٤٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ }

أما قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ} فإن معناه: أن اللّه يبشرك بكلـمة منه اسمه الـمسيح عيسى ابن مريـم، وجيها عند اللّه ، ومكلـما الناس فـي الـمهد. فـ(يكلّـم) وإن كان مرفوعا، لأنه فـي صورة (يَفْعَلُ) بـالسلامة من العوامل فـيه، فإنه فـي موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر:

بِتّ أُعَشّيها بِعَضْبٍ بـاتِرِيَقْصِدُ فـي أسْوُقِها وَجائِرِ

وأما الـمهد: فإنه يعنـي به مضجع الصبـيّ فـي رضاعه. كما:

٥٦٩٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {وَيُكَلّـمُ النّاسِ فِـي الـمَهْدِ} قال: مضجع الصبـيّ فـي رضاعه.

وأما قوله: {وَكَهْلاً} فإندده ومـحتَنِكا فوق الغلومة ودون الشيخوخة، يقال منه: رجل كهل، وامرأة كهلة، كما قال الراجز:

وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيّاأُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصّبِـيّا

وإنـما عنى جل ثناؤه بقوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً}: ويكلـم الناس طفلاً فـي الـمهد، دلالة علـى براءة أمه مـما قذفها به الـمفترون علـيها، وحجة له علـى نبوّته، وبـالغا كبـيرا بعد احتناكه بوحي اللّه الذي يوحيه إلـيه، وأمره ونهيه، وما تقوّل علـيه من كتابه. وإنـما أخبر اللّه عزّ وجلّ عبـاده بذلك من أمر الـمسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلـمون كهولاً وشيوخا، احتـجاجا به علـى القائلـين فـيه من أهل الكفر بـاللّه من النصارى بـالبـاطل، وأنه كان فـي معاناة أشياء مولودا طفلاً، ثم كهلاً يتقلّب فـي الأحداث، ويتغير بـمرور الأزمنة علـيه والأيام، من صغر إلـى كبر، ومن حال إلـى حال، وأنه لو كان كما قال الـملـحدون فـيه، كان ذلك غير جائز علـيه، فكذب بذلك ما قاله الوفد من أهل نـجران، الذين حاجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيه، واحتـجّ به علـيهم لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وأعلـمهم أنه كان كسائر بنـي آدم، إلا ما خصه اللّه به من الكرامة التـي أبـانه بها منهم. كما:

٥٦٩١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن جعفر بن الزبـير: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} يخبرهم بحالاته التـي يتقلب بها فـي عمره كتقلب بنـي آدم فـي أعمارهم صغارا وكبـارا، إلا أن اللّه خصه بـالكلام فـي مهده آية لنبوّته، وتعريفـا للعبـاد مواقع قدرته.

٥٦٩٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ}

يقول: يكلـمهم صغيرا وكبـيرا.

٥٦٩٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: يكلـمهم صغيرا وكبـيرا.

٥٦٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِـحِينَ} قال: الكهل: الـحلـيـم.

٥٦٩٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: كلـمهم صغيرا وكبـيرا وكهلاً

وقال ابن جريج، وقال مـجاهد: الكهل: الـحلـيـم.

٥٦٩٦ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: كلـمهم فـي الـمَهْدِ صَبِـيّا، وكلـمهم كبـيرا.

وقال آخرون: معنى قوله: {وَكَهْلاً}: أنه سيكلـمهم إذا ظهر. ذكر من قال ذلك:

٥٦٩٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته ـ يعنـي ابن زيد ـ يقول فـي قوله: {وَيُكَلّـمُ النّاسَ فِـي الـمَهْدِ وَكَهْلاً} قال: قد كلـمهم عيسى فـي الـمهد، وسيكلـمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذٍ كهل.

ونصب كهلاً عطفـا علـى موضع: ويكلـم الناسوأما قوله: {وَمِنَ الصّالِـحِينَ} فإنه يعنـي: من عدادهم وأولـيائهم لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض فـي الدين والفضل.

﴿ ٤٦