١٥٩القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّه لِنتَ لَهُمْ ...} يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه }: فبرحمة من اللّه و(ما) صلة، وقد بـينت وجه دخولها فـي الكلام فـي قوله: {إنّ اللّه لا يَستَـجِيـي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها} والعرب تـجعل (ما) صلة فـي الـمعرفة والنكرة، كما قال: {فبـمَا نقضِهِمْ ميثاقهُمْ} والـمعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وهذا فـي الـمعرفة، وقال فـي النكرة: {عمّا قلـيـلٍ لـيُصبحنَ نادمينَ} والـمعنى: عن قلـيـل. وربـما جعلت اسما وهي فـي مذهب صلة، فـيرفع ما بعدها أحيانا علـى وجه الصلة، ويخفض علـى إتبـاع الصلة ما قبلها، كما قال الشاعر: فكَفَـى بِنَا فَضْلاً علـى مَنْ غيرِناحُبّ النَبِـيّ مـحَمّدٍ إيّانا إذا جعل غير صلة رفعت بإضمار هو، وإن حفضت أتبعت من فأعربته، فذلك حكمة علـى ما وصفنا مع النكرات، فأما إذا كانت الصلة معرفة، كان الفصيح من الكلام الإتبـاع، كما قـيـل: {فبـما نَقْضِهْم مِيثَاقَهُمْ} والرفع جائز فـي العربـية. وبنـحو ما قلنا فـي قوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ} قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: ٦٥٨١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ} يقول: فبرحمة من اللّه لنت لهم. وأما قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِـيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك} فإنه يعنـي بـالفظّ: الـجافـي، وبـالغلـيظ القلب: القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة، وكذلك صفته صلى اللّه عليه وسلم، كما وصفه اللّه : {بـالـمُؤْمِنِـينَ رَءُوفٌ رَحِيـمٌ}. فتأويـل الكلام: فبرحمة اللّه يا مـحمد ورأفته بك، وبـمن آمن بك من أصحابك، لنت لهم لتبّـاعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتـى احتـملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الـجرم منهم جرمه، وأغضبت عن كثـير مـمن لو جفوت به، وأغلظت علـيه، لتركك ففـارقك، ولـم يتبعك، ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن اللّه رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من اللّه لنت لهم. كما: ٦٥٨٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِـيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ}: إي والله، لطهره اللّه من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبـا رحيـما بـالـمؤمنـين رءوفـا. وذكر لنا أن نعت مـحمد صلى اللّه عليه وسلم فـي التوراة: (لـيس بفظّ ولا غلـيظ ولا صخوب فـي الأسواق، ولا يجزي بـالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح). ٦٥٨٣ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، بنـحوه. ٦٥٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق فـي قوله: {فَبِـما رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِـيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال: ذكر لـينه لهم، وصبره علـيهم لضعفهم، وقلة صبرهم علـى الغلظة لو كانت منه فـي كل ما خالفوا فـيه مـما افترض علـيهم من طاعة نبـيهم. وأما قوله: {لانْفَضُوا مِنْ حَوْلِكَ} فإنه يعنـي: لتفرّقوا عنك. كما: ٦٥٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس : قوله: {لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال: انصرفوا عنك. ٦٥٨٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {لا نْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي لتركوك. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...}. يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {فـاعْفُ عَنْهُمْ}: فتـجاوز يا مـحمد عن تبـاعك وأصحابك من الـمؤمنـين بك، وبـما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم، ومكروه فـي نفسك. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وادع ربك لهم بـالـمغفرة لـما أتوا من جرم، واستـحقوا علـيه عقوبة منه. كما: ٦٥٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فـاعْفُ عَنْهُمْ}: أي فتـجاوز عنهم، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ذنوب من قارف من أهل الإيـمان منهم. ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي من أجله أمر تعالـى ذكره نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يشاورهم، وما الـمعنى الذي أمره أن يشاورهم فـيه؟ فقال بعضهم: أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بقوله: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ} بـمشاورة أصحابه فـي مكايد الـحرب وعند لقاء العدوّ، تطيـيبـا منه بذلك أنفسهم، وتألفـا لهم علـى دينهم، ولـيروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان اللّه عزّ وجلّ قد أغناه بتدبـيره له أموره وسياسته إياه وتقويـمه أسبـابه عنهم. ذكر من قال ذلك: ٦٥٨٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه إنّ اللّه يُحِبّ الـمُتَوَكّلِـينَ} أمر اللّه عزّ وجلّ نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يشاور أصحابه فـي الأمور، وهو يأتـيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه اللّه عزم لهم علـى أرشده. ٦٥٨٩ـ حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ} قال: أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم أن يشاور أصحابه فـي الأمور، وهو يأتـيه الوحي من السماء لأنه أطيب لأنفسهم. ٦٥٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ}: أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت عنهم غنـيا، تؤلفهم بذلك علـى دينهم. وقال آخرون: بل أمره بذلك فـي ذلك، وإن كان له الرأي وأصوب الأمور فـي التدبـير، لـما علـم فـي الـمشورة تعالـى ذكره من الفضل. ذكر من قال ذلك: ٦٥٩١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: {وَشاوِرْهُمْ فِـي الأمْرِ} قال: ما أمر اللّه عزّ وجلّ نبـيه صلى اللّه عليه وسلم بـالـمشورة إلا لـما علـم فـيها من الفضل. ٦٥٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن إياس بن دغفل، عن الـحسن: ما شاور قوم قط، إلا هدوا لأرشد أمورهم. وقال آخرون: إنـما أمره اللّه بـمشاورة أصحابه فـيـما أمره بـمشاورتهم فـيه، مع إغنائه بتقويـمه إياه، وتدبـيره أسبـابه عن آرائهم، لـيتبعه الـمؤمنون من بعده، فـيـما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته فـي ذلك، ويحتذوا الـمثال الذي رأوه يفعله فـي حياته من مشاورته فـي أموره مع الـمنزلة التـي هو بها من اللّه أصحابه وتبـاعه فـي الأمر، ينزل بهم من أمر دينهم ودنـياهم، فـيتشاوروا بـينهم، ثم يصدروا عما اجتـمع علـيه ملؤهم¹ لأن الـمؤمنـين إذا تشاوروا فـي أمور دينهم متبعين الـحقّ فـي ذلك، لـم يخـلهم اللّه عزّ وجلّ من لطفه، وتوفـيقه للصواب من الرأي والقول فـيه. قالوا: وذلك نظير قوله عزّ وجل الذي مدح به أهل الإيـمان: {وَأمْرُهُمْ شُورَى بَـيْنَهُمْ}. ذكر من قال ذلك: ٦٥٩٣ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه العنبري، قال: قال سفـيان بن عيـينة فـي قوله: {وَشاوِرهُمْ فِـي الأمْرِ} قال: هي للـمؤمنـين أن يتشاوروا فـيـما لـم يأتهم عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم فـيه أثر. قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك أن يقال: إن اللّه عزّ وجلّ أمر نبـيه صلى اللّه عليه وسلم وسلـم بـمشاورة أصحابه، فـيـما حزبه من أمر عدوّه ومكايد حربه، تألفـا منه بذلك من لـم تكن بصيرته بـالإسلام البصيرة التـي يؤمن علـيه معها فتنة الشيطان، وتعريفـا منه أمته ما فـي الأمور التـي تـحزبهم من بعده ومطلبها، لـيقتدوا به فـي ذلك عند النوازل التـي تنزل بهم، فـيتشاوروا فـيـما بـينهم، كما كانوا يرونه فـي حياته صلى اللّه عليه وسلم يفعله. فأما النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإن اللّه كان يعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلكوأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنـين بفعله فـي ذلك علـى تصادق وتأخّ للـحقّ وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميـل إلـى هوى، ولا حيد عن هدى¹ فـاللّه مسدّدهم وموفقهم. وأما قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه } فإنه يعنـي: فإذا صحّ عزمك بتثبـيتنا إياك وتسديدنا لك فـيـما نابك وحزبك من أمر دينك ودنـياك، فـامض لـما أمرناك به علـى ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به علـيك أو خالفها، وتوكل فـيـما تأتـي من أمورك وتدع وتـحاول أو تزاول علـى ربك، فثق به فـي كل ذلك، وارض بقضائه فـي جميعه دون آراء سائر خـلقه ومعونتهم، فإن اللّه يحبّ الـمتوكلـين، وهم الراضون بقضائه، والـمستسلـمون لـحكمه فـيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه. كما: ٦٥٩٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه إنّ اللّه يُحِبّ الـمُتَوكّلِـينَ} فإذا عزمت: أي علـى أمر جاءك منـي، أو أمر من دينك فـي جهاد عدوّك، لا يصلـحك ولا يصلـحهم إلا ذلك، فـامض علـى ما أمرت به، علـى خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك، وتوكل علـى اللّه : أي ارض به من العبـاد، إن اللّه يحبّ الـمتوكلـين. ٦٥٩٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه } أمر اللّه نبـيه صلى اللّه عليه وسلم، إذا عزم علـى أمر أن يـمضي فـيه، ويستقـيـم علـى أمر اللّه ، ويتوكل علـى اللّه . ٦٥٩٦ـ حُدثت عن عمار، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ علـى اللّه }.. الاَية، أمره اللّه إذا عزم علـى أمر أن يـمضي فـيه ويتوكل علـيه. |
﴿ ١٥٩ ﴾