١١٢القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ...} يعنـي بقول جل ثناؤه {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمْ الذّلّةُ} ألزموا الذلة، والذلة: الفعلة من الذلّ، وقد بـينا ذلك بشواهده فـي غير هذا الـموضع. {أيْنَـما ثُقِـفُوا} يعنـي: حيثما لقوا. يقول جلّ ثناؤه: ألزم الـيهود الـمكذّبون بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم الذلة أينـما كانوا من الأرض، وبأيّ مكان كانوا من بقاعها من بلاد الـمسلـمين والـمشركين، إلا بحبل من اللّه ، وحبل من الناس كما: ٦١٥٦ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن فـي قوله: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَاللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الـمَسْكَنَةُ} قال: أدركتهم هذه الأمة، وإن الـمـجوس لتـجبـيهم الـجزية. ٦١٥٧ـ حدثنـي مـحمد بن سنان، قال: حدثنا أبو بكر الـحنفـي، قل: حدثنا عبـاد، عن الـحسن فـي قوله: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: أذلهم اللّه فلا منعة لهم وجعلهم اللّه تـحت أقدام الـمسلـمين. وأما الـحبل الذي ذكره اللّه فـي هذا الـموضع، فإنه السبب الذي يأمنون به علـى أنفسهم من الـمؤمنـين، وعلـى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقـفوا فـي بلاد الإسلام. كما: ٦١٥٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {إلاّ بْحَبْلٍ مِنَ اللّه } قال: بعهد، {وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهدهم. ٦١٥٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةُ أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} يقول: إلا بعهد من اللّه ، وعهد من الناس. حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. ٦١٦٠ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال عكرمة: يقول: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهد من اللّه ، وعهد من الناس. ٦١٦١ـ حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} يقول: إلا بعهد من اللّه ، وعهد من الناس. ٦١٦٢ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} يقول: إلا بعهد من اللّه ، وعهد من الناس. ٦١٦٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} فهو عهد من اللّه ، وعهد من الناس، كما يقول الرجل: ذمة اللّه ، وذمة رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فهو الـميثاق. ٦١٦٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: قال مـجاهد: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بْحَبلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: بعهد من اللّه ، وعهد من الناس لهم. قال ابن جريج وقال عطاء: العهد: حبل اللّه . ٦١٦٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} قال: إلا بعهد وهم يهود، قال: والـحبل: العهد قال: وذلك قول أبـي الهيثم بن التـيهان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أتته الأنصار فـي العقبة: أيها الرجل إنا قاطعون فـيك حبـالاً بـيننا وبـين الناس، يقول: عهودا قال: والـيهود لا يأمنون فـي أرض من أرض اللّه إلا بهذا الـحبل الذي اللّه قال عزّ وجلّ، وقرأ: {وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ} قال: فلـيس بلد فـيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود فـي شرق ولا غرب هم فـي البلدان كلها مستذلون، قال اللّه : {وَقَطّعناهُمْ فِـي الأرْض أمـما} يهود. ٦١٦٦ـ حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} بقول: بعهد من اللّه ، وعهد من الناس. حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله. واختلف أهل العربـية فـي الـمعنى الذي جلب البـاء فـي قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} فقال بعض نـحويـي الكوفة: الذي جلب البـاء فـي قوله: {بِحَبْلٍ} فعل مضمر قد ترك ذكره قال: ومعنى الكلام: ضربت علـيهم الذلة أينـما ثقـفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من اللّه ، فأضمر ذلك. واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: رأتْنِـي بِحَبْلَـيْها فَصَدّتْ مَخافَةًوفـي الـحَبْل رَوْعاءُ الفُؤاد فَرُوقُ وقال: أراد: أقْبَلْتُ بحبلـيها. وبقول الاَخر: حَنَتْنِـي حانِـياتُ الدّهْر حتـىكأنـي خاتِلٌ أحْنُو لِصَيْد فأوجب إعمال فعل مـحذوف وإظهار صلته وهو متروك، وذلك فـي مذاهب العربـية ضعيف، ومن كلام العرب بعيدوأما ما استشهد به لقوله من الأبـيات، فغير دالّ علـى صحة دعواه، لأن فـي قول الشاعر: (رأتنـي بحبلـيها)، دلالة بـينة فـي أنها رأته بـالـحبل مـمسكا، ففـي إخبـاره عنها أنها رأته بحبلـيها إخبـار منه أنها رأته مـمسكا بـالـحبلـين، فكان فـيـما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الإمساك، وكانت البـاء صلة لقوله: (رأتنـي)، كما فـي قول القائل: أنا بـاللّه مكتف بنفسه، ومعرفة السامع معناه أن تكون البـاء مـحتاجة إلـى كلام يكون لها جالبـا غير الذي ظهر، وأن الـمعنى أنا بـاللّه مستعين. وقال بعض نـحويـي البصرة: قوله: {إلاّ بَحَبْلٍ مِنَ اللّه } استثناء خارج من أوّل الكلام، قال: ولـيس ذلك بأشدّ من قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِـيها لَغْوا إلاّ سَلاما}. وقال آخرون من نـحويـي الكوف: هو استثناء متصل. والـمعنى: ضربت علـيهم الذلة أينـما ثقـفوا: أي بكلّ مكان، إلا بـموضع حبل من اللّه ، كما تقول: ضربت علـيهم الذلة فـي الأمكنة إلا فـي هذا الـمكان، وهذا أيضا طلب الـحقّ، فأخطأ الـمفصل، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلاً كما زعم لوجب أن يكون القوم إذا ثقـفوا بحبل من اللّه وحبل من الناس غير مضروبة علـيهم الـمسكنة، ولـيس ذلك صفة الـيهود لأنهم أينـما ثقـفوا بحبل من اللّه وحبل من الناس، أو بغير حبل من اللّه عزّ وجلّ، وغير حبل من الناس، فـالذلة مضروبة علـيهم علـى ما ذكرنا عن أهل التأويـل قبل. فلو كان قوله: {إلاّ بحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النّاس} استثناء متصلاً لوجب أن يكون القوم إذا ثقـفوا بعهد وذمة، أن لا تكون الذلة مضروبة علـيهم. وذلك خلاف ما وصفهم اللّه به من صفتهم، وخلاف ما هم به من الصفة، فقد تبـين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا. ولكن القول عندنا أن البـاء فـي قوله: {إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه } أدخـلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض فـي الـمعنى البـاء، وذلك أن معنى قولهم: {ضُرِبَتْ عَلَـيْهِمُ الذّلّةَ أيْنَـما ثُقِـفُوا}: ضربت علـيهم الذلة بكل مكان ثقـفوا، ثم قال: {إلاّ بَحْبلٍ مِنَ اللّه وَحبْلٍ مِنَ النّاسِ} علـى غير وجه الاتصال بـالأول، ولكنه علـى الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقـفون بحبل من اللّه وحبل من الناس، كما قـيـل: {وَما كانَ لـمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً} فـالـخطأ وإن كان منصوبـا بـما عمل فـيـما قبل الاستنثاء، فلـيس قوله بـاستثناء متصل بـالأوّل بـمعنى إلا خطأ، فإن له قتله كذلك، ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ، فكذلك قوله: {أيْنَـما ثُقِـفُوا إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّه } وإن كان الذي جلب البـاء التـي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا، فلـيس الاستثناء بـالاستثناء الـمتصل بـالذي قبله بـمعنى أن القوم إذا لقوا، فـالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكلّ حال، ولكن معناه ما بـينا آنفـا. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه ...}. يعنـي تعالـى ذكره: {وَبـاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه }: وتـحملوا غضب اللّه ، فـانصرفوا به مستـحقـيه. وقد بـينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى الـمسكنة، وأنها ذلّ الفـاقة والفقر وخشوعهما، ومعنى الغضب من اللّه فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وقوله: {ذَلِكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّه } يعنـي جل ثناؤه بقوله ذلك: أي بَؤؤُهم الذي بـاءوا به من غضب اللّه ، وضرب الذلة علـيهم، بدل مـما كانوا يكفرون بآيات اللّه ، يقول: مـما كانوا يجحدون أعلام اللّه وأدلته علـى صدق أنبـيائه، وما فرض علـيهم من فرائضه. {وَيَقْتُلُونَ الأنْبِـياءَ بِغَيْرِ حَقّ} يقول: وبـما كانوا يقتلون أنبـياءهم ورسل اللّه إلـيهم، اعتداء علـى اللّه ، وجراءة علـيه بـالبـاطل، وبغير حقّ استـحقوا منهم القتل. فتأويـل الكلام: ألزموا الذلة بأيّ مكان لقوا، إلا بذمة من اللّه وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من اللّه متـحملـيه، وألزموا ذلّ الفـاقة، وخشوع الفقر، بدلاً مـما كانوا يجحدون بآيات اللّه ، وأدلته وحججه، ويقتلون أنبـياءه بغير حقّ ظلـما واعتداء. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ بِـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ}. يقول تعالـى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبـياء، ومعصيتهم ربهم، واعتدائهم أمر ربهم. وقد بـينا معنى الاعتداء فـي غير موضع فـيـما مضى من كتابنا بـما فـيه الكفـاية عن إعادته. فأعلـم ربنا جل ثناؤه عبـاده، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والـخزي بهم فـي عاجل الدنـيا، مع ما ادّخر لهم فـي الاَجل من العقوبة والنكال، وألـيـم العذاب، إذ تعدّوا حدود اللّه ، واستـحلوا مـحارمه، تذكيرا منه تعالـى ذكره لهم، وتنبـيها علـى موضع البلاء الذي من قبله أتوا لـينـيبوا ويذّكروا، وعظة منه لأمتنا، أن لا يستنوا بسنتهم، ويركبوا منهاجهم، فـيسلك بهم مسالكهم، ويحلّ بهم من نقم اللّه ومثلاته ما أحلّ بهم. كما: ٦١٦٧ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ذَلِكَ بِـمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ} اجتنبوا الـمعصية والعدوان، فإن بهما أهلك من أهلك قبلكم من الناس |
﴿ ١١٢ ﴾