٩١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ ...}

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {إنّ الذينَ كفرُوا} أي جحدوا نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ولـم يصدّقوا به، وبـما جاء به من عند اللّه من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومـجوسها وغيرهم. {وَماتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ} يعنـي: وماتوا علـى ذلك من جحود نبوّته، وجحود ما جاء به. {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبـا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}

يقول: فلن يقبل مـمن كان بهذه الصفة فـي الاَخرة جزاء ولا رشوة علـى ترك عقوبته علـى كفره، ولا جعل علـى العفو عنه، ولو كان له من الذهب قدر ما يـملأ الأرض من مشرقها إلـى مغربها، فَرَشَا وجزى علـى ترك عقوبته وفـي العفو عنه علـى كفره عوضا مـما اللّه مـحلّ به من عذابه، لأن الرّشا إنـما يقبلها من كان ذا حاجة إلـى ما رُشي، فأما من له الدنـيا والاَخرة، فكيف يقبل الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره؟ وقد بـينا أن معنى الفدية¹ العوض والـجزاء من الـمفتدى منه بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. ثم أخبر عزّ وجلّ عما لهم عنده،

فقال: {أولَئِكَ} يعنـي: هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفـار، {لهم عَذَابٌ ألِـيـمٌ}

يقول: لهم عند اللّه فـي الاَخرة عذاب موجع، {وما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يعنـي: وما لهم من قريب ولا حميـم ولا صديق ينصره، فـيستنقذه من اللّه ومن عذابه، كما كانوا ينصرونه فـي الدنـيا علـى من حاول أذاه ومكروهه. وقد:

٥٩٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (يُجاءُ بـالكافر يَوْمَ القِـيامَةِ فـيُقالُ لَهُ: أرأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبـا، أكُنْتَ مُفْتَدِيا بِهِ؟ فَـيَقُولُ نَعَمْ، قال: فَـيُقالُ لَقَدْ سُئِلْتَ ما هُوَ أيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ)، فذلك قوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ فَلَنْ يُقَبْلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبـا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}.

٥٩٦٠ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن، قوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّـارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبـا} قال: هو كل كافر.

ونصب قوله (ذهبـا) علـى الـخروج من الـمقدار الذي قبله والتفسير منه، وهوقوله: (ملء الأرض)، كقول القائل: عندي قدر زقّ سمنا وقدر رطل عسلاً، فـالعسل مبـين به ما ذكر من الـمقدار، وهو نكرة منصوبة علـى التفسير للـمقدار والـخروج منه.

وأما نـحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب الذهب لاشتغال الـملء بـالأرض، ومـجيء الذهب بعدهما، فصار نصبها نظير نصب الـحال، وذلك أن الـحال يجيء بعد فعل قد شغل بفـاعله فـينصب، كما ينصب الـمفعول الذي يأتـي بعد الفعل الذي قد شغل بفـاعله،

قالوا: ونظير قوله: {مِلْءُ الأرْض ذَهَبـا} فـي نصب الذهب فـي الكلام: لـي مثلك رجلاً، بـمعنى: لـي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بـالاسم، فنصب كما ينصب الـمفعول به لاشتغال الفعل بـالفـاعل، وأدخـلت الواو فـي قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} لـمـحذوف من الكلام بعده دلّ علـيه دخول الواو، كالواو فـي قوله: {وَلِـيَكُونَ مِنَ الـمُوقِنِـينَ}. وتأويـل الكلام: ولـيكون من الـموقنـين، أريناه ملكوت السموات والأرض، فكذلك ذلك فـي قوله: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}، ولو لـم يكن فـي الكلام واو، لكان الكلام صحيحا، ولـم يكن هنالك متروك وكان: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبـا لو افتدى به.

﴿ ٩١