١٠٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَىَ اللّه تُرْجَعُ الاُمُورُ }

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيـمانهم بـما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيـم، وتسويد الوجوه، ويثـيب أهل الإيـمان به، الذين ثبتوا علـى التصديق والوفـاء بعهودهم التـي عاهدوا علـيها، بـما وصف أنه مثـيبهم به، من الـخـلود فـي جناته، من غير ظلـم منه لأحد الفريقـين فـيـما فعل، لأنه لا حاجة به إلـى الظلـم، وذلك أن الظالـم إنـما يظلـم غيره لـيزداد إلـى عزّته عزّة بظلـمه إياه، وإلـى سلطانه سلطانا، وإلـى ملكه ملكا، لنقصان فـي بعض أسبـابه، يتـمـم بـما ظلـم غيره فـيه ما كان ناقصا من أسبـابه عن التـمام، فأما من كان له جميع ما بـين أقطار الـمشارق والـمغارب، وما فـي الدنـيا والاَخرة، فلا معنى لظلـمه أحدا فـيجوز أن يظلـم شيئا، لأنه لـيس من أسبـابه شيء ناقص يحتاج إلـى تـمام، فـيتـمّ ذلك بظلـم غيره، تعالـى اللّه علوّا كبـيرا¹ ولذلك قال جل ثناؤه عقـيب قوله: {وَما اللّه يُرِيدُ ظُلْـما للْعالَـمِينَ} {ولِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ}.

واختلف أهل العربـية فـي وجه تكرير اللّه تعالـى ذكره اسمه مع قوله: {وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأُمُورُ} ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا مع قوله: {وَلِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ} فقال بعض أهل العربـية من أهل البصرة: ذلك نظير قول العرب: أما زيد فذهب زيد، وكما قال الشاعر:

لا أرَى الـموتَ يسبقُ الـموتَ شَيْءٌنَغّصَ الـمَوْتُ ذا الغنى والفقـيرا

فأظهر فـي موضع الإضمار

وقال بعض نـحويـي الكوفة: لـيس ذلك نظير هذا البـيت، لأن موضع الـموت الثانـي فـي البـيت موضع كناية، لأنه كلـمة واحدة، ولـيس ذلك كذلك فـي الاَية، لأن قوله: {وَلِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ} خبر لـيس من قوله: {وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ} فـي شيء، وذلك أن كل واحدة من القصتـين مفـارق معناها معنى الأخرى، مكتفـية كل واحدة منهما بنفسها، غير مـحتاجة إلـى الأخرى، وما قال الشاعر: (لا أرى) الـموت مـحتاج إلـى تـمام الـخبر عنه.

وهذا القول الثانـي عندنا أولـى بـالصواب، لأن كتاب اللّه عزّ وجلّ لا يؤخذ معانـيه، وما فـيه من البـيان إلـى الشواذّ من الكلام والـمعانـي وله فـي الفصيح من الـمنطق والظاهر من الـمعانـي الـمفهوم وجه صحيح موجود.

وأما قوله: {وإلـى اللّه تُرْجَعُ الأُمُورُ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره: إلـى اللّه مصير أمر جميع خـلقه الصالـح منهم، والطالـح والـمـحسن والـمسيء، فـيجازي كلاّ علـى قدر استـحقاقهم منه الـجزاء بغير ظلـم منه أحدا منهم.

﴿ ١٠٩