٩٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ...}

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه قراء الأمصار: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} علـى جماع آية، بـمعنى: فـيه علامات بـينات. وقرأ ذلك ابن عبـاس : (فـيه آية بـينة) يعنـي بها: مقام إبراهيـم، يراد بها علامة واحدة.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} وما تلك الاَيات.

فقال بعضهم: مقام إبراهيـم والـمشعر الـحرام، ونـحو ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٠١١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ}: مقام إبراهيـم، والـمشعر.

٦٠١٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ومـجاهد: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} قالا: مقام إبراهيـم من الاَيات البـينات.

وقال آخرون: الاَيات البـينات {مَقَام إبرَاهيـم وَمن دَخَـلَهُ كانَ آمِنا}. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٣ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} قال: {مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا}.

وقال آخرون: الاَيات البـينات: هو مقام إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} أما الاَيات البـينات: فمقام إبراهيـم.

وأما الذين قرءوا ذلك: {فـيه آية بـينة} علـى التوحيد، فإنهم عنوا بـالاَية البـينة: مقام إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٥ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} قال: قَدَماه فـي الـمقام آية بـينة.

يقول: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} قال: هذا شيء آخر.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن لـيث، عن مـجاهد {فِـيهِ آيَةٌ بَـيّنَةٌ مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} قال: أثر قدميه فـي الـمقام آية بـينة.

وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب، قول من قال: الاَيات البـينات منهن مقام إبراهيـم، وهو قول قتادة ومـجاهد الذي رواه معمر عنهما، فـيكون الكلام مرادا فـيهن (منهنّ)، فترك ذكره اكتفـاءً بدلالة الكلام علـيها.

فإن قال قائل: فهذا الـمقام من الاَيات البـينات، فما سائر الاَيات التـي من أجلها

قـيـل: {آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ}؟

قـيـل: منهنّ: الـمقام، ومنهنّ الـحِجر، ومنهنّ الـحطيـم، وأصحّ القراءتـين فـي ذلك قراءة من قرأ {فِـيهِ آيَاتٌ بَـيّنَاتٌ} علـى الـجماع، لإجماع قراء أمصار الـمسلـمين علـى أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.

وأما اختلاف أهل التأويـل فـي تأويـل: {مَقَامُ إبْرَاهِيـمَ} فقد ذكرناه فـي سورة البقرة، وبـينا أولـى الأقوال بـالصواب فـيه هنالك، وأنه عندنا: الـمقام الـمعروف به.

فتأويـل الاَية إذا: إن أوّل بـيت وضع للناس مبـاركا وهدًى للعالـمين، للذي ببكة، فـيه علامات من قدرة اللّه وآثار خـلـيـله إبراهيـم منهن أثر قدم خـلـيـله إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم فـي الـحجَر الذي قام علـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا}.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: تأويـله الـخبر عن أن كلّ من جرّ فـي الـجاهلـية جريرة ثم عاذ بـالبـيت لـم يكن يها مأخوذا. ذكر من قال ذلك:

٦٠١٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} وهذا كان فـي الـجاهلـية، كان الرجل لو جرّ كل جريرة علـى نفسه ثم ألـجأ إلـى حرم اللّه ، لـم يتناول ولـم يطلب¹ فأما فـي الإسلام، فإنه لا يـمنع من حدود اللّه ، من سرق فـيه قُطع، ومن زنى فـيه أقـيـم علـيه الـحدّ، من قتل فـيه قُتل، وعن قتادة أن الـحسن كان

يقول: إن الـحرم لا يـمنع من حدود اللّه ، لو أصاب حدّا فـي غير الـحرم فلـجأ إلـى الـحرم ولـم يـمنعه ذلك أن يقام علـيه الـحدّ، ورأى قتادة ما قاله الـحسن.

٦٠١٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} قال: كان ذلك فـي الـجاهلـية، فأما الـيوم فإن سرق فـيه أحد قطع، وإن قتل فـيه قتل، ولو قدر فـيه علـى الـمشركين قُتلوا.

٦٠١٨ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، قال: حدثنا خصيف، عن مـجاهد فـي الرجل يقتل، ثم يدخـل الـحرم، قال: يؤخذ فـيخرج من الـحرم، ثم يقام علـيه الـحدّ.

يقول: القتل.

٦٠١٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مـجاهد.

٦٠٢٠ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الـحسن وعطاء فـي الرجل يصيب الـحدّ، ويـلـجأ إلـى الـحرم: يخرج من الـحرم فـيقام علـيه الـحد.

فتأويـل الاَية علـى قول هؤلاء: فـيه آيات بـينات مقام إبراهيـم، والذي دخـله من الناس كان آمنا بها فـي الـجاهلـية.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يدخـله يكن آمنا بها، بـمعنى الـجزاء، كنـحو قول القائل: من قام لـي أكرمته: بـمعنى من يقم لـي أكرمه. و

قالوا: هذا أمر كان فـي الـجاهلـية، كان الـحرم مفزع كل خائف، وملـجأ كلّ جانٍ، لأنه لـم يكن يُهاج له ذو جريرة، ولا يعرض الرجل فـيه لقاتل أبـيه وابنه بسوء.

قالوا: وكذلك هو فـي الإسلام، لأن الإسلام زاده تعظيـما وتكريـما. ذكر من قال ذلك:

٦٠٢١ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الـملك بن أبـي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا خصيف، قال حدثنا مـجاهد، قال:

قال ابن عبـاس : إذا أصاب الرجل الـحدّ قَتل أو سَرق، فدخـل الـحرم، ولـم يبـايع ولـم يؤو حتـى يتبرّم فـيخرج من الـحرم، فـيقام علـيه الـحدّ

قال: فقلت لابن عبـاس : ولكنـي لا أرى ذلك، أرى أن يؤخذ برْمّته، ثم يخرج من الـحرم، فـيقام علـيه الـحدّ، فإن الـحرم لا يزيده إلا شدة.

٦٠٢٢ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا عبد الـملك، عن عطاء، قال: أخذ ابن الزبـير سعدا مولـى معاوية، وكان فـي قلعة بـالطائف، فأرسل إلـى ابن عبـاس من يشاوره فـيهم، إنهم لنا عين، فأرسل إلـيه، ابن عبـاس : لو وجت قاتل أبـي لـم أعرض له

قال: فأرسل إلـيه، ابن الزبـير: ألا نـخرجهم من الـحرم؟ قال: فأرسل إلـيه ابن عبـاس : أفلا قبل أن تدخـلهم الـحرم؟ زاد أبو السائب فـي حديثه فأخرجه فصلبهم، ولـم يصغ إلـى قول ابن عبـاس .

٦٠٢٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس ، قال: من أحدث حدثا فـي غير الـحرم ثم لـجأ إلـى الـحرم ولـم يعرض له ولـم يبـايع ولـم يكلـم ولـم يؤو حتـى يخرج من الـحرم، فإذا خرج من الـحرم أُخذ فأقـيـم علـيه الـحدّ

قال: ومن أحدث فـي الـحرم حدثا أقـيـم علـيه الـحدّ.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن نصر السلـمي، عن ابن أبـي حبـيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عبـاس أنه قال: من أحدث حدثا ثم استـجار بـالبـيت فهو آمن، ولـيس للـمسلـمين أن يعاقبوه علـى شيء إلـى أن يخرج، فإذا خرج أقاموا علـيه الـحدّ.

٦٠٢٤ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: لو وجدت قاتل عمر فـي الـحرم ما هِجْتُه.

٦٠٢٥ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا لـيث، عن عطاء: أن الولـيد بن عتبة أراد أن يقـيـم الـحدّ فـي الـحرم، فقال له عبـيد بن عمير: لا تقم علـيه الـحدّ فـي الـحرم إلا أن يكون أصابه فـيه.

٦٠٢٦ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مطرف، عن عامر، قال: إذا أصاب الـحدّ، ثم هرب إلـى الـحرم، فقد أمن، فإذا أصابه فـي الـحرم أقـيـم علـيه الـحد فـي الـحرم.

٦٠٢٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن فراس، عن الشعبـي، قال: من أصاب حدا فـي الـحرم ومن أصابه خارجا من الـحرم ثم دخـل الـحرم، لـم يكلـم ولـم يبـايع حتـى يخرج من الـحرم، فـيقام علـيه.

٦٠٢٨ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، وعن عبد الـملك، عن عطاء بن أبـي ربـاح فـي الرجل يقتل، ثم يدخـل الـحرم، قال: لا يبـيعه أهل مكة، ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه، ولا يؤوونه ـ عدّ أشياء كثـيرة ـ حتـى يخرج من الـحرم، فـيؤخذ بذنبه.

٦٠٢٩ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير عن ابن عبـاس : أن الرجل إذا أصاب حدّا ثم دخـل الـحرم أنه لا يطعم، ولا يسقـى، ولا يؤوى، ولا يكلـم، ولا ينكح، ولا يبـايع، فإذا خرج منه أقـيـم علـيه الـحدّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي حجاج، قال: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس ، قال: إذا أحدث الرجل حدثا، ثم دخـل الـحرم، لـم يؤو، ولـم يجالس، ولـم يبـايع، ولـم يطعم، ولـم يسق، حتـى يخرج من الـحرم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، مثله.

٦٠٣٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا}: فلو أن رجلاً قتل رجلاً، ثم أتـى الكعبة فعاذ بها، ثم لقـيه أخو الـمقتول لـم يحلّ له أبدا أن يقتله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخـله يكن آمنا من النار. ذكر من قال ذلك:

٦٠٣١ـ حدثنا علـيّ بن مسلـم، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا رزيق بن مسلـم الـمخزومي، قال: حدثنا زياد ابن أبـي عياض، عن يحيـى بن جعدة، فـي قوله: {وَمَنْ دَخَـلَهُ كَانَ آمِنا} قال: آمنا من النار.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب، قول ابن الزبـير ومـجاهد والـحسن، ومن قال معنى ذلك: ومن دخـله من غيره مـمن لـجأ إلـيه عائذا به كان آمنا ما كان فـيه، ولكنه يخرج منه فـيقام عيه الـحدّ إن كان أصاب ما يستوجبه فـي غيره ثم لـجأ إلـيه، وإن كان أصابه فـيه أقـيـم علـيه فـيه.

فتأويـل الاَية إذا: فـيه آيات بـينات مقام إبراهيـم، ومن يدخـله من الناس مستـجيرا به يكن آمنا مـما استـجار منه ما كان فـيه، حتـى يخرج منه.

فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الـحدّ علـيه فـيه؟

قـيـل: لاتفـاق جميع السلف علـى أن من كانت جريرته فـي غيره ثم عاذ به، فإنه لا يؤخذ بجريرته فـيه.

وإنـما اختلفوا فـي صفة إخراجه منه لأخذه بها،

فقال بعضهم: صفة ذلك منعه الـمعانـي التـي يضطر مع منعه وفقده إلـى الـخروج منه.

وقال آخرون: لا صفة لذلك غير إخراجه منه بـما أمكن إخراجه من الـمعانـي التـي توصل إلـى إقامة حدّ اللّه معها، فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الـحدّ علـيه فـيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الـحدّ فـيه، فإنه لا خلاف بـين الـجميع فـي أنه يقام علـيه فـيه الـحدّ، فكلتا الـمسألتـين أصل مـجمع علـى حكمها علـى ما وصفنا.

فإن قال لنا قائل: وما دلالتك علـى أن إخراج العائذ بـالبـيت إذا أتاه مستـجيرا به من جريرة جرّها أو من حدّ أصابه من الـحرم جائز لإقامة الـحدّ علـيه وأخذه بـالـجريرة، وقد أقررت بأن اللّه عزّ وجلّ قد جعل من دخـله آمنا، ومعنى الاَمن غير معنى الـخائف، فـيـما هما فـيه مختلفـان؟

قـيـل: قلنا ذلك لإجماع الـجميع من الـمتقدمين والـمتأخرين من علـماء الأمة، علـى أن إخراج العائذ به من جريرة أصابها أو فـاحشة أتاها وجبت علـيه به عقوبة منه ببعض معانـي الإخراج لأخذه بـما لزمه، واجبٌ علـى إمام الـمسلـمين وأهل الإسلام معه.

وإنـما اختلفوا فـي السبب الذي يخرج به منه،

فقال بعضهم: السبب الذي يجوز إخراجه به منه ترك جميع الـمسلـمين مبـايعته وإطعامه وسقـيه وإيواءة وكلامه وما أشبه ذلك من الـمعانـي التـي لا قرار للعائذ به فـيه مع بعضها، فكيف مع جميعها؟

وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة واجب بكل معانـي الإخراج. فلـما كان إجماعا من الـجميع علـى أن حكم اللّه ـ فـيـمن عاذ بـالبـيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها ـ إخراجه منه لإقامة ما فرض اللّه علـى الـمؤمنـين إقامته علـيه، ثم اختلفوا فـي السبب الذي يجوز إخراجه به منه كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه حتـى يقـيـموا علـيه الـحدّ الذي لزمه خارجا منه إذا كان لـجأ إلـيه من خارج علـى ما قد بـينا قبل.

وبعد: فإن اللّه عزّ وجلّ لـم يضع حدا من حدوده عن أحد من خـلقه من أجل بقعة وموضع صار إلـيها من لزمه ذلك. وقد تظاهرت الأخبـار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إنّـي حَرّمْتُ الـمَدِينَةَ كَمَا حَرّمَ إبْرَاهِيـمَ مَكّةَ). ولا خلاف بـين جميع الأمة أن عائذا لو عاذ من عقوبة لزمته بحرم النبـي صلى اللّه عليه وسلميؤاخذ بـالعقوبة فـيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف علـى أن حرم إبراهيـم لا يقام فـيه علـى من عاذ به من عقوبة لزمته حتـى يخرج منه ما لزمه، لكان أحقّ البقاع أن تؤدى فـيه فرائض اللّه التـي ألزمها عبـاده من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلـى اللّه كحرم اللّه وحرم رسوله صلى اللّه عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حرم اللّه لإقامة الـحدّ لـما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثة.

فمعنى الكلام إذْ كان الأمر علـى ما وصفنا: ومن دخـله كان آمنا ما كان فـيه. فإذا كان ذلك كذلك، فمن لـجأ إلـيه من عقوبة لزمته عائذا به، فهو آمن ما كان به حتـى يخرج منه. وإنـما يصير إلـى الـخوف بعد الـخروج أو الإخراج منه، فحينئذ هو غير داخـله، ولا هو فـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله علـى من استطاع من أهل التكلـيف السبـيـل إلـى حجّ بـيته الـحرام الـحجّ إلـيه. وقد بـينا فـيـما مضى معنى الـحجّ ودللنا علـى صحة ما قلنا من معناه بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}، وما السبـيـل التـي يجب مع استطاعتها فرض الـحجّ؟

فقال بعضهم: هي الزاد والراحلة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٣٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والراحلة.

٦٠٣٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة.

٦٠٣٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبـي جناب، عن الضحاك ، عن ابن عبـاس فـي قوله: {مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والبعير.

٦٠٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَللّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}، والسبـيـل: أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحِف به.

٦٠٣٦ـ حدثنا خلاد بن أسلـم، قال: حدثنا النضر بن شميـل، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي عبد اللّه البجلـي، قال: سألت سعيد بن جبـير عن قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال:

قال ابن عبـاس : من ملك ثلثمائة درهم، فهو السبـيـل إلـيه.

٦٠٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان، قال: سمعت عطاء

يقول: السبـيـل: الزاد والراحلة.

٦٠٣٨ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما من استطاع إلـيه سبـيلاً، فإن ابن عبـاس قال: السبـيـل: راحلة وزاد.

٦٠٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، وأحمد بن حازم، قالا: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، عن سعيد بن جبـير: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والراحلة.

٦٠٤٠ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: أخبرنا الربـيع بن صبـيح، عن الـحسن، قال: الزاد والراحلة.

٦٠٤١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحسن، قال: قرأ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم هذه الاَية: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} فقال رجل: يا رسول اللّه ، ما السبـيـل؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

واعتلّ قائلو هذه الـمقالة بأخبـار رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنـحو ما قالوا فـي ذلك. ذكر الرواية بذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

٦٠٤٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إبراهيـم بن يزيد الـخوزي، قال: سمعت مـحمد بن عبـاد بن جعفر، يحدّث عن ابن عمر، قال: قام رجل إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: ما السبـيـل؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سفـيان، عن إبراهيـم الـخوزي، عن مـحمد بن عبـاد، عن ابن عمر، أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال فـي قوله عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: (السّبِـيـلُ إلـى الـحَجّ الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا يونس، وحدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس، عن الـحسن، قال: قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}

قالوا: يا رسول لله، ما السبـيـل؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

٦٠٤٣ـ حدثنا أبو عثمان الـمقدميّ، والـمثنى بن إبراهيـم، قالا: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: حدثنا هلال بن عبـيد اللّه مولـى ربـيعة بن عمرو بن مسلـم البـاهلـي، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الـحرث، عن علـيّ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (مَنْ مَلَكَ زَادا وَرَاحِلَةً تُبَلّغُهُ إلـى بَـيْتِ اللّه فَلَـمْ يَحُجّ فَلا عَلَـيْهِ أنْ يـمُوتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرَانِـيّا، وذَلِكَ أنّ اللّه عَزّ وجَلّ يَقُولُ فـي كِتَابِهِ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً})... الاَية.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، قال: بلغنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال له قائل، أو رجل: يا رسول اللّه ، ما السبـيـل إلـيه؟ قال: (مَنْ وَجَدَ زَدا وَرَاحِلَةً).

حدثنا أحمد بن الـحسن الترمذي، قال: حدثنا شاذ بن فـياض البصري، قال: حدثنا هلال بن هشام، عن أبـي إسحاق الهمدانـي، عن الـحرث، عن علـيّ بن أبـي طالب رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ مَلَكَ زادا وَرَاحِلَةً فَلَـمْ يَحُجّ ماتَ يُهودِيّا أوْ نَصْرَانِـيّا¹ وَذَلِكَ أنّ اللّه يَقُولُ فـي كِتَابِهِ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}.). الاَية.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن قتادة وحميد، عن الـحسن، أن رجلاً قال: يا رسول اللّه ، ما السبـيـل إلـيه؟ قال: (الزّادُ وَالرّاحِلَةُ).

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن قتادة، عن الـحسن، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

وقال آخرون: السبـيـل التـي إذا استطاعها الـمرء كان علـيه الـحجّ: الطاقة للوصول إلـيه

قال: وذلك قد يكون بـالـمشي وبـالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إلـيه، بـامتناع الطريق من العدوّ الـحائل، وبقلة الـماء وما أشبه ذلك.

قالوا: فلا بـيان فـي ذلك أبـين مـما بـينه اللّه عزّ وجلّ بأن يكون مستطيعا إلـيه السبـيـل، وذلك الوصول إلـيه بغير مانع ولا حائل بـينه وبـينه، وذلك قد يكون بـالـمشي وحده، وإن أعوزه الـمركب، وقد يكون بـالـمركب وغير ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٠٤٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن خالد بن أبـي كريـمة، عن رجل، عن ابن الزبـير، قوله: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: علـى قدر القوّة.

٦٠٤٥ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابـا صحيحا لـيس له مال، فعلـيه أن يؤاجر نفسه بأكله وعقبه حتـى يقضي حجته. فقال له قائل: كلف اللّه الناس أن يـمشوا إلـى البـيت؟ فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بـمكة أكان تاركه؟ واللّه لأنطلق إلـيه ولو حبوا! كذلك يجب علـيه الـحجّ.

٦٠٤٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: من وجد شيئا يبلغه فقد وجد سبـيلاً، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}.

٦٠٤٧ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو هانىء، قال: سئل عامر عن هذه الاَية: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: السبـيـل: ما يسّره اللّه .

٦٠٤٨ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قال: حدثنا عبـاد، عن الـحسن: من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إلـيه سبـيلاً.

وقال آخرون: السبـيـل إلـى ذلك: الصحة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٤٩ـ حدثنا مـحمد بن حميد ومـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم والـمثنى بن إبراهيـم،

قالوا: حدثنا أبو عبد الرحمن الـمقري، قال: حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة، قالا: أخبرنا شرحبـيـل بن شريك الـمعافري أنه سمع عكرمة مولـى ابن عبـاس يقول فـي هذه الاَية: {ولِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: السبـيـل: الصحة.

وقال آخرون بـما:

٦٠٥٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول اللّه عز وجل: {وَلِلّهِ علـى النّاسَ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: من وجد قوّة فـي النفقة والـجسد والـحُمْلان، قال: وإن كان فـي جسده ما لا يستطيع الـحجّ فلـيس علـيه الـحجّ، وإن كان له قوّة فـي مال، كما إذا كان صحيح الـجسد ولا يجد مالاً ولا قوّة، يقولون: لا يكلف أن يـمشي.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندنا بـالصواب، قول من قال بقول ابن الزبـير وعطاء، إن ذلك علـى قدر الطاقة، لأن السبـيـل فـي كلام العرب: الطريق، فمن كان واجدا طريقا إلـى الـحجّ لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدوّ، أو قلة ماء فـي طريقه، أو زاد، وضعف عن الـمشي، فعلـيه فرض الـحجّ لا يجزيه إلا أداؤه فإن لـم يكن واجدا سبـيلاً، أعنـي بذلك: فإن لـم يكن مطيقا الـحجّ بتعذّر بعض هذه الـمعانـي التـي وصفناها علـيه، فهو مـمن لا يجد إلـيه طريقا، ولا يستطيعه، لأن الاستطاعة إلـى ذلك هو القدرة علـيه، ومن كان عاجزا عنه ببعض الأسبـاب التـي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إلـيه السبـيـل.

وإنـما قلنا هذه الـمقالة أولـى بـالصحة مـما خالفها، لأن اللّه عزّ وجلّ لـم يخصص إذ ألزم الناس فرض الـحجّ بعض مستطيعي السبـيـل إلـيه بسقوط فرض ذلك عنه فذلك علـى كل مستطيع إلـيه سبـيلاً بعموم الاَية. فأما الأخبـار التـي رويت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك بأنه الزاد والراحلة، فإنها أخبـار فـي أسانـيدها نظر، لا يجوز الاحتـجاج بـمثلها فـي الدين.

واختلف القراء فـي قراءة الـحجّ، فقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الـمدينة والعراق بـالكسر: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ}، وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بـالفتـح: (وَلِلّهِ علـى النّاسِ حَجّ البَـيْتِ) وهما لغتان معروفتان للعرب، فـالكسر لغة أهل نـجد، والفتـح لغة أهل العالـية، ولـم نر أحدا من أهل العربـية ادّعى فرقا بـينهما فـي معنى ولا غيره غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتـين، إلا ما:

٦٠٥١ـ حدثنا به أبو هشام الرفـاعي، قال: قال حسين الـجعفـي: الـحَجّ مفتوح: اسم، والـحِجّ مكسور: عمل.

وهذا قول لـم أر أهل الـمعرفة بلغات العرب ومعانـي كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مـجمعين علـى ما وصفت من أنهما لغتان بـمعنى واحد. والذي نقول به فـي قراءة ذلك، أن القراءتـين إذ كانتا مستفـيضتـين فـي قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بـينهما فـي معنى ولا غيره، فهما قراءتان قد جاءتا مـجيء الـحجة، فبأيّ القراءتـين ـ أعنـي بكسر الـحاء من الـحجّ أو فتـحها ـ قرأ القارىء فمصيب الصواب فـي قراءته.

وأما (مَنِ) التـي مع قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} فإنه فـي موضع خفض علـى الإبدال من الناس، لأن معنى الكلام: ولله علـى من استطاع من الناس سبـيلاً إلـى حجّ البـيت حجه¹ فلـما تقدم ذكر الناس قبل (مَن) بـين بقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً}، الذي علـيه فرض ذلك منهم، لأن فرض ذلك علـى بعض الناس دون جميعهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ومن جحد ما ألزمه اللّه من فرض حجّ بـيته، فأنكره وكفر به، فإن اللّه غنـيّ عنه، وعن حجه وعمله، وعن سائر خـلقه من الـجنّ والإنس. كما:

٦٠٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الـحجاج بن أرطاة، عن مـحمد بن أبـي الـمـجالد، قال: سمعت مقسما، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} قال: من زعم أنه لـيس بفرض علـيه.

٦٠٥٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الـحجاج، عن عطاء وجويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قالا: من جحد الـحجّ وكفر به.

٦٠٥٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا هشيـم، عن الـحجاج بن أرطاة، عن عطاء، قال: من جحد به.

٦٠٥٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عمران القطان،

يقول: من زعم أن الـحجّ لـيس علـيه.

٦٠٥٦ـ حدثنا مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر، عن عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: من أنكره، ولا يرى أن ذلك علـيه حقا، فذلك كفر.

٦٠٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَمَنْ كَفَرَ} قال: من كفر بـالـحجّ.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: من كفر بـالـحجّ كفر بـالله.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا يعلـى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الـحسن في قول اللّه عز وجل: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ} قال: من لـم يره علـيه واجبـا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَمَنْ كَفَرَ} قال بـالـحجّ.

وقال آخرون: معنى ذلك: أن لا يكون معتقدا فـي حجه أن له الأجر علـيه، ولا أن علـيه بتركه إثما ولا عقوبة. ذكر من قال ذلك:

٦٠٥٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: ثنـي عبد اللّه بن مسلـم، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: هو ما إن حجّ لـم يره بِرّا، وإن قعد لـم يره مأثما.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: هو ما إن حجّ لـم يره بِرّا، وإن قعد لـم يره مأثما.

٦٠٥٩ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا مطر، عن أبـي داود نفـيع، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ({وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}) فقام رجل من هذيـل،

فقال: يا رسول اللّه من تركه كفر؟ قال: (مَنْ تَرَكَهُ وَلاَ يخافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجّ وَلا يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَاكَ).

٦٠٦٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس : {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}

يقول: من كفر بـالـحجّ، فلـم ير حجه برّا، ولا تركه مأثما.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بـاللّه والـيوم الاَخر. ذكر من قال ذلك:

٦٠٦١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، قال: سألته عن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بـاللّه والـيوم الاَخر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} قالَ من كفر بـاللّه والـيوم الاَخر.

٦٠٦٢ـ حدثنا يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} قال: لـما نزلت آية الـحجّ جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الأديان كلهم،

فقال: (يا أيّها النّاسُ إنّ اللّه عَزّ وجَلّ كَتَبَ عَلَـيْكُمُ الـحَجّ فَحُجّوا!) فآمنت به ملة واحدة، وهي من صدّق النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم وآمن به، وكفرت به خمس ملل،

قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلـي إلـيه، ولا نستقبله. فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}.

٦٠٦٣ـ حدثنـي أحمد بن حازم، قال: أخبرنا أبو نعيـم، قال: حدثنا أبو هانىء، قال: سئل عامر، عن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} قال: من كفر من الـخـلق، فإن اللّه غنـيّ عنه.

٦٠٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا سفـيان، عن إبراهيـم، عن مـحمد بن عبـاد، عن ابن عمر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فـي قول اللّه : {وَمَنْ كَفَرَ} قال: (مَنْ كَفَرَ بـاللّه والَـيْومِ الاَخِرِ).

٦٠٦٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عكرمة مولـى ابن عبـاس في قول اللّه عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا} فقالت الـملل: نـحن مسلـمون! فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} فحجّ الـمؤمنون، وقعد الكفـار.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الاَيات التـي فـي مقام إبراهيـم. ذكر من قال ذلك:

٦٠٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}. فقرأ {إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبـارَكا} فقرأ حتـى بلغ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً وَمَنْ كَفَرَ} قال: من كفر بهذه الاَيات، {فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}. لـيس كما يقولون: إذا لـم يحجّ وكان غنـيا وكانت له قوّة فقد كفر بها

وقال قوم من الـمشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل، فقال اللّه عزّ وجلّ: {فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ}.

وقال آخرون بـما:

٦٠٦٧ـ حدثنـي إبراهيـم بن عبد اللّه بن مسلـم، قال: أخبرنا أبو عمر الضرير، قال: حدثنا حماد، عن حبـيب بن أبـي بقـية، عن عطاء بن أبـي ربـاح، فـي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فإنّ اللّه غَنِـيّ عَنِ العالَـمِينَ} قال: من كفر بـالبـيت.

وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتـى يـموت. ذكر من قال ذلك:

٦٠٦٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنـي أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، أما من كفر فمن وجد ما يحجّ به ثم لا يحجّ، فهو كافر.

وأولـى التأويلات بـالصواب فـي ذلك قول من قال: معنى {وَمَنْ كَفَرَ}: ومن جحد فرض ذلك وأنكر وجوبه، فإن اللّه غنـيّ عنه وعن حجه وعن العالـمين جميعا.

وإنـما قلنا ذلك أولـى به، لأن قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} بعقب قوله: {وَلِلّهِ علـى النّاسِ حِجّ البَـيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَـيْهِ سَبِـيلاً} بأن يكون خبرا عن الكافر بـالـحجّ، أحقّ منه بأن يكون خبرا عن غيره، مع أن الكافر بفرض الـحجّ علـى من فرضه اللّه علـيه بـاللّه كافر، وإن الكفر أصله الـجحود، ومن كان له جاحدا ولفرضه منكرا، فلا شكّ إن حجّ لـم يرج بحجه برّا، وإن تركه فلـم يحجّ لـم يره مأثما. فهذه التأويلات وإن اختلفت العبـارات بها فمتقاربـات الـمعانـي.

﴿ ٩٧