٩٠القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ...} اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: عنى اللّه عزّ وجلّ بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا} أي ببعض أنبـيائه الذين بعثوا قبل مـحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد إيـمانهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} بكفرهم بـمـحمد. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} عند حضور الـموت وحشرجته بنفسه. ذكر من قال ذلك: ٥٩٥١ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد بن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} قال: الـيهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الـموت. ٥٩٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} أولئك أعداء اللّه الـيهود، كفروا بـالإنـجيـل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم والفرقان. ٥٩٥٣ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: ازدادوا كفرا حتـى حضرهم الـموت، فلـم تقبل توبتهم حين حضرهم الـموت. قال معمر: وقال مثل ذلك عطاء الـخراسانـي. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن قتادة، قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} وقال: هم الـيهود كفروا بـالإنـجيـل، ثم ازدادوا كفرا حين بعث اللّه مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، فأنكروه، وكذّبوا به. وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بـمـحمد بعد إيـمانهم بأنبـيائهم، {ثمّ ازدَادُوا كُفْرا}: يعنـي ذنوبـا، {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من ذنوبهم، وهم علـى الكفر مقـيـمون. ذكر من قال ذلك: ٥٩٥٤ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفـيع: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} ازدادوا ذنوبـا وهم كفـار، {فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من تلك الذنوب ما كانوا علـى كفرهم وضلالتهم. ٥٩٥٥ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، قال: سألت أبـا العالـية، قال: قلت: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؟ قال: إنـما هم هؤلاء النصارى والـيهود الذين كفروا ثم ازدادوا كفرا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها فـي كفرهم. حدثنا عبد الـحميد بن بـيان الـيشكري، قال: أخبرنا ابن أبـي عديّ، عن داود، قال: سألت أبـا العالـية عن الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نـحوا منه. حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، قال: سألت أبـا العالـية عن هذه الاَية: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيـمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} قال: هم الـيهود والنصارى والـمـجوس، أصابوا ذنوبـا فـي كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، ألا ترى أنه يقول: {وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ}؟ ٥٩٥٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن داود، عن أبـي العالـية فـي قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال: تابوا من بعض، ولـم يتوبوا من الأصل. حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن داود بن أبـي هند، عن أبـي العالـية، قوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيْـمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: هم الـيهود والنصارى يصيبون الذنوب فـيقولون نتوب وهم مشركون، قال اللّه عزّ وجلّ: لن تقبل التوبة فـي الضلالة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيـمانهم بأنبـيائهم، ثم ازدادوا كفرا، يعنـي بزيادتهم الكفر: تـمامهم علـيه حتـى هلكوا وهم علـيه مقـيـمون، لن تقبل توبتهم: لن تنفعهم توبتهم الأولـى، وإيـمانهم لكفرهم الاَخر وموتهم. ذكر من قال ذلك: ٥٩٥٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: تـمّوا علـى كفرهم. قال ابن جريج: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} يقول: إيـمانهم أوّل مرّة لن ينفعهم. وقال آخرون: معنى قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} ماتوا كفـارا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. و قالوا: معنى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: لن تقبل توبتهم عند موتهم ذكر من قال ذلك: ٥٩٥٨ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيـمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} أما ازدادوا كفرا: فماتوا وهم كفـار، وأما لن تقبل توبتهم: فعند موته إذا تاب لـم تقبل توبته. قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل هذه الاَية قول من قال: عنى بها الـيهودَ، وأن يكون تأويـله: إن الذين كفروا من الـيهود بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم عند مبعثه بعد إيـمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بـما أصابوا من الذنوب فـي كفرهم ومقامهم علـى ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التـي أصابوها فـي كفرهم، حتـى يتوبوا من كفرهم بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند اللّه . وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال فـي هذه الاَية بـالصواب، لأن الاَيات قبلها وبعدها فـيهم نزلت، فأولـى أن تكون هي فـي معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت فـي سياق واحد. وإنـما قلنا: معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا فـي كفرهم من الـمعاصي، لأنه جل ثناؤه قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} فكان معلوما أن معنى قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إنـما هو معنـيّ به: لن تقبل توبتهم مـما ازدادوا من الكفر علـى كفرهم بعد إيـمانهم، لا من كفرهم، لأن اللّه تعالـى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عبـاده، فقال: {وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَـادِهِ} فمـحال أن يقول عزّ وجلّ أقبل، ولا أقبل فـي شيء واحد. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من حكم اللّه فـي عبـاده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيـمان أحد تلك الذنوب التـي وعد قبول التوبة منها بقوله: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَـحُوا فَـإِنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيـمٌ} علـم أن الـمعنى الذي لا تقبل التوبة منه، غير الـمعنى الذي تقبل التوبة منه. وإذ كان ذلك كذلك، فـالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد علـى الكفر بعد الكفر، لا يقبل اللّه توبة صاحبه ما أقام علـى كفره، لأن اللّه لا يقبل من مشرك عملاً ما أقام علـى شركه وضلاله، فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلـح، فإن اللّه كما وصف به نفسه، غفور رحيـم. فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون معنى ذلك، كما قال من قال: فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله، أو توبته الأولـى؟ قـيـل: أنكرنا ذلك لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا فـي حال حياته، فأما بعد مـماته فلا توبة، وقد وعد اللّه عزّ وجلّ عبـاده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم فـي أجسادهم، ولا خلاف بـين جميع الـحجة فـي أن كافرا لو أسلـم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم الـمسلـمين فـي الصلاة علـيه والـموارثة، وسائر الأحكام غيرها، فكان معلوما بذلك أن توبته فـي تلك الـحال لو كانت غير مقبولة، لـم ينتقل حكمه من حكم الكفـار إلـى حكم أهل الإسلام، ولا منزلة بـين الـموت والـحياة يجوز أن يقال لا يقبل اللّه فـيها توبة الكافر، فإذا صحّ أنها فـي حال حياته مقبولة، ولا سبـيـل بعد الـمـمات إلـيها، بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل. وأما قول من زعم أن معنى ذلك التوبة التـي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن اللّه عزّ وجلّ لـم يوصف القوم بإيـمان كان منهم بعد كفر، ثم كفر بعد إيـمان، بل إنـما وصفهم بكفر بعد إيـمان، فلـم يتقدم ذلك الإيـمان كفر كان للإيـمان لهم توبة منه، فـيكون تأويـل ذلك علـى ما تأوله قائل ذلك، وتأويـل القرآن علـى ما كان موجودا فـي ظاهر التلاوة إذا لـم تكن حجة تدلّ علـى بـاطن خاصّ أولـى من غيره وإن أمكن توجيهه إلـى غيره. وأما قوله: {وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ} فإنه يعنـي بذلك: وهؤلاء الذين كفروا بعد إيـمانهم، ثم ازدادوا كفرا، هم الذين ضلوا سبـيـل الـحقّ، فأخطئوا منهجه، وتركوا مَنْصَفَ السبـيـل وهدى اللّه الدين، حيرةً منهم وعَمًى عنه. وقد بـينا فـيـما مضى معنى الضلال بـما فـيه الكفـاية. |
﴿ ٩٠ ﴾