٤٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ ...}

يعنـي أن زكريا قال إذ نادته الـملائكة: {أن اللّه يُبَشّرُكَ بِـيَحْيَـى مُصَدّقا بِكَلِـمَةٍ مِنَ اللّه وَسَيّدا وَحَصُورا وَنَبِـيّا مِنَ الصّالِـحِينَ}: {أنّى يَكُونُ لِـي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرْ} يعنـي: من بلغ من السنّ ما بلغت لـم يولد له¹ {وَامْرَأتِـي عاقِرٌ} والعاقر من النساء: التـي لا تلد، يقال منه: امرأة عاقر، ورجل عاقر، كما قال عامر بن الطفـيـل:

لَبِئْسَ الفَتَـى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراجبَـانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ مـحْضَرِ

وأما الكِبر: فمصدر كَبِرَ فلان فهو يَكْبَرُ كبرا.

وقـيـل: (بلغنـي الكبر)، وقد قال فـي موضع آخر: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ} لأن ما بلغك فقد بلغته، وإنـما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل: وقد بلغنـي الـجهد بـمعنى: أنـي فـي جهد.

فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبـيّ اللّه : {رَبّ أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرُ وَامْرَأَتِـي عاقِرٌ} وقد بشرته الـملائكة بـما بشرته به، عن أمر اللّه إياها به؟ أشك فـي صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيـمان بـالله، فكيف الأنبـياء والـمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم فـي البلـية!

قـيـل: كان ذلك منه صلى اللّه عليه وسلم علـى غير ما ظننت، بل كان قـيـله ما قال من ذلك، كما:

٥٦٣٤ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: لـما سمع النداء ـ يعنـي زكريا لـما سمع نداء الـملائكة بـالبشارة بـيحيـى ـ جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت لـيس هو من اللّه ، إنـما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من اللّه أوحاه إلـيك، كما يوحي إلـيك فـي غيره من الأمر! فشكّ مكانه، وقال: {أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ} ذَكَرٌ،

يقول: ومن أين {وَقَدْ بَلَغَنِـي الكِبَرُ وَامْرَأتـي عاقِرٌ}.

٥٦٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي بكر، عن عكرمة، قال: فأتاه الشيطان، فأراد أن يكدر علـيه نعمة ربه،

فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم، نادانـي ملائكة ربـي، قال: بل ذلك الشيطان، لو كان هذا من ربك لأخفـاه إلـيك كما أخفـيت نداءك،

فقال: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة}.

فكان قوله ما قال من ذلك، ومراجعته ربه فـيـما راجع فـيه بقوله: {أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ}، للوسوسة التـي خالطت قلبه من الشيطان، حتـى خيـلت إلـيه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الـملائكة،

فقال: {رَبّ أنّى يَكُونُ لـي غُلامٌ} مستثبتا فـي أمره لتقرّر عنده بآية، يريه اللّه فـي ذلك أنه بشارة من اللّه علـى ألسن ملائكته، ولذلك قال: {رَبّ اجْعَلْ لـي آيَة}. وقد يجوز أن يكون قـيـله ذلك مسألة منه ربه: من أيّ وجه يكون الولد الذي بشر به، أمن زوجته فهي عاقر، أم من غيرها من النساء؟ فـيكون ذلك علـى غير الوجه الذي قاله عكرمة والسديّ، ومن قال مثل قولهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قالَ كَذَلِكَ اللّه يَفْعَلُ ما يَشاءُ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {كَذَلِكَ اللّه } أي هو ما وصف به نفسه، أنه هين علـيه أن يخـلق ولدا من الكبـير الذي قد يئس من الولد، ومن العاقر التـي لا يرجى من مثلها الولادة، كما خـلقك يا زكريا من قبلُ خـلقَ الولد منك ولـم تك شيئا، لأنه اللّه الذي لا يتعذّر علـيه خـلق شيء أراده، ولا يـمتنع علـيه فعل شيء شاءه، لأن قدرته القدرة التـي لا يشبهها قدرة. كما:

٥٦٣٦ـ حدثنـي موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: {كَذَلِكَ اللّه يفْعَلُ ما يَشاءُ} وقد خـلقتك من قبل ولـم تك شيئا.

﴿ ٤٠