١٥٦القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ كَفَرُواْ ... } يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله، وأقرّوا بـما جاء به مـحمد من عند اللّه ، لا تكونوا كمن كفر بـاللّه وبرسوله، فجحد نبوّة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال لإخوانه من أهل الكفر {إذا ضَرَبُوا فـي الأَرْضِ} فخرجوا من بلادهم سفرا فـي تـجارة، {أو كَانُوا غُزّى} يقول: أو كان خروجهم من بلادهم غزاة، فهلكوا فماتوا فـي سفرهم، أو قتلوا فـي غزوهم، {لو كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وما قُتِلُوا} يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفـار، أنهم يقولون لـمن غزا منهم فقتل أو مات فـي سفر خرج فـيه فـي طاعة اللّه أو تـجارة: لو لـم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا فـي بلادهم ما ماتوا وما قتلوا. {لِـيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فـي قُلُوبِهِمْ} يعنـي: أنهم يقولون ذلك، كي يجعل اللّه قولهم ذلك حزنا فـي قلوبهم وغمّا، ويجهلون أن ذلك إلـى اللّه جل ثناؤه وبـيده. وقد قـيـل: إن الذين نهى اللّه الـمؤمنـين بهذه الاَية أن يتشبهوا بهم فـيـما نهاهم عنه من سوء الـيقـين بـالله، هم عبد اللّه بن أبـيّ ابن سَلُول وأصحابه. ذكر من قال ذلك: ٦٥٧١ـ حدثنـي مـحمد قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُو لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ}.. الاَية قال: هؤلاء الـمنافقون أصحاب عبد اللّه بن أبـيّ. ٦٥٧٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ أوْ كانُوا غُزّى} قول الـمنافق عبد اللّه بن أبـيّ ابن سَلُول. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. وقال آخرون فـي ذلك: هم جميع الـمنافقـين. ذكر من قال ذلك: ٦٥٧٣ـ حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {يا أيها الّذِينَ آمَنوا لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإِخْوَانِهِمْ}.. الاَية: أي لا تكونوا كالـمنافقـين الذي ينهون إخوانهم عن الـجهاد فـي سبـيـل اللّه ، والضرب فـي الأرض فـي طاعة اللّه ، وطاعة رسوله، ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا، وما قتلوا. وأما قوله: {إذَا ضَرَبُوا فـي الأرْضِ} فإنه اختُلِف فـي تأويـله، فقال بعضهم: هو السفر فـي التـجارة، والسير فـي الأرض لطلب الـمعيشة. ذكر من قال ذلك: ٦٥٧٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إذَا ضَرَبُوا فـي الأرضِ} وهي التـجارة. وقال آخرون: بل هو السير فـي طاعة اللّه وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: ٦٥٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ}: الضرب فـي الأرض فـي طاعة اللّه وطاعة رسوله. وأصل الضرب فـي الأرض: الإبعاد فـيها سيراوأما قوله: {أوْ كانُوا غُزّى} فإنه يعنـي: أو كانوا غُزاة فـي سبـيـل اللّه . والغُزّى: جمع غاز، جمع علـى فُعّل كما يجمع شاهد: شُهّد، وقائل: قُوّل. وقد ينشد بـيت رؤبة: فـالـيَوْمَ قَدْ نَهْنَهَنِـي تَنَهْنُهيوأَوْلُ حِلْـمٍ لَـيْسَ بـالـمُسَفّةِ وَقُوّلٌ إلاّ دَهٍ فَلا دَهِ وينشد أيضا: وقولهُمْ إلاّ دَهٍ فَلا دَهِ وإنـما قـيـل: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ أوْ كانُوا غُزّى} بإصحاب ماضي الفعل الـحرف الذي لا يصحب مع الـماضي منه إلا الـمستقبل، فقـيـل: وقالوا لإخوانهم ثم قـيـل: إذا ضربوا. وإنـما يقال فـي الكلام: أكرمتك إذ زرتنـي، ولا يقال: أكرمتك إذا زرتنـي، لأن القول الذي فـي قوله: {وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ} وإن كان فـي لفظ الـماضي فإنه بـمعنى الـمستقبل، وذلك أن العرب تذهب بـالذين مذهب الـجزاء، وتعاملها فـي ذلك معاملة (مَنْ) و(ما)، لتقارب معانـي ذلك فـي كثـير من الأشياء، وإن جمعهن أشياء مـجهولات غير مؤقتات توقـيت عمرو وزيد. فلـما كان ذلك كذلك، وكان صحيحا فـي الكلام فصيحا أن يقال للرجال: أكرم من أكرمك، وأكرم كل رجل أكرمك، فـيكون الكلام خارجا بلفظ الـماضي مع مَن وكل مـجهول، ومعناه الاستقبـال، إذ كان الـموصوف بـالفعل غير موقت، وكان (الذين) فـي قوله: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِـي الأرْضِ} غير موقتـين، أجريت مـجرى (من) و(ما) فـي ترجمتها التـي تذهب مذهب الـجزاء وإخراج صلاتها بألفـاظ الـماضي من الأفعال وهي بـمعنى الاستقبـال، كما قال الشاعر فـي (ما): وإنـي لاَتِـيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَىمن الأمْرِ وَاسْتـيجابَ ما كان فـي غَدِ فقال: ما كان فـي غد، وهو يريد: ما يكون فـي غد، ولو كان أراد الـماضي لقال: ما كان فـي أمس، ولـم يجز له أن يقول: ما كان فـي غد. ولو كان الذي موقتا، لـم يجز أن يقال: ذلك خطأ أن يقال لك: من هذا الذي أكرمك إذا زرته؟ لأن الذي ههنا موقت، فقد خرج من معنى الـجزاء، ولو لـم يكن فـي الكلام هذا، لكان جائزا فصيحا، لأن الذي يصير حينئذٍ مـجهولاً غير موقت، ومن ذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه } فردّ (يصدون) علـى (كفروا)، لأن (الذين) غير موقتة، فقوله: {كَفَرُوا} وإن كان فـي لفظ ماض، فمعناه الاستقبـال، وكذلك قوله: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعِمل صَالِـحا}، وقوله: {إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَـيْهِمْ} معناه: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا علـيهم، وإلا من يتوب ويؤمن، ونظائر ذلك فـي القرآن والكلام كثـير¹ والعلة فـي كل ذلك واحدةوأما قوله: {لِـيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فـي قُلُوبِهِمْ} فإنه يعنـي بذلك: حزنا فـي قلوبهم. كما: ٦٥٧٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {فِـي قُلُوبِهِمْ} قال: يحزنهم قولهم لا ينفعهم شيئا. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله. ٦٥٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {لِـيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فِـي قُلُوبِهِمْ} لقلة الـيقـين بربهم جلّ ثناؤه. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّه يُحْيِـي ويُـمِيتُ وَاللّه بِـمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. يعنـي جل ثناؤه بقوله: {واللّه يُحْيـي ويُـمِيتُ}: واللّه الـمعجل الـموت لـمن يشاء من حيث يشاء، والـمـميت من يشاء كلـما شاء دون غيره من سائر خـلقه. وهذا من اللّه عزّ وجلّ ترغيب لعبـاده الـمؤمنـين علـى جهاد عدوّه، والصبر علـى قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قلّ عددهم، وكثر عدد أعدائهم وأعداء اللّه ، وإعلام منه لهم أن الإماتة والإحياء بـيده، وأنه لن يـموت أحد ولا يقتل إلابعد فناء أجله الذي كتب له، ونهي منه لهم إذ كان كذلك أن يجزعوا لـموت من مات منهم أو قتل من قُتل منهم فـي حرب الـمشركين. ثم قال جلّ ثناؤه: {وَاللّه بِـمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ} يقول: إن اللّه يرى ما تعملون من خير وشرّ، فـاتقوه أيها الـمؤمنون، فإنه مـحص ذلك كله، حتـى يجازي كل عامل بعمله علـى قدر استـحقاقه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال ابن إسحاق. ٦٥٧٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَاللّه يُحيِـي ويُـمِيتُ}: أي يعجل ما يشاء ويؤخر ما يشاء من آجالهم بقدرته. |
﴿ ١٥٦ ﴾