٨٣القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ ...} اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الحجاز من مكة والمدينة وقراء الكوفة: (أفغير دين اللّه تبغون)، (وإليه ترجعون)، على وجه الخطاب. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز: {أَفَغَيْرِ دِينِ اللّه يَبْغُون... وَإِلَـيْهِ يُرْجَعُونَ} بـالـياء كلتـيهما علـى وجه الـخبر عن الغائب. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: {أَفَغَيْر دِينِ اللّه يَبْغُونَ} علـى وجه الـخبر عن الغائب، (وإلـيه تُرجعون) بـالتاء، علـى وجه الـمخاطبة. وأولـى ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: (أفَعَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ) علـى وجه الـخطاب (وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ) بـالتاء، لأن الاَية التـي قبلها خطاب لهم، فإتبـاع الـخطاب نظيره أولـى من صرف الكلام إلـى غير نظيره، وإن كان الوجه الاَخر جائزا لـما قد ذكرنا فـيـما مضى قبل من أن الـحكاية يخرج الكلام معها أحيانا علـى الـخطاب كله، وأحيانا علـى وجه الـخبر عن الغائب، وأحيانا بعضه علـى الـخطاب، وبعضه علـى الغيبة، فقوله: (تَبْغُونَ... وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ) فـي هذه الاَية من ذلك. وتأويـل الكلام: يا معشر أهل الكتاب: (أفَغَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ) يقول: أفغير طاعة اللّه تلتـمسون وتريدون {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} يقول: وله خشع من فـي السموات والأرض، فخضع له بـالعبودية، وأقرّ له بإفراد الربوبـية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية {طَوْعا وكَرْها} يقول: أسلـم لله طائعا، من كان إسلامه منهم له طائعا، وذلك كالـملائكة والأنبـياء والـمرسلـين، فإنهم أسلـموا لله طائعين، وكرها من كان منهم كارها. واختلف أهل التأويـل فـي معنى إسلام الكاره الإسلام، وصفته، فقال بعضهم: إسلامه: إقراره بأن اللّه خالقه وربه، وإن أشرك معه فـي العبـادة غيره. ذكر من قال ذلك: ٥٩٢٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ} قال: هو كقوله: {وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَـيَقُولُنّ اللّه }. حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، مثله. ٥٩٢٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: كل آدميّ قد أقرّ علـى نفسه بأن اللّه ربـي وأنا عبده، فمن أشرك فـي عبـادته فهذا الذي أسلـم كرها، ومن أخـلص له العبودية فهو الذي أسلـم طوعا. وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ منه الـميثاق، فأقرّ به. ذكر من قال ذلك: ٥٩٣٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان، عن الأعمش، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس : {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها} قال: حين أخذ الـميثاق. وقال آخرون: عنى بإسلام الكاره منهم: سجود ظله. ذكر من قال ذلك: ٥٩٣١ـ حدثنا سوَار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن لـيث، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها} قال: الطائع: الـمؤمن، وكرها: ظل الكافر. حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد فـي قوله: {طَوْعا وكَرْها} قال: سجود الـمؤمن طائعا، وسجود الكافر وهو كاره. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {كَرْها} قال: سجود الـمؤمن طائعا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره. ٥٩٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد، قال: سجود وجهه وظله طائعا. وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه فـي مشيئة اللّه واستقادته لأمره، وإن أنكر ألوهته بلسانه. ذكر من قال ذلك: ٥٩٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ} قال: استقاد كلهم له. وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلـم من الناس كرها حذر السيف علـى نفسه. ذكر من قال ذلك: ٥٩٣٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها}.. الاَية كلها، فقال: أكره أقوام علـى الإسلام، وجاء أقوام طائعين. ٥٩٣٥ـ حدثنـي الـحسن بن قزعة البـاهلـي، قال: حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول اللّه عز وجل: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ} قال: الـملائكة طوعا، والأنصار طوعا، وبنو سلـيـم وعبد القـيس طوعا، والناس كلهم كرها. وقال آخرون: معنى ذلك أن أهل الإيـمان أسلـموا طوعا، وأن الكافر أسلـم فـي حال الـمعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها. ذكر من قال ذلك: ٥٩٣٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (أفَغَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ)... الاَية، فأما الـمؤمن فأسلـم طائعا، فنفعه ذلك، وقبل منه¹ وأما الكافر فأسلـم كارها، حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها} قال: أما الـمؤمن فأسلـم طائعا، وأما الكافر فأسلـم حين رأى بأس اللّه {فَلَـمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيـمَانُهُمْ لـمّا رَأَوْا بَـأْسَنَا}. وقال آخرون: معنى ذلك: فـي عبـادة الـخـلق لله عزّ وجل. ذكر من قال ذلك: ٥٩٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: (أفَغَيْرَ دِينِ اللّه تَبْغُونَ وَلَهُ أسْلَـمَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وَكَرْها) قال: عبـادتهم لـي أجمعين طوعا وكرها، وهوقوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها}. وأما قوله: (وَإِلَـيْهِ تُرْجَعُونَ) فإنه يعنـي: وإلـيه يا معشر من يبتغي غير الإسلام دينا من الـيهود والنصارى! وسائر الناس. (ترجعون) يقول: إلـيه تصيرون بعد مـماتكم، فمـجازيكم بأعمالكم، الـمـحسن منكم بإحسانه، والـمسيء بإساءته. وهذا من اللّه عزّ وجلّ تـحذير خـلقه أن يرجع إلـيه أحد منهم، فـيصير إلـيه بعد وفـاته علـى غير ملة الإسلام. |
﴿ ٨٣ ﴾