٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ...}

وهذا الـخبر من اللّه عزّ وجلّ أن من أهل الكتاب، وهم الـيهود من بنـي إسرائيـل أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها، ومنهم الـخائن أمانته، الفـاجر فـي يـمينه الـمستـحلّ.

فإن قال قائل: وما وجه إخبـار اللّه عزّ وجلّ بذلك نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وقد علـمت أن الناس لـم يزالوا كذلك منهم الـمؤدّي أمانت والـخائنها؟

قـيـل: إنـما أراد جلّ وعزّ بإخبـاره الـمؤمنـين خبرهم علـى ما بـينه فـي كتابه بهذه الاَيات تـحذيرهم أن يأتـمنوهم علـى أموالهم، وتـخويفهم الاغترار بهم، لاستـحلال كثـير منهم أموال الـمؤمنـين. فتأويـل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إن تأمنه يا مـحمد علـى عظيـم من الـمال كثـير، يؤدّه إلـيك، ولا يخنك فـيه¹ ومنهم الذي إن تأمنه علـى دينار يخنك فـيه، فلا يؤدّه إلـيك إلا أن تلـحّ علـيه بـالتقاضي والـمطالبة. والبـاء فـي قوله: {بِدِينارٍ}، وعلـى يتعاقبـان فـي هذا الـموضع، كما يقال: مررت به، ومررت علـيه.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما}

فقال بعضهم: إلا ما دمت له متقاضيا. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما}: إلا ما طلبته واتبعته.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما} قال: تقتضيه إياه.

٥٨٦٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قَائما} قال: مواظبـا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما دمت علـيه قائما علـى رأسه. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦٨ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: {إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما}

يقول: يعترف بأمانته ما دمت قائما علـى رأسه، فإذا قمت ثم جئت تطلبه كافَرَك الذي يؤدي، والذي يجحد.

وأولـى القولـين بتأويـل الاَية قول من قال: معنى ذلك: إلا ما دمت علـيه قائما بـالـمطالبة والاقتضاء، من قولهم: قام فلان بحقـي علـى فلان حتـى استـخرجه لـي، أي عمل فـي تـخـلـيصه، وسعى فـي استـخراجه منه حتـى استـخرجه، لأن اللّه عزّ وجلّ إنـما وصفهم بـاستـحلالهم أموال الأميـين، وأن منهم من لا يقضي ما علـيه إلا بـالاقتضاء الشديد والـمطالبة، ولـيس القـيام علـى رأس الذي علـيه الدين، بـموجب له النقلة عما هو علـيه من استـحلال ما هو له مستـحلّ، ولكن قد يكون ـ مع استـحلاله الذهاب بـما علـيه لربّ الـحق ـ إلـى استـخراجه السبـيـلُ بـالاقتضاء والـمـحاكمة والـمخاصمة، فذلك الاقتضاء: هو قـيام ربّ الـمال بـاستـخراج حقه مـمن هو علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أن من استـحلّ الـخيانة من الـيهود وجحود حقوق العربـي التـي هي له علـيه، فلـم يؤدّ ما ائتـمنه العربـي علـيه إلـيه إلا ما دام له متقاضيا مطلبـا¹ من أجل أنه

يقول: لا حرج علـينا فـيـما أصبنا من أموال العرب، ولا إثم، لأنهم علـى غير الـحقّ، وأنهم مشركون.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم نـحو قولنا فـيه. ذكر من قال ذلك:

٥٨٦٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.. الاَية، قالت الـيهود: لـيس علـينا فـيـما أصبنا من أموال العرب سبـيـل.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال لـيس علـينا فـي الـمشركين سبـيـل، يعنون: من لـيس من أهل الكتاب.

٥٨٧٠ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال: يقال له: ما بـالك لا تؤدّي أمانتك؟ فـ

يقول: لـيس علـينا حرج فـي أموال العرب، قد أحلها اللّه لنا.

٥٨٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبـير، لـما نزلت: {وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَـيْكَ وَمِنْهُ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدّهِ إلَـيْكَ إلاّ ما دُمْتَ عَلَـيْهِ قائما ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال: قال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (كَذَبَ أعْدَاءُ اللّه ما مِنْ شَيْءٍ كانَ فِـي الـجَاهِلـيةِ إلاّ وَهُوَ تَـحْتَ قَدَمَيّ، إلاّ الأمانَةَ فإنّهَا مُؤَدّاة إلـى البَرّ والفـاجِرِ).

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام بن عبـيد اللّه ، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما قالت الـيهود: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} يعنون أخذ أموالهم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه قال: (إلاّ وَهُوَ تَـحْتَ قَدَمَيّ هَاتَـيْنِ، إلاّ الأمانَةَ فَإنّها مُؤَدّاة) ولـم يزد علـى ذلك.

٥٨٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: لـيس علـينا جناح فـيـما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أميون، فذلك قوله: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.. إلـى آخر الاَية.

وقال آخرون فـي ذلك ما:

٥٨٧٣ـ حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {ذَلِكَ بأنّهُمْ قالُوا لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} قال: بـايع الـيهود رجال من الـمسلـمين فـي الـجاهلـية فلـما أسلـموا تقاضوهم ثمن بـيوعهم،

فقالوا: لـيس لكم علـينا أمانة، ولا قضاء لكم عندنا، لأنكم تركتـم دينكم الذي كنتـم علـيه، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك فـي كتابهم، فقال اللّه عزّ وجلّ: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}.

٥٨٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن صعصعة، قال: قلت لابن عبـاس : إنا نغزو أهل الكتاب، فنصيب من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهل الكتاب: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.

٥٨٧٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبـي إسحاق الهمدانـي، عن صعصعة: أن رجلاً سأل ابن عبـاس فقال: إنا نصيب فـي الغزو ـ أو العذق، الشكّ من الـحسن ـ من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة،

فقال ابن عبـاس : فتقولون ماذا؟ قال نقول: لـيس علـينا بذلك بأس

قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ} إنهم إذا أدّوا الـجزية لـم تـحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن القائلـين منهم لـيس علـينا فـي أموال الأميـين من العرب حرج أن نـختانهم إياه، يقولون ـ بقـيـلهم: إن اللّه أحلّ لنا ذلك، فلا حرج علـينا فـي خيانتهم إياه، وترك قضائهم ـ الكذبَ علـى اللّه عامدين الإثم بقـيـل الكذب علـى اللّه أنه أحلّ ذلك لهم، وذلك قوله عزّ وجلّ: {وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}. كما:

٥٨٧٦ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: فـيقول علـى اللّه الكذب، وهو يعلـم، يعنـي الذي يقول منهم إذا

قـيـل له: ما لك لا تؤدّي أمانتك؟ لـيس علـينا حرج فـي أموال العرب، قد أحلها اللّه لنا.

٥٨٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَيَقُولُونَ علـى اللّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَـمُونَ}: يعنـي ادّعاءهم أنهم وجدوا فـي كتابهم قولهم: {لَـيْسَ عَلَـيْنَا فِـي الأُمّيّـينَ سَبِـيـلٌ}.

﴿ ٧٥