٣٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ ...}

اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} علـى التأنـيث بـالتاء، يراد بها: جمع الـملائكة، وكذلك تفعل العرب فـي جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيـما الأسماء التـي فـي ألفـاظها التأنـيث كقولهم: جاءت الطلـحات.

وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بـالـياء، بـمعنى: فناداه جبريـل فذكروه للتأويـل، كما قد ذكرنا آنفـا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ، فكذلك يذكّرون فعل الـمؤنث أيضا للفظ. واعتبروا ذلك فـيـما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد اللّه بن مسعود، وهو ما:

٥٥٩٢ـ حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد أن قراءة ابن مسعود: (فناداه جبريـل وهو قائم يصلـي فـي الـمـحراب).

وكذلك تأوّل قوله: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} جَماعة مِنْ أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٥٩٣ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} وهو جبريـل ـ أو: قالت الـملائكة، وهو جبريـل ـ {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}.

فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال علـى هذا التأويـل: {فَنَادَتْهُ الـمَلائِكَةُ} والـملائكة جمع لا واحد؟

قـيـل: ذلك جائز فـي كلام العرب بأن تـخبر عن الواحد بـمذهب الـجمع، كما يقال فـي الكلام: خرج فلان علـى بغال البرد، وإنـما ركب بغلاً واحدا، وركب السفن، وإنـما ركب سفـينة واحدة، وكما يقال: مـمن سمعت هذا الـخبر؟ فـيقال: من الناس، وإنـما سمعه من رجل واحد¹ وقد

قـيـل: إن منه قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، والقائل كان فـيـما ذكر واحدا،

وقوله: {وَإذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ}، والناس بـمعنى واحد، وذلك جائز عندهم فـيـما لـم يقصد فـيه قصد واحد.

وإنـما الصواب من القول عندي فـي قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان، أعنـي التاء والـياء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أنه لا اختلاف فـي معنى ذلك بـاختلاف القرائين، وهما جميعا فصيحتان عند العرب، وذلك أن الـملائكة إن كان مرادا بها جبريـل كما روي عن عبد اللّه فإن التأنـيث فـي فعلها فصيح فـي كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل، وجائز فـيه التذكير لـمعناها. وإن كان مرادا بها جمع الـملائكة فجائز فـي فعلها التأنـيث، وهو من قبلها للفظها، وذلك أن العرب إذا قدمت علـى الكثـير من الـجماعة فعلها أنثته، فقالت: قالت النساء، وجائز التذكير فـي فعلها بناء علـى الواحد إذا تقدم فعله، فـيقال: قال الرجال.

وأما الصواب من

القول فـي تأويـله، فأن يقال: إن اللّه جلّ ثناؤه، أخبر أن الـملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الـملائكة دون الواحد وجبريـل واحد، فلن يجوز أن يحمل تأويـل القرآن إلا علـى الأظهر الأكثر من الكلام الـمستعمل فـي ألسن العرب، دون الأقلّ ما وجد إلـى ذلك سبـيـل، ولـم يضطرنا حاجة إلـى صرف ذلك إلـى أنه بـمعنى واحد، فـيحتاج له إلـى طلب الـمخرج بـالـخفـيّ من الكلام والـمعانـي.

وبـما قلنا فـي ذلك من التأويـل قال جماعة من أهل العلـم، منهم قتادة والربـيع بن أنس وعكرمة ومـجاهد وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فـيـما مضى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَهُوَ قائمٌ يُصَلّـي فِـي الـمِـحْرَابِ أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}.

وتأويـل قوله {وَهُوَ قائِمٌ}: فنادته الـملائكة فـي حال قـيامه مصلـيا. فقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} خبر عن وقت نداء الـملائكة زكريا¹

وقوله: {يُصَلّـي} فـي موضع نصب علـى الـحال من القـيام، وهو رفع بـالـياءوأما الـمـحراب: فقد بـينا معناه، وأنه مقدم الـمسجد.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ}، فقرأته عامّة القرّاء: {أنّ اللّه } بفتـح الألف من (أن) بوقوع النداء علـيها بـمعنى فنادته الـملائكة بذلك. وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة: (إنّ اللّه يُبَشّرُكَ) بكسر الألف بـمعنى: قالت الـملائكة: إن اللّه يبشرك، لأن النداء قول¹ وذكروا أنها فـي قراءة عبد اللّه : (فنادته الـملائكة وهو قائم يصلـي فـي الـمـحراب يا زكريا إن اللّه يبشرك)¹

قالوا: إذا بطل النداء أن يكون عاملاً فـي قوله: (يا زكريا)، فبـاطل أيضا أن يكون عاملاً فـي (إن).

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ} بفتـح أن بوقوع النداء علـيه، بـمعنى: فنادته الـملائكة بذلك، ولـيست العلة التـي اعتلّ بها القارئون بكسر إن، من أن عبد اللّه كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد اللّه إن كان قرأ ذلك كذلك، فإنـما قرأها بزعمهم. وقد اعترض بـ(يا زكريا) بـين (إن) وبـين قوله: (فنادته)، وإذا اعترض به بـينهما، فإن العرب تعمل حينئذ النداء فـي (أنّ)، وتبطله عنها. أما الإبطال، فإنه بطل عن العمل فـي الـمنادى قبله، فأسلكوا الذي بعده مسلكه فـي بطول عملهوأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقع كسائر الأفعالوأما قراءتنا فلـيس نداء زكريا بـ(يا زكريا)، معترضا به بـين (أن) وبـين قوله: (فنادته)، وإذا لـم يكن ذلك بـينهما، فـالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول: ناديت اسم الـمنادى، وأوقعوه علـيه أن يوقعوه كذلك علـى (أنّ) بعده وإن كان جائزا إبطال عمله، فقوله: (نادته)، قد وقع علـى مكنـيّ زكريا¹ فكذلك الصواب أن يكون واقعا علـى (أنّ) وعاملاً فـيها، مع أن ذلك هو القراءة الـمستفـيضة فـي قراءة أمصار الإسلام، ولا يعترض بـالشاذّ علـى الـجماعة التـي تـجيء مـجيء الـحجة.

وما قوله: {يُبَشّرُكَ} فإن القرّاء اختلفت فـي قراءته، فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والبصرة: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ} بتشديد الشين وضمّ الـياء علـى وجه تبشير اللّه زكريا بـالولد، من قول الناس: بشّرت فلانا البشرى بكذا وكذا، أي أتته بشارات البشرى بذلك.

وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة وغيرهم: (أنّ اللّه يَبْشُرُكَ) بفتـح الـياء وضمّ الشين وتـخفـيفها، بـمعنى: أن اللّه يسرّك بولد يهبه لك، من قول الشاعر:

بَشَرْتُ عِيالـي إذْ رأيْتُ صَحِيفَةًأتَتْكَ مِنَ الـحَجّاجِ يُتْلَـى كِتابُها

 إن (بَشَرت) لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون: بَشَرت فلانا بكذا فأنا أَبْشُرُه بَشْرا، وهل أنت بـاشرٌ بكذا؟ وينشد لهم البـيت فـي ذلك:

وإذَا رأيْتُ البـاهِشِينَ إلـى العُلاغُبْرا أكُفّهُمْ بقاعٍ مُـمْـحِلِ

فأعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِـمَا بَشِرُوا بِهِوَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فـانْزِلِ

فإذا صاروا إلـى الأمر، فـالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف، فـيقال: ابْشَرْ فلانا بكذا، ولا يكادون يقولون: بشّره بكذا، ولا أبْشِرْه.

وقد رُوي عن حميد بن قـيس أنه كان يقرأ: (يُبْشِركَ) بضم الـياء وكسر الشين وتـخفـيفها. وقد:

٥٥٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبـي حماد، عن معاد الكوفـي، قال: من قرأ (يبشّرهم) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ (يَبْشُرُهم) مخففة بنصب الـياء، فإنه من السرور، يسرّهم.

والقراءة التـي هي القراءة عندنا فـي ذلك ضم الـياء وتشديد الشين، بـمعنى التبشير، لأن ذلك هي اللغة السائرة، والكلام الـمستفـيض الـمعروف فـي الناس، مع أن جميع قرّاء الأمصار مـجمعون فـي قراءة: {فبـم تبشّرون} علـى التشديد. والصواب فـي سائر ما فـي القرآن من نظائره أن يكون مثله فـي التشديد وضم الـياء.

وأما ما رُوي عن معاذ الكوفـي من الفرق بـين معنى التـخفـيف والتشديد فـي ذلك، فلـم نـجد أهل العلـم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لـما حكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية:

يا بِشْرُ حُقّ لِبشْرِكَ التّبْشِيرُهَلاّ غَضِبتَ لَنا وأنْتَ أمِيرُ

فقد علـم أنه أراد بقوله (التبشير): الـجمال والنضارة والسرور، فقال (التبشير) ولـم يقل (البشر)، فقد بـين ذلك أن معنى التـخفـيف والتثقـيـل فـي ذلك واحد.

٥٥٩٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} قال: بشرته الـملائكة بذلك.

(وأما قوله: {بِـيَحْيَـى} فإنه اسم أصله يَفْعَل، من قول القائل: حي فلان فهو يحيا، وذلك إذا عاش فـيحيـى (يَفْعَل) من قولهم (حيـي).

وقـيـل: إن اللّه جل ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بـالإيـمان. ذكر من قال ذلك:

٥٥٩٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى}

يقول: عبد أحياه اللّه بـالإيـمان.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة قوله: {أنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى} قال: إنّـمَا سمي يحيـى، لأن اللّه أحياه بـالإيـمان.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: إن اللّه يبشرك يا زكريا بـيحيـى ابنا لك، {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } يعنـي بعيسى ابن مريـم. ونصب قوله (مصدّقا) علـى القطع من يحيـى، لأن (مصدقا) نعت له وهو نكرة، و(يحيـى) غير نكرة.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٥٩٧ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود الطفـاوي، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة، قال: حدثنا النضر بن عربـيّ، عن مـجاهد قال: قالت امرأة زكريا لـمريـم: إنـي أجد الذي فـي بطنـي يتـحرّك للذي فـي بطنك، قال: فوضعت امرأة زكريا يحيـى، ومريـم عيسى. ولذا قال: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال يحيـى: مصدّق بعيسى.

٥٥٩٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن الرقاشي فـي قول اللّه : {يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: مصدّقا بعيسى ابن مريـم.

٥٥٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٥٦٠٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: مصدّقا بعيسى.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }

يقول: مصدّق بعيسى ابن مريـم، وعلـى سننه ومنهاجه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } يعنـي عيسى ابن مريـم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }

يقول: مصدّقا بعيسى ابن مريـم،

يقول: علـى سننه ومنهاجه.

٥٦٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلـمة من اللّه وروح.

٥٦٠٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } يصدّق بعيسى.

٥٦٠٣ـ حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } فإن يحيـى أوّل من صدّق بعيسى، وشهد أنه كلـمة من اللّه ، وكان يحيـى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.

٥٦٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال عيسى ابن مريـم: هو الكلـمة من اللّه اسمه الـمسيح.

٥٦٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: أخبرنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: كان عيسى ويحيـى ابنـي خالة، وكانت أم يحيـى تقول لـمريـم: إنـي أجد الذي فـي بطنـي يسجد للذي فـي بطنك، فذلك تصديقه بعيسى، سجوده فـي بطن أمه، وهو أوّل من صدّق بعيسى وكلـمة عيسى، ويحيـى أكبر من عيسى.

٥٦٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: الكلـمة التـي صدّق بها عيسى.

٥٦٠٧ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قال: لقـيَتْ أمّ يحيـى أمّ عيسى، وهذه حامل بـيحيـى وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريـم استشعرت أنـي حبلـى، قالت مريـم: استشعرت أنـي أيضا حبلـى. قالت امرأة زكريا: فإنـي وجدت ما فـي بطنـي يسجد لـما فـي بطنك. فذلك قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه }.

٥٦٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قول اللّه : {إنّ اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } قال: مصدّقا بعيسى ابن مريـم.

وقد زعم بعض أهل العلـم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله: {مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه } بكتاب من اللّه ، من قول العرب: أنشدنـي فلان كلـمة كذا، يراد به قصيدة كذا. جهلاً منه بتأويـل الكلـمة، واجتراءً علـى ترجمة القرآن برأيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَسَيّدا}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَسَيّدا}: وشريفـا فـي العلـم والعبـادة، ونصب (السيد) عطفـا علـى قوله (مصدّقا).

وتأويـل الكلام: إن اللّه يبشرك بـيحيـى مصدّقا بهذا وسيدا، والسيد: الفَـيْعِل، من قول القائل: ساد يسود. كما:

٥٦٠٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَسَيّدا}: إي والله، لسيد فـي العبـادة والـحلـم والعلـم والورع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مسلـم، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {وَسَيّدا} قال: السيد لا أعلـمه إلا قال فـي العلـم والعبـادة.

٥٦١٠ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قال: السيد: الـحلـيـم.

٥٦١١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن شريك، عن سالـم الأفطس، عن سعيد بن جبـير: {وَسَيّدا} قال: الـحلـيـم.

٥٦١٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير: {وَسَيّدا} قال: السيد: التقـيّ.

٥٦١٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه عزّ وجلّ {وَسَيّدا} قال: السيد: الكريـم علـى اللّه .

٥٦١٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: زعم الرقاشي أن السيد: الكريـم علـى اللّه .

٥٦١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك في قول اللّه عز وجل: {وَسَيّدا} قال: السيد: الـحلـيـم التقـيّ.

حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَسَيّدا} قال:

يقول: تقـيا حلـيـما.

٥٦١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفـيان فـي قوله: {وَسَيدا} قال: حلـيـما تقـيا.

٥٦١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد فـي قوله: {وَسَيّدا} قال: السيد: الشريف.

٥٦١٨ـ حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، عن عبد الـملك، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب في قول اللّه عز وجل: {وَسَيّدا} قال: السيد: الفقـيه العالـم.

٥٦١٩ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَسَيّدا} قال:

يقول: حلـيـما تقـيا.

٥٦٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن عكرمة: {وَسَيّدا} قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَحَصُورا وَنَبِـيّا مِنَ الصّالِـحِينَ}.

يعنـي بذلك: مـمتنعا من جماع النساء من قول القائل: حصرت من كذا أحصر: إذا امتنع منه¹ ومنه قولهم: حصر فلان فـي قراءته: إذا امتنع من القراءة فلـم يقدر علـيها، وكذلك حصر العدوّ: حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف، ولذلك قـيـل للذي لا يُخرِج مع ندمائه شيئا: حصور، كما قال الأخطل:

وَشارِبٍ مُرْبِحٍ بـالكأْسِ نادَمَنِـيلا بـالـحَصُورِ ولا فِـيها بسَوّارِ

ويروى (بسّار). ويقال أيضا للذي لا يخرج سرّه ويكتله حصور، لأنه يـمنع سرّه أن يظهر، كما قال جرير:

وَلَقَدْ تَسَقّطَنِـي الوُشاةُ فصادَفُواحَصِرا بِسِرّكِ يا أُمَيْـمَ ضَنِـينا

وأصل جميع ذلك واحد، وهو الـمنع والـحبس.

وبـمثل الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٥٦٢١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن خـلف، قال: حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد اللّه فـي قوله: {وَسَيّدا وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

٥٦٢٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب أنه قال ثنـي ابن العاص، أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (كُلّ بَنِـي آدَمَ يَأْتِـي يَوْمَ القِـيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَـى بْنِ زَكَرِيّا)، قال: ثم دلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده إلـى الأرض، فأخذ عويدا صغيرا، ثم قال: (وَذَلكَ أنّهُ لَـمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ، وبذلك سماه اللّه سيدا وحصورا).

٥٦٢٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيـى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن الـمسيب،

يقول: لـيس أحد إلا يـلقـى اللّه يوم القـيامة ذا ذنب إلا يحيـى بن زكريا، كان حصورا، معه مثل الهدبة.

٥٦٢٤ـ حدثنا أحمد بن الولـيد القرشي، قال: حدثنا عمر بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب، قال: قال ابن العاص ـ إما عبد اللّه ، وإما أبوه ـ: ما أحد يـلقـى اللّه إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيـى بن زكريا

قال: وقال سعيد بن الـمسيب: {وَسَيّدا وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يغشى النساء، ولـم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب.

حدثنـي سعيد بن عمرو السكونـي، قال: حدثنا بقـية بن الولـيد، عن عبد الـملك، عن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب فـي قوله: {وَحَصُورا} قال: الـحصور¹ الذي لا يشتهي النساء، ثم ضرب بـيده إلا الأرض فأخذه نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.

٥٦٢٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، مثله.

٥٦٢٦ـ حدثنـي عبد الرحمن بن الأسود، قال: حدثنا مـحمد بن ربـيعة، قال: حدثنا النضر بن عربـي، عن مـجاهد: {وَحَصُورا} قال: الذي لا يأتـي النساء.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـحصور: لا يقرب النساء.

٥٦٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: زعم الرقاشي: الـحصور: الذي لا يقرب النساء.

٥٦٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك : الـحصور: الذي لا يولد له، ولـيس له ماء.

حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَحَصُورا} قال: هو الذي لا ماء له.

٥٦٢٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا سويد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَحَصُورا} كنا نـحدّث أن الـحصور الذي لا يقرب النساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سلـيـمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فـي قوله: {وَسَيّدا وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

حدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٥٦٣٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: الـحصور: الذي لا ينزل الـماء.

٥٦٣١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد: {وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يأتـي النساء.

٥٦٣٢ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَحَصُورا} قال: الـحصور: الذي لا يريد النساء.

٥٦٣٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن: {وَحَصُورا} قال: لا يقرب النساء.

وأما قوله: {وَنَبِـيّا مِنَ الصالِـحِينَ} فإنه يعنـي: رسولاً لربه إلـى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلغهم عنه ما أرسله به إلـيهم. ويعنـي بقوله: {مِنَ الصّالِـحِينَ} من أنبـيائه الصالـحين. وقد دللنا فـيـما مضى علـى معنى النبوّة وما أصلها بشواهد ذلك، والأدلة الدالة علـى الصحيح من القول فـيه بـما أغنى عن إعادته.

﴿ ٣٩