١٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{قُلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ ...}

اختلفت القراء فـي ذلك فقرأه بعضهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ} بـالتاء علـى وجه الـخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتـجوا لاختـيارهم قراءة ذلك بـالتاء بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}

قالوا: ففـي ذلك دلـيـل علـى أن قوله: {سَتُغْلَبُونَ} كذلك خطاب لهم. وذلك هو قراءة عامة قرّاء الـحجاز والبصرة وبعض الكوفـيـين. وقد يجوز لـمن كانت نـيته فـي هذه الاَية أن الـموعودين بأن يغلبوا هم الذين أمر النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم أن يقرأه بـالـياء والتاء، لأن الـخطاب الوحي حين نزل لغيرهم، فـيكون نظير قول القائل فـي الكلام: قلت للقوم إنكم مغلوبون، وقلت لهم إنهم مغلوبون. وقد ذكر أن فـي قراءة عبد اللّه : (قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ) وهي فـي قراءتنا: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ}. وقرأت ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة: (سيغلبوون ويحشرون) علـى معنى: قل للـيهود سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلـى جهنـم. ومن قرأ ذلك كذلك علـى هذا التأويـل لـم يجز فـي قراءته غير الـياء.

والذي نـختار من القراءة فـي ذلك قراءة من قرأه بـالتاء، بـمعنى: قل يا مـحمد للذين كفروا من يهود بنـي إسرائيـل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إلـيك ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويـله، ستغلبون وتـحشرون إلـى جهنـم وبئس الـمهاد.

وإنـما اخترنا قراءة ذلك كذلك علـى قراءته بـالـياء لدلالة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} علـى أنهم بقوله ستغلبون مخاطبون خطابهم بقوله: قد كان لكم، فكان إلـحاق الـخطاب بـمثله من الـخطاب أولـى من الـخطاب بخلافه من الـخبر عن غائب. وأخرى أن:

٥٣٦٩ـ أبـا كريب حدثنا، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لـما أصاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريشا يوم بدر فقدم الـمدينة، جمع يهود فـي سوق بنـي قـينقاع فقال: (يا مَعْشَرَ يَهُودَ، أسْلِـمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْل أصَابَ قُرَيشا)،

فقالوا: يا مـحمد لا تغرّنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك واللّه لو قاتلتنا لعرفت أنا نـحن الناس، وأنك لـم تأت مثلنا! فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـي ذلك من قولهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} إلـى قوله: {لأُولِـي الأبْصَارِ}.

٥٣٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لـما أصاب اللّه قريشا يوم بدر، جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهود فـي سوق بنـي قـينقاع حين قدم الـمدينة، ثم ذكر نـحو حديث أبـي كريب، عن يونس.

٥٣٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: كان من أمر بنـي قـينقاع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمعهم بسوق بنـي قـينقاع، ثم قال: (يا مَعْشَرَ الـيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللّه مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النّقْمَةِ، وَأَسْلِـمُوا فَـإِنّكُمْ قَدْ عَرَفْتُـمْ أنّـي نَبِـيّ مُرْسَلٌ تَـجِدُونَ ذلك فـي كِتابِكُمْ، وعَهْدِ اللّه إِلَـيْكُمْ!)

فقالوا: يا مـحمد إنك ترى أنا كقومك، لا يغرنّك أنك لقـيت قوما لا علـم لهم بـالـحرب فأصبت فـيهم فرصة، إنا واللّه لئن حاربناك لتعلـمنّ أنا نـحن الناس!

٥٣٧٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: ما نزلت هؤلاء الاَيات إلا فـيهم: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إِلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} إلـى: {لأُولِـي الأبْصَار}.

٥٣٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة فـي قوله: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال فنـحاص الـيهودي فـي يوم بدر: لا يغرنّ مـحمدا أن غلب قريشا وقتلهم، إن قريشا لا تـحسن القتال! فنزلت هذه الاَية: {قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهادُ}.

قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبـار تنبىء عن أن الـمخاطبـين بقوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُـحْشَرُونَ إلـى جَهَنّـمَ وَبِئْسَ الـمِهَادُ} هم الـيهود الـمقول لهم: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}.. الاَية، وتدل علـى أن قراءة ذلك بـالتاء أولـى من قراءته بـالـياء. ومعنى قوله: {وَتُـحْشَرُونَ} وتـجمعون فتـجلبون إلـى جهنـموأما قوله: {وَبِئْسَ الـمِهاد} وبئس الفراش جهنـم التـي تـحشرون إلـيها. وكان مـجاهد يقول كالذي:

٥٣٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {وَبِئْسَ الـمِهادُ} قال: بئسما مَهَدوا لأنفسهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: قل يا مـحمد للذين كفروا من الـيهود الذين بـين ظهرانـي بلدك: قد كان لكم آية يعنـي علامة ودلالة علـى صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة، كما:

٥٣٧٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} عبرة وتفكر.

٥٣٧٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، مثله، إلا أنه قال: ومتفكّر {فـي فِئَتَـيْنِ} يعنـي فـي فرقتـين وحزبـين. والفئة: الـجماعة من الناس التقتا للـحرب، وإحدى الفئتـين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن كان معه مـمن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش، فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، جماعة تقاتل فـي طاعة اللّه وعلـى دينه، وهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش. كما:

٥٣٧٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببدر، {وأُخْرَى كافرَةٌ} فئة قريش الكفـار.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، مثله.

٥٣٧٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، {وأُخرَى كافرَةٌ}: قريش يوم بدر.

٥٣٧٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ} قال: فـي مـحمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَـيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه } قال ذلك يوم بدر، التقـى الـمسلـمون والكفـار.

ورفعت {فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه }

وقد قـيـل قبل ذلك فـي فئتـين، بـمعنى: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل اللّه علـى الابتداء، كما قال الشاعر:

فكنتُ كَذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌوَرِجْلٌ رَمَى فِـيها الزّمانُ فَشَلّتِ

وكما قال ابن مفرغ:

فكنتُ كذِي رِجْلَـيْنِ: رِجْلٌ صحيحةٌورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الـحَدَثَانِ

فَأمّا التـي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍوَأمّا التـي شَلّتْ فأزد عُمَانِ

وكذلك تفعل العرب فـي كل مكرر علـى نظير له قد تقدمه إذا كان مع الـمكرر خبر ترده علـى إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانـية بـالرفع، وتنصبه فـي التام من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كلّه، فخفض علـى الرد علـى أول الكلام، كأنه يعنـي إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلـين كذي رجل صحيحة ورجل سقـيـمة. وكذلك الـخفض فـي قوله: (فئة)، جائز علـى الرد علـى قوله: (فـي فئتـين التقتا)، فـي فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه . وهذا وإن كان جائزا فـي العربـية، فلا أستـجيز القراءة به لإجماع الـحجة من القراء علـى خلافه، ولو كان قوله: (فئة) جاء نصبـا كان جائزا أيضا علـى قوله: قد كان لكم آية فـي فئتـين التقتا مختلفتـين.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ}.

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته قراء أهل الـمدينة: (ترونهم) بـالتاء، بـمعنى: قد كان لكم أيها الـيهود آية فـي فئتـين التقتا، فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، والأخرى كافرة، ترون الـمشركين مثلـي الـمسلـمين رأي العين. يريد بذلك عظتهم.

يقول: إن لكم عبرة أيها الـيهود فـيـما رأيتـم من قلة عدد الـمسلـمين، وكثرة عدد الـمشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض الـمكيـين: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} بـالـياء، بـمعنى: يرى الـمسلـمون الذين يقاتلون فـي سبـيـل اللّه الـجماعة الكافرة مثلـي الـمسلـمين فـي القدر.

فتأويـل الاَية علـى قراءتهم: قد كان لكم يا معشر الـيهود عبرة ومتفكّر فـي فئتـين التقتا، فئة تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، وأخرى كافرة، يرى هؤلاء الـمسلـمون مع قلة عددهم هؤلاء الـمشركين فـي كثرة عددهم.

فإن قال قائل: وما وجه تأويـل قراءة من قرأ ذلك بـالـياء، وأي الفئتـين رأت صاحبتها مثلـيها؟ الفئة الـمسلـمة هي التـي رأت الـمشركة مثلـيها، أم الـمشركة هي التـي رأت الـمسلـمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟

قـيـل: اختلف أهل التأويـل فـي ذلك،

فقال بعضهم: الفئة التـي رأت الأخرى مثلـي أنفسها الفئة الـمسلـمة، رأت عدد الفئة الـمشركة مثلـي عدد الفئة الـمسلـمة، قلّلها اللّه عز وجل فـي أعينها حتـى رأتها مثلـي عدد أنفسها، ثم قللها فـي حال أخرى، فرأتها مثل عدد أنفسها. ذكر من قال ذلك:

٥٣٨٠ـ حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: هذا يوم بدر، قال عبد اللّه بن مسعود: قد نظرنا إلـى الـمشركين، فرأيناهم يضعفون علـينا، ثم نظرنا إلـيهم فما رأيناهم يزيدون علـينا رجلاً واحدا، وذلك قول اللّه عز وجل: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ}.

فمعنى الاَية علـى هذا التأويـل: قد كان لكم يا معشر الـيهود آية فـي فئتـين التقتا: إحداهما مسلـمة، والأخرى كافرة، كثـير عدد الكافرة، قلـيـل عدد الـمسلـمة، ترى الفئة القلـيـل عددها، الكثـير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بـمثل واحد، فهم يرونهم مثلـيهم، فـيكون أحد الـمثلـين عند ذلك، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التـي رأتهم، والـمثل الاَخر: الضعف الزائد علـى عددهم، فهذا أحد معنـيـي التقلـيـل الذي أخبر اللّه عز وجل الـمؤمنـين أنه قللهم فـي أعينهم¹ والـمعنى الاَخر منه: التقلـيـل الثانـي علـى ما قاله ابن مسعود، وهو أن أراهم عدد الـمشركين مثل عددهم لا يزيدون علـيهم، فذلك التقلـيـل الثانـي الذي

قال اللّه جل ثناؤه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً}.

وقال آخرون من أهل هذه الـمقالة: إن الذين رأوا الـمشركين مثلـي أنفسهم هم الـمسلـمون، غير أن الـمسلـمين رأوهم علـى ما كانوا به من عددهم، لـم يقللوا فـي أعينهم، ولكن اللّه أيدهم بنصره.

قالوا: ولذلك قال اللّه عز وجل للـيهود: قد كان لكم فـيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم، مثل الذي حل بأهل بدر علـى أيديهم. ذكر من قال ذلك:

٥٣٨١ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}. أنزلت فـي التـخفـيف يوم بدر، فإنّ الـمؤمنـين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان الـمشركون مثلـيهم، فأنزل اللّه عز وجل: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئْتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} وكان الـمشركون ستة وعشرين وستـمائة، فأيد اللّه الـمؤمنـين، فكان هذا الذي فـي التـخفـيف علـى الـمؤمنـين.

وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبـار عن عدة الـمشركين يوم بدر، وذلك أن الناس إنـما اختلفوا فـي عددهم علـى وجهين،

فقال بعضهم: كان عددهم ألفـا، .

وقال بعضهم: ما بـين التسعمائة إلـى الألف. ذكر من قال كان عددهم ألفـا:

٥٣٨٢ـ حدثنـي هارون بن إسحاق الهمدانـي، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علـي، قال: سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلـى بدر، فسبقنا الـمشركين إلـيها، فوجدنا فـيها رجلـين، منهم رجل من قريش، ومولـى لعقبة بن أبـي معيط¹ فأما القرشي فـانفلت، وأما مولـى عقبة، فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فـ

يقول: هم واللّه كثـير شديد بأسهم. فجعل الـمسلـمون إذا قال ذلك صدّقوه، حتـى انتهوا به إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له: (كَمِ القَوْمُ؟) فقال: هم واللّه كثـير شديد بأسهم. فجهد النبـي صلى اللّه عليه وسلم علـى أن يخبرهم كم هم، فأبى. ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأله: (كَمْ تَنْـحَرُون مِنَ الـجُزُرِ؟) قال: عشرة كل يوم. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (القَوْمُ ألْفٌ).

٥٣٨٣ـ حدثنـي أبو سعيد بن يوشع البغدادي، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة عن عبد اللّه ، قال: أسرنا رجلاً منهم ـ يعنـي من الـمشركين يوم بدر ـ فقلنا: كم كنتـم؟ قال: ألفـا.

ذكر من قال: كان عددهم ما بـين التسعمائة إلـى الألف:

٥٣٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: ثنـي يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبـير قال: بعث النبـي صلى اللّه عليه وسلم نفرا من أصحابه إلـى ماء بدر يـلتـمسون الـخبر له علـيه، فأصابوا راوية من قريش فـيها أسلـم غلام بنـي الـحجاج، وعريض أبو يسار غلام بنـي العاص، فأتوا بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهما: (كَمِ القَوْم؟) قالا: كثـير

قال: (ما عِدّتُهُمْ؟) قالا: لا ندري

قال: (كَمْ تَنْـحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ؟) قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (القَوْمُ مَا بَـيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلـى الألْفِ).

٥٣٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فَئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيهِمْ رأيَ العَيْنِ} ذلكم يوم بدر ألف الـمشركون، أو قاربوا، وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.

٥٣٨٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} إلـى قوله: {رأيَ العَيْنِ} قال: يضعفون علـيهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر.

٥٣٨٧ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِـي سَبِـيـلِ اللّه وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رأيَ العَيْنِ} قال: كان ذلك يوم بدر، وكان الـمشركون تسعمائة وخمسين، وكان أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

٥٣٨٨ـ حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، والـمشركون ما بـين التسعمائة إلـى الألف.

فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عبـاس فـي عدد الـمشركين يوم بدر. فإذا كان ما قاله من حكيناه مـمن ذكر أن عددهم كان زائدا علـى التسعمائة، فـالتأويـل الأول الذي قلناه علـى الرواية التـي روينا عن ابن مسعود أولـى بتأويـل الاَية.

وقال آخرون: كان عدد الـمشركين زائدا علـى التسعمائة، فرأى الـمسلـمون عددهم علـى غير ما كانوا به من العدد، و

قالوا: أرى اللّه الـمسلـمين عدد الـمشركين قلـيلاً آية للـمسلـمين.

قالوا: وإنـما عنى اللّه عز وجل بقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ} الـمخاطبـين بقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِـي فِئَتَـيْنِ}

قالوا: وهم الـيهود غير أنه رجع من الـمخاطبة إلـى الـخبر عن الغائب، لأنه أمر من اللّه جل ثناؤه لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبر عنهم علـى وجه الـخبر مرة أخرى، كما قال: {حتـى إذَا كُنْتُـمْ فِـي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ}.

وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف

قـيـل: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَـيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ} وقد علـمتـم أن الـمشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال الـمسلـمين؟ قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد: أحتاج إلـى مثله، أنا مـحتاج إلـيه وإلـى مثله، ثم

يقول: أحتاج إلـى مثلـيه، فـيكون ذلك خبرا عن حاجته إلـى مثله وإلـى مثلـي ذلك الـمثل، وكما يقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلـى مثلـيه، فهو مـحتاج إلـى ثلاثة¹ فلـما نوى أن يكون الألف داخلاً فـي معنى الـمثل، صار الـمثل أشرف والاثنان ثلاثة، قال: ومثله فـي الكلام: أراكم مثلكم، كما يقال: إن لكم ضعفكم، وأراكم مثلـيكم، يعنـي أراكم ضعفـيكم،

قالوا: فهذا علـى معنى ثلاثة أمثالهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن اللّه أرى الفئة الكافرة عدد الفئة الـمسلـمة مثلـي عددهم. وهذا أيضا خلاف ما دل علـيه ظاهر التنزيـل، لأن اللّه جل ثناؤه قال فـي كتابه: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَـيْتُـمْ فِـي أعْيُنِكُمْ قَلِـيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِـي أعْيُنِهِمْ} فأخبر أن كلاً من الطائفتـين قُلل عددهم فـي مرأى الأخرى.

وقرأ آخرون ذلك: (تُرَوْنَهم) بضم التاء، بـمعنى: يريكموهم اللّه مثلـيهم.

(وأولـى هذه القراءات بـالصواب قراءة من قرأ: {يَرَوْنَهُمْ} بـالـياء، بـمعنى: وأخرى كافرة، يراهم الـمسلـمون مثلـيهم، يعنـي: مثلـي عدد الـمسلـمين، لتقلـيـل اللّه إياهم فـي أعينهم فـي حال، فكان حزرهم إياهم كذلك، ثم قللهم فـي أعينهم عن التقلـيـل الأول، فحزروهم مثل عدد الـمسلـمين، ثم تقلـيلاً ثالثا، فحزروهم أقل من عدد الـمسلـمين.) كما:

٥٣٨٩ـ حدثنـي أبو سعيد البغدادي، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن أبـي عبـيدة، عن عبد اللّه ، قال: لقد قللوا فـي أعيننا يوم بدر حتـى قلت لرجل إلـى جنبـي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة

قال: فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا كم كنتـم؟ قال: ألفـا.

وقد رُوي عن قتادة أنه كان

يقول: لو كانت (تُرونهم)، لكانت (مثلـيكم).

٥٣٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي عبد الرحمن بن أبـي حماد، عن ابن الـمعرك، عن معمر، عن قتادة بذلك.

ففـي الـخبرين اللذين روينا عن عبد اللّه بن مسعود ما أبـان عن اختلاف حزر الـمسلـمين يومئذٍ عدد الـمشركين فـي الأوقات الـمختلفة، فأخبر اللّه عز وجل ـ عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند الـمسلـمين ـ الـيهود علـى ما كان به عندهم، مع علـم الـيهود بـمبلغ عدد الفئتـين، إعلاما منه لهم أنه مؤيد الـمؤمنـين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، ولـيحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة علـى أيدي الـمؤمنـين، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش علـى أيديهم ببدرهم.

وأما قوله: {رأيَ العَيْنِ} فإنه مصدر رأيته، يقال: رأيته رَأْيا ورؤية، ورأيت فـي الـمنام رؤيَا حسنة غير مُـجْراة، يقال: هو منـي رأي العين ورأي العين بـالنصب والرفع، يراد حيث يقع علـيه بصري، وهو من الرائي مثله، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا. فمعنى ذلك: يرونهم حيث تلـحقهم أبصارهم، وتراهم عيونهم مثلـيهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ}.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: {واللّه يُوءَيّد}: يقوّي بنصره من يشاء، من قول القائل: قد أيدت فلانا بكذا: إذا قويته وأعنته، فأنا أؤيده تأيـيدا، و(فعلت) منه: إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول اللّه عز وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ} يعنـي ذا القوة.

وتأويـل الكلام: قد كان لكم آية يا معشر الـيهود فـي فئتـين التقتا: إحداهما تقاتل فـي سبـيـل اللّه ، وأخرى كافرة، يراهم الـمسلـمون مثلـيهم رأي أعينهم، فأيدنا الـمسلـمة وهم قلـيـل عددهم، علـى الكافرة وهم كثـير عددهم حتـى ظفروا بهم معتبر ومتفكر، واللّه يقوي بنصره من يشاء

وقال جل ثناؤه: إن فـي ذلك: يعنـي إن فـيـما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأيـيدنا الفئة الـمسلـمة مع قلة عددهم، علـى الفئة الكافرة مع كثرة عددها {لَعِبْرَةً} يعنـي لـمتفكرا ومتعظا لـمن عقل وادّكر فأبصر الـحق. كما:

٥٣٩١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إِنّ فِـي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِـي الأبْصَارِ}

يقول: لقد كان لهم فـي هؤلاء عبرة وتفكر، أيدهم اللّه ونصرهم علـى عدوهم.

٥٣٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع مثله.

﴿ ١٣