبـاب).

ومعنى الاَية: إن فـي خـلق السموات والأرض واختلاف اللـيـل والنهار لاَيات لأولـي الألبـاب، الذاكرين اللّه قـياما وقعودا وعلـى جنوبهم، يعنـي بذلك: قـياما فـي صلاتهم وقعودا فـي تشهدهم وفـي غير صلاتهم وعلـى جنوبهم نـياما. كما:

٦٧٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِـياما وَقُعُودا}.. الاَية، قال: هو ذكر اللّه فـي الصلاة وفـي غير الصلاة، وقراءة القرآن.

٦٧٧٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الّذِينَ يَذْكُرُون اللّه قِـياما وَقُعُودا وَعَلـى جُنُوبِهِمْ} وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم، فـاذكره وأنت علـى جنبك يسرا من اللّه وتـخفـيفـا.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: {وَعَلـى جُنُوبِهِمْ} فعطف بـ(علـى)، وهي صفة علـى القـيام والقعود وهما اسمان؟

قـيـل: لأن قوله: {وَعَلـى جُنُوبِهِمْ} فـي معنى الاسم، ومعناه: ونـياما أو مضطجعين علـى جنوبهم¹ فحسن عطف ذلك علـى القـيام والقعود لذلك الـمعنى، كما

قـيـل: {وَإذَا مَسّ الإنْسانَ الضّرّ دَعانا لِـجَنْبِهِ أوْ قاعِدا أو قائما} فعطف بقوله: {أوْ قاعِدا أوْ قائما} علـى قوله: {لِـجَنْبِهِ}، لأن معنى قوله: لـجنبه مضطجعا، فعطف بـالقاعد والقائم علـى معناه، فكذلك ذلك فـي قوله: {وَعَلـى جُنُوبِهِمْ}.

وأما قوله: {وَيَتَفَكّرُونَ فِـي خَـلْقِ السّمَواتِ والأرْضِ} فإنه يعنـي بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فـيعلـمون أنه لا يصنع ذلك إلا من لـيس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، من هو علـى كل شيء قدير، وبـيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنا ما خَـلَقْتَ هَذَا بـاطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابِ النّارِ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ويتفكرون فـي خـلق السموات والأرض، قائلـين: {رَبّنا ما خَـلَقْتَ هَذَا بـاطِلاً} فترك ذكر قائلـين، إذ كان فـيـما ظهر من الكلام دلالة علـيه¹

وقوله: {ما خَـلَقْتَ هَذَا بـاطِلاً}

يقول: لـم تـخـلق هذا الـخـلق عبثا ولا لعبـا، لـم تـخـلقه إلا لأمر عظيـم من ثواب وعقاب ومـحاسبة ومـجازاة، وإنـما قال: ما خـلقت هذا بـاطلاً، ولـم يقل: ما خـلقت هذه، ولا هؤلاء، لأنه أراد بهذا الـخـلق الذي فـي السموات والأرض، يدل علـى ذلك قوله: {سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابَ النّارِ} ورغبتهم إلـى ربهم فـي أن يقـيهم عذاب الـجحيـم، ولو كان الـمعنـيّ بقوله: {ما خَـلَقْتَ هَذَا بـاطِلاً} السموات والأرض، لـما كان لقول عقـيب ذلك: {فَقِنا عَذَابَ النّارِ} معنى مفهوم، لأن السموات والأرض أدلة علـى بـارئها، لا علـى الثواب والعقاب، وإنـما الدلـيـل علـى الثواب والعقاب: الأمر والنهي¹ وإنـما وصف جل ثناؤه أولـي الألبـاب الذين ذكرهم فـي هذه الاَية، أنهم إذا رأوا الـمأمورين الـمنهيـين،

قالوا: يا ربنا لـم تـخـلق هؤلاء بـاطلاً عبثا سبحانك، يعنـي: تنزيها لك من أن تفعل شيئا عبثا، ولكنك خـلقتهم لعظيـم من الأمر، لـجنة أو نار. ثم فزعوا إلـى ربهم بـالـمسألة أن يجيرهم من عذاب النار، وأن لا يجعلهم مـمن عصاه وخالف أمره، فـيكونوا من أهل جهنـم.

١٩٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَآ إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }.

اختلف أهل التأويـل فـي ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخـل النار من عبـادك فتـخـلده فـيها فقد أخزيته، قال: ولا يخزي مؤمن مصيره إلـى الـجنة وإن عذّب بـالنار بعض العذاب. ذكر من قال ذلك:

٦٧٧٩ـ حدثنـي أبو حفص الـجبـيري ومـحمد بن بشار، قال: أخبرنا الـمؤمل، أخبرنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس، فـي قوله: {رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِـلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ} قال: من تُـخـلد.

٦٧٨٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن ابن الـمسيب: {رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِـلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ} قال: هي خاصة لـمن لا يخرج منها.

٦٧٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا قبـيصة بن مروان، عن الأشعث الـحملـي، قال: قلت للـحسن: يا أبـا سعيد أرأيت ما تذكر من الشفـاعة حق هو؟ قال: نعم حق

قال: قلت يا أبـا سعيد أرأيت قول اللّه تعالـى: {رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِـلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ} و{يُريدُون أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ ومَا هُمْ بَخارِجِينَ مِنْها}؟ قال: فقال لـي: إنك واللّه لا تستطيع علـى شيء، إن للنار أهلاً لا يخرجون منها كما قال اللّه

قال: قلت يا أبـا سعيد: فـيـمن دخـلوا ثم خرجوا؟ قال: كانوا أصابوا ذنوبـا فـي الدنـيا، فأخذهم اللّه بها فأدخـلهم بها، ثم أخرجهم بـما يعلـم فـي قلوبهم من الإيـمان والتصديق به.

٦٧٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنّكَ مَنْ تُدْخِـلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ} قال: هو من يخـلد فـيها.

وقال آخرون: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخـل النار من مخـلد فـيها وغير مخـلد فـيها، فقد أخزي بـالعذاب. ذكر من قال ذلك:

٦٧٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا الـحرث بن مسلـم، عن يحيـى بن عمرو بن دينار، قال: قدم علـينا جابر بن عبد اللّه فـي عمرة، فـانتهيت إلـيه أنا وعطاء، فقلت: {رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِـلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ}؟ قال: وما إخزاؤه حين أحرقه بـالنار! وإن دون ذلك لـخزيا.

وأولـى القولـين بـالصواب عندي قول جابر: إن من أدخـل النار فقد أخزي بدخوله إياها، وإن أخرج منها. وذلك أن الـخزي إنـما هو هتك ستر الـمخزي وفضيحته، ومن عاقبه ربه فـي الاَخرة علـى ذنوبه، فقد فضحه بعقابه إياه، وذلك هو الـخزي.

وأما قوله: {وَمَا للظّالِـمِينَ مِنْ أنْصَارٍ}

يقول: وما لـمن خالف أمر اللّه فعصاه من ذي نصرة له ينصره من اللّه فـيدفع عنه عقابه أو ينقذه من عذابه.

١٩٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ ... }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الـمنادي الذي ذكره اللّه تعالـى فـي هذه الاَية،

فقال بعضهم: الـمنادي فـي هذا الـموضع القرآن. ذكر من قال ذلك:

٦٧٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا قبـيصة بن عقبة، حدثنا سفـيان، عن موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب: {إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيـمَانِ} قال: هو الكتاب، لـيس كلهم لقـي النبـي صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا منصور بن حكيـم، عن خارجة، عن موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب القرظي، فـي قوله: {رَبّنا إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيـمَانِ} قال: لـيس كل الناس سمع النبـي صلى اللّه عليه وسلم، ولكن الـمنادي: القرآن.

وقال آخرون: بل هو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٦٧٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيـمَانِ} قال: هو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

٦٧٨٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {رَبّنا إنّنا سَمِعْنا مُناديا يُنادِي للإِيـمَانِ} قال: ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول مـحمد بن كعب، وهو أن يكون الـمنادي القرآن¹ لأن كثـيرا مـمن وصفهم اللّه بهذه الصفة فـي هذه الاَيات لـيسوا مـمن رأى النبـي صلى اللّه عليه وسلم ولا عاينه، فسمعوا دعاءه إلـى اللّه تبـارك وتعالـى ونداءه، ولكنه القرآن. وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبرا عن الـجن إذ سمعوا كلام اللّه يتلـى علـيهم أنهم

قالوا: {إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبَـا يَهْدِي إلـى الرّشْدِ}. وبنـحو ذلك:

٦٧٨٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {رَبّنا إنّنَا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيَـمانِ} إلـى قوله: {وَتَوَفّنا مَعَ الأبْرَارِ} سمعوا دعوة من اللّه فأجابوها، فأحسنوا الإجابة فـيها، وصبروا علـيها، بنبئكم اللّه عن مؤمن الإنس كيف قال، وعن مؤمن الـجنّ كيف قال. فأما مؤمن الـجنّ،

فقال: {إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبـا يَهْدِي إلـى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبّنا أحَدا} وأما مؤمن الإنس،

فقال: {إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيـمَانِ أنْ آمِنُوا بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنا فـاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}.. الاَية.

وقـيـل: {إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيـمَان} يعنـي: ينادي إلـى الإيـمان، كما قال تعالـى ذكره: {الـحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا} بـمعنى: هدانا إلـى هذا، وكما قال الراجز.

أوْحَى لها القَرَارَ فـاسْتَقَرّتِوَشَدّها بـالرّاسياتِ الثّبّتِ

بـمعنى: أوحى إلـيها، ومنه قوله: {بِأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا}.

وقـيـل: يحتـمل أن يكون معناه: إننا سمعنا مناديا للإيـمان ينادي أن آمنوا بربكم.

فتأويـل الاَية إذا: ربنا سمعنا داعيا يدعو إلـى الإيـمان يقول إلـى التصديق بك، والإقرار بوحدانـيتك، واتبـاع رسولك وطاعته، فـيـما أمرنا به، ونهانا عنه، مـما جاء به من عندك فآمنا ربنا،

يقول: فصدقنا بذلك يا ربنا، فـاغفر لنا ذنوبنا،

يقول: فـاستر علـينا خطايانا، ولا تفضحنا بها فـي القـيامة علـى رءوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا علـيها، ولكن كفرها عنا، وسيئات أعمالنا فـامـحها بفضلك ورحمتك إيانا، وتَوفنا مع الأبرار، يعنـي بذلك: واقبضنا إلـيك إذا قبضتنا إلـيك فـي عداد الأبرار، واحشرنا مـحشرهم ومعهم¹ والأبرار جمع برّ، وهم الذين بروا اللّه تبـارك وتعالـى بطاعتهم إياه وخدمتهم له، حتـى أرضوه فرضي عنهم.

١٩٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىَ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }.

إن قال لنا قائل: وما وجه مسألة هؤلاء القوم ربهم أن يؤتـيهم ما وعدهم، وقد علـموا أن اللّه منـجز وعده، وغير جائز أن يكون منه إخلاف موعد؟

قـيـل: اختلف فـي ذلك أهل البحث،

فقال بعضهم: ذلك قول خرج مخرج الـمسألة، ومعناه الـخبر،

قالوا: وإنـما تأويـل الكلام: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيـمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فـاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، لتؤتـينا ما وعدتنا علـى رسلك، ولا تـخزنا يوم القـيامة،

قالوا: ولـيس ذلك علـى أنهم

قالوا: إن توفـيتنا مع الأبرار فـانـجز لنا ما وعدتنا لأنهم قد علـموا أن اللّه لا يخـلف الـميعاد، وأن ما وعد علـى ألسنة رسله لـيس يعطيه بـالدعاء، ولكنه تفضل بإيتائه، ثم ينـجزه.

وقال آخرون: بل ذلك قول من قائله علـى معنى الـمسألة والدعاء لله، بأن يجعلهم مـمن آتاهم ما وعدهم من الكرامة علـى ألسن رسله، لا أنهم كانوا قد استـحقوا منزلة الكرامة عند اللّه فـي أنفسهم، ثم سألوه أن يؤتـيهم ما وعدهم بعد علـمهم بـاستـحقاقهم عند أنفسهم، فـيكون ذلك منهم مسألة لربهم أن لا يخـلف وعده،

قالوا: ولو كان القوم إنـما سألوا ربهم أن يؤتـيهم ما وعد الأبرار، لكانوا قد زكوا أنفسهم، وشهدوا لها أنها مـمن قد استوجب كرامة اللّه وثوابه،

قالوا: ولـيس ذلك صفة أهل الفضل من الـمؤمنـين.

وقال آخرون: بل قالوا هذا القول علـى وجه الـمسألة، والرغبة منهم إلـى اللّه أن يؤتـيهم ما وعدهم من النصر علـى أعدائهم من أهل الكفر، والظفر بهم، وإعلاء كلـمة الـحق علـى البـاطل، فـيعجل ذلك لهم،

قالوا: ومـحال أن يكون القوم مع وصف اللّه إياهم بـما وصفهم به كانوا علـى غير يقـين من أن اللّه لا يخـلف الـميعاد، فـيرغبوا إلـى اللّه جل ثناؤه فـي ذلك، ولكنهم كانوا وعدوا النصر، ولـم يوقت لهم فـي تعجيـل ذلك لهم، لـما فـي تعجله من سرور الظفر وراحة الـجسد.

والذي هو أولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك عندي: أن هذه الصفة، صفة من هاجر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وطنه وداره، مفـارقا لأهل الشرك بـاللّه إلـى اللّه ورسوله، وغيرهم من تبـاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين رغبوا إلـى اللّه فـي تعجيـل نصرتهم علـى أعداء اللّه وأعدائهم،

فقالوا: ربنا آتنا ما وعدتنا من نصرتك علـيهم عاجلاً، فإنك لا تـخـلف الـميعاد، ولكن لا صبر لنا علـى أناتك وحلـمك عنهم، فعجل حربهم، ولنا الظفر علـيهم. يدل علـى صحة ذلك آخر الاَية الأخرى، وهوقوله: {فـاسْتَـجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أنّـي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فـالّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأُوذُوا فـي سَبِـيـلـي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا}.. الاَيات بعدها. ولـيس ذلك مـما ذهب إلـيه الذين حكيت قولهم فـي شيء، وذلك أنه غير موجود فـي كلام العرب أن يقال: افعل بنا يا رب كذا وكذا، بـمعنى: افعل بنا لكذا الذي ولو جاز ذلك، لـجاز أن يقول القائل لاَخر: أقبل إلـيّ وكلـمنـي، بـمعنى: أقبل إلـيّ لتكلـمنـي، وذلك غير موجود فـي الكلام، ولا معروف جوازه، وكذلك أيضا غير معروف فـي الكلام: آتنا ما وعدتنا، بـمعنى: اجعلنا مـمن آتـيته ذلك وإن كان كلّ من أعطى شيئا سنـيا فقد صير نظيرا لـمن كان مثله فـي الـمعنى الذي أعطيه، ولكن لـيس الظاهر من معنى الكلام ذلك، وإن كان قد يؤول معناه إلـيه.

فتأويـل الكلام إذًا: ربنا أعطنا ما وعدتنا علـى ألسن رسلك أنك تعلـى كلـمتك كلـمة الـحق، بتأيـيدنا علـى من كفر بك وحادّك وعبد غيرك، وعجّل لنا ذلك، فإنا قد علـمنا أنك لا تـخـلف ميعادك، ولا تـخزنا يوم القـيامة، فتفضحنا بذنوبنا التـي سلكت منا، ولكن كفّرها عنا واغفرها لنا. وقد:

٦٧٨٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {رَبّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا علـى رُسُلِكَ} قال: يستنـجز موعود اللّه علـى رسله.

١٩٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ ...}.

يعنـي تعالـى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين بـما وصف اللّه عنهم أنهم دعوا به ربهم، بأنـي لا أضيع عمل عامل منكم عمل خيرا ذكرا كان العامل أو أنثى، وذكر أنه قـيـل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما بـال الرجال يذكرون ولا تذكر النساء فـي الهجرة؟ فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى فـي ذلك هذه الاَية.

٦٧٨٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد، قال: قالت أم سلـمة: يا رسول اللّه ، تذكر الرجال فـي الهجرة ولا نذكر؟ فنزلت: {أنـي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى}.. الاَية.

٦٧٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت رجلاً من ولد أم سلـمة زوج النبـي صلى اللّه عليه وسلم،

يقول: قالت أم سلـمة: يا رسول اللّه لا أسمع اللّه يذكر النساء فـي الهجرة بشيء! فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: {فـاسْتَـجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أنـي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى}.

٦٧٩١ـ حدثنا الربـيع بن سلـيـمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن رجل من ولد أم سلـمة، عن أم سلـمة أنها قالت: يا رسول اللّه لا أسمع اللّه ذكر النساء فـي الهجرة بشيء! فأنزل اللّه تعالـى: {فـاسْتَـجابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أنـي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.

وقـيـل: فـاستـجاب لهم، بـمعنى: فأجابهم، كما قال الشاعر:

وَدَاعٍ دَعا يا مَنْ يُجِيبُ إلـى النّدَىفَلَـمْ يَسْتَـجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُـجِيبُ

بـمعنى: فلـم يجبه عند ذاك مـجيب.

وأدخـلت (من) فـي قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى} علـى الترجمة والتفسير عن قوله (منكم)، بـمعنى: لا أضيع عمل عامل منكم من الذكور والإناث ولـيست (من) هذه بـالتـي يجوز إسقاطها وحذفها من الكلام فـي الـجحد، لأنها دخـلت بـمعنى لا يصلـح الكلام إلا به. وزعم بعض نـحويـي البصرة أنها دخـلت فـي هذا الـموضع، كما تدخـل فـي قولهم: (قد كان من حديث) قال: (ومن) ههنا أحسن، لأن النهي قد دخـل فـي قوله: لا أضيع. وأنكر ذلك بعض نـحويـي الكوفة وقال: لا تدخـل (من) وتـخرج إلا فـي موضع الـجحد¹ وقال: قوله: {لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ} لـم يدركه الـجحد، لأنك لا تقول: لا أضرب غلام رجل فـي الدار ولا فـي البـيت فـيدخـل، ولا لأنه لـم ينله الـجحد، ولكن (مِنْ) مفسرة.

وأما قوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فإنه يعنـي: بعضكم أيها الـمؤمنون الذين يذكرون اللّه قـياما وقعودا وعلـى جنوبهم، مِنْ بعض، فـي النصرة والـمسألة والدين، وحكم جميعكم فـيـما أنا بكم فـاعل علـى حكم أحدكم فـي أنـي لا أضيع عمل ذكر منكم ولا أنثى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـالّذِينَ هاجَرُوا وأُخْرِجوا مِنْ دِيارِهِمْ ...}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: فـالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم فـي اللّه ، إلـى إخوانهم من أهل الإيـمان بـالله، والتصديق برسوله، وأخرجوا من ديارهم، وهم الـمهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بـمكة، وأوذوا فـي سبـيـلـي، يعنـي: وأوذوا فـي طاعتهم ربهم، وعبـادتهم إياه، مخـلصين له الدين، وذلك هو سبـيـل اللّه التـي آذى فـيها الـمشركون من أهل مكة الـمؤمنـين برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أهلها¹ وقتلوا، يعنـي: وقتلوا فـي سبـيـل اللّه وقاتلوا فـيها، لأكفرن عنهم سيئاتهم، يعنـي: لأمـحونها عنهم، ولأتفضلن علـيهم بعفوي ورحمتـي، ولأغفرنها لهم، ولأدخـلنهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار، ثوابها، يعنـي: جزاء لهم علـى ما عملوا وأبلوا فـي اللّه وفـي سبـيـله¹ من عند اللّه : يعنـي: من قِبَل اللّه لهم واللّه عنده حسن الثواب، يعنـي: أن اللّه عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف، لأنه مـما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر علـى قلب بشر. كما:

٦٧٩٢ـ حدثنا عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي عبد اللّه بن وهب، قال: ثنـي عمرو بن الـحارث: أن أبـا عشانة الـمعافري، حدثه أنه سمع عبد اللّه بن عمرو بن العاص

يقول: لقد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

يقول:

(إن أول ثلة تدخـل الـجنة لفقراء الـمهاجرين، الذين تتقـى بهم الـمكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلـى السلطان لـم تقض حتـى يـموت وهي فـي صدره، وإن اللّه يدعو يوم القـيامة الـجنة، فتأتـي بزخرفها وزينتها، فـ

يقول: أين عبـادي الذين قاتلوا فـي سبـيـلـي وقتلوا، وأوذوا فـي سبـيـلـي، وجاهدوا فـي سبـيـلـي، ادخـلوا الـجنة، فـيدخـلونها بغير عذاب، ولا حساب، وتأتـي الـملائكة فـيسجدون ويقولون: ربنا نـحن نسبح لك اللـيـل والنهار، ونقدّس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علـينا، فـيقول الرب جل ثناؤه: هؤلاء عبـادي الذين قاتلوا فـي سبـيـلـي، وأوذوا فـي سبـيـلـي، فتدخـل الـملائكة علـيهم من كل بـاب: {سَلامٌ عَلَـيْكُمْ بـما صَبَرْتُـمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ}).

واختلفت القراء فـي قراءة قوله: {وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا} فقرأه بعضهم: (وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا) بـالتـخفـيف، بـمعنى أنهم قتلوا من قتلوا من الـمشركين وقرأ ذلك آخرون: (وَقاتَلُوا وَقُتّلُوا) بتشديد قتّلوا، بـمعنى: أنهم قاتلوا الـمشركين، وقتلهم الـمشركون بعضا بعد بعض وقتلاً بعد قتل. وقرأ ذلك عامة قراء الـمدينة وبعض الكوفـيـين: (وَقاتَلُوا وَقَتَلُوا) بـالتـخفـيف، بـمعنى أنهم قاتلوا الـمشركين وقتلوا. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفـيـين: {وَقُتِلُوا} بـالتـخفـيف {وَقاتَلُوا} بـمعنى: أن بعضهم قُتل، وقاتل من بقـي منهم.

والقراءة التـي لا أستـجيز أن أعدوها إحدى هاتـين القراءتـين، وهي: (وَقاتَلُوا وقَتَلُوا) بـالتـخفـيف، أو {وقُتِلُوا} بـالتـخفـيف {وَقاتَلُوا} لأنها القراءة الـمنقولة نقل وراثة، وما عداهما فشاذ. وبأي هاتـين القراءتـين التـي ذكرت أنـي لا أستـجيز أن أعدوهما قرأ قارىء فمصيب فـي ذلك الصواب من القراءة، لاستفـاضة القراءة بكل واحدة منهما فـي قراء الإسلام مع اتفـاق معنـيـيهما.

١٩٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لاَ يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: ولا يغرنك يا مـحمد تقلب الذين كفروا فـي البلاد، يعنـي: تصرفهم فـي الأرض وضربهم فـيها. كما:

٦٧٩٣ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {لا يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي البِلادَ}

يقول: ضربهم فـي البلاد.

فنهى اللّه تعالـى ذكره نبـيه صلى اللّه عليه وسلم عن الاغترار بضربهم فـي البِلاد، وإمهال اللّه إياهم مع شركهم وجحودهم نعمه، وعبـادتهم غيره. وخرج الـخطاب بذلك للنبـي صلى اللّه عليه وسلم، والـمعنـيّ به غيره من أتبـاعه وأصحابه، كما قد بـينا فـيـما مضى قبل من أمر اللّه ، ولكن كان بأمر اللّه صادعا، وإلـى الـحق داعيا.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال قتادة.

٦٧٩٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لا يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي البِلادَ} واللّه ما غروا نبـي اللّه ، ولا وكل إلـيهم شيئا من أمر اللّه ، حتـى قبضه اللّه علـى ذلك.

١٩٧

وأما قوله: {مَتاعٌ قَلِـيـلٌ} فإنه يعنـي: أن تقلبهم فـي البلاد وتصرفهم فـيها متعة يـمتعون بها قلـيلاً، حتـى يبلغوا آجالهم، فتـخترمهم منـياتهم، ثم مأواهم جهنـم بعد مـماتهم، والـمأوى: الـمصير الذي يأوون إلـيه يوم القـيامة، فـيصيرون فـيه. ويعنـي بقوله: {وَبِئْسَ الـمِهادُ} وبئس الفراش والـمضجع جهنـم.

١٩٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْاْ رَبّهُمْ ...}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: {لَكِنِ الّذِينَ اتّقَوْا رَبّهُمْ}: لكن الذين اتقوا اللّه بطاعته، واتبـاع مرضاته، فـي العمل بـما أمرهم به، واجتناب ما نهاههم عنه. {لَهُمْ جَنّاتٌ} يعنـي: بساتـين، {تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ خالِدِينَ فِـيها}

يقول: بـاقـين فـيها أبدا، {نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللّه } يعنـي: إنزالاً من اللّه إياهم فـيها أنزلهموها¹ ونصب (نُزُلاً) علـى التفسير، من قوله: لهم جنات تـجري من تـحتها الأنهار، كما يقال: لك عند اللّه جّنات تـجري من تـحتها الأنهار ثوابـا، وكما يقال: هو لك صدقة، وهو لك هبة

وقوله: {مِنْ عِنْدِ اللّه } يعنـي: من قبل اللّه ، ومن كرامة اللّه إياهم، وعطاياه لهم

وقوله: {وَما عِنْدَ اللّه خيْر للأَبْرَارِ}

يقول: وما عند اللّه من الـحياة والكرامة، وحسن الـمآب خير للأبرار، مـما يتقلب فـيه الذين كفروا فإن الذي يتقلبون فـيه زائل فـان، وهو قلـيـل من الـمتاع خسيس، وما عند اللّه خير من كرامته للأبرار، وهم أهل طاعته، بـاق غير فـانٍ ولا زائل.

٦٧٩٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {وَما عِنْدَ اللّه خَيْرٌ للأَبْرَارِ} قال: لـمن يطيع اللّه .

٦٧٩٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن خيثمة عن الأسود، عن عبد اللّه ، قال: ما من نفس برّة ولا فـاجرة إلا والـموت خير لها. ثم قرأ عبد اللّه : {وَما عِنْدَ اللّه خَيْرٌ للأَبْرَارِ} وقرأ هذه الاَية: {وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسَهِمْ}.

٦٧٩٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن فرج بن فضالة، عن لقمان، عن أبـي الدرداء أنه كان

يقول: ما من مؤمن إلا والـموت خير له، وما من كافر إلا والـموت خير له. ومن لـم يصدقنـي، فإن اللّه

يقول: {وَما عِنْدَ اللّه خَيْرٌ للأَبْرَارِ} و

يقول: {وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إنّـمَا نُـمْلِـي لَهُمْ لِـيَزْدَادُوا إثْما}.

١٩٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّه ...}.

اختلف أهل التأويـل فـيـمن عنى بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عنى بها أصحمة النـجاشي، وفـيه أنزلت. ذكر من قال ذلك:

٦٧٩٨ـ حدثنا عصام بن زياد بن رواد بن الـجراح، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، عن جابر بن عبد اللّه : أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (اخْرُجُوا فَصَلّوا علـى أخٍ لَكُمْ!) فصلـى بنا، فكبر أربع تكبـيرات،

فقال: (هَذَا النّـجاشِي أصَحمةُ)، فقال الـمنافقون: انظروا هذا يصلـي علـى علـج نصرانـي لـم يره قط! فأنزل اللّه : {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُوْمِنُ بـاللّه }.

٦٧٩٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبـي، عن قتادة: أن النبـي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إنّ أخاكُمْ النّـجاشِيّ قَدْ ماتَ فَصَلّوا عَلَـيّهِ!)

قالوا: نصلـي علـى رجل لـيس بـمسلـم؟ قال: فنزلت: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أُنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ خاشِعِينَ للّهِ} قال قتادة:

فقالوا: فإنه كان لا يصلـي إلـى القبلة. فأنزل اللّه : {ولِلّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ فَأيْنَـما تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّه }.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ} ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت فـي النـجاشي وفـي ناس من أصحابه آمنوا بنبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وصدقوا به

قال: وذكر لنا أن نبـي اللّه صلى اللّه عليه وسلم استغفر للنـجاشي، وصلـى علـيه حين بلغه موته، قال لأصحابه: (صَلّوا علـى أخٍ لَكُمْ قَدْ ماتَ بِغَيْرِ بِلادِكُمْ!) فقال أناس من أهل النفـاق: يصلـي علـى رجل مات لـيس من أهل دينه! فأنزل اللّه هذه الاَية: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بآياتِ اللّه ثَمَنا قَلِـيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ} قال: نزلت فـي النـجاشي وأصحابه مـمن آمن بـالنبـي صلى اللّه عليه وسلم، واسم النـجاشي أصحمة.

٦٨٠٠ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال عبد الرزاق، وقال ابن عيـينة: اسم النـجاشي بـالعربـية عطية.

٦٨٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: لـما صلـى النبـي صلى اللّه عليه وسلم علـى النـجاشي، طعن فـي ذلك الـمنافقون، فنزلت هذه الاَية: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه }.. إلا آخر الاَية.

وقال آخرون: بل عنى بذلك عبد اللّه بن سلام ومن معه. ذكر من قال ذلك:

٦٨٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: نزلت ـ يعنـي هذه الاَية ـ فـي عبد اللّه بن سلام ومن معه.

٦٨٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن زيد فـي قوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إلَـيْهِمْ}.. الاَية كلها، قال: هؤلاء يهود.

وقال آخرون: بل عنى بذلك: مسلـمة أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

٦٨٠٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَـمَنْ يُؤْمِنُ بـاللّه وَما أنْزِلَ إلَـيْكُمْ} من الـيهود والنصارى، وهم مسلـمة أهل الكتاب.

وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية ما قاله مـجاهد، وذلك أن اللّه جل ثناؤه عمّ بقوله: {وَإنّ مِنْ أهْلِ الكِتابِ} أهل الكتاب جميعا، فلـم يخصص منهم النصارى دون الـيهود، ولا الـيهود دون النصارى، وإنـما أخبر أن من أهل الكتاب من يؤمن بـالله، وكلا الفريقـين، أعنـي الـيهود والنصارى، من أهل الكتاب.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فـي الـخبر الذي رويت عن جابر وغيره أنها نزلت فـي النـجاشي وأصحابه؟

قـيـل: ذلك خبر فـي إسناده نظر، ولو كان صحيحا لا شكّ فـيه لـم يكن لـما قلنا فـي معنى الاَية بخلاف، وذلك أن جابرا ومن قال بقوله إنـما

قالوا: نزلت فـي النـجاشي، وقد تنزل الاَية فـي الشيء ثم يعمّ بها كلّ من كان فـي معناه. فـالاَية وإن كانت نزلت فـي النـجاشي، فإن اللّه تبـارك وتعالـى قد جعل الـحكم الذي حكم به للنـجاشي حكما لـجميع عبـاده الذين هم بصفة النـجاشي فـي اتبـاعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتصديق بـما جاءهم به من عند اللّه ، بعد الذي كانوا علـيه قبل ذلك من اتبـاع أمر اللّه فـيـما أمر به عبـاده فـي الكتابـين: التوراة والإنـجيـل. فإذ كان ذلك كذلك،

فتأويـل الاَية: وإن من أهل الكتاب التوراة والإنـجيـل لـمن يؤمن بـالله، فـيقرّ بوحدانـيته، وما أنزل إلـيكم أيها الـمؤمنون،

يقول: وما أنزل إلـيكم من كتابه ووحيه، علـى لسان رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما أنزل إلـيهم، يعنـي: وما أنزل علـى أهل الكتاب من الكتب، وذلك التوراة والإنـجيـل والزبور، خاشعين لله، يعنـي: خاضعين لله بـالطاعة، مستكينـين له بها متذللـين. كما:

٦٨٠٥ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن زيد فـي قوله: {خاشِعِينَ لِلّهِ} قال: الـخاشع: الـمتذلل لله الـخائف.

ونصب قوله: {خاشِعِينَ لِلّهِ} علـى الـحال من قوله: {لَـمَنْ يُؤمِنُ بـاللّه } وهو حال مّـما فـي (يؤمن) من ذكر (من).

{لا يَشْتَرُونَ بآيَاتِ اللّه ثَمَنا قَلِـيلاً}

يقول: لا يحرّفون ما أنزل إلـيهم فـي كتبه من نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـيبدلونه، ولا غير ذلك من أحكامه وحججه فـيه، لعرض من الدنـيا خسيس، يعطونه علـى ذلك التبديـل، وابتغاء الرياسة علـى الـجهال، ولكن ينقادون للـحقّ، فـيعملون بـما أمرهم اللّه به، فـيـما أنزل إلـيهم من كتبه، وينتهون عما نهاهم عنه فـيها، ويؤثرون أمر اللّه تعالـى علـى هوى أنفسهم.

القول فـي تأويـل قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ إنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {أولَئِكَ لَهُمْ أجْرُهُمْ}: هؤلاء الذين يؤمنون بـالله، وما أنزل إلـيكم، وما أنزل إلـيهم، لهم أجرهم عند ربهم¹ يعنـي: لهم عوض أعمالهم التـي عملوها، وثواب طاعتهم ربهم فـيـما أطاعوه فـيه عند ربهم، يعنـي: مذخور ذلك لهم لديه، حتـى يصيروا إلـيه فـي القـيامة، فـيوفـيهم ذلك {إنّ اللّه سريعُ الـحسابِ} وسرعة حسابه تعالـى ذكره، أنه لا يخفـى علـيه شيء من أعمالهم قبل أن يعملوها، وبعد ما عملوها، فلا حاجة به إلـى إحصاء عدد ذلك، فـيقع فـي الإحصاء إبطاء، فلذلك قال: {إنّ اللّه سَرِيعُ الـحِسابِ}.

٢٠٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: اصبروا علـى دينكم، وصابروا الكفـار ورابطوهم. ذكر من قال ذلك:

٦٨٠٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن الـمبـارك بن فضالة، عن الـحسن أنه سمعه يقول فـي قول اللّه : {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال: أمرهم أن يصبروا علـى دينهم، ولا يدعوه لشدّة ولا رخاء، ولا سرّاء ولا ضرّاء، وأمرهم أن يصابروا الكفـار، وأن يرابطوا الـمشركين.

٦٨٠٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}: أي اصبروا علـى طاعة اللّه ، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا فـي سبـيـل اللّه ، {وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكمْ تُفْلِـحُونَ}.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}

يقول: صابروا الـمشركين، ورابطوا فـي سبـيـل اللّه .

٦٨٠٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: {اصْبِرُوا} علـى الطاعة، {وَصَابِرُوا} أعداء اللّه ، {وَرَابِطُوا} فـي سبـيـل اللّه .

٦٨٠٩ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال: اصبروا علـى ما أمرتـم به، وصابروا العدوّ ورابطوهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا علـى دينكم، وصابروا وعدي إياكم علـى طاعتكم لـي، ورابطوا أعداءكم. ذكر من قال ذلك:

٦٨١٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، عن مـحمد بن كعب القرظي، أنه كان يقول فـي هذه الاَية: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}

يقول: اصبروا علـى دينكم، وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوّي وعدوّكم، حتـى يترك دينه لدينكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: اصبروا علـى الـجهاد، وصابروا عدوّكم ورابطوهم. ذكر من قال ذلك:

٦٨١١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلـم فـي قوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال: اصبروا علـى الـجهاد، وصابروا عدوّكم، ورابطوا علـى عدوّكم.

٦٨١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد اللّه الـمرّي، قال: حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلـم، قال: كتب أبو عبـيدة بن الـجراح إلـى عمر بن الـخطاب، فذكر له جموعا من الروم وما يتـخوّف منهم، فكتب إلـيه عمر: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة يجعل اللّه بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللّه يقول فـي كتابه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ}.

وقال آخرون: معنى: {وَرَابِطُوا}: أي رابطوا علـى الصلوات: أي انتظروها واحدة بعد واحدة. ذكر من قال ذلك:

٦٨١٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبـير، قال: ثنـي داود بن صالـح، قال: قال لـي أبو سلـمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري فـي أيّ شيء نزلت هذه الاَية {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}؟ قال: قلت لا

قال: إنه يا ابن أخي لـم يكن فـي زمان النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم غزو يرابط فـيه، ولكنه انتظار الصلاة خـلف الصلاة.

٦٨١٤ـ حدثنـي أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن عبد اللّه بن سعيد الـمقبري، عن جدّه، عن شرحبـيـل عن علـيّ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أدُلّكُمْ علـى ما يُكَفّرُ اللّه بِهِ الذّنُوبَ والـخَطايا؟ إسْبـاغُ الوُضُوءِ علـى الـمَكارِهِ، وانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ، فَذَلِكَ الرّبـاطُ).

٦٨١٥ـ حدثنا موسى بن سهل الرملـي، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا مـحمد بن مهاجر، قال: ثنـي يحيـى بن زيد، عن زيد بن أبـي أنـيسة، عن شرحبـيـل، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أدُلكُمْ علـى ما يَـمْـحُو اللّه بِهِ الـخطايا ويُكَفّرُ بِهِ الذّنُوبَ؟) قال: قلنا بلـى يا رسول اللّه ! قال: (إسْبـاغُ الوضُوءِ فِـي أماكِنِها، وكَثْرَةُ الـخَطا إلـى الـمَساجِدِ، وَانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرّبـاطُ).

٦٨١٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا خالد بن مخـلد، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا أدُلّكُمْ علـى ما يَحُطّ اللّه بِهِ الـخَطايا وَيَرْفَعُ بِهِ الدّرَجاتِ؟)

قالوا: بلـى يا رسول اللّه

قال: (إسْبـاغُ الُوضُوءِ عِنْدَ الـمَكارِهِ، وكَثْرَةُ الـخُطا إلـى الـمَساجِدِ، وَانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرّبـاطُ فَذَلِكُمُ الرّبـاطُ).

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا إسماعيـل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، بنـحوه.

وأولـى التأويلات بتأويـل الاَية، قول من قال فـي ذلك: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، اصبروا علـى دينكم، وطاعة ربكم، وذلك أن اللّه لـم يخصص من معانـي الصبر علـى الدين والطاعة شيئا فـيجوز إخراجه من ظاهر التنزيـل. فلذلك قلنا إنه عنى بقوله: {اصْبِرُوا} الأمر بـالصبر علـى جميع معانـي طاعة اللّه فـيـما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفـيفها. {وَصَابِرُوا} يعنـي: وصابروا أعداءكم من الـمشركين.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب، لأن الـمعروف من كلام العرب فـي الـمفـاعلة، أن تكون من فريقـين، أو اثنـين فصاعدا، ولا تكون من واحد إلا قلـيلاً فـي أحرف معدودة، وإذ كان ذلك كذلك، فإنـما أمر الـمؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتـى يظفرهم اللّه بهم، ويعلـي كلـمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكن عدوّهم أصبر منهم. وكذلك قوله {وَرَابِطُوا} معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك فـي سبـيـل اللّه . وأرى أنّ أصل الربـاط: ارتبـاط الـخيـل للعدوّ، كما ارتبط عدوّهم لهم خيـلهم، ثم استعمل ذلك فـي كل مقـيـم فـي ثغر، يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بـينه وبـينهم، مـمن بغاهم بشرّ كان ذا خيـل قد ارتبطها، أو ذا رُجْلة لا مركب له.

وإنـما قلنا: معنى {وَرَابِطُوا}: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو الـمعنى الـمعروف من معانـي الربـاط. وإنـما توجه الكلام إلـى الأغلب الـمعروف فـي استعمال الناس من معانـيه دون الـخفـيّ، حتـى يأتـي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه إلـى الـخفـيّ من معانـيه حجةٌ يجب التسلـيـم لها من كتاب أو خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويـل.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: واتقوا اللّه أيها الـمؤمنون، واحذروه أن تـخالفوا أمره، أو تتقدّموا نهيه، {لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ}

يقول: لتفلـحوا فتبقوا فـي نعيـم الأبد، وتنـجحوا فـي طلبـاتكم عنده. كما:

٦٨١٧ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، عن مـحمد بن كعب القرظي أنه كان يقول فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ}: واتقوا اللّه فـيـما بـينـي وبـينكم لعلكم تفلـحون غدا إذا لقـيتـمونـي.

﴿ ٠