١١٨القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ ...} يعنـي بذلك تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا بـما جاءهم به نبـيهم من عند ربهم، {لا تَتّـخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} يقول: لا تتـخذوا أولـياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعنـي من غير الـمؤمنـين. وإنـما جعل البطانة مثلاً لـخـلـيـل الرجل فشبهه بـما ولـي بطنه من ثـيابه لـحلوله منه فـي اطلاعه علـى أسراره، وما يطويه عن أبـاعده وكثـير من أقاربه، مـحلّ ما ولـي جسده من ثـيابه، فنهى اللّه الـمؤمنـين به أن يتـخذوا من الكفـار به أخلاء وأصفـياء ثم عرّفهم ما هم علـيه لهم منطوون من الغشّ والـخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّتهم، فقال تعالـى ذكره: {لا يَألُونَكُم خَبـالاّ} يعنـي لا يستطيعُونَكُمْ شرّا، من أَلَوْتُ آلُو ألُوّا، يقال: ما ألا فلان كذا، أي ما استطاع، كما قال الشاعر: جَهْراءُ لا تأْلُو إذا هِيَ أظْهَرَتْبَصَرا وَلا مِنْ عَيْـلَةٍ تُغْنِـينـي يعنـي لا تستطيع عند الظهر إبصارا. وإنـما يعنـي جلّ ذكره بقوله: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبـالاً} البطانة التـي نهى الـمؤمنـين عن اتـخاذها من دونهم، فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبـالاً: أي لا تدع جهدها فـيـما أورثكم الـخبـال. وأصل الـخبـال والـخبـال: الفساد، ثم يستعمل فـي معان كثـيرة، يدلّ علـى ذلك الـخبر عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ أُصِيبَ بَخْبلٍ ـ أو جِرَاحٍ). وأما قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فإنه يعنـي: ودّوا عنتكم، يقول: يتـمنون لكم العنت والشرّ فـي دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم. وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من الـمسلـمين كانوا يخالطون حلفـاءهم من الـيهود وأهل النفـاق منهم، ويصافونهم الـمودة بـالأسبـاب التـي كانت بـينهم فـي جاهلـيتهم قبل الإسلام، فنهاهم اللّه عن ذلك وأن يستنصحوهم فـي شيء من أمورهم. ذكر من قال ذلك: ٦١٩٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: قال مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: كان رجال من الـمسلـمين يواصلون رجالاً من الـيهود لـما كان بـينهم من الـجوار والـحلف فـي الـجاهلـية، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فـيهم، فنهاهم عن مبـاطنتهم تـخوّف الفتنة علـيهم منهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} إلـى قوله: {وَتُؤمِنُونَ بـالكِتابِ كُلّه}. ٦٢٠٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد في قول اللّه عز وجل: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خبَـالاً} فـي الـمنافقـين من أهل الـمدينة، نهى اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يتولوهم. ٦٢٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَألُونَكُمْ خَبـالاً وَدّوا ما عَنِتـمْ} نهى اللّه عزّ وجلّ الـمؤمنـين أن يستدخـلوا الـمنافقـين أو يؤاخوهم، أي يتولوهم من دون الـمؤمنـين. ٦٢٠٢ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} هم الـمنافقون. ٦٢٠٣ـ حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُم لا يأْلونَكُمْ خَبـالاً} يقول: لا تستدخـلوا الـمنافقـين، تتولوهم دون الـمؤمنـين. ٦٢٠٤ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيـم، قالا: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَسْتَضِيئُوا بِنارِ أهْلِ الشّرْكِ، وَلا تَنْقُشُوا فِـي خَوَاتِـيـمِكُمْ عَرَبِـيّا) قال: فلـم ندر ما ذلك حتـى أتوا الـحسن فسألوه، فقال: نعم، أما قوله: (لا تَنْقُشُوا فـي خَوَاتِـيـمِكُمْ عَرَبـيّا)، فإنه يقول: لا تنقشوا فـي خواتـيـمكم (مـحمد)¹ وأما قوله: (ولا تَسْتَـيضِئُوا بَنارِ أهْل الشّرْكِ)، فإنه يعنـي به الـمشركين، يقول: لا تستشيروهم فـي شيء من أموركم قال: قال الـحسن: وتصديق ذلك فـي كتاب اللّه ، ثم تلا هذه الاَية: {يا أيها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}. ٦٢٠٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أما البطانة: فهم الـمنافقون. ٦٢٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.. الاَية، قال: لا يستدخـل الـمؤمن الـمنافق دون أخيه. ٦٢٠٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَتّـخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ}.. الاَية، قال: هؤلاء الـمنافقون، وقرأ قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}.. الاَية. واختلفوا فـي تأويـل قوله {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فقال بعضهم معناه: ودّوا ما ضللتـم عن دينكم. ذكر من قال ذلك: ٦٢٠٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} يقول: ما ضللتـم. وقال آخرون بـما: ٦٢٠٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} يقول فـي دينكم، يعنـي: أنهم يودّون أن تعنتوا فـي دينكم. فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} فجاء بـالـخبر عن البطانة بلفظ الـماضي فـي مـحل الـحال والقطع بعد تـمام الـخبر، والـحالات التـي لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال الـمستقبلة دون الـماضية منها؟ قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما ظننت من أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمّ} حال من البطانة، وإنـما هو خبر عنهم ثان، منقطع عن الأوّل غير متصل به. وإنـما تأويـل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتـخذوا بطانة صفتهم كذا صفتهم كذا. فـالـخبر عن الصفة الثانـية غير متصل بـالصفة الأولـى، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد. وقد زعم بعض أهل العربـية أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله: {لا يَألُونَكُمْ خَبـالاً} فلا وجه لصلة أخرى بعد تـمام البطانة بصلته، ولكن القول فـي ذلك كما بـينا قبل من أن قوله: {وَدّوا ما عَنِتّـمْ} خبر مبتدأ عن البطانة غير الـخبر الأوّل، وغير حال من البطانة ولا قطع منها. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها الـمؤمنون أن تتـخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم، يعنـي بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم علـى كفرهم، وعدواتهم من خالف ما هم علـيه مقـيـمون من الضلالة، فذلك من أوكد الأسبـاب من معاداتهم أهل الإيـمان، لأن ذلك عداوة علـى الدين، والعداوة علـى الدين، العداوة التـي لا زوال لها إلا بـانتقال أحد الـمتعاديـين إلـى ملة الاَخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند الـمنتقل إلـيها ضلالة قبل ذلك، فكان فـي إبدائهم ذلك للـمؤمنـين ومقامهم علـيه أبـين الدلالة لأهل الإيـمان علـى ما هم علـيه من البغضاء والعداوة. وقد قال بعضهم: معنى قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيـمان إلـى أولـيائهم من الـمنافقـين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا علـى ذلك. وزعم قائلو هذه الـمقالة أن الذين عنوا بهذه الاَية: أهل النفـاق، دون من كان مصرّحا بـالكفر من الـيهود وأهل الشرك. ذكر من قال ذلك. ٦٢١٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} يقول: قد بدت البغضاء من أفواه الـمنافقـين إلـى إخوانهم من الكفـار، من غِشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم. ٦٢١١ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} يقول: من أفواه الـمنافقـين. وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له، وذلك أن اللّه تعالـى ذكره إنـما نهى الـمؤمنـين أن يتـخذوا بطانة مـمن قد عرفوه بـالغشّ للإسلام وأهله، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة علـى أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الـموصوفـين بذلك العداوة والشنآن والـمناصبة لهم. فأما من لـم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم اللّه عزّ وجلّ عن مخالته ومبـاطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفـات قد عرفوهم بها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان إبداء الـمنافقـين بألسنتهم ما فـي قلوبهم من بغضاء الـمؤمنـين إلـى إخوانهم من الكفـار، غير مدرك به الـمؤمنون معرفة ما هم علـيه لهم مع إظهارهم الإيـمان بألسنتهم لهم والتودّد إلـيهم، كان بـينا أن الذي نهى اللّه الـمؤمنون عن اتـخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم علـى ما وصفهم اللّه عزّ وجلّ به، فعرفهم الـمؤمنون بـالصفة التـي نعتهم اللّه بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالـى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فـيها خالدون مـمن كان له ذمة وعهد من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب، لأنهم لو كانوا الـمنافقـين لكان الأمر فـيهم علـى ما قد بـينا، ولو كانوا الكفـار مـمن قد ناصب الـمؤمنـين الـحرب، لـم يكن الـمؤمنون متـخذيهم لأنفسهم بطانة من دون الـمؤمنـين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بـين أظهر الـمؤمنـين من أهل الكتاب أيام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مـمن كان له من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد وعقد من يهود بنـي إسرائيـل. والبغضاء: مصدر، وقد ذكر أنها فـي قراءة عبد اللّه بن مسعود: (قد بدا البغضاء من أفواههم)، علـى وجه التذكير، وإنـما جاز ذلك بـالتذكير ولفظه لفظ الـمؤنث، لأن الـمصادر تأنـيثها لـيس بـالتأنـيث اللازم، فـيجوز تذكير ما خرج منها علـى لفظ الـمؤنث وتأنـيثه، كما قال عزّ وجلّ: {وأخَذَ الّذِينَ ظَلَـمُوا الصّيْحَةُ} وكما قال: {فقدْ جاءَكُمْ بَـيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ} وفـي موضع آخر: {وأخَذَتِ الّذِينَ ظَلَـمُوا الصّيْحَةُ} {وَجاءَتْكُمْ بَـيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ} وقال: {مِنْ أفْوَاهِهِمْ} وإنـما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن الـمعنـيّ به الكلام الذي ظهر للـمؤمنـين منهم من أفواههم، فقال: قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ}. يعنـي تعالـى ذكره بذلك: والذي تـخفـي صدورهم، يعنـي صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتـخاذهم بطانة فتـخفـيه عنكم أيها الـمؤمنون أكبر، يقول: أكبر مـما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما: ٦٢١٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ} يقول: وما تـخفـي صدورهم أكبر مـما قد أبدوا بألسنتهم. ٦٢١٣ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {وَما تُـخْفِـي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ} يقول: ما تكنّ صدورهم أكبر مـما قد أبدوا بألسنتهم. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قَدْ بَـيّنَا لَكُمُ الاَياتِ إنْ كُنْتُـمْ تَعْقِلُونَ}. يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قد بـينا لكم أيها الـمؤمنون الاَيات، يعنـي بـالاَيات: العبر، قد بـينا لكم من أمر هؤلاء الـيهود الذين نهيناكم أن تتـخذوهم بطانة من دون الـمؤمنـين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم، {إنْ كُنْتُـمْ تَعْقِلُونَ} يعنـي: إن كنتـم تعقلون عن اللّه مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته علـيكم. |
﴿ ١١٨ ﴾