١٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً ...}

يعنـي بذلك جل ثناؤه: ثم أنزل اللّه أيها الـمؤمنون من بعد الغمّ الذي أثابكم ربكم بعد غمّ تقدمه قبله أمنة، وهي الأمان علـى أهل الإخلاص منكم والـيقـين، دون أهل النفـاق والشك. ثم بـين جل ثناؤه عن الأمنة التـي أنزلها علـيهم ما هي؟ فقال: نعاسا، بنصب النعاس علـى الإبدال من الأمنة.

ثم اختلفت القراء فـي قراءة قوله: {يَغْشَى} فقرأ ذلك عامة قراء الـحجاز والـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين بـالتذكير بـالـياء: {يَغْشَى}. وقرأ جماعة من قراء الكوفـيـين بـالتأنـيث: {تَغْشَى} بـالتاء. وذهب الذين قرءوا ذلك بـالتذكير إلـى أن النعاس هو الذي يغشى الطائفة من الـمؤمنـين دون الأمنة، فذكره بتذكير النعاس. وذهب الذين قرءوا ذلك بـالتأنـيث إلـى أن الأمنة هي التـي تغشاهم، فأنثوه لتأنـيث الأمنة.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفـيضتان فـي قراء الأمصار غير مختلفتـين فـي معنى ولا غيره، لأن الأمنة فـي هذا الـموضع هي النعاس، والنعاس: هو الأمنة. وسواء ذلك، وبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب الـحقّ فـي قراءته، وكذلك جميع ما فـي القرآن من نظائره من نـحوقوله: {إنّ شَجَرَةَ الزّقُومِ طعَامُ الأثِـيـمِ كالـمُهْلِ تَغْلـي فـي البُطُونِ} و {ألَـمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ منّـي تُـمْنَى} {وَهُزّي إلَـيْكِ بِجذْعِ النّـخْـلَةِ تُسَاقِطْ}.

فإن قال قائل: وما كان السبب الذي من أجله افترقت الطائفتان اللتان ذكرهما اللّه عزّ وجلّ فـيـما افترقتا فـيه من صفتهما، فآمنت إحداهما بنفسها حتـى نعست، وأهمت الأخرى نفسها حتـى ظنت بـاللّه غير الـحقّ ظنّ الـجاهلـية؟

قـيـل: كان سبب ذلك فـيـما ذكر لنا، كما:

٦٥٤١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أن الـمشركين انصرفوا يوم أُحُد بعد الذي كان من أمرهم وأمر الـمسلـمين، فواعدوا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بدرا من قابل، فقال لهم: (نعم) فتـخوّف الـمسلـمون أن ينزلوا الـمدينة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً،

فقال: (انْظُر فإنْ رأيتهم قَعدُوا علـى أثْقَالهم وجَنَبُوا خُيُولَهُمْ، فإنّ القَوْمَ ذَاهِبُونَ، وإنْ رأيْتُهمْ قد قعدوا علـى خيولهم وجَنَبُوا علـى أثقالهم، فإنّ القَوْم يَنْزِلُونَ الـمَدِينَةَ، فـاتّقُوا اللّه واصْبِرُوا!) ووطنهم علـى القتال¹ فلـما أبصرهم الرسول تعدوا علـى الأثقال سراعا عجالاً، نادى بأعلـى صوته بذهابهم¹ فلـما رأى الـمؤمنون ذلك صدّقوا نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فناموا، وبقـي أناس من الـمنافقـين يظنون أن القوم يأتونهم، فقال اللّه جلّ وعزّ يذكر حين أخبرهم النبـي صلى اللّه عليه وسلم إن كانوا ركبوا الأثقال فإنهم منطلقون فناموا: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمنَةً نُعاسا يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ويَظُنّونَ بـاللّه غيرِ الـحَقّ ظَنّ الـجاهِلِـيّة}.

٦٥٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : أمنهم يومئذ بنعاس غشاهم، وإنـما ينعس من يأمن¹ {يَغْشَى طائِفَةً مِنْكُمْ وطَائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُم يَظُنّونَ بـاللّه غير ظَنّ الـجاهِلِـيّةِ}.

٦٥٤٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن أبـي طلـحة، قال: كنت فـيـمن أنزل علـيه النعاس يوم أُحد أمنة، حتـى سقط من يدي مرارا.

قال أبو جعفر: يعنـي: سوطه، أو سيفه.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن ثابت، عن أنس، عن أبـي طلـحة، قال: رفعت رأسي يوم أُحد، فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا تـحت حجفته يـميد من النعاس.

حدثنا ابن بشار وابن الـمثنى، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس، عن أبـي طلـحة قال: كنت فـيـمن صبّ علـيه النعاس يوم أُحد.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك، عن أبـي طلـحة: أنه كان يومئذٍ مـمن غشيه النعاس، قال: كان السيف يسقط من يدي ثم آخذه من النعاس.

٦٥٤٤ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: ذكر لنا واللّه أعلـم عن أنس أن أبـا طلـحة حدثهم أنه كان يومئذٍ مـمن غشيه النعاس، قال: فجعل سيفـي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه ويسقط، والطائفة الأخرى: الـمنافقون، لـيس لهم همة إلا أنفسهم {يَظُنونَ بـاللّه غيرَ الـحَقّ ظَنّ الـجاهِلِـيّةِ}.. الاَية كلها.

٦٥٤٥ـ حدثنا أحمد بن الـحسن الترمذي، قال: حدثنا ضرار بن صرد، قال: حدثنا عبد العزيز بن مـحمد، عن مـحمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن الـمسور بن مخرمة، عن أبـيه قال: سألت عبد الرحمن بن عوف عن قول اللّه عزّ وجلّ: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا} قال: ألقـي علـينا النوم يوم أُحد.

٦٥٤٦ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا}.. الاَية، وذاكم يوم أُحد، كانوا يومئذٍ فريقـين¹ فأما الـمؤمنون فغشاهم اللّه النعاس أمنة منه ورحمة.

٦٥٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، نـحوه.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {أمَنَةً نُعاسا} قال: ألقـي علـيهم النعاس، فكان ذلك أمنة لهم.

٦٥٤٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن أبـي رزين، قال: قال عبد اللّه : النعاس فـي القتال أمنة، والنعاس فـي الصلاة من الشيطان.

٦٥٤٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا} قال: أنزل النعاس أمنة منه علـى أهل الـيقـين به، فهم نـيام لا يخافون.

٦٥٥٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {أمَنَةً نُعاسا} قال: ألقـى اللّه علـيهم النعاس، فكان أمنة لهم. وذكر أن أبـا طلـحة قال: ألقـي علـيّ النعاس يومئذٍ، فكنت أنعس حتـى يسقط سيفـي من يدي.

٦٥٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبـي طلـحة، وهشام بن عروة بن الزبـير أنهما قالا: لقد رفعنا رءوسنا يوم أُحد، فجعلنا ننظر، فما منهم من أحد إلا وهو يـميـل بجنب حجفته قال: وتلا هذه الاَية: {ثُمّ أنْزَلَ عَلَـيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمّ أمَنَةً نُعاسا}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بـاللّه غيرَ الـحَقّ ظَن الـجاهِلِـيّة}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وطائفة منكم أيها الـمؤمنون قد أهمتهم أنفسهم،

يقول: هم الـمنافقون لا همّ لهم غير أنفسهم، فهم من حذر القتل علـى أنفسهم، وخوف الـمنـية علـيها فـي شغل، قد طار عن أعينهم الكرى، يظنون بـاللّه الظنون الكاذبة، ظنّ الـجاهلـية من أهل الشرك بـالله، شكا فـي أمر اللّه ، وتكذيبـا لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم، وَمَـحْسَبَةً منهم أن اللّه خاذل نبـيه، ومعل علـيه أهل الكفر به، يقولون: هل لنا من الأمر شيء. كالذي:

٦٥٥٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: والطائفة الأخرى: الـمنافقون، لـيس لهم همّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للـحقّ، يظنون بـاللّه غير الـحقّ ظنونا كاذبة، إنـما هم أهل شكّ وريبة فـي أمر اللّه ، يقولون: {لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبرزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمْ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِم}.

٦٥٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: والطائفة الأخرى: الـمنافقون لـيس لهم همة إلا أنفسهم، يظنون بـاللّه غير الـحقّ ظنّ الـجاهلـية، يقولون: {لَوْ كانَ لنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا} قال اللّه عزّ وجلّ: {قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِمْ}.. الاَية.

٦٥٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفُسُهُمْ} قال: أهل النفـاق قد أهمتهم أنفسهم تـخوّف القتل، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة.

٦٥٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَطائِفَةٌ قَدْ أهَمّتْهُمْ أنْفسُهُمْ} إلـى آخر الاَية، قال: هؤلاء الـمنافقون.

وأما قوله: {ظَنّ الـجاهِلِـيّةِ} فإنه يعنـي أهل الشرك. كالذي:

٦٥٥٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {ظَنّ الـجاهِلِـيّة} قال: ظنّ أهل الشرك.

٦٥٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {ظَنّ الـجاهِلِـيّة} قال: ظنّ أهل الشرك.

وفـي رفع قوله: {وَطائِفَةٌ} وجهان: أحدهما أن تكون مرفوعة بـالعائد من ذكرها فـي قوله: {قَدْ أهَمّتْهُمْ}، والاَخر بقوله: {يَظُنّونَ بـاللّه غيرَ الـحَقّ} ولو كانت منصوبة كان جائزا، وكانت الواو فـي قوله: {وَطائفَةٌ} ظرفـا للفعل، بـمعنى: وأهمت طائفة أنفسهم، كما قال: {وَالسّماءَ بَنَـيْناها بأيْدٍ}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَقُولُونَ هَلْ لنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيّءٍ ...}:

يعنـي بذلك: الطائفة الـمنافقة التـي قد أهمتهم أنفسهم، يقولون: لـيس لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله، ولو كان لنا من الأمر شيء ما خرجنا لقتال من قاتلنا فقتلونا. كما:

٦٥٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قـيـل لعبد اللّه بن أبـيّ: قتل بنو الـخزرج الـيوم! قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قل إن الأمر كله لله.

وهذا أمر مبتدأ من اللّه عزّ وجلّ، يقول لنبـيه مـحمد صلى اللّه عليه وسلم: قل يا مـحمد لهؤلاء الـمنافقـين إن الأمر كله لله، يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف يحبّ، ثم عاد إلـى الـخبر عن ذكر نفـاق الـمنافقـين،

فقال: {يُخْفُونَ فـي أنْفُسِهُمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ}

يقول: يخفـي يا مـحمد هؤلاء الـمنافقون الذين وصفت لك صفتهم فـي أنفسهم من الكفر والشكّ فـي اللّه ما لا يبدون لك، ثم أظهر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم علـى ما كانوا يخفونه بـينهم من نفـاقهم، والـحسرة التـي أصابتهم علـى حضورهم مع الـمسلـمين مشهدهم بأحد، فقال مخبرا عن قـيـلهم الكفر، وإعلانهم النفـاق بـينهم، يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، يعنـي بذلك أن هؤلاء الـمنافقـين يقولون: لو كان الـخروج إلـى حرب من خرجنا لـحربه من الـمشركين إلـينا، ما خرجنا إلـيهم، ولا قتل منا أحد فـي الـموضع الذي قُتلوا فـيه بـأُحد. وذكر أن مـمن قال هذا القول معتب بن قشير أخو بنـي عمرو بن عوف. ذكر الـخبر بذلك:

٦٥٥٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: ثنـي يحيـى بن عبـاد بن عبد اللّه بن الزبـير عن أبـيه، عن عبد اللّه بن الزبـير، عن الزبـير، قال: واللّه إنـي لأسمع قول معتب بن قشير أخي بنـي عمرو بن عوف، والنعاس يغشانـي ما أسمعه إلا كالـحلـم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.

حدثنـي سعيد بن يحيـى بن الأموي، قال: ثنـي أبـي، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي يحيـى بن عبـاد بن عبد اللّه بن الزبـير، عن أبـيه، عن عبد اللّه بن الزبـير، عن أبـيه، بـمثله.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـحجاز والعراق: {قُلْ إنّ الأمْرَ كُلّهُ} بنصب الكلّ علـى وجه النعت للأمر والصفة له. وقرأه بعض قراء أهل البصرة: {قُلْ إنّ الأمْرُ كُلّهُ لِلّهِ} برفع الكلّ علـى توجيه الكلّ إلـى أنه اسم، وقوله (للّه) خبره، كقول القائل: إن الأمر بعضه لعبد اللّه . وقد يجوز أن يكون الكلّ فـي قراءة من قرأه بـالنصب منصوبـا علـى البدل. والقراءة التـي هي القراءة عندنا النصب فـي الكلّ لإجماع أكثر القراء علـيه، من غير أن تكون القراءة الأخرى خطأ فـي معنى أو عربـية. ولو كانت القراءة بـالرفع فـي ذلك مستفـيضة فـي القراء، لكانت سواء عندي القراءة بأيّ ذلك قرىء لاتفـاق معانـي ذلك بأي وجهيه قرىء.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {قُلْ لَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَـيْهِمُ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعِهِمْ وَلِـيَبْتَلِـيَ اللّه ما فِـي صُدُورِكُمُ وَلِـيُـمَـحّصَ ما فِـي قُلُوبِكُمُ وَاللّه عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}:

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: قل يا مـحمد للذين وصفت لك صفتهم من الـمنافقـين: لو كنتـم فـي بـيوتكم لـم تشهدوا مع الـمؤمنـين مشهدهم، ولـم تـحضروا معهم حرب أعدائهم من الـمشركين، فـيظهر للـمؤمنـين ما كنتـم تـخفونه من نفـاقكم، وتكتـمونه من شرككم فـي دينكم، لبرز الذين كتب علـيهم القتل،

يقول: لظهر للـموضع الذي كتب علـيه مصرعه فـيه من قد كتب علـيه القتل منهم، ويخرج من بـيته إلـيه، حتـى يصرع فـي الـموضع الذي كتب علـيه أن يصرع فـيه.

وأما قوله: {وَلِـيَبْتَلِـيَ اللّه ما فِـي صُدُورِكُمْ}: فإنه يعنـي به: ولـيبتلـي اللّه ما فـي صدوركم أيها الـمنافقون كنتـم تبرزون من بـيوتكم إلـى مضاجعكم. ويعنـي بقوله: {وَلِـيَبْتَلِـيَ اللّه ما فِـي صُدُورِكُم}: ولـيختبر اللّه الذي فـي صدوركم من الشكّ، فـيـميزكم بـما يظهره للـمؤمنـين من نفـاقكم من الـمؤمنـين.

وقد دللنا فـيـما مضى علـى أن معانـي نظائر قوله: {لِـيَبْتَلَـيَ اللّه } {ولِـيَعْلَـمَ اللّه } وما أشبه ذلك، وإن كان فـي ظاهر الكلام مضافـا إلـى اللّه الوصف به، فمراد به أولـياؤه وأهل طاعته¹ وأن معنى ذلك: ولـيختبر أولـياء اللّه ، وأهل طاعته، الذي فـي صدوركم من الشكّ والـمرض، فـيعرفوكم من أهل الإخلاص والـيقـين. {ولِـيُـمَـحّصَ ما فـي قُلُوبِكُمْ}

يقول: ولـيتبـينوا ما فـي قلوبكم من الاعتقاد لله ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم وللـمؤمنـين من العداوة أو الولاية. {وَاللّه عَلِـيـمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ}

يقول: واللّه ذو علـم بـالذي فـي صدور خـلقه من خير وشرّ وإيـمان وكفر، لا يخفـى علـيه شيء من أمورهم، سرائرها وعلانـيتها، وهو لـجميع ذلك حافظ، حتـى يجازي جميعم جزاءهم علـى قدر استـحقاقهم.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك كان ابن إسحاق يقول.

٦٥٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة. عن ابن إسحاق، قال: ذكر اللّه تلاومهم، يعنـي: تلاوم الـمنافقـين وحسرتهم علـى ما أصابهم. ثم قال لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: قل لو كنتـم فـي بـيوتكم لـم تـحضروا هذا الـموضع الذي أظهر اللّه جل ثناؤه فـيه منكم ما أظهر من سرائركم، لأخرج الذي كتب علـيهم القتل إلـى موطن غيره يصرعون فـيه، حتـى يبتلـي به ما فـي صدوركم¹ ولـيـمـحص ما فـي قلوبكم، واللّه علـيـم بذات الصدور، أي لا يخفـي علـيه شيء مـما فـي صدورهم مـما استـخفوا به منكم.

٦٥٦١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا الـحرث بن مسلـم، عن بحر السقاء، عن عمرو بن عبـيد، عن الـحسن، قال: سئل عن قوله: {قُلْ لَوْ كَنْتُـمْ فِـي بُـيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلـيْهمْ القَتْلُ إلـى مَضَاجِعَهُمْ} قال: كتب اللّه علـى الـمؤمنـين أن يقاتلوا فـي سبـيـله، ولـيس كل من يقاتل يقتل، ولكن يقتل من كتب اللّه علـيه القتل.

﴿ ١٥٤