٧٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين يستبدلون بتركهم عهد اللّه الذي عهد إلـيهم، ووصيته التـي أوصاهم بها فـي الكتب التـي أنزلها اللّه إلـى أنبـيائه بـاتبـاع مـحمد وتصديقه، والإقرار به، وما جاء به من عند اللّه وبأيـمانهم الكاذبة التـي يستـحلون بها ما حرّم اللّه علـيهم من أموال الناس التـي اؤتـمنوا علـيها ثمنا، يعنـي عوضا وبدلاً خسيسا من عرض الدنـيا وحطامها. {أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ}

يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظّ لهم فـي خيرات الاَخرة، ولا نصيب لهم من نعيـم الـجنة، وما أعدّ اللّه لأهلها فـيها. دون غيرهم.

وقد بـينا اختلاف أهل التأويـل فـيـما مضى فـي معنى الـخلاق، ودللنا علـى أولـى أقوالهم فـي ذلك بـالصواب بـما فـيه الكفـاية.

وأما قوله: {وَلا يُكَلّـمُهُمُ اللّه } فإنه يعنـي: ولا يكلـمهم اللّه بـما يسرّهم ولا ينظر إلـيهم،

يقول: ولا يعطف علـيهم بخير مقتا من اللّه لهم كقول القائل لاَخر: انظر إلـيّ نظر اللّه إلـيك، بـمعنى:تعطف علـيّ تعطف اللّه علـيك بخير ورحمة، وكما يقال للرجل: لا سمع اللّه لك دعاءك، يراد: لا استـجاب اللّه لك، واللّه لا يخفـى علـيه خافـية، وكما قال الشاعر:

دَعَوْتُ اللّه حتـى خِفْتُ أنْ لا

يَكُونَ اللّه يَسْمَعُ ما أقُولُ

وقوله {وَلا يُزَكّيهِمْ} يعنـي: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ} يعنـي: ولهم عذاب موجع.

واختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله أنزلت هذه الاَية، ومن عنـي بها؟

فقال بعضهم: نزلت فـي أحبـار من أحبـار الـيهود. ذكر من قال ذلك:

٥٨٧٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: نزلت هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأيْـمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً} فـي أبـي رافع وكنانة بن أبـي الـحقـيق وكعب بن الأشرف وحيـي بن أخطب.

وقال آخرون: بل نزلت فـي الأشعث بن قـيس وخصم له. ذكر من قال ذلك:

٥٨٨٠ـ حدثنـي أبو السائب سلـم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبـي وائل، عن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَـى يَـمِينٍ هُوَ فِـيها فـاجِرٌ لِـيَقْتَطِعَ بِها مالَ امْرِىءٍ مُسْلِـمٍ، لَقِـيَ اللّه وَهُوَ عَلَـيْهِ غَضْبـانُ) فقال الأشعث بن قـيس: فـيّ واللّه كان ذلك، كان بـينـي وبـين رجل من الـيهود أرض، فجحدنـي، فقدمته إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألَكَ بَـيّنَةً)؟ قلت: لا، فقال للـيهوديّ: (احْلِفْ)! قلت: يا رسول اللّه إذَنْ يحلف فـيذهب مالـي، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأيْـمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً} الاَية.

٥٨٨١ـ حدثنا مـجاهد بن موسى قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا جرير بن حازم عن عديّ بن عديّ، عن رجاء بن حيوة والعُرْس، أنهما حدثاه، عن أبـيه عديّ بن عميرة، قال: كان بـين امرىء القـيس ورجل من حضرموت خصومة، فـارتفعا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال للـحضرمي: (بَـيّنَتَكَ وَإلاّ فَـيَـمِينُهُ!) قال: يا رسول اللّه إن حلف ذهب بأرضي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلـى يَـمِينٍ كَاذِبَةٍ لـيَقْتَطِعَ بِها حَقّ أخِيهِ لَقِـيَ اللّه وَهُوَ عَلَـيْهِ غَضْبـانُ). فقال امرؤ القـيس: يا رسول اللّه ، فما لـمن تركها وهو يعلـم أنها حقّ؟ قال: (الـجنّة)، قال: فإنـي أشهدك أنـي قد تركتها. قال جرير: فكنت مع أيوب السختـيانـي حين سمعنا هذا الـحديث من عديّ، فقال أيوب: إنّ عديا قال فـي حديث العرس بن عميرة: فنزلت هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانَهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. إلـى آخر الاَية، قال جرير: ولـم أحفظ يومئذ من عديّ.

٥٨٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قال آخرون: إن الأشعث بن قـيس اختصم هو ورجل إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي أرض كانت فـي يده لذلك الرجل أخذها لتعزّزه فـي الـجاهلـية، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أقِمْ بَـيّنَتَكَ!) قال الرجل: لـيس يشهد لـي أحد علـى الأشعث

قال: (فَلَكَ يَـمِينُهُ). فقام الأشعث لـيحلف، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الاَية، فنكل الأشعث وقال: إنـي أشهد اللّه وأشهدكم أن خصمي صادق. فردّ إلـيه أرضه، وزاده من أرض نفسه زيادة كثـيرة، مخافة أن يبقـى فـي يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن شقـيق، عن عبد اللّه ، قال: من حلف علـى يـمين يستـحقّ بها مالاً هو فـيها فـاجر لقـي اللّه وهو علـيه غضبـان، ثم أنزل اللّه تصديق ذلك: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأَيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً} الاَية... ثم إن الأشعث بن قـيس خرج إلـينا،

فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بـما قال،

فقال: صدق لفـيّ أنزلت، كانت بـينـي وبـين رجل خصومة فـي بئر، فـاختصمنا إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (شاهِدَاكَ أوْ يَـمِينُهُ!) فقلت: إذا يحلف ولا يبـالـي. فقال النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ حَلَفَ عَلَـى يَـمِينٍ يَسْتَـحِقّ بِها مالاً هُوَ فِـيها فـاجِرٌ لَقِـيَ اللّه وَهُوَ عَلَـيْهِ غَضْبـانُ)، ثم أنزل اللّه عزّ وجلّ تصديق ذلك: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. الاَية.

وقال آخرون بـما:

٥٨٨٣ـ حدثنا به مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنـي داود بن أبـي هند، عن عامر: أن رجلاً أقام سلعته أوّل النهار، فلـما كان آخره جاء رجل يساومه، فحلف لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا الـمساء ما بـاعها به، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذِي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.

٥٨٨٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن رجل، عن مـجاهد، نـحوه.

٥٨٨٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. الاَية، إلـى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ} أنزلهم اللّه بـمنزلة السحرة.

٥٨٨٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن عمران بن حصين كان

يقول: من حلف علـى يـمين فـاجرة يقتطع بها مال أخيه فلـيتبوأ مقعده من النار، فقال له قائل: شيء سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتـجدون ذلك، ثم قرأ هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.. الاَية.

٥٨٨٧ـ حدثنـي موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا حسين بن علـيّ، عن زائدة، عن هشام، قال: قال مـحمد عن عمران بن حصين: من حلف علـى يـمين مصبورة فلـيتبوأ بوجهه مقعده من النار، ثم قرأ هذه الاَية كلها: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.

٥٨٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، قال: إن الـيـمين الفـاجرة من الكبـائر، ثم تلا: {إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وأيْـمانِهِمْ ثَمَنا قَلِـيلاً}.

٥٨٨٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد اللّه بن مسعود، كان

يقول: كنا نرى ونـحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن من الذنب الذي لا يغفر يـمين الصبر إذا فجر فـيها صاحبها.

﴿ ٧٧