تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن

 للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري

 إمام المفسرين المجتهد (ت ٣١٠ هـ ٩٢٣ م)

_________________________________

سورة النساء

١

قال أبو جعفر: يعنـي بقوله تعالـى ذكره: {يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَـلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}: احذروا أيها الناس ربكم فـي أن تـخالفوه فـيـما أمركم، وفـيـما نهاكم، فـيحلّ بكم من عقوبته ما لا قِبَل لكم به. ثم وصف تعالـى ذكره نفسه بأنه الـمتوحد بخـلق جميع الأنام من شخص واحد، وعرّف عبـاده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبههم بذلك علـى أن جميعهم بنو رجل واحد وأمّ واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حقّ بعضهم علـى بعض واجب وجوب حقّ الأخ علـى أخيه، لاجتـماعهم فـي النسب إلـى أب واحد وأم واحدة. وأن الذي يـلزمهم من رعاية بعضهم حقّ بعض، وإن بعد التلاقـي فـي النسب إلـى الأب الـجامع بـينهم، مثل الذي يـلزمهم من ذلك فـي النسب الأدنى. وعاطفـا بذلك بعضهم علـى بعض، لـيتناصفوا، ولا يتظالـموا، ولـيبذل القويّ من نفسه للضعيف حقه بـالـمعروف، علـى ما ألزمه اللّه له،

فقال: {الّذِي خَـلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعنـي من آدم. كما:

٦٨١٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما {خَـلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}: فمن آدم صلى اللّه عليه وسلم.

٦٨١٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَـلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعنـي: آدم صلى اللّه عليه وسلم.

٦٨٢٠ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد: {خَـلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} قال: آدم.

ونظير قوله: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} والـمعنـيّ به رجل، قول الشاعر:

أبوكَ خـلـيفَةٌ وَلَدتْهُ أُخْرَىوأنتَ خـلـيفةٌ ذاكَ الكَمالُ

فقال: (ولدته أخرى)، وهو يريد الرجل، فأنث للفظ الـخـلـيفة

وقال تعالـى ذكره: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} لتأنـيث (النفس) والـمعنى. (من رجل واحد) ولو

قـيـل: (من نفس واحد)، وأخرج اللفظ علـى التذكير للـمعنى كان صوابـا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَخَـلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِـيرا وَنِساءً}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَخَـلَقَ مِنْها زَوْجَها} وخـلق من النفس الواحدة زوجها¹ يعنـي بـ (الزوج) الثانـي لها وهو فـيـما

قال أهل التأويـل: امرأتها، حوّاء. ذكر من قال ذلك:

٦٨٢١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَخَـلَقَ مِنْها زَوْجَها} قال: حوّاء من قُصَيْرَى آدم وهو نائم، فـاستـيقظ فقال: (أثا) بـالنبطية امرأة.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٨٢٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَخَـلَقَ مِنْها زَوْجَها} يعنـي حوّاء خـلقت من آدم، من ضلع من أضلاعه.

٦٨٢٣ـ حدثنـي موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: أسكن آدم الـجنة، فكان يـمشي فـيها وَحِشا لـيس له زوج يسكن إلـيها¹ فنام نومة، فـاستـيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خـلقها اللّه من ضلعه، فسألها ما أنتِ؟ قالت امرأة، قال: ولـم خـلقتِ؟ قالت: لتسكن إلـي.

٦٨٢٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ألقـي علـى آدم صلى اللّه عليه وسلم السّنة فـيـما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلـم، عن عبد اللّه بن العبـاس وغيره، ثم أخذ ضِلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه، وآدم نائم لـم يهبّ من نومته، حتـى خـلق اللّه تبـارك وتعالـى من ضلعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأة لـيسكن إلـيها، فلـما كُشفت عنه السّنة وهبّ من نومته رآها إلـى جنبه، فقال فـيـما يزعمون واللّه أعلـم: لـحمي ودمي وزوجتـي! فسكن إلـيها.

ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدّي: {وَخَـلَقَ مِنْها زَوْجَها} جعل من آدم حوّاء.

وأما قوله: {وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِـيرا وَنِساء} فإنه يعنـي ونشر منهما يعنـي من آدم وحواء {رِجَالاً كَثِـيرا وَنِسَاءً} قد رآهم، كما قال جلّ ثناؤه: {كالفَرَاشِ الـمَبْثُوثِ}. يقال منه: بثّ اللّه الـخـلق وأبثهم.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٨٢٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَبَثّ مِنْهَما رِجالاً كَثِـيرا وَنِساءً} وبثّ: خَـلَق.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحام}.

اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأه عامة قراء أهل الـمدينة والبصرة: (تَسّاءَلُونَ) بـالتشديد، بـمعنى: تتساءلون، ثم أدغم إحدى التاءين فـي السين، فجعلهما سينا مشددة. وقرأه بعض قراء الكوفة: {تَسَاءَلُونَ} بـالتـخفـيف علـى مثال (تَفَـاعَلُونَ)، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان، أعنـي التـخفـيف والتشديد فـي قوله: {تَساءَلُونَ بِهِ}، وبأيّ ذلك قرأ القارىء أصاب الصواب فـيه، لأن معنى ذلك بأيّ وجهيه قرىء غير مختلف.

وأما تأويـله: {وَاتّقُوا اللّه } أيها الناس، الذي إذا سأل بعضكم بعضا سأل به، فقال السائل للـمسؤول: أسألك بـالله، وأنشدك بـالله، وأعزم علـيك بـالله، وما أشبه ذلك.

يقول تعالـى ذكره: فكما تعظّمون أيها الناس ربكم بألسنتكم، حتـى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه، فقد أتـى عظيـما، فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فـيـما أمركم، واجتنابكم ما نهاكم عنه، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فـيـما أمركم به أو نهاكم عنه. كما:

٦٨٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ} قال:

يقول: اتقوا اللّه الذي تعاقدون وتعاهدون به.

٦٨٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ}

يقول: اتقوا اللّه الذي به تعاقدون وتعاهدون.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : {تَساءَلُونَ بِهِ} قال: تعاطفون به.

وأما قوله: {والأرْحامَ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معناه: واتقوا اللّه الذي إذا سألتـم بـينكم، قال السائل للـمسؤول: أسألك به وبـالرحم. ذكر من قال ذلك:

٦٨٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيـم: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ}

يقول: اتقوا اللّه الذي تعاطفون به والأرحام.

يقول: الرجل يسأل بـاللّه وبـالرحم.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: هو كقول الرجل: أسألك بـالله، أسألك بـالرحم. يعنـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ}.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ الأرْحامَ} قال:

يقول: أسألك بـاللّه وبـالرحم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، هو كقول الرجل: أسألك بـالرحم.

٦٨٢٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال:

يقول: أسألك بـاللّه وبـالرحم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن منصور أو مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ} قال: هو قول الرجل: أسألك بـاللّه والرحم.

ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الـحسن، قال: هو قول الرجل: أنشدك بـاللّه والرحم.

قال مـحمد: وعلـى هذا التأويـل قول بعض من قرأ قوله: (والأرْحامِ) بـالـخفض عطفـا بـالأرحام علـى الهاء التـي فـي قوله (به)، كأنه أراد: واتقوا اللّه الذي تساءلون به وبـالأرحام، فعطف بظاهر علـى مكنـيّ مخفوض. وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب لأنها لا تنسق بظاهر علـى مكنـي فـي الـخفض إلا فـي ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر¹ وأما الكلام فلا شيء يضطرّ الـمتكلـم إلـى اختـيار الـمكروه من الـمنطق والرديء فـي الإعراب منه. ومـما جاء فـي الشعر من ردّ ظاهر علـى مكنـيّ فـي حال الـخفض قول الشاعر:

نُعَلّقُ فِـي مِثْلِ السّوَارِي سُيُوفَناوَما بـينها وَالكَعْبِ غُوطٌ نَفـانِفُ

فعطف (الكعب) وهو ظاهر علـى الهاء والألف فـي قوله (بـينها) وهي مكنـية.

وقال آخرون: تأويـل ذلك: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ} واتقوا الأرحام أن تقطعوها. ذكر من قال ذلك:

٦٨٣٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ}

يقول: اتقوا اللّه ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها.

٦٨٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنّ اللّه كانَ عَلَـيْكُمْ رَقِـيبـا} ذكر لنا أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (اتّقُوا اللّه وَصِلُوا الأرْحامَ، فإنّهُ أبْقَـى لَكُمْ فِـي الدّنـيْا، وَخَيْرٌ لَكُمْ فِـي الاَخِرَةِ).

٦٨٣٢ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس فـي قول اللّه : {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ}

يقول: اتقوا اللّه الذي تساءلون به، واتقوا اللّه فـي الأرحام فصلوها.

٦٨٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيـم، عن منصور، عن الـحسن فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال: اتقوا اللّه الذي تساءلون به، واتقوه فـي الأرحام.

٦٨٣٤ـ حدثنا سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن خصيف، عن عكرمة فـي قول اللّه : {الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال: اتقوا الأرحام أن تقطعوها.

٦٨٣٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال: هو قول الرجل: أنشدك بـاللّه والرحم.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (اتّقُوا اللّه وَصِلُوا الأرْحامَ).

٦٨٣٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال: اتقوا الأرحام أن تقطعوها.

٦٨٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنـي أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال:

يقول: اتقوا اللّه فـي الأرحام فصِلوها.

٦٨٣٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} قال:

يقول: واتقوا اللّه فـي الأرحام فصِلوها.

٦٨٣٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبـي حماد، وأخبرنا أبو جعفر الـخزاز، عن جويبر، عن الضحاك ، أن ابن عبـاس كان يقرأ: {والأرْحامَ}

يقول: اتقوا اللّه لا تقطعوها.

٦٨٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال:

قال ابن عبـاس : اتقوا الأرحام.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} أن تقطعوها.

٦٨٤١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ} واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقرأ: {وَالّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّه بِهِ أنْ يُوصَل}.

قال أبو جعفر: وعلـى هذا التأويـل قرأ ذلك من قرأه نصبـا، بـمعنى: واتقوا اللّه الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، عطفـا بـالأرحام فـي إعرابها بـالنصب علـى اسم اللّه تعالـى ذكره

قال: والقراءة التـي لا نستـجيز للقارىء أن يقرأ غيرها فـي ذلك النصب: {وَاتّقُوا اللّه الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ} بـمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لـما قد بـينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء علـى مكنـيّ فـي حال الـخفض، إلا فـي ضرورة شعر، علـى ما قد وصفت قبل.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إنّ اللّه كانَ عَلَـيْكُمْ رَقِـيبـا}.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك تعالـى ذكره: إن اللّه لـم يزل علـيكم رقـيبـا. ويعنـي بقوله: {عَلَـيْكُمْ}: علـى الناس الذين قال لهم جلّ ثناؤه: يا أيها الناس اتقوا ربكم والـمخاطب والغائب إذا اجتـمعا فـي الـخبر، فإن العرب تـخرج الكلام علـى الـخطاب، فتقول إذا خاطبت رجلاً واحدا أو جماعة فعلتْ هي وآخرون غيّب معهم فعلاً: فعلتـم كذا، وصنعتـم. كذا ويعنـي بقوله: {رَقِـيبـا}: حفـيظا، مـحصيا علـيكم أعمالكم، متفقدا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها، وقطعكموها وتضيـيعكم حرمتها. كما:

٦٨٤٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {إنّ اللّه كانَ عَلَـيْكُمْ رَقِـيبـا}: حفـيظا.

٦٨٤٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد فـي قوله: {إنّ اللّه كانَ عَلَـيْكُمْ رَقِـيبـا} علـى أعمالكم، يعلـمها ويعرفها.

ومنه قول أبـي دؤاد الإيادي:

كمَقاعِدِ الرّقَبـاءِللضّرَبـاءِ أيدِيهِمْ نَوَاهِدْ

٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ ...}.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك تعالـى ذكره أوصياء الـيتامى، يقول لهم: وأعطوا يا معشر أوصياء الـيتامى أموالهم، إذا هم بلغوا الـحلـم وأونس منهم الرشد. {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ}

يقول: ولا تستبدلوا الـحرام علـيكم من أموالهم بأموالكم الـحلال لكم. كما:

٦٨٤٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تعالـى: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} قال: الـحلال بـالـحرام.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي سفـيان، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} قال: الـحرام مكان الـحلال.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويـل فـي صفة تبديـلهم الـخبـيث بـالطيب الذي نهوا عنه ومعناه،

فقال بعضهم: كان أوصياء الـيتامى يأخذون الـجيد من ماله والرفـيع منه، ويجعلون مكانه للـيتـيـم الرديء والـخسيس، فذلك تبديـلهم الذي نهاهم اللّه تعالـى عنه. ذكر من قال ذلك:

٦٨٤٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} قال: لا تعط زيفـا وتأخذ جيدا.

٦٨٤٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن السديّ، وعن يحيـى بن سعيد، عن سعيد بن الـمسيب ومعمر، عن الزهري،

قالوا: يعطي مهزولاً ويأخذ سمينا.

٦٨٤٧ـ وبه عن سفـيان ، عن رجل، عن الضحاك ، قال: لا تعط فـاسدا وتأخذ جيدا.

٦٨٤٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنـم الـيتـيـم، ويجعل مكانها الشاة الـمهزولة، و

يقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الـجيد، ويطرح مكانه الزيف، و

يقول: درهم بدرهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تستعجل الرزق الـحرام فتأكله قبل أن يأتـيك الذي قدّر لك من الـحلال. ذكر من قال ذلك:

٦٨٤٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} قال: لا تعجل بـالرزق الـحرام قبل أن يأتـيك الـحلال الذي قدّر لك.

وبه عن سفـيان، عن إسماعيـل، عن أبـي صالـح مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك كالذي:

٦٨٥٠ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} قال: كان أهل الـجاهلـية لا يورّثون النساء، ولا يورّثون الصغار يأخذه الأكبر. وقرأ: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: إذا لـم يكن لهم شيء، {والـمُسْتَضْعَفِـينَ مِنَ الوِلْدَانِ} لا يورثوهم، قال، فنصيبه من الـميراث طيب، وهذا الذي أخذه خبـيث.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية قول من قال: تأويـل ذلك: ولا تتبدّلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الـحرام علـيكم الـخبـيث لكم، فتأخذوا رفـائعها وخيارها وجيادها (بـالطيب الـحلال لكم من أموالكم) {وتـجعلوا} الرديء الـخسيس بدلاً منه. وذلك أن تَبَدّل الشيء بـالشيء فـي كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره، يعطيه الـمأخوذ منه، أو يجعله مكان الذي أخذ. فإذا كان ذلك معنى التبديـل والاستبدال، فمعلوم أن الذي قاله ابن زيد من أن معنى ذلك: هو أخذ أكبر ولد الـميت جميع مال ميته ووالده دون صغارهم إلـى ماله، قول لا معنى له، لأنه إذا أخذ الأكبر من ولده جميع ماله دون الأصاغر منهم، فلـم يستبدل مـما أخذ شيئا. فما التبدّل الذي قال جلّ ثناؤه: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ} ولـم يبدّل الاَخذ مكان الـمأخوذ بدلاً؟ وأما الذي قاله مـجاهد وأبو صالـح من أن معنى ذلك لا تتعجل الرزق الـحرام قبل مـجيء الـحلال، فإنهما أيضا إن لـم يكونا أرادا بذلك نـحو القول الذي روي عن ابن مسعود أنه قال: إن الرجل لـيحرم الرزق بـالـمعصية يأتـيها، ففساده نظير فساد قول ابن زيد، لأن من استعجل الـحرام فأكله، ثم آتاه اللّه رزقه الـحلال فلـم يبدّل شيئا مكان شيء، وإن كانا أرادا بذلك أن اللّه جل ثناؤه نهى عبـاده أن يستعجلوا الـحرام فـيأكلوه قبل مـجيء الـحلال، فـيكون أكلهم ذلك سببـا لـحرمان الطيب منه، فذلك وجه معروف، ومذهب معقول يحتـمله التأويـل، غير أن الأشبه فـي ذلك بتأويـل الاَية ما قلنا، لأن ذلك هو الأظهر من معانـيه، لأن اللّه جل ثناؤه إنـما ذكر ذلك فـي قصة أموال الـيتامى وأحكامها، فلا يكون ذلك من جنس حكم أوّل الاَية، فأخرجها من أن يكون من غير جنسه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهُمْ إلـى أمْوَالِكُمْ}.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولا تـخـلطوا أموالهم ـ يعنـي: أموال الـيتامى بأموالكم ـ فتأكلوها مع أموالكم. كما:

٦٨٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالهُمْ إلـى أمْوَالِكُمْ}

يقول: لا تأكلوا أموالكم وأموالهم، تـخـلطوها فتأكلوها جميعا.

٦٨٥٢ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن مبـارك، عن الـحسن، قال: لـما نزلت هذه الاَية فـي أموال الـيتامى، كرهوا أن يخالطوهم، وجعل ولـيّ الـيتـيـم يعزل مال الـيتـيـم عن ماله، فشكوا ذلك إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الـيَتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُـخالِطُوهُمْ فـاخْوَانُكُمْ} قال: فخالطوهم واتّقوا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا}.

قال أبو جعفر: يعنـي تعالـى ذكره (بقوله): {إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا} إن أكلكم أموال أيتامكم مع أموالكم حوب كبـير. والهاء فـي قوله (إنّهُ) دالة علـى اسم الفعل، أعنـي الأكلوأما الـحُوب: فإنه الإثم، يقال منه: حاب الرجل يحوب حَوْبـا وَحُوبـا وحيابة، ويقال منه: قد تـحوّب الرجل من كذا، إذا تأثم منه. ومنه قول أمية بن الأسكر اللـيثـي:

وإنّ مُهاجِرَيْنِ تَكَنّفـاهُغَدَاتَئِذٍ لقَدْ خَطِئا وَحابـا

ومنه

قـيـل: نزلنا بَحوْبة من الأرض وبحيبة من الأرض: إذا نزلوا بـموضع سَوء منها. والكبـير: العظيـم، فمعنى ذلك: إن أكلكم أموال الـيتامى مع أموالكم، إثم عند اللّه عظيـم.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٨٥٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو وعمرو بن علـيّ، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : {حُوبـا كَبِـيرا} قال: إثما.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

٦٨٥٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا} قال: إثما عظيـما.

٦٨٥٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {كانَ حُوبـا} أما حوبـا: فإثما.

٦٨٥٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: {حُوبـا} قال: إثما.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا}

يقول: ظلـما كبـيرا.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد، يقول فـي قوله: {إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا} قال: ذنبـا كبـيرا، وهي لأهل الإسلام.

٦٨٥٧ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا قرة بن خالد، قال: سمعت الـحسن

يقول: {حُوبـا كَبِـيرا} قال: إثما واللّه عظيـما.

٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ ...}.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: وإن خفتـم يا معشر أولـياء الـيتامى ألا تقسطوا فـي صداقهنّ فتعدلوا فـيه، وتبلغوا بصداقهنّ صدقات أمثالهنّ، فلا تنكحوهنّ، ولكن انكحوا غيرهنّ من الغرائب اللواتـي أحلهنّ اللّه لكم وطيبهنّ من واحدة إلـى أربع. وإن خفتـم أن تـجوروا إذا نكحتـم من الغرائب أكثر من واحدة، فلا تعدلوا، فـانكحوا منهنّ واحدة، أو ما ملكت أيـمانكم. ذكر من قال ذلك: ٦٨٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} فقالت: يا ابن أختـي، هي الـيتـيـمة تكون فـي حجر ولـيها، فـيرغب فـي مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها، فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ فـي إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي عروة بن الزبـير، أنه سأل عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، عن قول اللّه تبـارك وتعالـى: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} قالت: يا ابن أختـي هذه الـيتـيـمة تكون فـي حجر ولـيها، تشاركه فـي ماله، فـيعجبه مالها وجمالها، فـيريد ولـيها أن يتزوجها بغير أن يقسط فـي صداقها، فـيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلـى سنتهنّ فـي الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال يونس بن يزيد: قال ربـيعة فـي قول اللّه : {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى} قال:

يقول: اتركوهنّ فقد أحللت لكم أربعا.

حدثنا الـحسن بن الـجنـيد وأبو سعيد بن مسلـمة، قالا: أنبأنا إسماعيـل بن أمية، عن ابن شهاب، عن عروة، قال: سألت عائشة أمّ الـمؤمنـين، فقلت: يا أمّ الـمؤمنـين أرأيت قول اللّه : {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}؟ قالت: يا ابن أختـي هي الـيتـيـمة تكون فـي حجر ولـيها، فـيرغب فـي جمالها ومالها، ويريد أن يتزوّجها بأدنى من سنة صداق نسائها، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا فـيكملوا لهنّ الصداق، ثم أمروا أن ينكحوا سواهنّ من النساء إن لـم يكملوا لهنّ الصداق.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي اللـيث، قال: ثنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: ثنـي عروة بن الزبـير، أنه سأل عائشة زوج النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، مثل حديث ابن حميد، عن ابن الـمبـارك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن هشام، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: نزل، يعنـي قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى}.. الاَية، فـي الـيتـيـمة تكون عند الرجل، وهي ذات مال، فلعله ينكحها لـمالها، وهي لا تعجبه، ثم يضرّ بها، ويسيء صحبتها، فوعظ فـي ذلك.

قال أبو جعفر: فعلـى هذا التأويـل جواب قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا} قوله: {فـانْكِحُوا}.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: النهي عن نكاح ما فوق الأربع، حذرا علـى أموال الـيتامى أن يتلفها أولـياؤهم، وذلك أن قريشا، كان الرجل منهم يتزوّج العشر من النساء، والأكثر، والأقلّ، فإذا صار معدما، مال علـى مال يتـيـمه الذي فـي حجره، فأنفقه، أو تزوّج به، فنهوا عن ذلك¹ وقـيـل لهم: إن أنتـم خفتـم علـى أموال أيتامكم أن تنفقوها، فلا تعدلوا فـيها من أجل حاجتكم إلـيها، لـما يـلزمكم من مؤن نسائكم، فلا تـجاوزوا فـيـما تنكحون من عدد النساء علـى أربع، وإن خفتـم أيضا من الأربع ألا تعدلوا فـي أموالهم فـاقتصروا علـى الواحدة، أو علـى ما ملكت أيـمانكم. ذكر من قال ذلك:

٦٨٥٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت عكرمة يقول فـي هذه الاَية: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى} قال: كان الرجل من قريش يكون عنده النسوة، ويكون عنده الأيتام، فـيذهب ماله، فـيـميـل علـى مال الأيتام

قال: فنزلت هذه الاَية: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}.

حدثنا هناد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة فـي قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعِدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمانُكُمْ} قال: كان الرجل يتزوّج الأربع والـخمس والستّ والعشر، فـيقول الرجل: ما يـمنعنـي أن أتزوّج كما تزوّج فلان، فـيأخذ مال يتـيـمه فـيتزوّج به، فنهوا أن يتزوّجوا فوق الأربع.

٦٨٦٠ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـيّ، عن سفـيان، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن طاوس، عن ابن عبـاس ، قال: قصر الرجال علـى أربع من أجل أموال الـيتامى.

٦٨٦١ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى} فإن الرجل كان يتزوّج بـمال الـيتـيـم ما شاء اللّه تعالـى، فنهى اللّه عن ذلك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن القوم كانوا يتـحوّبون فـي أموال الـيتامى ألا يعدلوا فـيها، ولا يتـحوّبون فـي النساء ألا يعدلوا فـيهنّ، فقـيـل لهم: كما خفتـم أن لا تعدلوا فـي الـيتامى، فكذلك فخافوا فـي النساء أن لا تعدلوا فـيهنّ، ولا تنكحوا منهنّ إلا من واحدة إلـى الأربع، ولا تزيدوا علـى ذلك، وأن خفتـم ألا تعدلوا أيضا فـي الزيادة علـى الواحدة، فلا تنكحوا إلا ما لا تـخافون أن تـجوروا فـيهنّ من واحدة أو ما ملكت أيـمانكم. ذكر من قال ذلك:

٦٨٦٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير، قال: كان الناس علـى جاهلـيتهم، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه

قال: فذكروا الـيتامى، فنزلت: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمانُكُمْ} قال: فكما خفتـم أن لا تقسطوا فـي الـيتامى، فكذلك فخافوا أن لا تقسطوا فـي النساء.

٦٨٦٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى} إلـى: {أيـمَانُكُمْ} كانوا يشدّدون فـي الـيتامى، ولا يشدّدون فـي النساء، ينكح أحدهم النسوة، فلا يعدل بـينهنّ¹ فقال اللّه تبـارك وتعالـى: كما تـخافون أن لا تعدلوا بـين الـيتامى فخافوا فـي النساء، فـانكحوا واحدة إلـى الأربع، فإن خفتـم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيـمانكم.

٦٨٦٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} حتـى بلغ: {أدْنَى ألاّ تَعُولُوا}

يقول: كما خفتـم الـجور فـي الـيتامى وهمّكم ذلك، فكذلك فخافوا فـي جمع النساء. وكان الرجل فـي الـجاهلـية يتزوّج العشرة فما دون ذلك، فأحلّ اللّه جل ثناؤه أربعا، ثم الذي صيرهنّ إلـى أربع قوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}

يقول: إن خفت ألا تعدل فـي أربع فثلاث، وإلا فثنتـين، وإلا فواحدة¹ وإن خفت ألا تعدل فـي واحدة، فما ملكت يـمينك.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير، قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}

يقول: ما أحل لكم من النساء، {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} فخافوا فـي النساء مثل الذي خفتـم فـي الـيتامى ألا تقسطوا فـيهن.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير، قال جاء الإسلام، والناس علـى جاهلـيتهم، إلا أن يؤمروا بشيء فـيتبعوه أو ينهوا عن شيء فـيجتنبوه، حتـى سألوا عن الـيتامى، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ}.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير، قال: بعث اللّه تبـارك وتعالـى مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، والناس علـى أمر جاهلـيتهم، إلا أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه، وكانوا يسألونه عن الـيتامى، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} قال: فكما تـخافون ألا تقسطوا فـي الـيتامى فخافوا ألا تقسطوا وتعدلوا فـي النساء.

٦٨٦٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى} قال: كانوا فـي الـجاهلـية ينكحون عشرا من النساء الأيامى، وكانوا يعظمون شأن الـيتـيـم، فتفقدوا من دينهم شأن الـيتـيـم، وتركوا ما كانوا ينكحون فـي الـجاهلـية،

فقال: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} ونهاهم عما كانوا ينكحون فـي الـجاهلـية.

٦٨٦٦ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} كانوا فـي جاهلـيتهم لا يرزءون من مال الـيتـيـم شيئا، وهم ينكحون عشرا من النساء، وينكحون نساء آبـائهم، فتفقدوا من دينهم شأن النساء، فوعظهم اللّه فـي الـيتامى وفـي النساء، فقال فـي الـيتامى: {وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ}.. إلـى: {إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا} ووعظهم فـي شأن النساء،

فقال: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}.. الاَية، وقال: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ}.

٦٨٦٧ـ حُدثت عن عمار عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع فـي قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى}.. إلـى: {ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}

يقول: فإن خفتـم الـجور فـي الـيتامى وغمكم ذلك، فكذلك فخافوا فـي جمع النساء

قال: وكان الرجل يتزوّج العشر فـي الـجاهلـية فما دون ذلك، وأحلّ اللّه أربعا وصيرهم إلـى أربع،

يقول: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وإن خفت ألا تعدل فـي واحدة، فما ملكت يـمينك.

وقال آخرون: معنى ذلك: فكما خفتـم فـي الـيتامى، فكذلك فتـخوفوا فـي النساء أن تزنوا بهنّ، ولكن انكحوا ما طاب لكم من النساء. ذكر من قال ذلك:

٦٨٦٨ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى}

يقول: إن تـحرّجتـم فـي ولاية الـيتامى وأكل أموالهم إيـمانا وتصديقا، فكذلك فتـحرّجوا من الزنا، وانكحوا النساء نكاحا طيبـا: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإن خفتـم ألا تقسطوا فـي الـيتامى اللاتـي أنتـم ولاتهن، فلا تنكحوهنّ، وانكحوا أنتـم ما أحلّ لكم منهنّ. ذكر من قال ذلك:

٦٨٦٩ـ حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى} قال: نزلت فـي الـيتـيـمة تكون عند الرجل هو ولـيها، لـيس لها ولـيّ غيره، ولـيس أحد ينازعه فـيها، ولا ينكحها لـمالها، فـيضرّ بها، ويسيء صحبتها.

٦٨٧٠ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن فـي هذه الاَية: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ}: أي ما حلّ لكم من يتاماكم من قرابـاتكم {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي ذلك بتأويـل الاَية قول من قال: تأويـلها: وإن خفتـم ألا تقسطوا فـي الـيتامى، فكذلك فخافوا فـي النساء، فلا تنكحوا منهنّ إلا ما لا تـخافون أن تـجوروا فـيه منهنّ من واحدة إلا الأربع، فإن خفتـم الـجور فـي الواحدة أيضا فلا تنكحوها، ولكن علـيكم بـما ملكت أيـمانكم، فإنه أحرى أن لا تـجوروا علـيهنّ.

وإنـما قلنا: إن ذلك أولـى بتأويـل الاَية، لأن اللّه جل ثناؤه افتتـح الاَية التـي قبلها بـالنهي عن أكل أموال الـيتامى بغير حقها، وخـلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالـى ذكره: {وآتوا الـيَتامَى أمْوَالَهمْ وَلا تَتَبَدّلُوا الـخَبِـيثَ بـالطّيّبِ وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَهمْ إلـى أمْوَالِكمْ إنّهُ كانَ حُوبـا كَبِـيرا}. ثم أعلـمهم أنهم إن اتقوا اللّه فـي ذلك فتـحرّجوا فـيه، فـالواجب علـيهم من اتقاء اللّه ، والتـحرّج فـي أمر النساء مثل الذي علـيهم ظن التـحرّج فـي أمر الـيتامى، وأعلـمهم كيف التـخـلص لهم من الـجور فـيهنّ، كما عرّفهم الـمخـلص من الـجور فـي أموال الـيتامى،

فقال: انكحوا إن أمنتـم الـجور فـي النساء علـى أنفسكم، ما أبحت لكم منهنّ وحللته، مثنى وثلاث وربـاع، فإن خفتـم أيضا الـجور علـى أنفسكم فـي أمر الواحدة بأن تقدروا علـى إنصافها، فلا تنكحوها، ولكن تسرّوا من الـمـمالـيك، فإنكم أحرى أن لا تـجوروا علـيهنّ، لأنهنّ أملاككم وأموالكم، ولا يـلزمكم لهنّ من الـحقوق كالذي يـلزمكم للـحرائر، فـيكون ذلك أقرب لكم إلـى السلامة من الإثم والـجور، ففـي الكلام إذ كان الـمعنى ما قلنا، متروك استغنى بدلالة ما ظهر من الكلام عن ذكره. وذلك أن معنى الكلام: وإن خفتـم ألا تقسطوا فـي أموال الـيتامى فتعدّلوا فـيها، فكذلك فخافوا ألا تقسطوا فـي حقوق النساء التـي أوجبها اللّه علـيكم، فلا تتزّوّجوا منهنّ إلا ما أمنتـم معه الـجور، مثنى وثلاث وربـاع، وإن خفتـم أيضا فـي ذلك فواحدة، وإن خفتـم فـي الواحدة فما ملكت أيـمانكم فترك ذكر قوله فكذلك فخافوا أن تقسطوا فـي حقوق النساء بدلالة ما ظهر من قوله تعالـى: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}.

فإن قال قائل: فأين جواب قوله: {وَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تُقْسِطُوا فـي الـيَتامَى}؟

قـيـل: قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ} غير أن الـمعنى الذي يدلّ علـى أن الـمراد بذلك ما قلنا: قوله: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولوا}.

وقد بـينا فـيـما مضى قبل أن معنى الإقساط فـي كلام العرب: العدل والإنصاف، وأن القسط: الـجور والـحيف، بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضعوأما الـيتامى، فإنها جمع لذكران الأيتام وإناثهم فـي هذا الـموضعوأما قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} فإنه يعنـي: فـانكحوا ما حلّ لكم منهنّ دون ما حرّم علـيكم منهنّ. كما:

٦٨٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي مالك، قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}: ما حلّ لكم.

٦٨٧٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}

يقول: ما حَلّ لكم.

فإن قال قائل: وكيف

قـيـل: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} ولـم يقل: فـانكحوا من طاب لكم، وإنـما يقال ما فـي غير الناس؟

قـيـل: معنى ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه، وإنـما معناه: فـانكحوا نكاحا طيبـا. كما:

٦٨٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} فـانكحوا النساء نكاحا طيبـا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

فـالـمعنـيّ بقوله: {ما طابَ لَكمْ} الفعل دون أعيان النساء وأشخاصهنّ، فلذلك قـيـل (ما) ولـم يقل (من)، كما يقال: خذ من رقـيقـي ما أردت إذا عنـيت، خذ منهم إرادتك، ولو أردت خذ الذي تريد منهم لقلت: خذ من رقـيقـي من أردت منهم. وكذلك قوله: {أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ} بـمعنى: أو ملك أيـمانكم. وإنـما معنى قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} فلـينكح كل واحد منكم مثنى وثلاث وربـاع، كما

قـيـل: {وَالّذِينَ يَرْمونَ الـمـحْصَناتِ ثُمّ لَـمْ يَأْتَوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فـاجْلِدُوهُم ثَمانِـينَ جَلْدَةً}وأما قوله {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} فإنـما ترك إجراؤهنّ لأنهنّ معدولات عن اثنـين وثلاث وأربع، كما عدل عمر عن عامر وزفر عن زافر فترك إجراؤه، وكذلك أحاد وثناء وموحد ومثنى ومثلث ومربع، لا يجري ذلك كله للعلة التـي ذكرت من العدول عن وجوهه. ومـما يدلّ علـى أن ذلك كذلك، وأن الذكر والأنثى فـيه سواء، ما قـيـل فـي هذه السورة وسورة فـاطر: مثنى وثلاث وربـاع، يراد به الـجناح، والـجناح ذكر، وأنه أيضا لا يضاف إلـى ما يضاف إلـيه الثلاثة والثلاث، وأن الألف واللام لا تدخـله، فكان فـي ذلك دلـيـل علـى أنه اسم للعدد معرفة، ولو كان نكرة لدخـله الألف واللام وأضيف كما يضاف الثلاثة والأربعة، ومـما يبـين فـي ذلك قول تـميـم بن أبـي مقبل:

تَرَى النّعَرَاتِ الزّرْقَ تَـحْتَ لَبـانِهِأُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْها صَوَاهِلُهْ

فردّ أحاد ومثنى علـى النعرات وهي معرفة. وقد تـجعلها العرب نكرة فتـجريها، كما قال الشاعر:

قَتَلْنا بِهِ مِنْ بَـيْنِ مَثْنَى وَمَوْحَدٍبأرْبَعَةٍ مِنْكُمْ وآخَرَ خامِسِ

ومـما يبـين أن ثناء وأحاد غير جارية قول الشاعر:

ولَقَدْ قَتَلْتكمُ ثُناءَ وَمَوْحَداوتركتُ مُرّةَ مِثْلَ أَمْسِ الدّابِرِ

وقول الشاعر:

مَنَتْ لَك أن تلاقِـيَنِـي الـمَنايَاأُحادَ أُحادَ فِـي شَهْرٍ حَلالِ

ولـم يسمع من العرب صرف ما جاوز الربـاع والـمربع عن جهته، لـم يسمع منها خماس ولا الـمخمس، ولا السبـاع ولا الـمسبع وكذلك ما فوق الربـاع، إلا فـي بـيت للكميت، فإنه يروي له فـي العشرة عشار وهوقوله:

فَلَـمْ يَسْتَرِيثوكَ حتـى رَمَيْــتَ فوْقَ الرّجالِ خِصالاً عُشارَا

يريد عشرا عشرا، يقال: إنه لـم يسمع غير ذلك.

وأما قوله: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فإن نصب واحدة، بـمعنى: فإن خفتـم ألا تعدلوا فـيـما يـلزمكم من العدل ما زاد علـى الواحدة من النساء عندكم بنكاح فـيـما أوجبه اللّه لهنّ علـيكم، فـانكحوا واحدة منهنّ، ولو كانت القراءة جاءت فـي ذلك بـالرفع كان جائزا بـمعنى: فواحدة كافـية، أو فواحدة مـجزئة، كما قال جلّ ثناؤه: {فإنْ لَـمْ يَكونَا رَجُلَـيْنِ فَرَجلٌ وَامْرأتانِ} وإن قال لنا قائل: قد علـمت أن الـحلال لكم من جميع النساء الـحرائر نكاح أربع، فكيف

قـيـل: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثلاثَ وَرُبـاعَ} وذلك فـي العدد تسع؟

قـيـل: إن تأويـل ذلك: فـانكحوا ما طاب لكم من النساء، إما مثنى إن أمنتـم الـجور من أنفسكم فـيـما يجب لهما علـيكم¹ وإما ثلاث إن لـم تـخافوا ذلك¹ وإما أربع إن أمنتـم ذلك فـيهنّ، يدلّ علـى صحة ذلك قوله: {فإنْ خِفْتـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} لأن الـمعنى: فإن خفتـم فـي الثنتـين فـانكحوا واحدة، ثم قال: وإن خفتـم ألا تعدلوا أيضا فـي الواحدة، فما ملكت أيـمانكم.

فإن قال قائل: فإن أمر اللّه ونهيه علـى الإيجاب والإلزام حتـى تقوم حجة بأن ذلك علـى التأديب والإرشاد والإعلام، وقد قال تعالـى ذكره: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} وذلك أمر، فهل من دلـيـل علـى أنه من الأمر الذي هو علـى غير وجه الإلزام والإيجاب؟

قـيـل: نعم، والدلـيـل علـى ذلك قوله: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فكان معلوما بذلك أن قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} وإن كان مخرجه مخرج الأمر، فإنه بـمعنى الدلالة علـى النهي عن نكاح ما خاف الناكح الـجور فـيه من عدد النساء، لا بـمعنى الأمر بـالنكاح. فإن الـمعنـيّ به: وإن خفتـم ألا تقسطوا فـي الـيتامى فتـحرّجتـم فـيهنّ، فكذلك فتـحرّجوا فـي النساء، فلا تنكحوا إلا ما أمنتـم الـجور فـيه منهنّ، ما أحللته لكم من الواحدة إلـى الأربع. وقد بـينا فـي غير هذا الـموضع بأن العرب تـخرّج الكلام بلفظ الأمر، ومعناها فـيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جلّ ثناؤه: {فَمَنْ شاءَ فَلْـيؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفرْ} وكما قال: {لَـيكْفرُوا بِـمَا آتَـيْناهمْ فَتَـمَتّعوا فَسَوْفَ تَعْلَـمونَ} فخرج ذلك مخرج الأمر، والـمقصود به التهديد والوعيد، والزجر والنهي، فكذلك قوله: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} بـمعنى النهي، فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء. وعلـى النـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: {أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٨٧٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}

يقول: فإن خفت ألا تعدل فـي واحدة، فما ملكت يـمينك.

٦٨٧٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}: السراري.

٦٨٧٦ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ} فإن خفت ألا تعدل فـي واحدة فما ملكت يـمينك.

٦٨٧٧ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك ، قوله: {فإنْ خِفْتـمْ ألاّ تَعْدِلُوا} قال: فـي الـمـجامعة والـحبّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَعولوا}.

يعنـي بقوله تعالـى ذكره: وإن خفتـم ألا تعدلوا فـي مثنى أو ثلاث أو ربـاع فنكحتـم واحدة، أو خفتـم ألا تعدلوا فـي الواحدة فتسرّرتـم ملك أيـمانكم¹ فهو أدنى، يعنـي: أقرب ألا تعولوا،

يقول: أن لا تـجوروا ولا تَـميـلوا، يقال منه: عال الرجل فهو يَعُول عَوْلاً وعِيالة، إذا مال وجار، ومنه عَوْل الفرائض، لأن سهامها إذا زادت دخـلها النقص¹ وأما من الـحاجة، فإنـما يقال: عالَ الرجل عَيْـلَةً، وذلك إذا احتاج، كما قال الشاعر:

وَما يَدْرِي الفَقِـيرُ متـى غِناهُوما يَدْرِي الغَنِـيّ متـى يَعِيـلُ

بـمعنى يفتقر. وبنـحو ما قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٨٧٨ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا يونس، عن الـحسن: {ذَلِكَ أدْنَى أنْ لا تَعولوا} قال: العول: الـميـل فـي النساء.

٦٨٧٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: ثنـي حكام، عن عنبسة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبـي بزّة، عن مـجاهد فـي قوله: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعولوا}

يقول: لا تـميـلوا.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعولوا}: أن لا تـميـلوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد. مثله.

٦٨٨٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو النعمان مـحمد بن الفضل، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا داود بن أبـي هند، عن عكرمة: {ألاّ تَعولوا} قال: أن لا تـميـلوا، ثم قال: أما سمعت إلـى قول أبـي طالب:

بِـمِيزَانِ قِسْطٍ وَزْنهُ غَيْرُ عائِلِ

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن الزبـير، عن حريث، عن عكرمة فـي هذه الاَية: {ألاّ تَعولوا} قال: أن لا تـميـلوا، قال: وأنشد بـيتا من شعر زعم أن أبـا طالب قاله:

بِـمِيزَانِ قِسْطٍ لا يُخِسّ شَعِيرَةًوَوَازِنِ صِدْقٍ وَزْنهُ غيرُ عائِلِ

قال أبو جعفر: ويروى هذا البـيت علـى غير هذه الرواية:

بِـمِيزَانِ صِدْقٍ لا يُغِلّ شَعِيرَةًلهُ شاهِدٌ مِنْ نفسِهِ غيُر عائِلِ

٦٨٨١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: {ألاّ تَعولوا} قال: ألا تـميـلوا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، مثله.

٦٨٨٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن أبـي إسحاق الكوفـيّ، قال: كتب عثمان بن عفـان رضي اللّه عنه إلـى أهل الكوفة فـي شيء عاتبوه علـيه فـيه: (إنّـي لست بـميزان لا أعول).

٦٨٨٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علـيّ، قال: حدثنا إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي مالك فـي قوله: {أدْنَى ألاّ تَعُولُوا} قال: لا تـميـلوا.

٦٨٨٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا}: أدنى أن لا تـميـلوا.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {ألاّ تَعولوا} قال: تـميـلوا.

٦٨٨٥ـ حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا}

يقول: ألا تـميـلوا.

٦٨٨٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا}

يقول: تـميـلوا.

٦٨٨٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس . قوله: {أدْنَى ألاّ تَعُولُوا} يعنـي: ألا تـميـلوا.

حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا}

يقول: ذلك أدنى ألا تـميـلوا.

٦٨٨٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك فـي قوله: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا} قال: ألا تـجوروا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون وعارم أبو النعمان، قالا: حدثنا هشيـم، عن حصين، عن أبـي مالك، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن يونس، عن أبـي إسحاق، عن مـجاهد: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا} قال: تـميـلوا.

٦٨٨٩ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا} ذلك أقلّ لنفقتك الواحدة، أقلّ من ثنتـين وثلاث وأربع، وجاريتك أهون نفقة من حرّة¹ {أنْ لا تَعُولُوا}: أهون علـيك فـي العيال.

٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَآتُواْ النّسَآءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً ...}.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك تعالـى ذكره: وأعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة، وفريضة لازمة¹ يقال منه: نـحل فلان فلانا كذا، فهو يَنْـحَلُه نِـحْلَةً ونُـحْلاً. كما:

٦٨٩٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً}

يقول: فريضة.

٦٨٩١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: أخبرنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} يعنـي بـالنـحلة: الـمهر.

٦٨٩٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} قال: فريضة مسماة.

٦٨٩٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} قال: النـحلة فـي كلام العرب: الواجب،

يقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها صدقة، يسميها لها واجبة، ولـيس ينبغي لأحد أن ينكح امرأة بعد النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبـا بغير حقّ.

وقال آخرون: بل عنى بقوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً} أولـياء النساء، وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن. ذكر من قال ذلك:

٦٨٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن سيار، عن أبـي صالـح، قال: كان الرجل إذا زوّج أيـمة أخذ صداقها دونها، فنهاهم اللّه تبـارك وتعالـى عن ذلك، وَنزلت: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِـحْلَةً}.

وقال آخرون: بل كان ذلك من أولـياء النساء، بأن يعطي الرجل أخته الرجل، علـى أن يعطيه الاَخر أخته، علـى أن لا كثـير مهر بـينهما، فنهوا عن ذلك. ذكر من قال ذلك:

٦٨٩٥ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يعطي هذا الرجل أخته ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثـير مهر، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِـحْلَةً}.

قال أبو جعفر: وأولـى التأويلات التـي ذكرناها فـي ذلك التأويـل الذي قلناه، وذلك أن اللّه تبـارك وتعالـى ابتدأ ذكر هذه الاَية بخطاب الناكحين النساء، ونهاهم عن ظلـمهنّ والـجور علـيهنّ، وعرفهم سبـيـل النـجاة من ظلـمهنّ¹ ولا دلالة فـي الاَية علـى أن الـخطاب قد صرف عنهم إلـى غيرهم. فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين قـيـل لهم: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبـاعَ} هم الذين قـيـل لهم: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ} وأن معناه: وآتوا من نكحتـم من النساء صدقاتهنّ نـحلة، لأنه قال فـي الأوّل: {فـانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} ولـم يقل: فـانكحوا، فـيكون قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ} مصروفـا إلـى أنه معنـيّ به أولـياء النساء دون أزواجهنّ، وهذا أمر من اللّه أزواج النساء الـمدخول بهنّ والـمسمى لهنّ الصداق أن يؤتوهنّ صدقاتهنّ دون الـمطلقات قبل الدخول مـمن لـم يسمّ لها فـي عقد النكاح صداق.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فإن وهب لكم أيها الرجال نساؤكم شيئا من صدقاتهنّ، طيبة بذلك أنفسهنّ، فكلوه هنـيئا مريئا. كما:

٦٨٩٦ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا عمارة، عن عكرمة: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الـمهر.

٦٨٩٧ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنـي حرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة، عن عمارة فـي قول اللّه تبـارك وتعالـى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الصدقات.

٦٨٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الأزواج.

٦٨٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن عبـيدة، قال: قال لـي إبراهيـم: أكلتَ من الهنـيء الـمريء! قلت: ما ذاك؟ قال: امرأتك أعطتك من صداقها.

٦٩٠٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: دخـل رجل علـى علقمة وهو يأكل من طعام بـين يديه، من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره، فقال له علقمة: ادْنُ، فكل من الهنـيء الـمريء!

٦٩٠١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}

يقول: إذا كان غير إضرار ولا خديعة، فهو هنـيء مريء كما قال اللّه جلّ ثناؤه.

٦٩٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: الصداق، {فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

٦٩٠٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول فـي قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا}.

٦٩٠٤ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ أن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم فـي شيء مـما ساق إلـى امرأته، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

٦٩٠٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}

يقول: ما طابت به نفسا فـي غير كره أو هوان، فقد أحلّ اللّه لك ذلك أن تأكله هنـيئا مريئا.

وقال آخرون: بل عُنـي بهذا القول: أولـياء النساء، فقـيـل لهم: إن طابت أنفس النساء اللواتـي إلـيكم عصمة نكاحهنّ بصدقاتهنّ نفسا، فكلوه هنـيئا مريئا. ذكر من قال ذلك:

٦٩٠٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا سيار، عن أبـي صالـح فـي قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} قال: كان الرجل إذا زوّج ابنته عمد إلـى صداقها فأخذه، قال: فنزلت هذه الاَية فـي الأولـياء: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}.

قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب، التأويـل الذي قلنا وأن الاَية مخاطب بها الأزواج¹ لأن افتتاح الاَية مبتدأ بذكرهم،

وقوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} فـي سياقه.

وإن قال قائل: فكيف

قـيـل: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا، وقد علـمت أن معنى الكلام: فإن طابت لكم أنفسهن بشيء؟ وكيف وحدت النفس والـمعنى للـجميع، وذلك أنه تعالـى ذكره قال: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نـحْلَةً}؟

قـيـل: أما نقل فعل النفوس إلـى أصحاب النفوس، فإن ذلك الـمستفـيض فـي كلام العرب من كلامها الـمعروف: ضِقْتُ بهذا الأمر ذراعا وذرعا، وَقَرِرْت بهذا الأمر عينا، والـمعنى: ضاق به ذرعي، وقرّت به عينـي، كما قال الشاعر:

إذا التّـيازُ ذُو العَضَلاتِ قُلْناإلـيكَ إلـيكَ ضَاقَ بِها ذِرَاعا

فنقل صفة الذراع إلـى ربّ الذراع، ثم أخرج الذراع مفسرة لـموقع الفعل. وكذلك وحد النفس فـي قوله: {فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا} إذ كانت النفس مفسرة لـموقع الـخبروأما توحيد النفس من النفوس، لأنه إنـما أراد الهوى، والهوى يكون جماعة، كما قال الشاعر:

بِها جِيَفُ الـحَسْرَى فَأمّا عِظامُهافبِـيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِـيبُ

وكما قال الاَخر:

(فِـي حَلْقِكمْ عَظْمٌ وقد شجِينَا )

وقال بعض نـحويـي الكوفة: جائز فـي النفس فـي هذا الـموضع الـجمع والتوحيد¹ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا وأنفسا، وضقت به ذراعا وذرعا وأذرعا، لأنه منسوب إلـيك، وإلـى من تـخبر عنه، فـاكتفـى بـالواحد عن الـجمع لذلك، ولـم يذهب الوهم إلـى أنه لـيس بـمعنى جمع لأن قبله جمعا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن النفس وقع موقع الأسماء التـي تأتـي بلفظ الواحد مؤدّية معناه إذا ذكر بلفظ الواحد، وأنه بـمعنى الـجمع عن الـجمعوأما قوله: {هَنِـيئا} فإنه مأخوذ من هنأت البعير بـالقطران: إذا جرب فعولـج به، كما قال الشاعر:

مُتَـبَذّلاً تَبْدُو مَـحَاسِنُهُيَضَعُ الهِنَاءَ مَوَاضِعَ النّقْبِ

فكان معنى قوله: {فَكُلُوهُ هَنِـيئا مَرِيئا}: فكلوه دواء شافـيا، يقال منه: هنأنـي الطعام ومرأنـي: أي صار لـي دواء وعلاجا شافـيا، وهنئنـي ومرئنـي بـالكسر، وهي قلـيـلة، والذين يقولون هذا القول يقولون يهنأنـي ويـمرأنـي، والذين يقولون هنأنـي، يقولون: يهنئنـي ويـمرئنـي، فإذا أفردوا،

قالوا: قد أمرأنـي هذا الطعام إمراء، ويقال: هنأت القوم: إذا عُلتهم، سمع من العرب من

يقول: إنـما سميت هانئا لتهنأ، بـمعنى: لتعول وتكفـى.

٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ...}.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي السفهاء الذين نهى اللّه جل ثناؤه عبـاده أن يؤتوهم أموالهم،

فقال بعضهم: هم النساء والصبـيان. ذكر من قال ذلك:

٦٩٠٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا إسرائيـل، عن عبد الكريـم، عن سعيد بن جبـير، قال: الـيتامى والنساء.

٦٩٠٨ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن يونس، عن الـحسن فـي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكمْ} قال: لا تعطوا الصغار والنساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن يونس، عن الـحسن، قال: الـمرأة والصبـيّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن شريك، عن أبـي حمزة، عن الـحسن قال: النساء والصغار، والنساء أسفه السفهاء.

٦٩٠٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن فـي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكمْ} قال: السفهاء: ابنك السفـيه وامرأتك السفـيهة، وقد ذكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (اتّقوا اللّه فـي الضّعِيفَـيْنِ: الـيتـيـم، والـمرأة).

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا حميد، عن عبد الرحمن الرؤاسي، عن السديّ ـ قال: يردّه إلـى عبد اللّه ـ قال: النساء والصبـيان.

٦٩١٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكمْ} أما السفهاء: فـالولد والـمرأة.

٦٩١١ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، عن الضحاك ، قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمَوالَكمْ} يعنـي بذلك: ولد الرجل وامرأته، وهي أسفه السفهاء.

حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكم} قال: السفهاء: الولد والنساء أسفه السفهاء، فـيكونوا علـيكم أربـابـا.

حدثنا أحمد بن حازم الغفـاريّ، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك ، قال: أولادكم ونساؤكم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا أبـي، عن سلـمة، عن الضحاك ، قال: النساء والصبـيان.

٦٩١٢ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن حميد الأعرج، عن مـجاهد: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} قال: النساء والولدان.

٦٩١٣ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا ابن أبـي عنبسة، عن الـحكم: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أموالكم} قال: النساء والولدان.

٦٩١٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُم الّتـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما} أمر اللّه بهذا الـمال أن يخزن فـيحسن خزانته، ولا يـملكه الـمرأة السفـيهة والغلام السفـيه.

٦٩١٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانّـي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن إسماعيـل، عن أبـي مالك، قال: النساء والصبـيان.

٦٩١٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {ولا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} قال: امرأتك وبنـيك، وقال: السفهاء: الولدان والنساء أسفه السفهاء.

وقال آخرون: بل السفهاء: الصبـيان خاصة. ذكر من قال ذلك:

٦٩١٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير، فـي قوله: {ولاَ تؤْتوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} قال: هم الـيتامى.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن شريك، عن سالـم، عن سعيد، قال: {السفهاء}: الـيتامى.

٦٩١٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا يونس، عن الـحسن، فـي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكمْ}

يقول: لا تنـحلوا الصغار.

وقال آخرون: بل عنى بذلك السفهاء من ولد الرجل. ذكر من قال ذلك:

٦٩١٩ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي مالك، قوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} قال: لا تعط ولدك السفـيه مالك فـيفسده الذي هو قوامك بعد اللّه تعالـى.

٦٩٢٠ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ}

يقول: لا تسلط السفـيه من ولدك. فكان ابن عبـاس

يقول: نزل ذلك فـي السفهاء، ولـيسوا الـيتامى من ذلك فـي شيء.

٦٩٢١ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبـي، عن أبـي بردة، عن أبـي موسى الأشعري أنه قال: ثلاثة يدعون اللّه فلا يستـجيب لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الـخـلق فلـم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفـيها وقد قال اللّه : {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ}، ورجل كان له علـى رجل دين، فلـم يُشهد علـيه.

٦٩٢٢ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد: {وَلا تُؤْتوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ}.. الاَية، قال: لا تعط السفـيه من ولدك رأسا ولا حائطا ولا شيئا هو لك قـيـما من مالك.

وقال آخرون: بل السفهاء فـي هذا الـموضع: النساء خاصة دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:

٦٩٢٣ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ أن رجلاً عمد فدفع ماله إلـى امرأته فوضعته فـي غير الـحقّ، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ}.

٦٩٢٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حميد، عن مـجاهد: {وَلا تؤتوا السّفَهاءَ أمْوَالَكمْ} قال: النساء.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا سفـيان، عن الثوري، عن حميد، عن قـيس، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} قال: هنّ النساء.

٦٩٢٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه تبـارك وتعالـى: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما} قال: نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم، وهن سفهاء مَنْ كُنّ أزواجا أو أمهات أو بنات.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٩٢٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا هشام، عن الـحسن، قال: الـمرأة.

٦٩٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: النساء من أسفه السفهاء.

٦٩٢٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن أبـي عوانة، عن عاصم، عن مورق قال: مرّت امرأة بعبد اللّه بن عمر لها شارة وهيئة، فقال لها ابن عمر: {وَلا تؤتوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما}.

قال أبو جعفر: والصواب من

القول فـي تأويـل ذلك عندنا أن اللّه جل ثناؤه عمّ بقوله: {وَلا تؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} فلـم يخصص سفـيها دون سفـيه، فغير جائز لأحد أن يؤتـي سفـيها ماله صبـيا صغيرا كان أو رجلاً كبـيرا ذكرا كان أو أنثى، والسفـيه الذي لا يجوز لولـيه أن يؤتـيه ماله، هو الـمستـحقّ الـحجر بتضيـيعه ماله وفساده وإفساده وسوء تدبـيره ذلك.

وإنا قلنا ما قلنا من أن الـمعنـيّ بقوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ} هو من وصفنا دون غيره، لأن اللّه جل ثناؤه قال فـي الاَية التـي تتلوها: {وَابْتَلُوا الـيَتَامى حتـى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ فإنْ آنَسْتـمْ مِنْهمْ رُشْدا فـادْفَعوا إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ} فأمر أولـياء الـيتامى بدفع أموالهم إلـيهم إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد، وقد يدخـل فـي الـيتامى الذكور والإناث، فلـم يخصص بـالأمر يدفع مالهم من الأموال الذكور دون الإناث، ولا الإناث دون الذكور. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أمر أولـياؤهم بدفعهم أموالهم إلـيهم، وأجيز للـمسلـمين مبـايعتهم، ومعاملتهم غير الذين أمر أولـياؤهم بـمنعهم أموالهم، وحظر علـى الـمسلـمين مداينتهم ومعاملتهم، فإذ كان ذلك كذلك، فبـين أن السفهاء الذين نهى اللّه الـمؤمنـين أن يؤتوهم أموالهم، هم الـمستـحقون الـحجر، والـمستوجبون أن يولـى علـيهم أموالهم، وهم من وصفنا صفتهم قبل، وأن من عدا ذلك، فغير سفـيه، لأن الـحجر لا يستـحقه من قد بلغ، وأونس رشدهوأما قول من قال: عنى بـالسفهاء النساء خاصة، فإنه جعل اللغة علـى غير وجهها، وذلك أن العرب لا تكاد تـجمع فعيلاً علـى فعلاء، إلا فـي جمع الذكور، أو الذكور والإناث¹ وأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكران معهم، جمعوه علـى فعائل وفعيلات، مثل غريبة تـجمع غرائب وغريبـات¹ فأما الغربـاء فجمع غريب.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {أمْوَالَكُمْ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما وَارْزُقُوهُم فِـيها وَاكْسُوهُمْ}

فقال بعضهم: عنى بذلك: لا تؤتوا السفهاء من النساء والصبـيان علـى ما ذكرنا من اختلاف من حكينا قوله قبل أيها الرشداء أموالكم التـي تـملكونها، فتسلطوهم علـيها فـيفسدوها ويضيعوها، ولكن ارزقوهم أنتـم منها، إن كانوا مـمن تلزمكم نفقته، واكسوهم، وقولوا لهم قولاً معروفـا. وقد ذكرنا الرواية عن جماعة مـمن قال ذلك: منهم أبو موسى الأشعري، وابن عبـاس ، والـحسن، ومـجاهد، قتادة، وحضرميّ، وسنذكر قول الاَخرين الذين لـم يذكر قولهم فـيـما مضى قبل.

٦٩٢٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما وَارْزُقوهُمْ فِـيها}

يقول: لا تعط امرأتك وولدك مالك، فـيكونوا هم الذين يقومون علـيك، وأطعمهم من مالك واكسهم.

٦٩٣٠ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما وَارْزُقوهُمْ فِـيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا}

يقول: لا تسلط السفـيه من ولدك علـى مالك، وأمره أن يرزقه منه ويكسوه.

٦٩٣١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلا تَؤْتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} قال: لا تعط السفـيه من مالك شيئا هو لك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم¹ ولكنه أضيف إلـى الولاة لأنهم قُوّامها ومدبّروها. ذكر من قال ذلك:

٦٩٣٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن شريك، عن سالـم، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمُ}.

وقد يدخـل فـي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكُمُ} أموال الـمنهيـين عن أن يؤتوهم ذلك، وأموال السفهاء، لأن قوله: {أمْوَالَكمْ} غير مخصوص منها بعض الأموال دون بعض، ولا تـمنع العرب أن تـخاطب قوما خطابـا، فـيخرّج الكلام بعضه خبر عنهم وبعضه عن غيب، وذلك نـحو أن يقولوا: أكلتـم يا فلان أموالكم بـالبـاطل فـيخاطب الواحد خطاب الـجمع بـمعنى: أنك وأصحابك، أو وقومك أكلتـم أموالكم، فكذلك قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ} معناه: لا تؤتوا أيها الناس سفهاءكم أموالكم التـي بعضها لكم وبعضها لهم، فتضيعوها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان اللّه تعالـى ذكره قد عمّ بـالنهي عن إيتاء السفهاء الأموال كلها، ولـم يخصص منها شيئا دون شيء، كان بـينا بذلك أن معنى قوله: {الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكمْ قِـياما} إنـما هو التـي جعل اللّه لكم ولهم قـياما، ولكن السفهاء دخـل ذكرهم فـي ذكر الـمخاطبـين بقوله: (لكم).

وأما قوله: {الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما} فإن قـياما وقـيـما وقواما فـي معنى واحد، وإنـما القـيام أصله القوام، غير أن القاف التـي قبل الواو لـما كانت مكسورة، جعلت الواو ياء لكسرة ما قبلها، كما يقال: صمت صياما، وحلت حيالاً، ويقال منه: فلان قوّام أهل بـيته، وقـيام أهل بـيته.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأ بعضهم: {الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـيَـما} بكسر القاف وفتـح الـياء بغير ألف. وقرأه آخرون: {قِـياما} بألف. قال مـحمد: والقراءة التـي نـختارها: {قِـياما} بـالألف، لأنها القراءة الـمعروفة فـي قراءة أمصار الإسلام، وإن كانت الأخرى غير خطأ ولا فـاسد. وإنـما اخترنا ما اخترنا من ذلك، لأن القراءات إذا اختلفت فـي الألفـاظ واتفقت فـي الـمعانـي، فأعجبها إلـينا ما كان أظهر وأشهر فـي قراءة أمصار الإسلام.

وبنـحو الذي قلناه فـي تأويـل قوله: {قِـياما}

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٦٩٣٣ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي مالك: {أمْوَالَكُمُ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما}: التـي هي قوامك بعد اللّه .

٦٩٣٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {أمْوَالَكُمُ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكِمْ قِـياما} فإن الـمال هو قـيام الناس قوام معايشهم،

يقول: كنت أنت قـيـم أهلك، فلا تعط امرأتك مالك، فـيكونوا هم الذين يقومون علـيك.

٦٩٣٥ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلا تُؤتُوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكمْ قِـياما} يقول اللّه سبحانه: لا تعمد إلـى مالك وما خوّلك اللّه وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك أو بنـيك ثم تنظر إلـى ما فـي أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلـحه، وكن أنت الذي تنفق علـيهم فـي كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم

قال:

وقوله: {قِـياما} بـمعنى: قوامكم فـي معايشكم.

٦٩٣٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن قوله: {قِـياما} قال: قـيام عيشك.

٦٩٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بكر بن شرود، عن ابن مـجاهد أنه قرأ: {الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما} بـالألف،

يقول: قـيام عيشك.

٦٩٣٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {أمْوَالَكُمُ الّتِـي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِـياما} قال: لا تعط السفـيه من ولدك شيئا هو لك قـيـم من مالك.

وأما قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِـيها واكْسُوهُمْ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله¹ فأما الذين

قالوا: إنـما عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: {وَلا تُؤتوا السّفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} أولـياء السفهاء، لا أموال السفهاء، فإنهم

قالوا: معنى ذلك: وارزقوا أيها الناس سفهاءكم من نسائكم وأولادكم من أموالكم طعامهم، وما لا بدّ لهم منه من مؤنهم وكسوتهم. وقد ذكرنا بعض قائلـي ذلك فـيـما مضى، وسنذكر من لـم يذكر من قائلـيه.

٦٩٣٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: أمروا أن يرزقوا سفهاءهم من أزواجهم وأمهاتهم وبناتهم من أموالهم.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٦٩٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس ، قوله: {وَارْزُقُوهُمْ} قال:

يقول: أنفقوا علـيهم.

٦٩٤١ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَارْزُقُوهُمْ فِـيها وَاكْسُوهُمْ}

يقول: أطعمهم من مالك واكسهم.

وأما الذين

قالوا: إنـما عنى بقوله: {وَلا تُؤتُوا السَفهاءَ أمْوالَكُمُ} أموال السفهاء أن لا يؤتـيهموها أولـياؤهم، فإنهم

قالوا: معنى قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِـيها وَاكْسُوهُمْ}: وارزقوا أيها الولاة ولاة أموال سفهاءكم من أموالهم، طعامهم وما لا بدّ لهم من مؤنهم وكسوتهم. وقد مضى ذكر ذلك.

قال أبو جعفر: وأما الذي نراه صوابـا فـي قوله: {وَلا تُؤتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكُمْ} من التأويـل، فقد ذكرناه، ودللنا علـى صحة ما قلنا فـي ذلك بـما أغنى عن إعادته.

فتأويـل قوله: {وَارْزقُوهُمْ فِـيها وَاكْسُوهُمْ} علـى التأويـل الذي قلنا فـي قوله: {وَلا تؤتُوا السفَهاءَ أمْوَالَكمُ} وألفوا علـى سفهائكم من أولادكم ونسائكم الذين تـجب علـيكم نفقتهم من طعامهم وكسوتهم فـي أموالكم، ولا تسلطوهم علـى أموالكم فـيهلكوها، وعلـى سفهائكم منهم مـمن لا تـجب علـيكم نفقته، ومن غيرهم الذين تلون أنتـم أمورهم من أموالهم فـيـما لا بدّ لهم من مؤنهم فـي طعامهم وشرابهم وكسوتهم، لأن ذلك هو الواجب من الـحكم فـي قول جميع الـحجة، لا خلاف بـينهم فـي ذلك مع دلالة ظاهر التنزيـل علـى ما قلنا فـي ذلك.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقُولوا لَهمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا}.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: عِدْهُمْ عِدَةً جميـلة من البر والصلة. ذكر من قال ذلك:

٦٩٤٢ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَقولوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} قال: أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفـا فـي البرّ والصلة. يعنـي النساء، وهن السفهاء عنده.

٦٩٤٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {وَقولوا لَهمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} قال: عِدَةً تعدوهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادعوا لهم. ذكر من قال ذلك:

٦٩٤٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَقولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} إن كان لـيس من ولدك، ولا مـمن يجب علـيك أن تنفق علـيه، فقل لهم قولاً معروفـا، قل لهم: عافـانا اللّه وإياك، وبـارك اللّه فـيك.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصحة، ما قاله ابن جريج، وهو أن معنى قوله: {وَقولوا لَهمْ قَوْلاً معْرُوفـا}: أي قولوا يا معشر ولاة السفهاء قولاً معروفـا للسفهاء، إنْ صلـحتـم ورشدتـم سلـمنا إلـيكم أموالكم وخـلـينا بـينكم وبـينها، فـاتقوا اللّه فـي أنفسكم وأموالكم. وما أشبه ذلك من القول الذي فـيه حثّ علـى طاعة اللّه ونهي عن معصيته.

٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىَ حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ...}.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: {وَابْتَلُوا الـيَتَامى}: واختبروا عقول يتاماكم فـي أفهامهم، وصلاحهم فـي أديانهم، وإصلاحهم أموالهم. كما:

٦٩٤٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن فـي قوله: {وَابْتَلُوا الـيَتَامى} قالا:

يقول: اختبروا الـيتامى.

٦٩٤٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما ابتلوا الـيتامى: فجرّبوا عقولهم.

٦٩٤٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَابْتَلُوا الـيَتَامى} قال: عقولهم.

٦٩٤٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَابْتَلُوا الـيَتَامَى} قال: اختبروهم.

٦٩٤٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَابْتَلُوا الـيَتَامَى حتـى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ} قال: اختبروه فـي رأيه وفـي عقله كيف هو إذا عرف أنه قد أُنس منه رشد دفع إلـيه ماله

قال: وذلك بعد الاحتلام.

قال أبو جعفر: وقد دللنا فـيـما مضى قبل علـى أن معنى الابتلاء: الاختبـار، بـما فـيه الكفـاية عن إعادته.

وأما قوله: {إذَا بَلَغُوا النّكاحَ} فإنه يعنـي: إذا بلغوا الـحلـم. كما:

٦٩٥٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {حتـى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ}: حتـى إذا احتلـموا.

٦٩٥١ـ حدثنـي علـيّ بن داود قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {حتـى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ} قال: عند الـحلـم.

٦٩٥٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {حتـى إذَا بَلَغُوا النكاحَ} قال: الـحلـم.

القول فـي تأويـل قوله: {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا}.

يعنـي قوله: {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا}: فإن وجدتـم منهم وعرفتـم. كما:

٦٩٥٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا} قال: عرفتـم منهم.

يقال: آنست من فلان خيرا وبِرّا بـمدّ الألف إيناسا، وأنست به آنسُ أُنْسا بقصر ألفها: إذا ألفه. وقد ذكر أنها فـي قراءة عبد اللّه : (فإنْ أحْسَيْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا) بـمعنى: أحسستـم: أي وجدتـم.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الرشد الذي ذكره اللّه فـي هذه الاَية،

فقال بعضهم: معنى الرشد فـي هذا الـموضع: العقل والصلاح فـي الدين. ذكر من قال ذلك:

٦٩٥٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا} عقولاً وصلاحا.

٦٩٥٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا}

يقول: صلاحا فـي عقله ودينه.

وقال آخرون: معنى ذلك: صلاحا فـي دينهم، وإصلاحا لأموالهم. ذكر من قال ذلك:

٦٩٥٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن مبـارك، عن الـحسن، قال: رشدا فـي الدين وصلاحا وحفظا للـمال.

٦٩٥٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا} فـي حالهم، والإصلاح فـي أموالهم.

وقال آخرون: بل ذلك العقل خاصة. ذكر من قال ذلك:

٦٩٥٨ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد، قال: لا ندفع إلـى الـيتـيـم ماله، وإن أخذ بلـحيته، وإن كان شيخا، حتـى يؤنس منه رشده: العقل.

٦٩٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى، عن سفـيان، عن منصور، عن مـجاهد: {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا} قال: العقل.

٦٩٦٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو شبرمة، عن الشعبـي، قال: سمعته

يقول: إن الرجل لـيأخذ بلـحيته وما بلغ رشده.

وقال آخرون: بل هو الصلاح والعلـم بـما يصلـحه. ذكر من قال ذلك:

٦٩٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: {فإنْ آنَسْتُـمْ مِنْهُمْ رُشْدا} قال: صلاحا وعلـما بـما يصلـحه.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال عندي بـمعنى الرشد فـي هذا الـموضع: العقل وإصلاح الـمال¹ لإجماع الـجميع علـى أنه إذا كان كذلك لـم يكن مـمن يستـحقّ الـحجر علـيه فـي ماله، وحوز ما فـي يده عنه، وإن كان فـاجرا فـي دينه. وإذ كان ذلك إجماعا من الـجميع، فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال فـي يدي وصي أبـيه أو فـي يد حاكم قد ولـي ماله لطفولته، واجب علـيه تسلـيـم ماله إلـيه، إذا كان عاقلاً بـالغا، مصلـحا لـماله، غير مفسد¹ لأن الـمعنى الذي به يستـحقّ أن يولـي علـى ماله الذي هو فـي يده، هو الـمعنى الذي به يستـحقّ أن يـمنع يده من ماله الذي هو فـي يد ولـيّ، فإنه لا فرق بـين ذلك. وفـي إجماعهم علـى أنه غير جائز حيازة ما فـي يده فـي حال صحة عقله وإصلاح ما فـي يده، الدلـيـلُ الواضح علـى أنه غير جائز منع يده مـما هو له فـي مثل ذلك الـحال، وإن كان قبل ذلك فـي يد غيره لا فرق بـينهما. ومن فرق بـين ذلك عكس علـيه القول فـي ذلك، وسئل الفرق بـينهما من أصل أو نظير، فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلا ألزم فـي الاَخر مثله. فإن كان ما وصفنا من الـجميع إجماعا، فبـين أن الرشد الذي به يستـحقّ الـيتـيـم إذا بلغ فأونس منه دفع ماله إلـيه، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فـادْفَعُوا إلَـيْهِمْ أمْوالَهُمْ وَلا تَأكُلُوها إسْرَافـا}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: ولاة أموال الـيتامى، يقول اللّه لهم: فإذا بلغ أيتامكم الـحلـم، فآنستـم منهم عقلاً وإصلاحا لأموالهم، فـادفعوا إلـيهم أموالهم، ولا تـحبسوها عنهم.

وأما قوله: {وَلا تأْكُلُوها إسْرَافـا} يعنـي: بغير ما أبـاحه اللّه لكم. كما:

٦٩٦٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن: {وَلا تأْكُلُوها إسْرَافـا}

يقول: لا تسرف فـيها.

٦٩٦٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلا تَأْكُلُوها إسْرَافـا} قال: يسرف فـي الأكل.

وأصل الإسراف: تـجاوز الـحدّ الـمبـاح إلـى ما لـم يبح، وربـما كان ذلك فـي الإفراط، وربـما كان فـي التقصير، غير أنه إذا كان فـي الإفراط، فـاللغة الـمستعملة فـيه أن يقال: أسرف يُسرف إسرافـا، وإذا كان كذلك فـي التقصير، فـالكلام منه: سَرِفَ يَسْرَفُ سَرَفـا، يقال: مررت بكم فسرفتكم، يراد منه: فسهوت عنكم وأخطأتكم، كما قال الشاعر:

أعْطَوْا هُنَـيْدَةَ يَحْدُوها ثمَانِـيَةٌ

ما فِـي عَطائِهِمْ مَنّ وَلا.سَرَفُ

يعنـي بقوله: ولا سرف: لا خطأ فـيه، يراد به: أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبِدَارا أنْ يَكْبَرُوا}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَبِدارا} ومبـادرة¹ وهو مصدر من قول القائل: بـادرت هذا الأمر مبـادرة وبدارا. وإنـما يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولاة أموال الـيتامى، يقول لهم: لا تأكلوا أموالهم إسرافـا، يعنـي: ما أبـاح اللّه لكم أكله، ولا مبـادرة منكم بلوغهم، وإيناس الرشد منهم حذرا أن يبلغوا فـيـلزمكم تسلـيـمه إلـيهم. كما:

٦٩٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {إسْرافـا وَبِدَارا} يعنـي: أكل مال الـيتـيـم مبـادرا أن يبلغ فـيحول بـينه وبـين ماله.

٦٩٦٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والـحسن: {وَلا تَأْكُلُوها إسْرَافـا وَبِدَارا}

يقول: لا تسرف فـيها، ولا تبـادر.

٦٩٦٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَبِدَارا} تبـادرا أن يكبروا، فـيأخذوا أموالهم.

٦٩٦٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد فـي قوله: {إسْرَافـا وَبِدَارا} قال: هذه لولـيّ الـيتـيـم خاصة، جعل له أن يأكل معه إذا لـم يجد شيئا يضع يده معه، فـيذهب بوجهه،

يقول: لا أدفع إلـيه ماله، وجعلتَ تأكله تشتهي أكله، لأنك إن لـم تدفعه إلـيه لك فـيه نصيب، وإذا دفعته إلـيه فلـيس لك فـيه نصيب.

وموضع (أن) فـي قوله: (أن يكبروا) نصبٌ بـالـمبـادرة، لأن معنى الكلام: لا تأكلوها مبـادرة كبرهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا} من ولاة أموال الـيتامى علـى أموالهم، {فَلْـيَسْتَعْفِفْ} بـماله عن أكلها بغير الإسراف والبدار أن يكبروا، بـما أبـاح اللّه له أكلها به. كما:

٦٩٦٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش وابن أبـي لـيـلـى، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ} قال: لغناه من ماله، حتـى يستغنـي عن مال الـيتـيـم.

٦٩٦٩ـ وبه قال: حدثنا سفـيان، عن منصور، عن إبراهيـم فـي قوله: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ} بغناه.

٦٩٧٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: من مال نفسه، ومن كان فقـيرا منهم إلـيها مـحتاجا فلـيأكل بـالـمعروف.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعروف الذي أذن اللّه جل ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به إذا كانوا أهل فقر وحاجة إلـيها،

فقال بعضهم: ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ثم يقضيه. ذكر من قال ذلك:

٦٩٧١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفـيان وإسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن حارثة بن مضرّب، قال: قال عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه: إنـي أنزلت مال اللّه تعالـى منـي بـمنزلة مال الـيتـيـم، إن استغنـيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بـالـمعروف، فإذا أيسرت قضيت.

٦٩٧٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن زهير، عن العلاء بن الـمسيب، عن حماد، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: هو القرض.

٦٩٧٣ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر، قال: سمعت يونس، عن مـحمد بن سيرين، عن عبـيدة السلـمانـي، أنه قال فـي هذه الاَية: {وَمَنْ كانَ غَنـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: الذي ينفق من مال الـيتـيـم يكون علـيه قرضا.

٦٩٧٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا سلـمة بن علقمة، عن مـحمد بن سيرين، قال: سألت عبـيدة عن قوله: {وَمَنْ كانَ غَنـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: إنـما هو قرض، ألا ترى أنه قال: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فَأشْهِدُوا عَلَـيهمْ}؟قال: فظننت أنه قالها برأيه.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام، عن مـحمد، عن عبـيدة فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} وهو علـيه قرض.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، عن سلـمة بن علقمة، عن ابن سيرين، عن عبـيدة فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقـيرا فَلْـيَأَكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: الـمعروف: القرض، ألا ترى إلـى قوله: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَـيْهِمْ}؟

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبـيدة، مثل حديث هشام.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} يعنـي: القرض.

٦٩٧٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَمَنْ كانَ غَنِـيا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمعروف}

يقول: إن كان غنـيا فلا يحلّ له من مال الـيتـيـم أن يأكل منه شيئا، وإن كان فقـيرا فلـيستقرض منه، فإذا وجد ميسرة فلـيعطه ما استقرض منه¹ فذلك أكله بـالـمعروف.

٦٩٧٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبـي يذكر عن حماد، عن سعيد بن جبـير، قال: يأكل قرضا بـالـمعروف.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن سعيد بن جبـير، قال: هو القرض ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر، يعنـي قوله: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ}.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن هشام الدسوائي، قال: حدثنا حماد، قال: سألت سعيد بن جبـير، عن هذه الاَية: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: إن أخذ من ماله قدر قوته قرضا، فإن أيسر بعد قضاه، وإن حضره الـموت ولـم يوسر تـحلله من الـيتـيـم، وإن كان صغيرا تـحلله من ولـيه.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبـير: فلـيأكل قرضا.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبـير: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَـيْأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: هو القرض.

٦٩٧٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو بن أبـي قـيس، عن عطاء بن السائب، عن الشعبـي: {وَمنْ كانَ غَنـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: لا يأكله إلا أن يضطرّ إلـيه كما يضطرّ إلـى الـميتة، فإن أكل منه شيئا قضاه.

٦٩٧٨ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا شعبة، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: قرضا.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد اللّه بن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فَلْـيأكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: سلفـا من مال يتـيـمه.

٦٩٧٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، وعن حماد، عن سعيد بن جبـير: {فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قالا: هو القرض. قال الثوري: وقاله الـحكم أيضا، ألا ترى أنه قال: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَـيْهِمْ}؟

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا حجاج، عن مـجاهد، قال: هو القرض ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر، يعنـي: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ}.

٦٩٨٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن أبـي جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية: {فَلْـيأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: القرض، ألا ترى إلـى قوله: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ}؟.

٦٩٨١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن عاصم، عن أبـي وائل، قال: قرضا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الـحكم، عن سعيد بن جبـير، قال: إذا احتاج الولـيّ أو افتقر فلـم يجد شيئا، أكل من مال الـيتـيـم، وكتبه، فإن أيسر قضاه، وإن لـم يوسر حتـى تـحضره الوفـاة دعا الـيتـيـم فـاستـحلّ منه ما أكل.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} من مال الـيتـيـم بغير إسراف ولا قضاء علـيه فـيـما أكل منه.

واختلف قائلو هذا القول فـي معنى أكل ذلك بـالـمعروف،

فقال بعضهم: أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع، ولا يـلبس منه. ذكر من قال ذلك:

٦٩٨٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، قال: أخبرنـي من سمع ابن عبـاس

يقول: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: بأطراف أصابعه.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبـيد اللّه الأشجعي، عن سفـيان، عن السديّ، عمن سمع ابن عبـاس يقول¹ فذكر مثله.

٦٩٨٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ}

يقول: فمن كان غنـيا من ولـي مال الـيتـيـم فلـيستعفف عن ماله، ومن كان فقـيرا من ولـي مال الـيتـيـم فلـيأكل معه بأصابعه، لا يسرف فـي الأكل، ولا يـلبس.

٦٩٨٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا حرمي بن عمارة، قال: حدثنا شعبة، عن عمارة، عن عكرمة فـي مال الـيتـيـم: يَدُك مع أيديهم، ولا تتـخذ منه قَلنْسُوَة.

٦٩٨٥ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وعكرمة، قالا: تضع يدك مع يده.

وقال آخرون: بل الـمعروف فـي ذلك، أن يأكل ما يسدّ جوعه ويـلبس ما وارى العورة. ذكر من قال ذلك:

٦٩٨٦ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيـم، قال: إن الـمعروف لـيس يـلبس الكتان ولا الـحلل، ولكن ما سدّ الـجوع ووارى العورة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: كان يقال: لـيس الـمعروف يـلبس الكتان والـحلل، ولكن الـمعروف ما سدّ الـجوع ووارى العورة.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيـم نـحوه.

٦٩٨٧ـ حدثنا علـيّ بن سهل، قال: حدثنا الولـيد بن مسلـم، قال: حدثنا أبو معبد، قال: سئل مكحول عن ولـيّ الـيتـيـم، ما أكله بـالـمعروف إذا كان فقـيرا؟ قال: يده مع يده.

قـيـل له: فـالكسوة؟ قال: يـلبس من ثـيابه، فأما أن يتـخذ من ماله مالاً لنفسه فلا.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم فـي قوله: {فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: ما سدّ الـجوع، ووارى العورة، أما أنه لـيس لبوس الكتان والـحلل.

وقال آخرون: بل ذلك الـمعروف أكل تـمره وشرب رِسْل ماشيته بقـيامه علـى ذلك، فأما الذهب والفضة فلـيس له أخذ شيء منهما إلا علـى وجه القرض. ذكر من قال ذلك:

٦٩٨٨ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن مـحمد، قال: جاء رجل إلـى ابن عبـاس فقال: إن فـي حجري أموال أيتام؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها.

فقال ابن عبـاس : ألست تبغي ضالتها؟ قال: بلـى

قال: ألست تهنأ جربـاها؟ قال: بلـى

قال: ألست تلـيط حياضها؟ قال: بلـى

قال: ألست تَفْرِطُ علـيها يوم ورودها؟ قال: بلـى

قال: فأصب من رِسْلها، يعنـي: من لبنها.

٦٩٨٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن يحيـى بن سعيد، عن القاسم بن مـحمد، قال: جاء أعرابـيّ إلـى ابن عبـاس ،

فقال: إن فـي حجري أيتاما، وإن لهم إبلاً ولـي إبل، وأنا أمنـح من إبلـي فقراء، فماذا يحلّ لـي من ألبـانها؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنأ جربـاها، وتلوط حوضها، وتسعى علـيها، فـاشرب غير مضرّ بنسل، ولا ناهك فـي الـحلب.

٦٩٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن أبـي العالـية فـي هذه الاَية: {وَمَنْ كانَ غَنـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: من فضل الرسل والثمرة.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن أبـي العالـية فـي والـي مال الـيتـيـم، قال: يأكل من رسل الـماشية، ومن الثمرة لقـيامه علـيه، ولا يأكل من الـمال، وقال: ألا ترى أنه قال: {فإذَا دَفعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ}؟.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود، عن رُفَـيْع أبـي العالـية، قال: رخص لولـيّ الـيتـيـم أن يصيب من الرسل، ويأكل من الثمرة¹ وأما الذهب والفضة فلا بدّ أن تردّ. ثم قرأ: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهمْ أمْوَالهُمْ} ألا ترى أنه قال: لا بدّ من أن يدفع؟.

٦٩٩١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عوف، عن الـحسن أنه قال: إنـما كانت أموالهم أدخال النـخـل والـماشية، فرخص لهم إذا كان أحدهم مـحتاجا أن يصيب من الرسل.

٦٩٩٢ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا إسماعيـل بن سالـم، عن الشعبـي فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: إذا كان فقـيرا أكل من التـمر، وشرب من اللبن وأصاب من الرسل.

٦٩٩٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} ذكر لنا أن عمّ ثابت بن رفـاعة ـ وثابت يومئذٍ يتـيـم فـي حجره ـ من الأنصار، أتـى نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: يا نبـيّ اللّه ، إن ابن أخي يتـيـم فـي حجري، فما يحلّ لـي من ماله؟ قال: (أنْ تأْكُلَ بـالـمَعْرُوف مِنْ غَيْرِ أنْ تَقِـيَ مالَكَ بـمالِهِ، وَلا تَتّـخِذَ مِنْ مالِهِ وَفْرا) وكان الـيتـيـم يكون له الـحائط من النـخـل، فـيقوم ولـيه علـى صلاحه وسقـيه، فـيصيب من ثمرته. أو تكون له الـماشية، فـيقوم ولـيه علـى صلاحها، أو يـلـي علاجها ومؤنتها فـيصيب من جُزَازها وعوارضها ورِسْلها، فأما رقاب الـمال وأصول الـمال، فلـيس له أن يستهلكه.

٦٩٩٤ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ،

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْروفِ} يعنـي: ركوب الدابة وخدمه الـخادم، فإن أخذ من ماله قرضا فـي غنى، فعلـيه أن يؤدّيه، ولـيس له أن يأكل من ماله شيئا.

وقال آخرون منهم: له أن يأكل من جميع الـمال إذا كان يـلـي ذلك وإن أتـى علـى الـمال ولا قضاء علـيه. ذكر من قال ذلك:

٦٩٩٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسماعيـل بن صبـيح، عن أبـي إدريس، عن يحيـى بن سعيد وربـيعة جميعا، عن القاسم بن مـحمد، قال: سئل عمر بن الـخطاب رضي اللّه عنه عما يصلـح لولـيّ الـيتـيـم؟ قال: إن كان غنـيا فلـيستعفف، وإن كان فقـيرا فلـيأكل بـالـمعروف.

٦٩٩٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يحيـى بن أيوب، عن مـحمد بن عجلان، عن زيد بن أسلـم، عن أبـيه، أن عمر بن الـخطاب كان

يقول: يحلّ لولـيّ الأمر ما يحلّ لولـيّ الـيتـيـم، من كان غنـيا فلـيستعفف، ومن كان فقـيرا فلـيأكل بـالـمعروف.

٦٩٩٧ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا الفضل بن عطية، عن عطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوف} قال: إذا احتاج فلـيأكل بـالـمعروف، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء علـيه.

٦٩٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري، قالا: ذكر اللّه تبـارك وتعالـى مال الـيتامى،

فقال: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْففْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} ومعروف ذلك: أن يتقـي اللّه فـي يتـيـمه.

٦٩٩٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيـم: أنه كان لا يرى قضاء علـى ولـيّ الـيتـيـم إذا أكل وهو مـحتاج.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيـم: {فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} فـي الوصيّ قال: لا قضاء علـيه.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيـم أنه قال فـي هذه الاَية: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: إذا عمل فـيه ولـيّ الـيتـيـم أكل بـالـمعروف.

٧٠٠٠ـ حدثنا بشر بن مـحمد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الـحسن

يقول: إذا احتاج أكل بـالـمعروف من الـمال، طُعْمَةًمن اللّه له.

٧٠٠١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن الـحسن البصري، قال: قال رجل للنبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: إن فـي حجري يتـيـما أفأضربه؟ قال: (فِـيـما كُنْتَ ضَارِبـا مِنْهُ وَلَدَكَ)؟ قال: أفأصيب من ماله؟ قال: (بـالـمَعْروفِ غيرَ مُتأثّلٍ مالاً، وَلا وَاقٍ مَالكَ بِـمَالِهِ).

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن الزبـير بن موسى، عن الـحسن البصري، مثله.

٧٠٠٢ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عطاء أنه قال: يضع يده مع أيديهم، فـيأكل معهم. كقدر خدمته وقدر عمله.

٧٠٠٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: ولـيّ الـيتـيـم إذا كان مـحتاجا يأكل بـالـمعروف لقـيامه بـماله.

٧٠٠٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول اللّه تبـارك وتعالـى: {وَمَنْ كانَ غَنـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ ومَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} قال: إن استغنى كفّ، وإن كان فقـيرا أكل بـالـمعروف

قال: أكل بـيده معهم لقـيامه علـى أموالهم وحفظه إياها، يأكل مـما يأكلون منه، وإن استغنى كفّ عنه ولـم يأكل منه شيئا.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال بـالـمعروف الذي عناه اللّه تبـارك وتعالـى فـي قوله: {وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ}: أكل مال الـيتـيـم عند الضرورة والـحاجة إلـيه علـى وجه الاستقراض منه، فأما علـى غير ذلك الوجه، فغير جائز له أكله. وذلك أن الـجميع مـجمعون علـى أن والـي الـيتـيـم لا يـملك من مال يتـيـمه إلا القـيام بـمصلـحته. فلـما كان إجماعا منهم أنه غير مالكه، وكان غير جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره، يتـيـما كان ربّ الـمال أو مدركا رشيدا، وكان علـيه إن تعدّى فـاستهلكه بأكل أو غيره ضمانه لـمن استهلكه علـيه بإجماع من الـجميع، وكان والـي الـيتـيـم سبـيـله سبـيـل غيره فـي أنه لا يـملك مال يتـيـمه، كان كذلك حكمه فـيـما يـلزمه من قضائه إذا أكل منه سبـيـله سبـيـل غيره وإن فـارقه فـي أن له الاستقراض منه عند الـحاجة إلـيه كما له الاستقراض علـيه عند حاجته إلـى ما يستقرض علـيه إذا كان قـيـما بـما فـيه مصلـحته، ولا معنى لقول من قال: إنـما عنى بـالـمعروف فـي هذا الـموضع أكل والـي الـيتـيـم، من مال الـيتـيـم¹ لقـيامه علـى وجه الاعتـياض علـى عمله وسعيه، لأن الوالـي الـيتـيـم أن يؤاجر نفسه منه للقـيام بأموره إذا كان الـيتـيـم مـحتاجا إلـى ذلك بأجرة معلومة، كما يستأجر له غيره من الأجراء، وكما يشتري له من نصيبه غنـيا كان الوالـي أو فقـيرا. وإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه تعالـى ذكره قد دلّ بقوله: {وَمَنْ كانَ غَنِـيّا فَلْـيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ} علـى أنه أكل مال الـيتـيـم إنـما أذن لـمن أذن له من ولاته فـي حال الفقر والـحاجة، وكانت الـحال التـي للولاة أن يؤجروا أنفسهم من الأيتام مع حاجة الأيتام إلـى الأجراء، غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر، كان معلوما أن الـمعنى الذي أبـيح لهم من أموال أيتامهم فـي كلّ أحوالهم، غير الـمعنى الذي أبـيح لهم ذلك فـيه فـي حال دون حال. ومن أبى ما قلنا مـمن زعم أن لولـيّ الـيتـيـم أكل مال يتـيـمه عند حاجته إلـيه علـى غير وجه القرض استدلالاً بهذه الاَية،

قـيـل له: أمـجمع علـى أن الذي قلت تأويـل قوله: {وَمَن كانَ فَقِـيرا فَلْـيَأْكُلْ بـالـمَعْرُوفِ}؟ فإن قال لا،

قـيـل له: فما برهانك علـى أن ذلك تأويـله، وقد علـمت أنه غير مالك مال يتـيـمه؟

فإن قال: لأن اللّه أذن له بأكله،

قـيـل له: أذن له بأكله مطلقا، أم بشرط؟

فإن قال بشرط، وهو أن يأكله بـالـمعروف،

قـيـل له: وما ذلك الـمعروف وقد علـمت القائلـين من الصحابة والتابـيعن ومن بعدهم من الـخالفـين إن ذلك هو أكله قرضا وسلفـا؟ ويقال لهم أيضا مع ذلك: أرأيت الـمولـى علـيهم فـي أموالهم من الـمـجانـين والـمعاتـيه ألولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إلـيه علـى غير وجه القرض لا الاعتـياض من قـيامهم بها، كما قلتـم ذلك فـي أموال الـيتامى فأبحتـموها لهم؟ فإن قالوا ذلك لهم، خرجوا من قول جميع الـحجة، وإن قالوا لـيس ذلك لهم، قـيـل لهم: فما الفرق بـين أموالهم وأموال الـيتامى وحكم ولاتهم واحد فـي أنهم ولاة أموال غيرهم؟ فلن يقولوا فـي أحدهما شيئا إلا ألزموا فـي الاَخر مثله. ويسألون كذلك عن الـمـحجور علـيه، هل لـمن يـلـي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إلـيه؟ نـحو سؤالناهم عن أموال الـمـجانـين والـمعاتـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَـيْهِمْ}.

قال أبو جعفر: يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وإذا دفعتـم يا معشر ولاة أموال الـيتامى إلـى الـيتامى أموالهم، فأشهدوا علـيهم،

يقول: فأشهدوا علـى الأيتام بـاستـيفـائهم ذلك منكم ودفعكموه إلـيهم. كما:

٧٠٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {فإذَا دَفَعْتُـمْ إلَـيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَـيْهِمْ}

يقول: إذا دفع إلـى الـيتـيـم ماله، فلـيدفعه إلـيه بـالشهود، كما أمره اللّه تعالـى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وكَفَـى بـاللّه حَسِيبـا}.

يقول تعالـى ذكره: وكفـى بـاللّه كافـيا من الشهود الذي يُشهدهم والـي الـيتـيـم علـى دفعه مال يتـيـمه إلـيه. كما:

٧٠٠٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وكَفَـى بـاللّه حَسِيبـا}

يقول: شهيدا.

يقال منه: قد أحسبنـي الذي عندي، يراد به: كفـانـي. وسمع من العرب: لأُحْسِبَنّكم من الأسودين، يعنـي به: من الـماء والتـمر، والـمُـحْسِبُ من الرجال: الـمرتفع الـحسب، والـمُـحْسَبُ: الـمكفـيّ.

٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمّا تَرَكَ ... }.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: للذكور من أولاد الرجل الـميت حصة من ميراثه وللإناث منهم حصة منه، من قلـيـل ما خـلف بعده وكثـيره حصة مفروضة واجبة معلومة مؤقتة. وذكر أن هذه الاَية نزلت من أجل أن أهل الـجاهلـية كانوا يورثون الذكور دون الإناث. كما:

٧٠٠٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا لايورثون النساء، فنزلت: {وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِـمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ}.

٧٠٠٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: نزلت فـي أم كُحة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار، كان أحدهم زوجها، والاَخر عمّ ولدها، فقالت: يا رسول اللّه توفـي زوجي وتركنـي وابنته، فلـم نورّث، فقال عمّ ولدها: يا رسول اللّه لا تركب فرسا، ولا تـحمل كلاّ، ولا تنكأ عدوّا يكسب علـيها، ولا تكتسب. فنزلت: {للرّجالِ نَصِيبٌ مِـمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ وللنّساءِ نَصِيبٌ مِـمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ مِـمّا قَلّ مِنْهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبـا مَفُرُوضا}.

٧٠٠٩ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {للرِجالِ نَصِيبٌ مِـمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ} قال: كان النساء لا يرثن فـي الـجاهلـية من الاَبـاء، وكان الكبـير يرث ولا يرث الصغير وإن كان ذكرا، فقال اللّه تبـارك وتعالـى: {للرّجالِ نَصِيبٌ مِـمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} إلـى قوله: {نَصِيبـا مَفرُوضا}.

قال أبو جعفر: ونصب قوله: {نَصِيبـا مَفْرُوضا} وهو نعت للنكرة لـخروجه مخرج الـمصدر، كقول القائل: لك علـيّ حقّ واجبـا، ولو كان مكان قوله: {نَصِيبـا مَفْرُوضا} اسم صحيح لـم يجز نصبه، لا يقال: لك عندي حقّ درهما، فقوله: {نَصِيبـا مَفُرُوضا} كقوله: نصيبـا فريضة وفرضا، كما يقال: عندي درهم هبة مقبوضة.

٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ...}.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي حكم هذه الاَية، هل هو مـحكم، أو منسوخ؟

فقال بعضهم: هو مـحكم. ذكر من قال ذلك:

٧٠١٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن الشيبـانـي، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال مـحكمة، ولـيست منسوخة، يعنـي قوله: {وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى}.. الاَية.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفـيان، عن الشيبـانـي، عن عكرمة عن ابن عبـاس ، مثله.

٧٠١١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم والشعبـي قالا: هي مـحكمة.

٧٠١٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: واجب، ما طابت به أنفس أهل الـميراث.

وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتامَى والـمَساكِينُ} قال: هي واجبة علـى أهل الـميراث ما طابت به أنفسهم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفـيان، عن مغيرة، عن إبراهيـم والشعبـي، قالا: هي مـحكمة لـيست بـمنسوخة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن عبد الرحمن، عن سفـيان، وثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: هي واجبة علـى أهل الـميراث ما طابت به أنفسهم.

٧٠١٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبـير، أنه سئل عن قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى والـيَتامَى وَالَـمساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} فقال سعيد: هذه الاَية يتهاون بها الناس

قال: وهما ولـيان: أحدهما يرث والاَخر لا يرث، والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم، قال: يعطيهم¹قال: والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولاً معروفـا. وهي مـحكمة ولـيست بـمنسوخة.

٧٠١٤ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم بنـحو ذلك، وقال: هي مـحكمة ولـيس بـمنسوخة.

٧٠١٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطرف، عن الـحسن، قال: هي ثابتة، ولكن الناس بخـلوا وشحّوا.

٧٠١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا منصور والـحسن، قالا: هي مـحكمة ولـيست بـمنسوخة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا عبـاد بن العوّام، عن الـحجاج، عن الـحكم، عن مقسم، عن ابن عبـاس ، قال: هي قائمة يعمل بها.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وإذا حَضَرَ الِقْسمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتَامَى والـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} ما طابت به الأنفس حقا واجبـا.

٧٠١٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن الـحسن والزهري، قالا فـي قوله: {وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى والـيَتامى والـمَساكينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنهُ} قال: هي مـحكمة.

٧٠١٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا منصور، عن قتادة، عن يحيـى بن يعمر، قال: ثلاث آيات مـحكمات مدنـيات تركهن الناس: هذه الاَية: وآية الاستئذان: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِـيَسْتَأْذِنْكُمْ الّذِينَ مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}، وهذه الاَية: {يا أيّها النّاسُ إنّا خَـلَقْناكُمْ مِنْ ذكَرٍ وأُنْثَى}.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الـحسن

يقول: هي ثابتة.

وقال آخرون: منسوخة. ذكر من قال ذلك:

٧٠١٩ـ حدثنا مـحمد بن بشار ومـحمد بن الـمثنى، قالا: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد أنه قال فـي هذه الاَية: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتَامَى وَالـمَساكِينُ} قال: كانت هذه الاَية قسمة قبل الـمواريث، فلـما أنزل اللّه الـمواريث لأهلها جعلت الوصية لذوي القرابة الذين يحزنون ولا يرثون.

٧٠٢٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا قرة بن خالد، عن قتادة، قال: سألت سعيد بن الـمسيب، عن هذه الاَية: {وإذَ احَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القرْبَى والـيَتَامَى والـمَساكِينُ} قال: هي منسوخة.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، قال: كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الـميراث، فلـما كانت الفرائض والـمواريث نسخت.

٧٠٢١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن السديّ، عن أبـي مالك، قال: نسختها آية الـميراث.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفـيان، عن السديّ، عن أبـي مالك، مثله.

٧٠٢٢ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولوا القُرْبَى والـيَتامى}.. الاَية، إلـى قوله: {قَوْلاً مَعْرُوفـا}، وذلك قبل أن تنزل الفرائض، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى بعد ذلك الفرائض، فأعطى كلّ ذي حقّ حقه، فجعلت الصدقة فـيـما سمّى الـمتوفَـى.

٧٠٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: نسختها الـمواريث.

وقال آخرون: هي مـحكمة ولـيست بـمنسوخة، غير أن معنى ذلك: وإذا حضر القسمة، يعنـي بها: قسمة الـميت ماله بوصيته لـمن كان يوصي له به.

قالوا: وأمر بأن يجعل وصيته فـي ماله لـمن سماه اللّه تعالـى فـي هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:

٧٠٢٤ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا ابن الـمبـارك، عن ابن جريج، عن ابن أبـي ملـيكة، عن القاسم بن مـحمد: أن عبد اللّه بن عبد الرحمن قسم ميراث أبـيه وعائشة حية، فلـم يدع فـي الدار أحدا إلا أعطاه. وتلا هذه الاَية: {وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولوا القُرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عبـاس ،

فقال: ما أصاب إنـما هذه الوصية. يريد الـميت، أن يوصي لقرابته.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنـي ابن أبـي ملـيكة، أن القاسم بن مـحمد أخبره أن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبـي بكر قسم، فذكر نـحوه.

٧٠٢٥ـ حدثنا عمران بن موسى الصفـار، قال: حدثنا عبد الوار ث بن سعيد، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن الـمسيب فـي قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ} قال: أمر أن يوصي بثلثه فـي قرابته.

حدثنا ابن الـمبـارك، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن الـمسيب، قال: إنـما ذلك عند الوصية فـي ثلثه.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن سعيد بن الـمسيب: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولوا القرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} قال: هي الوصية من الناس.

٧٠٢٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد فـي قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ} قال: القسمة: الوصية، كان الرجل إذا أوصى

قالوا: فلان يقسم ماله،

فقال: ارزقوهم منه،

يقول: أوصوا لهم، يقول للذي يوصي: {وَقُولُوا لَهُمْ قَولاً مَعْرُوفـا} فإن لـم توصوا لهم، فقولوا لهم خيرا.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة قول من قال: هذه الاَية مـحكمة غير منسوخة، وإنـما عنى بها: الوصية لأولـي قربى الـموصي، وعنى بـالـيتامى والـمساكين أن يقال لهم قول معروف.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصحة من غيره لـما قد بـينا فـي غير موضع من كتابنا هذا وغيره، أن شيئا من أحكام اللّه تبـارك وتعالـى التـي أثبتها فـي كتابه أو بـينها علـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم غير جائز فـيه أن يقال له ناسخ لـحكم آخر، أو منسوخ بحكم آخر، إلا والـحكمان اللذان قضى لأحدهما بأنه ناسخ، والاَخر بأنه منسوخ ناف كل واحد منهما صاحبه، غير جائز اجتـماع الـحكم بهما فـي وقت واحد بوجه من الوجوه، وإن كان جائزا صرفه إلـى غير النسخ، أو يقوم بأن أحدهما ناسخ والاَخر منسوخ، حجة يجب التسلـيـم لها. وإذ كان ذلك كذلك لـما قد دللنا فـي غير موضع، وكان قوله تعالـى ذكره: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولوا القُرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} مـحتـملاً أن يكون مرادا به: وإذا حضر قسمة مال قاسم ماله بوصية، أولو قرابته والـيتامى والـمساكين، فـارزقوهم منه، يراد: فأوصوا لأولـي قرابتكم الذين لا يرثونكم منه، وقولوا للـيتامى والـمساكين قولاً معروفـا، كما قال فـي موضع آخر: {كُتِبَ عَلَـيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِـين بـالـمَعْرُوفِ حَقّا علـى الـمُتّقِـينَ} ولا يكون منسوخا بآية الـميراث لـم يكن لأحد صرفه إلـى أنه منسوخ بآية الـميراث، إذ كان لا دلالة علـى أنه منسوخ بها من كتاب أو سنة ثابتة، وهو مـحتـمل من التأويـل ما بـينا. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويـل قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ} قسمة الـموصي ماله بـالوصية أولو قرابته والـيتامى والـمساكين، فـارزقوهم منه،

يقول: فـاقسموا لهم منه بـالوصية، يعنـي: فأوصوا لأولـي القربى من أموالكم، وقولوا لهم، يعنـي الاَخرين وهم الـيتامى والـمساكين، قولاً معروفـا، يعنـي: يدعى لهم بخير، كما قال ابن عبـاس وسائر من ذكرنا قوله قبلوأما الذين

قالوا: إن الاَية منسوخة بآية الـمواريث، والذين

قالوا: هي مـحكمة والـمأمور بها ورثة الـميت، فإنهم وجهوا قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}

يقول: فأعطوهم منه، وقولوا لهم قولاً معروفـا. وقد ذكرنا بعض من قال ذلك، وسنذكر بقـية من قال ذلك مـمن لـم نذكره.

٧٠٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتَامَى وَالـمَساكِينُ} أمر اللّه جل ثناؤه الـمؤمنـين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم من الوصية إن كان أوصى، وإن لـم تكن وصية وصل إلـيهم من مواريثهم.

٧٠٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى}.. الاَية، يعنـي: عند قسمة الـميراث.

٧٠٢٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة: أن أبـاه أعطاه من ميراث الـمصعب حين قسم ماله.

٧٠٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عوف، عن ابن سيرين، قال: كانوا يرضخون لهم عند القسمة.

٧٠٣١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الـحسن، عن حطان: أن أبـا موسى أمر أن يعطوا إذا حضر قسمة الـميراث أولو القربى والـيتامى والـمساكين والـجيران من الفقراء.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، وابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبـير، عن حطان بن عبد اللّه الرقاشي، قال: قسم أبو موسى بهذه الاَية: {وإذا حَضَرَ القِسْمَة أُولُوا القُرْبى وَالـيَتامَى وَالـمَساكينُ}.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد ويحيـى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبـير، عن حطان، عن أبـي موسى فـي هذه الاَية: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ}.. الاَية، قال: قضى بها أبو موسى.

٧٠٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر فـي الـميراث إذا قسم، قال: كانوا يعطون منه التابوت، والشيء الذي يستـحيا من قسمته.

٧٠٣٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا داود، عن الـحسن وسعيد بن جبـير، كانا يقولان: ذاك عند قسمة الـميراث.

٧٠٣٤ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن عاصم، عن أبـي العالـية والـحسن، قالا: يرضخون ويقولون قولاً معروفـا فـي هذه الاَية: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ}.

ثم اختلف الذين

قالوا: هذه الاَية مـحكمة، وإن القسمة لأولـي القربى والـيتامى والـمساكين واجبة علـى أهل الـميراث إن كان بعض أهل الـميراث صغيرا فقسم علـيه الـميراث ولـيّ ماله.

فقال بعضهم: لـيس لولـيّ ماله أن يقسم من ماله ووصيته شيئا، لأنه لا يـملك من الـمال شيئا، ولكنه يقول لهم قولاً معروفـا.

قالوا: والذي أمره اللّه بأن يقول لهم معروفـا هو ولـيّ مال الـيتـيـم إذا قسم مال الـيتـيـم بـينه وبـين شركاء الـيتـيـم، إلا أن يكون ولـيّ ماله أحد الورثة، فـيعطيهم من نصيبه ويعطيهم من يجوز أمره فـي ماله من أنصبـائهم.

قالوا: فأما من مال الصغير الذي يولـي علـى ماله لا يجوز لولـيّ أن يعطيهم منه شيئا. ذكر من قال ذلك:

٧٠٣٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن السديّ، عن أبـي سعيد، قال: سألت سعيد بن جبـير عن هذه الاَية: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتَامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} قال: إن كان الـميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيتهم، وإن كان الورثة كبـارا رضخوا لهم، وإن كانوا صغارا قال ولـيهم إنـي لست أملك هذا الـمال ولـيس لـي وإنـما هو للصغار، فذلك قوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا}.

٧٠٣٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير فـي هذه الاَية: {وإذَا حَضَرَ القِسْمَة أُولُوا القرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وقُولوا لَهُمْ قوْلاً مَعْروفـا} قال: هما ولـيان: ولـيّ يرث، وولـيّ لا يرث، فأما الذي يرث فـيعطى، وأما الذي لا يرث، فقولوا له قولاً معروفـا.

٧٠٣٧ـ حدثنـي ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا ابن داود، عن الـحسن وسعيد بن جبـير، كانا يقولان: ذلك عند قسمة الـميراث، إن كان الـميراث لـمن قد أدرك، فله أن يكسو منه، وأن يطعم الفقراء والـمساكين، وإن كان الـميراث لـيتامى صغار، فـيقول الولـيّ: إنه لـيتامى صغار، ويقول لهم قولاً معروفـا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن السديّ، عن أبـي سعيد، عن سعيد بن جبـير قال: إن كانوا كبـارا رضخوا، وإن كانوا صغارا اعتذروا إلـيهم.

٧٠٣٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سلـيـمان الشيبـانـي، عن عكرمة: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى} قال: كان ابن عبـاس

يقول: إذا ولـي شيئا من ذلك يرضخ لأقربـاء الـميت، وإن لـم يفعل اعتذر إلـيهم وقال لهم قولاً معروفـا.

٧٠٣٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} هذه تكون علـى ثلاثة أوجه: أما الأول: فـيوصي لهم وصية فـيحضرون ويأخذون وصيتهموأما الثانـي: فإنهم يحضرون فـيقتسمون إذا كانوا رجالاً فـينبغي لهم أن يعطوهموأما الثالث: فتكون الورثة صغارا، فـيقوم ولـيهم إذا قسم بـينهم، فـيقول للذين حضروا: حقكم حقّ وقرابتكم قرابة ولو كان لـي فـي الـميراث نصيب لأعطيتكم، ولكنهم صغار، فإن يكبروا فسيعرفون حقكم. فهذا القول الـمعروف.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رجل، عن سعيد أنه قال: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولوا القرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقوهمْ مِنهُ وَقولوا لَهمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} قال: إذا كان الوارث عند القسمة، فكان الإناء والشيء الذي لا يستطاع أن يقسم فلـيرضخ لهم، وإن كان الـميراث للـيتامى، فلـيقل لهم قولاً معروفـا.

وقال آخرون منهم: ذلك واجب فـي أموال الصغار والكبـار لأولـي القربى والـيتامى والـمساكين، فإن كان الورثة كبـارا، تولوا عند القسمة إعطاءهم ذلك، وإن كانوا صغارا تولـى إعطاء ذلك منهم ولـيّ مالهم. ذكر من قال ذلك:

٧٠٤٠ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن يونس فـي قوله: {وإذا حَضَر القِسْمَة أُولوا القرْبَى والـيَتامى والـمَساكِين فـارْزُقوهمْ مِنْهُ} فحدّث عن مـحمد، عن عبـيدة: أنه ولـي وصية، فأمر بشاة فذبحت، وصنع طعاما لأجل هذه الاَية، وقال: لولا هذه الاَية لكان هذا من مالـي

قال: وقال الـحسن: لـم تنسخ، كانوا يحضرون فـيعطون الشيء والثوب الـخـلق. قال يونس: إن مـحمد بن سيرين ولـي وصية ـ أو قال أيتاما ـ فأمر بشاة فذبحت، فصنع طعاما، كما صنع عبـيدة.

٧٠٤١ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن مـحمد: أن عبـيدة قسم ميراث أيتام، فأمر بشاة فـاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الاَية لأحببت أن يكون من مالـي. ثم قرأ هذه الاَية: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينُ فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}.. الاَية.

فكأن من ذهب من القائلـين القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس وسعيد بن جبـير، ومن قال: يرضخ عند قسمة الـميراث لأولـي القربى والـيتامى والـمساكين تأوّل قوله: {فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}: فأعطوهم منه. وكأن الذين ذهبوا إلـى ما قال عبـيدة وابن سيرين، تأوّلوا قوله: {فـارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}: فأطعموهم منه.

واختلفوا فـي تأويـل قوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا}

فقال بعضهم: هو أمر من اللّه تعالـى ذكره ولاة الـيتامى أن يقولوا لأولـي قرابتهم وللـيتامى والـمساكين إذا حضروا قسمتهم مال من ولوا علـيه ماله من الأموال بـينهم وبـين شركائهم من الورثة فـيها أن يعتذروا إلـيهم علـى نـحو ما قد ذكرناه فـيـما مضى من الاعتذار. كما:

٧٠٤٢ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبـير: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} قال: هو الذي لا يرث أمر أن يقول لهم قولاً معروفـا

قال:

يقول: إن هذا الـمال لقوم غيب، أو لـيتامى صغار ولكن فـيه حقّ، ولسنا نـملك أن نعطيكم منه شيئا

قال: فهذا القول الـمعروف.

وقال آخرون: بل الـمأمور بـالقول الـمعروف الذي أمر جل ثناؤه أن يقال له هو الرجل الذي يوصي فـي ماله، والقول الـمعروف هو الدعاء لهم بـالرزق والغنى وما أشبه ذلك من قول الـخير. وقد ذكرنا قائلـي ذلك أيضا فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته.

٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ...}.

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك،

فقال بعضهم: {ولْـيَخْشَ}: لـيخف الذين يحضرون موصيا يوصي فـي ماله أن يأمره بتفريق ماله وصية به فـيـمن لا يرثه، ولكن لـيأمره أن يبقـي ماله لولده، كما لو كان هو الـموصي، يسرّه أن يحثه من يحضره علـى حفظ ماله لولده، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتـيال. ذكر من قال ذلك:

٧٠٤٣ـ حدثنـي علـيّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ}.. إلـى آخر الاَية. فهذا فـي الرجل يحضره الـموت فـيسمعه يوصي بوصية تضرّ بورثته، فأمر اللّه سبحانه الذي يسمعه أن يتقـي اللّه ويوفقه ويسدّده للصواب، ولـينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع لورثته إذا خشي علـيهم الضيعة.

٧٠٤٤ـ حدثنا علـيّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ} يعنـي: الذي يحضره الـموت، فـيقال له: تصدّق من مالك، وأعتق، وأعط منه فـي سبـيـل اللّه ، فنهوا أن يأمروه بذلك. يعنـي: أن من حضر منكم مريضا عند الـموت، فلا يأمره أن ينفق ماله فـي العتق أو الصدقة أو فـي سبـيـل اللّه ، ولكن يأمره أن يبـين ماله، وما علـيه من دين، ويوصي فـي ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، ويوصي لهم بـالـخمس أو الربع.

يقول: ألـيس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف ـ يعنـي صغار ـ أن يتركهم بغير مال، فـيكونوا عيالاً علـى الناس؟ فلا ينبغي أن تأمروه بـما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم ولكن قولوا الـحقّ من ذلك.

٧٠٤٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا} قال:

يقول: من حضر ميتا فلـيأمره بـالعدل والإحسان، ولـينهه عن الـحيف والـجور فـي وصيته، ولـيخش علـى عياله ما كان خائفـا علـى عياله لو نزل به الـموت.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {ولِـيخْشَى الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا} قال: إذا حضر ت وصية ميت، فمره بـما كنت آمرا نفسك بـما تتقرّب به إلـى اللّه ، وخف فـي ذلك ما كنت خائفـا علـى ضعفتك لو تركتهم بعدك.

يقول: فـاتق اللّه وقل قولاً سديدا، إنْ هو زاغ.

٧٠٤٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ولْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ فَلْـيَتّقُوا اللّه ولـيْقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا} الرجل يحضره الـموت، فـيحضره القوم عند الوصية، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له: أوص بـمالك كله وقدم لنفسك، فإن اللّه سيرزق عيالك، ولا يتركوه يوصي بـماله كله، يقول للذين حضروا: {ولْـيَخْش الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ} فـيقول كما يخاف أحدكم علـى عياله لو مات ـ إذ يتركهم صغارا ضعافـا لا شيء لهم ـ الضيعة بعده، فلـيخف ذلك علـى عيال أخيه الـمسلـم، فـيقول له القول السديد.

٧٠٤٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، قال: ذهبت أنا والـحكم بن عيـينة إلـى سعيد بن جبـير، فسألناه عن قوله: {ولْـيَخْش الّذِين لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا}.. الاَية، قال: قال الرجل يحضره الـموت، فـيقول له من يحضره: اتق اللّه ، صلهم، أعطهم، برّهم، ولو كانوا هم الذين يأمرهم بـالوصية لأحبوا أن يبقوا لأولاهم.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبـيب بن أبـي ثابت، عن سعيد بن جبـير فـي قوله: {ولْـيَخْش الّذِين لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهمْ ذُرّيّةً ضِعافـا} قال: يحرضهم الـيتامى فـيقولون: اتق اللّه وصلهم وأعطهم، فلو كانوا هم لأحبوا أن يبقوا لأولادهم.

٧٠٤٨ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوَ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا}.. الاَية،

يقول: إذا حضر أحدكم من حضره الـموت عند وصيته، فلا يقل: أعتق من مالك وتصدّق، فـيفرّق ماله ويدع أهله عُيّلاً، ولكن مروه فلـيكتب ماله من دين وما علـيه، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله، ويدع سائره لورثته.

٧٠٤٩ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ}.. الاَية

قال: هذا يفرق الـمال حين يقسم، فـيقول الذين يحضرون: أقللت زد فلانا! فـيقول اللّه تعالـى: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ} فلـيخش أولئك ولـيقولوا فـيهم مثل ما يحبّ أحدهم أن يقال فـي ولده بـالعدل إذا أكثر: أبق علـى ولدك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولـيخش الذين يحضرون الـموصي وهو يوصي، الذين لو تركوا من خـلفهم ذرية ضعافـا فخافوا علـيهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم، أن ينهوه عن الوصية لأقربـائه، وأن يأمره بإمساك ماله والتـحفظ به لولده، وهم لو كانوا من أقربـاء الـموصي لسرّهم أن يوصي لهم. ذكر من قال ذلك:

٧٠٥٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، قال: ذهبت أنا والـحكم بن عيـينة، فأتـينا مقسما، فسألناه، يعنـي عن قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا}.. الاَية،

فقال: ما قال سعيد بن جبـير؟ فقلنا: كذا وكذا. فقال: ولكنه الرجل يحضره الـموت، فـيقول له من يحضره: اتق اللّه وأمسك علـيك مالك، فلـيس أحد أحقّ بـمالك من ولدك! ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم، لأحبوا أن يوصي لهم.

٧٠٥١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن حبـيب بن أبـي ثابت قال: قال مقسم: هم الذين يقولون: اتق اللّه وأمسك علـيك مالك، فلو كان ذا قرابة لهم لأحبوا أن يوصي لهم.

٧٠٥٢ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، قال: زعم حضرميّ، وقرأ: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا} قال: قالوا حقـيق أن يأمر صاحب الوصية بـالوصية لأهلها، كما أن لو كانت ذرّية نفسه بتلك الـمنزلة لأحبّ أن يوصي لهم، وإن كان هو الوارث فلا يـمنعه ذلك أن يأمره بـالذي يحقّ علـيه، فإن ولده لو كانوا بتلك الـمنزلة أحبّ أن يحثّ علـيه، فلـيتق اللّه هو، فلـيأمره بـالوصية وإن كان هو الوارث، أو نـحوا من ذلك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك أمر من اللّه ولاة الـيتامى أن يـلوهم بـالإحسان إلـيهم فـي أنفسهم وأموالهم، ولا يأكلوا أموالهم إسرافـا وبدارا أن يكبروا، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصغار بعدهم لهم بـالإحسان إلـيهم لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا. ذكر من قال ذلك:

٧٠٥٣ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ} يعنـي بذلك: الرجل يـموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف علـيهم العيـلة والضيعة، ويخاف بعده أن لا يحسن إلـيه من يـلـيهم،

يقول: فإن ولـي مثل ذريته ضعافـا يتامى، فلـيحسن إلـيهم، ولا يأكل أموالهم إسرافـا وبدارا خشية أن يكبروا، فلـيتقوا اللّه ، ولـيقولوا قولاً سديدا.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولـيخش الذين لو تركوا من خـلفهم ذرية ضعافـا خافوا علـيهم، فلـيتقوا اللّه ولـيقولوا قولاً سديدا، يكفـيهم اللّه أمر ذرّيتهم بعدهم. ذكر من قال ذلك:

٧٠٥٤ـ حدثنا إبراهيـم بن عطية بن دريج بن عطية، قال: ثنـي عمي مـحمد بن دريج، عن أبـيه، عن الشيبـانـي، قال: كنا بـالقسطنطينـية أيام مسلـمة بن عبد الـملك، وفـينا ابن مـحيريز وابن الديـلـمي وهانىء بن كلثوم، قال: فجعلنا نتذاكر ما يكون فـي آخر الزمان، قال: فضقت ذرعا بـما سمعت، قال: فقلت لابن الديـلـمي: يا أبـا بشر بودّي أنه لا يولد لـي ولد أبدا! قال: فضرب بـيده علـى منكبـي وقال: يا ابن أخي لا تفعل، فإنه لـيست من نسمة كتب اللّه لها أن تـخرج من صلب رجل، إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى

قال: ألا أدلك علـى أمر إن أنت أدركته نـجاك اللّه منه، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم اللّه فـيك؟ قال: قلت بلـى، قال: فتلا عند ذلك هذه الاَية: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرْيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ فَلْـيَتّقُوا اللّه وَلْـيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا}.

قال أبو جعفر: وأولـى التأويلات بـالاَية قول من قال: تأويـل ذلك: ولـيخش الذين لو تركوا من خـلفهم ذرية ضعافـا خافوا علـيهم العيـلة لو كانوا فرّقوا أمولهم فـي حياتهم، أو قسموها وصية منهم بها لأولـي قرابتهم وأهل الـيتـم والـمسكنة، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيـلة علـيهم بعدهم مع ضعفهم وعجزهم عن الـمطالب، فلـيأمروا من حضروه، وهو يوصي لذوي قرابته ـ وفـي الـيتامى والـمساكين وفـي غير ذلك ـ بـماله بـالعدل، ولـيتقوا اللّه ، ولـيقولوا قولاً سديدا، وهو أن يعرّفوه ما أبـاح اللّه له من الوصية وما اختاره الـمؤمنون من أهل الإيـمان بـاللّه وبكتابه وسنته.

وإنـما قلنا ذلك بتأويـل الاَية أولـى من غيره من التأويلات لـما قد ذكرنا فـيـما مضى قبل، من أن معنى قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتامَى وَالـمَساكِينْ فـارْزُقوهُمْ منه وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفـا} وإذا حضر القسمة أولو القربى والـيتامى والـمساكين فأوصوا لهم، بـما قد دللنا علـيه من الأدلة. فإذا كان ذلك تأويـل قوله: {وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَالـيَتَامى وَالـمَساكِينُ}.. الاَية، فـالواجب أن يكون قوله تعالـى ذكره: {وَلْـيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ} تأديبـا منه عبـاده فـي أمر الوصية بـما أذنهم فـيه، إذ كان ذلك عقـيب الاَية التـي قبلها فـي حكم الوصية، وكان أظهر معانـيه ما قلنا، فإلـحاق حكمه بحكم ما قبله أولـى مع اشتبـاه معانـيهما من صرف حكمه إلـى غيره بـما هو له غير مشبه.

وبـمعنى ما قلنا فـي تأويـل قوله: {ولْـيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا} قال من ذكرنا قوله فـي مبتدأ تأويـل هذه الاَية، وبه كان ابن زيد يقول.

٧٠٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ولْـيَخْش الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَـلْفِهِمْ ذُرْيّةً ضِعافـا خافُوا عَلَـيْهِمْ فَلْـيَتّقُوا اللّه ولْـيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا} قال: يقول قولاً سديدا، يذكر هذا الـمسكين وينفعه، ولا يجحف بهذا الـيتـيـم وارث الـمؤدّي ولا يضرّ به، لأنه صغير لا يدفع عن نفسه، فـانظر له كما تنظر إلـى ولدك لو كانوا صغارا.

والسديد من الكلام: هو العدل والصواب.

١٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىَ ظُلْماً ... }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ الـيَتامى ظُلْـما}

يقول: بغير حقّ، {إنـمَا يأْكُلُونَ فِـي بُطُونِهِمْ نارا} يوم القـيامة، بأكلهم أموال الـيتامى ظلـما فـي الدنـيا، نارَ جهنـم. {وسَيَصْلَوْنَ} بأكلهم {سَعِيرا}. كما:

٧٠٥٦ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ الـيَتامى ظُلْـما إنّـمَا يأْكُلُونَ فـي بُطُونهِمْ نارا} قال: إذا قام الرجل يأكل مال الـيتـيـم ظلـما، يبعث يوم القـيامة ولهب النار يخرج من فـيه ومن مسامعه ومن أذنـيه وأنفه وعينـيه، يعرفه من رآه بأكل مال الـيتـيـم.

٧٠٥٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنـي أبو هارون العبدي، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: حدثنا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عن لـيـلة أُسْرِيَ به، قال: (نَظَرْتُ فإذا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبِلِ وقَدْ وُكّلِ بِهِمْ مِنْ يأْخُذُ بِـمَشافِرِهِمْ، ثُمّ يجْعَل فِـي أفْواهِهِمْ صخْرا مِنْ نارٍ يخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ، قُلْتُ: يا جِبرِيـلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قال: هَؤُلاءِ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوال الـيَتامى ظُلْـما إنّـمَا يأْكَلُونَ فـي بُطُونِهمْ نارا).

٧٠٥٨ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {إنّ الّذِينَ يأْكُلُون أمْوالَ الـيَتَامى ظُلْـما إنّـمَا يأْكُلُون فـي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيصْلَوْنَ سَعِيرا} قال: قال أبـي: إن هذه لأهل الشرك حين كانوا لايورثونهم ويأكلون أموالهم.

وأما قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} فإنه مأخوذ من الصّلا، والصّلا: الاصطلاء بـالنار، وذلك التسخن بها، كما قال الفرزذق:

وَقاتَلَ كَلْبُ الـحَيّ عَنْ نارِ أهْلِهِلِـيَرْبِضَ فِـيها وَالصّلا مُتَكَنّفُ

وكما قال العجاج:

(وَصَالِـيَانِ للِصّلاَ صُلِـيّ )

ثم استعمل ذلك فـي كل من بـاشر بـيده أمرا من الأمور، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك، كما قال الشاعر:

لَـمْ أكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِـمَ اللّه وإنّـي بحَرّها الـيَوْمَ صَالِـي

فجعل ما بـاشر من شدّة الـحرب وإجراء القتال، بـمنزلة مبـاشرة أذى النار وحرّها.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الـمدينة والعراق: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا} بفتـح الـياء علـى التأويـل الذي قلنا.

وقرأ ذلك بعض الـمكيـين وبعض الكوفـيـين: {وَسَيُصْلَوْنَ سَعِيرا} بضم الـياء، بـمعنى يحرقون من قولهم: شاة مَصْلِـيّة، يعنـي: مشوية.

قال أبو جعفر: والفتـح بذلك أولـى من الضمّ لإجماع جميع القرّاء علـى فتـح الـياء فـي قوله: {لا يَصْلاها إلاّ الأشْقَـى} ولدلالة قوله: {إلاّ مَنْ هُوَ صالِ الـجَحِيـمِ} علـى أن الفتـح بها أولـى من الضموأما السعير: فإنه شدة حرّ جهنـم، ومنه

قـيـل: استعرت الـحرب: إذا اشتدت، وإنـما هو مسعور، ثم صرف إلـى سعير،

قـيـل: كف خضيب، ولـحية دهين، وإنـما هي مخضوبة صرفت إلـى فعيـل.

فتأويـل الكلام إذًا: وسيصلون نارا مسعرة: أي موقودة مشعلة، شديدا حرّها.

وإنـما قلنا إن ذلك كذلك، لأن اللّه جل ثناؤه قال: {وَإذَا الـجَحِيـمُ سُعّرَتْ} فوصفها بأنها مسعورة، ثم أخبر جل ثناؤه أن إكلة أموال الـيتامى يصلونها، وهي كذلك، فـالسعير إذًا فـي هذا الـموضع صفة للـجحيـم علـى ما وصفنا.

١١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يُوصِيكُمُ اللّه فِيَ أَوْلاَدِكُمْ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللّه }: بعهد اللّه إلـيكم، {فِـي أوْلاَدِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ} يقول يعهد إلـيكم ربكم إذا مات الـميت منكم، وخـلف أولادا ذكورا وإناثا، فلولده الذكور والإناث ميراثه أجمع بـينهم، للذكر منهم مثل حظّ الأنثـيـين، إذا لـم يكن له وارث غيرهم، سواء فـيه صغار ولده وكبـارهم وإناثهم فـي أن جميع ذلك بـينهم للذكر مثل حظّ الأنثـيـين ورفع قوله: (مثل)، بـالصفة، وهي اللام التـي فـي قوله: {للذّكَرِ} ولـم ينصب بقوله: {يُوصِيكُمُ اللّه } لأن الوصية فـي هذا الـموضع عهد وإعلام بـمعنى القول، والقول لا يقع علـى الأسماء الـمخبر عنها، فكأنه

قـيـل: يقول اللّه تعالـى ذكره: لكم فـي أولادكم للذكر منهم مثل حظّ الأنثـيـين. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت علـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم تبـيـينا من اللّه الواجب من الـحكم فـي ميراث من مات وخـلف ورثة علـى ما بـيّن، لأن أهل الـجاهلـية كانوا لا يقسمون من ميراث الـميت لأحد من ورثته بعده مـمن كان لا يلاقـي العدوّ ولا يقاتل فـي الـحروب من صغار ولده، ولا للنساء منهم، وكانو يخصون بذلك الـمقاتلة دون الذرية،

 فأخبر اللّه جل ثناؤه أن ما خـلفه الـميت بـين من سمى وفرض له ميراثا فـي هذه الاَية وفـي آخر هذه السورة، فقال فـي صغار ولد الـميت وكبـارهم وإناثهم: لهم ميراث أبـيهم إذا لـم يكن له وارث غيرهم، للذكر مثل حظّ الأنثـيـين. ذكر من قال ذلك:

٧٠٥٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {يُوصِيكُمُ اللّه فـي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ} كان أهل الـجاهلـية لا يورّثون الـجواري، ولا الصغار من الغلـمان، لا يرث الرجلَ من ولده إلا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها أم كُحة وترك خمس أخوت، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كحة ذلك إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى هذه الاَية: {فإنْ كُنّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَـيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثا ما تَركَ وإنْ كانَتْ واحِدةً فَلَها النّصْفُ} ثم قال فـي أم كحة: {ولهُنّ الرّبعُ مِـمّا تَركْتُـمْ إنْ لـمْ يَكنْ لَكُمْ ولَدٌ فإنْ كان لَكُمْ ولَدٌ فلَهُنّ الثمنٌ}.

٧٠٦٠ـ حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {يُوصِيكُمُ اللّه فـي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ} وذلك أنه لـما نزلت الفرائض التـي فرض اللّه فـيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم، و

قالوا: تعطى الـمرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، ولـيس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنـيـمة! اسكتوا عن هذا الـحديث، لعلّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينساه، أو نقول له فـيغيره!

فقال بعضهم: يا رسول اللّه ، أنعطي الـجارية نصف ما ترك أبوها، ولـيست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبـيّ الـميراث، ولـيس يغنـي شيئا؟ وكانوا يفعلون ذلك فـي الـجاهلـية، لا يعطون الـميراث إلا من قاتل، ويعطونه الأكبر فـالأكبر.

وقال آخرون: بل نزل ذلك من أجل أن الـمال كان للولد قبل نزوله، وللوالدين الوصية، فنسخ اللّه تبـارك وتعالـى ذلك بهذه الاَية. ذكر من قال ذلك:

٧٠٦١ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد أو عطاء، عن ابن عبـاس فـي قوله: {يُوصِيكمُ اللّه فـي أوْلادِكُمْ} قال: كان الـمال للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربـين، فنسخ اللّه من ذلك ما أحبّ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثـيـين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد، وللزوج الشطر والربع، وللزوجة الربع والثمن.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {يُوصِيكُمُ اللّه فـي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ} قال: كان ابن عبـاس

يقول: كان الـمال وكانت الوصية للوالدين والأقربـين، فنسح اللّه تبـارك وتعالـى من ذلك ما أحبّ، فجعل للذكر مثل حظّ الأنثـيـين، ثم ذكر نـحوه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس مثله. ورُوي عن جابر بن عبد اللّه ما:

٧٠٦٢ـ حدثنا به مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن مـحمد بن الـمنكدر، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه ، قال: دخـل علـيّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا مريض، فتوضأ ونضح علـيّ من وَضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه إنـما يرثنـي كلالةٌ، فكيف بـالـميراث؟ فنزلت آية الفرائض.

٧٠٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنـي مـحمد بن الـمنكدر عن جابر، قال: عادنـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رضي اللّه عنه فـي بنـي سملة يـمشيان، فوجدانـي لا أعقل، فدعا بوضوء فتوضأ، ثم رشّ علـيّ فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه كيف أصنع فـي مالـي؟ فنزلت {يُوصِيكُمُ اللّه فـي أوْلادِكمْ}.. الاَية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ كُنّ نِساءً فَوْق اثْنَتَـيْنِ فَلَهُنّ ثُلثا ما تَركَ}.

يعنـي بقوله: {فإنْ كُنّ} فإن كان الـمتروكات نساء فوق اثنتـين. ويعنـي بقول نِساء: بنات الـميت فوق اثنتـين،

يقول: أكثر فـي العدد من اثنتـين. {فَلهُنّ ثُلُثا ما تَرَكَ}

يقول: فلبناته الثلثان مـما ترك بعده من ميراثه دون سائر ورثته إذا لـم يكن الـميت خـلف ولدا ذكرا معهن.

واختلف أهل العربـية فـي الـمعنـيّ بقوله: {فإنْ كُنّ نِساءً} فقال بعض نـحويـي البصرة بنـحو الذي قلنا: فإن كان الـمتروكات نساء، وهو أيضا قول بعض نـحويـي الكوفة.

وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: فإن كان الأولاد نساء

وقال: إنـما ذكر اللّه الأولاد،

فقال: {يُوصِيكُمُ اللّه فـي أوْلادِكُمْ} ثم قسم الوصية،

فقال: {فإنْ كُنّ نِساءً} وإن كان الأولاد واحدة ترجمة منه بذلك عن الأولاد.

قال أبو جعفر: والقول الأوّل الذي حكيناه عمن حكيناه عنه من البصريـين أولـى بـالصواب فـي ذلك عندي، لأن قوله: (وإن كنّ)، لو كان معنـيا به الأولاد، لقـيـل: وإن كانوا، لأن الأولاد تـجمع الذكور والإناث، وإذا كان كذلك، فإنـما يقال: كانوا لا كنّ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وإنْ كانَتْ واحِدةً فَلَها النّصْفُ ولأبَويْهِ لِكُلّ واحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ مِـمّا تَرك إنْ كان لَهُ وَلَدٌ}.

يعنـي بقوله: وإن كانت الـمتروكة ابنة واحدة، فلها النصف،

يقول: فلتلك الواحدة نصف ما ترك الـميت من ميراثه إذا لـم يكن معها غيرها من ولد الـميت ذكر ولا أنثى.

فإن قال قائل: فهذا فرض الواحدة من النساء، وما فوق الاثنتـين، فأين فريضة الاثنتـين؟

قـيـل: فريضتهم بـالسنة الـمنقولة نقل الوراثة التـي لا يجوز فـيها الشكّوأما قوله: {وَلأَبَوَيْهِ} فإنه يعنـي: ولأبوي الـميت لكل واحد منهما السدس من تركته وما خـلف من ماله سواء فـيه الوالدة والوالد، لا يزداد واحد منهما علـى السدس إن كان له ولد ذكرا كان الولد أو أنثى، واحدا كان أو جماعة.

فإن قال قائل: فإذ كان كذلك التأويـل، فقد يجب أن لا يزاد الوالد مع الابنة الواحدة علـى السدس من ميراثه عن ولده الـميت، وذلك إن قلته قول خلاف لـما علـيه الأمة مـجمعون من تصيـيرهم بـاقـي تركة الـميت مع الابنة الواحدة بعد أخذها نصيبها منها لوالده أجمع؟

قـيـل: لـيس الأمر فـي ذلك كالذي ظننت، وإنـما لكلّ واحد من أبوي الـميت السدس من تركته مع ولده ذكرا كان الولد أو أنثى، واحدا كان أو جماعة، فريضة من اللّه له مسماة، فإن زيد علـى ذلك من بقـية النصف مع الابنة الواحدة إذا لـم يكن غيره وغير ابنة للـميت واحدة فإنـما زيدها ثانـيا لقرب عصبة الـميت إلـيه، إذ كان حكم كل ما أبقته سهام الفرائض، فلأولـي عصبة الـميت وأقربهم إلـيه بحكم ذلك لها علـى لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان الأب أقرب عصبة ابنة وأولاها به إذا لـم يكن لابنه الـميت ابن.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ لَـمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ فلأُمّهِ الثّلُثُ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {فإنْ لَـمْ يَكُنْ لَهُ}: فإن لـم يكن للـميت ولد ذكر ولا أنثى، وورثه أبواه دون غيرهما من ولد وارث¹ {فلاّمّهِ الثّلُثُ}

يقول: فلأمه من تركته وما خـلف بعده ثلث جميع ذلك.

فإن قال قائل: فمن الذي له الثلثان الاَخران؟ قـيـل له الأب.

فإن قال قائل: بـماذا؟ قلت: بأنه أقرب أهل الـميت إلـيه، ولذلك ترك ذكر تسمية من له الثلثان البـاقـيان، إذ كان قد بـين علـى لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعبـاده أن كل ميت فأقرب عصبته به أولـى بـميراثه بعد إعطاء ذوي السهام الـمفروضة سهامهم من ميراثه. وهذه العلة هي العلة التـي من أجلها سمى للأم ما سمى لها، إذا لـم يكن الـميت خـلف وارثا غير أبويه، لأن الأم لـيست بعصبة فـي حال للـميت، فبـين اللّه جل ثناؤه لعبـاده ما فرض لها من ميراث ولدها الـميت، وترك ذكر من له الثلثان البـاقـيان منه معها، إذ كان قد عرّفهم فـي جملة بـيانه لهم من له بقايا تركة الأموال بعد أخذ أهل السهام سهامهم وفرائضهم، وكان بـيانه ذلك معينا لهم علـى تكرير حكمه مع كل من قسم له حقا من ميراث ميت وسمّى له منه سهما.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فلأُمّهِ السّدُسُ}.

إن قال قائل: وما الـمعنى الذي من أجله ذكر حكم الأبوين مع الإخوة، وترك ذكر حكمهما مع الأخ الواحد؟ قلت: اختلاف حكمهما مع الإخوة الـجماعة والأخ الواحد، فكان فـي إبـانة اللّه جل ثناؤه لعبـاده حكمهما فـيـما يرثان من ولدهما الـميت مع إخوته غنى، وكفـاية عن أن حكمهما فـيـما ورثا منه غير متغير عما كان لهما، ولا أخ للـميت، ولا وارث غيرهما، إذ كان معلوما عندهم أن كل مستـحقّ حقا بقضاء اللّه ذلك له، لا ينتقل حقه الذي قضى به له ربه جلّ ثناؤه، عما قضى به له إلـى غيره، إلا بنقل اللّه ذلك عنه إلـى من نقله إلـيه من خـلقه، فكان فـي فرضه تعالـى ذكره للأم ما فرض، إذا لـم يكن لولدها الـميت وارث غيرها وغير والده، لوائح الدلالة الواضحة للـخـلق أن ذلك الـمفروض هو ثلث مال ولدها الـميت حقّ لها واجب، حتـى يغير ذلك الفرض من فرض لها، فلـما غير تعالـى ذكره ما فرض لها من ذلك مع الإخوة الـجماعة وترك تغيـيره مع الأخ الواحد، علـم بذلك أن فرضها غير متغير عما فرض لها إلا فـي الـحال التـي غيره فـيها من لزم العبـاد طاعته دون غيرها من الأحوال.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي عدد الإخوة الذين عناهم اللّه تعالـى ذكره بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةُ} فقال جماعة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم من علـماء أهل الإسلام فـي كل زمان: عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فلأُمّهِ السّدُسُ} اثنـين كان الإخوة أو أكثر منهما، أنثـيـين كانتا أو كنّ إناثا، أو ذكرين كانا أو كانوا ذكورا، أو كان أحدهما ذكرا والاَخر أنثى. واعتلّ كثـير مـمن قال ذلك بأن ذلك قالته الأمة عن بـيان اللّه جل ثناؤه علـى لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فنقلته أمة نبـيه نقلاً مستفـيضا قطع العذر مـجيئه، ودفع الشكّ فـيه عن قلوب الـخـلق وروده.

ورُوي عن ابن عبـاس رضي اللّه عنهما أنه كان

يقول: بل عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ}: جماعة أقلها ثلاثة. وكان ينكر أن يكون اللّه جل ثناؤه حجب الأم عن ثلثها مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة، فكان يقول فـي أبوين وأخوين: للأم الثلث وما بقـي فللأب، كما قال أهل العلـم فـي أبوين وأخ واحد. ذكر الرواية عنه بذلك:

٧٠٦٤ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه بن عبد الـحكم، قال: حدثنا ابن أبـي فديك، قال: ثنـي ابن أبـي ذئب، عن شعبة مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس : أنه دخـل علـى عثمان رضي اللّه عنه،

فقال: لـم صار الأخوان يردّان الأم إلـى السدس، وإنـما قال اللّه : {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ} والأخوان فـي لسان قومك وكلام قومك لـيسا بإخوة؟ فقال عثمان رضي اللّه عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلـي، وتوارثه الناس، ومضى فـي الأمصار؟.

قل أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي أن الـمعنـي بقوله: {فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ} اثنان من إخوة الـميت فصاعدا، علـى ما قاله أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دون ما قاله ابن عبـاس رضي اللّه عنهما، لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الـحجة وإنكارهم ما قاله ابن عبـاس فـي ذلك.

فإن قال قائل: وكيف قـيـل فـي الأخوين إخوة، وقد علـمت أن للأخوين فـي منطق العرب مثالاً لا يشبه مثال الإخوة فـي منطقها؟

قـيـل: إن ذلك وإن كان كذلك، فإن من شأنها التألـيف بـين الكلامين بتقارب معنـيـيهما وإن اختلفـا فـي بعض وجوههما. فلـما كان ذلك كذلك، وكان مستفـيضا فـي منطقها منتشرا مستعملاً فـي كلامها: ضربت من عبد اللّه وعمرو رءوسهما، وأوجعت منهما ظهورهما، وكان ذلك أشدّ استفـاضة فـي منطها من أن يقال: أوجعت منهما ظهرهما، وإن كان مقولاً: أوجعت ظهرهما كما قال الفرزدق:

بِـمَا فـي فُؤَادَيْنَا مِنَ الـحُبّ والهَوَىفَـيَبْرَأُ مِنْهَاضُ الفُؤَادِ الـمَشَغّفُ

غير أن ذلك وإن كان مقولاً، فأفصح منه: بـما فـي أفئدتنا، كما قال جلّ ثناؤه: {إنْ تَتوبـا إلـى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قَلُوبُكُما}. فلـما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان فـي الإنسان واحدا إذا ضمّ إلـى الواحد منه آخر من إنسان آخر، فصار اثنـين من اثنـين، فلفظ الـجمع أفصح فـي منطقها وأشهر فـي كلامها، وكان الأخوان شخصين كل واحد منهما غير صاحبه من نفسين مختلفـين أشبه معناهما معنى ما كان فـي الإنسان من أعضائه واحدا لا ثانـي له، فأخرج أنثـيـيهما بلفظ أنثى العضوين اللذين وصفت، فقـيـل إخوة فـي معنى الأخوين، كما قـيـل ظهور فـي معنى الظهرين، وأفواه فـي معنى فموين، وقلوب فـي معنى قلبـين. وقد قال بعض النـحويـين: إنـما قـيـل إخوة، لأن أقلّ الـجمع اثنان، وذلك أنه إذا ضمّ شيء إلـى شيء صارا جميعا بعد أن كانا فردين فجمعا، لـيعلـم أن الاثنـين جمع. وهذا وإن كان كذلك فـي الـمعنى، فلـيس بعلة تنبىء عن جواز إخراج ما قد جرى الكلام مستعملاً مستفـيضا علـى ألسن العرب لاثنـينه بـمثال، وصورة غير مثال ثلاثة فصاعدا منه، وصورتها، لأن من قال أخواك قاما، فلا شكّ أنه قد علـم أن كل واحد من الأخوين فرد ضمّ أحدهما إلـى الاَخر، فصارا جميعا بعد أن كانا شتـى عنوان الأمر. وإن كان كذلك فلا تستـجيز العرب فـي كلامها أن يقال: أخواك قاموا، فـيخرج قولهم: قاموا، وهو لفظ للـخبر عن الـجميع خبرا عن الأخوين وهما بلفظ الاثنـين، لأن لكل ما جرى به الكلام علـى ألسنتهم مثالاً معروفـا عندهم، وصورة إذا غير مغير ما قد عرفوه فـيهم أنكروه، فكذلك الأخوان وإن كان مـجموعين ضمّ أحدهما إلـى صاحبه، فلهما مثال فـي الـمنطق، وصورة غير مثال الثلاثة منهم فصاعدا وصورتهم، فغير جائز أن يغير أحدهما إلـى الاَخر إلا بـمعنى مفهوم. وإذا كان ذلك كذلك فلا قول أولـى بـالصحة مـما قلنا قبل.

فإن قال قائل: ولـم نقصت الأم عن ثلثها بـمصير إخوة الـميت معها اثنـين فصاعدا؟

قـيـل: اختلفت العلـماء فـي ذلك،

فقال بعضهم: نقصت الأم عن ذلك دون الأب، لأن علـى الأب مؤنهم دون أمهم. ذكر من قال ذلك:

٧٠٦٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فإنْ لَـمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَورِثَهُ أبَوَاهُ فلأُمّهِ الثّلُثُ فإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ} أنزلوا الأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث، ويحجبها ما فوق ذلك. وكان أهل العلـم يرون أنهم إنـما حجبوا أمهم من الثلث، لأن أبـاهم يـلـي نكاحهم، والنفقة علـيهم دون أمهم.

وقال آخرون: بل نقصت الأم السدس وقصر بها علـى سدس واحد معونة لإخوة الـميت بـالسدس الذي حجبوا أمهم عنه. ذكر من قال ذلك:

 حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس ، قال: السدس الذي حجبته الإخوة الأم لهم إنـما حجبوا أمهم عنه لـيكون لهم دون أمهم. وقد روي عن ابن عبـاس خلاف هذا القول، وذلك ما:

٧٠٦٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن الـحسن بن مـحمد، عن ابن عبـاس ، قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد.

قال أبو جعفر: وأولـى ذلك بـالصواب أن يقال فـي ذلك: إن اللّه تعالـى ذكره فرض للأم مع الإخوة السدس لـما هو أعلـم به من مصلـحة خـلقه. وقد يجوز أن يكون ذلك كان لـما ألزم الاَبـاء لأولادهم، وقد يجوز أن يكون ذلك لغير ذلك، ولـيس ذلك مـما كلفنا علـمه، وإنـما أمرنا بـالعمل بـما علـمناوأما الذي روي عن طاوس عن ابن عبـاس ، فقول لـما علـيه الأمة مخالف، وذلك أنه لا خلاف بـين الـجميع أن لا ميراث لأخي ميت مع والده، فكفـى إجماعهم علـى خلافه شاهدا علـى فساده.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْ بعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {مِنْ بعْدِ وَصِيّة يُوصِي بِهَا أوْ دَيْنٍ} أن الذي قسم اللّه تبـارك وتعالـى لولد الـميت الذكور منهم والإناث ولأبويه من تركته من بعد وفـاته، إنـما يقسمه لهم علـى ما قسمه لهم فـي هذه الاَية من بعد قضاء دين الـميت الذي مات وهو علـيه من تركته ومن بعد تنفـيذ وصيته فـي بـابها، بعد قضاء دينه كله. فلـم يجعل تعالـى ذكره لأحد من ورثة الـميت ولا لأحد مـمن أوصى له بشيء إلا من بعد قضاء دينه من جميع تركته، وإن أحاط بجميع ذلك. ثم جعل أهل الوصايا بعد قضاء دينه شركاء ورثته فـيـما بقـي لـما أوصى لهم به ما لـم يجاوز ذلك ثلثه، فإن جاوز ذلك ثلثه جعل الـخيار فـي إجازة ما زاد علـى الثلث من ذلك أو ردّه إلـى ورثته، إن أحبوا أجازوا الزيادة علـى ثلث ذلك، وإن شاءوا ردّوه¹ فأما ما كان من ذلك إلـى الثلث فهو ماض علـيهم. وعلـى كل ما قلنا من ذلك الأمة مـجمعة. وقد رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك خبر، وهو ما:

٧٠٦٧ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن الـحرث الأعور، عن علـيّ رضي اللّه عنه قال: إنكم تقرءون هذه الاَية: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ} إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بـالدين قبل الوصية.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا زكرياء بن أبـي زائدة، عن أبـي إسحاق، عن الـحرث، عن علـيّ رضوان اللّه علـيه، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، بـمثله.

حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا حفص بن غياث، قال: حدثنا أشعث، عن أبـي إسحاق، عن الـحرث، عن علـيّ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

٧٠٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة، عن ابن مـجاهد، عن أبـيه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ} قال: يبدأ بـالدين قبل الوصية.

واختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الـمدينة والعراق: {يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ}، وقرأ بعض أهل مكة والشام والكوفة: (يُوصَى بِها) علـى معنى ما لـم يسمّ فـاعله.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين بـالصواب قراءة من قرأ ذلك: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بها أوْ دَيْنٍ} علـى مذهب ما قد سمي فـاعله، لأن الاَية كلها خبر عمن قد سمي فـاعله، ألا ترى أنه

يقول: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ مِـمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ}؟ فكذلك الذي هو أولـى بقوله: {يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ} أن يكون خبرا عمن قد سمي فـاعله¹ لأن تأويـل الكلام: ولأبويه لكلّ واحد منهما السدس مـما ترك إن كان له ولد، من بعد وصية يوصي بها، أو دين يُقْضَى عنه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إبـاؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعا}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {آبـاؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ} هؤلاء الذين أوصاكم اللّه به فـيهم ـ من قسمة ميراث ميتكم فـيهم علـى ما سمّى لكم وبـينه فـي هذه الاَية ـ {آبـاؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفعا}

يقول: أعطوهم حقوقهم من ميراث ميتهم الذي أوصيتكم أن تعطوهموها، فإنكم لا تعلـمون أيهم أدنى وأشدّ نفعا لكم فـي عاجل دنـياكم وآجل أخراكم.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {لا تَدْرُون أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا}

فقال بعضهم: يعنـي بذلك: أيهم أقرب لكم نفعا فـي الاَخرة. ذكر من قال ذلك:

٧٠٦٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـي بن أبـي طلـحة: عن ابن عبـاس ، قوله: {آبـاؤُكمْ وأبْناؤُكمْ لا تَدْرُونَ أيّهمْ أقْرَب لَكمْ نَفْعا}

يقول: أطوعكم لله من الأبـاء والأبناء، أرفعكم درجة يوم القـيامة، لأن اللّه سبحانه يشفّع الـمؤمنـين بعضهم فـي بعض.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٧٠٧٠ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: {أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا} فـي الدنـيا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٧٠٧١ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي، قوله: {لا تَدْرُونَ أيّهُمْ أقْرَبُ لَكُمْ نَفْعا} قال بعضهم: فـي نفع الاَخرة، .

وقال بعضهم: فـي نفع الدنـيا.

وقال آخرون فـي ذلك بـما قلنا. ذكر من قال ذلك:

٧٠٧٢ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لا تَدْرُون أيّهُمْ أقْربُ لَكُمْ نَفْعا} قال: أيهم خير لكم فـي الدين والدنـيا الوالد أو الولد الذين يرثونكم لـم يدخـل علـيكم غيرهم، فرضي لهم الـمواريث لـم يأت بآخرين يشركونهم فـي أموالكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَرِيضةً مِنَ اللّه إنّ اللّه كانَ عَلِـيـما حَكِيـما}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه } وإن كان له إخوة فلأمه السدس، فريضةً،

يقول: سهاما معلومة موقتة بـينها اللّه لهم. ونصب قوله: (فريضة) علـى الـمصدر من قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فـي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنْثَـيَـيْنِ فَرِيضةً} فأخرج فريضة من معنى الكلام، إذ كان معناه ما وصفت. وقد يجوز أن يكون نصبه علـى الـخروج من قوله: فإن كان له إخوة فلأمه السدس فريضة، فتكون الفريضة منصوبة علـى الـخروج من قوله: {فإنْ كان لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ} كما تقول: هو لك هبة، وهو لك صدقة منـي علـيك.

وأما قوله: {إنّ اللّه كانَ عَلِـيـما حَكِيـما} فإنه يعنـي جلّ ثناؤه: إن اللّه لـم يزل ذا علـم بـما يصلـح خـلقه أيها الناس، فـانتهوا إلـى ما يأمركم يصلـح لكم أموركم. {حَكِيـما}

يقول: لـم يزل ذا حكمة فـي تدبـيره وهو كذلك فـيـما يقسم لبعضكم من ميراث بعض وفـيـما يقضي بـينكم من الأحكام، لا يدخـل حكمه خـلل ولا زلل، لأن قضاء من لا يخفـى علـيه مواضع الـمصلـحة فـي البدء والعقابة.

١٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولكم أيها الناس نصف ما ترك أزواجكم بعد وفـاتهن من مال وميراث إن لـم يكن لهنّ ولد يوم يحدث لهنّ الـموت لا ذكر ولا أنثى. {فإنْ كَانَ لهُنّ وَلَدٌ} أي فإن كان لأزواجكم يوم يحدث لهنّ الـموت ولد ذكر أو أنثى، فلكم الربع مـما تركن من مال وميراث، ميراثا لكم عنهنّ، {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بها أو دَيْنٍ}

يقول: ذلكم لكم ميراثا عنهنّ مـما يبقـى من تركاتهنّ وأموالهنّ من بعد قضاء ديونهنّ التـي يـمتن وهي علـيهن، ومن بعد إنفـاذ وصاياهنّ الـجائزة إن كنّ أوصين بها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ولهُنّ الرّبُعُ مِـمّا تَركْتُـمْ ...}:

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {ولهُنّ الرّبُعُ مِـمّا تَركْتُـمْ إنْ لـمْ يَكُنْ لَكُمْ ولَدٌ}: ولأزواجكم أيها الناس ربع ما تركتـم بعد وفـاتكم من مال وميراث إن حدث بأحدكم حدث الوفـاة ولا ولد له ذكر ولا أنثى. {فإنْ كانَ لَكُمْ ولَدٌ}

يقول: فإن حدث بأحدكم حدث الـموت وله ولد ذكر أو أنثى، واحدا كان الولد أو جماعة، {فَلَهُنّ الثّمُنُ مِـمّا تَركْتُـمْ}

يقول: فلأزواجكم حينئذ من أموالكم وتركتكم التـي تـخـلفونها بعد وفـاتكم الثمن من بعد قضاء ديونكم التـي حدث بكم حدث الوفـاة وهي علـيكم، ومن بعد إنفـاذ وصاياكم الـجائزة التـي توصون بها. وإنـما

قـيـل: {مِنْ بَعْدِ وِصّيةٍ تُوصُون بِها أوْ ديْنٍ} فقدّم ذكر الوصية علـى ذكر الدين، لأن معنى الكلام: إن الذي فرضت لـمن فرضت له منكم فـي هذه الاَيات إنـما هو له من بعد إخراج أيّ هذين كان فـي مال الـميت منكم، من وصية أو دين. فلذلك كان سواء تقديـم ذكر الوصية قبل ذكر الدين، وتقديـم ذكر الدين قبل ذكر الوصية، لأنه لـم يرد من معنى ذلك إخراج أحد الشيئين: الدين والوصية من ماله، فـيكون ذكر الدين أولـى أن يبدأ به من ذكر الوصية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ}.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة.

ثم اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأ ذلك عامة قراء أهل الإسلام: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً} يعنـي: وإن كان رجل يورَث متكلل النسب. فـالكلالة علـى هذا القول مصدر من قولهم: تكلله النسب تكللاً وكلالة، بـمعنى: تعطف علـيه النسب. وقرأه بعضهم: (وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً) بـمعنى: وإن كان رجل يورث من يتكلله، بـمعنى: من يتعطف علـيه بنسبه من أخ أو أخت.

واختلف أهل التأويـل فـي الكلالة،

فقال بعضهم: هي ما خلا الوالد والولد. ذكر من قال ذلك:

٧٠٧٣ـ حدثنا الولـيد بن شجاع السكونـي، قال: ثنـي علـيّ بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبـي، قال: قال أبو بكر رضي اللّه عنه: إنـي قد رأيت فـي الكلالة رأيا، فإن كان صوابـا فمن اللّه وحده لا شريك له، وإن يكن خطأً فمنـي والشيطان، واللّه منه بريءٌ¹ إنّ الكلالة ما خلا الولد والوالد. فلـما استـخـلف عمر رضي اللّه عنه، قال: إنـي لأستـحيـي من اللّه تبـارك وتعالـى أن أخالف أبـا بكر فـي رأي رآه.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا عاصم الأحول، قال: حدثنا الشعبـي: أن أبـا بكر رضي اللّه عنه، قال فـي الكلالة: أقول فـيها برأيـي، فإن كان صوابـا فمن اللّه : هو ما دون الولد والوالد

قال: فلـما كان عمر رضي اللّه عنه، قال: إنـي لأستـحيـي من اللّه أن أخالف أبـا بكر.

٧٠٧٤ـ حدثنا أبو بشر بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا سفـيان، عن عاصم الأحول، عن الشعبـي: أن أبـا بكر وعمر بن الـخطاب رضي اللّه عنهما قالا: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

٧٠٧٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن عمران بن حدير، عن السميط، قال: كان عمر رجلاً أيسر، فخرج يوما وهو يقول بـيده هكذا، يديرها، إلا أنه قال: أتـى علـيّ حينٌ ولست أدري ما الكلالة، ألا وإن الكلالة: ما خلا الولد والوالد.

٧٠٧٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن جابر، عن عامر، عن أبـي بكر، قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.

٧٠٧٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن الـحسن بن مـحمد، عن ابن عبـاس ، قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدّث عن عمرو بن دينار، عن الـحسن بن مـحمد، عن ابن عبـاس ، قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن الـحسن بن مـحمد ابن الـحنفـية، عن ابن عبـاس ، قال: الكلالة: ما خلا الولد والوالد.

حدثنا ابن بشار وابن وكيع، قالا: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد، عن ابن عبـاس ، بـمثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد السلولـي، عن ابن عبـاس ، قال: الكلالة: ما خلا الولد والوالد.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ} قال: الكلالة: من لـم يترك ولدا ولا والدا.

٧٠٧٨ـ حدثنـي مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـي، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد، قال: ما رأيتهم إلا قد اتفقوا أن ما مات ولـم يدع ولدا ولا والدا أنه كلالة.

حدثنا تـميـم بن الـمنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن شريك، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد، قال: ما رأيتهم إلا قد أجمعوا أن الكلالة: الذي لـيس له ولد ولا والد.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد، قال: الكلالة: ما خلا الولد والوالد.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيـل، عن أشعث، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد، قال: أدركتهم وهم يقولون: إذا لـم يدع الرجل ولدا ولا والدا وُرِثَ كلالة.

٧٠٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ} والكلالة: الذي لا ولد له ولا والد، لا أب ولا جدّ ولا ابن ولا ابنة، فهولاء الإخوة من الأم.

٧٠٨٠ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن الـحكم، قال فـي الكلالة: ما دون الولد والوالد.

٧٠٨١ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الكلالة كل من لا يرثه والد ولا ولد، وكل من لا ولد له ولا والد فهو يورث كلالة من رجالهم ونسائهم.

٧٠٨٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري وأبـي إسحاق، قال: الكلالة: من لـيس له ولد ولا والد.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن مـحمد، عن معمر، عن الزهري وقتادة وأبـي إسحاق، مثله.

وقال آخرون: الكلالة: ما دون الولد. وهذا قول عن ابن عبـاس ، وهو الـخبر الذي ذكرناه قبل من رواية طاوس عنه أنه ورث الإخوة من الأم السدس مع الأبوين.

وقال آخرون: الكلالة: ما خلا الوالد. ذكر من قال ذلك:

٧٠٨٣ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن شعبة، قال: سألت الـحكم عن الكلالة؟ قال: فهو ما دون الأب.

واختلف أهل العربـية فـي الناصب للكلالة¹ فقال بعض البصريـين: إن شئت نصبت كلالة علـى خبر كان، وجعلت (يورث) من صفة الرجل، وإن شئت جعلت (كان) تستغنـي عن الـخبر نـحو: وقع، وجعلت نصب كلالة علـى الـحال: أي يورث كلالة، كما يقال: يضرب قائما.

وقال بعضهم: قوله (كلالة)، خبر (كان)، لا يكون الـموروث كلالة، وإنـما الوارث الكلالة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي: أن الكلالة منصوب علـى الـخروج من قوله {يُورَثُ} وخبر (كان) (يورث). والكلالة وإن كانت منصوبة بـالـخروج من يورث، فلـيست منصوبة علـى الـحال، ولكن علـى الـمصدر من معنى الكلام، لأن معنى الكلام وإن كان رجل يورث متكلله النسب كلالة، ثم ترك ذكر متكلله اكتفـاء بدلالة قوله: (يورث) علـيه.

واختلف أهل العلـم فـي الـمسمى كلالة،

فقال بعضهم: الكلالة: الـموروث، وهو الـميت نفسه، سمي بذلك إذا ورثه غير والده وولده. ذكر من قال ذلك:

٧٠٨٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ قولهم فـي الكلالة، قال: الذي لا يدع والدا ولا ولدا.

٧٠٨٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عيـينة، عن سلـيـمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عبـاس ، قال: كنت آخر الناس عهدا بعمر رضي اللّه عنه، فسمعته يقول ما قلت، قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة: من لا ولد له.

٧٠٨٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي ويحيـى بن آدم، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن سلـيـم بن عبد، عن ابن عبـاس ، قال: الكلالة: من لا ولد له ولا والد.

وقال آخرون: الكلالة: هي الورثة الذين يرثون الـميت إذا كانوا إخوة أو أخوات أو غيرهم إذا لـم يكونوا ولدا ولا والدا علـى ما قد ذكرنا من اختلافهم فـي ذلك.

وقال آخرون: بل الكلالة: الـميت والـحيّ جميعا. ذكر من قال ذلك:

٧٠٨٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الكلالة: الـميت الذي لا ولد له ولا والد، والـحيّ كلهم كلالة، هذا يرث بـالكلالة، وهذا يورث بـالكلالة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي ما قاله هؤلاء، وهو أن الكلالة الذين يرثون الـميت من عدا ولده ووالده، وذلك لصحة الـخبر الذي ذكرناه عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: قلت يا رسول اللّه ، إنـما يرثنـي كلالة، فكيف بـالـميراث؟ وبـما:

٧٠٨٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، قال: كنا مع حميد بن عبد الرحمن فـي سوق الرقـيق، قال: فقام من عندنا ثم رجع،

فقال: هذا آخر ثلاثة من بنـي سعد حدثونـي هذا الـحديث،

قالوا: مرض سعد بـمكة مرضا شديدا، قال: فأتاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعوده،

فقال: يا رسول اللّه لـي مال كثـير، ولـيس لـي وارث إلا كلالة، فأوصي بـمالـي كله؟ فقال: (لا).

٧٠٨٩ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد، قال: جاء شيخ إلـى عمر رضي اللّه عنه،

فقال: إنـي شيخ ولـيس لـي وارث إلا كلالةُ أعرابٍ متراخٍ نَسَبهم، أفأوصي بثلث مالـي؟ قال: لا.

فقد أنبأت هذه الأخبـار عن صحة ما قلنا فـي معنى الكلالة وأنها ورثة الـميت دون الـميت مـمن عدا والده وولده.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ ...}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {ولَهُ أخٌ أو أخْتٌ} وللرجل الذي يورث كلالة أخ أو أخت يعنـي أخا أو أختا من أمه. كما:

٧٠٩٠ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن يعلـى بن عطاء، عن القاسم، عن سعد، أنه كان يقرأ: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ} قال سعد: لأمه.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا شعبة، عن يعلـى بن عطاء، قال: سمعت القاسم بن ربـيعة

يقول: قرأت علـى سعد: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ} قال سعد: لأمه.

حدثنـي مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن يعلـى بن عطاء، عن القاسم بن ربـيعة بن قانف، قال: قرأت علـى سعد، فذكر نـحوه.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: أخبرنا هشيـم، قال: أخبرنا يعلـى بن عطاء، عن القاسم بن ربـيعة، قال: سمعت سعد بن أبـي وقاص قرأ: (وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ أو أخت) من أمه.

٧٠٩١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ} فهؤلاء الإخوة من الأم إن كان واحدا فله السدس، وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء فـي الثلث، ذكرهم وأنثاهم فـيه سواء.

٧٠٩٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وإنْ كان رجُلٌ يُورثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ} فهؤلاء الإخوة من الأم، فهم شركاء فـي الثلث، سواء الذكر والأنثى.

وقوله: {فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ} إذا انفرد الأخ وحده أو الأخت وحدها، ولـم يكن أخ غيره أو غيرها من أمه فله السدس من ميراث أخيه لأمه، فإن اجتـمع أخ وأخت أو أخوان لا ثالث معهما لأمهما، أو أختان كذلك، أو أخ وأخت لـيس معهما غيرهما من أمهما، فلكلّ واحد منهما من ميراث أخيهما لأمهما السدس. {وَإنْ كانُوا أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} يعنـي: فإن كان الإخوة والأخوات لأمّ الـميت الـموروث كلالة أكثر من اثنـين، {فَهُمْ شُرَكاءَ فِـي الثّلُثِ}

يقول: فـالثلث الذي فرضت لاثنـيهم إذا لـم يكن غيرهما من أمهما ميراثا لهما من أخيهما الـميت الـموروث كلالة شركة بـينهم إذا كانوا أكثر من اثنـين إلـى ما بلغ عددهم علـى عدد رءوسهم، لا يفضل ذكر منهم علـى أنثى فـي ذلك، ولكنه بـينهم بـالسوية.

فإن قال قائل: وكيف قـيـل وله أخ أو أخت، ولـم يقل لهما أخ أو أخت، وقد ذكر قبل ذلك (رجل أو امرأة)، فقـيـل: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة؟

قـيـل: إن من شأن العرب إذا قدمت ذكر اسمين قبل الـخبر فعطفت أحدهما علـى الاَخر بأو ثم أتت بـالـخبر أضافت الـخبر إلـيهما أحيانا وأحيانا إلـى أحدهما، وإذا أضافت إلـى أحدهما، كان سواء عندها إضافة ذلك إلـى أيّ الأسمين اللذين ذكرتهما إضافته، فتقول: من كان عنده غلام أو جارية فلـيحسنْ إلـيه، يعنـي: فلـيحسن إلـى الغلام، وفلـيحسن إلـيها، يعنـي: فلـيحسن إلـى الـجارية، وفلـيحسن إلـيهماوأما قوله: {فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهما السّدُسُ} وقد تقدم ذكر الأخ والأخت بعطف أحدهما علـى الاَخر، والدلالة علـى أن الـمراد بـمعنى الكلام أحدهما فـي قوله: {وَلَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ} فإن ذلك إنـما جاز لأن معنى الكلام: فلكل واحد من الـمذكورين السدس.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَا ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّة يُوصَى بِها}: أي هذا الذي فرضت لأخي الـميت الـموروث كلالة وأخته أو إخوته وأخواته من ميراثه وتركته، إنـما هو لهم من بعد قضاء دين الـميت الذي كان علـيه يوم حدث به حدث الـموت من تركته، وبعد إنفـاذ وصاياه الـجائزة التـي يوصي بها فـي حياته لـمن أوصى له بها بعد وفـاته. كما:

٧٠٩٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِها أوْ دَيْنٍ} والدين أحقّ ما بدىء به من جميع الـمال، فـيؤدى عن أمانة الـميت، ثم الوصية، ثم يقسم أهل الـميراث ميراثهم.

وأما قوله: {غَيْرَ مُضَارّ} فإنه يعنـي تعالـى ذكره: من بعد وصية يوصي بها غير مضارّ ورثته فـي ميراثهم عنه. كما:

٧٠٩٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {غَيْرَ مُضَارّ} قال: فـي ميراث أهله.

حدثنـي القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قوله: {غَيْرَ مُضَارّ} قال: فـي ميراث أهله.

٧٠٩٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنـي يزيد، قال: ثنـي سعيد، عن قتادة، قوله: {غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّة مِنَ اللّه } إن اللّه تبـارك وتعالـى كره الضرار فـي الـحياة وعند الـموت ونهى عنه وقدم فـيه، فلا تصلـح مضارّة فـي حياة ولا موت.

٧٠٩٦ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا عبـيدة بن حميد، وثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية جميعا، عن داود بن أبـي هند، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي هذه الاَية: {غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّةً مِنَ اللّه وَاللّه عَلِـيـمٌ حَلِـيـمٌ} قال: الضرار فـي الوصية من الكبـائر.

حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس قال: الضرار فـي الوصية من الكبـائر.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن الـمفضل، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس مثله.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: الـحيف فـي الوصية من الكبـائر.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ وعبد الأعلـى، قالا: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: الضرار والـحيف فـي الوصية من الكبـائر.

٧٠٩٧ـ حدثنـي موسى بن سهل الرملـي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيـم أبو النصر، قال: حدثنا عمر بن الـمغيرة، قال: حدثنا داود بن أبـي هند، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (الضّرَارُ فـي الوَصِيّةِ مِنَ الكَبَـائِرِ).

٧٠٩٨ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو عمرو التـيـمي، عن أبـي الضحى، قال: دخـلت مع مسروق علـى مريض، فإذا هو يوصي، قال: فقال له مسروق: اعدل لا تضلل!

ونصبت (غيرَ مضارّ) علـى الـخروج من قوله: {يُوصَى بِها}وأما قوله: {وَصِيّةً} فإن نصبه من قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِـي أوْلادِكُمْ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ} وسائر ما أوصى به فـي الاثنـين، ثم قال: {وَصِيّةً مِنَ اللّه } مصدرا من قوله: {يُوصِيكُمْ}. وقد قال بعض أهل العربـية: ذلك منصوب من قوله: {فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ وَصِيّةً مِنَ اللّه } قال: هو مثل قولك: لك درهمان نفقة إلـى أهلك.

والذي قلناه بـالصواب أولـى، لأن اللّه جل ثناؤه افتتـح ذكر قسمة الـمواريث فـي هاتـين الاَيتـين بقوله: {يُوصِيكُمُ اللّه } ثم ختـم ذلك بقوله: {وَصِيّةً مِنَ اللّه } أخبر أن جميع ذلك وصية منه به عبـاده، فنصب قوله: {وَصِيّةً} علـى الـمصدر من قوله: {يُوصِيكُمْ} أولـى من نصبه علـى التفسير من قوله: {فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما السّدُسُ} لـما ذكرنا. ويعنـي بقوله تعالـى ذكره: {وَصِيّةً مِنَ اللّه }: عهدا من اللّه إلـيكم فـيـما يجب لكم من ميراث من مات منكم. {وَاللّه عَلِـيـمٌ}

يقول: ذو علـم بـمصالـح خـلقه ومضارّهم، ومن يستـحق أن يعطى من أقربـاء من مات منكم وأنسبـائه من ميراثه، ومن يحرم ذلك منهم، ومبلغ ما يستـحقّ به كلّ من استـحقّ منهم قسما، وغير ذلك من أمور عبـاده ومصالـحهم. {حَلِـيـمٌ}

يقول: ذو حلـم علـى خـلقه، وذو أناة فـي تركه معاجلتهم بـالعقوبة علـى ظلـم بعضهم بعضا فـي إعطائهم الـميراث لأهل الـجلد والقوّة من ولد الـميت وأهل الغناء والبأس منهم، دون أهل الضعف والعجز من صغار ولده وإناثهم.

١٣

 

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه ...}.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه }،

فقال بعضهم: يعنـي به: تلك شروط اللّه . ذكر من قال ذلك:

٧٠٩٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه }

يقول: شروط اللّه .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك طاعة اللّه . ذكر من قال ذلك:

٧١٠٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه } يعنـي: طاعة اللّه ، يعنـي: الـمواريث التـي سمّى اللّه .

وقال آخرون: معنى ذلك: تلك سنة اللّه وأمره.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تلك فرائض اللّه .

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب ما نـحن مبـيّنوه، وهو أن حدّ كلّ شيء ما فصل بـينه وبـين غيره، ولذلك قـيـل لـحدود الدار وحدود الأرضين: حدود، لفصولها بـين ما حدّ بها وبـين غيره، فكذلك قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه } معناه: هذه القسمة التـي قسمها لكم ربكم، والفرائض التـي فرضها لأحيائكم من موتاكم فـي هذه الاَية علـى ما فرض وبـين فـي هاتـين الاَيتـين حدود اللّه ، يعنـي: فصول ما بـين طاعة اللّه ومعصيته فـي قسمكم مواريث موتاكم، كما قال ابن عبـاس . وإنـما ترك طاعة اللّه ، والـمعنـيّ بذلك حدود طاعة اللّه اكتفـاء بـمعرفة الـمخاطبـين بذلك بـمعنى الكلام من ذكرها. والدلـيـل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ}.. والاَية التـي بعدها: {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ}.

فتأويـل الاَية إذا: هذه القسمة التـي قسم بـينكم أيها الناس علـيها ربكم مواريث موتاكم، فصول فصل بها لكم بـين طاعته ومعصيته، وحددو لكم تنتهون إلـيها فلا تتعدّوها، وفصل منكم أهل طاعته من أهل معصيته فـيـما أمركم به من قسمة مواريث موتاكم بـينكم، وفـيـما نهاكم عنه منها. ثم أخبر جل ثناؤه عما أعدّ لكلّ فريق منهم، فقال لفريق أهل طاعته فـي ذلك: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ} فـي العمل بـما أمره به والانتهاء إلـى ما حدّه له فـي قسمة الـمواريث وغيرها، ويجتنب ما نهاه عنه فـي ذلك وغيره¹ {يُدْخِـلْهُ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ}، فقوله: {يُدْخِـلْهُ جَنّاتٍ} يعنـي: بساتـين تـجري من تـحت غروسها وأشجارها الأنهار. {خالِدِينَ فِـيها}

يقول: بـاقـين فـيها أبدا، لا يـموتون فـيها، ولا يفنون، ولا يخرجون منها. {وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيـمُ}

يقول: وإدخال اللّه إياهم الـجنان التـي وصفها علـى ما وصف من ذلك الفوز العظيـم يعنـي: الفَلَـح العظيـم.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك،

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٧١٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ يُدْخِـلْهُ}.. الاَية، قال: فـي شأن الـمواريث التـي ذكر قبل.

٧١٠٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه } التـي حدّ لـخـلقه وفرائضه بـينهم من الـميراث والقسمة، فـانتهوا إلـيها ولا تعدوها إلـى غيرها.

١٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَمَن يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مّهِينٌ }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ} فـي العمل بـما أمراه به من قسمة الـمواريث علـى ما أمراه بقسمة ذلك بـينهم وغير ذلك من فرائض اللّه مخالفـا أمرهما إلـى ما نهياه عنه، {ويتعدّ حدودهُ}

يقول: ويتـجاوز فصول طاعته التـي جعلها تعالـى فـاصلة بـينها وبـين معصيته إلـى ما نهاه عنه من قسمة تركات موتاهم بـين ورثته، وغير ذلك من حدوده. {يدخـلهُ نارا خالدا فـيهَا}

يقول: بـاقـيا فـيها أبدا لا يـموت ولا يخرج منها أبدا. {ولهُ عذابٌ مهينٌ} يعنـي: وله عذاب مذلّ من عُذّب به مخز له.

وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٧١٠٣ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ}.. الاَية فـي شأن الـمواريث التـي ذكر قبل. قال ابن جريج: ومن يعص اللّه ورسوله، قال: من أصاب من الذنوب ما يعذّب اللّه علـيه.

فإن قال قائل: أو يخـلد فـي النار من عصى اللّه ورسوله فـي قسمة الـمواريث؟

قـيـل: نعم، إذا جمع إلـى معصيتهما فـي ذلك شكا فـي أن اللّه فرض علـيه ما فرض علـى عبـاده فـي هاتـين الاَيتـين، أو علـم ذلك، فحاد اللّه ورسوله فـي أمرهما علـى ما ذكر ابن عبـاس من قول من قال حين نزل علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قول اللّه تبـارك وتعالـى: {يُوصِيكُمُ اللّه فِـي أوْلادِكُمُ للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ}.. إلـى تـمام الاَيتـين: أيورث من لا يركب الفرس، ولا يقاتل العدوّ، ولا يحوز الغنـيـمة نصف الـمال أو جميع الـمال؟ استنكارا منهم قسمة اللّه ما قسم لصغار ولد الـميت ونسائه وإناث ولده، مـمن خالف قسمة اللّه ما قسم من ميراث أهل الـميراث بـينهم، علـى ما قسمه فـي كتابه، وخالف حكمه فـي ذلك وحكم رسوله، استنكارا منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرهم ابن عبـاس مـمن كان بـين أظهر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الـمنافقـين الذين فـيهم نزلت وفـي أشكالهم هذه الاَية، فهو من أهل الـخـلود فـي النار، لأنه بـاستنكاره حكم اللّه فـي تلك يصير بـاللّه كافرا ومن ملة الإسلام خارجا.

١٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ ... }.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} والنساء اللاتـي يأتـين بـالزنا: أي بزنـين. {مِنْ نِسائِكُمْ} وهن مـحصنات ذوات أزواج، أو غير ذوات أزواج. {فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ}

يقول: فـاستشهدوا علـيهنّ بـما أتـين من الفـاحشة أربعة رجال من رجالكم، يعنـي: من الـمسلـمين. {فإنْ شَهِدُوا} علـيهن، {فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ}

يقول: فـاحبسوهنّ فـي البـيوت، {حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ}

يقول: حتـى يـمتن، {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} يعنـي: أو يجعل اللّه لهنّ مخرجا وطريقا إلـى النـجاة مـما أتـين به من الفـاحشة.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٧١٠٤ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي مـحمد بن يزيد، قال: حدثنا يحيـى بن أبـي زائدة، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ} أمر بحبسهن فـي البـيوت حتـى يـمتن {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} قال: الـحدّ.

٧١٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} قال: الزنا، كان أمر بحبسهنّ حين يشهد علـيهن أربعة حتـى يـمتن¹ {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} والسبـيـل: الـحدّ.

٧١٠٦ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة عن ابن عبـاس ، قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} إلـى: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} فكانت الـمرأة إذا زنت حبست فـي البـيت حتـى تـموت، ثم أنزل اللّه تبـارك وتعالـى بعد ذلك: {الزّانِـيَةُ وَالزّانِـي فـاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} فإن كانا مـحصنـين رُجما، فهذه سبـيـلهما الذي جعل اللّه لهما.

٧١٠٧ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} فقد جعل اللّه لهنّ، وهو الـجلد والرجم.

٧١٠٨ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} حتـى بلغ: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} كان هذا من قبل الـحدود، فكانا يؤذيان بـالقول جميعا، وبحبس الـمرأة. ثم جعل اللّه لهنّ سبـيلاً، فكان سبـيـل من أحصن جلد مائة ثم رمي بـالـحجارة، وسبـيـل من لـم يحصن جلد مائة ونفـي سنة.

٧١٠٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح وعبد اللّه بن كثـير: الفـاحشة: الزنا، والسبـيـل: الرجم والـجلد.

٧١١٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ} إلـى: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} هؤلاء اللاتـي قد نكحن وأحصن، إذا زنت الـمرأة فإنها كانت تـحبس فـي البـيت ويأخذ زوجها مهرها فهو له، فذلك قوله: {وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بفـاحِشةٍ مُبَـيّنَةٍ} {وَعاشِرُوهُنّ بـالـمَعْرُوفِ} حتـى جاءت الـحدود فنسختها، فجلدت ورجمت، وكان مهرهَا ميراثا، فكان السبـيـل هو الـجلد.

٧١١١ـ حُدثت، عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} قال: الـحد، نسخ الـحد هذه الاَية.

٧١١٢ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيـى، عن إسرائيـل، عن خصيف، عن مـجاهد: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} قال: جلد مائة، الفـاعل والفـاعلة.

حدثنا الرفـاعي، قال: حدثنا يحيـى، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـجلد.

٧١١٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبـي، عن قتادة، عن الـحسن، عن حطان بن عبد اللّه الرقاشي، عن عبـادة بن الصامت: أن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم كان إذا نزل علـيه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم¹ فلـما سُرّيَ عنه رفع رأسه،

فقال: (قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً، الثّـيّبُ بـالثّـيّبِ، والبِكْرُ بـالبِكْرِ¹ أما الثّـيّبُ فتُـجْلَدُ ثم تُرْجَمُ¹ وأما البِكْرُ فتُـجْلَدُ ثم تُنْفَـى).

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حطان بن عبد اللّه ، عن عبـادة بن الصامت، قال: قال نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (خُذُوا عَنّـي قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً¹ الثّـيّبُ بـالثّـيّبِ تُـجْلَدُ مِائَةً وَتُرْجَمُ بـالـحِجارَةِ، وَالبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْـيُ سَنَةٍ).

٧١١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن، عن حطان بن عبد اللّه أخي بنـي رقاش، عن عبـادة بن الصامت: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا نزل علـيه الوحي كرب لذلك وتربّد له وجهه، فأنزل اللّه علـيه ذات يوم، فلقـي ذلك فلـما سُري عنه قال: (خُذُوا عَنّـي قَد جَعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً¹ الثّـيّبُ بـالثّـيّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ رَجْمٌ بـالـحِجارَةِ، وَالبِكْرُ بـالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمّ نَفْـيُ سَنَةٍ).

٧١١٥ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: ابن زيد فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ، فـاسْتَشْهِدُوا عَلَـيْهِنّ أرْبَعَةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} قال:

يقول: لا تنكحوهنّ حتـى يتوفـاهنّ الـموت، ولـم يخرجهن من الإسلام. ثم نسخ هذا، وجعل السبـيـل التـي ذكر أن يجعل لهن سبـيلاً، قال: فجعل لها السبـيـل إذا زنت وهي مـحصنة رجمت وأخرجت، وجعل السبـيـل للبكر جلد مائة.

٧١١٦ـ حدثنـي يحيـى بن أبـي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} قال: الـجلد والرجم.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن أبـي جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الـحسن، عن حطان بن عبد اللّه الرقاشي، عن عبـادة بن الصامت، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (خُذُوا عَنّـي قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً: الثّـيّبِ بـالثّـيّبِ وَالبِكْرُ بـالبِكْرِ، الثّـيّبُ تُـجْلَدُ وَتُرْجَمُ والبِكرُ تُـجْلَدُ وَتُنْفَـى).

حدثنـي يحيـى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: حدثنا أبـي، عن أبـيه، عن جده، عن الأعمش، عن إسماعيـل بن مسلـم البصري، عن الـحسن، عن عبـادة بن الصامت، قال: كنا جلوسا عند النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إذ احمّر وجهه، وكان يفعل ذلك إذا نزل علـيه الوحي، فأخذه كهيئة الغَشْي لـما يجد من ثِقل ذلك، فلـما أفـاق قال: (خُذُوا عَنّـي قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً، والبِكْرَانِ يُجْلَدَانِ ويُنْفَـيانِ سَنَةً، والثّـيّبـانِ يُجْلَدَانِ وَيُرْجَمانِ).

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصحة فـي تأويـل قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} قول من قال السبـيـل التـي جعلها اللّه جل ثناؤه للثـيبـين الـمـحصنـين الرجم بـالـحجارة، وللبكرين جلد مائة، ونفـي سنة لصحة الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه رجم ولـم يجلد¹ وإجماع الـحجة التـي لا يجوز علـيها فـيـما نقلته مـجمعة علـيه الـخطأ والسهو والكذب¹ وصحة الـخبر عنه، أنه قضى فـي البكرين بجلد مائة، ونفـي سنة، فكان فـي الذي صحّ عنه من تركه، جلد من رجم من الزناة فـي عصره دلـيـل واضح علـى وهي الـخبر الذي روي عن الـحسن عن حطان عن عبـادة عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: السبـيـل للثـيب الـمـحصن: الـجلد والرجم. وقد ذكر أن هذه الاَية فـي قراءة عبد اللّه : واللاتـي يأتـين بـالفـاحشة من نسائكم، والعرب تقول: أتـيت أمرا عظيـما، وبأمر عظيـم، وتكلـمت بكلام قبـيح، وكلاما قبـيحا.

١٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ}: والرجل والـمرأة اللذان يأتـيانها،

يقول: يأتـيان الفـاحشة والهاء والألف فـي قوله: {يأْتِـيانها} عائدة علـى الفـاحشة التـي فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} والـمعنى: واللذان يأتـيان منكم الفـاحشة فآذوهما.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فآذُوهُما}

فقال بعضهم: هما البكران اللذان لـم يحصنا، وهما غير اللاتـي عنـين بـالاَية قبلها. و

قالوا: قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} معنـيّ به الثـيبـات الـمـحصنات بـالأزواج،

وقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ} يعنـي به: البكران غير الـمـحصنـين. ذكر من قال ذلك:

٧١١٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: ذكر الـجواري والفتـيان اللذين لـم ينكحوا،

فقال: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما}.

٧١١٨ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} البكران فآذوهما.

وقال آخرون: بل عُنـي بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ} الرجلان الزانـيان. ذكر من قال ذلك:

٧١١٩ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيـى، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما} قال: الرجلان الفـاعلان لا يكْنـي.

٧١٢٠ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ}: الزانـيان.

وقال آخرون: بل عنـي بذلك الرجل والـمرأة، إلا أنه لـم يقصد به بكر دون ثـيب. ذكر من قال ذلك:

٧١٢١ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعي، قال: حدثنا يحيـى، عن ابن جريج، عن عطاء: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما} قال: الرجل والـمرأة.

٧١٢٢ـ حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين، عن يزيد النـحويّ، عن عكرمة والـحسن البصريّ، قالا: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} إلـى قوله: {أوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنّ سَبِـيلاً} فذكر الرجل بعد الـمرأة ثم جمعهما جميعا،

فقال: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فإنْ تَابـا وأصْلَـحا فـأْعَرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّه كانَ تَوّابـا رَحِيـما}.

٧١٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء وعبد اللّه بن كثـير، قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} قال: هذه للرجل والـمرأة جميعا.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} قول من قال: عنـي به البكران غير الـمـحصنـين إذا زنـيا وكان أحدهما رجلاً والاَخر امرأة، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البـيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} قصد البـيان عن حكم الزوانـي، لقـيـل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو

قـيـل: والذي يأتـيها منكم، كما قـيـل فـي التـي قبلها: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} فأخرج ذكرهنّ علـى الـجمع، ولـم يقل: واللتان يأتـيان الفـاحشة. وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البـيان علـى الوعيد علـى فعل أو الوعد علـيه، أخرجت أسماء أهله بذكر الـجمع أو الواحد، وذلك أن الواحد يدلّ علـى جنسه، ولا تـخرجها بذكر اثنـين، فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلاً لا يكون إلا من شخصين مختلفـين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانـية. فإذا كان ذلك كذلك، قـيـل بذكر الاثنـين، يراد بذلك الفـاعل والـمفعول به، فإما أن يذكر بذكر الاثنـين والـمراد بذلك شخصان فـي فعل قد ينفرد كلّ واحد منهما به أو فـي فعل لا يكونان فـيه مشتركين فذلك ما لا يعرف فـي كلامها. وإذا كان ذلك كذلك، فبـيّن فساد قول من قال: عُنـي بقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ} الرجلان، وصحة قول من قال: عنـي به الرجل والـمرأة وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنهما غير اللواتـي تقدم بـيان حكمهنّ فـي قوله: {وَاللاّتِـي يَأْتِـينَ الفـاحِشَةَ} لأن هذين اثنان وأولئك جماعة. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الـحبس كان للثـيبـات عقوبة حتـى يتوفـين من قبل أن يجعل لهنّ سبـيلاً، لأنه أغلظ فـي العقوبة من الأذى الذي هو تعنـيف وتوبـيخ أو سبّ وتعيـير، كما كان السبـيـل التـي جعلت لهنّ من الرجم أغلظ من السبـيـل التـي جعلت للأبكار من جلد الـمائة ونفـي السنة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَآذُوهُما فإنْ تابـا وأصْلَـحا فأعْرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّه كانَ تَوّابـا رَحِيـما}.

اختلف أهل التأويـل فـي الأذى الذي كان اللّه تعالـى ذكره جعله عقوبة للذين يأتـيان الفـاحشة من قبل أن يجعل لهما سبـيلاً منه،

فقال بعضهم: ذلك الأذى، أذى بـالقول واللسان، كالتعيـير والتوبـيخ علـى ما أتـيا من الفـاحشة. ذكر من قال ذلك:

٧١٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فَآذُوهُما} قال: كانا يؤذيان بـالقول جميعا.

٧١٢٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {فَآذُوهُما فإنْ تابـا وأصْلَـحا فأعْرِضُوا عَنْهُما} فكانت الـجارية والفتـى إذا زنـيا يعنفـان ويعيران حتـى يتركا ذلك.

وقال آخرون: كان ذلك الأذى، أذى اللسان، غير أنه كان سبّـا. ذكر من قال ذلك:

٧١٢٦ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {فَآذُوهُما} يعنـي: سبّـا.

وقال آخرون: بل كان ذلك الأذى بـاللسان والـيد. ذكر من قال ذلك:

٧١٢٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما} فكان الرجل إذا زنى أوذي بـالتعيـير، وضرب بـالنعال.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن اللّه تعالـى ذكره كان أمر الـمؤمنـين بأذى الزانـيـين الـمذكورين إذا أتـيا ذلك وهما من أهل الإسلام، والأذى قد يقع بكل مكروه نال الإنسان من قول سيىء بـاللسان أو فعل، ولـيس فـي الاَية بـيان أن ذلك كان أمر به الـمؤمنون يومئذ، ولا خبر به عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الـجماعة الـموجب مـجيئها قطع العذر. وأهل التأويـل فـي ذلك مختلفون، وجائز أن يكون ذلك أذى بـاللسان والـيد، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما، ولـيس فـي العلـم بأيّ ذلك كان من أيّ نفعٌ فـي دين ولا دنـيا ولا فـي الـجهل به مضرّة، إذ كان اللّه جل ثناؤه قد نسخ ذلك من مـحكمه بـما أوجب من الـحكم علـى عبـاده فـيهما وفـي اللاتـي قبلهما¹ فأما الذي أوجب من الـحكم علـيهم فـيهما فما أوجب فـي سورة النور بقوله: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} وأما الذي أوجب فـي اللاتـي قبلهما، فـالرجم الذي قضى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـيهما وأجمع أهل التأويـل جميعا علـى أن اللّه تعالـى ذكره قد جعل لأهل الفـاحشة من الزناة والزوانـي سبـيلاً بـالـحدود التـي حكم بها فـيهم.

وقال جماعة من أهل التأويـل: إن اللّه سبحانه نسخ بقوله: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما}. ذكر من قال ذلك:

٧١٢٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما} قال: كل ذلك نسخته الاَية التـي فـي النور بـالـحدّ الـمفروض.

حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا يحيـى، عن ابن جريج، عن مـجاهد: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما}.. الاَية، قال: هذا نسخته الاَية فـي سورة النور بـالـحد الـمفروض.

٧١٢٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحوي، عن عكرمة والـحسن البصري، قالا فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما}.. الاَية، نسخ ذلك بآية الـجلد،

فقال: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ}.

٧١٣٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما} فأنزل اللّه بعد هذا: {الزّانِـيَةُ والزّانـي فـاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} فإن كانا مـحصنـين رجما فـي سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٧١٣١ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {واللاّتِـي يأْتِـينَ الفـاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ}.. الاَية¹ جاءت الـحدود فنسختها.

٧١٣٢ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ،

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك

يقول: نسخ الـحدّ هذه الاَية.

٧١٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة: {فأمْسِكُوهُنّ فـي البُـيُوتِ}.. الاَية، قال: نسختها الـحدود،

وقوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ} نسختها الـحدود.

٧١٣٤ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {واللّذّانِ يأْتِـيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما}.. الاَية، ثم نسخ هذا وجعل السبـيـل لها إذا زنت وهي مـحصنة رجمت وأخرجت، وجعل السبـيـل للذكر جلد مائة.

حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {فَأمْسِكُوهُنّ فِـي البُـيُوتِ حتـى يَتَوَفّـاهُنّ الـمَوْتُ} قال: نسختها الـحدود.

وأما قوله: {فإنْ تابـا وأصْلَـحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما} فإنه يعنـي به جلّ ثناؤه: فإن تابـا من الفـاحشة التـي أتـيا، فراجعا طاعة اللّه بـينهما وأصلـحا،

يقول: وأصلـحا دينهما بـمراجعة التوبة من فـاحشتهما والعمل بـما يرضي اللّه ، فأعرضوا عنهما،

يقول: فـاصفحوا عنهما، وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به، عقوبة لهما علـى ما أتـيا من الفـاحشة، ولا تؤذوهما بعد توبتهما.

وأما قوله: {إنّ اللّه كانَ تَوّابـا رَحِيـما} فإنه يعنـي: أن اللّه لـم يزل راجعا لعبـيده إلـى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيـما بهم، يعنـي: ذا رحمة ورأفة.

١٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ ...}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ}: ما التوبة علـى اللّه لأحد من خـلقه، إلا للذين يعملون السوء من الـمؤمنـين بجهالة. {ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ}

يقول: ما اللّه براجع لأحد من خـلقه إلـى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التـي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة اللّه ويتوبون منه إلـى ما أمرهم اللّه به من الندم علـيه والاستغفـار وترك العود إلـى مثله من قبل نزول الـموت بهم. وذلك هو القريب الذي ذكره اللّه تعالـى ذكره،

فقال: {ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ}.

وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل ذلك،

قال أهل التأويـل غير أنهم اختلفوا فـي معنى قوله: {بِجَهالَةٍ} فقال بعضهم فـي ذلك بنـحو ما قلنا فـيه، وذهب إلـى أن عمله السوء هو الـجهالة التـي عناها. ذكر من قال ذلك:

٧١٣٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبـي العالـية: أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة.

٧١٣٦ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: اجتـمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره.

٧١٣٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: كل من عصى ربه فهو جاهل، حتـى ينزع عن معصيته.

حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: كل من عمل بـمعصية اللّه فذاك منه بجهل حتـى يرجع عنه.

٧١٣٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} ما دام يعصي اللّه فهو جاهل.

٧١٣٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل بن غزوان، عن أبـي النضر، عن أبـي صالـح عن ابن عبـاس : {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: من عمل السوء فهو جاهل، من جهالته عمل السوء.

٧١٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثظنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: من عصى اللّه فهو جاهل، حتـى ينزع عن معصيته. قال ابن جريج: وأخبرنـي عبد اللّه بن كثـير، عن مـجاهد، قال: كل عامل بـمعصية فهو جاهل حين عمل بها. قال ابن جريج: وقال لـي عطاء بن أبـي ربـاح نـحوه.

٧١٤١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قول اللّه : {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ} قال: الـجهالة: كل امرىء عمل شيئا من معاصي اللّه فهو جاهل أبدا حتـى ينزع عنها.

وقرأ: {هَلْ عَلِـمْتُـمْ ما فَعْلْتُـمْ بِـيُوسُف وأخِيهِ إذْ أنْتُـمْ جاهِلُون}

وقرأ: {وإلاّ تَصْرِفْ عنّـي كَيْدهُنّ أصْبُ إلَـيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الـجاهِلِـينَ} قال: من عصى اللّه فهو جاهل حتـى ينزع عن معصيته.

وقال آخرون: معنى قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ}: يعملون ذلك علـى عمد منهم له. ذكر من قال ذلك:

٧١٤٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن مـجاهد: {يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: الـجهالة: العمد.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن رجل، عن مـجاهد، مثله.

٧١٤٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: الـجهالة: العمد.

وقال آخرون: معنى ذلك: إنـما التوبة علـى اللّه للذين يعملون السوء فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

٧١٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة، قوله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ} قال: الدنـيا كلها جهالة.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل الاَية قول من قال: تأويـلها: إنـما التوبة علـى اللّه للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الـجهالة التـي جهلوها عامدين كانوا للإثم، أو جاهلـين بـما أعدّ اللّه لأهلها. وذلك أنه غير موجود فـي كلام العرب، تسمية العامد للشيء الـجاهل به، إلا أن يكون معنـيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته، فـيقال: هو به جاهل، علـى معنى جهله بـمعنى: نفعه وضرّه¹ فأما إذا كان عالـما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إلـيه، فغير جائز من غير قصده إلـيه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الـجاهل بـالشيء هو الذي لا يعلـمه ولا يعرفه عند التقدم علـيه، أو يعلـمه فـيشبه فـاعله، إذ كان خطأ ما فعله بـالـجاهل الذي يأتـي الأمر وهو به جاهل فـيخطىء موضع الإصابة منه، فـيقال: إنه لـجاهل به، وإن كان به عالـما لإتـيانه الأمر الذي لا يأتـي مثله إلا أهل الـجهل به. وكذلك معنى قوله: {يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ} قـيـل فـيهم: يعملون السوء بجهالة وإن أتوه علـى علـم منهم بـمبلغ عقاب اللّه أهله، عامدين إتـيانه، مع معرفتهم بأنه علـيهم حرام، لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التـي لا يأتـي مثله إلا من جهل عظيـم عقاب اللّه علـيه أهله فـي عاجل الدنـيا وآجل الاَخرة، فقـيـل لـمن أتاه وهو به عالـم: أتاه بجهالة، بـمعنى: أنه فعل فعل الـجهال به، لا أنه كان جاهلاً.

وقد زعم بعض أهل العربـية أن معناه: أنهم جهلوا كنه ما فـيه من العقاب، فلـم يعلـموه كعلـم العالـم، وإن علـموه ذنبـا، فلذلك

قـيـل: {يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ}. ولو كان الأمر علـى ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لـمن علـم كنه ما فـيه. وذلك أنه جل ثناؤه قال: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} دون غيرهم. فـالواجب علـى صاحب هذا القول أن لا يكون للعالـم الذي عمل سوءا علـى علـم منه بكنه ما فـيه ثم تاب من قريب¹ توبة، وذلك خلاف الثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أن كل تائب عسى اللّه أن يتوب علـيه،

وقوله: (بـابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَـمْ تَطْلُـعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها)، وخلاف قول اللّه عزّ وجلّ: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِـحا}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.

أختلف أهل التأويـل فـي معنى القريب فـي هذا الـموضع،

فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم يتوبون فـي صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم. ذكر من قال ذلك:

٧١٤٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} والقريب قبل الـموت ما دام فـي صحته.

٧١٤٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن أبـي النضر، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس : {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: فـي الـحياة والصحة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الـموت. ذكر من قال ذلك:

٧١٤٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو صالـح، قال: حدثنا معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} والقريب فـيـما بـينه وبـين أن ينظر إلـى ملك الـموت.

٧١٤٨ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت عمران بن حدير، قال: قال أبو مـجلز: لا يزال الرجل فـي توبة حتـى يعاين الـملائكة.

٧١٤٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن قـيس، قال: القريب: ما لـم تنزل به آية من آيات اللّه تعالـى وينزل به الـموت.

٧١٥٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك : {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} له التوبة ما بـينه وبـين أن يعاين ملك الـموت، فإذا تاب حين ينظر إلـى ملك الـموت فلـيس له ذاك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم يتوبون من قبل الـموت. ذكر من قال ذلك:

٧١٥١ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن الضحاك : {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: كل شيء قبل الـموت فهو قريب.

٧١٥٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا معتـمر بن سلـيـمان، عن الـحكم بن أبـان، عن عكرمة: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: الدنـيا كلها قريب.

٧١٥٣ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قبل الـموت.

٧١٥٤ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، عن قتادة، عن أبـي قلابة، قال: ذكر لنا أن إبلـيس لـما لعن وأُنْظِرَ، قال: وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فـيه الروح! فقال تبـارك وتعالـى: وعزتـي لا أمنعه التوبة ما دام فـيه الروح.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران، عن قتادة، قال: كنا عند أنس بن مالك وثَمّ أبو قلابة، فحدّث أبو قلابة قال: إن اللّه تبـارك وتعالـى لـما لعن إبلـيس سأله النّظِرَة،

فقال: وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم! فقال اللّه تبـارك وتعالـى: وعزتـي لا أمنعه التوبة ما دام فـيه الروح.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبـي قلابة، قال: إن اللّه تبـارك وتعالـى لـما لعن إبلـيس سأله النّظِرَة، فأنظره إلـى يوم الدين،

فقال: وعزتك لا أَخرج من قلب ابن آدم ما دام فـيه الروح! قال: وعزتـي لا أَحجب عنه التوبة ما دام فـيه الروح.

٧١٥٥ـ حدثنـي ابن بشار، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف، عن الـحسن، قال: بلغنـي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(إنّ إبْلِـيسَ لَـمّا رأى آدَمَ أجْوَفَ، قالَ: وعِزّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ ما دَام فِـيهِ الرّوحُ! فَقالَ اللّه تَبـارَكَ وتَعالـى: وعِزّتِـي لا أحُولُ بَـيْنَهُ وبْـينَ التّوْبَةِ ما دَامَ فِـيهِ الرّوحُ).

٧١٥٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنـي أبـي، قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبـي أيوب بُشَيْر بن كعب، أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إنّ اللّه يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لـمْ يُغَرْغِرْ).

٧١٥٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبـادة بن الصامت، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال¹ فذكر مثله.

٧١٥٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن عوف، عن الـحسن، قال: بلغنـي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إنّ اللّه تَبـارك وتَعالـى يَقْبَلْ تَوْبَة العَبْدِ ما لـمْ يُغَرْغِرْ).

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: تأويـله: ثم يتوبون قبل مـماتهم فـي الـحال التـي يفهمون فـيها أمر اللّه تبـارك وتعالـى ونهيه، وقبل أن يغلبوا علـى أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الـحشرجة وغمّ الغرغرة، فلا يعرفوا أمر اللّه ونهيه، ولا يعقلوا التوبة، لأن التوبة لا تكون توبة إلا مـمن ندم علـى ما سلف منه، وعزم فـيه علـى ترك الـمعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك الـمعاودة، فأما إذا كان بكرب الـموت مشغولاً، وبغمّ الـحشرجة مغمورا، فلا إخاله إلا عن الندم علـى ذنوبه مغلوبـا، ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لـم يغرغر العبد بنفسه، فإن كان الـمرء فـي تلك الـحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلـى طاعته كان إن شاء اللّه مـمن دخـل فـي وعد اللّه الذي وعد التائبـين إلـيه من إجرامهم من قريب بقوله: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَـأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّه عَلَـيْهمْ وكانَ اللّه عَلِـيـما حَكِيـما}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: {فَـأُولَئِكَ} فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب {يَتُوبُ اللّه عَلَـيْهِمْ} دون من لـم يتب، حتـى غلب علـى عقله وغمرته حشرجة ميتته،

فقال: وهو لا يفقه ما

يقول: {إنّـي تبْتُ الاَنَ} خداعا لربه ونفـاقا فـي دينه، ومعنى قوله: {يَتُوبُ اللّه عَلَـيْهِمْ}: يرزقهم إنابة إلـى طاعته، ويتقبل منهم أوبتهم إلـيه، وتوبتهم التـي أحدثوها من ذنوبهم.

وأما قوله: {وكانَ اللّه عَلِـيـما حَكِيـما} فإنه يعنـي: ولـم يزل اللّه جل ثناؤه علـيـما بـالناس من عبـاده الـمنـيبـين إلـيه بـالطاعة بعد إدبـارهم عنه، الـمقبلـين إلـيه بعد التولـية، وبغير ذلك من أمور خـلقه، حكيـم فـي توبته علـى من تاب منهم من معصيته، وفـي غير ذلك من تدبـيره وتقديره، ولا يدخـل أفعاله خـلل، ولا يخـلطه خطأ ولا زلل.

١٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولـيست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار علـى معاصي اللّه ، حتـى إذا حضر أحدهم الـموت،

يقول: إذا حشرج أحدهم بنفسه، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إلـيه لقبض روحه قال: وقد غلب علـى نفسه، وحيـل بـينه وبـين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته: إنـي تبت الاَن، يقول فلـيس لهذا عند اللّه تبـارك وتعالـى توبة، لأنه قال ما قال فـي غير حال توبة. كما:

٧١٥٩ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن يعلـى بن نعمان، قال: أخبرنـي من سمع ابن عمر

يقول: التوبة مبسوطة ما لـم يَسُقْ. ثم قرأ ابن عمر: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} ثم قال: وهل الـحضور إلا السّوْق.

٧١٦٠ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} قال: إذا تبـين الـموت فـيه لـم يقبل اللّه له توبة.

٧١٦١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن أبـي النضر، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس : {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} فلـيس لهذا عند اللّه توبة.

٧١٦٢ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت إبراهيـم بن ميـمون، يحدّث عن رجل من بنـي الـحارث، قال: حدثنا رجل منا، عن عبد اللّه بن عمرو، أنه قال: (مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بعَامٍ تِـيبَ عَلَـيْهِ)، حتـى ذكر شهرا، حتـى ذكر ساعة، حتـى ذكر فُواقا، قال: فقال رجل: كيف يكون هذا واللّه تعالـى

يقول: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ}؟ فقال عبد اللّه : أنا أحدثك ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٧١٦٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن إبراهيـم بن مهاجر، عن إبراهيـم، قال: كان يقال: التوبة مبسوطة ما لـم يؤخذ بكَظَمِه.

واختلف أهل التأويـل فـيـمن عُنـي بقوله: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ}

فقال بعضهم: عُنـي به أهل النفـاق. ذكر من قال ذلك:

٧١٦٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {إنّـمَا التّوْبَةُ علـى اللّه للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: نزلت الأولـى فـي الـمؤمنـين، ونزلت الوسطى فـي الـمنافقـين، يعنـي: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ} والأخرى فـي الكفـار، يعنـي: {وَلا الّذِينَ يَـموتونَ وَهمْ كفّـارٌ}.

وقال آخرون: بل عنـي بذلك أهل الإسلام. ذكر من قال ذلك:

٧١٦٥ـ حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، قال: بلغنا فـي هذه الاَية: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ} قال: هم الـمسلـمون، ألا ترى أنه قال: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كُفّـارٌ}؟

وقال آخرون: بل هذه الاَية كانت نزلت فـي أهل الإيـمان، غير أنها نسخت. ذكر من قال ذلك:

٧١٦٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلَـيْسَتِ التّوبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ حتـى إذَا حَضَرَ أحَدُهمُ الـمَوْتُ قالَ إنّـي تبْتُ الاَنَ وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كُفّـارٌ} فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى بعد ذلك: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِـمَنْ يَشاءُ} فحرّم اللّه تعالـى الـمغفرة علـى من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلـى مشيئته، فلـم يؤيسهم من الـمغفرة.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه فـي الإسلام، وذلك أن الـمنافقـين كفـار، فلو كان معنـيا به أهل النفـاق لـم يكن لقوله: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كفّـارٌ} معنى مفهوم، لأنهم إن كانوا هم والذين قبلهم فـي معنى واحد من أن جميعهم كفـار، فلا وجه لتفريق أحد منهم فـي الـمعنى الذي من أجله بطل أن تكون توبة واحد مقبولة. وفـي تفرقة اللّه جل ثناؤه بـين أسمائهم وصفـاتهم بأن سمى أحد الصنفـين كافرا، ووصف الصنف الاَخر بأنهم أهل سيئات، ولـم يسمهم كفـارا ما دلّ علـى افتراق معانـيهم، وفـي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كفّـارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابـا ألِـيـما}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: ولا التوبة للذين يـموتون وهم كفـار فموضع (الذين) خفض، لأنه معطوف علـى قوله: {لِلّذِينَ يَعْمَلونَ السّيّئاتِ}

وقوله: {أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابـا ألِـيـما}

يقول: هؤلاء الذين يـموتون وهم كفـار، أعتدنا لهم عذابـا ألـيـما، لأنهم أبعدهم من التوبة كونهم علـى الكفر. كما:

٧١٦٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل، عن أبـي النضر، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس : {وَلا الّذِينَ يَـمُوتُونَ وَهُمْ كفّـارٌ} أولئك أبعد من التوبة.

واختلف أهل العربـية فـي معنى: {أعْتَدْنا لَهُمْ} فقال بعض البصريـين: معنى: {أعْتَدْنا}: أفعلنا من العتاد، قال: ومعناها: أعددنا

وقال بعض الكوفـيـين: أعددنا وأعتدنا معناهما واحد، فمعنى قوله: {أعْتَدْنا لَهُمْ} أعددنا لهم {عَذَابـا ألِـيـما}

يقول: مؤلـما موجعا.

١٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهاً ...}.

يعنـي تبـارك وتعالـى (بقوله): {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: يا أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْها}

يقول: لا يحلّ لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبـائكم كرها.

فإن قال قائل: كيف كانوا يرثونهن، وما وجه تـحريـم وراثتهن، فقد علـمت أن النساء مورّثات كما الرجال مورثون؟

قـيـل: إن ذلك لـيس من معنى وراثتهنّ إذا هنّ متن فتركن مالاً، وإنـما ذلك أنهن فـي الـجاهلـية كانت إحداهنّ إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولـى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولـم يزوّجها حتـى تـموت، فحرّم اللّه تعالـى ذلك علـى عبـاده، وحظر علـيهم نكاح حلائل آبـائهم، ونهاهم عن عضلهنّ عن النكاح.

وبنـحو القول الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٧١٦٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أسبـاط بن مـحمد، قال: حدثنا أبو إسحاق، يعنـي الشيبـانـي، عن عكرمة، عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولـياؤه أحقّ بـامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاءوا زوّجوها، وإن شاءوا لـم يزوّجوها، وهم أحقّ بها من أهلها، فنزلت هذه الاَية فـي ذلك.

٧١٦٩ـ وحدثنـي أحمد بن مـحمد الطوسي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالـح، قال: ثنـي مـحمد بن فضيـل، عن يحيـى بن سعيد، عن مـحمد بن أبـي أمامة بن سهل بن حنـيف، عن أبـيه، قال: لـما توفـي أبو قـيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوّج امرأته، وكان ذلك لهم فـي الـجاهلـية، فأنزل اللّه : {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْها}.

٧١٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، عن الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحويّ، عن عكرمة والـحسن البصري قالا فـي قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ}، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فـيعضلها حتـى تـموت أو تردّ إلـيه صداقها، فأحكم اللّه عن ذلك، يعنـي أن اللّه نهاكم عن ذلك.

٧١٧١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن سلـيـمان التـيـمي، عن أبـي مـجلز فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} قال: كانت الأنصار تفعل ذلك كان الرجل إذا مات حميـمه ورث حميـمه امرأته، فـيكون أولـى بها من ولـيّ نفسها.

٧١٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها}.. الاَية، قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميـمه، فهو أحقّ بـامرأته، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتـى تفتدي منه بصداقها أو تـموت فـيذهب بـمالها. قال ابن جريج: فأخبرنـي عطاء بن أبـي ربـاح أن أهل الـجاهلـية كانوا إذا هلك الرجل، فترك امرأة، حبسها أهله علـى الصبـيّ يكون فـيهم، فنزلت: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها}.. الاَية. قال ابن جريج، وقال مـجاهد: كان الرجل إذا توفـي أبوه كان أحقّ بـامرأته، ينكحها إن شاء إذا لـم يكن ابنها، أو ينكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه. قال ابن جريج: وقال عكرمة: نزلت فـي كبـيشة بنت معن بن عاصم من الأوس، توفـي عنها أبو قـيس بن الأسلت، فجنـح علـيها ابنه، فجاءت النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: يا نبـيّ اللّه ، لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح! فنزلت هذه الاَية.

٧١٧٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} قال: كان إذا توفـي الرجل كان ابنه الأكبر هو أحقّ بـامرأته ينكحها إذا شاء إذا لـم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه.

٧١٧٤ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن عمرو بن دينار مثل قول مـجاهد.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، قال: سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك.

٧١٧٥ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي: أما قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها}، فإن الرجل فـي الـجاهلـية كان يـموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الـميت فألقـى علـيها ثوبه فهو أحقّ بها أن ينكحها بـمهر صاحبه أو ينكحها فـيأخذ مهرها، وإن سبقته فذهبت إلـى أهلها فهم أحقّ بنفسها.

٧١٧٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان البـاهلـي، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} كانوا بـالـمدينة إذا مات حميـم الرجل وترك امرأة، ألقـى الرجل علـيها ثوبه، فورث نكاحها، وكان أحقّ بها، وكان ذلك عندهم نكاحا، فإن شاء أمسكها حتـى تفتدي منه، وكان هذا فـي الشرك.

٧١٧٧ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} قال: كانت الوراثة فـي أهل يثرب بـالـمدينة ههنا، فكان الرجل يـموت فـيرث ابنه امرأة أبـيه، كما يرث أمه لا يستطيع أن يـمنع، فإن أحبّ أن يتـخذها اتـخذها كما كان أبوه يتـخذها، وإن كره فـارقها، وإن كان صغيرا حبست علـيه حتـى يكبر، فإن شاء أصابها وإن شاء فـارقها، فذلك قول اللّه تبـارك وتعالـى: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها}.

حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس فـي قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} وذلك أن رجالاً من أهل الـمدينة كان إذا مات حميـم أحدهم، ألقـى ثوبه علـى امرأته، فورث نكاحها، فلـم ينكحها أحد غيرها، وحبسها عنده حتـى تفتدي منه بفدية، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءع كَرْها}.

٧١٧٨ـ حدثنـي ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، قال: حدثنا سفـيان، عن علـيّ بن بذيـمة، عن مقسم، قال: كانت الـمرأة فـي الـجاهلـية إذا مات زوجها، فجاء رجل فألقـى علـيها ثوبه كان أحقّ الناس بها، قال: فنزلت هذه الاَية: {لاَ يحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها}.

فتأويـل الاَية علـى هذا التأويـل: يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكن أن ترثوا آبـاءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرها، فترك ذلك الاَبـاء والأقارب والنكاح، ووجّه الكلام إلـى النهي عن وراثة النساء، اكتفـاء بـمعرفة الـمخاطبـين بـمعنى الكلام، إذ كان مفهوما معناه عندهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحلّ لكم أيها الناس أن ترثوا النساء تركاتهن كرها، قال: وإنـما قـيـل ذلك لأنهم كانوا يعضلون أياماهن وهن كارهات للعضل حتـى يـمتن فـيرثوهن أموالهن. ذكر من قال ذلك:

٧١٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقـى علـيها حميـمه ثوبه، فمنعها من الناس، فإن كانت جميـلة تزوّجها، وإن كانت قبـيحة حبسها حتـى تـموت، فـيرثها.

٧١٨٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري فـي قوله: {لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها} قال: نزلت فـي ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بـامرأته ولـيه، فـيـمسكها حتـى تـموت فـيرثها، فنزلت فـيهم.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الاَية، القول الذي ذكرناه عمن قال معناه: لا يحلّ لكن أن ترثوا النساء كرها أقاربكم، لأن اللّه جل ثناؤه قد بـين مواريث أهل الـمواريث، فذلك لأهله نـحو وراثتهم إياه الـموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء. فقد علـم بذلك أنه جل ثناؤه لـم يحظر علـى عبـاده أن يرثوا النساء ما جعله لهم ميراثا عنهن، وأنه إنـما حظر أن يكرهن موروثات بـمعنى حظر وراثة نكاحهن إذا كان ميتهم الذي ورثوه قد كان مالكا علـيهن أمرهن فـي النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر ما له منافع، فأبـان اللّه جل ثناؤه لعبـاده أن الذي يـملكه الرجل منهم من بضع زوجته، معناه غير معنى ما يـملك أحدهم من منافع سائر الـمـملوكات التـي تـجوز إجارتها، فإن الـمالك بضع زوجته إذا هو مات لـم يكن ما كان له ملكا من زوجته بـالنكاح لورثته بعده، كما لهم من الأشياء التـي كان يـملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته بـميراثه ذلك عنه.

وأما قوله تعالـى: {وَلا تَعّضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: تأويـله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ}: أي ولا تـحبسوا يا معشر ورثة من مات من الرجال أزواجهم عن نكاح من أردن نكاحه من الرجال كيـما يـمتن فتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهن¹ أي فتأخذوا من أموالهم إذا متن ما كان موتاكم الذين ورثتـموهن ساقوا إلـيهنّ من صدقاتهنّ. ومـمن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم، منهم ابن عبـاس ، والـحسن البصري، وعكرمة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تعضلوا أيها الناس نساءكم فتـحبسوهنّ ضرارا، ولا حاجة لكم إلـيهن فتضروا بهن لـيفتدين منكم بـما آتـيتـموهنّ من صدقاتهن. ذكر من قال ذلك:

٧١٨١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ}

يقول: لا تقهروهن، {لِتَذْهَبوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتـمُوهُنّ} يعنـي الرجل تكون له الـمرأة وهو كاره لصحبتها، ولها علـيه مهر، فـيُضِرّ بها لتفتدي.

٧١٨٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ}

يقول: لا يحلّ لك أن تـحبس امرأتك ضرارا حتـى تفتدي منك

قال: أخبرنا معمر، قال: وأخبرنـي سماك بن الفضل عن ابن البـيـلـمانـي، قال: نزلت هاتان الاَيتان، إحداهما فـي أمر الـجاهلـية، والأخرى فـي أمر الإسلام.

٧١٨٣ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن معمر، قال: أخبرنا سماك بن الفضل، عن عبد الرحمن بن البـيـلـمانـي فـي قوله: {لا يَحِلّ لَكمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها وَلا تَعْضلُوهُنّ}، قال: نزلت هاتان الاَيتان، إحداهما فـي الـجاهلـية، والأخرى فـي الإسلام، قال عبد اللّه لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء فـي الـجاهلـية، ولا تعضلوهنّ فـي الإسلام.

٧١٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحمانـي، قال: حدثنا شريك، عن سالـم، عن سعيد: {وَلا تَعْضُلوهُنّ} قال: لا تـحبسوهنّ.

٧١٨٥ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَلا تَعْضُلوهُنّ لِتتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} أما تعضلوهنّ، فـ

يقول: تضارّوهنّ لـيفتدين منكم.

٧١٨٦ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ،

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: {وَلا تَعْضُلوهُنّ} قال: العضل: أن يكره الرجل امرأته، فـيضرّ بها حتـى تفتدي منه، قال اللّه تبـارك وتعالـى: {وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكمْ إلـى بَعْضٍ}.

وقال آخرون: الـمعنـيّ بـالنهي عن عضل النساء فـي هذه الاَية: أولـياؤهنّ. ذكر من قال ذلك:

٧١٨٧ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنّ} كالعضل فـي سورة البقرة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: بل الـمنهيّ عن ذلك زوج الـمرأة بعد فراقه إياها، و

قالوا: ذلك كان من فعل الـجاهلـية، فنهوا عنه فـي الإسلام. ذكر من قال ذلك:

٧١٨٨ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان العضل فـي قريش بـمكة، ينكح الرجل الـمرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فـيفـارقها علـى أن لا تتزوّج إلا بإذنه، فـيأتـي بـالشهود فـيكتب ذلك علـيها ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها

قال: فهذا قول اللّه : {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ}.. الاَية.

قال أبو جعفر: قد بـينا فـيـما مضى معنى العضل وما أصله بشواهد ذلك من الأدلة.

وأولـى هذه الأقوال التـي ذكرناها بـالصحة فـي تأويـل قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ} قول من قال: نهى اللّه جل ثناؤه زوج الـمرأة عن التضيـيق علـيها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره، ولفراقها مـحبّ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصحة، لأنه لا سبـيـل لأحد إلـى عضل امرأة، إلا لأحد رجلـين: إما لزوجها بـالتضيـيق علـيها وحبسها علـى نفسه، وهو لها كاره، مضارّة منه لها بذلك، لـيأخذ منها ما آتاها بـافتدائها منه نفسها بذلك، أو لولـيها الذي إلـيها إنكاحها، وإذا كان لا سبـيـل إلـى عضلها لأحد غيرهما، وكان الولـيّ معلوما أنه لـيس مـمن آتاها شيئا، فـيقال: إن عضلها عن النكاح عضلها لـيذهب ببعض ما آتاها، كان معلوما أن الذي عنى اللّه تبـارك وتعالـى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبـيـل إلـى عضلها ضرارا لتفتدي منه.

وإذا صحّ ذلك، وكان معلوما أن اللّه تعالـى ذكره لـم يجعل لأحد السبـيـل علـى زوجته بعد فراقه إياها وبـينونتها منه، فـيكون له إلـى عضلها سبـيـل لتفتدي منه من عضله إياها، أتت بفـاحشة أم لـم تأت بها، وكان اللّه جل ثناؤه قد أبـاح للأزواج عضلهنّ إذا أتـين بفـاحشة مبـينة، حتـى يفتدين منه، كان بـينا بذلك خطأ التأويـل الذي تأوّله ابن زيد، وتأويـل من قال: عنى بـالنهي عن العضل فـي هذه الاَية: أولـياء الأيامى، وصحة ما قلنا فـيه. {ولا تَعْضُلوهُنّ} فـي موضع نصب عطفـا علـى قوله: {أنْ تَرِثوا النّساءَ كَرْها} ومعناه: لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن، وكذلك هي فـيـما ذكر فـي حرف ابن مسعود،

ولو قـيـل: هو فـي موضع جزم علـى وجه النهي لـم يكن خطأ.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إلاّ أنْ يأْتْـيِنَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: لا يحلّ لكم أيها الـمؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن، وأنتـم لصحبتهن كارهون، وهن لكم طائعات، لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهنّ من صدقاتهنّ، إلا أن يأتـين بفـاحشة مبـينة، فـيحلّ لكن حينئذً الضرار بهنّ لـيفتدين منكم.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الفـاحشة التـي ذكرها اللّه جل ثناؤه فـي هذا الـموضع،

فقال بعضهم: معناها: الزنا، وقال إذا زنت امرأة الرجل حلّ له عضلها والضرار بها لتفتدي منه بـما آتاها من صداقها. ذكر من قال ذلك:

٧١٨٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الـحسن فـي البكر تفجر، قال: تضرب مائة، وتُنفـى سنة، وتردّ إلـى زوجها ما أخذت منه. وتأوّل هذه الاَية: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَـيْـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفَـاحِشَةٍ مُبَـيّنَةٍ}.

٧١٩٠ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عطاء الـخراسانـي فـي الرجل إذا أصابت امرأته فـاحشة: أخذ ما ساق إلـيها وأخرجها¹ فنسخ ذلك الـحدود.

٧١٩١ـ حدثنا أحمد بن منـيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن الـمبـارك، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبـي قلابة قال: إذا رأى الرجل من امرأته فـاحشة، فلا بأس أن يضارّها، ويشقّ علـيها حتـى تـختلع منه.

حدثنا ابن حميد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنـي معمر، عن أيوب، عن أبـي قلابة فـي الرجل يطلع من امرأته علـى فـاحشة، فذكر نـحوه.

٧١٩٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} وهو الزنا، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.

٧١٩٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي عبد الكريـم أنه سمع الـحسن البصريّ: {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ} قال: الزنا

قال: وسمعت الـحسن وأبـا الشعثاء يقولان: فإن فعلت حلّ لزوجها أن يكون هو يسألها الـخـلع لتفتدي.

وقال آخرون: الفـاحشة الـمبـينة فـي هذا الـموضع: النشوز.ذكر من قال ذلك:

٧١٩٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} وهو البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك، فقد حلّ له منها الفدية.

٧١٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن علـيّ بن بذيـمة، عن مقسم فـي قوله: (وَلاَ تَعْضُلوهُنّ لِتَذْهَبوا بِبَعْضٍ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَفْحُشْنَ) فـي قراءة ابن مسعود

قال: إذا عضلت وآذتك فقد حل لك أخذ ما أخذت منك.

٧١٩٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مطرف بن طريف، عن خالد، عن الضحاك بن مزاحم: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} قال: الفـاحشة ههنا النشوز، فإذا نشزت حلّ له أن يأخذ خـلعها منها.

٧١٩٧ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} قال: هو النشوز.

٧١٩٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} فإن فعلن إن شئتـم أمسكتـموهنّ، وإن شئتـم أرسلتـموهن.

٧١٩٩ـ حدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول فـي قوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} قال: عدل ربنا تبـارك وتعالـى فـي القضاء فرجع إلـى النساء،

فقال: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} والفـاحشة: العصيان والنشوز¹ فإذا كان ذلك من قبلها، فإن اللّه أمره أن يضربها، وأمره بـالهجر، فإن لـم تدع العصيان والنشوز فلا جناح علـيه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية.

قال أبو جعفر: وأولـى ما قـيـل فـي تأويـل قوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} أنه معنـيّ به كل فـاحشة من بذاءة بـاللسان علـى زوجها، وأذى له وزنا بفرجها. وذلك أن اللّه جل ثناؤه عمّ بقوله: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} كل فـاحشة مبـينة ظاهرة، فكلّ زوج امرأة أتت بفـاحشة من الفواحش التـي هي زنا أو نشوز، فله عضلها علـى ما بـين اللّه فـي كتابه، والتضيـيق علـيها حتـى تفتدي منه بأيّ معانـي فواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة مبـينة بظاهر كتاب اللّه تبـارك وتعالـى، وصحة الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. كالذي:

٧٢٠٠ـ حدثنـي يونس بن سلـيـمان البصريّ، قال: حدثنا حاتـم بن إسماعيـل، قال: حدثنا جعفر بن مـحمد، عن أبـيه، عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(اتّقوا اللّه فِـي النّساءِ، فـانّكمْ أخَذْتُـموهُنّ بأمانَةِ اللّه ، وَاسْتَـحْلَلْتُـمْ فُرُوجَهنّ بِكَلِـمَةِ اللّه ، وَإنّ لَكمْ عَلَـيْهنّ أن لا يُوطِئنَ فُرشَكمْ أحَدا تَكْرَهونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فـاضْرِبوهنّ ضَرْبـا غَيْرَ مُبَرّحٍ وَلهُنّ عَلَـيْكمْ رِزْقُهُنّ وكِسْوَتُهُنّ بـالـمَعْرُوفِ).

٧٢٠١ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن الـمسروقـي، قال: حدثنا زيد بن الـحبـاب، قال: حدثنا موسى بن عبـيدة الربذي قال: حدثنا صدقة بن يسار، عن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(أيّها النّاسُ إنّ النّساءَ عِنْدَكمْ عَوَانٌ، أخَذْتُـمُوهُنّ بأمانَةِ اللّه ، وَاسْتَـحْلَلْتُـمْ فرُوجَهُنّ بِكَلَـمِةِ اللّه ، وَلَكمْ عَلَـيْهنّ حَقٌ، وَلهُنّ عَلَـيْكُمْ حَقٌ، ومِنْ حَقّكمْ عَلَـيْهِنّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكمْ أحَدًا وَلا يَعْصِيَنّكُمْ فِـي مَعْرُوفٍ، فإذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَهنّ رِزْقَهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بـالـمَعْرُوفِ).

فأخبر صلى اللّه عليه وسلم، أن من حقّ الزوج علـى الـمرأة أن لا توطىء فراشه أحدا، وأن لا تعصيه فـي معروف وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة علـيه، وإنـما هو واجب علـيه، إذا أدّت هي إلـيه ما يجب علـيها من الـحقّ بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته فـي معروف. ومعلوم أن معنى قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (مِنْ حَقّكمْ عَلَـيْهِنّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَدا) إنـما هو أن لا يـمكنّ أنفسهنّ من أحد سواكم. وإذا كان ما روينا فـي ذلك صحيحا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبـين أن لزوج الـمرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره، وأمكنت من جماعها سواه، أن له منعها من الكسوة والرزق بـالـمعروف، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته فـي الـمعروف. وإذا كان ذلك له فمعلوم أنه غير مانع لها بـمنعه إياها ماله منعها حقا لها واجبـا علـيه. وإذا كان ذلك كذلك فبّـين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها فأخذ منها زوجها ما أعطته أنه لـم يأخذ ذلك عن عضل منهيّ عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مبـاح. وإذ كان ذلك كذلك كان بـينا أنه داخـل فـي استثناء اللّه تبـارك وتعالـى الذي استثناه من العاضلـين بقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَـيْتُـمُوهُنّ إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةً}. وإذ صحّ ذلك، فبـين فساد قول من قال: {إلاّ أنْ يأْتِـينَ بِفـاحِشَةٍ مبَـيّنَةٍ} منسوخ بـالـحدود، لأن الـحدّ حقّ اللّه تعالـى علـى من أتـى بـالفـاحشة التـي هي زناوأما العضل لتفتدي الـمرأة من الزوج بـما آتاها أو ببعضه فحقّ لزوجها كما عضله إياها وتضيـيقه علـيها إذا هي نشزت علـيه لتفتدي منه حقّ له، ولـيس حكم أحدهما يبطل حكم الاَخر.

فمعنى الاَية: ولا يحلّ لكم أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نساءكم، فتضيقوا علـيهنّ، وتـمنعوهنّ رزقهنّ وكسوتهن بـالـمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهن من صَدُقاتكم، {إلاّ أنْ يَأْتِـينَ بِفَـاحِشَةٍ} من زنا أو بذاء علـيكم، وخلاف لكم فـيـما يجب علـيهن لكم مبـينة ظاهره، فـيحلّ لكم حينئذٍ عضلهنّ، والتضيـيق علـيهنّ، لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهنّ من صداق، إن هنّ افتدين منكم به.

واختلفت القراء فـي قراءة قوله: (مبَـيّنَةً) فقرأه بعضهم: (مُبَـيّنَةٍ) بفتـح الـياء، بـمعنى أنها قد بـينت لكم وأعلنت وأظهرت. وقرأه بعضهم: (مبَـيّنَةٍ) بكسر الـياء، بـمعنى أنها ظاهرة بـينة للناس أنها فـاحشة. وهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب فـي قراءته الصواب، لأن الفـاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بـينة، وإذا ظهرت فبإظهار صاحبها إياها ظهرت، فلا تكون ظاهرة بـينة إلا وهي مبـينة ولا مبـينة إلا وهي مبـينة، فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارىء صوابـا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَعاشِرُوهُنّ بـالـمَعْرُوفِ}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَعاشِرُوهُنّ بـالـمَعْرُوفِ}: وخالقوا أيها الرجال نساءكم، وصاحبوهنّ بـالـمعروف، يعنـي بـما أمرتـم به من الـمصاحبة، وذلك إمساكهنّ بأداء حقوقهنّ التـي فرض اللّه جل ثناؤه لهنّ علـيكم إلـيهنّ، أو تسريح منكم لهن بإحسان. كما:

٧٢٠٢ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَعاشِروهُنّ بـالـمَعْرُوفِ}

يقول: وخالطوهنّ. كذا قال مـحمد بن الـحسين، وإنـما هو خالقوهنّ من العشرة وهي الـمصاحبة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فإنْ كَرِهْتُـمُوهُنّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيَجْعَلَ اللّه فِـيهِ خَيْرا كَثِـيرا}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما آتـيتـموهنّ من غير ريبة، ولا نشوز، كان منهنّ، ولكن عاشروهنّ بـالـمعروف وإن كرهتـموهن، فلعلكم أن تكرهوهنّ، فتـمسكوهنّ، فـيجعل اللّه لكم فـي إمساككم إياهنّ علـى كره منكم لهنّ خيرا كثـيرا من ولد يرزقكم منهنّ، أو عطفكم علـيهنّ بعد كراهتكم إياهن. كما:

٧٢٠٣ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {فإنْ كَرِهْتُـمُوهُنّ فَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَيجْعَلَ اللّه فِـيهِ خَيْرا كَثِـيرا} يقال: فعسى اللّه أن يجعل فـي الكراهة خيرا كثـيرا.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٧٢٠٤ـ حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قال: ثنـي أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ فـي قوله: {وَيجْعَلَ اللّه فِـيهِ خَيْرا كَثِـيرا} قال: الولد.

٧٢٠٥ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي عن أبـيه، عن ابن عبـاس : {وَيجْعَلَ اللّه فِـيهِ خَيْرا كَثِـيرا} والـخير الكثـير: أن يعطف علـيها، فـيرزق الرجل ولدها، ويجعل اللّه فـي ولدها خيرا كثـيرا.

والهاء فـي قوله: {وَيجْعَلَ اللّه فِـيهِ خَيْرا كَثِـيرا} علـى قول مـجاهد الذي ذكرناه كناية عن مصدر تكرهوا، كأن معنى الكلام عنده: فإن كرهتـموهنّ، فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اللّه فـيه خيرا كثـيرا. ولو كان تأويـل الكلام: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اللّه فـي ذلك الشيء الذي تكرهونه خيرا كثـيرا، كان جائزا صحيحا.

٢٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِنْ أَرَدْتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مّكَانَ زَوْجٍ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وَإنْ أرَدْتُـمْ اسْتِبْدَالَ زوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ} وإن أردتـم أيها الـمؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها {وآتَـيْتـمْ إحْدَاهنّ}

يقول: وقد أعطيتـم التـي تريدون طلاقها من الـمهر قنطارا، والقنطار: الـمال الكثـير. وقد ذكرنا فـيـما مضى اختلاف أهل التأويـل فـي مبلغه والصواب من القول فـي ذلك عندنا. {فلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا}

يقول: فلا تضرّوا بهنّ إذا أردتـم طلاقهنّ لـيفتدين منكم بـما آتـيتـموهن. كما:

٧٢٠٦ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: {وَإنْ أرَدْتُـمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ}: طلاق امرأة مكان أخرى، فلا يحلّ له من مال الـمطلقة شيء وإن كثر.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {أتأْخُذُونَهُ بُهْتانا وإثْما مبِـينا}.

يعنـي بقوله تعالـى: {أتأْخُذُونَهُ}: أتأخذون ما آتـيتـموهنّ من مهورهنّ، {بُهْتانا}

يقول: ظلـما بغير حقّ، {وإثْما مُبِـينا} يعنـي: وإثما قد أبـان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لـمن أخذه منه ظالـم.

٢١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىَ بَعْضُكُمْ إِلَىَ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً }.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: {وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ}: وعلـى أيّ وجه تأخذون من نسائكم ما آتـيتـموهنّ من صدقاتهنّ إذا أردتـم طلاقهنّ واستبدال غيرهنّ بهنّ أزواجا، وقد أفضى بعضكم إلـى بعضكم فتبـاشرتـم وتلامستـم. وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه فـي معنى النكير والتغلـيظ، كما يقول الرجل لاَخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ علـى معنى التهديد والوعيدوأما الإفضاء إلـى الشيء فإنه الوصول إلـيه بـالـمبـاشرة له، كما قال الشاعر:

بِلـىً... أفْضَى إلـى كُتْبِةٍ

بَدَا سيرُها مِنْ بـاطِنٍ بَعْدَ ظاهِرِ

يعنـي بذلك: أن الفساد والبلـى وصل إلـى الـخُرَز. والذي عُنـي به الإفضاء فـي هذا الـموضع: الـجماع فـي الفرج.

فتأويـل الكلام إذ كان ذلك معناه: وكيف تأخذون ما آتـيتـموهنّ وقد أفضى بعضكم إلـى بعض بـالـجماع؟.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٧٢٠٧ـ حدثنـي عبد الـحميد بن بـيان القناد، قال: حدثنا إسحاق، عن سفـيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد اللّه ، عن ابن عبـاس ، قال: الإفضاء: الـمبـاشرة، ولكن اللّه كريـم يكنـي عما يشاء.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفـيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عبـاس قال: الإفضاء: الـجماع، ولكن اللّه يكنـي.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم بن بكر بن عبد اللّه الـمزنـي، عن ابن عبـاس ، قال: الإفضاء: هو الـجماع.

٧٢٠٨ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: {وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلـى بَعْضٍ} قال: مـجامعة النساء.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٧٢٠٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكمْ إلـى بَعْضٍ} يعنـي: الـمـجامعة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا}.

أما ما وثقت به لهنّ علـى أنفسكم من عهد، وإقرار منكم بـما أقررتـم به علـى أنفسكم، من إمساكهنّ بـمعروف، أو تسريحهنّ بإحسان، وكان فـي عقد الـمسلـمين النكاح قديـما، فـيـما بلغنا أن يقال للناكح: اللّه علـيك لتـمسكنّ بـمعروف أو لتسرحنّ بإحسان.

٧٢١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} والـميثاق الغلـيظ الذي أخذه للنساء علـى الرجال: إمساك بـمعروف أو تسريح بإحسان. وقد كان فـي عهد الـمسلـمين عند إنكاحهم: اللّه علـيك لتـمسكنّ بـمعروف أو لتسرحنّ بإحسان.

واختلف أهل التأويـل فـي الـميثاق الذي عنى اللّه جل ثناؤه بقوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا}.

فقال بعضهم: هو إمساك بـمعروف، أو تسريح بإحسان. ذكر من قال ذلك:

٧٢١١ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك فـي قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: إمساك بـمعروف، أو تسريح بإحسان.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك ، مثله.

٧٢١٢ـ حدثنا الـحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: {وأخَذْن مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: هو ما أخذ اللّه تبـارك وتعالـى للنساء علـى الرجال، فإمساك بـمعروف أو تسريح بإحسان

قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح.

٧٢١٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أما {وأخَذْنَ مِنْكُمْ ميثاقا غَلِـيظا} فهو أن ينكح الـمرأة فـيقول ولـيها: أنكحناكها بأمانة اللّه ، علـى أن تـمسكها بـالـمعروف أو تسرّحها بإحسان.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: الـميثاق الغلـيظ الذي أخذه اللّه للنساء: إمساك بـمعروف أو تسريح بإحسان، وكان فـي عقدة الـمسلـمين عند نكاحهنّ: ايـم اللّه علـيك لتـمسكنّ بـمعروف، ولتسرحنّ بإحسان.

٧٢١٤ـ حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا أبو قتـيبة، قال: حدثنا أبو بكر الهذلـي، عن الـحسن، ومـحمد بن سيرين فـي قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: إمساك بـمعروف. أو تسريح بإحسان.

وقال آخرون: هو كلـمة النكاح التـي استـحلّ بها الفرج. ذكر من قال ذلك:

٧٢١٥ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: كلـمة النكاح التـي استـحلّ بها فروجهنّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي هاشم الـمكي، عن مـجاهد فـي قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: قوله نكحت.

٧٢١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عنبسة، عن مـحمد بن كعب القرضي: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: هو قولهم: قد ملكت النكاح.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن سالـم الأفطس، عن مـجاهد: {وَأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: كلـمة النكاح.

٧٢١٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ققال ابن زيد فـي قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: الـميثاق: النكاح.

حدثنا عمرو بن علـيّ، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفـيان، قال: ثنـي سالـم الأفطس، عن مـجاهد: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قال: كلـمة النكاح قوله نكحت.

وقال آخرون: بل عنى قول النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أخَذْتُـمُوهُنّ بأمانَةِ اللّه ، واسْتَـحْلَلْتُـمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِـمَةِ اللّه ). ذكر من قال ذلك:

٧٢١٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر وعكرمة: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} قالا: أخذتـموهنّ بأمانة اللّه ، واستـحللتـم فروجهنّ بكلـمة اللّه .

٧٢١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا} والـميثاق الغلـيظ: أخذتـموهنّ بأمانة اللّه ، واستـحللتـم فروجهنّ بكلـمة اللّه .

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بتأويـل ذلك قول من قال: الـميثاق الذي عنـي به فـي هذه الاَية، هو ما أخذ للـمرأة علـى زوجها عند عقدة النكاح، من عهد علـى إمساكها بـمعروف، أو تسريحها بإحسان، فأقرّ به الرجل، لأن اللّه جل ثناؤه بذلك أوصى الرجال فـي نساءهم وقد بـينا معنى الـميثاق فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

واختلف فـي حكم هذه الاَية، أمـحكم أم منسوخ؟

فقال بعضهم: مـحكم، وغير جائز للرجل أخذ شيء مـما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي الـمريدة الطلاق.

وقال آخرون: هي مـحكمة، غير جائز له أخذ شيء مـما آتاها منها بحال، كانت هي الـمريدة للطلاق أو هو. ومـمن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد اللّه بن الـمزنـي.

٧٢٢٠ـ حدثنا مـجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عقبة بن أبـي الـمهنا، قال: سألت بكرا عن الـمختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال: لا {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقا غَلِـيظا}.

وقال آخرون: بل هي منسوخة نسخها قوله: {وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مـما آتـيتُـمُوهُنّ شَيْئا إلاّ أنْ يَخافـا أنْ لا يَقِـيـما حُدُودَ اللْهِ} ذكر من قال ذلك:

٧٢٢١ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَإنْ أرَدْتُـمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ} إلـى قوله: {وأخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقا غَلِـيظا} قال: ثم رخص بعد،

فقال: {وَلا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مِـمّا آتَـيْتُـمُوهُنّ شَيْئَا إلاّ أنْ يَخافـا ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـمَا حُدودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ} قال: فنسخت هذه تلك.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك قول من قال: إنها مـحكمة غير منسوخة، وغير جائز للرجل أخذ شيء مـما آتاها إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام، ما نفـى خلافه من الأحكام، علـى ما قد بـينا فـي سائر كتبنا، ولـيس قوله: {وَإنْ أَرَدْتُـمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ} نفـي حكم قوله: {فإنْ خِفْتُـمْ ألاّ يُقِـيـما حُدُودَ اللّه فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ} لأن الذي حرّم اللّه علـى الرجل بقوله: {وَإنْ أرَدْتُـمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَـيْتُـمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} أخذ ما آتاها منها إذا كان هو الـمريد طلاقها.

وأما الذي أبـاح له أخذه منها بقوله: {فَلا جُناحَ عَلَـيْهِما فِـيـما افْتَدَتْ بِهِ} فهو إذا كانت هي الـمريدة طلاقه، وهو كاره له ببعض الـمعانـي التـي قد ذكرنا فـي غير هذا الـموضع، ولـيس فـي حكم إحدى الاَيتـين نفـي حكم الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك لـم يجز أن يحكم لإحداهما بأنها ناسخة، وللأخرى بأنها منسوخة، إلا بحجة يجب التسلـيـم لها.

وأما ما قاله بكر بن عبد اللّه الـمزنـي من أنه لـيس لزوج الـمختلعة أخذ ما أعطته علـى فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره، فلـيس بصواب لصحة الـخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قـيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلـى زوجته وفراقها إن طلبت فراقه، وكان النشوز من قبلها.

٢٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآءِ ...}.

قد ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم كانوا يخـلفون علـى حلائل آبـائهم، فجاء الإسلام وهم علـى ذلك، فحرّم اللّه تبـارك وتعالـى علـيهم الـمقام علـيهن، وعفـا لهم عما كان سلف منهم فـي جاهلـيتهم وشركهم من فعل ذلك لـم يؤاخذهم به إن هم اتقوا اللّه فـي إسلامهم وأطاعوه فـيه. ذكر الأخبـار التـي رويت فـي ذلك:

٧٢٢٢ـ حدثنـي مـحمد بن عبد اللّه الـمخرمي، قال: حدثنا قراد، قال: حدثنا ابن عيـينة وعمرو، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: كان أهل الـجاهلـية يحرّمون ما يحرّم إلا امرأة الأب، والـجمع بـين الأختـين، قال: فأنزل اللّه : {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} {وأنْ تَـجْمَعُوا بَـيْنَ الأُخْتَـيْنِ}.

٧٢٢٣ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلـى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ}.. الاَية، قال: كان أهل الـجاهلـية يحرّمون ما حرّم اللّه ، إلا أن الرجل كان يخـلف علـى حلـيـلة أبـيه، ويجمعون بـين الأختـين، فمن ثم قال اللّه : {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}.

٧٢٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة فـي قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} قال: نزلت فـي أبـي قـيس بن الأسلت خـلف علـى أم عبـيد بنت ضمرة، كانت تـحت الأسلت أبـيه، وفـي الأسود بن خـلف، وكان خـلف علـى بنت أبـي طلـحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبـيه خـلف، وفـي فـاختة بنت الأسود بن الـمطلب بن أسد، وكانت عند أمية بن خـلف، فخـلف علـيها صفوان بن أمية، وفـي منظور بن ربـاب، وكان خـلف علـى ملـيكة ابنة خارجة، وكانت عند أبـيه ربـاب بن سيار.

٧٢٢٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء بن أبـي ربـاح: الرجل ينكح الـمرأة ثم لا يراها حتـى يطلقها، أتـحلّ لابنه؟ قال: هي مرسلة، قال اللّه تعالـى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ} قال: قلت لعطاء: ما قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}؟ قال: كان الأبناء ينكحون نساء آبـائهم فـي الـجاهلـية.

٧٢٢٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ}.. الاَية،

يقول: كل امرأة تزوّجها أبوك وابنك دخـل أو لـم يدخـل فهي علـيك حرام.

واختلف فـي معنى قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}

فقال بعضهم: معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقالوا هو من الاستثناء الـمنقطع.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا نكاح آبـائكم، بـمعنى: ولا تنكحوا كنكاحهم كما نكحوا علـى الوجوه الفـاسدة التـي لا يجوز مثلها فـي الإسلام، {إنّهُ كَانَ فَـاحِشَةً وَمَقْتا وَسَاءَ سَبِـيلاً} يعنـي: أن نكاح آبـائكم الذي كانوا ينكحونه فـي جاهلـيتهم كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً، إلا ما قد سلف منكم فـي جاهلـيتكم من نكاح لا يجوز ابتداء مثله فـي الإسلام، فإنه معفوّ لكم عنه.

وقالوا: قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ} كقول القائل للرجل: لا تفعل ما فعلت، ولا تأكل ما أكلت بـمعنى: ولا تأكل كما أكلت، ولا تفعل كما فعلت.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تنكحوا ما نكح آبـاؤكم من النساء بـالنكاح الـجائز كان عقده بـينهم، إلا ما قد سلف منهم من وجوه الزنا عندهم، فإن نكاحهنّ لكم حلال كان لأنهنّ لـم يكنّ لهم حلائل، وإنـما ما كان من آبـائكم منهنّ من ذلك فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً. ذكر من قال ذلك:

٧٢٢٧ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ أبـاؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف}... الاَية، قال: الزنا، إنه كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً. فزاد ههنا الـمقت.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب علـى ما قاله أهل التأويـل فـي تأويـله، أن يكون معناه: ولا تنكحوا من النساء نكاح آبـائكم إلا ما قد سلف منكم، فمضى فـي الـجاهلـية، فإنه كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً، فـيكون قوله: {مِنَ النّساءِ} من صلة قوله: {وَلا تَنْكِحُوا} ويكون قوله: {ما نَكَحَ آبـاؤكُمْ} بـمعنى الـمصدر، ويكون قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} بـمعنى الاستثناء الـمنقطع، لأنه يحسن فـي موضعه: لكن ما قد سلف فمضى، إنه كان فـاحشة ومقتا وساء سبـيلاً.

فإن قال قائل: وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويـل، وقد علـمت أن الذين ذكرت قولهم فـي ذلك، إنـما

قالوا: أنزلت هذه الاَية فـي النهي عن نكاح حلائل الاَبـاء، وأنت تذكر أنهم إنـما نهوا أن ينكحوا نكاحهم؟

قـيـل له: وإن قلنا إن ذلك هو التأويـل الـموافق لظاهر التنزيـل، إذ كانت ما فـي كلام العرب لغير بنـي آدم، وإنه لو كان الـمقصود بذلك النهي عن حلائل الاَبـاء دون سائر ما كان من مناكح آبـائهم حراما، ابتدىء مثله فـي الإسلام، بنهي اللّه جل ثناؤه عنه، لقـيـل: ولا تنكحوا من نكح آبـاؤكم من النساء إلا ما قد سلف، لأن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب، إذ كان (من) لبنـي آدم و(ما) لغيرهم، ولا تقل: ولا تنكحوا ما نكح آبـاؤكم من النساء، فإنه يدخـل فـي (ما) ما كان من مناكح آبـائهم التـي كانوا يتناكحونها فـي جاهلـيتهم، فحرم علـيهم فـي الإسلام بهذه الاَية نكاح حلائل الاَبـاء، وكل نكاح سواه، نهى اللّه تعالـى ذكره ابتداء مثله فـي الإسلام، مـما كان أهل الـجاهلـية يتناكحونه فـي شركهم.

ومعنى قوله: {إلاّ ما قَدْ سَلَفَ}: إلا ما قد مضى، {إنّهُ كان فـاحِشَةً}

يقول: إن نكاحكم الذي سلف منكم، كنكاح آبـائكم الـمـحرّم علـيكم ابتداء مثله فـي الإسلام بعد تـحريـمي ذلك علـيكم فـاحشة،

يقول: معصية {وَمَقْتا وَساءَ سَبِـيلاً}: أي بئس طريقا ومنهجا ما كنتـم تفعلون فـي جاهلـيتكم من الـمناكح التـي كنتـم تتناكحونها.

٢٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ ...}.

يعنـي بذلك تعالـى ذكره: حرّم علـيكم نكاح أمهاتكم، فترك ذكر النكاح اكتفـاء بدلالة الكلام علـيه.

وكان ابن عبـاس يقول فـي ذلك، ما:

٧٢٢٨ـ حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبـي زائدة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إسماعيـل بن رجاء، عن عمير مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس ، قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع. ثم قرأ: {حُرّمَتْ عَلَـيْكُمْ أمّهاتُكُمْ} حتـى بلغ: {وأنْ تَـجْمَعُوا بَـيْنَ الأخْتَـيْنِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ} قال: والسابعة {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤكُمْ مِنَ النّساءِ}.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إسماعيـل بن رجاء، عن عمير مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس ، قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: {حُرّمَتْ عَلَـيْكُمْ أمّهاتُكُمْ}.. إلـى قوله: {والـمُـحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ}.

حدثنا ابن بشار مرة أخرى، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إسماعيـل بن رجاء، عن عمير مولـى ابن عبـاس ، عن ابن عبـاس ، مثله.

٧٢٢٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن ابن أبـي ذئب، عن الزهري بنـحوه.

٧٢٣٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن حبـيب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: حرم علـيكم سبع نسبـا وسبع صهرا. {حُرّمَتْ عَلَـيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ}.. الاَية.

حدثنا ابن وكيع، قال حدثنا أبـي، عن علـيّ بن صالـح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: {حُرّمَتْ عَلَـيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وأخَوَاتُكُمْ} قال: حرّم اللّه من النسب سبعا، ومن الصهر سبعا، ثم قرأ: {وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبـائِبُكُمْ}.. الاَية.

٧٢٣١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مطرف، عن عمرو بن سالـم مولـى الأنصار، قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع: حرمت علـيكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت. ومن الصهر: أمهاتكم اللاتـي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، وربـائبكم اللاتـي فـي حجوركم من نسائكم اللاتـي دخـلتـم بهنّ، فإن لـم تكونوا دخـلتـم بهن، فلا جناح علـيكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تـجمعوا بـين الأختـين إلا ما قد سلف. ثم قال: {والـمُـحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكتْ أيـمَانُكُمْ}، {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آبـاؤكُمْ مِنَ النّساءِ}.

فكل هؤلاء اللواتـي سماهنّ اللّه تعالـى وبـين تـحريـمهنّ فـي هذه الاَية مـحرّمات غير جائز نكاحهنّ لـمن حرّم اللّه ذلك علـيه من الرجال، بإجماع جميع الأمة، لا اختلاف بـينهم فـي ذلك، إلا فـي أمهات نسائنا اللواتـي لـم يدخـل بهنّ أزواجهنّ، فإن فـي نكاحهنّ اختلافـا بـين بعض الـمتقدمين من الصحابة إذا بـانت الابنة قبل الدخول بها من زوجها، هل هنّ من الـمبهات، أم هنّ من الـمشروط فـيهنّ الدخول ببناتهنّ. فقال جميع أهل العلـم متقدمهم ومتأخرهم: من الـمبهمات، وحرام علـى من تزوّج امرأة أمها دخـل بـامرأته التـي نكحها أو لـم يدخـل بها، و

قالوا: شرط الدخول فـي الربـيبة دون الأم،، فأما أم الـمرأة فمطلقة بـالتـحريـم.

قالوا: ولو جاز أن يكون شرط الدخول فـي قوله: {وَرَبـائِبِكُمُ اللاّتِـي فِـي حُجُورِكُمُ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ} فوضع موصولاً به قوله: {وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ} جاز أن يكون الاستثناء فـي قوله: {وَالـمُـحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيـمَانُكُمْ} من جميع الـمـحرّمات بقوله: {حُرْمَتْ عَلَـيْكُمْ}.. الاَية،

قالوا: وفـي إجماع الـجميع علـى أن الاستثناء فـي ذلك إنـما هو مـما ولـيه من قوله: {والـمُـحْصَناتُ} أبـين الدلالة علـى أن الشرط فـي قوله: {مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ} مـما ولـيه من قوله: {وَرَبـائِبُكُمُ اللاّتِـي فـي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ} دون أمهات نسائنا. وروي عن بعض الـمتقدمين أنه كان

يقول: حلال نكاح أمهات نسائنا اللواتـي لـم ندخـل بهنّ، وإن حكمهنّ فـي ذلك حكم الربـائب. ذكر من قال ذلك:

٧٢٣٢ـ حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبـي عدّي وعبد الأعلـى، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علـيّ رضي اللّه عنه فـي رجل تزوّج امرأة فطلقها قبل أن يدخـل بها، أيتزوّج أمها؟ قال: هي بـمنزلة الربـيبة.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا قتادة، عن خلاس، عن علـيّ رضي اللّه عنه، قال: هي بـمنزلة الربـيبة.

٧٢٣٣ـ حدثنا حميد، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، عن زيد بن ثابت أنه كان

يقول: إذا ماتت عنده، وأخذ ميراثها، كره أن يخـلف علـى أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخـل بها، فإن شاء فعل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن الـمسيب، عن زيد بن ثابت، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخـل بها فلا بأس أن يتزوّج أمها.

٧٢٣٤ـ حدثنا القاسم، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرنـي عكرمة بن خالد، أن مـجاهدا قال له: {وأُمّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبـائِبُكُمُ اللاّتِـي فـي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمْ} أريد بهما الدخول جميعا.

قال أبو جعفر: والقول الأوّل أولـى بـالصواب، أعنـي قول من قال: الأم من الـمبهمات، لأن اللّه لـم يشرط معهنّ الدخول ببناتهنّ، كما شرط ذلك مع أمهات الربـائب، مع أن ذلك أيضا إجماع من الـحجة التـي لا يجوز خلافها فـيـما جاءت به متفقة علـيه.

وقد رُوي بذلك أيضا عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم خبر، غير أن فـي إسناده نظرا، وهو ما:

٧٢٣٥ـ حدثنا به الـمثنى، قال: حدثنا حبـان بن موسى، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، قال: أخبرنا الـمثنى بن الصبـاح، عن عمرو بن شعيب، عن أبـيه، عن جده، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(إذَا نَكَحَ الرّجُلُ الـمَرأةَ فَلا يَحِلّ لَهُ أنْ يَتَزَوّجَ أُمّها، دَخَـلَ بـالابْنَةِ أمْ لَـمْ يَدْخُـلْ، وَإذَا تَزَوّجَ الأُمّ فَلَـمْ يَدْخُـلْ بِهَا ثُمّ طَلّقَها، فإنْ شاءَ تَزَوّجَ الابْنَة).

قال أبو جعفر: وهذا خبر وإن كان فـي إسناده ما فـيه، فإن فـي إجماع الـحجة علـى صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد علـى صحته بغيره.

٧٢٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال لعطاء: الرجل ينكح الـمرأة لـم يرها ولا يجامعها حتـى يطلقها، أيحلّ له أمها؟ قال: لا، هي مرسلة. قلت لعطاء: أكان ابن عبـاس يقرأ: {وأُمّهاتُ نِسائِكُمُ اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ}؟ قال: لا تبرأ¹ قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تبرأ؟ قال: كأنه قال: لا لا.

وأم الربـائب فإنه جمع ربـيبة وهي ابنة امرأة الرجل، قـيـل لها ربـيبة لتربـيته إياها، وإنـما هي مربوبة صرفت إلـى ربـيبة، كما يقال: هي قبـيـلة من مقبولة، وقد يقال لزوج الـمرأة: هو ربـيب ابن امرأته، يعنـي به: هو رابّه، كما يقال: هو جابر وجبـير، وشاهد وشهيد.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: {مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ} فقال بعضهم معنى الدخول فـي هذا الـموضع: الـجماع. ذكر من قال ذلك:

٧٢٣٧ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: {مِنْ نِسائِكُمْ اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ} والدخول: النكاح.

وقال آخرون: الدخول فـي هذا الـموضع: هو التـجريد. ذكر من قال ذلك:

٧٢٣٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء، قوله: {اللاّتِـي دَخَـلْتُـمْ بِهِنّ} ما الدخول بهنّ؟ قال: أن تهدى إلـيه فـيكشف ويعتسّ، ويجلس بـين رجلـيها. قلت: أرأيت إن فعل ذلك فـي بـيت أهلها؟ قال: هو سواء، وحسبه قد حرم ذلك علـيه ابنتها. قلت: تـحرم الربـيبة مـمن يصنع هذا بأمها إلا ما يحرم علـيّ من أمتـي إن صنعته بأمها؟ قال: نعم سواء. قال عطاء: إذا كشف الرجل أمته وجلس بـين رجلـيها أنهاه عن أمها وابنتها.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين عندي بـالصواب فـي تأويـل ذلك، ما قاله ابن عبـاس ، من أن معنى الدخول: الـجماع والنكاح، لأن ذلك لا يخـلو معناه من أحد أمرين: إما أن يكون علـى الظاهر الـمتعارف من معانـي الدخول فـي الناس، وهو الوصول إلـيها بـالـخـلوة بها، أو يكون بـمعنى الـجماع، وفـي إجماع الـجميع علـى أن خـلوة الرجل بـامرأته لا يحرّم علـيه ابنتها إذا طلقها قبل مسيسها ومبـاشرتها، أو قبل النظر إلـى فرجها بـالشهوة ما يدلّ علـى أن معنى ذلك: هو الوصول إلـيها بـالـجماع. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويـل فـي ذلك ما قلناه.

وأما قوله: {فإنْ لـمْ تَكُونُوا دخَـلْتُـمْ بِهِنّ فَلا جُناح عَلَـيْكُمْ} فإنه

يقول: فإن لـم تكونوا أيها الناس دخـلتـم بأمهات ربـائبكم اللاتـي فـي حجوركم، فجامعتـموهنّ حتـى طلقتـموهنّ، {فلا جُنَاحَ عَلَـيْكُم}

يقول: فلا حرج علـيكم فـي نكاح من كان من ربـائبكم كذلك.

وأما قوله: {وَحَلائِلُ أبْنائِكُمْ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ} فإنه يعنـي: وأزواج أبنائكم الذين من أصلابكم، وهي جمع حلـيـلة وهي امرأته،

وقـيـل: سميت امرأة الرجل حلـيـلته، لأنها تـحلّ معه فـي فراش واحد. ولا خلاف بـين جميع أهل العلـم أن حلـيـلة ابن الرجل حرام علـيه نكاحها بعقد ابنه علـيها النكاح، دخـل بها أو لـم يدخـل بها.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فـي حلائل الأبناء من الرضاع، فإن اللّه تعالـى إنـما حرّم حلائئل أبنائنا من أصلابنا؟

قـيـل: إن حلائل الأبناء من الرضاع، وحلائل الأبناء من الأصلاب سواء فـي التـحريـم، وإنـما قال: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمْ الّذِين مِنْ أصْلابِكُمْ} لأن معناه: وحلائل أبنائكم الذين ولدتـموهم دون حلائل أبنائكم الذين تبنـيتوهم. كما:

٧٢٣٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء، قوله: {وَحَلائِلُ أبْنائِكُمْ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ} قال: كنا نُـحَدّث واللّه أعلـم أنها نزلت فـي مـحمد صلى اللّه عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة، قال الـمشركون فـي ذلك، فنزلت: {وَحَلائِلُ أبْنائِكمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ}، ونزلت: {وَما جَعَلَ أدْعِياءكُمْ أبْناءَكُمْ}، ونزلت: {ما كانَ مُـحَمّد أبـا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ}.

وأما قوله: {وأنْ تَـجْمَعُوا بَـيْنَ الأُخْتَـيْنِ} فإن معناه: وحرّم علـيكم أن تـجمعوا بـين الأختـين عندكم بنكاح، فـ(أن) فـي موضع رفع، كأنه

قـيـل: والـجمع بـين الأختـين. {إلاّ ما قدْ سلفَ} لكن ما قد مضى منكم. {فإنّ اللّه كانَ غفورا} لذنوب عبـاده إذا تابوا إلـيه منها. {رَحِيـما} بهم فـيـما كلفهم من الفرائض وخفف عنهم فلـم يحملهم فوق طاقتهم. يخبر بذلك جل ثناؤه أنه غفور لـمن كان جمع بـين الأختـين بنكاح فـي جاهلـيته وقـيـل تـحريـمه ذلك، إذا اتقـى اللّه تبـارك وتعالـى بعد تـحريـمه ذلك علـيه فأطاعه بـاجتنابه، رحيـم به وبغيره من أهل طاعته من خـلقه.

٢٤

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: حرّمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم.

واختلف أهل التأويل في المحصنات التي عناهنّ اللّه في هذه الاَية،

فقال بعضهم: هن ذوات الأزواج غير المسبيات منهنّ. وملكُ اليمين: السبايا اللواتي فرّق بينهنّ وبين أزواجهنّ السباء، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها الحربيّ لها. ذكر من قال ذلك:

٧٢٤٠ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كل ذات زوج إتيانها زنا، إلا ما سَبَيْتَ.

٧٢٤١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

٧٢٤٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكْتَ أيمَانُكُمْ}

يقول: كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب، فهي لك حلال إذا استبرأتها.

٧٢٤٣ـ وحدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ} قال: ما سبيتم من النساء، إذا سَبَيْتَ المرأة ولها زوج في قومها، فلا بأس أن تطأها.

٧٢٤٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: كل امرأة محصنة لها زوج فهي محرمة إلا ما ملكت يمينك من السبي وهي محصنة لها زوج، فلا تحرم عليك به

قال: كان أبي يقول ذلك.

٧٢٤٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي، قال: حدثنا سعيد، عن مكحول في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: السبايا.

واعتلّ قائلوا هذه المقالة بالأخبار التي رُويت أن هذه الاَية نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس. ذكر الرواية بذلك:

٧٢٤٦ـ حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي، عن أبي سعيد الخدريّ: أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين، فكان المسلمون يتأثّمون من غشيانهنّ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الاَية: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمانُكُمْ} أي هنّ حلال لكم إذا ما انقضت عِدَدُهن.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل: أن أبا علقمة الهاشمي حدّث، أن أبا سعيد الخدريّ حدّث: أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث يوم حنين سرية، فأصابوا حيّا من أحياء العرب يوم أوطاس، فهزموهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتأثمون من غشيانهن من أجل أزواجهنّ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} منهنّ، فحلال لكم ذلك.

حدثني عليّ بن سعيد الكناني، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن أشعث بن سوار، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما سبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل أوطاس، قلنا: يا رسول اللّه ، كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهنّ؟ قال: فنزلت هذه الاَية: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عثمان البتي، عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري، قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس لهنّ أزواج، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهن أزواج، فسألنا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {والمُحْصّناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} فاستحللنا فروجهنّ.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي الخليل عن أبي سعيد، قال: نزلت في يوم أوطاس، أصاب المسلمون سبايا لهن أزواج في الشرك،

فقال: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}

يقول: إلا ما أفاء اللّه عليكم، قال: فاستحللنا بها فروجهنّ.

وقال آخرون ممن قال: (المحصنات ذوات الأزواج في هذا الموضع). بل هنّ كل ذات زوج من النساء حرام على غير أزواجهنّ، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحلّ لمشتريها، ويُبطل بيع سيدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها. ذكر من قال ذلك:

٧٢٤٧ـ حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد اللّه في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: كل ذات زوج عليك حرام إلا أن تشتريها، أو ما ملكت يمينك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة عن إبراهيم: أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج، قال: كان عبد اللّه

يقول: بيعها طلاقها، ويتلو هذه الاَية: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد اللّه في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: كل ذات زوج عليك حرام، إلا ما اشتريت بمالك¹ وكان

يقول: بيع الأمة: طلاقها.

٧٢٤٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} قال: هنّ ذوات الأزواج حرم اللّه نكاحهنّ إلا ما ملكت يمينك، فبيعها طلاقها. قال معمر: وقال الحسن مثل ذلك.

٧٢٤٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها.

٧٢٥٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبيّ بن كعب وجابر بن عبد اللّه وأنس بن مالك

قالوا: بيعها طلاقها.

٧٢٥١ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبيّ بن كعب وجابرا وابن عباس،

قالوا: بيعها طلاقها.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد اللّه : بيع الأمة طلاقها.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور ومغيرة والأعمش، عن إبراهيم، عن عبد اللّه ، قال: بيع الأمة طلاقها.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمّل، قال: حدثنا سعيد، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد اللّه . مثله.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد اللّه مثله.

٧٢٥٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طلاق الأمة ستّ: بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها.

٧٢٥٣ـ حدثني أحمد بن المغيرة الحمصي

قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن عيسى بن أبي إسحاق، عن أشعث، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب: أنه قال: بيع الأمة طلاقها.

٧٢٥٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن، قال: بيع الأمة طلاقها، وبيعه طلاقها.

٧٢٥٥ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا خالد، عن أبي قلابة، قال: قال عبد اللّه : مشتريها أحقّ ببُضْعِها. يعني: الأمة تباع ولها زوج.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، قال: طلاق الأمة بيعها.

حدثنا حميد، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، قال: حدثنا يونس، عن الحسن أن أبيّا، قال: بيعها طلاقها.

٧٢٥٦ـ حدثنا أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن مسعود، قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحقّ بُبْضعها.

٧٢٥٧ـ حدثنا حميد، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: ثنى سعيد، عن قتادة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: بيعها طلاقها

قال: فقيل لإبراهيم: فبيعه؟ قال: ذلك ما لا نقول فيه شيئا.

وقال آخرون: بل معنى المحصنات في هذا الموضع: العفائف.

قالوا: وتأويل الاَية: والعفائف من النساء حرام أيضا عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ بنكاح وصداق وسنة وشهود من واحدة إلى أربع. ذكر من قال ذلك:

٧٢٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن أبي جعفر، عن أبي العالية، قال:

يقول: انكحوا ما طاب لكم من النساء: مثَنى، وثلاثَ، ورباع، ثم حرم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: فرجع إلى أوّل السورة إلى أربع،

فقال: هنّ حرام أيضا، ألا بصداق وسنّة وشهود.

٧٢٥٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين عن عبيدة، قال: أحلّ اللّه لك أربعا في أوّل السورة، وحرّم نكاح كلّ محصنة بعد الأربع، إلا ما ملكت يمينك. قال معمر: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه: إلا ما ملكت يمينك، قال: فزوجك مما ملكت يمينك،

يقول: حرّم اللّه الزنا، لا يحلّ لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك.

٧٢٦٠ـ حدثني عليّ بن مسروق الكندي، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قول اللّه تعالى: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: أربع.

٧٢٦١ـ حدثني عليّ بن سعيد، قال: حدثنا عبد الرحيم، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن عمر بن الخطاب، مثله.

٧٢٦٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: الأربع، فمابعدهنّ حرام.

٧٢٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها،

فقال: حرّم اللّه ذوات القرابة، ثم قال: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}

يقول: حرّم ما فوق الأربع منهنّ.

٧٢٦٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} قال: الخامسة حرام كحرمة الأمهات والأخوات.

ذكر من قال: عَنَى بالمحصنات في هذا الموضع العفائفَ من المسلمين وأهل الكتاب:

٧٢٦٥ـ حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (والمُحْصَناتُ) قال: العفيفة العاقلة من مسلمة، أو من أهل الكتاب.

٧٢٦٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن بعض أصحابه، عن مجاهد: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: العفائف.

وقال آخرون: المحصنات في هذا الموضع ذوات الأزواج، غير أن الذي حرم اللّه منهن في هذه الاَية الزنا بهن، وأباحهن بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} بالنكاح أو الملك. ذكر من قال ذلك:

٧٢٦٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول اللّه تعالى: {والمُحْصَناتُ} قال: نهى عن الزنا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} قال: نهى عن الزنا أن تنكح المرأة زوجين.

٧٢٦٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: كل ذات زوج عليكم حرام، إلا الأربع اللاتي ينكحن بالبينة والمهر.

٧٢٦٩ـ حدثنا أحمد بن عثمان، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أنه سئل عن المُحصنات من النساء، قال: هن ذوات الأزواج.

٧٢٧٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد اللّه ، قال: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين

وقال علي: ذوات الأزواج من المشركين.

٧٢٧١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، عن ابن عباس، في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} قال: كل ذات زوج عليكم حرام.

٧٢٧٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مكحول، نحوه.

٧٢٧٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن الصلب بن بهرام، عن إبراهيم، نحوه.

٧٢٧٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.. إلى: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يعني: ذوات الإزواج من النساء لا يحل نكاحهن،

يقول: لا يخلب ولا يعد فتنشُز على زوجها، وكل امرأة لا تنكح إلا ببينة ومهر فهي من المحصنات التي حرم اللّه إلا ما ملكت أيمانكم، يعني: التي أحل اللّه من النساء، وهو ما أحل من حرائر النساء مثنى وثلاث ورباع.

وقال آخرون: بل هن نساء أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:

٧٢٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا عيسى بن عبيد، عن أيوب بن أبي العوجاء عن أبي مجلز في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: نساء أهل الكتاب.

وقال آخرون: بل هن الحرائر. ذكر من قال ذلك:

٧٢٧٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنى حماد بن مسعدة، قال: حدثنا سليمان بن عرعرة، في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} قال: الحرائر.

وقال آخرون: المحصنات: هن العفائف وذوات الأزواج، وحرام كل من الصنفين إلا بنكاح أو ملك يمين. ذكر من قال ذلك:

٧٢٧٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى الليث، قال: ثنى عقيل، عن ابن شهاب، وسئل عن قول اللّه : {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.. الاَية، قال: نرى أنه حرم في هذه الاَية المحصنات من النساء ذوات الأزواج أن ينكحن مع أزواجهن ـ والمحصنات: العفائف ولا يحللن إلا بنكاح، أو ملك يمين. والإحصان إحصانان: إحصان تزويج، وإحصان عفاف في الحرائر والمملوكات، كل ذلك حرّم اللّه ، إلا بنكاح أو ملك يمين.

وقال آخرون: نزلت هذه الاَية في نساءكنّ يهاجرن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولهنّ أزواج، فيتزوّجهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهنّ مهاجرين، فنهي المسلمون عن نكاحهن. ذكر من قال ذلك:

٧٢٧٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنى حبيب بن أبي ثابت عن أبي سعيد الخدري، قال: كان النساء يأتينا ثم يهاجر أزواجهنّ فمنعناهنّ¹ يعني قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.

وقد ذكر ابن عباس وجماعة غيره أنه كان ملتبسا عليهم تأويل ذلك.

٧٢٧٩ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قال رجل لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الاَية: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} فلم يقل فيها شيئا؟ قال: فقال: كان لا يعلمها.

٧٢٨٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيـى، عن مجاهد، قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الاَية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.. إلى قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ}.. إلى آخر الاَية.

قال أبو جعفر: فأما المحصنات فإنهنّ جمع محصنة، وهي التي قد منع فرجها بزوج، يقال منه: أحصن الرجل امرأته فهو يُحْصِنها أحصانا وحَصُنَتْ هي فهي تَحْصُنُ حَصَانَةً: إذا عفّت، وهي حاصن من النساء: عفيفة، كما قال العجاج:

وحاصِنٍ مِنْ حاصِنَاتٍ مُلْسِعَنِ الأذَى وَعَنْ قِرَافِ الوَقْسِ

ويقال أيضا إذا هي عفت وحفظت فرجها من الفجور: قد أحصنت فرجها فيه محصنة، كما قال جلّ ثناؤه: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها} بمعنى: حفظته من الريبة ومنعته من الفجور. وإنما قيل لحصون المدائن والقرى حصون لمنعها من أرادها وأهلها، وحفظها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها، ولذلك قيل للدرع درع حصينة. فإذا كان أصل الإحصان ما ذكرنا من المنع والحفظ فبين أن معنى قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ}: والممنوعات من النساء حرام عليكم {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}. وإذ كان ذلك معناه، وكان الإحصان قد يكون بالحرية، كما قال جل ثناؤه: {والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ويكون بالإسلام، كما قال تعالى ذكره: {فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ} ويكون بالعفة كما قال جل ثناؤه: {وَالّذِينَ يَرْمُون المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ويكون بالزوج¹ ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصنة دون محصنة في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} فواجب أن يكون كل محصنة بأي معاني الإحصان كان إحصانها حراما علينا سفاحا أو نكاحا، إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء، كما أباحه لنا كتاب اللّه جل ثناؤه، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل اللّه . فالذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحا من الحرائر الأربع سوى اللواتي حرمن علينا بالنسب والصهر، ومن الإماء ما سبينا من العدو سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حرم علينا من الحرائر بالنسب والصهر، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرم بذلك المعنى متفقات المعاني، وسوى اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج، فإن السباء يحلهن لمن سباهن بعد الاستبراء، وبعد إخراج حق اللّه تبارك وتعالى الذي جعله لأهل الخمس منهن. فأما السّفاح فإن اللّه تبارك وتعالى حرمه من جميعهن، فلم يحلّه من حرّة ولا أمة ولا مسلمة ولا كافرة مشركةوأما الأمة التي لها زوج فإنها لا تحل لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها، أو وفاته وانقضاء عدتها منه، فأما بيع سيدها إياها فغير موجب بينها وبين زوجها فراقا ولا تحليلاً لمشتريها، لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أنه خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي كان سادتها زوّجوها منه في حال رقها، وبين فراقه) ولم يجعل صلى اللّه عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا. ولو كان عتقها وزوال ملك عائشة إياها لها طلاقا لم يكن لتخيير النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها والفراق معنى، ولوجب بالعتق الفراق، وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق¹ فلما خيرها النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق كان معلوما أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقده ثابت، كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها، فكان نظيرا للعتق الذي هو زوال ملك مالك المملوكة ذات الزوج عنها البيع الذي هو زوال ملك مالكها عنها، إذ كان أحدهما زوالاً ببيع والاَخر بعتق في أن الفرقة لا يجب بها بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق وإن اختلفا في معان أخر، من أن لها في العتق الخيار في المقام مع زوجها والفراق، لعلة مفارقة معنى البيع، وليس ذلك لها في البيع.

فإن قال قائل: وكيف يكون معنيا بالاستثناء من قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} ما وراء الأربع من الخمس إلى ما فوقهنّ بالنكاح والمنكوحات به غير مملوكات؟ قيل له: إن اللّه تعالى لم يخصّ بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} المملوكات الرقاب دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرها، بل عمّ بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} كلا المعنيين، أعني ملك الرقبة وملك الاستمتاع بالنكاح، لأن جميع ذلك ملكته أيماننا، أما هذه فملك استمتاع، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادعى أن اللّه تبارك وتعالى عني بقوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} محصنة وغير محصنة، سوى من ذكرنا أولاً بالاستثناء بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُم} بَعْضَ أملاك أيماننا دون بعض، غير الذي دللنا على أنه غير معني به، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، فلن يقول في ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله. فإن اعتل معتل منكم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الاَية نزلت في سبايا أوطاس، قيل له: إن سبايا أوطاس لم يوطأن بالملك والسباء دون الإسلام، وذلك أنهن كن مشركات من عبدة الأوثان، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام، وأنهن إذا أسلمن فرق الإسلام بينهنّ وبين الأزواج، سبايا كنّ أو مهاجرات، غير أنهّ إذا كنّ سبايا حللن إذا هن أسلمن بالاستبراء. فلا حجة لمحتج في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن بخبر أبي سعيد الخدري أن ذلك نزل في سبايا أوطاس¹ لأنه وإن كان فيهن نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسباء خاصة دون غيره من المعاني التي ذكرنا، مع أن الاَية تنزل في معنى فتعمّ ما نزلت به فيه وغيره، فيلزم حكمها جميع ما عمته لما قد بينا من القول في العموم والخصوص في كتابنا (كتاب البيان عن أصول الأحكام).

القول في تأويل قوله تعالى: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ}.

يعني تعالى ذكره: كتابا من اللّه عليكم. فأخرج الكتاب مُصَدّرا من غير لفظه. وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُم أُمّهاتُكُمْ}.. إلى قوله: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ} بمعنى: كتب اللّه تحريم ما حرم من ذلك وتحليل ما حلل من ذلك عليكم كتابا.

وبما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٢٨١ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ} قال: ما حرم عليكم.

٧٢٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها فقال: {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ} قال: هو الذي كتب عليكم الأربع أن لا تزيدوا.

٧٢٨٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: قلت لعبيدة: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ} وأشار ابن عون بأصابعه الأربع.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة، عن قوله: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ} قال: أربع.

٧٢٨٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ}: الأربع.

٧٢٨٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ} قال: هذا أمر اللّه عليكم، قال: يريد ما حرم عليهم من هؤلاء وما أحلّ لهم. وقرأ: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ}.. إلى آخر الاَية

قال: كتاب اللّه عليكم الذي كتبه، وأمره الذي أمركم به. {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ}: أَمْرَ اللّه .

وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله: {كِتابَ اللّه عَلَيْكُمْ} منصوب على وجه الإغراء، بمعنى: عليكم كتابَ اللّه ، الزموا كتابَ اللّه . والذي قال من ذلك غير مستفيض في كلام العرب، وذلك أنه لا (تكاد) تنصب بالحرف الذي تغري به، لا تكاد تقول: أخاك عليك وأباك دونك، وإن كان جائزا. والذي هو أولى بكتاب اللّه أن يكون محمولاً على المعروف من لسان من نزل بلسانه هذا مع ما ذكرنا من تأويل أهل التأويل ذلك بمعنى ما قلنا، وخلاف ما وجهه إليه من زعم أنه نصب على وجه الإغراء.

القول في تأويل قوله تعالى: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. ذكر من قال ذلك:

٧٢٨٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وأُحِلّ لَكُم ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: ما دون الأربع أن تبتغوا بأموالكم.

٧٢٨٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلمانيّ: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} يعني: ما دون الأربع.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من سَمّى لكم تحريمه من أقاربكم. ذكر من قال ذلك:

٧٢٨٨ـ حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها،

فقال: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قال: ما وراءَ ذات القرابة، {أن تَبْتَغُوا بأمْوالِكُمْ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: عدد ما أحل لكم من المحصنات من النساء الحرائر ومن الإماء. ذكر من قال ذلك:

٧٢٨٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} قال: ما ملكت أيمانكم.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما نحن مبينوه¹ وهو أن اللّه جل ثناؤه بين لعباده المحرّمات بالنسب والصهر، ثم المحرّمات من المحصنات من النساء، ثم أخبرهم جل ثناؤه أنه قد أحلّ لهم ما عدا هؤلاء المحرّمات المبينات في هاتين الاَيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحا وملك يمين لا سفاحا.

فإن قال قائل: عرفنا المحللات اللواتي هنّ وراء المحرّمات بالأنساب والأصهار، فما المحللات من المحصنات والمحرّمات منهنّ؟ قيل: هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع على ما ذكرنا عن عبيدة والسديّ من الحرائر، فأما ما عدا ذوات الأزواج فغير عدد محصور بملك اليمين.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن قوله: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ} عامّ في كل محلّل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا، فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهنّ بأولى من بعض، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجة يجب التسليم لها، ولا حجة بأن ذلك كذلك.

واختلف القراء في قراءة قوله: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فقرأ ذلك بعضهم: (وأَحَلّ لَكُمْ) بفتح الألف من أحلّ، بمعنى: كتب اللّه عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم. وقرأه آخرون: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُم} اعتبارا بقوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمّهاتُكُمْ... وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ}.

قال أبو جعفر: والذي نقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الإسلام غير مختلفتي المعنى، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الحقّ.

وأما معنى قوله: {ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فإنه يعني: ما عدا هؤلاء اللواتي حرمتهن عليكم أن تبتغوا بأموالكم،

يقول: أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم، إما شراء بها وإما نكاحا بصداق معلوم، كما قال جلّ ثناؤه: {ويكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يعني: بما عداه وبما سواهوأما موضع (أن) من قوله: {أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ} فرفعٌ ترجمةً عن (ما) التي في قوله: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ} في قراءة من قرأ: {وأُحِلّ} بضم الألف. ونصبٌ على ذلك في قراءة من قرأ ذلك: (وأَحَلّ) بفتح الألف. وقد يحتمل النصب في ذلك في القراءتين على معنى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا، فلما حذفت اللام الخافضة اتصلت بالفعل قبلها فنصبت. وقد يحتمل أن تكون في موضع خفض بهذا المعنى إذ كانت اللام في هذا الموضع معلوما أن بالكلام إليها الحاجة.

القول في تأويل قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غيْرَ مُسافِحِينَ}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {مُحْصِنِينَ} أعفاء بابتغائكم ما وراء ما حرّم عليكم من النساء بأموالكم {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}

يقول: غير مزانين. كما:

٧٢٩٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله {مُحْصِنِينَ} قال: متناكحين. {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} قال: زانين بكل زانية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: {مُحْصِنِينَ} متناكحين. {غير مُسَافِحِينَ} السفاح: الزنا.

٧٢٩١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {مُحْصِنينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ}

يقول: محصنين غير زناة.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنّ فَآتُوهُنّ أجُورَهُنّ فَرِيضَةً}.

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ}

فقال بعضهم: معناه: فما نكحتم منهنّ فجامعتموهنّ، يعني من النساء¹ {فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً} يعني: صدقاتهن فريضة معلومة. ذكر من قال ذلك:

٧٢٩٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً}

يقول: إذا تزوّج الرجل منكم ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله. والاستمتاع هو النكاح، وهوقوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً}.

٧٢٩٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ} قال: هو النكاح.

٧٢٩٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ}: النكاح.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ} قال: النكاح أراد.

٧٢٩٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُوَرَهُنّ فَرِيضَة}.. الاَية، قال: هذا النكاح، وما في القرآن الإنكاح إذا أخذتها واستمتعت بها، فأعطها أجرها الصداق، فإن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ فرض اللّه عليها العدة وفرض لها الميراث

قال: والاستمتاع هو النكاح ههنا إذا دخل بها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتعتم به منهنّ بأجر تمتع اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولىّ وشهود ومهر. ذكر من قال ذلك:

٧٢٩٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَريضَةِ). فهذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى، ويشهد شاهدين، وينكح باذن وليها، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برة، وعليها أن تستبرىء ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه.

٧٢٩٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ} قال: يعني نكاح المتعة.

٧٢٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن عيسى، قال: حدثنا نصير بن أبي الأشعث، قال: ثنى حبيب ابن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفا،

فقال: هذا على قراءة أبيّ. قال أبو كريب، قال يحيـى: فرأيت المصحف عند نصير فيه: (فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى).

٧٢٩٩ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء، قال: أما تقرأ سورة النساء؟ قال: قلت بلى

قال: فما تقرأ فيها: (فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمى)؟ قلت: لا، لو قرأتها هكذا ما سألتك! قال: فإنها كذا.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبد الأعلى، قال: ثنى داود، عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن المتعة، فذكر نحوه.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، قال: قرأت هذه الاَية على ابن عباس: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ} قال ابن عباس: (إلى أجل مسمى)، قال قلت: ما أقرؤها كذلك! قال: واللّه لأنزلها اللّه كذلك ثلاث مرات.

٧٣٠٠ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمير: أن ابن عباس قرأ: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى).

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة وثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن ابن عباس، بنحوه.

٧٣٠١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: في قراءة أبيّ بن كعب: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمى).

٧٣٠٢ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قاال: سألته عن هذه الاَية: {والمُحْصَنَاتُ مِن النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} إلى هذا الموضع: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ} أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: قال عليّ رضي اللّه عنه: لولا أن عمر رضي اللّه عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقّى.

٧٣٠٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عيسى بن عمر القارىء الأسديّ، عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقرأ: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجَلٍ مُسَمّى فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ).

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: فما نكحتموه منهنّ فجامعتموه فآتوهنّ أجورهنّ¹ لقيام الحجة بتحريم اللّه متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله اصلى اللّه عليه وسلم.

٧٣٠٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: ثنى الربيع بن سبرة الجهنيّ، عن أبيه أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِهِ النّساءِ) والاستمتاع عندنا يومئذٍ التزويج.

وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام في غير هذا الموضع من كتبنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضعوأما رُوي عن أبيّ بن كعب وابن عباس من قراءتهما: (فَمَا اسْتَمْتَعُتُمْ بِهِ مِنْهُنّ إلى أجل مسمّى) فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين، وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب اللّه تعالى شيئا لم يأت به الخبر القاطع العذر عمن لا يجوّز خلافه.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنّ اللّه كانَ عَلِيما حَكِيما}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: لا حرج عليكم أيها الإزواج إن أدركتكم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهنّ فريضة فيما تراضيتم به، من حطّ وبراءة، بعد الفرض الذي سلف منكم لهن ما كنتم فرضتم. ذكر من قال ذلك:

٧٣٠٥ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرميّ أن رجالاً كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال اللّه : {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ}.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم أنتم والنساء واللواتي استمتعتم بهنّ إلى أجل مسمى، إذا انقضى الأجل الذي أجلتموه بينكم وبينهم في الفراق، أن يزدنكم في الأجل وتزيدوا من الأجر والفريضة قبل أن يستبرئن أرحامهنّ. ذكر من قال ذلك:

٧٣٠٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ} إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى، يعني: الأجرة التي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما،

فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فازداد قبل أن يستبرىء رحمها، ثم تنقضي المدة، وهوقوله: {فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ}.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهم على استمتاعكم بهنّ من مقام وفراق. ذكر من قال ذلك:

٧٣٠٧ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {وَلا جَناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ} والتراضي أن يوفيها صداقها، ثم يخيرها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا جناح عليكم فيما وضعت عنكم نساؤكم من صدقاتهنّ من بعد الفريضة. ذكر من قال ذلك:

٧٣٠٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ} قال: إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم أيها الناس فيما تَراضيتم به أنتم ونساؤكم من عد إعطائهنّ أجورهنّ على النكاح الذي جرى بينكم وبينهنّ من حطّ ما وجب لهنّ عليكم، أو إبراء أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئَا}. فأما الذي قاله السدي فقول لا معنى له الفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.

وأما قوله: {إنّ اللّه كانَ عَلِيما حكِيما} فإنه يعني: إن اللّه كان ذا علم بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه بما يدبر لكم ولهم من التدبير، وفيما يأمركم وينهاكم¹ لا يدخل حكمته خلل ولا زلل.

٢٥

القول في تأويل قوله: {وَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ...}.

اختلف أهل التأويل في معنى الطول الذي ذكره اللّه تعالى في هذه الاَية،

فقال بعضهم: هو الفضل والمال والسعة. ذكر من قال ذلك:

٧٣٠٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} قال: الغنى.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٣١٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَمَنْ لَم يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}

يقول: من لم يكن له سعة.

٧٣١١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}

يقول: من لم يستطع منكم سعة.

٧٣١٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} قال: الطّوْل: الغنى.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} قال: الطول: السعة.

٧٣١٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} أما قوله طولاً: فسعة من المال.

٧٣١٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}.. الاَية، قال: طولاً: لا يجد ما ينكح به حرّة.

وقال آخرون: معنى الطول في هذا الموضع: الهَوَى. ذكر من قال ذلك:

٧٣١٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنى عبد الجبار بن عمر، عن ربيعة أنه قال في قول اللّه : {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} قال: الطّوْلُ: الهوى، قال: ينكح الأمة إذا كان هواه فيها.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان ربيعة يلين فيه بعض التليين، كان

يقول: إذا خشي على نفسه إذا أحبها ـ أي الأمة وإن كان يقدر على نكاح غيرها فإني أرى أن ينكحها.

٧٣١٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أنه سئل عن الحرّ يتزوّج الأمة،

فقال: إن كان ذا طول فلا. قيل: إن وقع حبّ الأمة في نفسه؟ قال: إن خشي العنت فليتزوّجها.

٧٣١٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيدة، عن الشعبي، قال: لا يتزوّج الحرّ الأمة إلا أن لا يجد. وكان إبراهيم

يقول: لا بأس به.

٧٣١٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء

يقول: لا نكره أن ينكح ذو اليسار الأمة إذا خشي أن يُسْعَى بها.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: السعة والغنى من المال، لإجماع الجميع على أن اللّه تبارك وتعالى لم يحرّم شيئا من الأشياء سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرّة، فأحلّ ما حرّم من ذلك عند غلبته المحرم عليه له لقضاء لذة. فإذ كان ذلك إجماعا من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول، فمثله في التحريم نكاح الإماء لواجد الطول: لا يحلّ له من أجل غلبة هوى سرّه فيها، لأن ذلك مع وجوده الطول إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه فيترخص في أكلها ليحيـى بها نفسه، وما أشبه ذلك من المحرّمات اللواتي رخص اللّه لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاك منه ما حرم عليهم منها فيغيرها من الأحوال. ولم يرخص اللّه تبارك وتعالى لعبد في حرام لقضاء لذة، وفي إجماع الجميع على أن رجلاً لو غلبه هوى امرأة حرة أو امرأة أنها لا تحلّ له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن اللّه به، ما يوضح فساد قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: الهوى، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاح الإماء.

فتأويل الاَية إذ كان الأمر على ما وصفنا: ومن لم يجد منكم سعة من مال لنكاح الحرائر، فلينكح مما ملكت أيمانكم. وأصل الطّوْل: الإفضال، يقال منه: طال عليه يَطُول طَوْلاً في الإفضال، وطال يَطُول طُولاً في الطول الذي هو خلاف القصر.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ}.

يعني بذلك: ومن لم يستطع منكم أيها الناس طولاً، يعني: من الأحرار أن ينكح المحصنات وهنّ الحرائر المؤمنات اللواتي قد صدّقن بتوحيد اللّه وبما جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الحقّ.

وبنحو ما قلنا في المحصنات قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٣١٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ}

يقول: أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء المؤمنين.

٧٣٢٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: {أنْ يَنْكَحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} قال: المحصنات الحرائر، فلينكح الأمة المؤمنة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٣٢١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: أما فيتاتكم: فإماؤكم.

٧٣٢٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: {أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} قال: أما من لم يجد ما ينكح به الحرّة فيتزوّج الأمة.

٧٣٢٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمِناتِ} قال: من لم يجد ما ينكح به حرة فينكح هذه الأمة فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها، ولم يحل اللّه ذلك لأحد إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرّة وينفق عليها، ولم يحلّ له حتى يخشى العنت.

٧٣٢٤ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان، عن هشام الدستوائي، عن عامر الأحول، عن الحسن: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة، ومن وجد طَوْلاً لحرة فلاينكح أمة.

واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قراء الكوفيين والمكيين: {أنْ يَنْكِحَ المُحْصِناتِ} بكسر الصاد مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك سوى قوله: {والمُحْصَناتِ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيَمَانُكُمْ} فإنهم فتحوا الصاد منها، ووجهوا تأويله إلى أنهنّ محصنات بأزواجهنّ، وأن أزواجهنّ هم أحصنوهنّوأما سائر ما في القرآن فإنهم تأوّلوا في كسرهم الصاد منه إلى أن النساءهنّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة. وقرأت عامة قراء المدينة والعراق ذلك كله بالفتح، بمعنى أن بعضهن أحصنّهن أزواجهن، وبعضهن أحضهن حريتهن أو إسلامهن. وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر، بمعنى أنهن عففن وأحصن أنفسهنّ. وذكرت هذه القراءة أعني بكسر الجميع عن علقمة على الاختلاف في الرواية عنه.

قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار مع اتفاق ذلك في المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب، إلا في الحرف الأوّل من سورة النساء، وهوقوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكمْ} فإني لا أستجيز الكسر في صاده لاتفاق قراءة الأمصار على فتحها. ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها كان صوابا القراءة بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها كان صوابا القراءة بها كذلك لما ذكرنا من تصرّف الإحصان في المعاني التي بيناها، فيكون معنى ذلك لو كسر: والعفائف من النساء حرام عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم، بمعنى أنهنّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفةوأما الفتيات فإنهنّ جمع فتاة، وهنّ الشواب من النساء، ثم يقال لكل مملوكة ذات سنّ أو شابة فتاة، والعبد فتى.

ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات، وهل عنى اللّه بقوله: {مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمناتِ} تحريم ما عدا المؤمنات منهنّ، أم ذلك من اللّه تأديب للمؤمنين؟

فقال بعضهم: ذلك من اللّه تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين. ذكر من قال ذلك:

٧٣٢٥ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} قال: لا ينبغي أن يتزوّج مملوكة نصرانية.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} قال: لا ينبغي للحرّ المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب.

٧٣٢٦ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز، ومالك ابن أنس، ومالك بن عبد اللّه بن أبي مريم، يقولون: لا يحلّ لحرّ مسلم ولا لعبد مسلم الأمة النصرانية، لأن اللّه

يقول: {مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمِناتِ} يعني بالنكاح.

وقال آخرون: ذلك من اللّه على الإرشاد والندب، لا على التحريم. وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق. ذكر من قال ذلك:

٧٣٢٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، قال: قال أبو ميسرة، أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر.

ومنهم أبو حنيفة وأصحابه. واعتلوا لقولهم بقول اللّه : {أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُو الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ ...}

قالوا: فقد أحلّ اللّه محصنات أهل الكتاب عاما، فليس لأحد أن يخصّ منهنّ أمة ولا حرّة.

قالوا: ومعنى قوله: {فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ}: غير المشركات من عبدة الأوثان.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين¹ وذلك أن اللّه جل ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط، فما لم تجتمع الشروط التي سماها فيهنّ، فغير جائز لمسلم نكاحهنّ.

فإن قال قائل: فإن الاَية التي في المائدة تدلّ على إباحتهنّ بالنكاح؟ قيل: إن التي في المائدة قد أبان أن حكمها في خاصّ من محصناتهم، وأنها معنّى بها حرائرهم دون إمائهم، قوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} وليست إحدى الاَيتين دافعة حكمها حكم الأخرى، بل إحداهما مبينة حكم الأخرى، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى لو لم يكن جائزا اجتماع حكميهما على صحة، فأما وهما جائز اجتماع حكمهما على الصحة، فغير جائز أن يحكم لإحدهما بأنها دافعة حكم الأخرى إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس، ولا خبر بذلك ولا قياس، والاَية محتملة ما قلنا: والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّه أعْلَمُ بإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.

وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم وتأويل ذلك: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، فلينكح بعضكم من بعض، بمعنى: فلينكح هذا فتاة هذا. فـ(البعض) مرفوع بتأويل الكلام، ومعناه إذ كان قوله: {فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} في تأويل: فلينكح مما ملكت أيمانكم، ثم ردّ بعضكم على ذلك المعنى فرفع. ثم قال جلّ ثناؤه: {واللّه أعْلَمُ بإيمَانِكُمْ}: أي واللّه أعلم بإيمان من آمن منكم باللّه ورسوله، وما جاء به من عند اللّه ، فصدق بذلك كله منكم،

يقول: فلينكح من لم يستطع منكم طولاً لحرة من فتياتكم المؤمنات، لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولاً لحرّة من هذا الموسر فتاته المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته وكِلوا سرائرهنّ إلى اللّه ، فإن علم ذلك إلى اللّه دونكم، واللّه أعلم بسرائركم وسرائرهن.

القول في تأويل قوله تعالى: {فانْكِحُوهُنّ بإذْنِ أهْلِهِنّ وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بالمَعْرُوفِ}.

يعني بقوله جل ثناؤه: {فانْكِحُوهُنّ} فتزوّجوهنّ، وبقوله: {بإذْنِ أهْلِهنّ}: بإذن أربابهن وأمرهم إياكم بنكاحهنّ ورضاهم ويعني بقوله: {وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ}: وأعطوهنّ مهورهنّ: كما:

٧٣٢٨ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ} قال: الصداق.

ويعني بقوله {بالمَعْرُوفِ} على ما تراضيتم به مما أحلّ اللّه لكم وأباحه لكم أن تجعلوه مهورا لهن.

القول في تأويل قوله: {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ}.

يعني بقوله: {مُحْصَناتٍ} عفيفات، {غيرَ مُسافِحاتٍ} غير مزانيات، {ولا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ}

يقول: ولا متخذات أصدقاء على السفاح. وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كنّ في الجاهلية في العرب المعلنات بالزنا، والمتخذات الأخدان: اللواتي قد حبسن أنفسهنّ على الخليل والصديق للفجور بها سرّا دون الإعلان بذلك. ذكر من قال ذلك:

٧٣٢٩ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحَاتٍ وَلا مُتّخذَاتِ أخْدَانٍ} يعني: تنكحوهنّ عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية. {وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ} يعني: أخلاّء.

٧٣٣٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {غيرَ مُسافِحاتٍ} المسافحات: المعالنات بالزنا. {وَلاَ مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ} ذات الخليل الواحد

قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنا، ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك. فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها ما بَطَنَ}.

٧٣٣١ـ حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت داود يحدّث عن عامر، قال: الزنا زنيان: تزني بالخدن ولا تزني بغيره، وتكون المرأة شؤما. ثم قرأ: {مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ}.

٧٣٣٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: أما المحصنات: فالعفائف، فلتنكح الأمة بإذن أهلها محصنة، والمحصنات: العفائف، غير مسافحة، والمسافحة: المعالنة بالزنا، ولا متخذة صديقا.

٧٣٣٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ} قال: الخيلة يتخذها الرجل، والمرأة تتخذ الخليل.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٣٣٤ـ حدثنا بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ} المسافحة: البغيّ التي تؤاجر نفسها مَن عرض لها، وذات الخدن: ذات الخليل الواحد. فنهاهم اللّه عن نكاحهما جميعا.

٧٣٣٥ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {مُحْصَناتٍ غير مُسافِحَاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدانٍ} أما المحصنات، فهنّ الحرائر،

يقول: تزوّج حرّةوأما المسافحات: فهنّ المعلنات بغير مهروأما متخذات أخدان: فذات الخليل الواحد المسترّة به. نهى اللّه عن ذلك.

٧٣٣٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، قال: الزنا وجهان قبيحان، أحدهما أخبث من الاَخر: فأما الذي هو أخبثهما فالمسافحة التي تفجر بمن أتاها، وأما الاَخر فذات الخدن.

٧٣٣٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {مُحْصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ} قال: المسافح: الذي يَلْقَى المرأة فيفجُر بها، ثم يذهب وتذهب. والمخادن: الذي يقيم معها على معصية اللّه وتقيم معه، فذاك (الأخدان).

القول في تأويل قوله تعالى: {فإذَا أُحْصِنّ}.

اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: (فإذا أَحْصَنّ) بفتح الألف، بمعنى: إذا أسلمن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام.

وقرأه آخرون: {فإذَا أُحْصِنّ} بمعنى: فإذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإزواج.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب في قراءته الصواب. فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا في ذلك غير جائز إذ كانتا مختلفتي المعنى، وإنما تجوز القراءة بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني فقد أغفل¹ وذلك أن معنيـي ذلك وإن اختلفا فغير دافع أحدهما صاحبه، لأن اللّه قد أوجب على الأمة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم الحد، فقال صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْها كِتابَ اللّه وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها، ثُمّ إنْ عادتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّه وَلاَ يُثرّبْ عَلَيْها، ثُمّ إنْ عادَتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّه وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها، ثُمّ إنْ زنَتْ الرّابِعَةَ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّه ولْيَبِعها ولَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ)

وقال صلى اللّه عليه وسلم: (أقِيمُوا الحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ). فلم يخصص بذلك ذات زوج منهنّ ولا غير ذات زوج، فالحدود واجبة على موالي الإماء إقامتها عليهنّ إذا فجرن بكتاب اللّه وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما:

٧٣٣٨ـ حدثكم به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مالك بن أنس عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الأمة تزني ولم تحصن، قال: (اجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ ـ فقال في الثالثة أو الرابعة : فَبِعْهَا وَلَوْ بِضٍفِيرٍ) والضفير: الشعر.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل فذكر نحوه.

فقد بين أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الإماء هو ما كان قبل إحصانهنّ¹ فأما ما وجب من ذلك عليهنّ بالكتاب، فبعد إحصانهنّ؟ قيل له: قد بينا أن أحد معاني الإحصان: الإسلام، وأن الاَخر منه التزويج وأن الإحصان كلمة تشتمل على معان شتى، وليس في رواية من روى عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن الأمة تزنى قبل أن تحصن، بيان أن التي سئل عنها النبيّ صلى اللّه عليه وسلم هي التي تزنى قبل التزويج، فيكون ذلك حجة لمحتجّ في أن الإحصان الذي سنّ صلى اللّه عليه وسلم حدّ الإماء في الزنا هو الإسلام دون التزويج، ولا أنه هو التزويج دون الإسلام. وإذ كان لا بيان في ذلك، فالصواب من القول، أن كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامة الحدّ عليها، متزوّجة كانت أو غير متزوّجة، لظاهر كتاب اللّه والثابت من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إلا من أخرجه من جوب الحدّ عليه منهنّ بما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك تبين به صحة ما اخترنا من القراءة في قوله: {فإذَا أُحْصِنّ}. فإن ظنّ ظانّ أن في قول اللّه تعالى ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} دلالة على أن قوله: {فإذَا أُحْصِنّ} معناه: تزوّجن، إذ كان ذكر ذلك بعد وصفهنّ بالإيمان بقوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} وحسب أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج، مع ما تقدم ذلك من وصفهنّ بالإيمان، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فيتاتكم المؤمنات، فإذا هنّ آمن فإن أتين بفاحشة، فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب، فيكون الخبر بيانا عما يجب عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهنّ بعد البيان عما لا يجوز لناكحهنّ من المؤمنين من نكاحهنّ، وعمن يجوز نكاحه له منهنّ. فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام فغير جائز لأحد صرف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام، من أجل ما تقدّم من وصف اللّه إياهنّ بالإيمان غير أن الذي نختار لمن قرأ: (مُحْصَناتٍ غيَرَ مُسافِحاتٍ) بفتح الصاد في هذا الموضع أن يقرأ {فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ} بضم الألف، ولمن قرأ {مُحْصِناتٍ} بكسر الصاد فيه، أن يقرأ: (فإذَا أحْصَنّ) بفتح الألف، لتأتلف قراءة القارىء على معنى واحد وسياق واحد، لقرب قوله: (محصنات) من قوله: {فإذَا أُحْصِنّ} ولو خالف من ذلك لم يكن لحنا، غير أن وجه القراءة ما وصفت.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك نظير اختلاف القراء في قراءته،

فقال بعضهم: معنى قوله {فإذَا أُحْصِنّ}: فإذا أسلمن. ذكر من قال ذلك:

٧٣٣٩ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا بشر بن المفضل، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، أن ابن مسعود، قال: إسلامها إحصانها.

٧٣٤٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم أن سليمان بن مهران حدثه عن إبراهيم بن يزيد، عن همام بن الحرث: أن النعمان بن عبد اللّه بن مقرّن سأل عبد اللّه بن مسعود،

فقال: أَمَتي زنت؟ فقال: اجلدها خمسين جلدة! قال: إنها لم تحصن! فقال ابن مسعود: إحصانها إسلامها.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان بن مقرن سأل ابن مسعود عن أمة زنت وليس لها زوج،

فقال: إسلامها إحصانها.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أن النعمان قال: قلت لابن مسعود: أمتي زنت؟ قال: اجلدها، قلت: فإنها لم تحصن! قال: إحصانها إسلامها.

٧٣٤١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: كان عبد اللّه

يقول: إحصانها: إسلامها.

٧٣٤٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه تلا هذه الاَية: {فإذَا أُحْصِنّ} قال:

يقول: إذا أسلمن.

٧٣٤٣ـ حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا يحيـى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي، قال: قال عبد اللّه : الأمة إحصانها: إسلامها.

٧٣٤٤ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال مغيرة: أخبرنا عن إبراهيم أنه كان

يقول: {فإذَا أُحُصنّ}

يقول: إذا أسلمن.

حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا يحيـى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي، قال: الإحصان: الإسلام.

٧٣٤٥ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن برد بن سنان، عن الزهري، قال: جلد عمر رضي اللّه عنه ولائد أبكارا من ولائد الإمارة في الزنا.

٧٣٤٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فإذَا أُحْصِنّ}

يقول: إذا أسلمن.

٧٣٤٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن سالم والقاسم، قالا: إحصانها: إسلامها وعفافها، في قوله: {فإذَا أُحْصِنّ}.

وقال آخرون: معنى قوله: {فإذا أُحْصِنّ}: فإذا تزوّجن. ذكر من قال ذلك:

٧٣٤٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {فإذا أُحْصِنّ} يعني: إذا تزوّجن حرّا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {فإذَا أُحْصِنّ}

يقول: إذا تزوّجن.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة أن ابن عباس كان يقرأ: {فإذَا أُحْصِنّ}

يقول: تزوّجن.

٧٣٤٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ، وإحصان العبد أن ينكح الحرّة.

٧٣٥٠ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، أنه سمع سعيد بن جبير

يقول: لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوّج.

٧٣٥١ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {فإذَا أُحْصِنّ} قال: أحصنتهن البُعُولة.

٧٣٥٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإذا أُحْصِنّ} قال: أحصنتهن البعولة.

٧٣٥٣ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عياض بن عبد اللّه ، عن أبي الزناد أن الشعبي أخبره، أن ابن عباس أخبره أنه أصاب جارية له قد كانت زنت، وقال: أحصنتها.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل على قراءة من قرأ: {فإذَا أُحْصِنّ} بضمّ الألف، وعلى تأويل من قرأ: (فإذا أَحْصَنّ) بفتحها. وقد بينا الصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا.

القول في تأويل قوله تعالى: {فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ}:

يعني جل ثناؤه بقوله: {فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ}: فإن أتت فتياتكم، وهنّ إماؤكم، بعد ما أَحْصنّ باسلام، أو أحصنّ بنكاح بفاحشة، وهي الزنا، {فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ}

يقول: فعليهنّ نصف ما على الحرائر من الحدّ إذا هن زنين قبل الإحصان بالأزواج والعذاب الذي ذكره اللّه تبارك وتعالى في هذا الموضع هو الحدّ. وذلك النصف الذي جعله اللّه عذابا لمن أتى بالفاحشة من ازاء إذا هنّ أحصنّ خمسون جلدة، ونفي ستة أشهر، وذلك نصف عام، لأن الواجب على الحرّة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج: جلد مائة، ونفي حَوْل، فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي نصف سنة، وذلك الذي جعله اللّه عذابا للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة. كما:

٧٣٥٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ الَعذَابِ}.

٧٣٥٥ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ الَعذَابِ} خمسون جلدة، ولا نفي ولا رجم.

فإن قال قائل: وكيف {فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ} وهل يكون الجلد على أحد؟ قيل: إن معنى ذلك فلازم أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يلزم أبدان المحصنات، كما يقال: عليّ صلاة يوم، بمعنى: لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم، وعليّ الحجّ والصيام مثل ذلك، وكذلك عليه الحدّ بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه.

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ لَمِنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ}.

يعني تعالى ذكره بقوله ذلك: هذا الذي أبحت أيها الناس من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طولاً لنكاح المحصنات المؤمنات، أبحته لمن خشي العنت منكم دون غيره ممن لا يخشى العنت.

واختلف أهل التأويل في هذا الموضع،

فقال بعضهم: هو الزنا. ذكر من قال ذلك:

٧٣٥٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قوله: {لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ} قال: الزنا.

٧٣٥٧ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: ما ازْلَحَفّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلاً.

٧٣٥٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: العنت: الزنا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد بن يحيـى، قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: العنت: الزنا.

٧٣٥٩ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: ما ازلحفّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلاً، ذلك لمن خشي العنت منكم.

حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير نحوه.

٧٣٦٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ} قال: الزنا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي حماد، قال: حدثنا فضيل، عن عطية العوفي، مثله.

٧٣٦١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: {لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ} قال: الزنا.

٧٣٦٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيد، عن الشعبي وجويبر، عن الضحاك ، قالا: العنت: الزنا.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ} قال: العنت: الزنا.

وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تُعْنِتُهُ، وهي الحدّ.

والصواب من القول في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ}: ذلك لمن خاف منكم ضررا في دينه وبدنه. وذلك أن العنت هو ما ضرّ الرجل، يقال منه: قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتا: إذا أتى ما يضره في دين أو دنيا، ومنه قول اللّه تبارك وتعالى: {وَدّوا ما عَنِتّمْ} ويقال: قد أعنتني فلان فهو يعنتني: إذا نالني بمضرّة¹ العنت: الهلاك. فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا،

قالوا: الزنا ضرر في الدين، وهو من العنت. والذين وجهوه إلى الإثم،

قالوا: الاَثام كلها ضرر في الدين وهي من العنت. والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ، فإنهم

قالوا: الحدّ مضرّة على بدن المحدود في دنياه، وهو من العنت. وقد عمّ اللّه بقوله: {لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ} جميع معاني العنت، ويجمع جميع ذلك الزنا، لأنه يوجب العقوبة على صاحبه في الدنيا بما يعنت بدنه، ويكتسب به إثما ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهل التأويل الذي هم أهله، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذّة وقضاء شهوة فإنه بأدائه إلى العنت منسوب إليه موصوف به أن كان للعنت سببا.

القول في تأويل قوله تعالى: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

يعني جل ثناؤه بذلك: وأن تصبروا أيها الناس عن نكاح الإماء خير لكم، واللّه غفور لكم نكاح الإماء أن تنكحوهنّ على ما أحلّ لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبين اللّه ، رحيم بكم، إذ أذن لكم في نكاحهنّ عند الافتقاء وعدم الطول للحرة.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٣٦٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: عن نكاح الأمة.

٧٣٦٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن مجاهد: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: عن نكاح الإماء.

٧٣٦٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

يقول: وأن تصبرَ ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين فهو خير لك.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

يقول: وأن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم، وهو حلّ.

٧٣٦٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

يقول: وأن تصبروا عن نكاحهنّ، يعني: نكاح الإماء خير لكم.

٧٣٦٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: أن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم.

٧٣٦٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه: {وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: أن تصبروا عن نكاح الأمة خير لكم.

٧٣٦٩ـ حدثني عليّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وأنْ تَصْبرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال: وأن تصبروا عن الأمة خير لكم.

و(أن) في قوله: {وأنْ تَصْبرُوا} في موضع رفع بـ(خير)، بمعنى: والصبر عن نكاح الإماء خير لكم.

٢٦

القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيّنَ لَكُمْ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيّنَ لَكُمْ} حلاله وحرامه، {وَيهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يقول وليسددكم سنن الذين من قبلكم، يعني: سبل من قبلكم من أهل الإيمان باللّه وأنبيائه ومناهجهم، فيما حرم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وسائر ما حرم عليكم في الاَيتين اللتين بين فيهما ما حرم من النساء. {ويَتُوبَ عَلَيْكُمْ}

يقول: يريد اللّه أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك مما كنتم عيه من معصيته في فعلكم ذلك قبل الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحى إلى نبيه من ذلك عليكم، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم. {وَاللّه عَلِيمٌ}

يقول: واللّه ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم، وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذرون ما أحلّ أو حرّم عليهم حافظ ذلك كله عليهم، حكيم بتدبيره فيهم في تصريفهم فيما صرفهم فيه.

واختلف أهل العربية في معنى قوله: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيّنَ لَكُمْ}

فقال بعضهم: معنى ذلك، يريد اللّه هذا من أجل أن يبين لكم، وقال: ذلك كما قال: {وَأُمِرْتُ لاِءَعْدِلَ بَيْنُكُمْ} بكسر اللام، لأن معناه: أمرت بهذا من أجل ذلك.

وقال آخرون: معنى ذلك: يريد اللّه أن يبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم¹ و

قالوا: من شأن العرب التعقيب بين كي ولام كي وأن، ووضع كل واحدة منهنّ موضع كل واحدة من أختها مع أردت وأمرت، فيقولون: أمرتك أن تذهب ولتذهب، وأردت أن تذهب ولتذهب، كما

قال اللّه جلّ ثناؤه: {وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ}، وقال في موضع آخر: (وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ أوّلَ مَن أسْلَمَ)، وكما قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللّه }، ثم قال في موضع آخر: {يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا} واعتلوا في توجيههم (أن) مع (أمرت) و(أدت) إلى معنى (كي) وتوجيه (كي) مع ذلك إلى معنى (أن) لطلب (أردت) و(أمرت) الاستقبال، وأنها لا يصلح معها الماضي، لا يقال: أمرتك أن قمت ولا أردت أن قمت.

قالوا: فلما كانت (أن) قد تكون مع الماضي في غير (أردت) و(أمرت)، ذكروا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال، من (كي) واللام التي في معنى (كي)¹

قالوا: وكذلك جمعت العرب بينهنّ أحيانا في الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع:

أرَدْتَ لِكَيْما أنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِيفَتَتْرُكَهَا شَنّا بِبَيْدَاءَ بَلْقَعِ

فجمع بينهنّ لاتفاق معانيهنّ واختلاف ألفاظهنّ، كما قال الاَخر:

قدْ يَكْسِبُ المَالَ الهِدانُ الجافِيبغير لا عَصْفٍ ولا اصْطِرَافِ

فجمع بين (غير) و(لا)، توكيدا للنفي

قالوا: وإنما يجوز أن يجعل (أن) مكان كي، وكي مكان أن في الأماكن التي لا يصحب جالب ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل¹ فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال: ظننت ليقوم، ولا أظنّ ليقوم، بمعنى: أظنّ أن يقوم، لأن التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي من الفعل، يقال: أظنّ أن قد قام زيد ومع المستقبل ومع الأسماء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: إن اللام في قوله: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيّنَ لَكُمْ} بمعنى: يريد اللّه أن يبين لكم¹ لما ذكرت من علة من قال إن ذلك كذلك.

٢٧

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّه يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ...}.

يعني بذلك تعالى ذكره: واللّه يريد أني يراجع بكم طاعته، والإنابة إليه، ليعفو لكم عما سلف من آثامكم، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم من استحلالكم ما هو حرام عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم، وغير ذلك مما كنت تستحلونه وتأتونه، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي اللّه {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ}

يقول: يريد الذين يطلبون لذات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها، أن تميلوا عن أمر اللّه تبارك وتعالى، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه {مَيْلاً عَظِيما} جورا وعدولاً عنه شديدا.

واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم اللّه بأنه يتبعون الشهوات،

فقال بعضهم: هم الزناة. ذكر من قال ذلك:

٧٣٧٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ} قال: الزنا. {أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما} قال: يريدون أن تزنوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ أنْ تَميلُوا مَيْلاً عَظِيما} أن تكونوا مثلهم تزنون كما يزنون.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ} قال: الزنا. {أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما} قال: يزني أهل الإسلام كما يزنون

قال: هي كهيئة {وَدّوا لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن أبي زائدة، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ} قال: الزنا. {أنْ تَمِيلُوا} قال: أن تزنوا.

وقال آخرون: بل هم اليهود والنصارى. ذكر من قال ذلك:

٧٣٧١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ} قال: هم اليهود والنصارى¹ {أنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما}.

وقال آخرون: بل هم اليهود خاصة، وكانت إرادتهم من المسلمين اتباع شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب، وذلك أنهم يحلون نكاحهنّ، فقال اللّه تبارك وتعالى للمؤمنين: ويريد الذين يحللون نكاح الأخوات من الأب، أن تميلوا عن الحقّ، فتستحلوهنّ كما استحلوا.

وقال آخرون: معنى ذلك: كل متبع شهوة في دينه لغير الذي أبيح له. ذكر من قال ذلك:

٧٣٧٢ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ}.. الاَية، قال: يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، {أنْ تَمِيلُوا} في دينكم {مَيْلاً عَظِيما} تتبعون أمر دينهم، وتتركون أمر اللّه وأمر دينكم.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل، وطلاب الزنا، ونكاح الأخوات من الاَباء، وغير ذلك مما حرّمه اللّه أن تميلوا ميلاً عظيما عن الحقّ، وعما أذن اللّه لكم فيه، فتجوروا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرّم اللّه وترك طاعته، ميلاً عظيما.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن اللّه عزّ وجلّ عمّ بقوله: {ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبعُونَ الشّهَوَاتِ} فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك من غير وصفهم باتباع بعض الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالاَية ما دلّ عليه ظاهرها دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلاً في الذين يتبعون الشهوات اليهود والنصارى والزناة وكل متبع باطلاً، لأن كل متبع ما نهاه اللّه عنه فمتبع شهوة نفسه. فإذ كان ذلك بتأويل الاَية أولى، وجبت صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك.

٢٨

القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّه أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }.

يعني جلّ ثناأه بقوله: {يُرِيدُ اللّه أن يخَفّفَ عَنْكُمْ}: يريد اللّه أن ييسر عليكم بإذنه لكم في نكاح الفتيات المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولاً لحرّة. {وَخُلِقَ الإنْسانُ ضَعيفا}

يقول: يسر ذلك عليكم إذا كنتم غير مستطيعي الطول للحرائر، لأنكم خلقتم ضعفاء عجزة عن ترك جماع النساء قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات، عند خوفكم العنت على أنفسكم، ولم تجدوا طولاً لحرة لئلا تزنوا، لقلة صبركم على ترك جماع النساء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٣٧٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {يُرِيدُ اللّه أنْ يُخَفّفَ عَنْكُمْ} في نكاح الأمة، وفي كلّ شيء فيه يسر.

٧٣٧٤ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: {وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفا} قال: في أمر الجماع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: {وَخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفا} قال: في أمر النساء.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: {وَخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفا} قال: في أمور النساء، ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في النساء.

٧٣٧٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {يُرِيدُ اللّه أنْ يُخَفّفَ عَنْكُمْ} قال: رخص لكم في نكاح هؤلاء الإماء حين اضطرّوا إليهنّ، {وَخُلِقَ الإنْسانُ ضَعيفا} قال: لو لم يرخص له فيها لم يكن إلا الأمر الأول إذا لم يجد حرّة.

٢٩

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} صَدّقوا اللّه ورسوله، {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ}

يقول: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم اللّه عنها، إلا أن تكون تجارة. كما:

٧٣٧٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ، إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم} نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم، إلا أن تكون تجارة، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع.

٧٣٧٧ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا خالد الطحان، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ} قال: الرجل يشتري السلعة، فيردّها ويردّ معها درهما.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا بعد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب، ف

يقول: إن رضيته أخذته، وإلا رددته ورددت معه درهما، قال: هو الذي قال اللّه : {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ}.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء، فأما قِرًى فإنه كان محظورا بهذه الاَية، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: {لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَلا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ}.. الاَية. ذكر من قال ذلك:

٧٣٧٨ـ حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرمة والحسن البصريّ، قالا في قوله: {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضِ مِنْكُمْ}.. الاَية، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الاَية، فنسخ ذلك بالاَية التي في سورة النور،

فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتَكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أوْ بُيُوتِ أُمّهاتِكُمْ)... إلى قوله: {جَمِيعا أوْ أشْتاتا} فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجل من أهله إلى الطعام، ف

يقول: إني لأتجنح ـ والتجنح: التحرّج و

يقول: المساكين أحقّ مني به. فأحلّ من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه، وأحلّ طعام أهل الكتاب.

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي: وذلك أن اللّه تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا، فإن اللّه لم يحلّ قَطّ أكل الأموال بالباطل، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهيا عن أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الأمة جميعا وجها لها أن قرى الضيف، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام، التي حمد اللّه أهلها عليه وندبهم إليها، وإن اللّه لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل ندب اللّه عباده، وحثهم عليه، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل، لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخا بالإباحة. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه، من أن الباطل الذي نهى اللّه عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله، أو على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وشذّ ما خالفه.

واختلفت القراء في قراءة قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فقرأها بعضهم: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجاَرةٌ} رفعا بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو تقع تجارة عن تراض منكم، فيحلّ لكم أكلها حينئذٍ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه (أن تكون) تامة ههنا لا حاجة بها إلى خبر على ما وصفت¹ وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة. وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قراء الكوفيين: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً} نصبا، بمعنى: إلا أن تكون الأمْوَلُ التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم، فيحل لكم هنالك أكلها، فتكون الأموال مضمرة في قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ} والتجارة منصوبة على الخبر. وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما، لاستفاضتهما في قراءة الأمصار مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إليّ من قراءته بالرفع، لقوّة النصب من وجهين:

أحدهما: أنّ في تكون ذكرا من الأموال¹ والاَخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة، كان فصيحا في كلام العرب النصب، إذ كانت مبنية على اسم وخبر، فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر:

إذَا كانَ طَعْنا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقا

ففي هذه الاَية إبانة من اللّه تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات، واللّه تعالى

يقول: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}: اكتسابا أحلّ ذلك لها. كما:

٧٣٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُون تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} قال: التجارة رزق من رزق اللّه ، وحلال من حلال اللّه لمن طلبها بصدقها وبرّها، وقد كنا نحدّث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة.

وأما قوله: {عَنْ تَراضٍ} فإن معناه كما:

٧٣٨٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه تبارك وتعالى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا.

٧٣٨١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، قال: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (البَيْعُ عَنْ تَراضٍ، وَالخيارُ بَعْدَ الصّفْقَةِ، وَلا يَحِلّ لُمسْلمٍ أنْ يَغُشّ مُسْلِما).

٧٣٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: المماسحة بيع هي؟ قال: لا، حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع، إن شاء أخذ وإن شاء ترك.

واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة،

فقال بعضهم: هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ. ذكر من قال ذلك:

٧٣٨٣ـ حدثنا ابن بشار قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنى أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان، باع أحدهما من الاَخر بُرْنُسا،

فقال: إني بعت من هذا برنسا، فاسترضيته فلم يرضني. فقال: أرضه كما أرضاك! قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرض

قال: أرضه كما أرضاك! قال: قد أرضيته فلم يرض. فقال: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد اللّه بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح، قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريج، مثله.

٧٣٨٤ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة، عن جابر، قال: ثنى أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا

قال: قال أبو الضحى: كان شريح يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بنحوه.

٧٣٨٥ـ وحدثني الحسن بن يزيد الطحان، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون، قال: اشتريت من ابن سيرين سابريّا فسام عليّ سَوْمَة، فقلت: أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما زنت الثمن وضع الدراهم،

فقال: اختر إما الدراهم وإما المتاع! فاخترت المتاع فأخذته.

٧٣٨٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرّقا، فإذا تصادر فقد وجب البيع.

٧٣٨٧ـ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا سفيان بن دينار، عن طيسلة، قال: كنت في السوق، وعليّ رضي اللّه عنه في السوق، فجاءته جارية إلى بَيّعِ فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا! فأعطاها إياه. فقالت: لا أريده أعطني درهمي! فأبي، فأخذه منه عليّ فأعطاها إياه.

٧٣٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذونا ووجب له، ثم إن المبتاع ردّه قبل أن يتفرّقا، فقضى أنه قد وجب عليه. فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا قضى في مثله أن يرده على صاحبه، فرجع الشعبي إلى قضاء شريح.

٧٣٨٩ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا ادعى المشترى أنه قد أوجب له البيع، وقال البائع: لم أوجب له، قال شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما (ما) افترقتما عن بيع ولا تخاير.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: كان شريح

يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه باللّه ما تفرّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان

يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير.

وعلة من قال هذه المقالة ما:

٧٣٩٠ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن عبد اللّه ، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(كُلّ بَيّعَيْنِ فَلا بَيْعَ بَيْنَهُما حتى يَتَفَرّقا إلاّ أنْ يَكُونَ خِيارا).

٧٣٩١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: ثنى يحيـى بن أيوب، قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً يقو له: خيّرني! ثم

يقول: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يَفْتَرِقُ اثْنانِ إلاّ عَنْ رِضا).

٧٣٩٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا أهْلَ البَقِيعِ!) فسمعوا صوته، ثم قال: (يا أهْلَ البَقِيعِ!) فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: (يا أهْلَ البَقِيعِ لا يَتَفَرّقَنّ بَيّعانِ إلاّ عَنْ رِضا).

٧٣٩٣ـ حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ، قال: حدثنا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بايع رجلاً ثم قال له: (اخْتَرْ!) فقال: قد اخترت،

فقال: (هَكَذَا البَيْعُ).

قالوا: فالتجارة عن تراض هو ما كان على بينه النبي صلى اللّه عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق، أو ما تفرّقا عنه بأبدانهما، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.

وقال آخرون: بل التراضي في التجارة تواحب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.

وعلة من قال هذه المقالة: أن البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما، الذي جرى ذلك فيه

قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأوّلوا قول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (البَيّعانِ بالخيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا) على أنه ما لم يتفرقا بالقول. وومن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين: ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه¹ لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما:

٧٣٩٤ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(البَيّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا، أوْ يَكُونَ بَيْعُ خِيارٍ) وربما قال: (أوْ يَقُولُ أحَدُهُما للاَخَرِ اخْتَرْ).

فإذ كان ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صحيحا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه، ما لم يكن له مالكا، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه، فيقال له: أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء. أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع، ومعنى التخيير في تلك الحال، نظير معنى التخيير قبلها، لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم. أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذا فسد هذان المعنيان. وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن المعنى الاَخر من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أعني قوله: (ما لَمْ يَتَفَرَقّا) إنما هو التفرّق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده، وإذا صحّ ذلك، فسد قول من زعم أن معنى ذلك: إنما هو التفرّق بالقول الذي به يكون البيع. وإذا فسد ذلك صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال: معنى قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم، أو يخير بعضكم بعضا.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ إنّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيما}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} ولا يقتل بعضكم بعضا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٣٩٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ}

يقول: أهلَ ملتكم.

٧٣٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} قال: قتل بعضكم بعضا.

وأما قوله جل ثناؤه: {إنّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيما} فإنه يعني أن اللّه تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه، ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلاً وسلبا وغصبا.

٣٠

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً ...}.

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانا}

فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه، بمعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن عدوانا وظلما {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارا}. ذكر من قال ذلك:

٧٣٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء أرأيت قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانا وَظُلْما فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارا} في كل ذلك، أو في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ}؟ قال: بل في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ}.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرّمته عليه من أوّل هذه السورة إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلكَ} من نكاح من حرّمت نكاحه، وتعدّى حدوده، وأكل أموال الأيتام ظلما، وقتل النفس المحرّم قتلها ظلما بغير حقّ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مال أخيه المسلم ظلما بغير طيب نفس منه وقتل أخاه المؤمن ظلما، فسوف نصليه نارا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال معناه: ومن يفعل ما حرّم اللّه عليه من قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النّساءَ كَرْها}.. إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} من نكاح المحرّمات، وعضل المحرّم عضلها من النساء، وأكل المال بالباطل، وقتل المحرّم قتله من المؤمنين، لأن كل ذلك مما وعد اللّه عليه أهله العقوبة.

فإن قال قائل: فما منعك أن تجعل قوله: {ذَلِكَ} معنيا به جميع ما أوعد اللّه عليه العقوبة من أول السورة؟ قيل: منع ذلك أن كل فصل من ذلك قد قرن بالوعيد، إلى قوله: {أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابا ألِيما} ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم اللّه في الاَي التي بعده، إلى قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارا}. فكان قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} معنيا به ما قلنا مما لم يقرن بالوعيد مع إجماع الجميع على أن اللّه تعالى قد توعد على كل ذلك أولى من أن يكون معنيا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونا قبل ذلك.

وأما قوله: {عُدْوَانا} فإنه يعني به: تجاوزا لما أباح اللّه له إلى ما حرّمه عليه، {وَظُلْما} يعني: فعلاً منه ذلك بغير ما أذن اللّه به، وركوبا منه ما قد نهاه اللّه عنهوقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا}

يقول: فسوف نورده نارا يصلي بها فيحترق فيها. {وكانَ ذلكَ على اللّه يَسِيرا} يعني: وكان إصلاء فاعل ذلك النار وإحراقه بها على اللّه سهلاً يسيرا، لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاء بالوعيد لمن توعده على من كان إذا حاول الوفاء به قدر المتوعد من الامتناع منه، فأما من كان في قبضة موعده فيسير عليه إمضاء حكمه فيه والوفاء له بوعيده، غير عسير عليه أمر أراده به.

٣١

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...}.

اختلف أهل التأويل في معنى الكبائر التي وعد اللّه جل ثناؤه عباده باجتنابها تكفير سائر سيئاتهم عنهم،

فقال بعضهم: الكبائر التي قال اللّه تبارك وتعالى: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} هي ما تقدم اللّه إلى عباده بالنهي عنه من أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها. ذكر من قال ذلك:

٧٣٩٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه ، قال: الكبائر من أوّل سورة النساء إلى ثلاثين منها.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد اللّه بمثله.

حدثني المثنى، قال: حجاج، قال: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، مثله.

حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: ثنى علقمة، عن عبد اللّه ، قال: الكبائر من أوّل سورة النساء، إلى قوله: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.

حدثنا الرفاعي، قال: حدثنا أبو معاوية وأبو خالد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه قال: الكبائر من أوّل سورة النساء، إلى قوله: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَونْ عَنْهُ}.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: سئل عبد اللّه عن الكبائر، قال: ما بين فاتحة سورة النساء إلى رأس الثلاثين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، قال: الكبائر: ما بين فاتحة سورة النساء إلى ثلاثين آية منها: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد اللّه ، أنه قال: الكبائر من أوّل سورة النساء إلى الثلاثين منها: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.

٧٣٩٩ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة، سورة النساء، إلى هذا الموضع: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا شعبة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن ابن مسعود، قال: الكبائر من أوّل سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. ثم تلا: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مسعر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: قال عبد اللّه : الكبائر: ما بين أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين.

وقال آخرون: الكبائر سبع. ذكر من قال ذلك:

٧٤٠٠ـ حدثني تميم بن المنتصر، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة، وعليّ رضي اللّه عنه يخطب الناس على المنبر،

فقال: يا أيها الناس إن الكبائر سبع! فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا¹ يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرّم اللّه ، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت التعرب بعد الهجرة، كيف لحق ههنا؟ فقال: يا نبيّ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان.

٧٤٠١ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير، قال: الكبائر سبع ليس منهنّ كبيرة إلا وفيها آية من كتاب اللّه ، الإشراك باللّه منهنّ: {وَمَنْ يُشركْ باللّه فكأنّمَا خَرّ مِنَ السّماءِ}

و{الّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا}

وَ{الّذِينَ يأْكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إلاّ كمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطانُ مِنَ المَسّ}

و{الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِناتِ}،

والفرار من الزحف: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا زَحْفا فَلا تُوَلّوهُمُ الأدْبارَ}،

والتعرّب بعد الهجرة: {إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبِارِهمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى}، وقتل النفس.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير الليثي، قال:

الكبائر سبع: الإشراك بالله: {وَمَنْ يُشْرِكْ باللّه فَكأنّمَا خَرّ مِنَ السّمَاءِ فتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ}،

وقتل النفس: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ}.. الاَية،

وأكل الربا: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إلاّ كمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطانُ مِنَ المَسّ}.. الاَية،

وأكل أموال اليتامى: {إنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ اليَتامَى ظُلْما}.. الاَية،

وقذف المحصنة: {إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغَافِلاَتِ المؤمنات}.. الاَية،

والفرار من الزحف: {ومَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفا لِقِتَالٍ أوْ مُتَحَيّزا إلى فِئَةٍ} ... الاَية.

والمرتد أعرابيا بعد هجرته: {إنّ الّذِينَ ارْتَدّوا على أدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدَى} الاَية.

٧٤٠٢ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: سألت عبيدة عن الكبائر،

فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حَرّمَ اللّه بغير حقها، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان

قال: ويقولون أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون: فقلت لمحمد فالسحر؟ قال: إن البهتان يجمع شرّا كثيرا.

٧٤٠٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: الكبائر: الإشراك، وقتل النفس الحرام، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والمرتدّ أعرابيا بعد هجرته.

حدثني يعقوب، قال حدثنا هشيم، ققال: حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، بنحو.

وعلة من قال هذه المقالة ما:

٧٤٠٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: أخبرني الليث، قال: ثنى خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المجمر، قال: أخبرني صهيب مولى العتواري أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما،

فقال: (وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؟) ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثم أكبّ، فأكبّ كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف. ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر، فكان أحبّ إلينا من حمر النعم،

فقال: (ما مِنْ عَبْدٍ يُصَلّى الصّلَوَاتِ الخَمْسَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، ويُخْرِجُ الزّكاةَ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ السّبْعَ، إلاّ فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنّةِ، ثُمّ قِيلَ: ادْخُلْ بِسَلام).

٣٢

٧٤٠٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن شيخ من أهل مكة، قوله: {وَلا تَتَمَنّوْا مَا فَضّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضِ} قال: كان النساء يقلن: ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال، ونغزو في سبيل اللّه ! فقال اللّه : {وَلا تَتَمَنّوْا ما فَضّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْض}.

٧٤٠٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: تتمنى مال فلان ومال فلان، وما يدريك لعلّ هلاكه في ذلك المال.

٧٤٠٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا: نزلت في أمّ سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة.

٧٤٠٨ـ وبه قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: هو الإنسان

يقول: وددت أن لي مال فلان! قال: واسألوا اللّه من فضله، وقول النساء: ليتنا رجال فنغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يتمنّ بعضكم ما خصّ اللّه بعضا من منازل الفضل. ذكر من قال ذلك:

٧٤٠٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: {وَلا تَتَمَنّوْا ما فَضّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْض} فإن الرجال

قالوا: نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران، وقال النساء: نريد أن يكون لنا أجر مثل الرجال، فأنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأنزل اللّه تعالى الاَية، وقال لهم: سلوا اللّه من فضله، يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم.

٧٤١٠ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: نهيتم عن الأمانيّ، ودُللتم على ما هو خير منه، واسألوا اللّه من فضله.

٧٤١١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا، قال: قد نهاكم اللّه عن هذا، {وَلاَ تَتَمَنّوْا ما فَضّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْض} ودلكم على خير منه، واسألوا اللّه من فضله.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل: ولا تتمنوا أيها الرجال والنساء الذي فضل اللّه به بعضكم على بعض من منازل الفضل، ودرجات الخير وليرض أحدكم بما قسم اللّه له من نصيب، ولكن سلو اللّه من فضله.

القول في تأويل قوله تعالى: {للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وللنساء نصيب من ذلك مثل ذلك. ذكر من قال ذلك:

٧٤١٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلا تَتَمَنّوْا ما فَضّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ} كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصبيّ شيئا، وإنما يجعلون الميراث لمن يحترف وينفع ويدفع، فلما لحق للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه، وجعل للذكر مثل حظّ الأنثيين، قال النساء: لو كان جعل أنصباءنا في الميراث كأنصباء الرجال! وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الاَخرة، كما فضلنا عليهنّ في الميراث! فأنزل اللّه : {للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا، وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ}،

يقول: المرأة تجزى بحسنتها عشر أمثالها كما يجزي الرجل، قال اللّه تعالى: {واسألُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.

٧٤١٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنى أبو ليلى، قال: سمعت أبا جرير

يقول: لما نزل: {للذّكَر مِثْلَ حَظّ الأُنْثَيَيْنِ} قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث! فأنزل اللّه : {للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ} يعني الذنوب، واسألوا اللّه يا معشر النساء من فضله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منهم. ذكر من قال ذلك:

٧٤١٤ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ} يعني: ما ترك الوالدان والأقربون،

يقول: {للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيْنِ}.

٧٤١٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن أبي إسحاق، عن عكرمة أو غيره، في قوله: {للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ} قال: في الميراث كانوا لا يورّثون النساء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الاَية قول من قال معناه: للرجال نصيب من ثواب اللّه وعقابه مما اكتسبوا، فعملوه من خير أو شرّ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال.

وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الاَية من قول من قال تأويله: للرجال نصيب من الميراث، وللنساء نصيب منه، لأن اللّه جل ثناؤه أخبر أن لكلّ فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث، وإنما هو مال أورثه اللّه عن ميته بغير اكتساب، وإنما الكسب العمل، والمكتسب: المحترف، فغير جائز أن يكون معنى الاَية، وقد قال اللّه : {للرّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ} للرجال نصيب مما ورثوا، وللنساء نصيب مما ورثن¹ لأن ذلك لو كان كذلك لقيل: للرجال نصيب مما لم يكتسبوا، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن.

القول في تأويل قوله تعالى: {واسْئَلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: واسألوا اللّه من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته، ففضله في هذا الموضع: توفيقه ومعونته. كما:

٧٤١٦ـ حدثنا محمد بن مسلم الرازي، قال: حدثنا أبو جعفر النفيلي، قال: حدثنا يحيـى بن يمان، عن أشعث، عن سعيد: {وَاسْئلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ} قال: العبادة ليست من أمر الدنيا.

٧٤١٧ـ حدثنا محمد بن مسلم، قال: ثنى أبو جعفر، قال: حدثنا موسى، عن ليث، قال: فضله العبادة ليس من أمر الدنيا.

٧٤١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هشام، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: {وَاسْئَلُوا مِنْ فَضْلِهِ} قال: ليس بعرض الدنيا.

٧٤١٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {واسْئَلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ} يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم.

٧٤٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل لم يسمه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سَلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ فإنّهُ يُحِبّ أنْ يُسألَ، وإنّ مِنْ أفْضَلِ العِبادَةِ انْتِظارَ الفَرَج).

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه كانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيما}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه كان بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم {عَلِيما}

يقول: ذا علم، ولا تتنموا غير الذي قضى لكم، ولكن عليكم بطاعته والتسليم لأمره، والرضا بقضائه ومسئلته من فضله.

٣٣

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ...}

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ}: ولكلكم أيها الناس جعلنا موالي،

يقول: ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم. والعرب تسمي ابن العمّ المولى، ومنه قول الشاعر:

وَمَوْلًى رَمَيْنا حَوْلَهُ وَهُوَ مُدْغِلٌبِأعْرَاضِنا والمُنْدِياتُ سُرُوعُ

يعني بذلك: وابن عمّ رمينا حوله. ومنه قول الفضل بن العباس:

مَهْلاً بِنَى عَمّنا مَهْلاً مَوالِينالا تُظْهرِنّ لنَا ما كانَ مَدْفُونا

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٤٢١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا إدريس، قال: حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ} قال: ورثة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ} قال: الموالي: العصبة، يعني: الورثة.

٧٤٢٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: {وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ} قال: الموالي: العصبة.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قوله: {وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ} قال: هم الأولياء.

٧٤٢٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلِكُلّ جَعَلنا مَوَالِيَ}

يقول: عصبة.

٧٤٢٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ} قال: الموالي: أولياء الأب أو الأخ أو ابن الأخ أو غيرهما من العصبة.

٧٤٢٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ} أما موالي: فهم أهل الميراث.

٧٤٢٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ} قال: الموالي: العصبة هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم أسما، فقال اللّه تبارك وتعالى: {فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ} فسموا الموالي

قال: والمولى اليوم موليان: مولى يرث ويورث فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث فهؤلاء العَتَاقة¹ وقال: ألا ترون قول زكرياء: {وَإنّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائي}؟ فالموالي ههنا: الورثة ويعني بقوله: {مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ}: مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث.

فتأويل الكلام: ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم.

القول في تأويل قوله تعالى:{وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.

اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} بمعنى: والذين عقدت أيمانكم الحلف بينكم وبينهم، وهي قراءة عامة قراء الكوفيين. وقرأ ذلك آخرون: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) بمعنى: والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم الحلِف بينكم وبينهم.

قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة أمصار المسلمين بمعنى واحد وفي دلالة قوله: {أيمَانُكُمْ} على أنها أيمان العاقدين والمعقود عليهم الحلف، مستغنى عن الدلالة على ذلك بقراءة قوله (عقدت)، (عاقدت)، وذلك أن الذين قرءوا ذلك (عاقدت)،

قالوا: لا يكون عقد الحلف إلا من فريقين، ولا بدّ لنا من دلالة في الكلام على أن ذلك كذلك، وأغفلوا موضع دلالة قوله: (أيمانكم)، على أن معنى ذلك: أيمانكم وأيمان المعقود عليهم، وأن العقد إنما هو صفة للأيمان دون العاقدين الحلف، حتى زعم بعضهم أن ذلك إذا قرىء: {عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} فالكلام محتاج إلى ضمير صلة في الكلام حتى يكون الكلام معناه: والذين عقدت لهم أيمانكم ذهابا منه عن الوجه الذي قلنا في ذلك من أن الأيمان معنىّ بها أيمان الفريقين وأما (عاقدت أيمانكم)، فإنه في تأويل: عاقدت أيمان هؤلاء أيمان هؤلاء الحلف، فهما متقاربان في المعنى، وإن كانت قراءة من قرأ ذلك: {عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} بغير ألف، أصحّ معنى من قراءة من قرأه: (عَاقَدَتْ) للذي ذكرنا من الدلالة على المعنىّ في صفة الأيمان بالعقد على أنها أيمان الفريقين من الدلالة على ذلك بغيره.

وأما معنى قوله: {عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} فإنه وصلت وشدّتْ ووكّدت أيمانكم، يعني: مواثيقكم التي واثق بعضهم بعضا، فآتوهم نصيبهم.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى النصيب الذي أمر اللّه أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضا في الإسلام،

فقال بعضهم: هو نصيبه من الميراث لأنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون، فأوجب اللّه في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف، وبمثله في الإسلام من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية، ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات. ذكر من قال ذلك:

٧٤٢٧ـ حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرمة والحسن البصريّ، في قوله: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنّ اللّه كانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدا} قال: كان الرجل يحالف الرجل، ليس بنيهما نسب، فيرث أحدهما الاَخر، فنسخ اللّه ذلك في الأنفال،

فقال: {وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعضٍ في كِتابِ اللّه }.

٧٤٢٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قول اللّه : (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) قال: كان الرجال يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر رضي اللّه عنه مولى فورثه.

٧٤٢٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، ثني معاوية، عن علي بن طلحة، عن ابن عباس، قوله: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) فكان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الاَخر، فأنزل اللّه : {وأُلُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّه مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُهَاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُم مَعْرُوفا}

يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز ن ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.

٧٤٣٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنّ اللّه كَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدا) كان الرجل يعاقد الرجلَ في الجاهلية، ف

يقول: دمى دمك، وهَدَمي هَدَمُ، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك. فجعل له السدس من جميع المال في الإسلاك، ثم يقسم أهل الميرات ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال، فقال اللّه : {وأولُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّه }.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل ف

يقول: دمى دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك¹ فلما جاء الإسلام، بقي منهم ناس، فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث،

فقال: {وأولُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحاجاج بن المنهال، قال: حدثنا همام بن يحيـى، قال: سمعت قتادة يقول في قوله: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل في الجاهلية، ف

يقول: هدمى هدمك، ودمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك. فجعل له السدس من جميع المال، ثم يقتسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد الأنفال،

فقال: {وأولُوا الأرْحَامِ بَعْضَهُمُ أوْلَى بِبَعْضِ في كِتَابِ اللّه } فصارت المواريث لذوي الأرحام.

٧٤٣١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة، قال: هذا حلف كان في الجاهلية، كان الرجل يقول للرجل: ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتعقل عني وأعقل عنك.

٧٤٣٢ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) كان الرجل يتبع الرجل فيعاقده: إن متّ فلك مثل ما يرث بعض ولدي وهذا منسوخ.

٧٤٣٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدانِ والأقْرَبُونَ وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ) فإن الرجل في الجاهلية قد كان يلحق به الرجل، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه الميراث، وبقي تابعه ليس له شيء، فأنزل اللّه : (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) فكان يعطَى من ميراثه، فأنزل اللّه بعد ذلك: {وأُولُوا الأرْحامٍ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ في كِتاب اللّه }.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في الذين آخى بينهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فكان بعضهم يرث بعضا بتلك المؤاخات ثم نسخ اللّه ذلك بالفرائض، وبقوله: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِىَ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ}. ذكر من قال ذلك:

٧٤٣٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا إدريس بن يزيد، قال: حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوّة التي آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الاَية: {وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ} نسخت.

٧٤٣٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكْم) الذين عقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} إذا لم يأت رحم يحول بينهم، قال: وهو لا يكون اليوم، إنما كان في نفر آخى بينهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وانقطع ذلك، ولا يكون هذا لأحد إلا للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، كان آخى بين المهاجرين والأنصار واليوم لا يؤاخي بين أحد.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في أهل العقد بالحلف، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك دون الميراث. ذكر من قال ذلك:

٧٤٣٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا إدريس الأودي، قال: حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وَالّذِين عَقَدَتْ إيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ) من النصر والنصيحة والرفادة، ويوصي لهم، وقد ذهب الميراث.

٧٤٣٧ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} قال: كان حِلْفٌ في الجاهلية، فأمروا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والنصرة والمشورة، ولا ميراث.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد أنه قال في هذه الاَية: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من العون والنصر والخلف.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد في قوله اللّه : (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) قال: كان هذا حلفا في الجاهلية، فما كان الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والولاء والمشورة، ولا ميراث.

٧٤٣٨ـ حدثنا زكريا بن يحيـى بن أبي زائدة، قال: حدثنا حجاج، قال: ابن جريج: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) أخبرني عبد اللّه بن كثير أنه سمع مجاهدا

يقول: هو الحلف عقدت أيمانكم، قال: وأتوهم نصيبهم، قال: النصر.

٧٤٣٩ـ حدثني زكريا بن يحيـى، قال: حدثنا حجاج، قال: ابن جريج: أخبرني عطاء، قال: هو الحلف، قال: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: العقل والنصر.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول اللّه : (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) قال: لهم نصيبهم من النصر والرفادة والعقل..

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

٧٤٤٠ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ) قال: هم الحلفاء.

٧٤٤١ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا عباد بن العوّام، عن خصيف، عن عكرمة، مثله.

٧٤٤٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: (وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أما عاقدت أيمانكم فالحلف كان الرجل في الجاهلية ينزل في القوم فيحالفونه على أنه منهم يواسونه بأنفسهم، فإذا كان لهم حقّ أو قتال كان مثلهم، وإذا كان له حقّ أو نصرة خذلوه¹ فلما جاء الإسلام سألوا عنه، وأبي اللّه إلا أن يشدده، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَمْ يَزِدِ الإسْلامُ الحُلَفاءَ إلاّ شِدّةً).

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية، فأمروا بالإسلام أن يوصوا لهم عند الموت وصية. ذكر من قال ذلك:

٧٤٤٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثنى الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى سعيد بن المسيب، أن اللّه قال: (وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِىَ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالّذِينَ عاقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) قال سعيد بن المسيب: إنما نزلت هذه الاَية في الذين كانوا يتبنون رجالاً غير أبنائهم ويورثونهم، فأنزل اللّه فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، وردّ الميراث إلى الموالي في ذوي الرحم والعصبة، وأبي اللّه للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبّناهم، ولكن اللّه جعل لهم نصيبا في الوصية.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيَمانُكُمْ} قول من قال: والذين عقدت أيمانكم على المحالفة، وهم الحلفاء، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك. فإذ كان اللّه جل ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم، وكانت مؤاخاة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والأنصار، لم تكن بينهم بأيمانهم، وكذلك التبني كان معلوما أن الصواب من القول في ذلك قول من قال: هو الحلف دون غيره لما وصفنا من العلة.

وأما قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} فإن أولى التأويلين به، ما عليه الجميع مجمعون من حكمه الثابت، وذلك إيتاء أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الإسلام بعضهم بعضا أنصباءهم من النصرة والنصيحة والرأي دون الميراث، وذلك لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: (لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجَاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً).

٧٤٤٤ـ حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٧٤٤٥ـ وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل بن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وكُلّ حِلْف كانَ في الجاهِلِيَةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً، وَما يَسُرّني أنّ لي حُمْرَ النّعَمِ وأنّى نَقَضْتُ الحِلْفَ الّذِي كانَ فِي دَارِ النّدْوَةِ).

٧٤٤٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم الضبيّ: أن قيس بن عاصم سأل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن الحلف،

فقال: (لا حِلْفَ فِي الإسْلامِ، وَلَكنْ تَمَسّكُوا بِحِلْفِ الجاهِلِيّةِ).

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم أنه سأل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن الحلف قال: فقال: (ما كانَ مِنْ حِلْفِ فِي الجاهِلِيّةِ فَتَمَسّكُوا بِهِ وَلا حِلْفَ فِي الإسْلامِ).

٧٤٤٧ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن داود بن أبي عبد اللّه ، عن ابن جدعان، عمن حدثه، عن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(لا حِلْفَ فِي الإسْلامِ، وَما كانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الجاهِلِيّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً).

٧٤٤٨ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا حسين المعلم. وحدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: حسين المعلم. وحدثنا حاتم بن بكر الضبيّ، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن حسين المعلم، قال: حدثنا أبي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (فُوا بِحِلْفٍ، فإنّهُ لا يَزِيدُهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً، وَلا تُحْدِثُوا حِلْفا في الإسْلامِ).

٧٤٤٩ـ حدثنا أبو كريب وعبدة بن عبد اللّه الصفار، قالا: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا زكريا بن أبي زائدة قال: ثنى سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال:

(لا حِلْفَ فِي الإسْلامِ، وأيّمَا حِلْفٍ كانَ فِي الجاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدّةً).

٧٤٥٠ـ حدثنا حميد بن مسعدة ومحمد بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (شَهِدْتُ حِلْفَ المُطَيّبِينَ وأنا غُلامٌ مَعَ عُمُومَتِي، فَمَا أُحِبّ أنّ لي حُمْرَ النّعَمِ وأَنّي أنْكُثُهْ) زاد يعقوب في حديثه عن ابن علية، قال: وقال الزهري: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لَمْ يُصِبِ الإسْلامُ حِلْفا إلاّ زَادَهُ شِدّةً) قال: (ولا حِلْفَ في الإسْلامِ)، قال: وقد ألّف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين قريش والأنصار.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، قال: لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة عام الفتح، قام خطيبا في الناس،

فقال: (يا أيّها النّاسُ ما كانَ مِنْ حِلْف في الجاهِلِيّةِ فإنّ الإسْلامَ لَمْ يَزِدْهُ إلاّ شِدّةً، وَلا حِلْفَ فِي الإسْلام).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، نحوه.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا خالد بن مخلد، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحرث عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم نحوه.

فإذ كان ما ذكرنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صحيحا، وكانت الاَية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ ـ مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجوب حكمها ونفي النسخ عنه وجه صحيح إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في غير موضع من كتبنا الدلالة على صحة القول بذلك، فالواجب أن يكون الصحيح من القول في تأويل قوله: {وَالّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ} هو ما ذكرنا من التأويل، وهو أن قوله: {عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ} مِن الحلف،

وقوله: {فَآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ} من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي على ما أمره به من ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الأخبار التي ذكرناه عنه، دون قول من قال: معنى قوله: {فآتُوهُمْ نَصيبَهُمْ} من الميراث، وإن ذلك كان حكما، ثم نسخ بقوله: {وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتاب اللّه } دون ما سوى القول الذي قلناه في تأويل ذلك. وإذا صحّ ما قلنا في ذلك وجب أن تكون الاَية محكمة لا منسوخة.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه كانَ عَلى كُلّ شَيّءٍ شَهِيدا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي، فإن اللّه شاهد على ما تفعلون من ذلك وعلى غيره من أفعالكم، مراع لكل ذلك حافظ، حتى يجازي جميعكم على جميع ذلك جزاءه، أما المحسن منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى، وأما المسيء منكم المخالف أمري ونهى فبالسوأي. ومعنى قوله: {شَهِيدا}: ذو شهادة على ذلك.

٣٤

القول في تأويل قوله تعالى: {الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ ...}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساء}: الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن، فيما يجب عليهنّ لله ولأنفسهم¹ {بِمَا فَضّلَ اللّه بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}: يعني بما فضل اللّه به الرجال على أزواجهم من سوقهم إليهنّ مهورهنّ، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مؤنهن. وذلك تفضيل اللّه تبارك وتعالى إياهنّ عليهن، ولذلك صاروا قوّاما عليهنّ، نافذي الأمر عليهنّ فيما جعل اللّه إليهم من أمورهنّ.

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٤٥١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} يعني: أمراء عليها أن تطيعه فيما أمرها اللّه به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله وفضله عليها بنفقته وسعيه.

٧٤٥٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ بِمَا فَضّلَ اللّه بَعْضَهُمْ على بَعْض}

يقول: الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة اللّه ، فإن أبت، فله أن يضربها ضربا غير مبرّح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه.

٧٤٥٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {الرّجالُ قَوّامونَ على النّساءِ} قال: يأخذون على أيديهن ويؤدبونهنّ.

٧٤٥٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان،

يقول: {بِمَا فَضّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} قال: بتفضيل اللّه الرجال على النساء.

وذكر أن هذه الاَية نزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فقضى لها بالقصاص. ذكر من قال ذلك:

٧٤٥٥ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا الحسن: أن رجلاً لطم امرأته، فأتت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأراد أن يقصها منه، فأنزل اللّه : {الرّجالُ قَوّامُونَ على النساءِ بِمَا فَضّلَ اللّه بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} فدعاه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فتلاها عليه وقال: (أرَدْتُ أمْرا وأرَادَ اللّه غَيْرَهُ).

٧٤٥٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ بِمَا فَضّلَ اللّه بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} ذكر لنا أن رجلاً لطم امرأّه، فأتت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} قال: صكّ رجل امرأته، فأتت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأراد أن يقيدَها منه، فأنزل اللّه : {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ}.

٧٤٥٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن جرير بن حازم، عن الحسن، أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت: قوله: {وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْل أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ} ونزلت: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ بِمعا فَضّلَ اللّه بَعْضَهُمْ على بَعْض}.

٧٤٥٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لطم رجل امرأته، فأراد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم القصاص، فبينما هم كذلك، نزلت الاَية.

٧٤٥٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، أما: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ} فإن رجلاً من الأنصار كان بينه وبين امرأته كلام، فلطمها، فانطلق أهلها، فذكروا ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأخبرهم: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ}.. الاَية.

وكان الزهري

يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.

٧٤٦٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، سمعت الزهري،

يقول: لو أن رجلاً شجّ امرأته، أو جرحها، لم يكن عليه في ذلك قود وكان عليه العقل، إلا أن يعدو عليها فيقتلها، فيقتل بها.

وأما قوله: {وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} فإنه يعني: وبما ساقوا إليهنّ من صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة. كما:

٧٤٦١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: فضله علها بنفقته وسعيه.

٧٤٦٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، مثله.

٧٤٦٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان

يقول: {وبِمَا أنْفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ} بما ساقوا من المهر.

فتأويل الكلام إذًا: الرجال قوّامون على نسائهم بتفضيل اللّه إياهم عليهنّ وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم. و(ما) التي في قوله: {بِمَا فَضّلَ اللّه } والتي في قوله: {وبِمَا أنْفَقُوا} في معنى المصدر.

القول في تأويل قوله تعالى: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للْغَيْب بِما حَفِظَ اللّه }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فالصّالِحاتُ}: المستقيمات الدين، العاملات بالخير. كما:

٧٤٦٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: حدثنا عبد اللّه بن المبارك، قال: سمعت سفيان،

يقول: فالصالحات يعملن بالخير.

وقوله: {قانِتاتٌ} يعني: مطيعات لله ولأزواجهن. كما:

٧٤٦٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قوله: {قانِتاتٌ} قال: مطيعات.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {قانِتاتٌ} قال: مطيعات.

٧٤٦٦ـ حدثني عليّ عن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {قانِتاتٌ}: مطيعات.

٧٤٦٧ـ حدثنا الحسن بن معاذ، قال: ثا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {قانِتاتٌ}: أي مطيعات لله ولأزواجهنّ.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: مطيعات.

٧٤٦٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: القانتات: المطيعات.

٧٤٦٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: {قانِتاتٌ} قال: مطيعات لأزواجهن.

وقد بينا معنى القنوت فيما مضى وأنه الطاعة، ودللنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: {حافِظاتٌ للغَيْب} فإنه يعني: حافظات لأنفسهنّ عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهنّ من حقّ اللّه في ذلك وغيره. كما:

٧٤٧٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {حافِظاتٌ للغَيْبِ}

يقول: حافِظات لما استودعهنّ اللّه من حقه، وحافظات لغيب أزواجهن.

٧٤٧١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمعا حَفِظَ اللّه }

يقول: تحفظ على زوجها ماله وفرجها، حتى يرجع كما أمرها اللّه .

٧٤٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما قوله: {حافِظاتٌ للغَيْبِ}؟ قال: حافظات للزوج.

حدثني زكريا بن يحيـى بن أبي زائدة، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: سألت عطاء، عن{حافِظاتٌ للغَيْبِ} قال: حافظات للأزواج.

٧٤٧٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان

يقول: {حافِظاتٌ للغَيْبِ}: حافظات لأزواجهن لما غاب من شأنهنّ.

٧٤٧٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا أبو معشر، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(خَيْرُ النّساءِ امْرأةٌ إذَا نَظَرْتَ إلَيْها سَرّتْكَ، وإذَا أمَرْتَها أطاعَتْكَ، وَإذَا غِبْتَ عَنْها حَفِظَتْكَ فِي نَفْسِها وَمالِكَ) قال: ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {الرّجالُ قَوّامُونَ على النّساءِ}.. الاَية.

قال أبو جعفر: وهذا الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحات في أديانهنّ، مطيعات لأزواجهنّ، حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم.

وأما قوله: {بِمَا حَفظَ اللّه } فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأته عامة القراء في جميع أمصار الإسلام: {بِما حَفِظَ اللّه } برفع اسم اللّه على معنى: بحفظ اللّه إياهنّ إذ صيرهن كذلك. كما:

٧٤٧٥ـ حدثني زكريا بن يحيـى بن أبي زائدة، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: سألت عطاء، عن قوله: {بِمَا حَفِظَ اللّه } قال:

يقول: حفظهنّ اللّه .

٧٤٧٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: {بِمَا حَفِظَا اللّه } قال: بحفظ اللّه إياها أنه جعلها كذلك.

وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني: (بِمَا حَفِظَ اللّه ) يعني: بحفظهنّ اللّه في طاعته، وأداء حقه بما أمرهنّ من حفظ غيب أزواجهنّ، كقول الرجل للرجل: ما حفظت اللّه في كذا وكذا، بمعنى: راقبته ولاحظته.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما جاءت به قراءة المسلمين من القراءة مجيئا يقطع عذر من بلغه ويثبت عليه حجته، دون ما انفرد به أبو جعفر فشذّ عنهم، وتلك القراءة ترفع اسم اللّه تبارك وتعالى: {بِمَا حَفِظَ اللّه } مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب، وقبح نصبه في العربية لخروجه عن المعروف من منطق العرب. وذلك أن العرب لا تحذف الفاعل مع المصادر من أجل أن الفاعل إذا حذف معها لم يكّن للفعل صاحب معروف. وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره ومعناه: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْب بِمَا حَفِظَ اللّه } فأحسنوا إليهنّ وأصلحوا، وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود.

٧٤٧٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حدثنا عيسى الأعمي، عن طلحة بن مصرف، قال: في قراءة عبد اللّه : (فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ للْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه فأصلحوا إليهنّ واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ).

٧٤٧٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه } فأحسنوا إليهنّ.

٧٤٧٩ـ حدثني عليّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه } فأصلحوا إليهنّ.

حدثني عليّ بن داود، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {فالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ للغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّه } يعني إذا كنّ هكذا، فأصلحوا إليهنّ.

القول في تأويل قوله: {واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ فعظُوهُنّ}.

اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {واللاّتِي تخافُونَ نُشُوزَهُنّ}

فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهنّ. ووجه صرف الخوف في هذا الموضع إلى العلم في قول هؤلاء نظير صرف الظنّ إلى العلم لتقارب معنييهما، إذ كان الظنّ شكا، وكان الخوف مقرونا برجاء، وكانا جميعا من فعل المرء بقلبه، كما قال الشاعر:

وَلا تَدْفِنَنّـي فِي الفَلاةِ فانّنِيأخافُ إذَا ما مِتّ أنْ لا أذُوقُها

معناه: فإنني أعلم، وكما قال الاَخر:

أتانِي كَلامٌ عَنْ نُصَيْب يَقُولُهُوَما خِفْتُ يا سَلاّمُ أنّكَ عائِبي

بمعنى: وما ظننت.

وقال جماعة من أهل التأويل: معنى الخوف في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف الرجاء.

قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه، ويدخلن ويخرجن، واستربتم بأمرهنّ، فعظوهنّ واهجروهنّ. وممن قال ذلك محمد بن كعب.

وأما قوله: {نُشُوزَهُنّ} فإنه يعني: استعلاءهنّ على أزواجهنّ، وارتفاعهنّ عن فرشهم بالمعصية منهنّ، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضا منهنّ وإعراضا عنهم وأصل النشوز الارتفاع، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نَشْز ونَشَاز. {فَعِظُوهُنّ}

يقول: ذكروهنّ اللّه ، وخوفوهنّ وعيده في ركوبها ما حرّم اللّه عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال: النشوز: البغض ومعصية الزوج:

٧٤٨٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} قال: بعضهنّ.

٧٤٨١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} قال: التي تخاف معصيتها

قال: النشوز: معصيته وخلافه.

٧٤٨٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {واللاّتي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} تلك المرأة تنشز وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره.

٧٤٨٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: النشوز: أن تحب فراقه، والرجل كذلك. ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله: {فَعِظُوهُنّ}:

٧٤٨٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فَعِظُوهنّ} يعني: عظوهن بكتاب اللّه ، قال: أمره اللّه إذا نشزت أن يعظها ويذكرها اللّه ويعظم حقه عليها.

٧٤٨٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {واللاّتي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ} قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها: اتقي اللّه وارجعي إلى فراشك، فإن أطاعته فلا سبيل له عليها.

٧٤٨٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه،

يقول: يأمرها بتقوى اللّه وطاعته.

٧٤٨٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إذا رأى الرجل خفّة في بصرها في مدخلها ومخرجها، قال: يقول لها بلسانه: قد رأيت منك كذا وكذا فانتهى! فإن أعَتَبتْ فلا سبيل له عليها، وإن أبت هجر مضجعها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {فَعِطُوهُنّ} قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، فإنه يقول لها: اتقي اللّه وارجعي.

٧٤٨٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء: {فَعِظُوهُنّ} قال: بالكلام.

٧٤٨٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: {فَعِظُوهُنّ} قال بالألسنة.

٧٤٩٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: {فَعِظُوهُنّ} قال: عظوهن باللسان.

القول في تأويل قوله تعالى: {واهْجُروهُنّ فِي المَضَاجِع}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم أيها الأزواج، فإن أبين مراجعة الحق في ذلك والواجب عليهم لكم، فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن. ذكر من قال ذلك:

٧٤٩١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {فَعِظُوهُنّ واهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} يعني: عظوهن، فإن أطعنكم وإلا فاهجروهن.

٧٤٩٢ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} يعني بالهجران أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها.

٧٤٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: الهجر: هجر الجماع.

٧٤٩٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما {تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ} فإن على زوجها أن يعظها، فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع.

يقول: يرقد عندها ويوليها ظهره، ويطؤها ولا يكلمها. هكذا في كتابي: (ويطؤها ولا يكلمها).

٧٤٩٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} قال: يضاجعها ويهجر كلامها ويوليها ظهره.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} قال: لا يجامعها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجروهن واهجروا كلامهن في تركهنّ مضاجعتكم، حتى يرجعن إلى مضاجعتكم. ذكر من قال ذلك:

٧٤٩٦ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد اللّه ، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} أنها لا تترك في الكلام، ولكن الهجران في أمر المضجع.

٧٤٩٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ}

يقول: حتى يأتين مضاجعكم.

٧٤٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ}: في الجماع.

٧٤٩٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ} قال: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد.

٧٥٠٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِع} الكلام والحديث.... ذكر من قال ذلك:

٧٥٠١ـ حدثني الحسن بن زريق الطهوى، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن منصور، عن مجاهد في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجع} قال: لا تضاجعوهنّ.

٧٥٠٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: الهجران أن لايضاجعها.

٧٥٠٣ـ وبه قال حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر وإبراهيم، قالا: الهجران في المضجع أن لا يضاجعها على فراش.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي، أنهما قالا في قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قالا: يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحبّ.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما كانا يقولان: {وَاهْجُرُوهُن في المَضاجِعِ} قال: يهجرها في المضجع.

٧٥٠٤ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: حدثنا شريك، عن خصيف، عن مقسم: {وَاهْجُروهُنّ في المَضاجِعِ} قال: هجرها في مضجعها: أن لا يقرب فراشها.

٧٥٠٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: اهجروهنّ في المضاجع، قال: يعظها بلسانه، فإن أعتبتْ فلا سبيل له عليها، وإن أبت هجر مضجعها.

٧٥٠٦ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: {فَعِظُوهُنّ واهْجُرُوهُنّ} قالا: إذا خاف نشوزها وعظها، فإن قبلت وإلا هجر مضجعها.

٧٥٠٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قال: تبدأ يا ابن آدم فتعظها، فإن أبت عليك فاهجرها، يعني به: فراشها.

وقال آخرون: معنى قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قولوا لهنّ من القول هُجْرا في تركهنّ مضاجعتكم. ذكر من قال ذلك:

٧٥٠٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} قال: يهجرها بلسانه، ويغلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها.

٧٥٠٩ـ وبه قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن عكرمة، قال: إنما الهجران بالمنطق أن يغلظ لها، وليس بالجماع.

٧٥١٠ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن أبي الضحى، في قوله: {واهْجُرُهُنّ في المَضاجِعِ} قال: يهجر بالقول، ولا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد.

٧٥١١ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن رجل، عن الحسن، قال: لا يهجرها إلا في المبيت في المضجع، ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش.

٧٥١٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثني يعلى، عن سفيان، في قوله: {واهْجُرُهُنّ في المَضاجِعِ} قال: في مجامعتها، ولكن يقول لها: تعالَيْ وافعلي! كلاما فيه غلظة، فإذا فعلت ذلك فلا يكلفها أن تحبه، فإن قلبها ليس في يديها.

ولا معنى للهجر في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة أوجه: أحدها هجر الرجل كلام الرجل وحديثه، وذلك رفضه وتركه، يقال منه: هجر فلان أهله يهجُرها هجرا وهجرانا. والاَخر: الإكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازيء، يقال منه: هجر فلان في كلامه يهجُر هجرا إذا هَذَي ومدّد الكلمة، وما زالت تلك هِجّيراه وإهْجِيراه، ومنه قول ذي الرمة:

رمى فأخْطَأ والأقْدارُ غالِبَةٌفانْصَعْنَ والوَيْلُ هِجّيراهُ والحَربُ

والثالث: هَجَرَ البعير إذا ربطه صاحبه بالهِجَار، وهو حبل يربط في حُقويها ورسغها، ومنه قول امرىء القيس:

رأتْ هَلَكا بِنِجَافِ الغَبِيطِفَكادَتْ تَجُدّ لِذَاك الهِجارَا

فأما القول الذي فيه الغلظة والأذى فإنما هو الإهجار، ويقال منه: أهجر فلان في منطقه: إذا قال الهُجْرَ وهو الفحش من الكلام، يُهْجِرُ إهجارا وهُجْرا. فإذ كان لا وجه للهَجْر في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة، وكانت المرأة المخوف نشوزها إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه، فغير جائز أن تكون عظته لذلك، ثم تصير المرأة إلى أمر اللّه وطاعة زوجها في ذلك، ثم يكون الزوج مأمورا بهجرها في الأمر الذي كانت عظته إياها عليه. وإذ كان ذلك كذلك بطل قول من قال: معنى قوله: {واهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ} وَاهجروا جماعهنّ. أو يكون إذ بطل هذا المعنى. بمعنى: واهجروا كلامهنّ بسبب هجرهنّ مضاجعكم، وذلك أيضا لا وجه له مفهوم لأن اللّه تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم أنه لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث. على أن ذلك لو كان حلالاً لم يكن لهجرها في الكلام معنى مفهوم، لأنها إذا كانت عنه منصرفة وعليه ناشزا فمن سرورها أن لا يكلمها ولا يراها ولا تراه، فكيف يؤمر الرجل في حال بغض امرأته إياه وانصرافها عنه بترك ما في تركه سرورها من ترك جماعها ومجاذبتها وتكليمها، وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته إذا دعاها إلى فراشه، وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه؟ أو يكون إذ فسد هذان الوجهان يكون معناه: واهجروا في قولكم لهم، بمعنى: ردّوا عليهنّ كلامكم إذا كلمتموهنّ بالتغليظ لهنّ، فإن كان ذلك معناه، فلا وجه لإعمال الهجر في كناية أسماء النساء الناشزات، أعني في الهاء والنون من قوله {وَاهْجُرُوهُنّ}، لأنه إذا أريد به ذلك المعنى، كان الفعل غير واقع، إنما يقال: هجر فلان في كلامه ولا يقال: هجر فلان فلانا.

فإذا كان في كل هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق، فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يكون قوله: {وَهْجُرُوهُنّ} موجها معناه إلى معنى الربط بالهجار على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا: هَجَرَه فهو يهجره هَجْرا. وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام: واللاتي تخافون نشزوهنّ، فعظوهنّ في نشوزهنّ عليكم، فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهنّ، وإن أبين الأوبة من نشوزهنّ فاستوثقوا منهنّ رباطا في مضاجعهنّ، يعني في منازلهنّ وبيوتهنّ التي يضطجعن يها ويضاجعن فيها أزواجهن. كما:

٧٥١٣ـ حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا يحيـى بن أبي بكير، عن شبل، قال: سمعت أبا قزعة يحدث عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال: ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: (يُطْعِمُها وَيَكْسُوها، وَلا يَضْرِبِ الوَجْهَ وَلا يُقْبّحْ وَلا يَهْجُرْ إلاّ فِي البيت).

حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا يزيد، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية عن أبيه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، نحوه.

٧٥١٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا بهز بن حكيم، عن جده، قال: قلت: يا رسول اللّه ، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟

قال: (حَرْثُكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أنّى شِئْتَ، غيرَ أنْ لا تَضْرِبَ الوَجْهَ وَلا تُقَبّحْ وَلا تَهْجُرْ إلاّ فِي البيت وأطْعِمْ إذَا طَعِمْتَ واكْسُ إذَا اكْتَسَيْتَ كَيْفَ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلا بَعْض إلاّ بِمَا حَلّ عَلَيْها؟).

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال عدة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٥١٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن الحسن، قال: إذا نشزت المرأة على زوجها، فليعظها بلسانه، فإن قبلت فذاك وإلا ضربها ضربا غير مبرّح، فإن رجعت فذاك، وإلا فقد حلّ له أن يأخذ منها ويخليها.

٧٥١٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد اللّه ، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله: {وَاهْجُرُهُنّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ} قال: يفعل بها ذاك ويضربها حتى تطيعه في المضاجع، فإذا أطاعته في المضجع فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.

٧٥١٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا يحيـى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول في قوله: {وَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ} ضربا غير مبرّج، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اضْرِبُوهُنّ إذَا عَصَيْنَكُمْ فِي المَعْرُوفِ ضَرْبا غيرَ مُبَرّح).

قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا قولهم لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب، ولم يوجبوا هجرا إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه أمر بضربهنّ إذا عصين أزواجهنّ في المعروف من غير أمر منه أزواجهنّ بهجرهنّ لما وصفنا من العلة.

فإن ظنّ ظانّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الذي رواه عكرمة، ليس كما قلنا، وصحّ أن ترك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أمر الرجل بهجر زوجته إذا عصيته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر، لو كان دليلاً على صحة ما قلنا من أن معنى الهجر هو ما بيناه، لوجب أن يكون لا معنى لأمر اللّه زوجها أن يعظها إذا هي نشزت، إذ كان لا ذكر للعظة في خبر عكرمة عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ وذلك أن قوله صلى اللّه عليه وسلم: (إذَا عَصيْنَكُمْ في المَعْروفِ) دلالة بينة أنه لم يبح للرجل ضرب زوجته إلا بعد عظتها من نشزوها، وذلك أنه لا تكون له عاصية، إلا وقد تقدم منه لها أمر أو عظة بالمعروف على ما أمر اللّه تعالى ذكره به.

القول في تأويل قوله تعالى: {واضْرِبُوهُنّ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فعظوهنّ أيها الرجال في نشزوهنّ، فإن أبين الأياب إلى ما يلزمهنّ لكم فشدّوهنّ وثاقا في منازلهنّ، واضربوهنّ ليؤبن إلى الواجب عليهنّ من طاعة اللّه في اللازم لهنّ من حقوقكم.

قول أهل التأويل: صفة الضرب التي أبام اللّه لزوج الناشز أن يضربها الضرب غير المبرّح. ذكر من قال ذلك:

٧٥١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: أخبرنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، مثله.

٧٥١٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: الضرب غير المبرّح.

٧٥٢٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {واضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.

٧٥٢١ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ} واضربوهنّ، قال: تهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن اللّه لك أن تضربها ضربا غير مبرّح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت، وإلا فقد حلّ لك منها الفدية.

٧٥٢٢ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: {واضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.

٧٥٢٣ـ وبه قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: {واضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.

٧٥٢٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {واهْجُرُوهُنّ في المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنّ} قال: تهجرها في المضجع، فإن أبت عليك فاضربها ضربا غير مبرّح أي غير شائن.

٧٥٢٥ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن جرج، عن عطاء، قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح، قال: السواك وشبهه يضربها به.

حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّج؟ قال: بالسواك ونحوه.

٧٥٢٦ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في خطبته: (ضَرْبا غيرَ مُبَرّحٍ) قال: السواك ونحوه.

٧٥٢٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا تَهْجُرُوا النّساءَ إلاّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْبا غيرَ مُبَرّحٍ)

يقول: غير مؤثر.

٧٥٢٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.

٧٥٢٩ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا حبان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا يحيـى بن بشر، عن عكرمة مثله.

٧٥٣٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: إن أقبلت في الهجران، وإلا ضَرَبها ضربا غير مبرّح.

٧٥٣١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، قال: تهجر مضجعها ما رأيت أن تنزع، فإن لم تنزع ضربها ضربا غير مبرّح.

٧٥٣٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: {وَاضْرِبُوهُنّ} قال: ضربا غير مبرّح.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل، عن الحسن، قال: ضربا غير مبرّح، غير مؤثر.

القول في تأويل قوله تعالى: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن أطعنكم أيها الناس نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهنّ عند وعظكم إياهنّ فلا تهجروهنّ في المضاجع، فإن لم يطعنكم فاهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ، فإن راجعن طاعتكم عند ذلك وفئن إلى الواجب عليهنّ، فلا تطلبوا طريقا إلى أذاهنّ ومكروههنّ، ولا تلتمسوا سبيلاً إلى ما لا يحلّ لكم من أبدانهنّ وأموالهنّ بالعلل، وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة: إنك لست تحبيني وأنت لي مبغضة، فيضربها على ذلك أو يؤذيها، فقال اللّه تعالى للرجال: {فإنْ أطَعْنَكُمْ}: أي على بغضهن لكم فلا تجنوا عليهنّ، ولا تكلفوهنّ محبتكم، فإن ذلك ليس بأيديهنّ فتضربوهنّ أو تؤذوهنّ عليه. ومعنى قوله: {فَلا تَبْغوا}: لا تلتمسوا ولا تطلبوا، من قول القائل: بغيت الضالة: إذا التمستها، ومنه قول الشاعر في صفة الموت:

بَغاكَ وَما تَبْغِيهِ حتى وَجَدْتَهُكأنّكَ قدْ وَاعَدْتَهُ أمسِ مَوْعِدا

بمعنى: طلبك وما تطلبه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٥٣٣ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهنّ سَبيلاً} قال: إذا أطاعتك فلا تتجنّ عليها العلل.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد اللّه ، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: إذا أطاعته فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.

٧٥٣٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قوله: {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً} قال: العلل.

٧٥٣٥ـ وقال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال الثوري في قوله: {فإنْ أطَعْنَكُمْ} قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه.

٧٥٣٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يعلي، عن سفيان، قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لأن قلبها ليس في يديها.

٧٥٣٧ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن أطاعته فضاجعته، فإن اللّه

يقول: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً}.

٧٥٣٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً}

يقول: فإن أطاعتك فلا تبغ عليها العلل.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه كانَ عَليّا كَبِيرا}.

يقول: إن اللّه ذو علوّ على كلّ شيء، فلا تبغوا أيها الناس على أزواجكم إذا أطعنكم فيما ألزمهنّ اللّه لكم من حقّ سبيلاً لعلوّ أيديكم على أيديهنّ، فإن اللّه أعلى منكم ومن كلّ شيء، وأعلى منكم عليهن، وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا اللّه أن تظلموهنّ وتبغوا عليهنّ سبيلاً وهن لكم مطيعات، فينتصر لهنّ منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كلّ شيء.

٣٥

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ...}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما} وإن علمتم أيها الناس شقاق بينهما، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه، وهو إتيانه ما يشقّ عليه من الأمور، فأما من المرأة فالنشوز، وتركها أداء حقّ اللّه عليها الذي ألزمها اللّه لزوجها وأما من الزوج فتركه إمساكها بالمعروف، أو تسريحها بإحسان. والشقاق: مصدر من قول القائل: شاق فلان فلانا: إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشقّ عليه من الأمور، فهو يشاقه مشاقة وشقاقا¹ وذلك قد يكون عداوة، كما:

٧٥٣٩ـ حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما} قال: إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقّته،

يقول: عادته.

وإنما أضيف الشقاق إلى البين، لأن البين قد يكون اسما، كما قال جلّ ثناؤه: (لَقدْ تقطّعَ بَيْنُكُمْ) في قراءة من قرأ ذلك.

وأما قوله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وحَكَما مِنْ أهْلِها} فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الاَية من المأمور ببعثة الحكمين،

فقال بعضهم: المأمور بذلك: السلطان الذي يرفع ذلك إليه. ذكر من قال ذلك:

٧٥٤٠ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل بها كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا، فأيهما كان الظالم ردّه السلطان وأخذ فوق يديه، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع.

٧٥٤١ـ حدثنا يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : { وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما، فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} قال: بل ذلك إلى السلطان.

وقال آخرون: بل المأمور بذلك الرجل والمرأة. ذكر من قال ذلك:

٧٥٤٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَإنْ خِفُتمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِه وَحَكَما مِنْ أهْلِها} إن ضربها فإن رجعت فإنه ليس له عليها سبيل، فإن أبت أن ترجع وشاقته، فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها.

ثم اختلف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وجه بعثهما بينهما؟

فقال بعضهم: يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما، وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به، أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه، أو توكيل من وكل منهما في ذلك. ذكر من قال ذلك:

٧٥٤٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة، قال: جاء رجل وامرأته بينهما شقاق إلى عليّ رضي اللّه عنه، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال عليّ رضي اللّه عنه: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرّقا أن تفرّقا. قالت المرأة: رضيت بكتاب اللّه بما عليّ فيه ولى

وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ رضي اللّه عنه: كذبتَ، واللّه لا تنقلب حتى تقرّ بمثل الذي أقرّت به.

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا هشام بن حسان، وعبد اللّه بن عون، عن محمد: أن عليا رضي اللّه عنه أتاه رجل وامرأته، ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهما عليّ رضي اللّه عنه أن يبعثا حكما من أهله وحكما من أهلها لينظرا. فلما دنا منه الحكمان، قال لهما عليّ رضي اللّه عنه: أتدريان مالكما؟ لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. قال هشام في حديثه: فقالت المرأة: رضيت بكتاب اللّه لي وعليّ فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ: كذبت واللّه حتى ترضى مثل ما رضيت به

وقال ابن عون في حديثه: كذبت، واللّه لا تبرح حتى ترضى بمثل ما رضيت به.

٧٥٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: شهدت عليا رضي اللّه عنه، فذكر مثله.

٧٥٤٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: إذا هجرها في المضجع وضربها، فأبت أن ترجع وشاقته، فليبعث حكما من أهله وتبعث حكما من أهلها¹ تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري، فإن أمرتني أن أرجع رجعت، وإن فرّقت تفرّقنا. وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئا من الأشياء، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق. ويبعث الرجل حكما من أهله يوليه أمره، ويخبره يقول له حاجته إن كان يريدها، أو لا يريد أن يطلقها، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة، وإلا قال له: خذ لي منها مالها عليّ وطلقها! فيوليه أمره، فإن شاء طلق، وإن شاء أمسك. ثم يجتمع الحكمان فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز، إن طلقا وإن أمسكا، فهو قول اللّه : {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما}، فإن بعثت المرأة حكما وأبي الرجل أن يبعث، فإنه لا يقربها حتى يبعث حكما.

وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، ليحملهما على الواجب لكلّ واحد منهما قِبَل صاحبه لا التفريق بينهما. ذكر من قال ذلك:

٧٥٤٦ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، وهو قول قتادة، إنهما قالا: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه¹ وأما الفرقة فليست في أيديهما، ولم يملكا ذلك، يعني: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها}.

٧٥٤٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِه وَحَكَما مِنْ أهْلِها}.. الاَية، إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم ولبس بأيديهما فرقة، ولا يملّكان ذلك.

٧٥٤٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن قيس بن سعد، قال: سألت عن الحكمين، قال: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهله، فما حكم الحكمان من شيء فهو جائز¹ يقول اللّه تبارك وتعالى: {إن يُرِيدا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما} قال: يخلو حكم الرجل بالزوج، وحكم المرأة بالمرأة، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: اصدُقني ما في نفسك! فإذا صدق كل واحد منهما صاحبه اجتمع الحكمان وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقا لتصدقني الذي قال لك صاحبك، ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي! فذاك حين أرادا الإصلاح يوفق اللّه بينهما، فإذا فعلا ذلك اطلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه ليه، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما، فأتيا عله، فحكما عليه. فإن كانت المرأة قالا: أنت الظالمة العاصية، لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحقّ وتطيعي اللّه فيه. وإن كان الرجل هو الظالم، قالا: أنت الظالم المضارّ لا تدخل لها بيتا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحقّ والعدل. فإن كانت هي الظالمة العاصية أخذ منها مالها، وهو له حلال طيب، وإن كان هو الظالم المسيء إليها المضارّ لها طلقها، ولم يحلّ له من مالها شيء، فإن أمسكها أمسكها بما أمر اللّه وأنفق عليها وأحسن إليها.

٧٥٤٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: كان عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه يبعث الحكمين: حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم من أهلها: يا فلان ما تنقم من زوجتك؟ ف

يقول: أنقم منها كذا وكذا

قال: ف

يقول: أفرأيت إن نَزَعَتْ عما تكره إلى ما تحبّ، هل أنت متقي اللّه فيها ومعاشرها بالذي يحقّ عليك في نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال نعم، قال الحكم من أهله: يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان؟ فتقول مثل ذلك، فإن قالت: نعم، جمع بينهما

قال: وقال عليّ رضي اللّه عنه: الحكمان بهما يجمع اللّه وبهما يفرّق.

٧٥٥٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع، ولا يحكمان في الفرقة.

٧٥٥١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ} وهي المرأة التي تنشز على زوجها، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك، وهو بعد ما تقول لزوجها: واللّه لا أبرّ لك قسما، ولاَذننّ في بيتك بغير أمرك. ويقول السلطان: لا نجيز لك خلعا. حتى تقول المرأة لزوجها: واللّه لا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم لك صلاة، فعند ذلك يقول السلطان: اخلع المرأة.

٧٥٥٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {واللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ} قال: تعظها، فإن أبت وغلبت فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضا فاضربها. فإن غلبت هذا أيضا، بُعث حكم من أهله حكم من أهلها. فإن غلبت هذا أيضا وأرادت غيره، فإنّ أبي كان

يقول: ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء، إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا: أنت يا فلان ظالم، انزع! فإن أبى رفعا ذلك إلى السلطان، ليس إلى الحكمين من الفراق شيء.

وقال آخرون: بل إنما يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق. ذكر من قال ذلك:

٧٥٥٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} فهذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، فأمر اللّه سبحانه أن يبعثوا رجلاً صالحا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الاَخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي، وذلك قوله: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا} قال: هما الحكمان يوفق اللّه بينهما.

٧٥٥٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين: أن الحكم من أهلها والحكم من أهله يفرّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها}.

٧٥٥٥ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر: قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين،

فقال: لم أولد إذ ذاك، فقلت: إنما أعني حكم الشقاق، قال: يقبلان على الذي جاء الأذى من عنده، فإن فعل وإلا أقبلا على الاَخر، فإن فعل، وإلا حكما، فما حكما، فما حكما من شيء فهو جائز.

٧٥٥٦ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في قوله: {فابْعَثُوا حَكَمَا مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} قال: ما قضى الحكمان من شيء فهو جائز.

٧٥٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن داود، عن إبراهيم، قال: ما حكما من شيء فهو جائز¹ إن فرقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين فهو جائز، وإن فرقا بتطليقة فهو جائز. وإن حكما عليه بهذا من ماله فهو جائز، فإن أصلحا فهو جائز، وإن وضعا من شيء فهو جائز.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا حبان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا أبو جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} قال: ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز عليهما، إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما، وإن طلقها واحدة أو طلقها على جُعْل فهو جائز، وما صنعا من شيء فهو جائز.

٧٥٥٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن يحيـى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: إن شاء الحكمان أن يفرّقا فرّقا، وإن شاءا أن يجمعا جمعا.

٧٥٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن الشعبي: أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصموا إلى شريح، فقال شريح: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها! فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرّقا بينهما، فكره ذلك الرجل، فقال شريح: ففيم كانا اليوم؟ وأجاز قولهما.

٧٥٦٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس، قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين. قال معمر: بلغني أن عثمان رضي اللّه عنهما بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما.

٧٥٦١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: ثني ابن أبي مليكة: أن عقيل بن أبي طالب تزوّج فاطمة ابنة عتبة، فكان بينهما كلام، فجاءت عثمان فذكرت ذلك له، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرّقنّ بينهما! وقال معاوية: ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف! فأتياهما وقد اصطلحا.

٧٥٦٢ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} يكونان عدلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان، جعل عليهما حكمين: حكما من أهل الرجل وحكما من أهل المرأة، يكونان أمينين عليهما جميعا. وينظران من أيهما يكون الفساد، فإن كان من قِبَل المرأة أُجبرت على طاعة زوجها، وأمر أن يتقي اللّه ويحسن صحبتها وينفق عليها بقدر ما آتاه اللّه إمْساكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ. وإن كانت الإساءة من قبل الرجل أُمر بالإحسان إليها، فإن لم يفعل قيل له: أعطها حقها، وخلّ سبيلها! وإنما يلي ذلك منهما السلطان.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} أن اللّه خاطب المسلمين بذلك، وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما، ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض. وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان، الذي هو سائس أمر المسلمين، أو من أقامه في ذلك مُقام نفسه.

واختلفوا في الزوجين والسلطان، ومَن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان، أو السلطان؟ ولا دلالة في الاَية تدلّ على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين، ولا أثر به عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والأمة فيه مختلفة.

وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون مخصوصا من الاَية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. وإذ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الاَية، والأمر بقوله: {فابْعَثُوا حَكَما مِنْ أهْلِهِ وَحَكَما مِنْ أهْلِها} إذ كان مختلفا بينهما هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا؟ وكان ظاهر الاَية قد عمهما¹ فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله، لينظر في أمرهما، وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على صاحبه ولصاحبه عليه، فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه، وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله به وذلك أن يوكله أحدهما بماله دون ما عليه، أو لم يوكل كل واحد من الزوجين بماله وعليه، أو بما له، أو بما عليه، فليس للحكمين كليهما إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما. وإن لم يوكلهما واحدا منها بشيء، وإنما بعثاهما للنظر ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما، لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك.

فإن قال قائل: وما معنى الحكمين إذ كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد اختلف في ذلك،

فقال بعضهم: معنى الحكم: النظر العدل، كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه، الذي:

٧٥٦٣ـ حدثنا به يحيـى بن أبي طالب، عن يزيد، عن جويبر، عنه: لا، أنتما قاضيان تقضيان بينهما.

على السبيل التي بينا من قوله.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنهما القاضيان يقضيان بينها ما فوّض إليهما الزوجان. وأيّ الأمرين كان فليس لهما ولا لواحد منهما الحكم بينهما بالفرقة، ولا بأخذ مال إلا برضا المحكوم عليه بذلك، وإلا ما لزم من حقّ لأحد الزوجين على الاَخر في حكم اللّه ، وذلك ما لزم الرجل لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف إن كان هو الظالم لها. فأما غير ذلك فليس ذلك لهما ولا لأحد من الناس غيرهما، لا السلطان، ولا غيره¹ وذلك أن الزوج إن كان هو الظالم للمرأة فللإمام السبيل إلى أخذه بما يجب لها عليه من حقّ، وإن كانت المرأة هي الظالمة زوجها الناشزة عليه، فقد أباح اللّه له أخذ الفدية منها وجعل إليه طلاقها على ما قد بيناه في سورة البقرة. وإذ كان الأمر كذلك لم يكن لأحد الفرقة بين رجل وامرأة بغير رضا الزوج، ولا أخذ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه، إلا بحجة يجب التسلم لها من أصل أو قياس. وإن بعث الحكمين السلطانُ، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك، ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضا المرأة¹ يدلّ على ذلك ما قد بيناه قَبْلُ من فعل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه بذلك، والقائلين بقوله. ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين، ويتعرّفا الظالم منهما من المظلوم ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما. وإنما قلنا: ليس لهما التفريق للعلة التي ذكرناها آنفا، وإنما يبعث السلطان الحكمين إذا بعثهما إذا ارتفع إله الزوجان، فشكا كل واحد منهما صاحبه، وأشكل عليه المحقّ منهما من المبطل، لأنه إذا لم يشكل المحقّ من المبطل، فلا وجه لبعثة الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا}: إن يرد الحكمان إصلاحا بين الرجل والمرأة، أعني بين الزوجين المخوف شقاق بينهما،

يقول: يوفق اللّه بين الحكمين، فيتفقا على الإصلاح بينهما، وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه من بعث للنظر في أمر الزوجين.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٥٦٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، في قوله: {إنْ يُرِيدا إصْلاحا} قال: أما إنه ليس بالرجل والمرأة، ولكنه الحكمان.

٧٥٦٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما} قال: هما الحكمان، إن يريدا إصلاحا يوفق اللّه بينهما.

٧٥٦٦ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما} وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه اللّه للحقّ والصواب.

٧٥٦٧ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما} يعني بذلك الحكمين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا} قال: إن يرد الحكمان إصلاحا أصلحا.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا يُوَفّقِ اللّه بَيْنَهُما}: يوفق اللّه بين الحكمين.

٧٥٦٨ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك ، قوله: {إنْ يُرِيدَا إصْلاحا} قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأة والرجل جميعا.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه كانَ عَلِيما خَبِيرا}.

يعني جلّ ثناؤه: إن اللّه كان عليما بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره، خبيرا بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما، لا يخفى عليه شيء منه، حافظ عليهم، حتى يجازي كلاّ منهم جزاءه بالإحسان إحسانا، وبالإساءة غفرانا أو عقابا.

٣٦

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّه وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وذلّوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له الخضوع والذلة، بالانتهاء إلى أمره، والانزجار عن نهيه، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا تعظمونه تعظيمكم إياه. {وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا}

يقول: وأمركم بالوالدين إحسانا، يعني برّا بهما¹ ولذلك نصب الإحسان، لأنه أمر منه جل ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالين على وجه الإغراء. وقد قال بعضهم: معناه: واستوصوا بالوالدين إحسانا، وهو قريب المعنى مما قلناه.

وأما قوله: {وَبِذِي القُرْبَى} فإنه يعني: وأمر أيضا بذي القربى، وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانا بصلة رحمهوأما قوله: {واليَتَامى} فإنهم جمع يتيم، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك. {وَالمَساكِينِ} وهو جمع مسكين، وهو الذي قد ركبه ذلّ الفاقة والحاجة، فتمسكن لذلك. يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانا إليهم، وتعطفوا عليهم، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {والجارِ ذِي القُرْبَي}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك والجار ذي القرابة والرحم منك. ذكر من قال ذلك:

٧٥٦٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} يعني: الذي بينك وبينه قرابة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {والجارِ ذي القُرْبَي} يعني: ذا الرحم.

٧٥٧٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: جارك هو ذو قرابتك.

٧٥٧١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قالا: القرابة.

٧٥٧٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك ، في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: جارك الذي بينك وبينه قرابة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {والجارِ ذِي القُرْبَي} جارك ذو القرابة.

٧٥٧٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {والجارِ ذِي القُرْبَي} إذا كان له جار له رحم، فله حقان اثنان: حقّ القرابة، وحقّ الجار.

٧٥٧٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: الجار ذو القربى: ذو قرابتك.

وقال آخرون: بل هو جار ذي قرابتك. ذكر من قال ذلك:

٧٥٧٥ـ حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن ميمون بن مهران، في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} قال: الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك.

قال أبو جعفر: وهذا القول قول مخالف المعروف من كلام العرب، وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} الجار دون غيره، فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة، ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل: وجار ذي القربى، ولم يقل: والجار ذي القربي، فكان يكون حينئذً ـ إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة الوصية ببرّ جار ذي القرابة دون الجار ذي القربيوأما والجار بالألف واللام فغير جائز أن يكوى (ذي القربى) إلا من صفة الجار. وإذا كان ذلك كذلك كانت الوصية من اللّه في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} ببرّ الجار ذي القربى دون جار ذي القرابة، وكان بينا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك.

وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربي منكم بالإسلام. ذكر من قال ذلك:

٧٥٧٦ـ حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال¹ حدثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي: {والجارِ ذِي القُرْبَي} المسلم.

وهذا أيضا مما لا معنى له، وذلك أن تأويل كتاب اللّه تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب، الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الأنكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل فلان ذو قرابة، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين، كان صرفه إلى القرابة بالرحم أوّلَى من صرفه إلى القرب بالدين.

القول في تأويل قوله تعالى: {والجارِ الجُنُبِ}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه. ذكر من قال ذلك:

٧٥٧٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {والجارِ الجُنُبِ} الذي ليس بينك وبينه قرابة.

٧٥٧٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {والجارِ الجُنُبِ} يعني: الجار من قوم جنب.

٧٥٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {والجارِ الجُنُبِ}: الذي ليس بينهما قرابة وهو جار، فله حقّ الجوار.

٧٥٨٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {والجاره الجُنُبِ} الجار الغريب يكون من القوم.

٧٥٨١ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: {والجارِ الجُنُبِ} جارك من قوم آخرين.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {والجارِ الجُنُبِ}: جارك لا قرابة بينك وبينه، البعيد في النسب وهو جار.

٧٥٨٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد، في قوله: {والجارِ الجُنُبِ} قال: المجانب.

٧٥٨٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {والجارِ الجُنُبِ}: الذي ليس بينك وبينه وجه ولا قرابة.

٧٥٨٤ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : {والجارِ الجُنُبِ} قال: من قوم آخرين.

وقال آخرون: هو الجار المشرك. ذكر من قال ذلك:

٧٥٨٥ـ حدثني محمد بن عمارة الأسديّ، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي {والجارِ الجُنُبِ} قال: اليهودي والنصرانيّ.

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الجنب في هذا الموضع: الغريب البعيد، مسلما كان أو مشركا، يهوديا كان أو نصرانيا¹ لما بينا قبل أن الجار ذي القربى: هو الجار ذو القرابة والرحم، والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة الجار البعيد، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران، قريبهم وبعيدهم. وبعد فإن الجُنب في كلام العرب البعيد كما قال أعشى بني قيس:

أتَيْتُ حُرَيْثا زَائِرا عَنْ جَنابَةٍفكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطائيَ جامِدَا

يعني بقوله: (عن جنابة): عن بعد وغربة، ومنه قيل: اجتنب فلان فلانا: إذا بعد منه. وتجنبه غيره: إذا منعه إياه¹ ومنه قيل للجنب: جُنُب، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل. فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصّاحِب بالجَنْبِ}.

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك،

فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سفره. ذكر من قال ذلك:

٧٥٨٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَالصّاحِب بالجَنْبِ}: الرفيق في السفر.

٧٥٨٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي بكير، قال: سمعت سعيد ابن جبير،

يقول: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الرفيق في السفر.

٧٥٨٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَالصّاحِب بالجَنْب}: صاحبك في السفر.

٧٥٨٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَالصّاحِب بالجَنْب} وهو الرفيق في السفر.

٧٥٩٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَالصّاحِب بالجَنْب}: الرفيق في السفر، منزله منزلك، وطعامه طعامك، ومسيره مسيرك.

٧٥٩١ـ حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد: {وَالصّاحِب بالجَنْب} قالا: الرفيق في السفر.

٧٥٩٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن عليّ وعبد اللّه ، قال: {الصّاحِب بالجَنْب}: الرفيق الصالح.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني سليم، عن مجاهد، قال: {وَالصّاحِب بالجَنْب}: رفيقك في السفر الذي يأتيك ويده مع يدك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج، قال: أخبرنا سليم أنه سمع مجاهدا

يقول: {والصّاحبِ بالجنْب} فذكر مثله.

٧٥٩٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الصاحب في السفر.

٧٥٩٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو دكين، قال: حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الرفيق الصالح.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير، مثله.

٧٥٩٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قال: الرفيق في السفر.

حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله.

وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه. ذكر من قال ذلك:

٧٥٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر أو القاسم، عن عليّ وعبد اللّه : {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قالا: هي المرأة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن جابر، عن عليّ وعبد اللّه ، مثله.

٧٥٩٧ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن بيه، عن ابن عباس: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} يعني الذي معك في منزلك.

٧٥٩٨ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال في هذه الاَية: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قال: هي المرأة.

٧٥٩٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: ثناسفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ} قال: المرأة.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال الثوري، قال أبو الهيثم، عن إبراهيم: هي المرأة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، مثله.

حدثني عمرو بن بيذق، قال: حدثنا مروان بن معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، مثله.

وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك. ذكر من قال ذلك:

٧٦٠٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الملازم

وقال أيضا: رفيقك الذي يرافقك.

٧٦٠١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الذي يلصق بك وهو إلى جنبك، ويكون معك إلى جنبك رجاء خيرك ونفعك.

والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الصاحب إلى الجنب، كما يقال: فلان بجنب فلان وإلى جنبه، وهو من قولهم: جَنَب فلان فلانا فهو يَجْنُبُهُ جَنْبا، إذا كان لجنبه، ومن ذلك: جَنَبَ الخَيْلَ، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه، وقد أوصى اللّه تعال بجميعهم لوجوب حقّ الصاحب على المصحوب. وقد:

٧٦٠٢ـ حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، عن فلان بن عبد اللّه ، عن الثقة عنده: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وسلم في غيضة طرفاء، فقطع فصيلين أحدهما معوجّ والاَخر معتدل، فخرج بهما فأعطى صاحبه المعتدل وأخذ لنفسه المعوجّ، فقال الرجل: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي، أنت أحقّ بالمعتدل مني! فقال: (كَلاّ يا فُلانُ، إنّ كُلّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبا مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ ساعَةً مِنْ نَهارٍ).

٧٦٠٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، قال: ثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إنّ خَيْرَ الأصحَابِ عِنْدَ اللّه تَبارَكَ وَتَعالى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِه، وَخَيْرُ الجِيرانَ عِنْدَ اللّه خَيْرُهُمْ لِجارِه).

وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه من أن يكون داخلاً فيه كل من جنب رجلاً يصحبه في سفر أو نكاح أو انقطاع إليه واتصال به، ولم يكن اللّه جل ثناؤه خصّ بعضهم مما احتمله ظاهر التنزيل¹ فالصواب أن يقال: جميعهم معنيون بذلك، وبكلهم قد أوصى اللّه بالإحسان إليه.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَابْنِ السّبِيلِ}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: ابن السبيل: هو المسافر الذي يجتاز مارّا. ذكر من قال ذلك:

٧٦٠٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَابْنِ السّبِيلِ} هو الذي يمرّ عليك وهو مسافر.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة، مثله.

٧٦٠٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: {وَابْنِ السّبِيلِ} قال: هو المارّ عليك وإن كان في الأصل غنيّا.

وقال آخرون: هو الضيف. ذكر من قال ذلك:

٧٦٠٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {وَابْنِ السَبِيلِ} قال: الضيف له حقّ في السفر والحضر.

٧٦٠٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَابْنِ السّبِيلِ} وهو الضيف.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك : {وَابْنِ السّبِيلِ} قال: الضيف.

حدثنا يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، مثله.

والصواب من القول في ذلك: أن ابن السبيل: هو صاحب الطريق، والسبيل: هو الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه، فله الحقّ على من مرّ به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية اللّه أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: والذين ملكتموهم من أرقائكم. فأضاف الملك إلى اليمين، كما يقال: تكلم فوك، ومشت رجلُك، وبطشت يدُك، بمعنى: تكلمتَ، ومشيتَ، وبطشتَ. غير أن ما وصفت به كل عضو من ذلك، فإنما أضيف إليه ما وصفت به، لأنه بذلك يكون في المتعارف في الناس دون سائر جوارح الجسد، فكان معلوما بوصف ذلك العضو بما وُصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام، فكذلك قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} لأن مماليك أحدنا تحت يده، إنما يَطعم ما تناوله أيماننا ويكتسي ما تكسوه وتصرّفه فيما أحبّ صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٦٠٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} مما خوّلك اللّه كل هذا أوصى اللّه به.

وإنما يعني مجاهد بقوله: (كل هذا أوصى اللّه به) الوالدين وذا القربى واليتامى والمساكين والجار ذا القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، فأوصى ربنا جلّ جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم، فحقّ على عباده حفظ وصية اللّه فيهم ثم حفظ وصية رسوله صلى اللّه عليه وسلم.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً}: إن اللّه لا يحبّ من كان ذا خيلاء، والمختال المفتعل من قولك: خال الرجل فهو يَخُول خَوْلاً وخَالاً، ومنه قول الشاعر:

فإنْ كُنْتَ سَيّدَنا سُدْتَناوإن كُنْتَ للخالِ فاذْهبْ فَخَلْ

ومنه قول العجاج:

والخالِ ثَوْبٌ مِنْ ثِيابِ الجُهّالْ

وأما الفخور: فهو المفتخر على عباد اللّه بما أنعم اللّه عليه من آلائه، وبسط له من فضله، ولا يحد على ما أتاه من طوله، ولكنه به مختال مستكبر، وعلى غيره به مستطيل مفتخر. كما:

٧٦٠٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً} قال: متكبرا فخورا، قال: يعدّ ما أُعطي، وهو لا يشكر اللّه .

٧٦١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا محمد بن كثير، عن عبد اللّه بن واقد أبي رجاء الهروي، قال: لا تجد سيـيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخورا، وتلا: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا}. ولا عاقّا إلا وجدته جبارا شقيا، وتلا: {وَبَرّا بِوَالِدِتي وَلْم يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقيّا}.

٣٧

القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه لا يحبّ المختال الفخور، الذي يبخل ويأمر الناس بالبخل. فـ (الذين) يحتمل أن يكون في موضع رفع ردّا على ما في قوله {فَخُورا} من ذمّ، ويحتمل أن يكون نصبا على النعت لـ (مَنْ). والبخل في كلام العرب منع الرجل سائله ما لديه وعنده من فضل عنه. كما:

٧٦١١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} قال: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ: أن يشحّ على ما في أيدي الناس

قال: يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحلّ والحرام لا يقنع.

واختلف القراء في قراءة قوله: {ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} فقرأته عامة قراء أهل الكوفة: (بالبَخَل) بفتح الباء والخاء. وقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين بضم الباء: {بالبُخْلِ}. وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب في قراءته. إن اللّه جل ثناؤه عنى بقوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ}: الذين كتموا اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته من اليهود، ولم يبينوه للناس، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. ذكر من قال ذلك:

٧٦١٢ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرميّ: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمْ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} قال: هم اليهود بخلوا بما عندهم من العلم وكتموا ذلك.

٧٦١٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ}.. إلى قوله: {وكانَ اللّه بِهِمْ عَلِيما} ما بين ذلك في يهود.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٦١٤ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} وهم أعداء اللّه أهل الكتاب، بخلوا بحقّ اللّه عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدا صلى اللّه عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

٧٦١٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، أما: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} فهم اليهود، {وَيكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم. أو {يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ}: يبخلون باسم محمد صلى اللّه عليه وسلم، ويأمر بعضهم بعضا بكتمانه.

٧٦١٦ـ حدثنا محمد بن مسلم الرازي، قال: ثني أبو جعفر الرازي، قال: حدثنا يحيـى، عن عارم، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، في قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} قال: هذا للعلم، ليس للدنيا منه شيء.

٧٦١٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ} قال: هؤلاء يهود، وقرأ: {ويَكْتُمُونَ ما آتاهُمْ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} قال: يبخلون بما آتاهم اللّه من الرزق، ويكتمون ما آتاهم اللّه من الكتب، إذا سئلوا عن الشيء وما أنزل اللّه كتموه. وقرأ: {أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فإذا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرا} من بخلهم.

٧٦١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالاً من الأنصار، وكانوا يخالطونهم، يتنصحون لهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون! فأنزل اللّه فيهم: {الّذِينَ يَبْخَلُونَ ويأْمُرُونَ النّاسَ بالبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}: أي من النبوّة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم، {وأعْتَدنْا للْكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا}.. إلى قوله: {وكانَ اللّه بِهِمْ عَلِيما}.

فتأويل الاَية على التأويل الأوّل: واللّه لا يحبّ ذوي الخيلاء والفخر الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم اللّه بتبيينه للناس من اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، وهم به عالمون، ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك، مثل علمهم بكتمان ما أمرهم اللّه بتبيينه له، ويكتمون ما آتاهم اللّه من علم ذلك ومعرفته من حرم اللّه عليه كتمانه إياه.

وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد: إن اللّه لا يحبّ من كان مختالاً فخورا، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم اللّه من أموالهم. ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء.

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله الذين

قالوا: إن اللّه وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الاَية بالبخل، بتعريف من جهل أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم أنه حقّ، وأن محمدا لله نبيّ مبعوث، وغير ذلك من الحقّ الذي كان اللّه تعالى ذكره قد بينه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه، فبخل بتبيينه للناس هؤلاء، وأمروا من كانت حاله حالهم في معرفتهم به أن يكتموه من جهل ذلك، ولا يبينوه للناس.

وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الاَية لأن اللّه جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلقا، بل ترى ذلك قبيحا، ويُذمّ فاعله، ولا يمتدح وإن هي تخلقت بالبخل واستعملته في أنفسها، فالسخاء والجود تعدّه من مكارم الأفعال، وتحثّ عليه ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم اللّه به إنما كان بخلاً بالعلم الذي كان اللّه آتاهموه، فبخلوا بتبيينه للناس، وكتموه دون البخل بالأموال. إلا أن يكون معنى ذلك الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق اللّه وسبله، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك، فيكون بخلهم بأموالهم وأمرهم الناس بالبخل. فهذا المعنى على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس، فيكون لذلك وجه مفهوم في وصفهم بالبخل وأمرهم به.

القول في تأويل قوله تعالى: {وأعْتَدنْا للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا}.

يعني بذلك جل ثناؤه {وأعْتَدنْا}: وجعلنا للجاحدين نعمة اللّه التي أنعم بها عليهم من المعرفة بنبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم، المكذّبين به بعد علمهم به، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أَمَرَهم اللّه ببيانه له من الناس، {عَذَابا مُهِينا} يعني: العقاب المذلّ من عذّب بخلوده فيه عتادا له في آخرته، إذا قدم على ربه وجده بما سلف منه من جحوده فَرْضَ اللّه الذي فرض عليه.

٣٨

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـآءَ النّاسِ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وأعتدنا للكافرين باللّه من اليهود الذين وصف اللّه صفتهم عذابا مهينا. {وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ} (والذين) في موضع خفض عطفا على (الكافرين)

وقوله: {رِئَاءَ النّاسِ} يعني: ينفقه مراءاة الناس في غير طاعة اللّه أو غير سبيله، ولكن في سبيل الشيطان. {وَلا يُؤْمِنُونَ باللّه وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ}

يقول: ولا يصدّقون بواحدنية اللّه ولا بالميعاد إليه يوم القيامة، الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن. وقد قال مجاهد: إن هذا من صفة اليهود، وهو صفة أهل النفاق الذين كانوا أهل شرك فأظهروا الإسلام تقية من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأهل الإيمان به، وهم على كفرهم مقيمون أشبه منهم بصفة اليهود¹ لأن اليهود كانت توحد اللّه وتصدّق بالبعث والمعاد، وإنما كان كفرها تكذيبها بنبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وبعد ففي فصل اللّه بين صفة الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الاَخر، وصفة الفريق الاَخر الذين وصفهم في الاَية قبلها، وأخبر أن لهم عذابا مهينا، بالواو الفاصلة بينهم ما ينبىء عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني، وإن كان جميعهم أهل كفر بالله. ولو كانت الصفتان كلتماهما صفة نوع من الناس لقيل إن شاء اللّه : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس. ولكن فصل بينهم بالواو لما وصفنا.

فإن ظنّ ظانّ أن دخول الواو غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب؟ قيل: ذلك وإن كان كذلك، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك ترك إدخال الواو، وإذا أريد بالثاني وصف آخر غير الأوّل أدخل الواو. وتوجيه كلام اللّه إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه كتابه أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشّيْطانُ لَهُ قَرِينا فَساءَ قَرِينا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يكن الشيطان له خليلاً وصاحبا يعمل بطاعته ويتبع أمره ويترك أمر اللّه في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته، وجحوده وحدانية اللّه والبعث بعد الممات¹ {فساءَ قرِينا}

يقول: فساء الشيطان قرينا. وإنما نصب القرين، لأن في (ساء) ذكرا من الشيطان، كما قال جلّ ثناؤه: {بِئْسَ للظّالِمِينَ بَدَلاً}، وكذلك تفعل العرب في ساء ونظائرها، ومنه قول عديّ بن زيد:

عَنِ المَرْءِ لا تَسألْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِفَكُلّ قَرِينٍ بالمُقارِنِ يَقْتَدِي

يريد بالقرين: الصاحب والصديق.

٣٩

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّه ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: أيّ شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون باللّه ولا باليوم الاَخر، لو آمنوا باللّه واليوم الاَخر، لو صدّقوا بأن اللّه واحد لا شريك له، وأخلصوا له التوحيد، وأيقنوا بالبعث بعد الممات، وصدّقوا بأن اللّه مجازيهم بأعمالهم يوم القيامة {وأنفقُوا ممّا رزقهُم اللّه } يقول وأدّوا زكاة أموالهم التي رزقهم اللّه ، وأعطاهموها طيبة بها أنفسهم، ولم ينفقوها رئاء الناس التماس الذكر والفخر عند أهل الكفر بالله، والمحمدة بالباطل عند الناس، وكان اللّه بهؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس نفاقا، وهم باللّه واليوم الاَخر مكذّبون، عليما،

يقول: ذا علم بهم وبأعمالهم وما يقصدون ويريدون بانفاقهم، وما ينفقون من أموالهم، وأنهم يريدون بذلك الرياء والسمعة والمحمدة في الناس، وهو حافظ عليهم أعمالهم، لا يخفى عليه شيء منها حتى يجازيهم بها جزاءهم عنا معادهم إليه.

٤٠

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّه لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وماذا عليهم لو آمنوا باللّه واليوم الاَخر، وأنفقوا مما رزقهم اللّه ، فإن اللّه لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة {مِثْقَالَ ذَرّةٍ} أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن، ولكنه يجازيه به، ويثيبه عليه. كما:

٧٦١٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أنه تلا: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها} قال: لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها.

٧٦٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان بعض أهل العلم

يقول: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعا.

وأما الذرّة، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها، كما:

٧٦٢١ـ حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: {مِثْقالَ ذَرّةٍ} قال: رأس نملة حمراء.

قال لي إسحاق بن وهب: قال يزيد بن هارون: زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن. وبنحو الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٧٦٢٢ـ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(إنّ اللّه لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا وُيجْزَى بها فِي الاَخِرَةِ¹ وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بها فِي الدّنْيا، فإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةً).

٧٦٢٣ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا هشام بن سعد، قال: أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار:

(وَالّذِي نَفْسي بِيَدِهِ ما أحَدُكُمْ بِأشَدّ مُناشَدَةً فِي الحَقّ يَرَاه مُصيبا لَه، مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي إخْوَانِهِمْ إذَا رأوْا أنْ قَدْ خَلَصُوا مِنَ النّار يَقُولُونَ: أيْ رَبّنا إخْوَانُنا كانُوا يُصَلّونَ مَعَنا وَيَصُومُونَ مَعَنا وَيحُجّونَ مَعَنا ويُجاهِدُونَ مَعَنا، قَدْ أخَذَتْهُمُ النّارُ! فَيَقُولُ اللّه لَهُمْ: اذْهَبُوا فَمَنْ عَرَفْتُمْ صورَتَه فأخْرِجُوه! ويحَرّمُ صورَتهُمْ على النّارِ، فَيَجِدونَ الرّجُلَ قَدْ أخَذَتْه النّارُ إلى أنْصَاف ساقَيْهِ وإلى رُكْبَتَيْهِ وإلى حَقْوَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ، فَ

يَقُولُ: اذْهَبُوا لِمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ قِيرَاطِ خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ! فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ، فَلا يَزَالُ يَقولُ لَهُمْ ذَلِكَ حتى

يَقُولَ: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ ذَرّةٍ فأخْرِجُوهُ!) ـ فكان أبو سعيد إذا حدّث بهذا الحديث، قال: إن لم تصدّقوا فاقرءوا: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عظيما} فيقولون: (رَبّنا لم نَذَرْ فيها خَيْرا).

وحدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: ثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحوه.

وقال آخرون في ذلك. بما:

٧٦٢٤ـ حدثني به المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا صدقة بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، قال: أتيت ابن مسعود،

فقال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأوّلين والاَخرين، ثم نادى مناد من عند اللّه : (ألا من كان يطلب مظلمة، فليجىءْ إلى حقه فليأخذه!) قال: فيفرح واللّه الصبيّ أن يذوب له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه وإن كان صغيرا. ومصداق ذلك في كتاب اللّه تبارك وتعالى: {فإذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} فيقال له: (آت هؤلاء حقوقهم) أي أعطهم حقوقهم. ف

يقول: أي ربّ من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول اللّه لملائكته: أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة، وأعطوهم منها! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها: يا ربنا أعطيْنا كلّ ذي حقّ حقه، وبقي له مثقال ذرّة من حسنة. فيقول للملائكة: ضعّفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة! ومصداق ذلك في كتاب اللّه : {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}: أي الجنة يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك: إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته، وبقي طالبون كثير! فيقول اللّه : ضعوا عليها من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النار! قال صدقة: (أو صكّا إلى جهنم)، شكّ صدقة أيتهما قال.

٧٦٢٥ـ وحُدثت عن محمد بن عبيد، عن هارون بن عنترة، عن عبد اللّه بن السائب، قال: سمعت زاذان

يقول: قال عبد اللّه بن مسعود: يأخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأوّلين والاَخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له حقّ فليأت إلى حقه! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحقّ على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: {فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} فيغفر اللّه تبارك وتعالى من حقه ما شاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصب للناس ف

يقول: آتوا إلى الناس حقوقهم! ف

يقول: ربّ فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ ف

يقول: خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مظلمته، فإن كان وليا لله، ففضل له مثقال ذرّة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة! ـ ثم قرأ علينا: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ} وإن كان عبدا شقيا قال الملك: ربّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير. ف

يقول: خذوا من سيئاتهم، فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكّوا له صَكّا إلى النار.

قال أبو جعفر: فتأويل الاَية على تأويل عبد اللّه هذا: إن اللّه لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرّة قِبَل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه، ولكنه يأخذه منه له، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ. {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها}

يقول: وإن توجد له حسنة يضاعفها، بمعنى: يضاعف له ثوابها وأجرها. {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}

يقول: ويعطه من عنده أجرا عظيما. والأجر العظيم: الجنة على ما قاله عبد اللّه .

ولكلا التأويلين وجه مفهوم، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة. وإنما اخترنا التأويل الأوّل لموافقته الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الاَية التي قبلها، التي حثّ اللّه فيها على النفقة في طاعته، وذمّ النفقة في طاعة الشيطان، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}.

واختلفت القراء في قراءة قوله: {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً}. فقرأت ذلك عامة قرّاء العراق: {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً} بنصب الحسنة، بمعنى: وإن تك زنة الذرّة حسنة يضاعفها. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة: (وَإنْ تَكُ حَسَنَةٌ) برفع الحسنة، بمعنى: وإن توجد حسنة على ما ذكرت عن عبد اللّه بن مسعود من تأويل ذلكوأما قوله: {يُضَاعِفْها} فإنه جاء بالألف، ولم يقل: (يضعفها)، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية: يضاعفها أضعافا كثيرة¹ ولو أريد به في قوله يضعف ذلك ضعفين لقيل: (يضعّفها) بالتشديد.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم اللّه بهذه الاَية ما وعدهم فيها،

فقال بعضهم: هم جميع أهل الإيمان باللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم. واعتلوا في ذلك بما:

٧٦٢٦ـ حدثنا الفضل بن الصباح، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن مبارك بن فضالة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال: لقيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة لتضاعف ألف ألف حسنة! قال: وما أعجبك من ذلك؟ فواللّه لقد سمعته ـ يعني النبيّ صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (إنّ اللّه لَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ ألْفَيْ ألْفِ حَسَنَةَ).

وقال آخرون: بل ذلك المهاجرون خاصة دون أهل البوادي والأعراب. واعتلوا في ذلك بما:

٧٦٢٧ـ حدثني محمد بن هارون أبو نشيط، قال: حدثنا يحيـى بن أبي بكير، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن عبد اللّه بن عمر، قال: نزلت هذه الاَية في الأعراب: {مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فَلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا} قال: فقال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: (ما هُوَ أعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ:

{إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} وإذَا قال اللّه لشيءٍ عَظِيمٌ فهَوُ عَظِيم).

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بهذه الاَية المهاجرين دون الأعراب. وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار اللّه أو أخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضا، فإذا كان صحيحا وعد اللّه من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له، وكان الخبران اللذان ذكرناهما عنه صلى اللّه عليه وسلم صحيحين، كان غير جائز إلا أن يكون أحدهما مجملاً والاَخر مفسرا، إذ كانت أخباره صلى اللّه عليه وسلم يصدّق بعضها بعضا. وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن خبر أبي هريرة معناه: إن الحسنة لتضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألف حسنة، وللأعراب منهم عشر أمثالها، على ما رَوَى ابن عمر عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم¹ وأن قوله: {مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا} يعني: من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم يضاعف له، ويؤته اللّه من لدنه أجرا، يعني: يعطه من عنده أجرا عظيما، يعني: عوضا من حسنته عظيما. وذلك العوض العظيم: الجنة¹ كما:

٧٦٢٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا صدقة بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، عن ابن مسعود: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}: أي الجنة يعطها.

٧٦٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عباد بن أبي صالح، عن سعيد بن جبير، قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} قال: الأجر العظيم: الجنة.

٧٦٣٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} قال: أجرا عظيما: الجنة.

٤١

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىَ هَـَؤُلآءِ شَهِيداً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه لا يظلم عباده مثقال ذرّة، فكيف بهم {إذا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بَشِهيدٍ} يعني: بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلها، أو تكذيبها، {وجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا}

يقول: وَجِئْنَا بك يا محمد على هؤلاء: أي على أمتك شهيدا،

يقول: شاهدا. كما:

٧٦٣١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا} قال: إن النبيين يأتون يوم القيامة، منهم من أسلم معه من قومه الواحد والاثنان والعشرة وأقلّ وأكثر من ذلك، حتى يؤتى بقوم لوط صلى اللّه عليه وسلم لم يؤمن معه إلا ابنتاه، فيقال لهم: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ فيقولون: نعم، فيقال: من يشهد؟ فيقولون: أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فيقال لهم: أتشهدون أن الرسل أوْدَعوا عندكم شهادة، فبم تشهدون؟ فيقولون: ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ! فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد صلى اللّه عليه وسلم. فيدعى محمد عليه الصلاة والسلام، فيشهد أن أمته قد صدقوا، وأن الرسل قد بلّغوا. فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا}.

٧٦٣٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قوله: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ} قال: رسولها، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله اللّه به إليهم¹ {وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا} قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إذا أتى عليها فاضت عيناه.

٧٦٣٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا الحسن، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، في قوله: {وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال: الشاهد محمد، والمشهود: يوم الجمعة. فذلك قوله: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا}.

٧٦٣٤ـ حدثني عبد اللّه بن محمد الزهري، قال: حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، عن عبد اللّه : {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا} قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

٧٦٣٥ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن المسعودي، عن القاسم: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال لابن مسعود: (اقْرأْ عَليّ!) قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: (أنّي أُحِبّ أنْ أسَمعه مِنْ غيرِي)

قال: فقرأ ابن مسعود النساء، حتى بلغ: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا} قال: قال استعبر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وكفّ ابن مسعود. قال المسعودي: فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(شَهِيدا عَلَيْهِمْ ما دُمْتُ فِيهِمْ، فإذَا تَوَفّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وأنْتَ على كُلْ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

٤٢

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: يوم نجيء من كل أمة بشهيد، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيدا، {يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا}

يقول: يتمنى الذين جحدوا وحدانية اللّه وعصوا رسوله، لو تسوّى بهم الأرض.

واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز ومكة والمدينة: (لَوْ تَسّوّى بِهِمُ الأرْضُ) بتشديد السين والواو وفتح التاء، بمعنى: لو تَتَسوّى بهم الأرض، ثم أدغمت التاء الثانية في السين، يراد به: أنهم يودّون لو صاروا ترابا، فكانوا سواء هم والأرض. وقرأ آخرون ذلك: (لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ) بفتح التاء وتخفيف السين، وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة بالمعنى الأوّل، غير أنهم تركوا تشديد السين، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد. وقرأ ذلك آخرون: {لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ} بمعنى: لو سوّاهم اللّه والأرض، فصاروا ترابا مثلها بتصييره إياهم، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم. وكل هذه القراءات متقاربات المعنى، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابا إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين اللّه إياه كذلك، وكذلك من تمنى أن يكون اللّه جعله كذلك فقد تمنى أن يكون ترابا. على أن الأمر وإن كان كذلك، فأعجب القراءة إليّ في ذلك: (لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ) بفتح التاء وتخفيف السين، كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد، وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله: {وَيَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا} فأخبر اللّه عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابا، ولم يخبر عنهم أنهم

قالوا: يا ليتني كنت ترابا، فكذلك قوله: (لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ) فيسوّوا هم، وهي أعجب إليّ ليوافق ذلك المعنى الذي أخبر عنهم بقوله: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا}.

وأما قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثا} فإن أهل التأويل تأوّلوه، بمعنى: ولا تكتم اللّه جوارحهم حديثا وإن جحدت ذلك أفواههم. ذكر من قال ذلك:

٧٦٣٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عمرو عن مطرف، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: أتى رجل ابن عباس،

فقال: سمعت اللّه

يقول: {وَاللّه رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} وقال في آية أخرى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثا}. فقال ابن عباس: أما قوله: {وَاللّه رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام

قالوا: تعالوا فلنجحد،

فقالوا: واللّه ربنا ما كنا مشركين! فختم اللّه على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون اللّه حديثا.

٧٦٣٧ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس،

فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن؟ فقال: ما هو؟ أشكّ في القرآن؟ قال: ليس بالشك، ولكنه اختلاف

قال: فهات ما اختلف عليك! قال: أسمع اللّه

يقول: {ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّه رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} وقال: {وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثا} وقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله: {ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّه رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن اللّه يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره جحد المشركون،

فقالوا: واللّه ربنا ما كنا مشركين، رجاء أن يغفر لهم، فختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك {يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثا}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الزبير، عن الضحاك : أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، قول اللّه تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثا}،

وقوله: {وَاللّه رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ}؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت: ألقى عليّ ابن عباس متشابه القرآن، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن اللّه جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فيقول المشركون إن اللّه لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحّده، فيقولون: تعالوا نجحد! فيسألهم، فيقولون: واللّه ربنا ما كنا مشركين، قال: فيختم على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سوّيت بهم، ولا يكتمون اللّه حديثا.

٧٦٣٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثا} يعني: أن تُسوّى الأرض بالجبال عليهم.

فتأويل الاَية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس: يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ ولَمْ يَكْتُمُوا اللّه حَدِيثا. كأنهم تمنوا أنهم سوّوا مع الأرض، وأنهم لم يكونوا كتموا اللّه حديثا.

وقال آخرون: معنى ذلك يومئذ لا يكتمون اللّه حديثا، ويودّون لو تسوّى بهم الأرض. وليس بمنكتم عن اللّه من شيء حديثهم، لعلمه جلّ ذكره بجميع حديثهم وأمرهم، فإنهم إن كتموه بألسنتهم فجحدوه، لا يخفى عليه شيء منه.

٤٣

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ ...}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} صدّقوا اللّه ورسوله {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ}: لا تصلوا {وأَنْتُمْ سُكَارَى} وهو جمع سكران، {حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} في صلاتكم، وتقرءون فيها مما أمركم اللّه به، أو ندبكم إلى قيله فيها مما نهاكم عنه وزجركم.

ثم اختلف أهل التأويل في السكر الذي عناه اللّه بقوله: {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى}

فقال بعضهم: عنى بذلك: السكر من الشراب. ذكر من قال ذلك:

٧٦٣٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن، فقرأ: (قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ) فخلط فيها، فنزلت: {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى}.

٧٦٤٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن حبيب: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، فقدّموا عليّا يصلي بهم المغرب، فقرأ: قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم، لكم دينكم ولي دين. فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الاَية: {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}.

٧٦٤١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى} قبل أن تحرم الخمر، فقال اللّه : {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى}.. الاَية.

٧٦٤٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين في قوله: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى} قال: نزل هذا وهم يشربون الخمر،

فقال: وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.

٧٦٤٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين، قال: كانوا يشربون بعد ما أنزلت التي في البقرة، وبعد التي في النساء، فلما أنزلت التي في المائدة تركوها.

٧٦٤٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وأنْتُمْ سُكارَى حتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} قال: نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريم الخمر.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٦٤٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى} قال: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر.

٧٦٤٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل وأبي رزين وإبراهيم في قوله: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى}

و{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}،

وقوله: {تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا}

قالوا: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى من النوم. ذكر من قال ذلك:

٧٦٤٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك : {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى} قال: سكر النوم.

حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سلمة، عن الضحاك : {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى} قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الاَية، تأويل من قال ذلك: نهى من اللّه المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر، للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن ذلك كذلك نهي من اللّه ، وأن هذه الاَية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه.

فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك معناه، والسكران في حال زوال عقله نظير المجنون في حال زوال عقله، وأنت ممن تُحِيل تكليف المجانين لفقدهم الفهم بما يؤمر وينهى؟ قيل له: إن السكران لو كان في معنى المجنون لكان غير جائز أمره ونهيه، ولكن السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذر، غير أن الشراب قد أثقل لسانه وأحرّ جسمه وأخدره، حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته وحدودها الواجبة عليه فيها من غير زوال عقله، فهو بما أمر به ونهي عنه عارف فهِم، وعن أداء بعضه عاجز بخدر جسمه من الشرابوأما من صار إلى حدّ لا يعقل ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخبل، ومعدود في المجانين، وليس ذلك الذي خوطب بقوله: {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ} لأن ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكران ما وصفنا صفته.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها جنبا إلا عابري سبيل، يعني: إلا أن تكونوا مجتازى طريق: أي مسافرين حتى تغتسلوا. ذكر من قال ذلك:

٧٦٤٨ـ حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر

وقال ابن المثنى: لفي السفر.

٧٦٤٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}

يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب، إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء، فقد أحللت لكم أن تمسّحوا بالأرض.

٧٦٥٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد اللّه ، أو عن زرّ، عن عليّ رضي اللّه عنه:{وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: إلا أن تكونوا مسافرين فلا تجدوا الماء فتيمموا.

٧٦٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، بمثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللّه ، عن عليّ رضي اللّه عنه، قال: نزلت في السفر: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} وعابر السبيل: المسافر إذا لم يجد ماء تيمم.

٧٦٥٢ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم فيصلي.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: هو الرجل يكون في السفر فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون صعيدا طيبا، حتى يجدوا الماء فيغتسلوا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: مسافرين لا يجدون ماء.

٧٦٥٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن مسعر، عن بكير بن الأخنس، عن الحسن بن مسلم، في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: إلا أن يكونوا مسافرين، فلا يجدوا الماء فيتيمموا.

٧٦٥٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عمرو، عن منصور، عن الحكم: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: المسافر تصيبه الجنابة، فلا يجد ماء فيتيمم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير، وعن منصور، عن الحكم في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قالا: المسافر الجنب لا يجد الماء فيتيمم فيصلي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} إلا أن يكون مسافرا.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم، نحوه.

٧٦٥٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد اللّه بن كثير، قال: كنا نسمع أنه في السفر.

٧٦٥٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: هو المسافر الذي لا يجد الماء فلا بدّ له من أن يتيمم ويصلي، فهو يتيمم ويصلي

قال: كان أبي يقول هذا.

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه. فقال أهل هذه المقالة: أقيمت الصلاة مقام المصلّى والمسجد، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيامئذ لا يتخلفون عن التجميع فيها، فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة كفاية عن ذكر المساجد والمصلّى الذي يصلون فيه. ذكر من قال ذلك:

٧٦٥٧ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة بن عبد اللّه ، عن أبيه في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: هو الممرّ في المسجد.

٧٦٥٨ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن ابن يسار، عن ابن عباس: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه، فتمرّ مرّا ولا تجلس.

٧٦٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد في الجنب يمرّ في المسجد مجتازا وهو قائم لا يجلس وليس بمتوضىء، وتلا هذه الاَية: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}.

٧٦٦٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن نهشل، عن الضحاك ، عن ابن عباس، قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد ما لم يجلسا فيه.

٧٦٦١ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو الزبير، قال: كان أحدنا يمرّ في المسجد وهو جنب مجتازا.

٧٦٦٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: الجنب يمرّ في المسجد ولا يقعد فيه.

٧٦٦٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قالا جميعا: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: إذا لم يجد طريقا إلا المسجد يمرّ فيه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الاَية: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا} قال: لا بأس أن يمرّ الجنب في المسجد إذا لم يكن له طريق غيره.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.

٧٦٦٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الجنب يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه، ثم قرأ: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}.

٧٦٦٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، مثله.

٧٦٦٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، مثله.

٧٦٦٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن الحسن بن عبيد اللّه ، عن أبي الضحى مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد ولا يقعدا فيه.

٧٦٦٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن سعيد، عن الزهري، قال: رخص للجنب أن يمرّ في المسجد.

٧٦٦٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يزيد بن أبي حبيب، عن قول اللّه : {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قال: لا يجتاز في المسجد إلا أن لا يجد طريقا غيره.

٧٦٧٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه، لا يمرّ الجنب في المسجد يتخذه طريقا.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوّله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}: إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساء فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا}، فكان معلوما بذلك أن قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا} لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ} معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الاَية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. والعابر السبيل: المجتازه مرّا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر: إذا قطعه وجازه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار لقوتها: وهي عبْرُ أسفار لقوتها على الأسفار.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}: من جرح أو جدري وأنتم جنب. كما:

٧٦٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا أبو المنبه الفضل بن سليم، عن الضحاك ، عن ابن مسعود، قوله: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ} قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير والجريح، فإذا أصابت الجنابة الكسير اغتسل، والجريح لا يحلّ جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها.

٧٦٧٢ـ حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن شريك، عن إسماعيل السديّ، عن أبي مالك، قال في هذه الاَية: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ} قال: هي للمريض الذي به الجراحة التي يخاف منها أن يغتسل فلا يغتسل، فرخص له في التيمم.

٧٦٧٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} والمرض: هو الجراح والجراحة التي يتخوّف عليها من الماء إن أصابه ضَرّ صاحبه، فذلك يتيمم صعيدا طيبا.

٧٦٧٤ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير في قوله: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال: إذا كان به جروح أو قروح يتيمم.

٧٦٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال: من القروح تكون في الذراعين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال: القروح في الذراعين.

٧٦٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: صاحب الجراحة التي يخوّف عليه منها يتيمم. ثم قرأ: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ}.

٧٦٧٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} والمرض: أن يصيب الرجل الجرح أو القرح أو الجدري، فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء.

٧٦٧٨ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن عاصم، يعني الأحول، عن الشعبي، أنه سئل عن المجدور تصيبه الجنابة؟ قال: ذهب فرسان هذه الاَية.

وقال آخرون في ذلك ما:

٧٦٧٩ـ حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا} قال: المريض الذي لا يجد أحدا يأتيه بالماء ولا يقدر عليه، وليس له خادم، ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبوا إليه، تيمم وصلى إذا حلت الصلاة

قال: هذا كله قول أبي: إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به لا يترك الصلاة، وهو أعذر من المسافر.

فتأويل الاَية إذا: وإذ كنتم جرحى أو بكم قروح أو كسر أو علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة، وأنتم مقيمون غير مسافرين، فتيمموا صعيدا طيبا.

وأما قوله: {أوْ على سَفَرٍ} إو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب، فتيمموا صعيدا. وكذلك تأويل قوله: {أوْ جاءَ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ}

يقول: أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، فليتيمم صعيدا طيبا. والغائط: ما اتسع من الأودية وتصوّب، وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان، لأن العرب كانت تختار قضاء حاجتها في الغيطان فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تُقْضى في الغيطان حيث قضاها من الأرض: متغوّط، جاء فلان من الغائط يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض. وذكر عن مجاهد أنه قال في الغائط: الوادي.

٧٦٨٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ} قال: الغائط: الوادي.

القول في تأويل قوله تعالى: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: أو باشرتم النساء بأيديكم.

ثم اختلف أهل التأويل في اللمس الذي عناه اللّه بقوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}

فقال بعضهم: عَنَى بذلك: الجماع. ذكر من قال ذلك:

٧٦٨١ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: اللمس: الجماع

قال: فأتيت ابن عباس، فقلت: إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع

قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي، قال: غلب فريق الموالي، إن المسّ واللمس، والمباشرة: الجماع، ولكن اللّه يكني ما شاء بما شاء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي قيس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

٧٦٨٢ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس أنه قال: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} قال: هو الجماع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، قال: اختلفت أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} فقال عبيد بن عمير: هو الجماع، وقلت أنا وعطاء: هو اللمس

قال: فدخلنا على ابن عباس، فسألناه،

فقال: غلب فريق الموالي وأصابت العرب، هو الجماع، ولكن اللّه يعفّ ويكني.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير: اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد بن جبير وعطاء: الملامسة ما دون الجماع

وقال عبيد: هو النكاح. فخرج عليهم ابن عباس، فسألوه،

فقال: أخطأ الموليان وأصاب العربيّ: الملامسة: النكاح، ولكن اللّه يكني ويعفّ.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، قال: اجتمع سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير، فذكر نحوه.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: قال: سعيد بن جبير وعطاء في التماس: الغمز باليد، وقال عبيد بن عمير: الجماع. فخرج عليهم ابن عباس فقال: أخطأ الموليان، وأصاب العربيّ، ولكنه يعفّ ويكني.

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: قال ابن عباس: اللمس: الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن علية وعبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس والمسّ والمباشرة: الجماع، ولكن اللّه يكني بما شاء.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد اللّه ، عن ابن عباس، قال: الملامسة: الجماع، ولكن اللّه كريم يكني عما شاء.

حدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد اللّه ، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير، قال: اختلفت العرب والموالي في الملامسة على باب ابن عباس قالت العرب: الجماع، وقالت الموالي: باليد

قال: فخرج ابن عباس،

فقال: غُلب فريق الموالي، الملامسة: الجماع.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: كنا على باب ابن عباس، فذكر نحوه.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال: قعد قوم على باب ابن عباس، فذكر نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} الملامسة: هو النكاح.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، قال: اجتمعت الموالي والعرب في المسجد وابن عباس في الصّفّة، فاجتمعت الموالي على أنه اللمس دون الجماع، واجتمعت العرب على أنه الجماع، فقال ابن عباس: من أيّ الفريقين أنت؟ قلت: من الموالي، قال: غُلبت.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس: الجماع.

وبه عن سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: هو الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مالك، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن داود، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} قال: الجماع.

٧٦٨٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الشعبي، عن عليّ رضي اللّه عنه، قال: الجماع.

٧٦٨٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن، قال: الجماع.

٧٦٨٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مالك، عن خصيف، قال: سألت مجاهدا، فقال ذلك.

٧٦٨٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة والحسن، قالا: غشيان النساء.

وقال آخرون: عنى اللّه بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان. وأوجبوا الوضوء على من مسّ بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه. ذكر من قال ذلك:

٧٦٨٧ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عبد اللّه ، أنه قال شيئا هذا معناه: الملامسة: ما دون الجماع.

٧٦٨٨ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ـ أو عن أبي عبيدة منصور الذي شكّ قال: القبلة من المسّ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبد اللّه ، قال: اللمس: ما دون الجماع.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: اللمس: ما دون الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ، قال: القبلة من اللمس.

حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعود، قال القبلة من اللمس، وفيها الوضوء.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعود، مثله.

٧٦٨٩ـ حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: أخبرنا سليم بن أخضر، قال: أخبرنا ابن عون، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} قال: فأشار بيده هكذا ـ وحكاه سليم وأراناه أبو عبد اللّه ، فضمّ أصابعه.

حدثني يعقوب وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} قال بيده، فظننت ما عنى فلم أسأله.

٧٦٩٠ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، قال: ذكروا عند محمد مسّ الفرج، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في ذلك، فقال محمد: قلت لعبيدة، قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} فقال بيده. قال ابن عون: بيده كأنه يتناول شيئا يقبض عليه.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا خالد، عن محمد، قال: قال عبيدة: اللمس باليد.

قال: حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن هذه الاَية: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} فقال بيده، وضمّ أصابعه، حتى عرفت الذي أراد.

٧٦٩١ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبيد اللّه بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، و

يقول: هي من اللّماس.

٧٦٩٢ـ حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر، قال: الملامسة: ما دون الجماع.

٧٦٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، قال: حدثنا مُحِلّ بن محرز، عن إبراهيم، قال: اللمس من شهوة ينقض الوضوء.

٧٦٩٤ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم وحماد أنهما قالا: اللمس ما دون الجماع.

٧٦٩٥ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عطاء، قال: الملامسة: ما دون الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبيّ، عن أصحاب عبد اللّه ، عن عبد اللّه ، قال: الملامسة: ما دون الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، عن عبد اللّه ، قال: الملامسة: ما دون الجماع.

قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد اللّه ، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: قال عبد اللّه : الملامسة: ما دون الجماع، ثم قرأ: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً}.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة، عن: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} فقال بيده هكذا، فعرفت ما يعني.

٧٦٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبيه وحسن بن صالح، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي عبيدة، قال: القبلة من اللمس.

٧٦٩٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، عن زهير، عن خصيف، عن أبي عبيدة: القبلة والشيء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى اللّه بقوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ.

٧٦٩٨ـ حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السديّ، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: (كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلي ولا يتوضأ).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة: (أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ)، قلت: من هي إلا أنتِ؟ فضحكت.

٧٦٩٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: (أنه كان يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ).

حدثنا أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا شهاب بن عباد، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة. وعن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة، قالت: (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء).

٧٧٠٠ـ حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا أبي، قال: ثني يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيـى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أمّ سلمة: (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءا).

ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدلالة الواضحة على أن اللمس في هذا الموضع لمس الجماع لا جميع معاني اللمس، كما قال الشاعر:

وهُنّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسَاإنْ تصْدُقِ الطّيرُ نَنِكَ لَمِيسا

يعني بذلك: ننك لماسا.

وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصابتهم جنابة وهم جراح.

٧٧٠١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهمي في المريض لا يستطيع الغسل من الجنابة أو الحائض، قال: يجزيهم التيمم، ونال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ}.. الاَية كلها.

وقال آخرون: نزلت في قوم من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أعوزهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم. ذكر من قال ذلك:

٧٧٠٢ـ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد اللّه بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة أنها قالت: كنت في مسير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الجيش، ضَلّ عقدي، فأخبرت بذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأمر بالتماسه، فالتمس فلم يوجد. فأناخ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم تلك¹ فقال الناس: حبست عائشة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم! قالت: فجاء إليّ أبو بكر، ورأس النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في حجري وهو نائم، فجعل يهمزني ويقرصني و

يقول: من أجل عقدك حبست النبيّ صلى اللّه عليه وسلم! قالت: فلا أتحرّك مخافة أن يستيقظ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وقد أوجعني فلا أدري كيف أصنع. فلما رآني لا أحير إليه انطلق¹ فلما استيقظ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأراد الصلاة فلم يجد ماء. قالت: فأنزل اللّه تعالى آية التيمم. قالت: فقال ابن حضير: ما هذا بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر.

٧٧٠٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم كان في سفر، ففقدت عائشة قلادة لها، فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وليس معهم ماء، فأتى أبو بكر على عائشة، فقال لها: شققت على الناس! وقال أيوب بيده ـ يصف أنه قرصها قال: ونزلت آية التيمم، ووجدت القلادة في مناخ البعير، فقال الناس: ما رأينا امرأة أعظم بركة منها.

٧٧٠٤ـ حدثني محمد بن عبد اللّه الهلالي، قال: ثني عمران بن محمد الحداد، قال: ثني الربيع بن بدر، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا من بَلَعْرَج يقال له: الأسلع، قال: كنت أخدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وأرْحَلُ له، فقال لي ذات ليلة: (يا أسْلَعْ قُمْ فارْحَلْ لي!) قلت: يا رسول اللّه أصابتني جنابة. فسكت ساعة، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، ووصف لنا ضربتين.

٧٧٠٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عمرو بن خالد، قال: ثني الربيع بن بدر، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا يقال له الأسلع، قال: كنت أخدم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكر مثله، إلا أنه قال: فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا ـ أو قال ساعة الشكّ من عمرو قال: وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قُمْ يا أسْلَعُ فَتَيَمّمْ!) قال: فتيممت ثم رحلت له

قال: فسرنا حتى مررنا بماء فقال: (يا أسْلَعُ مَسّ ـ أو أمِسّ بهذا جلدك!) قال: وأراني التيمم كما أراه أبوه: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.

٧٧٠٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن نفيل، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، قال: ثني عبد اللّه بن عبيد اللّه بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان أبو عمرو حاجب عائشة: أن ابن عباس دخل عليها في مرضها،

فقال: أبشري كنت أحبّ نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحبّ إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلتقطها، حتى أصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل اللّه : {تيمّمُوا صَعيدا طيّبا} فكان ذلك من سببك، وما أذن اللّه لهذه الأمة من الرخصة.

٧٧٠٧ـ حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجالاً في طلبها، فوجدوها. وأدركتهم الصلاة، وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه آية التيمم¹ فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك اللّه خيرا، فواللّه ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل اللّه لك وللمسلمين فيه خيرا.

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه، عن عائشة زوج النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون إلى المدينة، فأناخ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزل، فبينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجري راقد، أقبل أبي، فلكزني لكزة، ثم قال: حبست الناس. ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استيقظ، وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، ونزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ}.. الاَية. قال أسيد بن حضير: لقد بارك اللّه للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة.

٧٧٠٨ـ حدثني الحسن بن شبيب، قال: حدثنا ابن عيينة، قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، عن عبد اللّه بن أبي مليكة، قال: دخل ابن عباس على عائشة،

فقال: كنت أعظم المسلمين بركة على المسلمين سقطت قلادتك بالأبواء، فأنزل اللّه فيك آية التيمم.

واختلف القراء في قراءة قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}. فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: {أوْ لامَسْتُمُ} بمعنى: أو لمستم نساءكم ولمستكم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ) بمعنى: أو لمستم أنتم أيها الرجال نساءكم. وهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأنه لا يكون الرجل لامسا امرأته إلا وهي لامسته، فاللمس في ذلك يدلّ على معنى اللماس، واللماس على معنى اللمس من كل واحد منهما صاحبه، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارىء فمصيب، لاتفاق معنييهما.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْم تَجدوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فلم تَجِدُوا مَاءً} أو لمستم النساء، فطلبتم الماء لتتطهروا به، فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن، {فَتَيَمّمُوا}

يقول: فتعمدوا، وهو تفعلوا من قول القائل: تيممت كذا: إذا قصدته وتعمدته فأنا أتيممه، وقد يقال منه: يممه فلان فهو ييممه، وأيممته أنا وأممته خفيفة، وتيممت وتأممت، ولم يسمع فيها يممت خفيفة. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:

تَيَمّمْتُ قَيْسا وكَمْ دُونَهُمنَ الأرْضِ منْ مَهْمَه ذي شَزَنْ

يعني بقوله: تيممت: تعمدت وقصدت، وقد ذكر أنها في قراءة عبد اللّه : (فأُمّوا صعيدا).

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٧٠٩ـ حدثني عبد اللّه بن محمد، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: {فَتيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا} قال: تحرّوا وتعمدوا صعيدا طيبا.

وأما الصعيد، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه،

فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس ذكر من قال ذلك:

٧٧١٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {صَعِيدا طَيّبا} قال: التي ليس فيها شجر ولا نبات.

وقال آخرون: بل هو الأرض المستوية. ذكر من قال ذلك:

٧٧١١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الصعيد: المستوي.

وقال آخرون: بل الصعيد: التراب. ذكر من قال ذلك:

٧٧١٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي، قال: الصعيد: التراب.

وقال آخرون: الصعيد: وجه الأرض.

وقال آخرون: بل هو وجه الأرض ذات التراب والغبار.

وأولى ذلك بالصواب قول من قال: هو وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء المستوية، ومنه قول ذي الرمة:

كأنّهُ بالضّحَى يَرْمي الصّعِيدَ بهِدَبّابَةٌ فِي عِظامِ الرأسِ خُرْطُومُ

يعني: يضرب به وجه الأرض.

وأما قوله طيبا، فإنه يعني به: طاهرا من الأقذار والنجاسات.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {طَيّبا}

فقال بعضهم: حلالاً. ذكر من قال ذلك:

٧٧١٣ـ حدثني عبد اللّه بن محمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: {صَعيدا طَيّبا} قال: قال بعضهم: حلالاً.

وقال بعضهم بما:

٧٧١٤ـ حدثني عبد اللّه ، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، قال: قلت لعطاء: {فتيمّمُوا صَعيدا طيّبا} قال: الطيب: ما حولك. قلت: مكان جَرْدٌ غير أبطح، أيجزىء عني؟ قال: نعم.

ومعنى الكلام: فإن لم تجدوا ماء أيها الناس، وكنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لمستم النساء، فأردتم أن تصلوا فتيمموا،

يقول: فتعمدوا وجه الأرض الطاهرة، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم.

القول في تأويل قوله تعالى: {فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم، ولكنه ترك ذكر (منه) اكتفاء بدلالة الكلام عليه. والمسح منه بالوجه أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسح بما علق من الغبار وجهه، فإن كان الذي علق به الغبار كثيرا، فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز. وإن لم يعلق بيديه من الغبار شيء، وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه أجزأه ذلك، لإجماع جميع الحجة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد وهو أرض رمل فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به أن ذلك مجزئه، لم يخالف ذلك من يجوز أن يعتدّ بخلافه. فلما كان ذلك إجماعا منهم كان معلوما أن الذي يراد به من ضرب الصعيد باليدين مباشرة الصعيد بهما بالمعنى الذي أمر اللّه بمباشرته بهما، لا لأخذ تراب منهوأما المسح باليدين، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدّ الذي أمر اللّه بمسحه من اليدين،

فقال بعضهم: حدّ ذلك الكفان إلى الزندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين. ذكر من قال ذلك:

٧٧١٥ـ حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن أبي مالك، قال: تيمم عمار فضرب بيديه إلى التراب ضربة واحدة، ثم مسح بيديه واحدة على الأخرى، ثم مسح وجهه، ثم ضرب بيديه أخرى، فجعل يلوي يده على الأخرى ولم يمسح الذراع.

٧٧١٦ـ حدثنا أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن ابن أبي خالد، قال: رأيت الشعبي وصف لنا التيمم: فضرب بيديه إلى الأرض ضربة، ثم نفضهما ومسح وجهه، ثم ضرب أخرى، فجعل يلوي كفيه إحداهما على الأخرى، ولم يذكر أنه مسح الذراع.

٧٧١٧ـ حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك، قال: وضع عمار بن ياسر كفيه لفي التراب، ثم رفعهما فنفخهما، فمسح وجهه وكفيه، ثم قال: هكذا التيمم.

٧٧١٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تميلة، قال: حدثنا سلام مولى حفص، قال: سمعت عكرمة،

يقول: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين.

٧٧١٩ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن سعيد وابن جابر، أن مكحولاً كان

يقول: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، ويتأوّل مكحول القرآن في ذلك: {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ} وقوله في التيمم: {فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ} ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء إلى المرافق. قال مكحول: قال اللّه : {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدَيهُما} فإنما تقطع يد السارق من مفصل الكوع.

٧٧٢٠ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر التنيسي، عن ابن جابر: أنه رأى مكحولاً يتيمم يضرب بيديه على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه بواحدة.

٧٧٢١ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: التيمم: ضربة للوجه والكفين.

وعلة من قال هذه المقالة من الأثر ما:

٧٧٢٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر: أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن التيمم،

فقال: (مَرّةً للكَفّيْنِ والوَجْهِ). وفي حديث ابن بشر: أن عمارا سأل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن التيمم.

٧٧٢٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيدة بن سعيد القرشي، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبزى، قال: جاء رجل إلى عمر،

فقال: إني أجنبت فلم أجد الماء، فقال عمر: لا تصلّ! فقال له عمار: أما تذكر أنا في مسير على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصلّ، وأما أنا فتمعّكت في التراب وصليت، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكرت ذلك له،

فقال: (إنّمَا كَانَ يَكفْيكَ) وضرب كفيه الأرض ونفخ فيهما ومسح وجهه وكفيه مرّة واحدة؟

وقالوا: أمر اللّه في التيمم بمسح الوجه واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس.

وقال آخرون: حدّ المسح الذي أمر اللّه به في التيمم أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين. ذكر من قال ذلك:

٧٧٢٤ـ حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: حدثنا عبد الوراث بن سعيد، قال: حدثنا أيوب، عن نافع: أن ابن عمر تيمم بمربد النعم، فضرب ضربة فمسح وجهه، وضرب ضربة فمسح يديه إلى المرفقين.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، قال: سمعت عبيد اللّه ، عن نافع، عن عبد اللّه أنه قال: التيمم مسحتان، يضرب الرجل بيديه الأرض، يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما مرة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا يحيـى بن عبيد اللّه ، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر في التيمم، قال: ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، عن عبيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان يقول في المسح في التيمم إلى المرفقين.

٧٧٢٥ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا ابن عون، قال: سألت الحسن، عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه، وضرب بيديه فمسح بهما ذراعيه ظاهرهما وباطنهما.

٧٧٢٦ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر أنه قال في هذه الاَية: {فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ إلى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ} وقال في هذه الاَية: {فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ} قال: أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل في الوضوء وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء الرأس والرجلان.

٧٧٢٧ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا ابن المثنى، قال: ثني محمد بن أبي عديّ جميعا، عن داود، عن الشعبي في التيمم، قال: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.

٧٧٢٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: أمر بالتيمم فيما أمر بالغسل.

٧٧٢٩ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سألت سالم بن عبد اللّه عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة أخرى فمسح بهما يديه إلى المرفقين.

٧٧٣٠ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: وأخبرنا حبيب بن الشهيد، عن الحسن أنه سئل عن التيمم،

فقال: ضربة يمسح بها وجهه، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين.

وعلة من قال هذه المقالة أن التيمم بدل من الوضوء على المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء. واعتلوا من الأثر بما:

٧٧٣١ـ حدثني به موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن عبد اللّه بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم، قال: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبول فسلمت عليه فلم يردّ عليّ، فلما فرغ قام إلى حائط، فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الحائط، فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد عليّ السلام.

وقال آخرون: الحدّ الذي أمر اللّه أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم الاَباط. ذكر من قال ذلك:

٧٧٣٢ـ حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة التنيسي، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: التيمم إلى الاَباط.

وعلة من قال ذلك أن اللّه أمر بمسح اليد في التيمم كما أمر بمسح الوجه، وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك عليه جميع اليد، ومن طرف الكف إلى الإبط يد. واعتلوا من الخبر بما:

٧٧٣٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا صيفي بن ربعي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أضاء الصبح، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة المسح بالصعيد، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة، نزل فيك رخصة! فضربنا بأيدينا ضربة لوجهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والاَباط.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن الحدّ الذي لا يجزىء المتيمم أن يقصر عنه في مسحه بالتراب من يديه، الكفان إلى الزندين لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز، ثم هو فيما جاوز ذلك مخير إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الاَباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرا فيما جاوز الكفين أن اللّه لم يحدّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدّا لا يجوز التقصير عنه، فما مسح المتيمم من يديه أجزأه، إلا ما أجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه، وقد أجمع الجميع على أن التقصير عن الكفين غير مجزىء، فخرج ذلك بالسنة، وما عدا ذلك فمختلف فيه، وإذ كان مختلفا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلاً في عموم الاَية كان خارجا مما لزمه من فرض ذلك.

واختلف أهل التأويل في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا؟ فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء حكم من جاء من الغائط، وسائر من أحدث ممن جعل التيمم له طهورا لصلاته، وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول اللّه : {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} أو جامعتموهنّ، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك. واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره بإجماع الحجة على ذلك نقلاً عن نبيها صلى اللّه عليه وسلم الذي يقطع العذر، ويزيل الشكّ

وقال جماعة من المتقدمين: لا يجزىء الجنب غير الاغتسال بالماء، وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره.

قالوا: وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب، وتأوّلوا قول اللّه : {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}

قالوا: وقد نهى اللّه الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازا فيه حتى يغتسل، ولم يرخص له بالتيمم.

قالوا: وتأويل قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}: أو لامستموهنّ باليد دون الفرج ودون الجماع.

قالوا: فلم نجد اللّه رخص للجنب في التيمم، بل أمره بالغسل، وأن لا يقرب الصلاة إلا مغتسلاً.

قالوا: والتيمم لا يطهره لصلاته. ذكر من قال ذلك:

٧٧٣٤ـ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، قال: كنت مع عبد اللّه بن مسعود وأبي موسى الأشعري، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهرا أيتيمم؟ فقال عبد اللّه : لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا. فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الاَية في سورة المائدة: {فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا}؟ فقال عبد اللّه : إن رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. فقال له أبو موسى: إنما كرهتم هذا لهذا؟ قال: نعم. قال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرّغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة، قال: فذكرت ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (إنّمَا يَكْفِيكَ أنْ تَصْنَعَ هَكَذا)، وضرب بكفيه ضربة واحدة ومسح بهما وجهه، ومسح كفيه؟ قال عبد اللّه : ألم تر عمر لم يقنع لقول عمار؟

٧٧٣٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك وعن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، فأتاه رجل،

فقال: يا أمير المؤمنين إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء! فقال عمر: أما أنا فلو لم أجد الماء لم أكن لأصلي حتى أجد الماء. قال عمار بن ياسر: أتذكر يا أمير المؤمنين حيث كنا بمكان كذا وكذا، ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنا أجنبنا؟ ـ قال: نعم فأما أنا فتمرّغت في التراب، فأتينا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إنْ كانَ الصّعِيدُ لَكافِيكَ)، وضرب بكفيه الأرض، ثم نفخ فيهما، ثم مسح وجهه وبعض ذراعيه؟ فقال: اتق اللّه يا عمار! فقال: يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره،

فقال: لا، ولكن نوليك من ذلك ما توليت.

٧٧٣٦ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم في دكان مسلم الأعور، فقلت: أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب؟ قال: لا أصلي.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الجنب ممن أمره اللّه بالتيمم إذا لم يجد الماء والصلاة بقوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا}. وقد بينا ثم أن معنى الملامسة في هذا الموضع: الجماع بنقل الحجة التي لا يجوز الخطأ فيما نقلته مجمعة عليه ولا السهو ولا التواطؤ والتضافر، بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه التطهر لصلاته، مع ما قد روي في ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأخبار التي قد ذكرنا بعضها وتركنا ذكر كثير منها استغناء بما ذكرنا منها عما لم نذكر، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا} هل ذلك أمر من اللّه بالتيمم كلما لزمه طلب الماء أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدث حدثا يجب عليه منه الوضوء بالماء لو كان للماء واجدا؟

فقال بعضهم: ذلك أمر من اللّه بالتيمم كلما لزمه فرض الطلب بعد الطلب محدثا كان أو غير محدث. ذكر من قال ذلك:

٧٧٣٧ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن عليّ رضي اللّه عنه أنه كان

يقول: التيمم لكل صلاة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحرث، عن عليّ، مثله.

٧٧٣٨ـ حدثني عبد اللّه بن محمد، قال: حدثنا عبدان المروزي، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الوراث، قال: أخبرنا عامر الأحول، عن نافع أنه حدثه، عن ابن عمر مثل ذلك.

٧٧٣٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة.

٧٧٤٠ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، قال: يتيمم لكل صلاة. ويتأول هذه الاَية: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً}.

٧٧٤١ـ قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا الفريابي، عن الأوزاعي، عن يحيـى بن سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن،

قالوا: التيمم لكل صلاة.

٧٧٤٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن النخعي، قال: يتيمم لكل صلاة.

وقال آخرون: بل ذلك أمر من اللّه بالتيمم بعد طلب الماء من لزمه فرض الطلب إذا كان محدثا، فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب فلزمه فرض الطلب، فليس عليه تجديد تيممه، وله أن يصلي بتيممه الأوّل. ذكر من قال ذلك:

٧٧٤٣ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس، عن الحسن، قال: التيمم بمنزلة الوضوء.

٧٧٤٤ـ حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ، قال: حدثنا عمر بن شاكر، عن الحسن، قال: يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث، فإن وجد الماء فليتوضأ.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الحسن، قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث، وكذلك التيمم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا هشام، عن الحسن، قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن، قال: يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث.

٧٧٤٥ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: التيمم بمنزلة الوضوء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: يتيمم المصلى لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضا لأن اللّه جل ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء، فإن لم يجد الماء فالتيمم، ثم أخرج القائم إلى الصلاة من كان قد تقدم قيامه إليها الوضوء بالماء سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إلا أن يكون قد أحدث حدثا ينقض طهارته، فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنةوأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها، ففرض التيمم له لازم بظاهر التنزيل بعد طلبه الماء إذا أعوزه.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه كانَ عَفُوّا غَفُورا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه لم يزل عفوّا عن ذنوب عباده وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به، كما عفا عنكم أيها المؤمنون عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى. {غَفُورا}

يقول: فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذاب على خطاياهم، كما ستر عليكم أيها المؤمنون بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى.

يقول: فلا تعودوا لمثلها فينا لكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك مَنْكَلة.

٤٤

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ...}.

اختلف أهل التأويل في معنى قوله جلّ ثناؤه: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ} فقال قوم: معناه: ألم تخبر.

وقال آخرون: معناه: ألم تعلم. والصواب من القول في ذلك: ألم تر بقلبك يا محمد علما إلى الذين أوتوا نصيبا. وذلك أن الخبر والعلم لا يجليان رؤية، ولكنه رؤية القلب بالعلم لذلك كما قلنا فيه.

وأما تأويل قوله: {إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتَابِ} فإنه يعني: إلى الذين أُعطوا حظّا من كتاب اللّه ، فعلموه. وذكر أن اللّه عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٧٧٤٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرونَ الضّلالَةَ ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ} فهم أعداء اللّه اليهود، اشتروا الضلالة.

٧٧٤٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ} إلى قوله: {يحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قال: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب اليهودي.

٧٧٤٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظمائهم ـ يعني: من عظماء اليهود إذا كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوى لسانه وقال: راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك! ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل اللّه : {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ}.. إلى قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً}.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق بإسناده عن ابن عباس، مثله.

القول في تأويل قوله تعالى: {يَشْتَرونَ الضّلالَةَ ويُرِيدونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ واللّه أعْلَمُ بأعْدَائِكُمْ وكَفَى باللّه وَلِيّا وكَفَى باللّه نَصِيرا}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ}: اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يختارون الضلالة، وذلك الأخذ على غير طريق الحق وركوب غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهم الحقّ. وإنما عنى اللّه بوصفهم باشترائهم الضلالة مقامهم على التكذيب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وتركهم الإيمان به، وهم عالمون أن السبيل الحقّ الإيمان به وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم.

وأما قوله: {ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ} يعني بذلك تعالى ذكره: ويريد هؤلاء اليهود الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب أن تضلوا أنتم يا معشر أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم المصدّقين به أن تضلوا السبيل،

يقول: أن تزولوا عن قصد الطريق، ومحجة الحقّ، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالاً مثلهم. وهذا من اللّه تعالى ذكره تحذير منه عباده المؤمنين أن يستنصحوا أحدا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم، أو أن يسمعوا شيئا من طعنهم في الحقّ.

٤٥

ثم أخبر اللّه جل ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى المؤمنين أن يستنصحوهم في دينهم إياهم، فقال جلّ ثناؤه: {وَاللّه أعْلَمُ بأعْدَائِكُمْ} يعني بذلك تعالى ذكره: واللّه أعلم منكم بعداوة هؤلاء اليهود أيها المؤمنون،

يقول: فانتهوا إلى طاعتي عما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكمم، فإني أعلم بما هم عليه لكم من الغشّ والعداوة والحسد وأنهم إنما يبغونكم الغوائل، ويطلبون أن تضلوا عن محجة الحقّ فتهلكوا.

وأما قوله: {وكَفَى باللّه وَليّا وكَفَى باللّه نَصِيرا} فإنه

يقول: فباللّه أيها المؤمنون فثقوا، وعليه فتوكلوا، وإليه فارغبوا دون غيره، يكفكم مهمكم وينصركم على أعدائكم. {وكَفَى باللّه وَليّا}

يقول: وكفاكم وحسبكم باللّه ربكم وليا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم والحراسة من أن يستفزّكم أعداؤكم عن دينكم أو يصدّوكم عن اتباع نبيكم. {وكَفَى باللّه نَصِيرا}

يقول: وحسبكم باللّه ناصرا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغي دينكم العوج.

٤٦

القول في تأويل قوله تعالى: {مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ ...}.

ولقوله جلّ ثناؤه: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} وجهان من التأويل:

أحدهما: أن يكون معناه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم. فيكون قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا} من صلة (الذين). وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون. قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ}. والاَخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه. فتكون (من) محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا} عليها، وذلك أن (مِن) لو ذكرت في الكلام كانت بعضا لـ (مَنْ)، فاكتفى بدلالة (مِنْ) عليها، والعرب تقول: منا من يقول ذلك، ومنا لا يقوله، بمعنى: منا من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله، فتحذف (من) اكتفاء بدلالة من عليه، كما قال ذو الرمة:

فَظَلّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُوآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ

يعني: ومنهم من دمعه. وكما قال اللّه تبارك وتعالى: {وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك (القوم)، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة:

كأنّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍيُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ

يعني: كأنك جمل من جمال أقيشٍ.

فأما نحويو الكوفة، فينكرون أن يكون المضمر مع (مِن) إلا (مَن) أو ما أشبهها.

والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله: {مِنَ الذِينَ هادُوا} من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصف اللّه صفتهم في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}. وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك.

وأما تأويل قوله: {يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فإنه

يقول: يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله، والكلم جماع كلمة. وكان مجاهد

يقول: عنى بالكلم: التوراة.

٧٧٤٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}: تبديل اليهود التوراة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وأما قوله: {عَنْ مَوَاضِعِهِ} فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه.

وأما تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا يا محمد قولك، وعصينا أمرك. كما:

٧٧٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد، في قوله: {سَمِعْنا وَعَصَيْنا} قال: قالت اليهود: سمعنا ما تقول، ولا نطيعك.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٧٥١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {سَمعنا وَعَصَيْنا}

قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}.

وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عصره، أنهم كانوا يسبون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يسبه: اسمع لا أسمعك اللّه . كما:

٧٧٥٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة ما يقول الإنسان: اسمع لاسمعت، أذى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وشتما له واستهزاء.

٧٧٥٣ـ حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: يقولون لك: واسمع لاسمعت.

وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك. ولو كان ذلك معناه لقيل: واسمع غير مسموع، ولكن معناه: واسمع لاتسمع، ولكن قال اللّه تعالى ذكره: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}

يقول: غير مقبول ما تقول، فهو كما:

٧٧٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: غير مستمع. قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}: غير مقبول ما تقول.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٧٥٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: كما تقول: اسمع غير مسموع منك.

٧٧٥٦ـ وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: كان ناس منهم يقولون: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} كقولك: اسمع غير صاغ.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ}.

يعني بقوله: {وَرَاعِنا}: أي راعنا سمعك، افهم عنا وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته.

ثم أخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} يعني: تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم {وَطَعْنا فِي الدّين}. كما:

٧٧٥٧ـ حدثني الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم: راعنا سمعك! يستهزئون بذلك، فكانت اليهود قبيحة،

فقال: راعنا سمعك ليّا بألسنتهم¹ والليّ: تحريكهم ألسنتهم بذلك، {وطَعْنا في الدّينِ}.

٧٧٥٨ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {رَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} كان الرجل من المشركين

يقول: أرعني سمعك! يلوي بذلك لسانه، يعني: يحرّف معناه.

٧٧٥٩ـ حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}.. إلى: {وَطَعْنا فِي الدّينِ} فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويطعنون في الدين.

٧٧٦٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} قال: (راعنا) طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه

قال: والراعن: الخطأ من الكلام.

٧٧٦١ـ حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، أبو روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} قال: تحريفا بالكذب.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف اللّه صفتهم قالوا لنبيّ لله: سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند اللّه ، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا، {لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ}

يقول: لكان ذلك خيرا لهم عند اللّه وأقوم،

يقول: وأعدل وأصوب في القول. وهو من الاستقامة من قول اللّه : {وَأقْوَمَ قِيلاً} بمعنى: وأصوب قيلاً. كما:

٧٧٦٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ} قال: يقولون: اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا فلا تعجل علينا.

٧٧٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد، قوله: {وَانظُرْنا} قال: اسمع منا.

٧٧٦٤ـ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {وَانْظُرْنا} قال: أفهمنا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَانْظُرْنا} قال: أفهمنا.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى: {وَانْظُرْنا} إلى: اسمع منا، وتوجيه مجاهد ذلك إلى: أفهمنا، ما لا نعرف في كلام العرب، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا: انتظرنا نفهم ما تقول، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها، فلا نعرف (انظرنا) في كلام العرب إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا، فأما (انظرنا) بمعنى انتظرنا، فمنه قول الحطيئة:

وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنّ دِرّتَكُمْيَوْما يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي

وأما انظرنا بمعنى: انظر إلينا، فمنه قول عبد اللّه بن قيس الرقيات:

ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْنَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظّباءُ

بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً}.

يعني بذلك: ولكن اللّه تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد، واتباع الحقّ بكفرهم، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات {فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً}

يقول: فلا يصدّقون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً،

يقول: لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً. كما:

٧٧٦٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً} قال: لا يؤمنون هم إلا قليلاً.

وقد بينا وجه ذلك بعلله في سورة البقرة.

٤٧

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَآ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}: اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال اللّه لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به، {آمِنُوا}

يقول: صدّقوا بما أنزلنا إلى محمد من الفرقان، {مُصَدّقا لما مَعَكُمْ} يعني: محققا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران، {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: طمسه إياه: محوه آثارها حتى تصير كالأقفاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: أن نطمس أبصارها فنصيرها عمياء، ولكن الخبر خرج بذكر الوجه، والمراد به بصره. {فَنُردّها على أدْبَارِهَا}: فنجعل أبصارها من قبل أقفائها. ذكر من قال ذلك:

٧٧٦٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا}.. إلى قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها} وطمسها أن تعمى فنردّها على أدبارها،

يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقري ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.

٧٧٦٧ـ حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبديّ، قال: حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها} قال: نجعلها في أقفائها فتمشي على أعقابها القهقرى.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية بنحوه، إلا أنه قال: طمسها أن يردّها على أقفائها.

٧٧٦٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها} قال: نحوّل وجوهها قبل ظهورها.

وقال آخرون: معنى ذلك من قبل أن نعمي قوما عن الحقّ، فنردّها على أدبارها في الضلالة والكفر. ذكر من قال ذلك:

٧٧٦٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}: فنردّها عن الصراط الحقّ، {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها} قال: في الضلالة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {أنْ نَطْمِسَ وُجُوها} عن صراط الحقّ، {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِهَا} في الضلالة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

٧٧٧٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال الحسن: {نَطْمِسَ وُجُوها}

يقول: نطمسها عن الحقّ، {فَنَرُدّها عَلى أدْبارِها}: على ضلالتها.

٧٧٧١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}.. إلى قوله: {كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} قال: نزلت في مالك بن الصيّف ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع. أما {أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}

يقول: فنعميها عن الحقّ، ونرجعها كفارا.

٧٧٧٢ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها} يعني: أن نردّهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردّهم على أدبارهم فكفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به.

وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها وناحيتهم التي هم بها، فنردّها على أدبارها من حيث جاءوا منه بدءا من الشام. ذكر من قال ذلك:

٧٧٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها} قال: كان أبي

يقول: إلى الشام.

وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نطمس وجوها فنمحو آثارها ونسوّيها، فنردّها على أدبارها بأن نجعل الوجوه منابت الشعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم،

فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم، فقد ردّها على أدبارها بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى قوله: {مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها}: من قبل أن نطمس أبصارها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء، فنردّها على أدبارها، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوها، فيمشون القهقري، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن اللّه جل ثناؤه خاطب بهذه الاَية اليهود الذين وصف صفتهم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ} ثم حذّرهم جلّ ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}.. الاَية، بأَسه وسطوَتَه، وتعجيل عقابه لهم إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به، ولا شكّ أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارا. وإذ كان ذلك كذلك، فبّين فساد قول من قال: تأويل ذلك أن نعميها عن الحقّ فنردّها في الضلالة، فما وجه ردّ من هو في الضلالة فيها؟ وإنما يرد في الشيء من كان خارجا منه، فأما من هو فيه فلا وجه لأن يقال: يردّه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحا أن اللّه قد تهدّد الذين ذكرهم في هذه الاَية بردّه وجوههم على أدبارهم، كان بينا فساد تأويل من قال: معنى ذلك يهدّدهم بردّهم في ضلالتهم.

وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كهيئة وجوه القردة، فقول لقول أهل التأويل مخالف، وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين على خطئه شاهدا.

وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها فنردّهم إلى الشام من مساكنهم بالحجاز ونجد، فإنه وإن كان قولاً له وجهٌ كما يدلّ عليه ظاهر التنزيل بعيد، وذلك أن المعروف من الوجوه في كلام العرب التي هي خلاف الأقفاء، وكتاب اللّه يوجه تأويله إلى الأغلب في كلام من نزل بلسانه حتى يدلّ على أنه معنيّ به غير ذلك من الوجوه التي ذكرت دليل يجب التسليم لهوأما الطمس: فهو العفو والدثور في استواء¹ ومنه يقال: طمست أعلام الطريق تَطْمِسُ طُمُوسا، إذا دثرت وتعفت فاندفنت واستوت بالأرض، كما قال كعب بن زهير:

منْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرقَتْعُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ

يعني بطامس الأعلام: داثر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى الذي قد تعفيّ غَرّ ما بين جفني عينيه فدثر: أعمى مطموس وطميس، كما

قال اللّه جلّ ثناؤه: {وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنهِمْ}.

قال أبو جعفر: الغَرّ: الشقّ الذي بين الجفنين.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الاَية، فهل كان ما توعدهم به؟ قيل: لم يكن لأنه آمن منهم جماعة، منهم عبد اللّه بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومخيرق، وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم.

ومما يبين عن أن هذه الاَية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم، ما:

٧٧٧٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، قال: ثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود، منهم عبد اللّه بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: (يا مَعْشَرَ يهود اتّقُوا اللّه وأسْلِمُوا! فواللّه إنكم لَتَعْلَمُونَ أنّ الّذي جِئْتُكُمْ به لحقّ)

فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا، وأصرّوا على الكفر، فأنزل اللّه فيهم: {يا أيّها الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}.. الاَية.

٧٧٧٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة، قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب،

فقال: أسلم كعب في زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه عمر،

فقال: يا كعب أسلم! قال: ألستم تقرءون في كتابكم: {مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلوها كمَثَل الحمارِ يَحْمِلُ أسْفارا}؟ وأنا قد حملت التوراة

قال: فتركه ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلاً من أهلها حزينا، وهو

يقول: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنَرُدّها على أدْبارِها}.. الاَية، فقال كعب: يا ربّ أسلمت! مخافة أن تصيبه الاَية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين.

القول في تأويل قوله تعالى: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ وكانَ أمْرُ اللّه مَفْعُولاً}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {أوْ نَلْعَنَهُمْ}: أو نلعنكم، فنخزيكم، ونجعلكم قردة، {كما لَعَنّا أصْحَابَ السّبْتِ}

يقول: كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم، قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله: {آمِنُوا بمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ} كما قال: {حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بِريحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُوا بها}. وقد يحتمل أن يكون معناه: من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها أو نلعن أصحاب الوجوه، فجعل الهاء والميم في قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ} من ذكر أصحاب الوجوه، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٧٧٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ}.. إلى قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} أي نحوّلهم قردة.

٧٧٧٧ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ}

يقول: أو نجعلهم قردة.

٧٧٧٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} إو نجعلهم قردة.

٧٧٧٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ} قال: هم يهود جميعا، نلعن هؤلاء كما لعنا الذين لعنا منهم من أصحاب السبت.

وأما قوله: {وكانَ أمْر اللّه مَفْعُولاً} فإنه يعني: وكان جميع ما أمر اللّه أن يكون كائنا مخلوقا موجودا، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خلقه. والأمر في هذا الموضع: المأمور، سمي أمر اللّه لأنه عن أمره كان وبأمره، والمعنى: وكان ما أمر اللّه مفعولاً.

٤٨

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقا لمِا معكم، وإن اللّه لا يغفر أن يشرك به، فإن اللّه لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والاَثام. وإذ كان ذلك معنى الكلام، فإن قوله: {أنْ يُشْركَ بهِ} في موضع نصب بوقوع يغفر عليها وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرا، وذلك أن يوجه معناه: إلى أن اللّه لا يغفر بأن يشرك به على تأويل الجزاء، كأنه قيل: إن اللّه لا يغفر ذنبا مع شرك أو عن شرك¹ وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون (أن) في موضع خفض في قول بعض أهل العربية. وذكر أن هذه الاَية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إنّ اللّه يَغْفِرُ الذّنُوبَ جمِيعا إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ}. ذكر الخبر بذلك:

٧٧٨٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ثني محبر، عن عبد اللّه بن عمر، أنه قال: لما نزلت: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسهِمْ}.. الاَية، قام رجل فقال: والشرك يا نبيّ اللّه . فكره ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللّه فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيما}.

حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} قال: أخبرني محبر، عن عبد اللّه بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الاَية: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ}.. الاَية، قام رجل فقال: والشرك يا نبيّ اللّه . فكره ذلك النبيّ،

فقال: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}.

٧٧٨١ـ حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا الهيثم بن حماد، قال: حدثنا بكر بن عبد اللّه المزني، عن ابن عمر، قال: كنا معشر أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لا نشكّ في قاتل النفس، وأكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، حتى نزلت هذه الاَية: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} فأمسكنا عن الشهادة.

وقد أبانت هذه الاَية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة اللّه ، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكُ باللّه فَقَدِ افْتَرَى إثما عَظِيما}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يشرك باللّه في عبادته غيره من خلقه، فقد افترى إثما عظيما،

يقول: فقد اختلق إثما عظيما. وإنما جعله اللّه تعالى ذكره مفتريا، لأنه قال زورا وإفكا بجحوده وحدانية اللّه وإقراره بأن لله شريكا من خلقه وصاحبة أو ولدا، فقائل ذلك مفتر، وكذلك كلّ كاذب فهو مفتر في كذبه مختلق له.

٤٩

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرّئونها من الذنوب، ويطرونها.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها،

فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم: {نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُه}. ذكر من قال ذلك:

٧٧٨٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتيلاً} وهم أعداء اللّه اليهود زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه،

فقالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، و

قالوا: لا ذنوب لنا.

٧٧٨٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: هم اليهود والنصارى،

قالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ}

وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانع هُودا أوْ نَصَارَى}.

٧٧٨٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك ، قال: قالت يهود: ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون، فإن كات لهم ذنوب، فإن لنا ذنوبا، فإنما نحن مثلهم، قال اللّه تعالى ذكره: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّه الكَذِبَ وكَفَى بِهِ إثما مُبِينا}.

٧٧٨٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: قال أهل الكتاب: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَن كانَ هُودا أوْ نَصَارَى}

وقالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ}

وقالوا: نحن على الذي يحبّ اللّه . فقال تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه وأهل طاعته.

٧٧٨٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُم بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} نزلت في اليهود،

قالوا: إنا نعّلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كُفّر عنا بالليل.

وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإماتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم. ذكر من قال ذلك:

٧٧٨٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: يهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد، قال: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك تزكية. قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى.

٧٧٨٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ} قال: نزلت في اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم يقولون: ليست لهم ذنوب.

٧٧٨٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم، يقولون ليس لهم ذنوب، فأنزل اللّه : {ألَمْ تَرع إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم كات قولهم: إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} وذلك أن اليهود

قالوا: إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند اللّه ، وسيشفعون ويزكوننا. فقال اللّه لمحمد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ}.. إلى {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.

وقال آخرون: بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩١ـ حدثني فيحيـى بن إبراهيم المسعودي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد اللّه : إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا، ف

يقول: واللّه إنك لذيت وذيت، ولعلّه أن يرجع، ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط اللّه عليه. ثم قرأ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ}.. الاَية.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى تزكية القوم الذين وصفهم اللّه بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء وأحباء، كما أخبر اللّه عنهم أنهم كانوا يقولونه، لأنه ذلك هو أظهر معانيه لإخبار اللّه عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها.

وأما الذين قالوا: معنى ذلك: تقديمهم أطفالهم للصلاة، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلموأما قوله جلّ ثناؤه: {بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} فإنه تكذيب من اللّه المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرئيها من الذنوب، يقول اللّه لهم: ما الأمر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وإنكم برآء مما يكرهه اللّه ، ولكنكم أهل فرية وكذب على اللّه ، وليس المزكي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه اللّه ، واللّه يزكي من يشاء من خلقه، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معصاصيه إلى ما يرضاه من طاعته.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جلّ ثناؤه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّه الكَذِبَ} وأخبر أنهم يفترون على اللّه الكذب بدعواهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وأن اللّه قد طهرهم من الذنوب.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولا يظلم اللّه هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه، فيوفقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه¹ كل ذلك إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلاً.

واختلف أهل التأويل في معنى (الفتيل)،

فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالأخرى. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩٢ـ حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الفتيل: ما خرج من بين أصبعيك.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التيمي، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: ما فتلت بين أصبعيك.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن زيد بن درهم أبي العلاء، قال: سمعت أبا العالية، عن ابن عباس: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} والفتيل: هو أن تدلك بين أصبعيك، فما خرج بينهما فهو ذلك.

٧٧٩٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: خبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: الوسخ الذي يخرج من بين الكفين.

٧٧٩٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: الفتيل: ما فتلت به يديك فخرج وسخ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما.

وأناس يقولون: الذي يكون في بطن النواة. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: {فَتِيلاً} قال: الذي في بطن النواة.

٧٧٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني طلحة بن عمرو، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول، فذكر مثله.

٧٧٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد اللّه بن كثير، أنه سمع مجاهدا

يقول: الفتيل: الذي في شقّ النواة.

٧٧٩٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفتيل: في النوى.

٧٧٩٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: الذي في شقّ النواة.

٧٨٠٠ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك

يقول: الفتيل: شِقّ النواة.

٧٨٠١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الفتيل: الذي في بطن النواة.

٧٨٠٢ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: الفتيل: الذي يكون في شقّ النواة.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}: فتيل النواة.

٧٨٠٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرّة، عن عطية، قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.

قال أبو جعفر: وأصل الفتيل: المفتول، صرف من فمفعول إلى فعيل، كما قيل: صريع ودهين من مصروع ومدهون. وإذ كان ذلك كذلك، وكان اللّه جل ثناؤه إنما قصد بقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقلّ الأشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر، وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى، كالذي هو في شقّ النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له ولا قيمة، فواجب أن يكون كل ذلك داخلاً في معنى الفتيل، إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دلّ عليه ظاهر التنزيل.

٥٠

القول في تأويل قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الكَذِبَ وَكَفَىَ بِهِ إِثْماً مّبِيناً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: انظر يا محمد كيف يفتري هؤلاء الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب القائلون: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وإنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، الزاعمون أنه لا ذنوب لهم الكذب والزور من القول، فيختلفونه على اللّه . {وكَفَى بِهِ}

يقول: وحسبهم بقيلهم ذلك الكذب والزور على اللّه {إثْما مُبِينا} يعني: إنه يبين كذبهم لسامعيه، ويوضح لهم أنهم أفكة فجرة. كما:

٧٨٠٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: هم اليهود والنصارى {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّه الكَذِبَ}.

٥١

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ ...}.

يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر بقلبك يا محمد إلى الذين أعطوا حظا من كتاب اللّه فعلموه يؤمنون بالجبت والطاغوت، يعني: يصدّقون بالجبت والطاغوت ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر والتصديق بهما شرك.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الجبت والطاغوت،

فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون اللّه . ذكر من قال ذلك:

٧٨٠٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال: الجبت والطاغوت: صنمان.

وقال آخرون: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام. ذكر من قال ذلك:

٧٨٠٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {ألَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ أُوتُو نَصِيبا مِن الكِتابِ يُؤمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.

وزعم رجال أن الجبت: الكاهن والطاغوت: رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف، وكان سيد اليهود.

وقال آخرون: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:

٧٨٠٧ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، قال: قال عمر رضي اللّه عنه: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العنسي، عن عمر مثله.

٧٨٠٨ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.

٧٨٠٩ـ حدثني يعقوب، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، قال: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطات والكاهن.

وقال آخرون: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:

٧٨١٠ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبي

يقول: الجبت: الساحر، والطاغوت: الشيطان.

وقال آخرون: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن. ذكر من قال ذلك:

٧٨١١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية: {الجبت والطاغوت}، قال: الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن.

٧٨١٢ـ حدثنا ابن المثنى، قال: عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن رفيع، قال: الجبت: الساحر، والطاغوت: الكاهن.

٧٨١٣ـ حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر، والجبت: الكاهن.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن داود، عن أبي العالية في قوله: {الجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} قال: أحدهما السحر، والاَخر الشيطان.

وقال آخرون: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن. ذكر من قال ذلك:

٧٨١٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} كنا نحدّث أن الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٧٨١٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن.

وقال آخرون: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:

٧٨١٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت: الكاهن: والطاغوت: الساحر.

٧٨١٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن محمد، قال في الجبت والطاغوت، قال: الجبت: الكاهن، والاَخر: الساحر.

وقال آخرون: الجبت: حيـي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف. ذكر من قال ذلك:

٧٨١٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} الطاغوت: كعب بن الأشرف، والجبت: حيـي بن أخطب.

٧٨١٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: الجبت: حيـي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف.

حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: {الجِبْتِ والطّاغُوتِ} قال: الجبت: حيـي بن أخطب، والطاغوت. كعب بن الأشرف.

وقال آخرون: الجبت: كعب بن الأشرف، والطاغوت: الشيطان. ذكر من قال ذلك:

٧٨٢٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، قال: الجبت كعب بن الأشرف، والطاغوت: الشيطان كان في صورة إنسان.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل: {يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ وَالطّاغُوتِ} أن يقال: يصدّقون بمعبودين من دون اللّه يعبدونهما من دون اللّه ، ويتخذونهما إلهين. وذلك أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون اللّه ، أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان.

وإذ كان ذلك كذلك وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون اللّه فقد كانت جبوتا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية اللّه ، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولاً منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيـي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية اللّه والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين. وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت طاغوت، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِن الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية اللّه ورسالة رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم: {هَؤلاء} يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم اللّه بالكفر {أهْدَى} يعني أقوم وأعدل {مِنَ الّذِينَ آمَنُوا} يعني من الذين صدّقوا اللّه ورسوله وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى اللّه عليه وسلم {سَبِيلاً} يعني: طريقا. وإنما ذلك مثل، ومعنى الكلام: إن اللّه وصف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود بتعظيمهم غير اللّه بالعبادة والإذعان له بالطاعة في الكفر باللّه ورسوله ومعصيتهما، وأنهم

قالوا: إن أهل الكفر باللّه أولى بالحق من أهل الإيمان به، وإن دين أهل التكذيب لله ولرسوله أعدل وأصوب من دين أهل التصديق لله ولرسوله، وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك. ذكر الاَثار الواردة بما قلنا:

٧٨٢١ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم.

قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه

قال: فأنزلت: {إنّ شانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}، وأنزلت: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجبْتِ والطّاغُوتِ}.. إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا}.

٧٨٢٢ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرمة في هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتاب} ثم ذكر نحوه.

وحدثني إسحاق بن شاهين، قال: أخبرنا خالد الواسطي، عن داود، عن عكرمة، قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقال له المشركون: احكم بيننا وبين هذا الصنبور الأبتر، فأنت سيدنا وسيد قومك. فقال كعب: أنتم واللّه خير منه. فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتاب}.. إلى آخر الاَية.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه، وقال: إنا معك نقاتله،

فقالوا: إنكم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما! ففعل. ثم

قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده

قال: بل أنتم خير وأهدى! فنزلت فيه: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُو نَصِيبا مِنَ الكِتاب يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}.

٧٨٢٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: لما كان من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واليهود بني النضير ما كان حين أتاهم يستعينهم في دية العامريين، فهمّوا به وبأصحابه، فأطلع اللّه ورسوله على ما همّوا به من ذلك، ورجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة، فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: يا أبا سعد، إنكم قوم تقرءون الكتاب، وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم، فأخبرنا: ديننا خير أم دين محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم! فقال أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه

قال: دينكم خير من دين محمد، فاثبتوا عليه! ألا ترون أن محمدا يزعم أنه بعث بالتواضع، وهو ينكح من النساء ما شاء؟ وما نعلم ملكا أعظم من ملك النساء! فذلك حين

يقول: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنونَ بالجبتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}.

٧٨٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش قال: كفار قريش أهدى من محمد عليه الصلاة والسلام. قال ابن جريج: قدم كعب بن الأشرف، فجاءته قريش فسألته عن محمد فصغر أمره ويسره وأخبرهم أنه ضالّ

قال: ثم قالوا له: ننشدك اللّه نحن أهدى أم هو؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعمر البيت، ونطعم ما هبّت الريح! قال: أنتم أهدى.

وقال آخرون: بل هذه الصفة جماعة من اليهود منهم حيـي بن أخطب، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر اللّه عنهم أنهم قالوه لهم. ذكر الأخبار بذلك:

٧٨٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن قاله، قال: أخبرني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حُيَـيّ بن أخطب، وسلام بن أي الحُقَيق، وأبو رافع، والربيع بن أبي الحُقَقيق، وأبو عامر، ووحْوح بن عامر، وهَوْذة بن قيس¹ فأما وحوح، وأبو عامر، وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش،

قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول، فاسألوهم أدينكم خير، أم دين محمد؟ فسألوهم،

فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل اللّه فيهم: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ}.. إلى قوله: {وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما}.

٧٨٢٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطّاغُوتِ}.. الاَية، قال: ذكر لنا أن هذه الاَية أنزلت في كعب بن الأشرف وحيـي بن أخطب ورجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا بموسم، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم. فقالا: لا، بل أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه.

وقال آخرون: بل هذه صفة حيـي بن أخطب وحده، وإياه عني بقوله: {وَيقُولُونَ للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}. ذكر من قال ذلك:

٧٨٢٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}.. إلى آخر الاَية، قال: جاء حيـي بن أخطب إلى المشركين،

فقالوا: يا حيـي إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ نحن وأنتم خير منهم! فذلك قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}.. إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا}.

وأولى الأقوال بالصحة في ذلك قول من قال: إن ذلك خبر من اللّه جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود، وجائز أن يكون كانت الجماعة الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعد أو يكون حييا وآخر معه، إما كعبا وإما غيره.

٥٢

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَن يَلْعَنِ اللّه فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: أولئك هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم الذين لعنهم اللّه ،

يقول: أخزاهم اللّه فأبعدهم من رحمته بإيمانهم بالجبت والطاغوت وكفرهم باللّه ورسوله، عنادا منهم لله ولرسوله، وبقولهم: {للّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}. {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه }

يقول: ومن يخزه اللّه فيبعده من رحمته، {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا}

يقول: فلن تجد له يا محمد ناصرا ينصره من عقوبة اللّه ولعنته التي تحلّ به فيدفع ذلك عنه¹ كما:

٧٨٢٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال كعب بن الأشرف وحيـي بن أخطب ما قالا، يعني من قولهما: (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً)، وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل اللّه : {أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا}.

٥٣

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاّ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ} أم لهم حظّ من الملك،

يقول: ليس لهم حظّ من الملك. كما:

٧٨٢٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ}

يقول: لو كان لهم نصيب من الملك إذا لم يؤتوا محمدا نقيرا.

٧٨٣٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قال اللّه : {أمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ} قال: فليس لهم نصيب من الملك، {فإذًا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرا} ولو كان لهم نصيب وحظّ من الملك، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرا من بخلهم.

واختلف أهل التأويل في معنى النقير،

فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٣١ـ حدثني المثنى، قال: ثني عبد اللّه ، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {نَقِيرا}

يقول: النقطة التي في ظهر النواة.

حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: النقير الذي في ظهر النواة.

حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس، قال: النقير: وسط النواة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {فإذًا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرا} النقير: نقير النواة: وسطها.

٧٨٣٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: {أمْ لَهُمْ نَصيبٌ مِنَ المُلْك فإذًا لا يُؤتُونَ النّاس نَقِيرا}

يقول: لو كان لهم نصيب من الملك إذًا لم يؤتوا محمدا نقيرا، والنقير: النقطة التي في وسط النواة.

٧٨٣٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني طلحة بن عمرو أنه سمع عطاء بن أبي رباح،

يقول: النقير: الذي في ظهر النواة.

٧٨٣٤ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: النقير: النقرة التي تكون في ظهر النواة.

٧٨٣٥ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: النقير: الذي في ظهر النواة.

وقال آخرون: النقير: الحبة التي تكون في وسط النواة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٣٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {نَقِيرا} قال: النقير: حبة النواة التي في وسطها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فإذًا لا يُؤْتونَ النّاسَ نَقِيرا} قال: النقير: حبة النواة التي في وسطها.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: النقير في النوي.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد اللّه بن كثير أنه سمع مجاهدا

يقول: النقير: نقير النواة الذي في وسطها.

٧٨٣٧ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم

يقول: النقير: نقر النواة الذي يكون في وسط النواة.

وقال آخرون: معنى ذلك: نقر الرجل الشيء بطرف أصابعه. ذكر من قال ذلك:

٧٨٣٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء، قال: سمعت أبا العالية، ووضع ابن عباس طرف الإبهام على ظهر السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن اللّه وصف هؤلاء الفرقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي لا خطر له، ولو كانوا ملوكا وأهل قدرة على الأشياء الجليلة الأقدار. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى النقير أن يكون أصغر ما يكون من النقر، وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النقر، وقد يدخل في ذلك كل ما شاكلها من النقر. ورفع قوله: {لا يُؤْتُونَ النّاسَ} ولم ينصب بـ(إذا)، ومن حكمها أن تنصب الأفعال المستقبلة إذا ابتدىء الكلام بها¹ لأن معها فاء، ومن حكمها إذا دخل فيها بعض حروف العطف أن توجه إلى الابتداء بها مرّة وإلى النقل عنها إلى غيرها أخرى، وهذا الموضع مما أريد بالفاء فيه النقل عن إذًا إلى ما بعدها، وأن يكون معنى الكلام: أم لهم نصيب فلا يؤتون الناس نقيرا إذًا.

٥٤

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَىَ مَآ آتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ ...}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ} أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من اليهود. كما:

٧٨٣٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ} قال: اليهود.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٨٤٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.

وأما قوله: {النّاسَ} فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عنى اللّه به،

فقال بعضهم: عنى اللّه بذلك محمدا صلى اللّه عليه وسلم خاصة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٤١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: أخبرنا هشيم، عن خالد، عن عكرمة في قوله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} قال: الناس في هذا الموضع: النبيّ صلى اللّه عليه وسلم خاصة.

٧٨٤٢ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {أمْ يَحْسُدونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} يعني: محمدا صلى اللّه عليه وسلم.

٧٨٤٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.

٧٨٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} قال: الناس: محمد صلى اللّه عليه وسلم.

٧٨٤٥ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك

يقول: فذكر نحوه.

وقال آخرون: بل عَنَى اللّه به العربَ. ذكر من قال ذلك:

٧٨٤٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} أولئك اليهود حسدوا هذا الحيّ من العرب على ما آتاهم اللّه من فضله.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن اللّه عاتب اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلاً على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذبة: أم يحسدون محمدا على آتاهم اللّه من فضله.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ما قبل قوله: {أم يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} مضى بذمّ القائلين من اليهود للذين كفروا: {هَؤُلاء أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}، فإلحاق قوله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل أشبه وأولى، ما لم يأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل الفضل الذي أخبر اللّه أنه آتى الذين ذكرهم في قوله: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}

فقال بعضهم: ذلك الفضل هو النبوّة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٤٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {أم يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}: حسدوا هذا الحيّ من العرب على ما آتاهم اللّه من فضله، بعث اللّه منهم نبيا فحسدوهم على ذلك.

٧٨٤٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: {عَلى ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} قال: النبوّة.

وقال آخرون: بل ذلك الفضل الذي ذكر اللّه أنه آتاهموه: هو إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم من النساء، ينكح منهنّ ما شاء بغير عدد.

قالوا: وإنما يعني بالناس: محمدا صلى اللّه عليه وسلم على ما ذكرت قبل. ذكر من قال ذلك:

٧٨٤٩ـ حدثني محمد بن سعد،قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.. الاَية، وذلك أن أهل الكتاب

قالوا: زعم محمد أنه أُوتي ما أُوتي في تواضع وله تسع نسوة، ليس همه إلا النكاح، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فقال اللّه : {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}.

٧٨٥٠ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {أمْ يَحْسُدُونَ النّاس على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} يعني محمدا أن ينكح ما شاء من النساء.

٧٨٥١ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {أمْ يُحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} وذلك أن اليهود

قالوا: ما شأن محمد أعطي النبوّة كما يزعم وهو جائع عار، وليس له همّ إلا نكاح النساء؟ فحسدوه على تزويج الأزواج، وأحلّ اللّه لمحمد أن ينكح منهنّ ما شاء أن ينكح.

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول قتادة وابن جُريج الذي ذكرناه قبلُ أن معنى الفضل في هذا الموضع النبوّة التي فضل اللّه بها محمدا، وشرّف بها العرب إذ آتاها رجلاً منهم دون غيرهم، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الاَية تدلّ على أنها تقريظ للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه رضي اللّه عنهم، على ما قد بينا قبل، وليس النكاح وتزويج النساء، وإن كان من فضل اللّه جل ثناؤه الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما}.

يعني: بذلك جلّ ثناؤه: أم يحسد هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَيات، الناسَ على ما آتاهم اللّه من فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم، فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد آتيناهم بالكتاب؟ ويعني بقوله: {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ}: فقد أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه {الكِتَابَ} يعني: كتاب اللّه الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزبور، وسائر ما آتاهم من الكتبوأما الحكمة، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابا مقروءا. {وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما}.

واختلف أهل التأويل في معنى المُلْكِ العظيم الذي عناه اللّه في هذه الاَية،

فقال بعضهم: هو النبوّة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٥٢ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ} قال: يهود، {على ما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} فقد آتينا آل آبراهيم الكتاب وليسوا منهم، والحكمة، {وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما} قال: النبوّة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: {مُلْكا}: النبوّة.

وقال آخرون: بل ذلك تحليل النساء¹

قالوا: وإنما عنى اللّه بذلك: أم يحسدون محمدا على ما أحلّ اللّه له من النساء، فقد أحلّ اللّه مثل الذي أحله له منهنّ لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك وحسدوا محمدا عليه الصلاة والسلام؟ ذكر من قال ذلك:

٧٨٥٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فقدْ آتيْنا آلَ إبراهيمَ}: سليمان وداود {الحِكْمَةَ} يعني: النبوّة. {وآتَيْنَاهُمْ مُلْكَا عَظِميا} في النساء، فما باله حلّ لأولئك وهم أنبياء أن ينكح داود تسعا وتسعين امرأة، وينكح سليمان مائة، ولا يحلّ لمحمد أن ينكح كما نكحوا!.

وقال آخرون: بل معنى قوله: {وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما} الذي آتى سليمان بن داود. ذكر من قال ذلك:

٧٨٥٤ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما} يعني: ملك سليمان.

وقال آخرون: بل كانوا أُيّدُوا بالملائكة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٥٥ـ حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن همام بن الحارث: {وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما} قال: أُيدوا بالملائكة والجنود.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَي، وهي قوله: {وآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما} القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه قال: يعني: ملك سليمان¹ لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال: إنه ملك النُبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليل النساء والملك عليهنّ. لأن كلام اللّه الذي خوطب به العرب غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك يجب التسليم لها.

٥٥

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مّن صَدّ عَنْهُ وَكَفَىَ بِجَهَنّمَ سَعِيراً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب من يهود بني إسرائيل الذين قال لهم جلّ ثناؤه: {آمِنوا بِمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فنرُدّها على أدْبارِها} {مَنْ آمَنَ بِهِ}

يقول: من صدّق بما أنزلنا على محمد صلى اللّه عليه وسلم مصدّقا لما معهم. {ومِنْهُمْ مَنْ صَدّ عَنْهُ} ومنهم من أعرض عن التصديق به. كما:

٧٨٥٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} قال: بما أنزل على محمد من يهود {ومِنْهُمْ مَنْ صَدّ عَنْهُ}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وفي هذه الاَية دلالة على أن الذين صدّوا عما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مهاجَرِ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما رفع عنهم وعيد اللّه الذي توعدهم به، في قوله: {آمِنُوا بِمَا نَزّلْنا مُصَدّقا لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنرُدّها على أدْبارِها أوْ نَلْعَنَهُمْ كمَا لَعَنّا أصحَابَ السّبْتِ وكانَ أمْرُ اللّه مَفْعُولاً} في الدنا، وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم. وإن الوعيد لهم من اللّه بتعجيل العقوبة في الدنيا إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه صلى اللّه عليه وسلم، فلما آمن بعضهم خرجوا من الوعيد الذي توعده في عاجل الدنيا، وأخّرت عقوبة المقيمين على التكذيب إلى الاَخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيرا.

ويعني قوله: {وكَفَى بِجَهَنّمَ سَعِيرا}: وحسبكم أيها المكذّبون بما أنزلت على محمد نبيـي ورسولي بجهنم سعيرا، يعني: بنار جهنم تُسَعّر عليكم: أي توقد عليكم. وقيل: {سعيرا} أصله مسعورا، من سعرت تسعر فهي مسعورة، كما قال اللّه : {وَإذَا الجَحِيمُ سُعّرَتْ} ولكنها صرفت إلى فعيل، كما قيل: كفّ خضيب ولحية دهين، بمعنى مخضوبة ومدهونة، والسعير: الوقود.

٥٦

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا ...}.

هذا وعيد من اللّه جل ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل اللّه على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار برسوله. يقول اللّه لهم: إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد صلى اللّه عليه وسلم من آياتي، يعني من آيات تنزيله ووحي كتابه، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم، فلم يصدّقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارا}

يقول: سوف ننضجهم في نار يَصْلُوْن فيها: أي يشوون فيها. {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}

يقول: كلما انْشَوَتْ بها جلودهم فاحترقت، {بَدّلْناهُمْ جُلودا غيرَها} يعني: غير الجلود التي قد نضجت فانشوت. كما:

٧٨٥٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ثوير، عن ابن عمر: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها} قال: إذا احترقت جلودهم بدلناهم جلودا بيضا أمثال القراطيس.

٧٨٥٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ الّذِينَ كَفَرُوا بآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارا كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها}

يقول: كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها.

٧٨٥٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} قال: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأوّل أن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنّه سبعون ذراعا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوَسِعَهُ، فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها.

٧٨٦٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: بلغني عن الحسن: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها} قال: نُنضجهم في اليوم سبعين ألف مرّة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قوله: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها} قال: تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد، وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعا، واللّه أعلم بأيّ ذراع.

فإن سأل سائل،

فقال: وما معنى قوله جلّ ثناؤه: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْناهُمْ جُلودا غيرَها}؟ وهل يجوز أن يبدّلوا جلودا غير جلودهم التي كات لهم في الدنيا، فيعذّبوا فيها؟ فإن جاز ذلك عندك، فأجز أن يبدّلوا أجساما وأرواحا غير أجسامهم وأوراحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب! وإن أجزت ذلك، لزمك أن يكون المعذّبون في الاَخرة بالنار غير الذين أوعدهم اللّه العقاب على كفرهم به ومعصيتهم إياه، وأن يكون الكفار قد ارتفع عنهم العذاب! قيل: إن الناس اختلفوا في معنى ذلك،

فقال بعضهم: العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب، وأما الجلد واللحم فلا يألمان.

قالوا: فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان له في الدنيا، أو جلد غيره، إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذّبة، وإنما الاَلمة المعذّبة النفس التي تحسّ الألم، ويصل إليها الوجع.

قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فغير مستحيل أن يخلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يُحْصَى عدده، ويحرق ذلك عليه، ليصل إلى نفسه ألم العذاب، إذ كانت الجلود لا تألم.

وقال آخرون: بل الجلود تألم، واللحم وسائر أجزاء جِرْمِ بني آدم، وإذا أحرق جلده أو غيره من أجزاء جسده، وصل ألم ذلك إلى جميعه.

قالوا: ومعنى قوله: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْناهُم جُلُودا غيرَها}: بدلناهم جلودا غير محترقة، وذلك أنها تعاد جديدة، والأولى كانت قد احترقت فأعيدت غير محترقة، فلذلك قيل غيرها، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا التي عصوا اللّه وهي لهم.

قالوا: وذلك نظير قول العرب للصائغ إذا استصاغته خاتما من خاتم مصوغ، بتحويله عن صياغته التي هو بها إلى صياغة أخرى: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره! فيكسره ويصوغ له منه خاتما غيره والخاتم المصوغ بالصياغة الثانية هو الأوّل، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتما قيل هو غيره.

قالوا: فكذلك معنى قوله: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدّلْناهُمْ جُلُودا غيرَها} لما احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق، قيل هي غيرها على ذلك المعنى.

وقال آخرون: معنى ذلك: {كُلّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} سرابيلهم، بدلناهم سرابيل من قطران غيرها. فجعلت السرابيل القطران لهم جلودا، كما يقال للشيء الخاصّ بالإنسان: هو جلدة ما بين عينيه ووجهه لخصوصه به.

قالوا: فكذلك سرابيل القطران التي قال اللّه في كتابه: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النّارُ} لما صارت لهم لباسا لا تفارق أجسامهم جُعلت لهم جلودا، فقيل: كلما اشتعل القطران في أجسامهم واحترق بدّلوا سرابيل من قطران آخر.

قالوا: أوما جلود أهل الكفر من أهل النار فإنها لا تحرق، لأن في احتراقها إلى حال إعادتها فناءها، وفي فنائها راحتها.

قالوا: وقد أخبرنا اللّه تعالى ذكره عنها أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها.

قالوا: وجلود الكفار أحد أجزاء أجسامهم، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار، جاز ذلك في جميع أجزائها، وإذا جاز ذلك وجب أن يكون جائزا عليهم الفناء ثم الإعادة والموت ثم الإحياء، وقد أخبر اللّه عنهم أنهم لا يموتون.

قالوا: وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم، والجلود أحد تلك الأجزاء.

وأما معنى قوله: {لِيَذُوقُوا العَذَابَ} فإنه

يقول: فعلنا ذلك بهم ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدّته بما كانوا في الدنيا يكذّبون آيات اللّه ويجحدونها.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه كانَ عَزِيزا حَكِيما}.

يقول: إن اللّه لم يزل عزيزا في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه، لا يقدر على الامتناع منه أحد أراده بضرّ، ولا الانتصار منه أحد أحلّ به عقوبة، حكيما في تدبيره وقضائه.

٥٧

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ...}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ}: والذين آمنوا باللّه ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم، وصدّقوا بما أنزل اللّه على محمد مصدّقا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم. {وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ}

يقول: وأدّوا ما أمرهم اللّه به من فرائضه، واجتنبوا ما حرّم اللّه عليهم من معاصيه، وذلك هو الصالح من أعمالهم. {سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}

يقول: سوف يدخلهم اللّه يوم القيامة جناتٍ، يعني: بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ}

يقول: تجري من تحت تلك الجنات الأنهار. {خالِدِينَ فِيها أبَدا}

يقول: باقين فيها أبدا بغير نهاية ولا انقطاع، دائم ذلك لهم فيها أبدا. {لَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ}

يقول: لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها {أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ} يعني: بريئات من الأدناس والريب الحيض والغائط والبول والحبل والبصاق، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا.

وقد ذكرنا ما في ذلك من الأثار فيما مضى قبل، وأغنى ذلك عن إعادتهاوأما قوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً} فإنه

يقول: وندخلهم ظلاّ كنينا، كما قال جلّ ثناؤه: {وَظِلّ مَمْدُودٍ}. وكما:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قالا جميعا، حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا الضحاك يحدّث عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إنّ فِي الجَنّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرّاكِبُ فِي ظِلّها مائَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها، شَجَرَةُ الخُلْدِ).

٥٨

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا ... }.

اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عُني بها: ولاةُ أمور المسلمين. ذكر من قال ذلك:

٧٨٦١ـ حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم، قال: نزلت هذه الاَية: {إنّ اللّه يأمْرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأمانَاتِ إلى أهْلِها} في ولاة الأمر.

٧٨٦٢ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إديس، قال: حدثنا ليث، عن شهر، قال: نزلت في الأمرء خاصة {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْلِ}.

٨٧٧٧ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إدريس، قال: حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد، قال: قال عليّ رضي اللّه عنه: كلمات أصاب فيهنّ حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ، وأن يؤدّى الأمانة، وإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن عليّ بنحوه.

٧٨٦٣ـ حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا موسى بن عمير، عن مكحول، في قول اللّه : {وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم أهل الاَية التي قبلها: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها}.. إلى آخر الاَية.

٧٨٦٤ـ حدثني يونس، قال¹ أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد، قال: قال أبي: هم الولاة، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها.

وقال آخرون: أمر السلطان بذلك أن يعطوا الناس. ذكر من قال ذلك:

٧٨٦٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {إنّ اللّه يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} قال: يعني: السلطان يعطون الناس.

وقال آخرون: الذي خُوطِبَ بذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في مفاتيح الكعبة أُمِرَ بردّها على عثمان بن طلحة. ذكر من قال ذلك:

٧٨٦٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: {إنّ اللّه يأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قبض منه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مفاتيح الكعبة، ودخل بها البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الاَية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح

قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يتلو هذه الاَية: فداؤه أبي وأمي! ما سمعته يتلوها قبل ذلك.

٧٨٦٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري، قال: دفعه إليه وقال: أعينوه.

وأولى هذه الأقوال بالصوااب في ذلك عندي قول من قال: هو خطاب من اللّه ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولّوا في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية. والقسم بينهم بالسوية، يدلّ على ذلك ما وعظ به الرعية في: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الراعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة. كما:

٧٨٦٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: قال أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: {تُؤْتي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ} ألا ترى أنه أمر فقال: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها}؟ والأمانات: هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقسمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها. {وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْل}.. الاَية كلها فأمر بهذا الولاة، ثم أقبل علينا نحن،

فقال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُول وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ}.

وأما الذي قال ابن جريج من أن هذه الاَية نزلت في عثمان بن طلحة فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كلّ مؤتمن على أمانة فدخل فيه ولاة أمور المسلمين وكل مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا، ولذلك قال من قال: عني به قضاء الدين وردّ حقوق الناس. كالذي:

٧٨٦٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} فإنه لم يرخص لموسر ولا معسر أن يمسكها.

٧٨٧٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها} عن الحسن: أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (أدّ الأمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خانَكَ).

فتأويل الاَية إذًا، إذ كان الأمر على ما وصفنا: إن اللّه يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدّوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم على ما أمركم اللّه ، بأداء كلّ شيء من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها ولا تستأثروا بشيء منها ولا تضعوا شيئا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن اللّه لكم بأخذها منه قبل أن تصير في أيديكم¹ ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكم اللّه الذي أنزله في كتابه وبينه على لسان رسوله، لا تَعْدوا ذلك فتجوروا عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنّ اللّه كانَ سَمِيعا بَصِيرا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين إنّ اللّه نَعِمّ الشيء يعظكم به، ونِعِمّت العظة يعظكم بها في أمره إياكم، أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل {نّ اللّه كَانع سَمِيعا}

يقول: إن اللّه لم يزل سميعا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تحاوروهم به، {بَصِيرا} بما تفعلون فيما ائتمنتكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله.

٥٩

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّه ... }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة، وذلك أنكم تطيعونه لأمر اللّه إياكم بطاعته. كما:

٧٨٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (مَنْ أطاعَنِي فَقَدْ أطاعَ اللّه وَمَنْ أطاعَ أمِيري فَقَدْ أطاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللّه وَمَنْ عَصَا أمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي).

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ}

فقال بعضهم: ذلك أمر من اللّه باتباع سنّته. ذكر من قال ذلك:

٧٨٧٢ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ} قال: طاعة الرسول: اتّباع سنته.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ} قال: طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنة.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله.

وقال آخرون: ذلك أمر من اللّه بطاعة الرسول في حياته. ذكر من قال ذلك:

٧٨٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ} إن كان حيّا.

والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمر من اللّه بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى، وبعد وفاته في اتباع سنته¹ وذلك أن اللّه عمّ بالأمر بطاعته ولم يخصص ذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجب التسليم له.

واختلف أهل التأويل في أولي الأمر الذين أمر اللّه عباده بطاعتهم في هذه الاَية، فقال بعضهم هم الأمراء. ذكر من قال ذلك:

٧٨٧٤ـ حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم الأمراء.

٧٨٧٥ـ حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ}، نزلت في رجل بعثه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم على سرية.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد اللّه بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الاَية نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في السرية.

٧٨٧٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمة ميمون بن مهران، عن قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْره مِنْكُمْ} قال: أصحاب السرايا على عهد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٧٨٧٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْر مِنْكُمْ} قال: قال أبي: هم السلاطين

قال: وقال ابن زيد في قوله: {وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال أبي: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الطّاعَة الطّاعة! وفي الطّاعَةِ بلاءٌ)

وقال: (ولو شَاء اللّه لَجَعَلَ الأَمْرَ في الأنْبِيَاءِ)، يعني: لقد جعل إليهم والأنبياء معهم، ألا ترى حين حكموا في قتل يحيـى بن زكريا؟.

٧٨٧٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، حدثنا أسباط، عن السديّ: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية عليها خالد ابن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قَبِلَ القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا منهم عَرّسوا، وأتاهم ذو العيينتين، فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله، فجمعوا متاعهم. ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه،

فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم! فأقام. فلما أصبحوا أغار خالد، فلم يجد أحدا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله، فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال: خلّ عن الرجل فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني! فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستّبا وارتفعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأحاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستّبا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول اللّه أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا خالِدُ لا تَسُبّ عَمّارا، فإنّهُ مَنْ سَبّ عَمّارا سَبّهُ اللّه ، وَمَنْ أبْغَضَ عَمّارا أبْغَضَهُ اللّه ، وَمَنْ لَعَنَ عَمّارا لَعَنَهُ اللّه ). فغضب عمار، فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل اللّه تعالى قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ}.

وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه. ذكر من قال ذلك:

٧٨٧٩ـ حدثني سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عليّ بن صالح، عن عبد اللّه بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد اللّه ..

قال: حدثنا جابر بن نوح، عن الأعمش، عن مجاهد، في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: أولي الفقه منكم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث، عن مجاهد، في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْر مِنْكُمْ} قال: أولي الفقه والعلم.

٧٨٨٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح: {وأُولي الأمْر مِنْكُمْ} قال: أولي الفقه في الدين والعقل.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٨٨١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهل الفقه والدين.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد: {وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: أهل العلم.

٧٨٨٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بن السائب في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: أولي العلم والفقه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء: {وأُولي الأمْر مِنْكُمْ} قال: الفقهاء والعلماء.

٧٨٨٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: {وأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم العلماء.

٧٨٨٤ـ قال: وأخبرنا عبد الرزاق، عن الثّوْرِيّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: {وَأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم أهل الفقه والعلم.

٧٨٨٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: {وأولي الأمْر مِنْكُمْ} قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه

يقول: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وَإلى أُولِي الأمْر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبطُونَهُ مِنْهُمْ}؟.

وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٧٨٨٦ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {أطِيعُوا اللّه وأطيعُوا الرّسُولَ وَأُولي الأمْر مِنْكُمْ} قال: كان مجاهد

يقول: أصحاب محمد

قال: وربما قال: أولي الفضل والفقه ودين اللّه .

وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رضي اللّه عنه. ذكر من قال ذلك:

٧٨٨٧ـ حدثنا أحمد بن عمرو البصري، قال: حدثنا حفص بن عمر العدني، قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: {أطِيعُوا اللّه وأطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: أبو بكر وعمر.

وأوْلَي الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة. كالذي:

٧٨٨٨ـ حدثني عليّ بن مسلم الطوسي قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: ثني عبد اللّه بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم:

(سيَليكُمْ بَعْدِي وُلاةٌ، فَيَلِيكُمْ البَرّ بِبرّة والفَاجِرِ بِفُجُوره، فاسمَعُوا لَهُمْ وأطِيعُوا فِي كلّ ما وَافَقَ الحَقّ، وَصَلّوا وَرَاءَهُمْ فإنْ أحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإنْ أساءوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ).

٧٨٨٩ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيـى عن عبيد اللّه ، قال: أخبرني نافع، عن عبد اللّه ، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(على المَرْء المُسْلِم الطّاعَةُ فِيما أحَبّ وكَرهَ، إلاّ أنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصَيَةٍ فَمَنْ أُمرَ بِمَعْصِيَةِ فَلا طاعَةَ).

حدثني ابن المثنى، قال: ثني خالد عن عبيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، نحوه.

فإذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير اللّه أو رسوله أو إمام عادل، وكان اللّه قد أمر بقوله: {أطِيعُوا اللّه وأطِعُوا الرّسُولَ وأولي مِنْكُمْ} بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولاّه المسلمون دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضا القبول من كل من أمر بترك معصية اللّه ، ودعا إلى طاعة اللّه ، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم اللّه عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإنّ على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. وإذ كان ذلك كذلك كان معلوما بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره.

القول في تأويل قوله تعالى: {فإنْ تَنازَعْتمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّه وَالرّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّه وَاليَوْم الاَخِرِ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن اختلفتم يها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه، {فَردّوهُ إلَى اللّه } يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم الذي اشتجرتم أنتم بينكم أو انتم وأولو أمركم من عند اللّه ، يعني بذلك: من كتاب اللّه ، فاتبعوا ما وجدتموأما قوله: {وَالرّسولِ} فإنه

يقول: فإن تجدوا إلى علم ذلك في كتاب اللّه سبيلاً، فارتادوا معرفة ذلك أيضا من عند الرسول إن كان حيّا وإن كان ميتا، فمن سنته: {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّه وَاليَوْم الاَخِر}

يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدّقون باللّه واليوم الاَخر. يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك فلكم من اللّه الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٨٩٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث عن مجاهد، في قوله: {فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُوهُ إلى اللّه وَالرّسُولِ} قال: فإن تنازع العلماء ردّوه إلى اللّه والرسول

قال:

يقول: فردّوه إلى كتاب اللّه وسنة رسوله. ثم قرأ مجاهد هذه الاَية: {وَلَوْ رَدّوه إلى الرّسولِ وإلَى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَه الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه مِنْهُمْ}.

٧٨٩١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {فَرُدّوهُ إلى اللّه وَالرّسُول} قال: كتاب اللّه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {فَرُدّوهُ إلى اللّه وَالرّسُولِ} قال: إلى اللّه إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنة نبيه.

٧٨٩٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمة ميمون بن مهران عن قوله: {فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوه إلى اللّه والرّسُول} قال: (اللّه ): كتابه و(رسوله): سنته. فكأنما ألقمه حجرا.

٧٨٩٣ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: أخبرنا جعفر بن مروان، عن ميمون بن مهران: {فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّه وَالرّسُولِ} قال: الردّ إلى اللّه : الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله إن كان حيّا، فإن قبضه اللّه إليه فالردّ إلى السنة.

٧٨٩٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّه والرّسُولِ}

يقول: ردّوه إلى كتاب اللّه وسنة رسوله {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّه وَاليَوْمِ الاَخِرِ}.

٧٨٩٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّه وَالرّسُولِ} إن كان الرسول حيّا، و{إلَى اللّه } قال: إلى كتابه.

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ذَلِكَ} فردّ ما تنازعتم فيه من شيء إلى اللّه والرسول، خير لكم عند اللّه في معادكم، وأصلح لكم في دنياكم، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة، وترك التنازع والفرقة. {وأحْسَنُ تَأْويلاً} يعني: وأحمدُ موئلاً ومغبة، وأجمل عاقبة. وقد بينا فيما مضى أن التأويل: التفعيل من تأوّل، وأن قول القائل تأوّل: تفعّل، من قولهم آل هذا الأمر إلى كذا: أي رجع¹ بما أغنى عن إعادته.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٨٩٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وأحْسَنُ تَأْوِيلاً} قال: حسن جزاء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٨٩٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:{ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً}

يقول: ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبه.

٧٨٩٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وأحْسَنُ تَأُويلاً} قال: عاقبة.

٧٨٩٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْويلاً} قال: وأحسن عاقبة

قال: والتأويل: التصديق.

٦٠

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك فتعلم إلى الذين يزعمون أنهم صدّقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاَكَمُوا} في خصومتهم {إلى الطّاغُوتِ} يعني: إلى من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم اللّه . {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ}

يقول: وقد أمرهم اللّه أن يكذّبوا بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمر اللّه ، واتبعوا أمر الشيطان. {وَيُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا} يعني أن الشيطان يريد أن يصدّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالاً بعيدا، يعني: فيجوز بهم عنها جورا شديدا. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهان ليحكم بينهم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أظهرهم. ذكر من قال ذلك:

٧٩٠٠ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عامر في هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهينة، فأنزل اللّه فيه هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}.. حتى بلغ: {وَيُسّلمُوا تَسْلِيما}.

٧٩٠١ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر في هذه الاَية: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزَعمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} فذكر نحوه، وزاد فيه: فأنزل اللّه {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعَمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} يعني المنافقين {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني اليهود {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ}

يقول: إلى الكاهن {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه أن يكفر بالكاهن.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبيّ لأنه قد علم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم. فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، قال: فنزلت: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} يعني: الذي من الأنصار {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني: اليهودي {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكمُوا إلى الطّاغُوتِ} إلى الكاهن {وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} يعني: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا: {ويُرِيدُ الشّيْطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعِيدا}، وقرأ: {فَلاَ وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى: {وَيُسَلّمُلأا تَسْلِيما}.

٧٩٠٢ـ حدثنا محمد بن الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرميّ أن رجلاً من اليهود كان قد أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حقّ، فقال اليهودي له: انطلق إلى نبيّ اللّه ! فعرف أنه سيقضي عليه

قال: فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان، فتحاكما إليه. قال اللّه : {ألَمَ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ}.

٧٩٠٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعَمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}.. الاَية، حتى بلغ: {ضَلالاً بَعِيدا} ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له بشر، وفي رجل من اليهود في مدارأة كان بيهما في حقّ، فتدارءا بينهما فيه، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فعاب اللّه عزّ وجلّ ذلك. وذُكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ليحكم بينهما، وقد علم أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن يجور عليه، فجعل الأنصاري يأبي عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل اللّه تبارك وتعالى ما تسمعون، فعاب ذلك على الذي زعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب،

فقال: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}.. إلى قوله: {صُدُودا}.

٧٩٠٤ـ حدثنا محمد بن السحين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكمُوا إلى الطّاغُوتِ} قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قُتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة قتلوا به منهم، فإذا قُتل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوا دينه ستين وَسْقا من تمر. فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول اللّه إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا، ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء اللّه بالإسلام فأنزل اللّه يعيرهم بما فعلوا. فقال: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ} فعيرهم، ثم ذكر قول النضيري: كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقا ونقتل منهم ولا يقتلون،

فقال: {أفحُكْمَ الجَاهِليّةِ يَبْغُونَ}. وأخذ النضيريّ فقتله بصاحبه. فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم، وقالت قريظة: نحن أكرم منكم، ودخلوا المدينة إلى أبي برزة الكاهن الأسلميّ، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي برزة ينفّر بيننا! وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا، بل النبي صلى اللّه عليه وسلم ينفر بيننا، فتعالوا إليه! فأبي المنافقون، وانطلقا إلى أبي برزة فسألوه،

فقال: أعظموا اللقمة!

يقول: أعظموا الخطر.

فقالوا: لك عشرة أوساق، قال: لا، بل مائة وسق ديتي، فإني أخاف أن أنفر النضير تقتلني قريظة، أو أنفر قريظة فتقتلني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبي أن يحكم بينهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} وهو أبو برزة، وقد أمروا أن يكفروا به، إلى قوله: {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما}.

وقال آخرون: الطاغوت في هذا الموضع: هو كعب بن الأشرف. ذكر من قال ذلك:

٧٩٠٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {يُريدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوت وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ} والطاغوت: رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول ليحكم بينهم

قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب¹ فذلك قوله: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوت}.. الاَية.

٧٩٠٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} قال: تنازع رجل من المنافقين ورجل من اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف! وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم! فقال اللّه تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ}.. الاَية والتي تليها فيهم أيضا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} فذكر مثله، إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد.

٧٩٠٧ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}.. إلى قوله: {ضَلالاً بَعِيدا} قال: كان رجلان من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن، والاَخر منافق. فدعاه المؤمن إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنزل اللّه : {وَإذا قِيلَ لَهُمْ تَعالُوْا إلى ما أنْزَلَ اللّه وَإلى الّرسُولِ رأيْتُ المُنافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ صُدُودا}.

٧٩٠٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف، وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال اللّه : {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}.. إلى قوله: {صُدُودا}. قال ابن جريج: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، قال: القرآن، وما أنزل من قبلك، قال: التوراة

قال: يكون بين المسلم والمنافق الحقّ، فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبي المنافق ويدعوه إلى الطاغوت. قال ابن جريج: قال مجاهد: الطاغوت: كعب بن الأشرف.

٧٩٠٩ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ} هو كعب بن الأشرف.

وقد بينا معنى الطاغوت في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته.

٦١

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّه وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُوداً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت، {وإذَا قِيلَ لهم تَعَالوْا إلى ما أَنْزَلَ اللّه } يعني بذلك: وإذا قيل لهم: تعالوا هلموا إلى حكم اللّه الذي أنزله في كتابه، {وإلى الرّسُولِ} ليحكم بيننا، {رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنْكَ} يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم صدودا.

وقال ابن جريج في ذلك بما:

٧٩١٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللّه وَإلى الّرسُولِ} قال: دعا المسلم المنافق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليحكم، قال: رأيت المنافقين يصدّون عنك صدودا.

وأما على تأويل قول من جعل الداعي إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم اليهوديّ والمدعو إليه المنافق على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ} فإنه على ما بينت قبل.

٦٢

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّه إِنْ أَرَدْنَآ إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك {إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} يعني: إذا نزلت بهم نقمة من اللّه ، {بِمَا قَدّمَتْ أيْدِيهِمْ} يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، {ثُمّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بالله}

يقول: ثم جاءوك يحلفون باللّه كذبا وزُورا، {إنْ أَرَدْنا إلاّ إحْسَانا وَتَوْفِيقا}. وهذا خبر من اللّه تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العبر والنقم، وأنهم وإن تأتهم عقوبة من اللّه على تحاكمهم إلى الطاغوت، لم يُنيبوا ولم يتوبوا، ولكنهم يحلفون باللّه كذبا وجرأة على اللّه ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصواب فيما احتكمنا فيه إليه.

٦٣

القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَـَئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {أولئك} هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك يا محمد صفتهم، يعلم اللّه مّا في قلوبهم ـ في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك من النفاق والزيغ، وإن حلفوا باللّه ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، {فأعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ}

يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس اللّه أن يحلّ بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحَذّرْهُمْ من مكروه ما هم عله من الشكّ في أمر اللّه وأمر رسوله. {وقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسَهِمْ قَوْلاً بَلِيغا}

يقول: مرهم باتقاء اللّه والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.

٦٤

           القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: لم نرسل يا محمد رسولاً إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، يقول تعالى ذكره: فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليه. وإنما هذا من اللّه توبيخ للمحتكمين من المنافقين الذين كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلت رسولاً إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى اللّه عليه وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرضا بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري وضيع فرضي. ثم أخبر جل ثناؤه أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه، يعني بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته. كما:

٧٩١١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قول اللّه : {إلاّ لِيُطاعَ بإذْنِ اللّه } واجب لهم أن يطيعه من شاء اللّه ، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن اللّه .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

وإنما هذا تعريض من اللّه تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين بأن تركهم طاعة اللّه وطاعة رسوله والرضا بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خذلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضا بحكمه والمسارعة إلى طاعته.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوّابا رَحِيما}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الاَيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم اللّه وحكم رسوله صدّوا صدودا، إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب اللّه وسنة رسوله، إذا دعوا إليها جاءوك يا محمد حين فعلوا ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك، جاءوك تائبين منيبين، فسألوا اللّه أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله: {فاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ}.

وأما قوله: {لَوَجَدُوا اللّه تَوّابا رَحِيما} فإنه

يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنوبهم لوجدوا اللّه توّابا،

يقول: راجعا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون، رحيما بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه

وقال مجاهد: عني بذلك: اليهودي والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.

٧٩١٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ}.. إلى قوله: {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما} قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف.

٦٥

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {فلا} فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعو إليك يا محمد. واستأنف القسَمَ جلّ ذكره،

فقال: {وَربّكَ} يا محمد {لا يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدّقون بي وبك، وبما أنزل إليك، {حَتّى يُحَكّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}

يقول: حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه، يقال: شَجَرَ يشجُر شُجُورا وشَجْرا، وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والأمر مشاجرة وشِجَارا {ثُم لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مما قَضَيْتَ}

يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت، وإنما معناه: ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت: أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه. كما:

٧٩١٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {حَرَجا مما قَضَيْتَ} قال: شكّا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: {حَرَجا مما قَضَيْتَ}

يقول: شَكّا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

٧٩١٤ـ حدثنا يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، في قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ} قال: إثما {وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما}

يقول: ويسلموا لقضائك وحكمك، إذعانا منهم بالطاعة، وإقرارا لك بالنبوّة تسليما.

واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الاَية وفيمن نزلت،

فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العوّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في بعض الأمور. ذكر الرواية بذلك:

٧٩١٥ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه، أن عبد اللّه بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوّام: أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاريّ: سرّح الماء يمرّ! فأبي عليه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ أرْسِل المَاءَ إلى جاركَ!) فغضب الأنصاريّ وقال: يا رسول اللّه ، أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال: (اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلى الجَدْرِ ثُمّ أرْسِلِ المَاءَ إلى جارِكَ!) واستوعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للزبير حقه قال أبو جعفر: والصواب: (استوعب). وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاريّ، فلما أحفظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم

قال: فقال الزبير: ما أحسب هذه الاَية نزلت إلا في ذلك: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.. الاَية.

٧٩١٦ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شرج من شراج الحرّة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا زُبَيْرُ، اشْرَبْ ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاءِ!) فقال الذي من الأنصار: اعدل يا نبيّ اللّه وإن كان ابن عمتك! قال: فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه ما قال، ثم قال: (يا زُبَيْرُ احْبِس المَاءَ إلى الجُدُر أوْ إلى الكَعْبَيْن، ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاء!)، قال: ونزلت: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.

٧٩١٧ـ حدثني عبد اللّه بن عمير الرازي، قال: حدثنا عبد اللّه بن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجل من ولد أمّ سلمة، عن أمّ سلمة: أن الزبير خاصم رجلاً إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقضى النبي صلى اللّه عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك؟ فأنزل اللّه : {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما}.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في المنافق واليهودي اللذين وصف اللّه صفتهما في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكع يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ}. ذكر من قال ذلك:

٧٩١٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما} قال: هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٩١٩ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي بنحوه، إلا أنه قال: إلى الكاهن.

قال أبو جعفر: وهذا القول ـ أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف اللّه شأنهما في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أولى بالصواب، لأن قوله¹ {فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} في سياق قصة الذين ابتدأ اللّه الخبر عنهم بقوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ}، ولا دلالة تدلّ على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أَوْلَى.

فإن ظنّ ظانّ أن في الذي رُوي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرّة، وقول من قال في خبرهما، فنزلت: {فَلا ورَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ما ينبيء عن انقطاع حكم هذه الاَية وقصتها من قصة الاَيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الاَية نزلت في حصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاريّ، إذ كانت الاَية دالة على ذك. وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيعدل به عن معنى ما قبله. ـ وأما قوله: {وَيُسَلّمُوا} فإنه منصوب عطفا على قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ}. قوله: {ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ} نصب عطفا على قوله: {حتى يُحكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهمْ}.

٦٦

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْكُمْ أن اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ}: ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم، وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها ما فعلوه،

يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى اللّه ورسوله طاعة لله ولرسوله، إلا قليل منهم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٢٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه تعالى: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} هم يهود ـ يعني: والعرب كما أمر أصحاب موسى عليه السلام.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ} كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر لم يفعلوا إلا قليل منهم.

٧٩٢١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِياركُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود، فقال اليهودي: واللّه لقد كتب اللّه علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا! فقال ثابت: واللّه لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا! فأنزل اللّه في هذا: {وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا}.

٧٩٢٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: لما نزلت: {وَلَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (إنّ مِنْ أُمّتِي لَرِجالاً الإيمَانُ أثْبَتُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجِبالِ الرّوَاسِي).

واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله: {إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} فكان بعض نحويـي البصرة يزعم أنه رفع (قليل) لأنه جعل بدلاً من الأسماء المضمرة في قوله: {ما فَعَلُوهُ} لأن الفعل لهم

وقال بعض نحويـي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير، كأن معناه: ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم، كما قال عمرو بن معد يكرب:

وكُلّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُلَعَمْرُ أبيكَ إلاّ الفَرْقَدَانَ

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: رفع (القليل) بالمعنى الذي دلّ عليه قوله: {ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم. فقيل: (ما فعلوه) على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}، ثم استثنى القليل، فرُفع بالمعنى الذي ذكرنا، إذ كان الفعل منفيّا عنه. وهي في مصاحف أهل الشام: (ما فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ). وإذا قرىء كذلك، فلا مردّ به على قارئه في إعرابه، لأنه المعروف في كلام العرب، إذ كان الفعل مشغولاً بما فيه كناية من قد جرى ذكره، ثم استثني منهم القليل.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا}.

يعني جل ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك صدودا، {فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ} يعني: ما يذكرون به من طاعة اللّه والانتهاء إلى أمره، {لَكَانَ خَيْرا لهم} في عاجل دنياهم وآجل معادهم، {وأشَدّ تَثْبِيتا} وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. وذلك أن المنافق يعمل على شكّ، فعمله يذهب باطلاً، وغناؤه يضمحلّ فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على وناء وضعف، ولو عمل على بصيرة لاكتسب بعمله أجرا ولكان له عند اللّه ذخرا وكان على عمله الذي يعمل أقوى لنفسه وأشدّ تثبيتا لإيمانه بوعد اللّه على طاعته وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله: {وأشَدّ تَثْبِيتا}: تصديقا. كما:

٧٩٢٣ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأشَدّ تَثْبِيتا} قال: تصديقا، لأنه إذا كان مصدّقا كان لنفسه أشدّ تثبيتا ولعزمه فيه أشدّ تصحيحا.

وهو نظير قوله جلّ ثناؤه: {وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللّه وَتَثْبِيتا مِنْ أنْفُسِهِمْ} وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه بما فيه كفاية من إعادته.

٦٧

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لّدُنّـآ أَجْراً عَظِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {ولَوْ أنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ} لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا {أَجْرا} يعني: جزاء وثوابا عظيما، وأشدّ تثبيتا لعزائمهم وآرائهم، وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما، يعني: طريقا لا اعوجاج فيه، وهو دين اللّه القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم، وذلك الإسلام.

٦٨

ومعنى قوله: {وَلَهَدَيْناهُمْ} ولوفقناهم للصراط المستقيم. ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام من الكرامة الدائمة لديه والمنازل الرفيعة عنده. فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ فَأُولَئكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنْ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ والشّهَداءِ وَالصّالِحينَ}.. الاَية.

٦٩

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يطع اللّه والرسول بالتسليم لأمرهما، وإخلاص الرضا بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية اللّه ، فهو مع الذين أنعم اللّه عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه وفي الاَخرة إذا دخل الجنة. {والصّدّيقِينَ} وهم جمع صدّيق.

واختلف في معنى الصدّيقين،

فقال بعضهم: الصدّيقون: تُبّاعُ الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن (الصدّيق فعيل) على مذهب قائلي هذه المقالة من الصدق، كما يقال رجل سكّير من السكر، إذا كان مدمنا على ذلك، وشِرّيب وخِمّير.

وقال آخرون: بل هو فعيل من الصدقة. وقد رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك¹ وهو ما:

٧٩٢٤ـ حدثنا به سفيان بن وكيع، قال: حدثنا خالد بن مخلد، عن موسى بن يعقوب، قال: أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد اللّه بن وهب بن زمعة، عن أمها كريمة بنت المقداد، عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد عن المقداد، قال: قلت للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم: شيء سمعته منكْ شككت فيه! قال: (إذَا شَكّ أَحَدُكُمْ فِي الأمْرِ فَلْيَسأَلْني عنه!) قال: قلت قولك في أزواجك: إني لأرجو لهنّ من بعدي الصدّيقين؟ قال: (مَنْ تَعْنُونَ الصّدّيقين؟) قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارا

قال: (لا، وَلِكنِ الصّدّيقين هُمُ المُصَدّقُونَ).

وهذا خبر لو كان إسناده صحيحا لم نستجز أن نعدوه إلى غيره، ولو كان في إسناده بعض ما فيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالصدّيق أن يكون معناه المصدّق قوله بفعله، إذ كان الفعيل في كلام العرب إنما يأتي إذا كان مأخوذا من الفعل بمعنى المبالغة، إما في المدح وإما في الذمّ، ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم: {وأمّهُ صِدّيقَةٌ}. وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلاً من كان موصوفا بما قلنا في صفة المتصدّقين والمصدّقين {والشّهَدَاءِ} وهم جمع شهيد: وهو المقتول في سبيل اللّه ، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحقّ في جنب اللّه حتى قتل. {والصّالِحِينَ} وهم جمع صالح: وهو كلّ من صلحت سريرته وعلانتيه.

وأما قوله جلّ ثناؤه: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا} فإنه يعني: وحسن هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم رفقاء في الجنة. والرفيق في لفظ الواحد بمعنى الجميع، كما قال الشاعر:

نَصَبْنَ الهَوَى ثُمّ ارْتَمَيْنَ قُلوبَنابأسْهُمِ أعْدَاءٍ وَهُن صَدِيقُ

بمعنى: وهنّ صدائقوأما نصيب (الرفيق) فإن أهل العربية مختلفون فيه، فكان بعض نحويـي البصرة يرى أنه منصوب على الحال، و

يقول: هو كقول الرجل: كرم زيد رجلاً، ويعدل به عن معنى: نعم الرجل، و

يقول: إنّ نعم لا تقع إلى على اسم فيه ألف ولام أو على نكرة. وكان بعض نحويـي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير وينكر أن يكون حالاً، ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول: كرم زيد من رجل، وحسن أولئك من رفقاء¹ وأن دخول (مِن) دلالة على أن الرفيق مفسره

قال: وقد حكي عن العرب: نعمتم رجالاً، فدلّ على أن ذلك نظير قوله: وحَسنُتم رفقاء. وهذا القول أولى بالصواب للعلة التي ذكرنا لقائليه. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت لأن قوما حزنوا على فقد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حذرا أن لا يروه في الاَخرة. ذكر الرواية بذلك:

٧٩٢٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (يا فُلانُ مالي أرَاكَ مَحْزُونا)؟ قال: يا نبيّ اللّه شيء فكرت فيه. فقال: (ما هُوَ؟) قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر في وجهك ونجالسك، غدا ترفع مع النبيين فلا تصل إليك! فلم يردّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم شيئا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الاَية: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ وَالصّديقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا} قال: فبعث إليه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فبشّره.

٧٩٢٦ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: يا رسول اللّه ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قد متّ رُفعت فوقنا فلم نرك! فأنزل اللّه : {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ}.. الاَية.

٧٩٢٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُلَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النّبِيّينَ} ذكر لنا أن رجالاً

قالوا: هذا نبيّ اللّه نراه في الدنيا، فأما في الاَخرة فيرفع فلا نراه! فأنزل اللّه : {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ}.. إلى قوله: {رَفِيقا}.

٧٩٢٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الّذِينَ أنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ}.. الاَية، قال: قال ناس من الأنصار: يا رسول اللّه ، إذا أدخلك اللّه الجنة فكنت في أعلاها ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فأنزل اللّه : {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرّسُولَ}.

٧٩٢٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه والرّسُولَ}.. الاَية، قال: إن أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم

قالوا: قد علمنا أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدّقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل اللّه في ذلك فقال: إن الأعلين ينحدرون إلى من هم أسفل فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم اللّه عليهم، ويُثْنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات، فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدّعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه.

٧٠

وأما قوله: {ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللّه } فإنه

يقول: كون من أطاع اللّه والرسول مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، {الفَضْلُ مِنَ اللّه } يقول ذلك عطاء اللّه إياهم وفضله عليهم، لا باستجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم.

فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله؟ قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم فهداهم به لطاعته، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره.

وقوله: {وكَفَى باللّه عَلِيما}

يقول: وحسب العباد باللّه الذي خلقهم عليما بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا يَخْفَى عليه شيء من ذلك ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه حتى يجازي جميعهم، فيجزي المحسن منهم بالإحسان، والمسيء منهم بالإساءة، ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد.

٧١

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الذين آمَنُوا} صدّقوا اللّه ورسوله، {خُذُوا حِذْرَكُمْ}: خذوا جُنتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوّكم لغزوهم وحربهم. {فانْفِرُوا} إليهم {ثُباتٍ} وهي جمع ثبة، والثبة: العصبة¹ ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوّكم جماعة بعد جماعة متسلحين، ومن الثّبة قول زهير:

وَقدْ أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرَامٍنَشاوَى وَاجِدينَ لِمَا نَشاءُ

وقد تجمع الثبة على ثُبِين.

{أوِ انْفِرُوا جَمِيعا}

يقول: أو انفروا جميعا مع نبيكم صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٣٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ}

يقول: عصبا، يعني: سرايا متفرّقين، {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا} يعني كلكم.

٧٩٣١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: فرقا قليلاً قليلاً.

٧٩٣٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: الثبات: الفرق.

حدثنا الحسين بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٧٩٣٣ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} فهي العصبة، وهي الثبة. {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا} مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٧٩٣٤ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ،

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} يعني: عصبا متفرّقين.

٧٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنّ مِنْكُمْ لَمَن لّيُبَطّئَنّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مّعَهُمْ شَهِيداً }.

وهذا نعت من اللّه تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم،

فقال: {وإنّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم ومن يتشبه بكم ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطىء من أطاعه منكم عن جهاد عدوّكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم. {فإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ}

يقول: فإن أصابتكم هزيمة، أو نالكم قتل أو جراح من عدوّكم، قال: قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسرّه تخلفه عنكم شماتة بكم، لأنه من أهل الشكّ في وعد اللّه الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا ولا خائف عقابا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٣٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَإنّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}.. إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما} ما بين ذلك في المنافقين.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٧٩٣٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإنّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ} عن الجهاد والغزو في سبيل اللّه . {فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قال قَدْ أنْعَمَ اللّه عليّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدا} قال: هذا قول مكذّبٍ.

٧٩٣٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: المنافق يبطىء المسلمين عن الجهاد في سبيل اللّه ، قال اللّه : {فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} قال: بقتل العدوّ من المسلمين، {قَالَ قَدْ أنْعَمَ اللّه عَليّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدا} قال: هذا قول الشامت.

٧٩٣٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} قال: هزيمة.

ودخلت اللام في قوله {لَمَنْ} وفتحت لأنها اللام التي تدخل توكيدا للخبر مع (إن)، كقول القائل: إن في الدار لمن يكرمك، وأما اللام الثانية التي في: {لَيُبَطّـَئَنّ} فدخلت لجواب القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن واللّه لبطئن.

٧٣

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه ...}.

 

يقول جلّ ثناؤه: {وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه }: ولئن أظفركم اللّه بعدوّكم، فأصبتم منهم غنيمة¹ {لَيَقُولَنّ} هذا المبطىء المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل اللّه المنافق {كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَودّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ} بما أصيب معهم من الغنيمة {فَوْزا عَظِيما}. وهذا خبر من اللّه تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة، وإن تخلفوا عنها فللشكّ الذي في قوبلهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا ولا يخافون بالتخلف عنها من اللّه عقابا. وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين: يا ليتني كنت معهم، حسدا منهم لهم.

٧٩٣٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه لَيَقُولَنّ كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فأفُوزَ فَوْزا عَظِيما} قال: قول حاسد.

٧٩٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: {وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه } قال: ظهور المسلمين على عدوّهم، فأصابوا الغنيمة {لَيَقُولَنّ} {يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ فَوْزا عَظِيما} قال: قول الحاسد.

٧٤

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه ...}.

وهذا حضّ من اللّه المؤمنين على جهاد عدوّه من أهل الكفر به على أحايينهم غالبين كانوا أو مغلوبين، والتهاون بأحوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين، وقع جهادهم إياهم مغلوبين كانوا أو غالبين¹ منزلة من اللّه رفيعة. يقول اللّه لهم جلّ ثناؤه: {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه } يعني: في دين اللّه والدعاء إليه والدخول فيما أمر به أهل الكفر به، {الّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدّنْيا بالاَخِرَةِ} يعني: الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الاَخرة وما وعد اللّه أهل طاعته فيها. وبيعهم إياها بها، إنفاقهم أموالهم في طلب رضا اللّه ، كجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه، وبذلهم مهجهم له في ذلك. أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه،

فقال: {وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيْقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}

يقول: ومن يقاتل في طلب إقامة دين اللّه وإعلاء كلمة اللّه أعداء اللّه ، فيقتل،

يقول: فيقتله أعداء اللّه أو يغلبهم، فيظفر بهم¹ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}

يقول: فسوف نعطيه في الاَخرة ثوابا وأجرا عظيما. وليس لما سمي جل ثناؤه عظيما مقدار يعرف مبلغه عباد اللّه . وقد دللنا على أن الأغلب على معنى (شريت) في كلام العرب (بعت) بما أغنى. وقد:

٧٩٤١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه الّذِينَ يَشْرُونَ الحَياةَ الدّنْيا بالاَخِرَةِ}

يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالاَخرة.

٧٩٤٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدّنْيَا بالاَخِرَةِ} فيشري: يبيع، ويشري: يأخذ، وإن الحمقى باعوا الدنيا بالاَخرة.

٧٥

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل اللّه ، وفي المستضعفين،

يقول: عن المستضعفين منكم من الرجال والنساء والولدان. فأما من الرجال فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم وآذوهم ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم، ليفتنوهم عن دينهم. فحضّ اللّه المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدّهم عن دينهم من الرجال والنساء؟ والولدان جمع ولد: وهم الصبيان. {الّذِينَ يَقُولونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنَ هذهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان يقولون في دعائهم ربهم بأن ينجيهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ـ والعرب تسمي كلّ مدينة قرية يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسها وأهلها. وهي في هذا الموضع فيما فسر أهل التأويل مكة وخفض الظالم، لأنه من صفة الأهل، وقد عادت الهاء والألف اللتان فيه على القرية، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها أتبعت إعرابها إعراب الاسم الذي قبلها كأنها صفة له، فتقول: مررت بالرجل الكريم أبوه. {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا} يعني أنهم يقولون أيضا في دعائهم: يا ربنا واجعل لنا من عندك وليّا، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك. {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصيرا} يقولون: واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها، بصدّهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم ونُعلي دينك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٤٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {مِنَ الرّجالِ والنّساءِ وَالوِلْدانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين كانوا بمكة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَالمْسْتَضْعفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ والوِلْدانِ} الصبيان {الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} مكة، أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.

٧٩٤٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ والنّساءِ وَالوِلْدانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها}

يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وفي المستضعفين، وأما القرية: فمكة.

٧٩٤٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه والمُسْتَضْعَفِينَ} قال: وفي المستضعفين.

٧٩٤٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللّه بن كثير، أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب

يقول: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجال وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ} قال: في سبيل اللّه وسبيل المستضعفين.

٧٩٤٧ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة، في قوله: {أَخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} قالا: خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأي بصدره إلى القرية الصالحة، فاحتجّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمروا أن يقدّروا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر.

وقال بعضهم: قرّب اللّه إليه القرية الصالحة، فتوفته ملائكة الرحمة.

٧٩٤٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {وَالُمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدانِ} هم أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم اللّه ، وفيهم نزل قوله: {رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} فهي مكة.

٧٩٤٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ والنّساءِ وَالوِلْدانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} قال: وما لكم لا تفعلون، تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون اللّه بأن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوّة؟ فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم لله هؤلاء ودينهم؟ قال: والقرية الظالم أهلها: مكة.

٧٦

القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ...}.

يعني تعالى ذكره: الذين صدّقوا اللّه ورسوله وأيقنوا بموعود اللّه لأهل الإيمان به، {يقاتلونَ فِي سبيلِ اللّه }

يقول: في طاعة اللّه ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده. {وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ الطّاغُوتِ}

يقول: والذين جحدوا وحدانية اللّه وكذّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم، {يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الّطاغُوتِ} يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول اللّه مقوّيا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومحرّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به. {فَقاتِلُوا} أيها المؤمنون {أوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ} يعني بذلك: الذين يتولونه ويطيعون أمره في خلاف طاعة اللّه والتكذيب به، وينصرونه. {وإنّ كيدَ الشّيْطَانِ كانَ ضعِيفا} يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين من تحزيبه أولياءه من الكفار باللّه على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به.

يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وهن وضعف. وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حمية أو حسدا للمؤمنين على ما آتاهم اللّه من فضله، والمؤمنون يقاتل من قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب اللّه ، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد اللّه في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند اللّه إن قتل، وبما له من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف. القول في تأويل قوله تعالى:

٧٩٥٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ}

يقول: عصبا، يعني: سرايا متفرّقين، {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا} يعني كلكم.

٧٩٥١ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: فرقا قليلاً قليلاً.

٧٩٥٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} قال: الثبات: الفرق.

حدثنا الحسين بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

٧٩٥٣ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} فهي العصبة، وهي الثبة. {أوِ انْفِرُوا جَمِيعا} مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٧٩٥٤ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ،

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فانْفِرُوا ثُباتٍ} يعني: عصبا متفرّقين.

٧٧

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوَاْ أَيْدِيَكُمْ ... }.

ذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدّقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون اللّه أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك وقالوا ما أخبر عنهم في كتابه.

فتأويل قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}: ألم تر بقلبك يا محمد فتعلم إلى الذين قيل لهم من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال: كفوا أيديكم، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم. {وَأقِيمُوا الصّلاةَ}

يقول: وأدوا الصلاة التي فرضها اللّه عليكم بحدودها. {وآتُوا الزّكاةَ}

يقول: وأعطوا الزكاة أهلها، الذين جعلها اللّه لهم من أموالكم، تطهيرا لأبدانكم وأموالكم¹ كرهوا ما أمروا به من كفّ الأيدي عن قتال المشركين، وشقّ ذلك عليهم. {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ}

يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم، {إذَا فرِيقٌ مِنْهُمْ} يعني: جماعة منهم {يَخْشَوْنَ النّاسَ}

يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم، {كخَشْيَةِ اللّه أوْ أشَدّ خَشْيَةً} أو أشدّ خوفا. {وَقَالُوا} جزعا من القتال الذي فرض اللّه عليهم: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ}: لم فرضت علينا القتال، ركونا منهم إلى الدنيا، وإيثارا للدعة فيها والخَفْضَ، على مكروه لقاء العدوّ، ومشقة حربهم وقتالهم. {لَوْلا أخّرْتَنا} يخبر عنهم،

قالوا: هلا أخرتنا {إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} يعني: إلى أن يموتوا على فرشهم وفي منازلهم.

وبنحو الذي قلنا إن هذه الاَية نزلت فيه قال أهل التأويل. ذكر الاَثار بذلك، والرواية عمن قاله:

٧٩٥٥ـ حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي، قال: أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا رسول اللّه ، كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: (إنّى أُمِرْتُ بالعَفْوِ فَلا تُقاتِلُوا) فلما حوّله اللّه إلى المدينة أمر بالقتال فكفوا، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}.. الاَية.

٧٩٥٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ} عن الناس، {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} نزلت في أناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال ابن جريج:

وقوله: {وَقالُوا رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} قال: إلى أن نموت موتا هو الأجل القريب.

٧٩٥٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ} فقرأ حتى بلغ: {إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} قال: كان أناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرعوا إلى القتال، فقالوا لنبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، قال: (لم أؤمَرْ بذَلِكَ). فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال اللّه تبارك وتعالى: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.

٧٩٥٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ} قال: هم قوم أسلموا قبل أن يفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا اللّه أن يفرض عليهم القتال¹ {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كخَشْيَةِ اللّه أوْ أشَدّ خَشْيَةً}.. الاَية، إلى: {ألى أجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الموت، قال اللّه : {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَن اتّقَى}.

وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها في اليهود. ذكر من قال ذلك:

٧٩٥٩ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ}.. إلى قوله: {لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً} ما بين ذلك في اليهود.

٧٩٦٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذَا فَرِيقٌ منْهُمْ}.. إلى قوله: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ}: نهى اللّه تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ}: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين قالوا {رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لأنها فانية، وما فيها فان، {والاَخِرَةُ خَيْرٌ} يعني: ونعيم الاَخرة خير، لأنها باقية، ونعيمها باق دائم. وإنما قيل: والاَخرة خير ومعنى الكلام ما وصفت من أنه معنى به نعيمها، لدلالة ذكر الاَخرة بالذي ذكرت به على المعنى المراد منه {لمن اتّقَى} يعني: لمن اتقى اللّه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك. {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} يعني: ولا ينقصكم اللّه من أجور أعمالكم فتيلاً¹ وقد بينا معنى الفتيل فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا.

٧٨

القول في تأويل قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: حيثما تكونوا ينلكم الموت فتموتوا، {ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ}

يقول: لا تجزعوا من الموت ولا تهربوا من القتال وتضعفوا عن لقاء عدوّكم حذرا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت بإزائكم أين كنتم، وواصل إلى أنفسكم حيث كنتم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ}

فقال بعضهم: يُعْنَى به: قصور محصنة. ذكر من قال ذلك:

٧٩٦١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ}

يقول: في قصور محصنة.

٧٩٦٢ـ حدثني عليّ بن سهل،قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو همام، قال: حدثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد، قال: كان فيمن قبلكم امرأة، وكان لها أجير، فولدت جارية فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارا! فخرج فوجد بالباب رجلاً، فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية، قال: أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة، ويتزوّجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت

قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمائة. فأخذ شفرة فدخل، فشقّ بطن الصبية. وعولجت فبرئت، فشبت، وكانت تبغي، فأتت ساحلاً من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء اللّه ، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: أبغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوّجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي

قال: ائتِني بها! فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي كذا، فقلت له كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوّجته

قال: فتزوّجها، فوقعت منه موقعا، فبينا هو يوما عندها، إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية ـ وأرته الشقّ في بطنها وقد كنت أبغي، فما أدري بمائة أو أقلّ أو أكثر¹ قال: فإنه قال لي: يكون موتها بالعنكبوت

قال: فبني لها برجا بالصحراء وشيده. فبينما هما يوما في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدخته، وساح سمه بين ظفرها واللحم، فاسودّت رجلها فماتت، فنزلت هذه الاَية: {إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ}.

٧٩٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} قال: قصور مشيدة.

وقال آخرون: معنى ذلك: قصور بأعيانها في السماء. ذكر من قال ذلك:

٧٩٦٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ} وهي قصور بيض في سماء الدنيا مبنية.

٧٩٦٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله: {إيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ}

يقول: ولو كنتم في قصور في السماء.

واختلف أهل العربية في معنى المشيدة، فقال بعض أهل البصرة منهم: المشيدة: الطويلة

قال: وأما المَشيد بالتخفيف، فإنه المزين.

وقال آخرون منهم نحو ذلك القول، غير أنه قال: المَشيد بالتخفيف: المعمول بالشّيد، والشّيد: الجصّ

وقال بعض أهل الكوفة: المَشِيد والمُشيّد أصلهما واحد، غير أن ما شدّد منه فإنما يشدّد لتردد الفعل فيه في جمع مثل قولهم: هذه ثياب مصبغة، وغنم مذبحة، فشدد لأنها جمع يفرّق فيها الفعل، وكذلك مثله قصور مُشيّدة، لأن القصور كثيرة تردّد فيها التشييد، ولذلك قيل: بروج مشيدة، ومنه قوله: {وَغَلّقَتِ الأبْوَابَ} وكما يقال: كسّرت العود: إذا جعلته قطعا، أي قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردّد فيه ويكثر تردّده في جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه: هذا ثوب مخّرق وجلد مقطّع، لتردّد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردّد لم يجيزوه إلا بالتخفيف، وذلك نحو قولهم: رأيت كبشا مذبوحا، ولا يجيزون فيه (مذبّحا)، لأن الذبح لا يتردّد فيه تردّد التخرّق في الثوب. و

قالوا: فلهذا قيل: قصر مَشيد، لأنه واحد، فجعل بمنزلة قولهم: كبش مذبوح. و

قالوا: جائز في القصر أن يقال قصر مُشيّد بالتشديد، لتردّد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في (كبش مذبوح) لما ذكرنا.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عْنِدِكَ}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه }: وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة يقولوا هذه من عند اللّه ، يعني: من قِبَل اللّه ومن تقديره، وإنْ تصبهم سيئة،

يقول: وإن تنلهم شدّة من عيش وهزيمة من عدوّ وجراح وألم، يقولوا لك يا محمد: هذه من عندك بخطئك التدبير. وإنما هذا خبر من اللّه تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٦٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} قال: هذه في السرّاء والضرّاء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.

٧٩٦٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} فقرأ حتى بلغ: {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً} قال: إن هذه الاَيات نزلت في شأن الحرب. فقرأ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا} فقرأ حتى بلغ: {وَإنْ تُصبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ} من عند محمد عليه الصلاة والسلام، أساء التدبير وأساء النظر، ما أحسن التدبير ولا النظر.

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّه }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّه } قل يا محمد لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة هذه من عند اللّه ، وإذا أصابتهم سيئة هذه من عندك: كل ذلك من عند اللّه دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدّة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده القتل والهزيمة. كما:

٧٩٦٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّه } النعم والمصائب.

٧٩٦٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّه } النصر والهزيمة.

٧٩٧٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّه فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا}

يقول: الحسنة والسيئة من عند اللّه ، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ} فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند اللّه ، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، {لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثا}

يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به من أن كلّ ما أصابهم من خير أو شرّ أو ضرّ وشدة أو رخاء، فمن عند اللّه ، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. وهذا إعلام من اللّه عباده أن مفاتح الأشياء كلها بيده، لا يملك شيئا منها أحد غيره.

٧٩

القول في تأويل قوله تعالى: {مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: ما يصيبك يا محمد من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل اللّه عليك يتفضل به عليك إحسانا منه إليكوأما قوله: {وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} يعني: وما أصابك من شدّة ومشقة وأذى ومكروه، فمن نفسك، يعني: بذنب استوجبتها به اكتسبته نفسك. كما:

٧٩٧١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أما من نفسك، ف

يقول: من ذنبك.

٧٩٧٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} عقوبة يا ابن آدم بذنبك

قال: وذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول: (لا يُصِيبُ رَجُلاً خَدْشُ عُودٍ وَلا عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلاّ بِذَنْبٍ، وَما يَعْفُوا اللّه أكْثَرُ).

٧٩٧٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}

يقول: الحسنة: ما فتح اللّه عليه يوم بدر وما أصابه من الغنيمة والفتح، والسيئة: ما أصابه يوم أُحد أن شجّ في وجهه وكسرت رباعيته.

٧٩٧٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}

يقول: بذنبك. ثم قال: {كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّه } النعم والمصيبات.

٧٩٧٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، قالا: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال: هذه في الحسنات والسيئات.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.

٧٩٧٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}قال: عقوبة بذنبك.

٧٩٧٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} بذنبك، كما قال لأهل أُحد: {أوَ لَمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ} بذنوبكم.

٧٩٧٨ـ حدثني يونس، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: {ماأصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} قال: بذنبك، وأنا قدرتها عليك.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا الذي قدرتها عليك.

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح، بمثله.

قال أبو جعفر:

فإن قال قائل: وما وجه دخول (من) في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} و{مِنْ سَيّئَةٍ}؟ قيل: اختلف في ذلك أهل العربية، فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت (من)، لأن (من) تحسن مع النفي، مثل: ما جاءني من أحد

قال: ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة (مَنْ)

وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت (مِنْ) مع (ما)، كما تدخل على (إن) في الجزاء لأنهما حرفا جزاء، وكذلك تدخل مع (مَن) إذا كانت جزاء، فتقول العرب: مَنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه، كما تقول: إنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه

قال: وأدخلوها مع (ما) و(مَنْ)، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء.

قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعا شيئين، وذلك أن (ما) في قوله: {ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} رفع بقوله: {أصَابَكَ} فلو حذفت (مِنْ) رفع قوله: {أصَابَكَ} السيئة، لأن معناه: إن تصبك سيئة، فلم يجز حذف (من) لذلك، لأن الفعل الذي هو على فعَل أو يَفعل لا يرفع شيئين، وجاز ذلك مع (مَنْ)، لأنها تشتبه بالصفات، وهي في موضع اسم، فأما (إن)، فإن (من) تدخل معها وتخرج، ولا تخرج مع (أيّ) لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب، ودخلت مع (ما) لأن الإعراب لا يظهر فيها.

القول في تأويل قوله تعالى: {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً وكَفَى باللّه شَهيدا}.

يعني بقوله جل ثناؤه: {وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً}: إنما جعلناك يا محمد رسولاً بيننا وبين الخلق تبلغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردوا فعليها. {وكَفَى بالله} عليك وعليهم {شَهِيدا}

يقول: حسبك اللّه تعالى ذكره شاهدا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

٨٠

القول في تأويل قوله تعالى: {مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه وَمَن تَوَلّىَ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }.

وهذا إعذار من اللّه إلى خلقه في نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم، يقول اللّه تعالى ذكره لهم: من يطع منكم أيها الناس محمدا، فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله، وأطيعوا أمره، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم، وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيـي، فلا يقولن أحدكم: إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضل علينا! ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك يا محمد، فأعرض عنه، فإنا لم نرسلك عليهم حفيظا، يعني حافظا لما يعملون محاسبا، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم، وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين. ونزلت هذه الاَية فيما ذكر قبل أن يؤمر بالجهاد. كما:

٧٩٧٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول اللّه : {فَمَا أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظا} قال: هذا أول ما بعثه، قال: {إنْ عَلَيْكَ إلاّ البَلاغُ}، قال: ثم جاء بعد هذا يأمره بجهادهم والغلظة حتى يسلموا.

٨١

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ ...}.

يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ} يعني: الفريق الذي أخبر اللّه عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال، خشوا الناس كخشية اللّه وأشدّ خشية، يقولون لنبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه! {فَإذَا بَرزُوا مِنْ عِنْدِكَ}

يقول: فإذا خرجوا من عندك يا محمد {بيّتَ طائفةٌ منهمْ غيرَ الذِي تقولُ} يعني بذلك جلّ ثناؤه: غيّر جماعة منهم ليلاً الذي تقول لهم. وكلّ عَمل عُمل ليلاً فقد بُيّت، ومن ذلك بَيّتَ العدوّ وهو الوقوع بهم ليلاً، ومنه قول عبيدة ابن همام:

أتَوْنِي فَلَمْ أرْضَ ما بَيّتُواوكانُوا أتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ

لاِنْكِحَ أيّمَهُمْ مُنْذِراوَهلْ يُنْكِحُ العَبْدَ حُرّ لِحُرّ

يعني بقوله: (فلم أرض ما بيتوا ليلاً): أي ما أبرموه ليلاً وعزموا عليه. ومنه قول النمر بن تولب العكليّ:

هَبّتْ لِتَعْذُلَنِي بلَيْلٍ اسْمَعِ!سَفَها تُبَيّتُكِ المَلامةُ فاهْجَعي!

يقول اللّه جلّ ثناؤه: {وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ} يعني بذلك جلّ ثناؤه: واللّه يكتب ما يغيرون من قولك ليلاً في كتب أعمالهم التي تكتبها حفظته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٨٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: يغيرون ما عهد نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٧٩٨١ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٧٩٨٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثني أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ} قال: هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فأمرهم بأمر

قالوا: طاعة، فإذا خرجوا من عنده غيّرت طائفة منهم ما يقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. {وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ}

يقول: ما يقولون.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} قال: يغيّرون ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٧٩٨٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} وهم ناس كانوا يقولون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آمنا باللّه ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فإذا برزوا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده¹ فعابهم اللّه ،

فقال: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ}

يقول: يغيّرون ما قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

٧٩٨٤ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ،

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ}: هم أهل النفاق.

وأما رفع (طاعة) فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول، وهو: أمرك طاعة، أو منا طاعةوأما قوله: {بَيّتَ طائِفَةٌ} فإن التاء من بيّت تحركها بالفتح عامة قراء المدينة والعراق وسائر القراء، لأنها لام فعل. وكان بعض قراء العراق يسكنها ثم يدغمها في الطاء لمقاربتها في المخرج.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، ترك الإدغام، لأنها ـ أعني التاء والطاء من حرفين مختلفين¹ وإذا كان كذلك كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الأخرى جائزة ـ أعني الإدغام في ذلك محكية.

القول في تأويل قوله تعالى: {فأعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ على اللّه وكَفَى باللّه وَكِيلاً}.

يقول جل ثناؤه لمحمد صلى اللّه عليه وسلم: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم: أمرك طاعة، فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به وغيّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقما منهم، وتوكل أنت يا محمد على اللّه .

يقول: أي وحسبك باللّه وكيلاً: أي فيما يأمرك، ووليّا لها، ودافعا عنك وناصرا.

٨٢

القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ} أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب اللّه ، فيعلموا حجة اللّه عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق¹ فإن ذلك لو كان من عند غَير اللّه لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض. كما:

٧٩٨٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {أفَلا يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافا كَثِيرا}: أي قول اللّه لا يختلف، وهو حقّ ليس فيه باطل، وإن قول الناس يختلف.

٧٩٨٦ـ حدثني يونس،قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضا، ولا ينقض بعضه بعضا، ما جهل الناس من أمره فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم. وقرأ: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافا كَثِيرا} قال: فحقّ على المؤمن أن

يقول: كلّ من عند اللّه ، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض¹ وإذا جهل أمرا ولم يعرف أن

يقول: الذي قال اللّه حقّ، ويعرف أن اللّه تعالى لم يقل قولاً وينقضه، ينبغي أن يؤمن بحقية ما جاء من اللّه .

٧٩٨٧ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قوله: {أفلا يَتدبّرون القرآن} قال: يتدبرون النظر فيه.

٨٣

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِه} وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر من الأمن. فالهاء والميم في قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ} من ذكر الطائفة المبيتة.

يقول جلّ ثناؤه: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوّهم بغلبتهم إياهم {أو الخَوْفِ}

يقول: أو تخّوفهم من عدوّهم بإصابة عدوّهم منهم {أذَاعُوا بِهِ}

يقول: أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقبل أمراء سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والهاء في قوله: {أذَاعُوا بِهِ} من ذكر الأمر وتأويله: أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم، يقال: منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه، ومنه قول أبي الأسود:

أذَاعَ بِه في النّاسِ حتى كأنّهُبعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بثَقُوبِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٨٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ}

يقول: سارعوا به وأفشوه.

٧٩٨٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ}

يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوّهم، أو أنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوّهم أمرهم.

٧٩٩٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ}

يقول: أفشوه وشنعوا به.

٧٩٩١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ} قال: هذا في الأخبار إذا غزت سرية من المسلمين خُبّر الناس عنها،

فقالوا: أصاب المسلمون من عدوّهم كذا وكذا، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا. فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يخبرهم به. قال ابن جريج: قال ابن عباس: قوله {أذَعُوا بِهِ} قال: أعلنوه وأفشوه.

٧٩٩٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أذَاعُوا بِهِ} قال: نشروه

قال: والذين أذاعوا به قوم، إما منافقون، وإما آخرون ضعفاء.

٧٩٩٣ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أفْشَوْه وشنعوا به، وهم أهل النفاق.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.

يعني جل ثناؤه بقوله: ولو ردّوه: الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وإلى أولي أمرهم، يعني: وإلى أمرائهم، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بُطُوله، فيصححوه إن كان صحيحا، أو يبطلوه إن كان باطلاً. {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

يقول: لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه، ويستخرجونه منهم، يعني: أولي الأمر. والهاء والميم في قوله: {مِنْهُمْ} من ذكر أولي الأمر.

يقول: لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه. وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب، فهو له مستنبط، يقال: استنبطت الركية: إذا استخرجت ماءها، ونَبَطتها أنبطها، والنبط: الماء المستنبط من الأرض، ومنه قول الشاعر:

قَرِيبٌ ثراهُ ما يَنالُ عَدُوّهُلَهُ نَبَطا آبي الهَوَانِ قَطُوبُ

يعني بالنبط: الماء المستنبط.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٩٩٤ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ}

يقول: ولو سكتوا وردّوا الحديث إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به، {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يعني عن الأخبار، وهم الذين ينقّرون عن الأخبار.

٧٩٩٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ}

يقول: إلى علمائهم، {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لعلمه الذين يَفْحصُون عنه، ويهمهم ذلك.

٧٩٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ} حتى يكون هو الذي يخبرهم، {وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ}: أولي الفقه في الدين والعقل.

٧٩٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: {وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}: يتتبعونه ويتحسسونه.

٧٩٩٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا ليث، عن مجاهد: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال: الذين يسألون عنه ويتحسسونه.

٧٩٩٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: {يَسْتَنْبِطُونَهُ} قال: قولهم: ما كان؟ ماذا سمعتم؟

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: {الّذِينَ يسْتَنبِطونَهُ} قال: يتحسسونه.

٨٠٠٠ـ حدثني محمد بن سيعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم.

٨٠٠١ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال: يتتبعونه.

٨٠٠٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه}.. حتى بلغ: {وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ} قال: الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب؟ أباطل فيبطلونه، أو حقّ فيحقونه؟ قال: وهذا في الحرب، وقرأ: {أذَاعُوا بِهِ وَلَوْ} فعلوا غير هذا و{رَدّوهُ} إلى اللّه و{إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ}.. الاَية.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولولا إنعام اللّه عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته، فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به، الذين يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: طاعة، فإذا برزوا من عنده بيّت طائفة منهم غير الذي تقول، لكنتم مثلهم، فاتبعتم الشيطان إلا قليلاً، كما اتبعه الذين وصف صفتهم. وخاطب بقوله تعالى ذكره: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ} الذين خاطبهم بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا}.

ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الاَية، من هم، ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم؟

فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الأمر، استثناهم من قوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف. ذكر من قال ذلك:

٨٠٠٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم، إلا قليلاً منهم، ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان.

٨٠٠٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً}

يقول: لاتبعتم الشيطان كلكموأما قوله: {إلاّ قَلِيلاً} فهو كقوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} إلا قليلاً.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد، عن قتادة: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً} قال:

يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم¹ وأما {إلاّ قَلِيلاً} فهو كقوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ... إلاّ قَلِيلاً}.

٨٠٠٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج نحوه، يعني نحو قول قتادة، وقال: لعلموه إلا قليلاً.

وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم اللّه أنهم يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طاعة، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، إلا قليلاً منهم. ذكر من قال ذلك:

٨٠٠٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ} فانقطع الكلام،

وقوله: {إلاّ قَلِيلاً} فهو في أوّل الاَية يخبر عن المنافقين، قال: {وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ} إلا قليلاً، يعني بالقليل المؤمنين، يقول الحَمْدُ لله الّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ عدلاً قِيما، ولم يجعل له عوجا.

٨٠٠٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هذه الاَية مقدمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلاً منهم، ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير.

وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله: {لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ}

وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الاَخرون همّوا به من اتباع الشيطان، فعرّف اللّه الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم، واستثنى الاَخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الاَخرين. ذكر من قال ذلك:

٨٠٠٨ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً} قال: هم أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان، إلا طائفة منهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا.

قالوا:

وقوله: {إلاّ قَلِيلاً} خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجميع والإحاطة، وأنه لولا فضل اللّه عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة، فجعل قوله: {إلاّ قَليلاً} دليلاً على الإحاطة. واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب:

أشمّ كثيرُ يَدِيّ النّوالِقليلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ

قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب، ومعلوم أن معناه: أنه لا مثالب فيه ولا معايب¹ لأن من وصف رجلاً بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة، فإنما ذمه ولم يمدحه، ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه.

قالوا: فكذلك قوله: {لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً} إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان.

وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: عنى باستثناء القليل من الإذاعة¹ وقال: معنى الكلام: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً، ولو ردّوه إلى الرسول.

وإنما قلنا: إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من قول: {لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ} لأن من تفضل اللّه عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان، وغير جائز أن نحمل معاني كتاب اللّه على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل فنوجّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون: معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعا، ثم زعم أن قوله: {إلاّ قَلِيلاً} دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له، وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله: {لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} لأن علم ذلك إذا ردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، فبينه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم، استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه. وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل، فبّين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الإذاعة.

٨٤

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ ... }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فقَاتِلْ في سَبِيلِ اللّه لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ}: فجاهد يا محمد أعداء اللّه من أهل الشرك به في سبيل اللّه ، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك. فأما قوله: {لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ} فإنه يعني: لا يكلفك اللّه فيما فرض عليك من جهاد عدوّه وعدوّك، إلا ما حملك من ذلك دون ما حمل غيرك منه: أي إنك إنما تتبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كلفته دون ما كلفه غيرك. ثم قال له: {وَحَرّضِ المُؤْمِنِينَ} يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك. {عَسَى اللّه أنْ يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُوا}

يقول: لعلّ اللّه أن يكفّ قتال من كفر باللّه وجحد وحدانيته، وأنكر رسالتك عنك وعنهم ونكايتهم. وقد بينا فيما مضى أن (عسى) من اللّه واجبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. {واللّه أشَدّ بَأْسا وأشَدّ تَنْكِيلاً}

يقول: واللّه أشدّ نكاية في عدوّه من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنّ عن قتالهم، فإني راصدهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم وأضعف بأسهم وأعلي الحقّ عليهم. والتنكيل مصدر من قول القائل: نكلت بفلان، فأنا أنكّل به تنكيلاً: أذا أوجعته عقوبة. كما:

٨٠٠٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وأشَدّ تَنْكِيلاً}: أي عقوبة.

٨٥

القول في تأويل قوله تعالى: {مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ...}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها} من يَصِرْ يا محمد شفعا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوّهم وقتالهم في سبيل اللّه ¹ وهو الشفاعة الحسنة {يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْها} يقوله: يكن له من شفاعته تلك نصيب، وهو الحظّ من ثواب اللّه ، وجزيل كرامته. {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً}

يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر باللّه على المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو الشفاعة السيئة {يَكُنْ له كِفْلٌ مِنْها} يعني: بالكفل النصيب والحظّ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من كِفْل البعير والمركب، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة، يقال منه: جاء فلان مكتفلاً: إذا جاء على مركب قد وُطّىءَ له على ما بينا لركوبه. إنه عنى بقوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها}.. الاَية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الاَية نزلت فيما ذكرنا، ثم عمّ بذلك كل شافع بخير أو شرّ.

وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الاَية التي أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل ولا لها ذكر بعد. ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض:

٨٠١٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً} قال: شفاعة بعض الناس لبعض.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٠١١ـ حُدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، قال: من يُشَفّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن اللّه

يقول: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها} ولم يقل: يُشَفّع.

٨٠١٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قال: من يشفع شفاعة حسنة كتب له أجرها ما جرت منفعتها.

٨٠١٣ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سئل ابن زيد، عن قول اللّه : {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها} قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها هي بينك وبينه هما فيها شريكان. {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} قال: هما شريكان فيها كما كان أهلها شريكين. ذكر من قال ذلك: الكفل النصيب:

٨٠١٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها}: أي حظّ منها. {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} والكفل: هو الإثم.

٨٠١٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} أما الكفل: فالحظّ.

٨٠١٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} قال: حظّ منها، فبئس الحظّ.

٨٠١٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الكفل والنصيب واحد. وقرأ: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}.

القول في تأويل قوله تعالى: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا}.

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا}

فقال بعضهم: تأويله: وكان اللّه على كل شيء حفيظا وشهيدا. ذكر من قال ذلك:

٨٠١٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا}

يقول: حفيظا.

٨٠١٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مُقِيتا} شهيدا.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد، مثله.

٨٠٢٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {مُقِيتا} قال: شهيدا، حسيبا، حفيظا.

٨٠٢١ـ حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا} قال: المقيت: الحسيب.

وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير. ذكر من قال ذلك:

٨٠٢٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد اللّه بن كثير: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا} قال: المقيت: الواصب.

وقال آخرون: هو القدير. ذكر من قال ذلك:

٨٠٢٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا} أما المقيت: فالقدير.

٨٠٢٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وكانَ اللّه على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا} قال: على كل شيء قديرا. المقيت: القدير.

قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قول من قال: معنى المقيت: القدير، وذلك أن ذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النّفسَ عنْهُوكُنْتُ على مَساءَتِهِ مُقيتا

أي قديرا. إن منه قول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (كَفَى بالمَرْءِ إثْما أنْ يُضَيّعَ مَنْ يُقِيتُ) في رواية من رواها: (يُقيت): يعني من هو تحت يديه في سلطانه من أهله وعياله، فيقدر له قوته. يقال منه: أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة، وقاته يقوته قياتة وقُوتا، والقوت الاسموأما المُقِيتُ في بيت اليهودي الذي يقول فيه:

لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنّ إذَا مَاقَرّبُوها مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ

ألِيَ الفَضْلُ أمْ عَليّ إذَا حُوسِبْتُ إنّي على الحِسابِ مُقِيتُ

فإن معناه: فإني على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى.

٨٦

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ اللّه كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ}: إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. {فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْرُدّوها}

يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم، {أوْرُدّوها}

يقول: أوردّوا التحية.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيا به المحيـى، والتي هي مثلها،

فقال بعضهم: التي هي أحسن منها أن يقول المسلّم عليه إذا قيل: (السلام عليكم): وعليكم السلام ورحمة اللّه ، ويزيد على دعاء الداعي له¹ والردّ أن

يقول: السلام عليكم مثلها، كما قيل له، أو

يقول: وعليكم السلام، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. ذكر من قال ذلك:

٨٠٢٥ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها}

يقول: إذا سلم عليك أحد، فقل أنت: (وعليك السلام ورحمة اللّه )، أو تقطع إلى (السلام عليك)، كما قال لك.

٨٠٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها} قال: في أهل الإسلام.

٨٠٢٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج فيما قرىء عليه، عن عطاء، قال: في أهل الإسلام.

٨٠٢٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح، أنه كان يردّ: (السلام عليكم)، كما يسلم عليه.

٨٠٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم، أنه كان يردّ: السلام عليكم ورحمة اللّه .

٨٠٣٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن ابن عمر أنه كان يردّ: وعليكم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهل الإسلام، أو ردّوها على أهل الكفر. ذكر من قال ذلك:

٨٠٣١ـ حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: من سلم عليك من خلق اللّه ، فاردد عليه وإن كان مجوسيّا، فإن اللّه

يقول: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها}.

٨٠٣٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سالم بن نوح، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها} للمسلمين، {أوْ رُدّوها} على أهل الكتاب.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها} للمسلمين، {أوْ رُدّوها} على أهل الكتاب.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها}

يقول: حيوا أحسن منها: أي على المسلمين {أوْ رُدّوها} أي على أهل الكتاب.

٨٠٣٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها} قال: قال أبي: حقّ على كل مسلم حُيّـي بتحية أن يحيـي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الإسلام أن يردّ عليه مثل ما قال.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الاَية قول من قال ذلك في أهل الإسلام، ووجه معناه إلى أنه يردّ السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصحاح من الاَثار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردّ تحية كل كافر أحسن من تحيته، وقد أمر اللّه بردّ الأحسن¹ والمثل في هذه الاَية من غير تمييز منه بين المستوجب ردّ الأحسن من تحيته عليه والمردود عليه مثلها بدلالة يعلم بها صحة قول من قال: عنى بردّ الأحسن المسلم، وبردّ المثل: أهل الكفر.

والصواب إذْ لم يكن في الاَية دلالة على صحة ذلك ولا بصحته أثر لازم عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلّم عليه بين ردّ الأحسن أو المثل إلا في الموضع الذي خصّ شيئا من ذلك سنة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيكون مسلما لها. وقد خصت السنة أهل الكفر بالنهي عن ردّ الأحسن من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال: (وعليكم)، فلا ينبغي لأحد أن يتعدّى ما حدّ في ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلم عليه منهم في الردّ من الخيار ما جعل اللّه له من ذلك. وقد رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا خبر¹ وذلك ما:

٨٠٣٤ـ حدثني موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا عبد اللّه بن السريّ الأنطاكي، قال: حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهديّ، عن سلمان الفارسي، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: السلام عليك يا رسول اللّه ! فقال: (وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّه !). ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه ! فقال له رسول اللّه : (وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّه وَبَرَكاتُهُ!). ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته! فقال له: (وَعَلَيْكَ!) فقال له الرجل: يا نبيّ اللّه بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت عليّ؟ فقال: (أنّكَ لَمْ تَدَعْ لَنا شَيْئا، قال اللّه {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها} فرددناها عَلَيْكَ).

فإت قال قائل: أفواجب ردّ التحية على ما أمر اللّه به في كتابه؟ قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين. ذكر من قال ذلك:

٨٠٣٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللّه

يقول: ما رأيته إلا يوجبه قوله: {وَإذَا حُيّيُتمْ بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدّوها}.

٨٠٣٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن، قال: السلام: تطوّع، والردّ فريضة.

القول في تأويل قوله تعالى: {أنّ اللّه كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه كان على كل شيء مما تعملون أيها الناس من الأعمال من طاعة ومعصية حفيظا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه. كما:

٨٠٣٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: حسيبا، قال: حفيظا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي فَعِيل من الحساب الذي هو في معنى الإحصاء، يقال منه: حاسبت فلانا على كذا وكذا، وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه، وذلك إذا كان صاحب حسابه. وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة أن معنى الحسيب في هذا الموضع: الكافي، يقال منه: أحسبني الشيء يُحسبني أحسابا، بمعنى: كفاني، من قولهم: حسبي كذا وكذا. وهذا غلط من القول وخطأ، وذلك أنه لا يقال في أحسبت الشيء: أحسبت على الشيء فهو حسيب عليه، وإنما يقال: هو حسبه وحسيبه، واللّه

يقول: {إنّ اللّه كانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيبا}.

٨٧

القول في تأويل قوله تعالى: {اللّه لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {اللّه لا إلَهَ إلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ} المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له هو، الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائعوقوله: {لَيَجَمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ}

يقول: ليبعثنكم من بعد مماتكم، وليحشرنكم جميعا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته وأهل الإيمان به والكفر. {لا رَيْبَ فِيهِ}

يقول: لا شكّ في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم. {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثا} يعني بذلك: واعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينا، فلا تشكوا في صحته، ولا تمتروا في حقيته، فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدى الصدق الذي لا خلف له. {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثا}

يقول: وأيّ ناطق أصدق من اللّه حديثا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعا أو يدفع به عنها ضرّا، واللّه تعالى ذكره خالق الضرّ والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضرّ عنها سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرا، ومن أصدق من اللّه حديثا وخبرا.

٨٨

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}: فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين، {وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} يعني بذلك: واللّه ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم. والإركاس: الردّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

فأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ إنّهُمُكانُوا عُصَاةً وقالوا الإفْكَ وَالزّورَا

يقال منه: أركسهم وركسهم. وقد ذُكر أنها في قراءة عبد اللّه وأبيّ: (واللّه ركسهم) بغير ألف.

واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الاَية،

فقال بعضهم: نزلت في اختلاف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أُحد، وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول اللّه عليه الصلاة والسلام ولأصحابه: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ}. ذكر من قال ذلك:

٨٠٣٨ـ حدثني الفضل بن زياد الواسطي، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن عديّ بن ثابت، قال: سمعت عبد اللّه بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لما خرج إلى أُحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا. فنزلت هذه الاَية: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا}.. الاَية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المدينة: (أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَشَها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، عن عبد اللّه بن يزيد، عن زيد بن ثابت، قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر نحوه.

حدثني زريق بن السخت، قال: حدثنا شبابة، عن عديّ بن ثابت، عن عبد اللّه بن يزيد، عن زيد بن ثابت، قال: ذكروا المنافقين عند النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال فريق: نقتلهم، وقال فريق: لا نقتلهم فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.. إلى آخر الاَية.

وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك. ذكر من قال ذلك:

٨٠٣٩ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدّوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل

يقول: هم منافقون، وقائل

يقول: هم مؤمنون. فبين اللّه نفاقهم، فأمر بقتالهم. فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم هلال بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين النبيّ صلى اللّه عليه وسلم حلف، وهو الذي حصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالاً، وبينه وبين النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عهد.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله بنحوه، غير أنه قال: فبين اللّه نفاقهم، وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلف.

وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. ذكر من قال ذلك:

٨٠٤٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم،

فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان اللّه ـ أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّه }.. الاَية.

٨٠٤١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن}.. الاَية، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام، ولم يهاجرا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. فلقيهما ناس من أصحاب نبيّ اللّه وهما مقبلان إلى مكة،

فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال، .

وقال بعضهم: لا تحلّ لكم. فتشاجروا فيهما، فأنزل اللّه في ذلك: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} حتى بلغ: {وَلَوْ شاءَ اللّه لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُم}.

٨٠٤٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد، قال: بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا. فلقوهم، فاختلف فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال، وقالت طائفة: دماؤهم حرام¹ فأنزل اللّه : {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}.

٨٠٤٣ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ،

يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن} هم ناس تخلفوا عن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان، ولم يهاجروا. فاختلف فيهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وتبرأ من ولايتهم آخرون، و

قالوا: تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يهاجروا. فسماهم اللّه منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا.

وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا. ذكر من قال ذلك:

٨٠٤٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية. فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداء اللّه المنافقون، وددنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها. فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون، فإذا برءوا رجعوا. فقال اللّه : {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}

يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين {واللّه أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبوا}.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمر أهل الإفك. ذكر من قال ذلك:

٨٠٤٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} حتى بلغ: {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه } قال: هذا في شأن ابن أبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم. فقال سعد بن معاذ: فإنى أبرأ إلى اللّه وإلى رسوله منه! يريد عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين: التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم، والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة، وفي قول اللّه تعالى ذكره: {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا} أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرض هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه.

واختلف أهل العربية في نصب قوله: {فِئَتَيْنِ}

فقال بعضهم: هو منصوب على الحال، كما تقول: ما لك قائما، يعني ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين¹ وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل (ما لك)، قال: ولا يُبالَى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة

قال: ويجوز في الكلام أن

يقول: ما لك السائر معنا، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما

قال: وكل موضع صلحت فيه (فعل) و(يفعل) من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة، كما ينصب كان وأظنّ لأنهنّ نواقص في المعنى وإن ظننت أنهنّ تامات. وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن المطلوب في قول القائل: (ما لك قائما) القيام، فهو في مذهب كان وأخواتها وأظنّ وصواحباتها.

القول في تأويل قوله عزّ وجلّ: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}.

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ}

فقال بعضهم: معناه: ردّهم¹ كما قلنا. ذكر من قال ذلك:

٨٠٤٦ـ حدثنا الحسن، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} ردّهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: واللّه أوقعهم. ذكر من قال ذلك:

٨٠٤٧ـ حدثني المثنى، قال: ثني عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}

يقول: أوقعهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: أضلّهم وأهلكهم. ذكر من قال ذلك:

٨٠٤٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ} قال: أهلكهم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}: أهلكهم بما عملوا.

٨٠٤٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَاللّه أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}: أهلكهم.

وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته.

القول في تأويل قوله تعالى: {أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّه وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّه } أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام، فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله اللّه عنه، يعني بذلك: من خذله اللّه عنه فلم يوفقه للإقرار به. وإنما هذا خطاب من اللّه تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف اللّه صفتهم في هذه الاَية، يقول لهم جلّ ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم اللّه فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين؟ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} يقوله: ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من عنده، فأضله عنه، فلن تجد له يا محمد سبيلاً،

يقول: فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله اللّه (عنه)، ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.

٨٩

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كمَا كَفَرُوا}: تمنى هؤلاء المنافقون الذين أنتم أيها المؤمنون فيهم فئتان أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم وتصديق نبيكم محمد صلى اللّه عليه وسلم، {كما كَفَرُوا} يقوله: كما جحدوا هم ذلك. {فَتَكُونُونَ سَوَاءً}

يقول: فتكونون كفارا مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله. {فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه }

يقول: حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم باللّه مشركون إلى دار الإسلام وأهلها {في سَبِيل اللّه } يعني في ابتغاء دين اللّه ، وهو سبيله، فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم. كما:

٨٠٥٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا}

يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم، يعني: الهجرة في سبيل اللّه .

القول في تأويل قوله: {فإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا وَلا نَصِيرا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار باللّه ورسوله، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام، ومن الكفر إلى الإسلام، فخذوهم أيها المؤمنون، واقتلوهم حيث وجدتموهم من بلادهم وغير بلادهم، أين أصبتموهم من أرض اللّه . {ولا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا} يقوله: ولا تتخذوا منهم خليلاً يواليكم على أموركم، ولا ناصرا ينصركم على أعدائكم، فإنهم كفار لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتّم. وهذا الخبر من اللّه جل ثناؤه إبانة عن صحة نفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم، وتحذير لمن دافع عنهم عن المدافعة عنهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٠٥١ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {فإنْ تَوَلّوْا فخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ}: فإن تولوا عن الهجرة فخذوهم واقتلوهم.

٨٠٥٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم.

٩٠

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}: فإن تولّى هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان باللّه ورسوله، وأبوا الهجرة، فلم يهاجروا في سبيل اللّه ، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم وصاروا منهم ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم، أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تُغنم أموالهم. كما:

٨٠٥٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}

يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة.

٨٠٥٤ـ حدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.

٨٠٥٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.

وقد زعم بعض أهل العربية، أن معنى قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ}: إلا الذين يتصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق¹ من قولهم: اتّصل الرجل، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:

إذا اتّصَلَتْ قالَتْ أبَكْرَ بْنَ وَائِلٍوَبَكْرٌ سَبَتْها والأُنُوفُ رَوَاغِمُ

يعني بقوله: اتصلت: انتسبت. ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليقاتل قريشا، وهم أنسباء السابقين الأوّلين. ولأهل الإيمان من الحقّ بإيمانهم أكثر مما لأهل العهد بعهدهم، وفي قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مشركي قريش بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم، الدليل الواضح أن انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.

فإن ظنّ ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش إنما كان بعد ما نسخ قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ذلك نسخ قراءة نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام.

القول في تأويل قوله تعالى: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم. ويعني بقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم، والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام قد حصر، ومنه الحصر في القراءة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٠٥٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}

يقول: ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم.

وفي قوله: {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} متروك ترك ذكره لدلالة الكلام عليه، وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر (قد) لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك، تقول: أتاني فلان ذهب عقله، بمعنى: قد ذهب عقله¹ ومسموع منهم: أصحبت نظرت إلى ذات التنانير، بمعنى: قد نظرت. ولإضمار (قد) مع الماضي جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن قد إذا دخلت معه أدنته من الحال وأشبه الأسماء. وعلى هذه القراءة، أعني: {حَصِرَتْ} قرأ القرّاء في جميع الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) نصبا، وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائز القراءة بها عندي لشذوذها وخروجها عن قراءة قراء الإسلام.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللّه لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ...}.

يعني جلّ ثناؤه: {ولو شَاءَ اللّه لَسلّطُهمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}: ولو شاء اللّه لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن اللّه تعالى ذكره كفهم عنكم.

يقول جلّ ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم فيما أمركم به من الكفّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جلّ ثناؤه: {فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ}

يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكفّ عن قتالهم من المنافقين بدخولهم في أهل عهدكم أو مصيرهم إليكم، حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم، فلم يقاتلوكم، {وأَلْقَوْا إلَيْكُمْ السّلَمَ}

يقول: وصالحوكم. والسلم: هو الاستسلام، وإنما هذا مثل كما يقول الرجل للرجل: أعطيتك قيادي وألقيت إليك خطامي، إذا استسلم له وانقاد لأمره، فكذلك قوله: {وألْقَوْا إلَيْكُمْ السّلَمَ} إنما هو: ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لكم صلحا منهم لكم وسلما. ومن السلم قول الطرماح:

وَذاكَ أنّ تَمِيما غادَرَتْ سَلَماللأُسْدِ كُلّ حَصَانٍ وَعْثَةِ اللّبَدِ

يعني بقوله سلما: استسلاما.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٠٥٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: {فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وألْقَوْا إلَيْكُمُ السّلَمَ} قال: الصلح.

وأما قوله: {فَمَا جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} فإنه

يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم صلحا منهم لكم، فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلاً: أي فلم يجعل اللّه لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحة منه ذلك لكم ولا إذن، فلا تعرضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير. ثم نسخ اللّه جميع حكم هذه الاَية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره: {فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.. إلى قوله: {فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إنّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا:

٨٠٥٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن، قالا:

قال: {فَإنْ تَوَلّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقُتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتمُوهُمْ وَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّا وَلا نَصِيرا إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَومٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}.. إلى قوله: {وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِينا}.

وقال في الممتحنة: {لا يَنْهاكُمُ اللّه عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبَرّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنّ اللّه يُحِبّ المُقْسِطِينَ}

وقال فيها: {إنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّه عَنه الّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِياركُمْ}.. إلى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}. فنسخ هؤلاء الاَيات الأربعة في شأن المشركين،

فقال: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاْعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجزِي اللّه وأنّ اللّه مُخْزِي الكافِرِينَ} فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك.

وقال في التي تليها: {فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصد} ثم نسخ واستثنى فقال: {فإنْ تابُوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوْا الزّكاةَ}.. إلى قوله: {ثُمّ أبْلِغْهُ مأْمَنَهُ}.

٨٠٥٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ} قال: نسختها: {فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتمُوهُمْ}.

٨٠٦٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا همام بن يحيـى، قال: سمعت قتادة يقول في قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}.. إلى قوله: {فَمَا جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله: {اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ}.

٨٠٦١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد في قوله: {إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}.. الاَية، قال: نُسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر، إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد.

٩١

القول في تأويل قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ ...}.

وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام لرسول اللهصلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يبعدونه من دون اللّه ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم، يقول اللّه : {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} يعني: كلما دعاهم إلى الشرك باللّه ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم.

واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية،

فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا على ما وصفهم اللّه به من التقية وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم، يقول اللّه : {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} يعني: كلما دعاهم إلى الشرك باللّه ارتدوا، فصاروا مشركين مثلهم ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء. ذكر من قال ذلك:

٨٠٦٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {يُرِيدونَ أنْ يأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} قال ناس كانوا يأتون النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فيسلمون رياء، ثم يرجوعن إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٠٦٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها}

يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوحد قد تكلم بالإسلام، فيقرّب إلى العود والجحر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام: قل هذا ربي، للخنفساء والعقرب.

وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين. ذكر من قال ذلك:

٨٠٦٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} قال: حيّ كانوا بتهامة،

قالوا: يا نبيّ اللّه لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، وأرداوا أن يأمنوا نبيّ اللّه ويأمنوا قومهم. فأبي اللّه ذلك عليهم،

فقال: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيها}

يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.

وقال آخرون: نزلت هذه الاَية في نعيم بن مسعود الأشجعي. ذكر من قال ذلك:

٨٠٦٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. فقال: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة}

يقول: إلى الشرك.

وأما تأويل قوله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيهَا} فإنهم كما:

٨٠٦٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} قال: كلما ابتلوا بها عموا فيها.

٨٠٦٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.

والقول في ذلك ما قد بينت قبل، وذلك أن الفتنة في كلام العرب: الاختبار، والإركاس: الرجوع.

فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه.

القول في تأويل قوله تعالى: {فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمْ السّلَمَ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهي كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه، ويلقوا إليكم السلم، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقاد ويصالحوكم. كما:

٨٠٦٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: {فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السّلَمَ} قال: الصلح.

{وَيَكُفّوا أيْدِيَهُمْ}

يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}

يقول جلّ ثناؤه: فإن لم يفعلوا فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذٍ حلال. {وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِينا}

يقول جلّ ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم على ما هم عليه من الكفر، إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم وتركهم هجرة دار الشرك. {مُبِينا} يعني أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم وإصابتكم الحقّ في قتلهم، وذلك قوله: {سُلْطانا مُبِينا}. والسلطان: هو الحجة. كما:

٨٠٦٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة.

٨٠٧٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: قوله: {سُلْطانا مُبِينا} أما السلطان المبين: فهو الحجة.

٩٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً}: وما أذن اللّه لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا.

يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة. كما:

٨٠٧١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَما كانَ لِمُؤمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً}

يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد اللّه الذي عهد إليه.

وأما قوله: {إلاّ خَطأً} فإنه

يقول: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ، وليس له مما جعل له ربه فأباحه له. وهذا من الاستنثاء الذي تسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع، كما قال جرير بن عطية:

مِنَ البِيضِ لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدا ولمْ تَطأْعلى الأرْضِ إلا رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحّلِ

يعني: لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البرد من الأرض.

ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قتل من المؤمنين خطأ،

فقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

يقول: فعليه تحرير رقبة مؤمنة من ماله ودية مسلمة يؤدّيها عاقلته إلى أهله: {إلاّ أَن يَصّدّقُوا}

يقول: إلا أن يصدّق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه. وموضع (أن) من قوله: {إلاّ أنْ يَصّدّقُوا} نصب، لأن معناه: فعليه ذلك إلا أن يصدّقوا. وذكر أن هذه الاَية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان قد قتل رجلاً مسلما بعد إسلامه وهو لا يعلم بإسلامه. ذكر الاَثار بذلك:

٨٠٧٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن جاهد في قول اللّه : {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً} قال: عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمنا كان يعذّبه مع أبي جهل، وهو أخوه لأمه، فاتّبع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو. وكان عياش هاجر إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مؤمنا، فجاء أبو جهل وهو أخوه لأمه،

فقال: إن أمك تناشدك رحمها وحقها أن ترجع إليها! وهي أسماء ابنة مخرمة. فأقبل معه، فربطه أبو جهل حتى قدم مكة¹ فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرا وافتتانا، و

قالوا: إن أبا جهل ليقدر من محمد على ما يشاء ويأخذ أصحابه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فاتّبع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ذلك الرجل وعياش يحسبه أنه كافر كما هو، وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنا، فجاءه أبو جهل وهو أخوه لأمه،

فقال: إن أمك، ك تنشدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها! وقال أيضا: فيأخذ أصحابه فيربطهم.

٨٠٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج، عن عكرمة، قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بني عامر بن لؤيّ يعذّب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف حتى سكت، وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، ونزلت: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلا خَطَأً}.. الاَية، فقرأها عليه، ثم قال له: (قُمْ فَحَرّرْ).

٨٠٧٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً} قال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فكان أخا لأبي جهل بن هشام لأمه. وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الأولين قبل قدوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فطلبه أبو جهل والحارث بن هشام ومعهما رجل من بني عامر بن لؤيّ، فأتوه بالمدينة، وكان عياش أحبّ إخوته إلى أمه، فكلموه و

قالوا: إن أمك قد حلفت أن لا يظلها بيت حتى تراك وهي مضطجعة في الشمس، فأتتها لتنظر إليك ثم ارجع! وأعطوه موثقا من اللّه لا يحجزونه حتى يرجع إلى المدينة. فأعطاه بعض أصحابه بعيرا له نجيبا، وقال: إن خفت منهم شيئا فاقعد على النجيب. فلما أخرجوه من المدينة أخذوه فأوثقوه، وجلده العامريّ، فحلف ليقتلنّ العامريّ. فلم يزل محبوسا بمكة حتى خرج يوم الفتح، فاستقبله العامريّ وقد أسلم ولا يعلم عياش بإسلامه، فضربه فقتله، فأنزل اللّه : {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً}

يقول: وهو لايعلم أنه مؤمن، {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلاّ أنْ يَصّدّقُوا} فيتركوا الدية.

وقال آخرون: نزلت هذه الاَية في أبي الدرداء. ذكر من قال ذلك:

٨٠٧٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً}.. الاَية

قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء كانوا في سرية، فعدل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف،

فقال: لا إله إلا اللّه ، قال: فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئا، فأتى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ألا شَقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ؟) فقال: ما عسيت أجدُ! هل هو يا رسول اللّه إلا دم أو ماء؟ قال: (فَقَدْ أَخَبَرَكَ بلسَانه فلم تُصَدّقه)، قال: كيف بي يا رسول اللّه ؟ قال: (فَكَيْفَ بِلا إلَهَ إلاّ اللّه ؟)قال: فكيف بي يا رسول اللّه ؟ قال: (فَكَيْف بِلا إلَهَ إلاّ اللّه ). حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي

قال: ونزل القرآن: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطَأً}.. حتى بلغ: {إلاّ أنْ يَصّدّقُوا} قال: إلا أن يضعوها.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن اللّه عرّف عباده بهذه الاَية ما على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الاَية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأيّ ذلك كان فالذي عني اللّه تعالى بالاَية تعريف عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه.

وأما الرقبة المؤمنة فإن أهل العلم مختلفون في صفتها،

فقال بعضهم: لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها وصلت وصامت، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة. ذكر من قال ذلك:

٨٠٧٦ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي حيان، قال: سألت الشعبي عن قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ} قال: قد صلّت وعرفت الإيمان.

٨٠٧٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يعني بالمؤمنة: من عقل الإيمان وصام وصلى.

٨٠٧٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزي إلا من صام وصلى، وما كان في القرآن من رقبة ليست مؤمنة، فالصبيّ يجزيء.

٨٠٧٩ـ حُدثت عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن، قال: كل شيء في كتاب اللّه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فمن صام وصلى وعقل، وإذا قال: (فتحرير رقبة): فما شاء.

٨٠٨٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كلّ شيء في القرآن {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فالذي قد صلّى، وما لم تكن (مؤمنة)، فتحرير من لم يصلّ.

٨٠٨١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} والرقبة المؤمنة عند قتادة: من قد صلى. وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصلّ ولم يبلغ ذلك.

٨٠٨٢ـ حدثني يحيـى بن طلحة اليربوعيّ، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قال: إذا عقل دينه.

٨٠٨٣ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال في: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}: لا يجزيء فيها صبيّ.

٨٠٨٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فَتَحْرِيرْ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ} يعني بالمؤمنة: من قد عقل الإيمان وصام وصلى، فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدّقوا بها عليه.

وقال آخرون: إذا كان مولودا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن وإن كان طفلاً. ذكر من قال ذلك:

٨٠٨٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطا، قال: كلّ رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزي.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: لا يجزيء في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من الرجال والنساء إذا كان ممن كان أبواه على ملة من الملل سوى الإسلام وولد يتيما وهو كذلك، ثم لم يسلما ولا واحد منهما حتى أعتق في كفارة الخطأوأما من ولد بين أبوين مسلمين فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ الاختيار والتمييز ولم يدرك الحلم فمحكوم له بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه إن مات، وما يجب عليه إن جنى، ويجب له إن جُني عليه، وفي المناكحة. فإذا كان ذلك من جمعيهم إجماعا، فواجب أن يكون له من الحكم فيما يجزيء فيه من كفاره الخطأ إن أعتق فيها من حكم أهل الإيمان مثل الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن أبي ذلك عكس عليه الأمر فيه، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في غيره مثله.

وأما الدية المسلّمة إلى أهل القتيل فهي المدفوعة إليهم على ما وجب لهم موفرة غير منتقصة حقوق أهلهم منها. وذكر عن ابن عباس أنه كان

يقول: هي الموفّرة.

٨٠٨٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: {وَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ} قال: موفّرة.

وأما قوله: {إلاّ أنْ يَصّدّقُوا} فإنه يعني به: إلا أن يتصدّقوا بالدية على القاتل أو على القتال أو على عاقلته¹ فأدغمت التاء من قوله (يتصدّقوا) في الصاد فصارتا صادا. وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ: (إلاّ أنْ يَتَصَدّقُوا).

٨٠٨٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بكر بن الشروط: في حرف أبيّ: {إلاّ أنْ يَتَصَدّقُوا}.

القول في تأويل قوله: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ}.

يعني جلّ ثناؤِ بقوله: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم عدوّ لكم، يعني: من عداد قوم أعداء لكم في الدين مشركين، لم يأمنوكم الحرب على خلافكم على الإسلام، وهو مؤمن {فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ}

يقول: فإذا قتل المسلم خطأ رجلاً من عداد المشركين والمقتول مؤمن والقاتل يحسب أنه على كفره، فعليه تحرير رقبة مؤمنة.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك،

فقال بعضهم: معناه: وإن كان المقتول من قوم هم عدوّ لكم وهو مؤمن¹ أي بين أظهركم لم يهاجر، فقتله مؤمن، فلا دية عليه وعليه تحرير رقبة مؤمنة. ذكر من قال ذلك:

٨٠٨٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة والمغيرة، عن إبراهيم في قوله: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال: هو الرجل يسلم في دار الحرب، فيقتل

قال: ليس فيه دية، وفيه الكفارة.

٨٠٨٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة في قوله: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال: يعني: المقتول يكون مؤمنا وقومه كفار، قال: فليس له دية، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.

٨٠٩٠ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوع مُؤْمِنٌ} قال: يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار، فلا دية له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.

٨٠٩١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} في دار الكفر،

يقول: {فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ} وليس له دية.

٨٠٩٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ} ولا دية لأهله من أجل أنهم كفار، وليس بينهم وبين اللّه عهد ولا ذمة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن ابن عباس أنه قال في قول اللّه : {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.. إلى آخر الاَية، قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمرّ بهم الجيش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قائله رقبة ولا دية له.

٨٠٩٣ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ} قال: هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدوّ لكم: أي ليس لهم عهد يُقتل خطأ، فإن على من قتله تحرير رقبة مؤمنة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين، ولا دية عليه.

٨٠٩٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} القتيل مسلم وقومه كفار، {فَتَحْريرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ولا يؤدّي إليهم الدية فيتقوّون بها عليكم.

وقال آخرون: بل عني به الرجل من أهل الحرب يقدم دار الإسلام فيسلم ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مرّ بهم الجيش من أهل الإسلام هرب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا. ذكر من قال ذلك:

٨٠٩٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {فَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فهو المؤمن يكون في العدوّ من المشركين يسمعون بالسرية من أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، فيفرّون ويثبت المؤمن فيقتل، ففيه تحرير رقبة مؤمنة.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيةٌ مَسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم بينكم أيها المؤمنون وبينهم ميثاق: أي عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم، {فِدَيةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}

يقول: فعلى قاتله دية مسلّمة إلى أهله يتحملها عاقلته، وتحرير رقبة مؤمنة كفارة لقتله.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق أهو مؤمن أو كافر؟

فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتله ديته¹ لأن له ولقومه عهدا، فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحلّ للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم. ذكر من قال ذلك:

٨٠٩٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}

يقول: إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلّمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين.

٨٠٩٧ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سمعت الزهري

يقول: دية الذمي دية المسلم

قال: وكان يتأوّل: {وإنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ}.

٨٠٩٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن عيسى بن أبي المغيرة، عن الشعبي في قوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ} قال: من أهل العهد، وليس بمؤمن.

٨٠٩٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} وليس بمؤمن.

٨١٠٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِه وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} بقتله: أي بالذي أصاب من أهل ذمته وعهده¹ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصيامُ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّه }.. الاَية.

٨١٠١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ}

يقول: فأدّوا إليهم الدية بالميثاق

قال: وأهل الذمة يدخلون في هذا، وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.

وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤدّيها إلى قومه من المشركين، لأنهم أهل ذمة. ذكر من قال ذلك:

٨١٠٢ـ حدثني ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ} قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقد، فتكون ديته لقومه وميراثه للمسلمين، ويعقل عنه قومه ولهم ديته.

٨١٠٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن جابر بن زيد في قوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} قال: وهو مؤمن.

٨١٠٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن، في قوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنهُمْ مِيثاقٌ} قال: هو كافر.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الاَية قول من قال: عني بذلك المقتول من أهل العهد، لأن اللّه أبهم ذلك،

فقال: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} ولم يقل: (وهو مؤمن) كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب¹ أو عني المؤمن منهم وهو مؤمن. فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.

فإن ظنّ ظانّ أن في قوله تبارك وتعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إلى أهْلِهِ} دليلاً على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمنين من أهل الإيمان سواء، فكذلك حكم ديات أحرارهم سواء، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النصف من ديات أهل الإيمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليل على أن المعنىّ بقوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} من أهل الإيمان، لأن دية المؤمّنة لا خلاف بين الجميع، إلا من لا يعدّ خلافا أنها على النصف من دية المؤمن، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية، فكذلك حكم ديات أهل الذمة لو كانت مقصرة عن ديات أهل الإيمان لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات، فكيف والأمر في ذلك بخلافه ودياتهم وديات المؤمنين سواء؟.

وأما الميثاق: فإنه العهد والذمة، وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك كذلك والأصل الذي منه أخذ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ذكر من قال ذلك:

٨١٠٥ـ حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}

يقول: عهد.

٨١٠٦ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} قال: هو المعاهدة.

٨١٠٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو غسان، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: {وَإنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}: عهد.

٨١٠٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، مثله.

فإن قال قائل: وما صفة الخطأ الذي إذا قتل المؤمن المؤمن أو المعاهَد لزمته ديته والكفارة؟ قيل: هو ما قال النّخَعي في ذلك. وذلك ما:

٨١٠٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: الخطأ أن يريد الشيء فيصيب غيره.

٨١١٠ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخطأ أن يرمي الشيء فيصيب إنسانا وهو لا يريده، فهو خطأ، وهو على العاقلة.

فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك؟ قيل: أما في قتل المؤمن فمائة من الإبل إن كان من أهل الإبل على عاقلة قاتله، لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلاف بين أهل العلم، فمنهم من

يقول: هي أرباع: خمس وعشرون منها حقه، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون. ذكر من قال ذلك:

٨١١١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عليّ رضي اللّه عنه: في الخطأ شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها¹ وفي الخطأ: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن فراس والشيباني، عن الشعبي، عن عليّ بن أبي طالب، بمثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن عليّ رضي اللّه عنه، بنحوه.

حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سواء، عن الشعبي، عن عليّ رضي اللّه عنه أنه قال: في قتل الخطأ الدية مائة أرباعا، ثم ذكر مثله.

وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. ذكر من قال ذلك:

٨١١٢ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة عن أبيه، عن عبد اللّه بن مسعود قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض.

حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عامر، عن عبد اللّه بن مسعود: في قتل الخطأ مائة من الإبل أخماسا: خُمس جذاع، وخُمس حقاق، وخُمس بنات لبون، وخُمس بنات مخاض، وخُمس بنو مخاض.

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة عن عبد اللّه ، قال: الدية أخماس دية الخطأ: خُمس بنات مخاض، وخُمس بنات لبون، وخُمس حقاق، وخُمس جذاع، وخُمس بنو مخاض.

واعتلّ قائل هذه المقالة بحديث:

٨١١٣ـ حدثنا به أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا يحيـى بن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن الخشف بن مالك، عن عبد اللّه بن مسعود: أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قضى في الدية في الخطأ أخماسا. قال أبو هشام: قال ابن أبي زائدة: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون بني مخاض.

حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا يحيـى، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد اللّه أنه قضى بذلك.

وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور. ذكر من قال ذلك:

٨١١٤ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثني محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان وزيد بن ثابت قالا: في الخطأ شبه العمد: أربعون جذعة خَلِفة، وثلاثون حقة، وثلاثون بنات مخاض¹ وفي الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.

٨١١٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت في دية الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرن بنو لبون ذكور.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، قال: وحدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت، مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الإبل مائة من الإبل. ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها، وأجمعوا على أنه لا يقصر بها في الذي وجبت له الأسنان عن أقلّ ما ذكرنا من أسنانها التي حدّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها، وأنه لا يجاوز بها الذي وجبت عن أعلاها. وإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، فالواجب أن يكون مجزيا من لزمته دية قتل خطأ: أي هذه الأسنان التي اختلف المختلفون فيها أداها إلى من وجبت له، لأن اللّه تعالى لم يحدّ ذلك بحدّ لا يجاوز به ولا يقصر عنه ولا رسوله إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين، وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار، وعليه علماء الأمصار.

وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رضي اللّه عنه للإبل على أهل الذهب في عصره، والواجب أن يقوّم في كلّ زمان قيمتها إذا عدم الإبل عاقلة القاتل. واعتلّوا بما:

٨١١٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن مكحول، قال: كانت الدية ترتفع وتنخفض، فتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهي ثمانمائة دينار، فخشي عمر من بعده، فجعلها اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار.

وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبا ألف دينار،

فقالوا: ذلك فريضة فرضها اللّه على لسان رسوله، كما فرض الإبل على أهل الإبل.

قالوا: وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان إلا من شذّ عنهم، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها، أوضح الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب وجوب الإبل على أهل الإبل، لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل. وهذا القول هو الحقّ في ذلك لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه.

وأما من الوَرِق على أهل الورِق عندنا، فاثنا عشر ألف درهم، وقد بينا العلل في ذلك في كتابنا (كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام).

وقال آخرون: إنما على أهل الورِق من الورِق عشرة آلاف درهم.

وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاق، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها،

فقال بعضهم: ديته ودية الحرّ المسلم سواء. ذكر من قال ذلك:

٨١١٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السريّ، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ: أن أبا بكر وعثمان رضوان اللّه عليهما كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني إذا كانا معاهدين كدية المسلم.

٨١١٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السريّ، عن الدستوائي، عن يحيـى بن أبي كثير، عن الحكم بن عيينة: أن ابن مسعود كان يجعل دية أهل الكتاب إذا كانوا أهل ذمة كدية المسلمين.

٨١١٩ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، قال: سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب، فأخبرته أن إبراهيم قال: إن ديتهم وديتنا سواء.

٨١٢٠ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد، عن إبراهيم وداود عن الشعبيّ أنهما قالا: دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحرّ المسلم.

٨١٢١ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يقال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي كدية المسلم إذا كانت له ذمة.

٨١٢٢ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء أنهما قالا: دية المعاهَد دية المسلم.

حدثنا سوار بن عبد اللّه ، قا: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم، أنه قال: دية المسلم والمعاهد سواء.

٨١٢٣ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سمعت الزهري

يقول: دية الذمي دية المسلم.

٨١٢٤ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن عامر قال: دية الذمي مثل دية المسلم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم مثله.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم مثله.

ثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر، وبلغه أن الحسن كان

يقول: دية المجوسي ثمانمائة ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف،

فقال: ديتهم واحدة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الشعبي، قال: دية المعاهد والمسلم في كفارتهما سواء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: دية المعاهد والمسلم سواء.

وقال آخرون: بل ديته على النصف من دية المسلم. ذكر من قال ذلك:

٨١٢٥ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصراني قال: جعلها عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه نصف دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة. فقلت لعمرو بن شعيب: إن الحسن

يقول: أربعة آلاف، قال: لعله كان ذلك قبل، وقال: إنما جعل دية المجوسي بمنزلة العبد.

٨١٢٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد اللّه الأشجعي، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم.

وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم. ذكر من قال ذلك:

٨١٢٧ـ حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن أبي عثمان ـ قال: كان قاضيا لأهل مرو قال: جعل عمر رضي اللّه عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف.

٨١٢٨ـ حدثنا عمار بن خالد الواسطي، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن الأعمش، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر: دية النصراني أربعة آلاف، والمجوسي ثمانمائة.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، عن ثابت، قال: سمعت سعيد بن المسيب

يقول: قال عمر: دية أهل الكتاب أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال، فذكر مثله.

٨١٢٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح: أن رجلاً من قومه رمى يهوديا أو نصرانيا بسهم فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأغرمه ديته أربعة آلاف.

وبه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، أربعة آلاف.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مثله.

٨١٣٠ـ قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عمر مثله.

٨١٣١ـ قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيـى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، والمجوسي ثمانمائة.

٨١٣٢ـ حدثنا سوار بن عبد اللّه ، قال: حدثنا خالد بن الحرث، قال: حدثنا عبد الملك، عن عطاء، مثله.

٨١٣٣ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك في قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ} الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّه وكانَ اللّه عَلِيما حكِيما}.

يعني تعالى ذكره بقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَابِعَيْنِ} فمن لم يجد رقبة مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد لعسرته بثمنها، {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

يقول: فعليه صيام شهرين متتابعين.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا. ذكر من قال ذلك:

٨١٣٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ} قال: من لم يجد عتقا ـ أو عتاقة، شكّ أبو عاصم في قتل مؤمن خطأ، قال: وأنزلت في عياش بن أي ربيعة قتل مؤمنا خطأ.

وقال آخرون: صوم الشهرين عن الدية والرقبة

قالوا: وتأويل الاَية: فمن لم يجد رقبة مؤمنة ولا دية يسلمها إلى أهلها فعليه صوم شهرين متتابعين. ذكر من قال ذلك:

٨١٣٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: حدثنا ابن المبارك، عن زكريا، عن الشعبي، عن مسروق: أنه سئل عن الاَية التي في سورة النساء: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ مُتَابِعَيْنِ} صيام الشهرين عن الرقبة وحدها، أو عن الدية والرقبة؟ فقال: من لم يجد فهو عن الدية والرقبة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر، عن مسروق بنحوه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن الصوم عن الرقبة دون الدية، لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع الحجة على ذلك، نقلاً عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم، فلا يقضي صوم صائم عما لزم غيره في ماله. والمتابعة صوم الشهرين، ولا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة حائلة بينه وبين صومه. ثم قال جلّ ثناؤه: {تَوْبَةً مِنَ اللّه وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما} يعني: تجاوزا من اللّه لكم إلى التيسير عليه بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين. {وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما}

يقول: ولم يزل اللّه عليما بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك، حكيما بما يقضي فيهم ويريد.

٩٣

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله، مريدا إتلاف نفسه، {فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ}

يقول: فثوابه من قتله إياه جهنم، يعني: عذاب جهنم، {خَالدا فيها} يعني: باقيا فيها. والهاء والألف في قوله: (فيها) من ذكر جهنم. {وَغَضبَ اللّه عَلَيْهِ}

يقول: وغضب اللّه بقتله إياه متعمدا، {وَلَعَنَهُ}

يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره.

واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه، أو يَبْضَع ويقطع، فلم يقلع عنه ضربا به، حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك،

فقال بعضهم: لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا. ذكر من قال ذلك:

٨١٣٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: العمد: السلاح ـ أو قال: الحديد قال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح.

٨١٣٧ـ حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: العمد ما كان بحديدة، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد، لا قود فيه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: العمد ما كان بحديدة، وشبه العمد: ما كان بخشبة، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس.

٨١٣٨ـ حدثني أحمد بن حماد الدولابي، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، قال: من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصيّ فهو خطأ ديته دية الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه.

٨١٣٩ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير ومغيرة، عن الحارث وأصحابه في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت، قال: أسأل الشهود أنه ضربه، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات، فإن كان بسلاح فهو قود، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد.

وقال آخرون: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. ذكر من قال ذلك:

٨١٤٠ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيـى، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير، أنه قال: وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت.

٨١٤١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم، قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود.

وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ، ما:

٨١٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ).

وعلة من قال: حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد، ما:

٨١٤٣ـ حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا أبو الوليد، قا: حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين، فأتى به النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقتله بين حجرين.

قالوا: فأقاد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد.

قالوا: وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وأما قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها} فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه،

فقال بعضهم: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه. ذكر من قال ذلك:

٨١٤٤ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه.

٨١٤٥ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد اللّه ، قال: حدثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.

وقال آخرون: عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا¹

قالوا: فمعنى الاَية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله، فجزاؤه جهنم خالدا فيها. ذكر من قال ذلك:

٨١٤٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الدية قبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: ضرب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا، فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، ثم أُلفي يتغنى:

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرا وَحَمّلْتُ عَقْلَهُسَرَاةَ بني النّجّار أرْبابِ فارعِ

فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا، أمَا وَاللّه لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ) فقتل يوم الفتح¹ قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الاَية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا}.. الاَية.

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب. ذكر من قال ذلك:

٨١٤٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، قال: ثني سعيد بن جبير، أو حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد،

فقال: إلا من ندم.

وقال آخرون: ذلك إيجاب من اللّه الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله.

قالوا: فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده اللّه من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. و

قالوا: نزلت هذه الاَية بعد التي في سورة الفرقان. ذكر من قال ذلك:

٨١٤٨ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن يحيـى الجاري، عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد اللّه بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب اللّه عليه ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما

قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأني له التوبة والهدي، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى اللّه عليه وسلم

يقول: (ثَكِلَتْهُ أُمّهُ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى

يقولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي). والذي نفسي عبد اللّه بيده لقد أنزلت هذه الاَية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى اللّه عليه وسلم، وما نزل بعدهما من برهان.

٨١٤٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن يحيـى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما} فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحا؟ فقال: وأنّى له التوبة!.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا همام عن يحيـى، عن رجل، عن سالم، قال كنت جالسا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلاً قتل مؤمنا متعمدا أين منزله؟ قال: جهنم خالدا فيها، وغضب اللّه عليه ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما

قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنّي له الهدى ثكلته أمه! والذي نفسي بيده لسمعته يقول ـ يعني النبيّ صلى اللّه عليه وسلم :

(يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ مُعَلّقا رأسُهُ باحْدَى يَدَيْهِ، إمّا بِيَمِينِهِ أوْ بِشِمَالِهِ، آخِذا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ حِيالَ عَرْضِ الرّحْمَنِ

يَقُولُ: يا رَبّ سَلْ عَبْدَكَ هَذَا عَلامَ قَتَلَنِي؟) فما جاء نبيّ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا عمان بن زريق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال في حديثه: فواللّه لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شيء، ولقد سمعته

يقول: {وَيْلٌ لِقاتِلِ المُؤْمِنِ، يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَة آخِذا رأسَهُ بِيَدِهِ} ثم ذكر الحديث نحوه.

٨١٥٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أي عديّ، عن سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزي: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} فقال: لم ينسخها شيء.

وقال في هذه الاَية: {وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّه إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما} قال: نزلت في أهل الشرك.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين، فذكر نحوه.

٨١٥١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، قال: حدثني سعيد بن جبير، أو حُدثت عن سعيد بن جبير، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين التي في النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ}... إلى آخر الاَية، والتي في الفرقان: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما}.. إلى: {وَيخْلُدْ فِيهِ مُهانا} قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة لهوأما التي في الفرقان، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدلنا باللّه وقتلنا النفس التي حرّم اللّه بغير الحقّ وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الإسلام؟ قال: فنزلت {إلاّ مَنْ تابَ}.. الاَية.

٨١٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: ما نسخها شيء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: هي من آخر ما نزلت ما نسخها شيء.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته،

فقال: لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شيء.

٨١٥٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة، قال: أخبرني شهر بن حوشب، قال: سمعت ابن عباس

يقول: نزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّم} بعد قوله: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا} بسنة.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سلم بن قتيبة، قال: حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرّة، عن ابن عباس، قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: نزلت بعد: {إلاّ مَنْ تَابَ} بسنة.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو إياس، قال: ثني من سمع ابن عباس

يقول: في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة، فقلت لأبي إياس: من أخبرك؟ فقال: شهر بن حوشب.

٨١٥٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا} قال: ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر اللّه .

٨١٥٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا}.. الاَية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت بعد الاَية التي في سورة الفرقان بثمان سنين، وهوقوله: {وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ}.. إلى قوله: {غَفُورا رَحِيما}.

٨١٥٦ـ حدثنا ابن وكيع،قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف، عن أبي السفر، عن ناجية، عن ابن عباس، قال: هما المبهمتان: الشرك، والقتل.

٨١٥٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر: الإشراك باللّه وقتل النفس التي حرّم اللّه ¹ لأن اللّه سبحانه

يقول: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما}.

٨١٥٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدة.

٨١٥٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: ثني هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت، قال: نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر.

٨١٦٠ـ حدثنا ابن البرقي قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، قا: قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما،

يقول: يا ربّ دمي عند فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضي بينهما. ثم نزع بهذه الاَية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها}.. الاَية. قال ابن عباس: والذي نفسي بيده ما نسخها اللّه جلّ وعزّ منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام.

٨١٦١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن آدم، عن ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت، قال: سمعت أباك

يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر، قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا}.. إلى آخر الاَية، بعد قوله: {وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه إلها آخَرَ}.. إلى آخر الاَية.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، قال: سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد، قال: سمعت أباك في هذا المكان بمني

يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة، قال: أراه بستة أشهر، يعني: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا} بعد: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ}.

٨١٦٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم، قال: ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة.

قال أبو جعفر: وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إنْ جزاه جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّه إنّ اللّه يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا}.

فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الاَية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن اللّه عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} والقتل دون الشرك.

٩٤

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: يا أيها الذين صدّقوا اللّه صدّقوا رسوله، فيما جاءهم به من عند ربهم¹ {إذا ضَرَبْتُمْ فِي سبِيل اللّه }

يقول: إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم {فَتَبَيّنُوا}

يقول: فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله. {وَتَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ}

يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم، {لَسْتَ مُؤْمِنا} فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا،

يقول: طلب متاع الحياة الدنيا، فإن عند اللّه مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه، فهي خير لكم إن أطعتم اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه، فالتمسوا ذلك من عنده {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}

يقول: كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمنا فقتلتموه، كذلك أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز اللّه دينه بتباعه وأنصاره، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم. إن معنى قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} كنتم كفارا مثلهم. {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ}

يقول: فتفضل اللّه عليكم باعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه. فمنّ اللّه عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام. {فَتَبَيّنُوا}

يقول: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه، فلعلّ اللّه أن يكون قد منّ عليه من الإسلام بمثل الذي منّ به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان. {إنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}

يقول: إن اللّه كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء اللّه وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم {خَبِيرا} يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازي جيمعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسيء باساءته.

وذكر أن هذه الاَية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما قال: إني مسلم، أو بعد ما شهد شهادة الحقّ، أو بعد ما سلم عليهم، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه. ذكر الرواية والاَثار بذلك:

٨١٦٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، أن ابن عمر، قال: بعث النبيّ صلى اللّه عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله. فجاء الخبر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول اللّه سُنّ اليوم وغيّر غدا! فقال عيينة: لا واللّه حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي! فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول اللّه ليستغفر له، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لا غَفَرَ اللّه لَكَ)فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكروا ذلك له،

فقال: (إنّ الأرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنّ اللّه جَلّ وَعَزّ أرَادَ أنْ يَعِظَكُمْ). ثم طرحوه بين صَدَفَيْ جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّه فَتَبَيّنُوا}.. الاَية.

٨١٦٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن القعقاع بن عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد اللّه بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعُود له معه مُتَيّع له ووَطْب من لبن. فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان وبينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيّعه، فلما قدمنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّه فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا}.. الاَية.

حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه بنحوه.

٨١٦٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً في غُنَيْمة له،

فقال: السلام عليكم! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت هذه الاَية: {وَلا تَقولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنْيا} تلك الغُنيْمة.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، بنحوه.

حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو سمع عطاء، عن ابن عباس، قال: لحق المسلمون رجلاً، ثم ذكر مثله.

٨١٦٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في غنم له، فسلم عليهم،

فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا}.. إلى آخر الاَية.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

٨١٦٧ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم بالإسلام ويؤمن باللّه والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سرّية محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبر بها حيه ـ يعني قومه ففرّوا، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم، فيلقى إليهم السلام، فيقول المؤمنون: لست مؤمنا! وقد ألقى السلام، فيقتلونه، فقال اللّه جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّه فَتَبَيّنُوا}... إلى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا} يعني: تقتلونه إرادة أن يحلّ لكم ماله الذي وجدتم معه، وذلك عرض الحياة الدنيا، فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل اللّه . وهو رجل اسمه مرداس جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها رجل من بني ليث اسمه قليب، ولم يجامعهم إذا لقيهم مرداس، فسلم عليهم فقتلوه، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأهله بديته وردّ إليهم ماله ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.

٨١٦٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا}.. الاَية، قال: هذا الحديث في شأن مرداس رجل من غطفان¹ ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث جيشا عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك، وبه ناس من غطفان وكان مرداس منهم، ففرّ أصحابه، فقال مرداس: إني مؤمن وإني غير متبعكم! فصّبحته الخيل غدوة، فلما لقوه سلم عليهم مرداس، فتلقوه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتلوه، وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل اللّه جلّ وعزّ في شأنه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يحيـى بعضهم بعضا.

٨١٦٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياةِ الدّنْيا}.. الاَية

قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلاً منهم يُدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ! فشدّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبّ أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدّثون النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ويقولون: يا رسول اللّه لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فشدّ عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: (كَيْفَ أنْتَ وَلا إلَهَ إلاّ اللّه )؟ قال: يا رسول اللّه إنما قالها متعوّذا، تعوّذ بها. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَلا شقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ إلَيْهِ؟) قال: يا رسول اللّه إنما قلبه بَضْعَة من جسده. فأنزل اللّه عزّ وجلّ خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين

يقول: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا} فلما بلغ: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ}

يقول: فتاب اللّه عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا اللّه ، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه.

٨١٧٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} قال: بلغني أن رجلاً من المسلمين أغار على رجل من المشركين، فحمل عليه، فقال له المشرك: إني مسلم، أشهد أن لا إله إلا اللّه ! فقتله المسلم بعد أن قالها، فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال للذي قتله: (أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ قَالَ لا إله إلا اللّه ؟) فقال وهو يعتذر: يا نبيّ اللّه إنما قالها متعوّذا وليس كذلك. فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (فَهَلاّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟) ثم مات قاتل الرجل فقبر، فلفظته الأرض، فذكر ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأمرهم أن يقبروه، ثم لفظته الأرض، حتى فعل به ذلك ثلاث مرّات، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الأرْضَ أبَتْ أنْ تَقْبَلَهُ فَألْقوهُ فِي غارٍ مِنَ الغِيرَانِ). قال معمر: .

وقال بعضهم: إن الأرض تقبل من هو شرّ منه، ولكن اللّه جعله لكم عبرة.

٨١٧١ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قوما من المسلمين لقوا رجلاً من المشركين في غُنَيْمة له،

فقال: السلام عليكم إني مؤمن! فظنوا أنه يتعوّذ بذلك، فقتلوه، وأخذوا غنيمته

قال: فأنزل اللّه جلّ وعزّ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا} تلك الغنيمة¹ {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُوا}.

٨١٧٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا} قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: فمرّوا برجل في غُنَيمة له،

فقال: أني مسلم! فقتله المقداد. فلما قدموا ذكروا ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الاَية: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا} قال: الغنيمة.

٨١٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء ـ فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً}، ثم قال في الخبر ـ : ونزل الفرقان: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً} فقرأ حتى بلغ: {لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنيْا} غنمه التي كانت عرض الحياة الدنيا، {فَعِنْدَ اللّه مَغانِمُ كَثِيرةٌ} خير من تلك الغنم، إلى قوله: {إنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}.

٨١٧٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} قال: راعي غنم، لقيه نفر من المؤمنين، فقتلوه وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه: (السلام عليكم، فإني مؤمن).

٨١٧٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} قال: حرّم اللّه على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا اللّه لست مؤمنا، كما حرّم عليهم الميتة، فهو آمن على ماله ودمه، ولا تردّوا عليه قوله.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {فَتَبَيّنُوا} فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين: {فَتَبَيّنُوا} بالباء والنون من التبين، بمعنى: التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح. وقرأ ذلك عظم قرّاء الكوفيين: (فَتَثَبّتُوا) بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة. والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ، لأن المتثبت متبين، والمتبين متثبت، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُم السّلام} فقرأ ذلك عامة قرّاء المكيين والمدنيين والكوفيين (السّلَمَ) بغير ألف، بمعنى الاستسلام، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: {السّلامَ} بألف، بمعنى التحية.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلَمَ) بمعنى: من استسلم لكم مذعنا لله بالتوحيد مقرّا لكم بملتكم. وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك، فمن راوٍ روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحقّ وقال: إني مسلم¹ ومن راو روى أنه قال: السلام عليكم، فحياهم تحية الإسلام، ومن راو روى أنه كان مسلما بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه. وكل هذه المعاني يجمعها السلم، لأن المسلم مستسلم، والمحّيـي بتحية الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحقّ مستسلم لأهل الإسلام، فمعنى السّلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الاَية، وليس كذلك في السلام، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية، فلذلك وصفنا السّلم بالصواب.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}

فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم، فمنّ اللّه عليكم. ذكر من قال ذلك:

٨١٧٦ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللّه بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: {كَذِلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تكتمون إيمانكم في المشركين.

وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافرا كنتم كفارا، فهداه كما هداكم. ذكر من قال ذلك:

٨١٧٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} كفارا مثله، {فَتَبَيّنُوا}.

وأولى هذين القولين بتأويل الاَية القول الأوّل، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين، مستخفيا بدينه منهم.

وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لأن اللّه عزّ ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلام، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوّذا منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركا، فيقال: كما كان كافرا كنتم كفارا¹ بل لا وجه لذلك، لأن اللّه جل ثناؤه لم يعاتب أحدا من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله.

واختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ}

فقال بعضهم: معنى ذلك: فمنّ اللّه عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك. ذكر من قال ذلك:

٨١٧٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} فأظهر الإسلام.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمنّ اللّه عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه. ذكر من قال ذلك:

٨١٧٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ}

يقول: تاب اللّه عليكم.

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ما وصفنا قبل، فالواجب أن يكون عقيب ذلك: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به، من توحيده وعبادته، حذرا من أهل الشرك.

٩٥

القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ}: لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل اللّه من أهل الإيمان باللّه وبرسوله، المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الأسفار والسير في الأرض ومشقة ملاقاة أعداء اللّه بجهادهم في ذات اللّه وقتالهم في طاعة اللّه ، إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل اللّه والمجاهدون في سبيل اللّه ، ومنهاج دينه، لتكون كلمة اللّه هي العليا، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء اللّه وأعداء دينهم بأموالهم، إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان باللّه وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة اللّه العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة.

واختلفت القراء في قراءة قوله: {غيرَ أُولي الضّرَرِ}¹ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة ومكة والشام: {غيرَ أُولي الضّرَرِ} نصبا، بمعنى: إلا أولي الضرر. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة: {غيرُ أُولي الضّرَرِ} برفع (غيرُ) على مذهب النعت للقاعدين.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (غيرَ أُولي الضّرَرِ) بنصب غيرَ، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ) نزل بعد قوله: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ} استثناء من قوله: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ}. ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك:

٨١٨٠ـ حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ائْتُونِي بالكَتِفِ وَاللّوْحِ)! فَكَتبَ: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ} وعمرو بن أمّ مكتوم خلف ظهره،

فقال: هل لي من رخصة يا رسول اللّه ؟ فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو كبر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} جاء ابن أمّ مكتوم وكان أعمى،

فقال: يا رسول اللّه كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله: (لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ) قال: لما نزلت جاء عمرو بن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وكان ضرير البصر،

فقال: يا رسول اللّه ما تأمرني، فإني ضرير البصر؟ فأنزل اللّه هذه الاَية،

فقال: (ائتُونِي بالكَتفِ والدّوَاةِ، أوِ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ).

حدثني محمد بن إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن المغيرة، قال: حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء أنه لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} كلمه ابن أمّ مكتوم، فأنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبو إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الاَية: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } قال: فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيدا، فجاء بكتف فكتبها، قال: فشكى إليه ابن أمّ مكتوم ضَرَارَتَهُ، فنزلت: (لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضّرَرِ).

قال شعبة: وأخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد في هذه الاَية: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ} مثل حديث البراء.

٨١٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان الشيباني، عن ابن إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } جاء ابن أمّ مكتوم،

فقال: يا رسول اللّه مالي رخصة؟ قال: (لا)قال: ابن أمّ مكتوم: اللهمّ إني ضرير فرخّص! فأنزل اللّه : (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ)، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكتبها، يعني الكاتب.

٨١٨٢ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد، قال: رأيت مروان بن الحكم جالسا، فجئت حتى جلست إليه، فحدثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنزل عليه: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمِجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } قال: فجاء ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ،

فقال: يا رسول اللّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت! قال: فأنزل عليه وفخذه على فخذي، فثقلت، فظننت أن ترضّ فخذي، ثم سُرّي عنه،

فقال: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

٨١٨٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة ابن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (اكْتُبْ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللّه )! فجاء عبد اللّه بن أمّ مكتوم،

فقال: يا رسول اللّه إني أحبّ الجهاد في سبل اللّه ، ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيد: فثقلت فخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يرضها، ثم قال: (اكْتُبْ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ).

٨١٨٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم: أن مقسما مولى عبد اللّه بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره، قال: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر.

٨١٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا حسين، قال: ثني حجاج، قال: أخبرني عبد الكريم أنه سمع مقسما يحدّث عن ابن عباس أنه سمعه

يقول: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر. لما نزلت غزوة بدر، قال عبد اللّه بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي: يا رسول اللّه ، إننا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فنزلت:

(لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ فَضّل اللّه المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً).

٨١٨٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ} فسمع بذلك عبد اللّه بن أمّ مكتوم الأعمى، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: يا رسول اللّه ، قد أنزل اللّه في الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد، فهل لي من رخصة عند اللّه إن قعدت؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما أُمِرْتُ فِي شأْنِكَ بِشَيءٍ وَما أدْري هَلْ يَكُونُ لَكَ ولأصحَابِكَ مِنْ رُخْصَةٍ!) فقال ابن أمّ مكتوم: اللهمّ إني أنشدك بصري! فأنزل اللّه بعد ذلك على رسوله صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّه )... إلى قوله: {على القاعِدِينَ دَرَجَةً}.

٨١٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: نزلت: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } فقال رجل أعمى: يا نبيّ اللّه فأنا أحبّ الجهاد ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرَ).

٨١٨٨ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عبد اللّه بن شداد، قال: لما نزلت هذه الاَية في الجهاد: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} قال عبد اللّه بن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إني ضرير كما ترى! فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

٨١٨٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر} عذر اللّه أهل العذر من الناس،

فقال: (غَيْرَ أُولي الضّرَر) كان منهم ابن أمّ مكتوم، {وَالمجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ}.

٨١٩٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّه }.. إلى قوله: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى} لما ذكر فضل الجهاد، قال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إني أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل اللّه فيه: (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

٨١٩١ـ حدثني المثنى، قثال: حدثنا محمد بن عبد اللهالنفيلي، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (ادْعُ لي زَيْدا وَقُلْ لَهُ يَأْتِي ـ أوْ يَجِيـىءُ بالكَتِف والدّوَاة ـ أو اللّوْح والدّواة، الشكّ من زهير اكتب: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّه }) فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إن بعينيّ ضررا! فنزلت قبل أن يبرح (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن رجاء البصري، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه، إلا أنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ادْعُ لي زَيْدا وَلْيَجِئْني مَعَهُ بِكَتفٍ وَدَوَاةٍ، أو لَوْحٍ وَدَوَاةٍ).

٨١٩٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن، قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ} قال عمرو بن أمّ مكتوم: يا ربّ ابتليتني فكيف أصنع؟ فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

وكان ابن عباس يقول في معنى: (غَيْرَ أُولي الضّرَر) نحوا مما قلنا.

٨١٩٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قا: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله: (غَيْرَ أُولي الضّرَر) قال: أهل الضرر.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً} فضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة، يعني فضيلة واحدة، وذلك بفضل جهاد بنفسه، فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان. كما:

٨١٩٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك أنه سمع ابن جريج يقول في: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً} قال: على أهل الضرر.

القول في تأويل قوله: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعدِينَ أجْرا عَظيما}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى}: وعد اللّه الكلّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى. ويعني جل ثناؤه بالحسنى: الجنة¹ كما:

٨١٩٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى} وهي الجنة، واللّه يؤتي كلّ ذي فضل فضله.

٨١٩٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: قال: الحسنى: الجنة.

وأما قوله: {وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما} فإنه يعني: وفضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما. كما:

٨١٩٧ـ حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه وَمَغْفِرَةً} قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.

٩٦

القول في تأويل قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُوراً رّحِيماً }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {دَرَجاتٍ مِنْهُ}: فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة.

واختلف أهل التأويل في معنى الدرجات التي قال جل ثناؤه {دَرَجاتٍ مِنْهُ}. فقال بعضهم بما:

٨١٩٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَحَمَةً} كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة.

وقال آخرون بما:

٨١٩٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول اللّه تعالى: {وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه} الدرجات: هي السبع التي ذكرها في سورة براءة: {ما كانَ لأهلِ المدينةِ ومَنْ حَوْلهمْ مِنَ الأعراب أنْ يتَخلّفُوا عنْ رسُولِ اللّه ولا يَرْغبُوا بأنفُسهِمْ عنْ نَفسِهِ ذلك بَأَنهمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمأٌ ولا نَصبٌ} فقرأ حتى بلغ: {أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. قال هذه السبع الدرجات

قال: وكان أوّل شيء، فكانت درجة الجهاد مجملة، فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفضيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة. فقرأ: {لا يُصيبُهُمْ ظَمأٌ وَلا نَصَبٌ} وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: {ولاَ يُنفِقُونَ نفقةً} قال: وهذه نفقة القاعد.

وقال آخرون: عُني بذلك درجات الجنة. ذكر من قال ذلك:

٨٢٠٠ـ حدثنا عليّ بن الحسن الأزدي، قال: حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة بن سُحيم، عن ابن محيريز في قوله: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدينَ على القاعِدينَ}.. إلى قوله: {دَرَجاتٍ} قال: الدرجات: سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضمّر سبعين سنة.

وأولى التأويلات بتأويل قوله¹ {دَرَجاتٍ مِنْه} أن يكون معنيّا به درجات الجنة، كما قال ابن محيريز¹ لأن قوله تعالى ذكره: {دَرَجاتٍ مِنْهُ} ترجمة وبيان عن قوله: {أجْرا عَظِيما}، ومعلوم أن الأجر إنما هو الثواب والجزاء، وإذا كان ذلك كذلك، وكانت الدرجات والمغفرة والرحمة ترجمة عنه، كان معلوما أن لا وجه لقول من وجه معنى قوله: {دَرَجاتٍ مِنْه} إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد كما قال قتادة وابن زيد. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبيّن أن معنى الكلام: وفضل اللّه المجاهدين في سبيل اللّه على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما وثوابا جزيلاً، وهو درجات أعطاهموها في الاَخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات اللّه . {وَمغفرةً}

يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها. {ورحمةً}

يقول: ورأفة بهم. {وكانع اللّه غَفُورا رَحِيما}

يقول: ولم يزل اللّه غفورا لذنوب عباده المؤمنين، فيصفح لهم عن العقوبة عليها {رَحِيما} بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه وركوبهم معاصيه.

٩٧

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ}: إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة {ظالِمِي أنْفُسِهِمْ} يعني: مكسبي أنفسهم غضب اللّه وسخطه. وقد بينا معنى الظلم فيما مضى قبل. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}

يقول: قالت الملائكة لهم: فيم كنتم، في أيّ شيء كنتم من دينكم. {قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض} يعني: قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: كنا مستضعفين في الأرض، يستضعفنا أهل الشرك باللّه في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوّتهم، فيمنعونا من الإيمان باللّه واتباع رسوله صلى اللّه عليه وسلم، معذرةٌ ضعيفة وحجةٌ واهية. {قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها}

يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان باللّه واتباع رسوله صلى اللّه عليه وسلم إلى الأرض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحدوا اللّه فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيه؟ يقول اللّه جلّ ثناؤه: {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ}: أي فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، مأواهم جهنم،

يقول: مصيرهم في الاَخرة جهنم، وهي مسكنهم. {وَساءَتْ مَصيرا} يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى.

ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون من الرجال والنساء والولدان، وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة وقلة الحيلة وسوء البصر والمعرفة بالطريق من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره. ونصب المستضعفين على الاستثناء من الهاء والميم اللتين في قوله: {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ}، يقول اللّه جلّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللّه أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} يعني: هؤلاء المستضعفين،

يقول: لعلّ اللّه أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون، فيتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا منهم لدار الكفر على دار الإسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها. {وكانَ اللّه عَفُوّا غَفُورا}

يقول: ولم يزل اللّه عفوّا، يعني ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بتركه العقوبة عليها، غفورا ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. وذكر أن هاتين الاَيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا باللّه وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى اللّه قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرا عنهم: {قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ}.

ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا من نزول الاَية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم:

٨٢٠١ـ حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا أشعث، عن عكرمة: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} قال: كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال اللّه : {فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَساءَتْ مَصيرا إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّسَاء وَالوِلْدانِ} إلى قوله: {عَفُوّا غَفُورا} قال ابن عباس: فأنا منهم وأمي منهم، قال عكرمة: وكان العباس منهم.

٨٢٠٢ـ حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم. فنزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}.. الاَية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الاَية، وأنه لا عذر لهم

قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّه فإذَا أُوذِيَ فِي اللّه }.. إلى آخر الاَية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كلّ خير، ثم نزلت فيهم: {ثُمّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبُروا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فكتبوا إليهم بذلك: إن اللّه قد جعل لكم مخرجا. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقُتل من قتل.

٨٢٠٣ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة ـ أو ابن لهيعة، الشكّ من يونس عن أبي الأسود، أنه سمع مولى لابن عباس يقول عن ابن عباس: إن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فيأتى السهم يُرْمَى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل اللّه فيهم: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}، حتى بلغ: {فَتُهاجِرُوا فِيهَا}.

٨٢٠٤ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء قال: أخبرنا حيوة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ، قال: قُطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبتُ فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فنهاني عن ذلك أشدّ النهي. ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين¹ ثم ذكر مثل حديث يونس عن ابن وهب.

٨٢٠٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} هم قوم تخلفوا بعد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبيّ صلى اللّه عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره.

٨٢٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}.. إلى قوله: {وَساءَتْ مَصيرا} قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعليّ بن أمية بن خلف

قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وغير قريش من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نِيلَ منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم. قال ابن جريج وقال مجاهد: نزلت هذه الاَية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش. قال ابن جريج وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر، إلى قوله: {وَساءَتْ مَصيرا إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ} قال: يعني: الشيخ الكبير، والعجوز والجواري والصغار والغلمان.

٨٢٠٧ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. إلى قوله: {وَساءَتْ مَصيرا} قال: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للعباس: (افْدِ نفسكَ وابنَ أخيكَ!) قال: يا رسول اللّه ألم نصلّ قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: (يا عَبّاسُ أنّكُمْ خاصَمْتُمْ فَخُصِمْتُمْ)، ثم تلا هذه الاَية: {ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فأولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَساءَتْ مَصيرا} فيوم نزلت هذه الاَية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، حيلة في المال، والسبيل: الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم من الولدان.

٨٢٠٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عكرمة

يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا اللّه ، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا، فنزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. إلى قوله: {أُولَئِكَ عَسَى اللّه أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّه عَفُوّا غَفُورا} فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة

قال: فخرج ناس من المسلمين حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة، فأنزل اللّه فيهم: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنّا باللّه فإذَا أُوذِيَ فِي اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّه }. فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل اللّه في أولئك الذين أعطوا الفتنة: {ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْد ما فُتِنُوا ثّم جاهَدُوا}.. إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحاق في قوله {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ} قال: هم خمسة فتية من قريش: عليّ بن أمية، وأبو قيس بن الفاكه، وزمعة بن الأسود، وأبو العاص بن منبه، ونسيت الخامس.

٨٢٠٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. الاَية، حْدّثنا أن هذه الاَية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدوّ اللّه أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى اللّه أن يقبل منهم.

٩٨

وقوله {إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حيلَةٌ وَلا يَهْتَدُونَ سَبيلاً} أناس من أهل مكة عذرهم اللّه ، فاستثناهم

٩٩

فقال: {أولَئِكَ عَسَى اللّه أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّه عَفُوّا غَفُورا} قال: وكان ابن عباس

يقول: كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

٨٢١٠ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. الاَية، قال: أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل اللّه فيهم هذه الاَية.

٨٢١١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألته، يعني ابن زيد، عن قول اللّه : {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} فقرأ حتى بلغ: {إلاّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ والوِلْدَان} فقال: لما بعث النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وظهر ونَبَع الإيمان نَبَع النفاق منه، فأتى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجالٌ،

فقالوا: يا رسول اللّه ، لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك رسول اللّه ! فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر قام المشركون،

فقالوا: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم معهم، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة

قال: فأما الذين قتلوا فهم الذين قال اللّه فيهم: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. الاَية كلها {ألمْ تكُن أرضُ اللّه واسعةً فتهاجرُوا فيهَا} وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم {أولئكَ مَأواهُم جَهَنمُ وساءَتْ مَصيرا}

قال: ثم عذر اللّه أهل الصدق فقال: {إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالولْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} يتوجهون له لو خرجوا لهلكوا، فأولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم إقامتهم بين ظهري المشركين

وقال الذين أسروا: يا رسول اللّه إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه ، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا! فقال اللّه : {يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا ممّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ} صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم {وَإنْ يُريدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ} خرجوا مع المشركين {فأمْكنَ مِنهُم واللّه عَليمٌ حَكيمٌ}.

٨٢١٢ـ حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد اللّه بن أبي مليكة عن ابن عباس: أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عذر اللّه إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

٨٢١٣ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيـى بن آدم، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {إلاّ الُمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالولْدَانِ} قال ابن عباس: أنا من المستضعفين.

٨٢١٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} قال: من قتل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد اللّه بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن عباس

يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان.

٨٢١٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن عليّ بن زيد، عن عبد اللّه أو إبراهيم بن عبد اللّه القرشي، عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر: (اللّه مّ خَلّصِ الَولِيدَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ وَعَيّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَضَعَفَةَ المُسْلِمِينَ مِنْ أيْدِي المُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

٨٢١٦ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} قال: مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم: هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل اللّه فيهم: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}.. الاَية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

وأما قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} فإن معناه كما:

٨٢١٧ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} قال: نهوضا إلى المدينة¹ {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}: طريقا إلى المدينة.

٨٢١٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}: طريقا إلى المدينة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٢١٩ـ حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: الحيلة: المال، والسبيل: الطريق إلى المدينة.

وأما قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ} ففيه وجهان: أحدهما أن يكون (توفاهم) في موضع نصب بمعنى المضيّ، لأن (فَعَلَ) منصوبة في كلّ حال. والاَخر أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال، يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة. فتكون إحدى التاءين من توفاهم محذوفة، وهي مرادة في الكلمة، لأن العرب تفعل ذلك إذا اجتمعت تاءان في أوّل الكلمة ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى، وربما أثبتتهما جميعا.

١٠٠

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه }: ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين، {في سَبِيلِ اللّه } يعني في منهاج دين اللّه وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم. {يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا}

يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل اللّه مراغما كثيرا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب، يقال منه: راغم فلان قومه مُراغَما ومراغمة مصدران، ومنه قول نابغة بني جعدة:

كَطَوْدٍ يُلاذُ بأرْكانِهِعَزِيزِ المُرَاغَمِ والمَهْرَبِ

وقوله: {وَسَعَةً} فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى اللّه وإلى رسوله إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة،

فقال: من كان كذلك فقد وقع أجره على اللّه ، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه.

يقول جلّ ثناؤه: ومن يخرج مهاجرا من داره إلى اللّه وإلى رسوله، فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دار هجرته باخترام المنية إياه قبل بلوغه إياها على ربه. {وكانَ اللّه غَفُورا رَحِيما}

يقول: ولم يزل اللّه تعالى ذكره غفورا، يعني: ساترا ذنوب عباده المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها رحيما بهم رفيقا. وذكر أن هذه الاَية نزلت بسبب بعض من كان مقيما بمكة وهو مسلم، فخرج لما بلغه أن اللّه أنزل الاَيتين قبلها، وذلك قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. إلى قوله: {وكانَ اللّه عَفُوّا غَفُورا} فمات في طريقه قبل بلوغه المدينة. ذكر الاَخبار الواردة بذلك:

٨٢٢٠ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ} قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع، قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: ففعلوا، فأتاه الموت وهو بالتنعيم، فنزلت هذه الاَية.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّه } في ضمرة بن العيص بن الزنباع، أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع، حين بلغ التنعيم مات فنزلت فيه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن العوام التيمي بنحو حديث يعقوب، عن هشيم، قال: وكان رجلاً من خزاعة.

٨٢٢١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَمَنْ يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً}.. الاَية، قال: لما أنزل اللّه هؤلاء الاَيات ورجل من المؤمنين يقال له ضمرة بمكة، قال: واللّه إن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها وإني لأهتدي، أخرجوني! وهو مريض حينئذ. فلما جاوز الحرم قبضه اللّه فمات، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه }.. الاَية.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} قال رجل من المسلمين يومئذ وهو مريض: واللّه مالي من عذر إني لدليل بالطريق، وإني لموسر، فاحملوني! فحملوه فأدركه الموت بالطريق، فنزلت فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ}.

٨٢٢٢ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عكرمة

يقول: لما أنزل اللّه : {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. الاَيتين، قال رجل من بني ضمرة وكان مريضا: أخرجوني إلى الرّوْح! فأخرجوه، حتى إذا كان بالحَصْحَاص مات، فنزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ}.. الاَية.

٨٢٢٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي عن المنذر بن ثعلبة، عن علباء بن أحمر اليشكري، قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّه } قال: نزلت في رجل من خزاعة.

٨٢٢٤ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرّة، عن الضحاك في قول اللّه جلّ وعزّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّه } قال: لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربت وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ قال لأهله: أخرجوني! وقد أدنف للموت

قال: فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها، فتوفي، فأنزل اللّه : {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ}.. الاَية.

٨٢٢٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّيّ، قال: لما سمع بهذه ـ يعني بقوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. إلى قوله: {وكانَ اللّه عَفُوّا غَفُورا} ضمرةُ بن جندب الضمري قال لأهله وكان وجعا: أرحلوا راحلتي، فإن الأخشبين قد غماني ـ يعني: جبلي مكة لعلي أن أخرج فيصيبني روح! فقعد على راحلته ثم توجه نحو المدينة فمات بالطريق، فأنزل اللّه : {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّه }وأما حين توجه إلى المدينة، فإنه قال: اللهمّ مهاجر إليك وإلى رسولك.

٨٢٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: لما نزلت هذه الاَية، يعني قوله: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ} قال جندب بن ضمرة الجندعي: اللهمّ أبلغت في المعذرة والحجة، ولا معذرة لي ولا حجة

قال: ثم خرج وهو شيخ كبير فمات ببعض الطريق، فقال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولاية أم لا؟ فنزلت: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّه }.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك

يقول: لما أنزل اللّه في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. الاَية، سمع بما أنزل اللّه فيهم رجل من بني ليث كان على دين النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مقيما بمكة، وكان ممن عذر اللّه كان شيخا كبيرا وضيئا، فقال لأهله: ما أنا ببائت الليلة بمكة! فخرجوا به مريضا حتى إذا بلغ التنعيم من طريق المدينة أدركه الموت، فنزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه }.. الاَية.

٨٢٢٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً} قال: هاجر رجل من بني كنانة يريد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فمات في الطريق. فسخر به قومه واستهزءوا به، و

قالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن! قال: فنزلت القرآن: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّه }.

٨٢٢٨ـ حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الاَية: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ} وكان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر وكان مريضا، فقال لأهله: أخرجوني من مكة، فإني أجد الحرّ!

فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة. فنزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ}.. إلى آخر الاَية.

٨٢٢٩ـ حدثني الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبان، قال: حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت هذه الاَية: {لا يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولي الضّرَرِ} قال: رخص فيها قوم من المسلمين ممن كان بمكة من أهل الضرر حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين،

فقالوا: قد بين اللّه فضيلة المجاهدين على القاعدين ورخص لأهل الضرر. حتى نزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ}.. إلى قوله: {وَساءَتْ مَصيرا}

قالوا: هذه موجبة. حتى نزلت: {إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}، فقال ضمرة بن العيص الزرقي أحد بني ليث، وكان مصاب البصر: إني لذو حيلة لي مال ولي رقيق، فاحملوني! فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه هذه الاَية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ}.. الاَية.

واختلف أهل التأويل في تأويل المراغَم،

فقال بعضهم: هو التحوّل من أرض إلى أرض. ذكر من قال ذلك:

٨٢٣٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {مُرَاغَما كَثِيرا} قال: المراغم: التحوّل من الأرض إلى الأرض.

٨٢٣١ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك ، يقول في قوله: {مُرَاغَما كَثِيرا}

يقول: متحوّلاً.

٨٢٣٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: {يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا} قال: متحوّلاً.

٨٢٣٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن أو قتادة: {مُرَاغَما كَثِيرا} قال: متحوّلاً.

٨٢٣٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه عز وجل: {يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا} قال: مندوحةً عما يكره.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: {مُرَاغَما كَثِيرا} قال: مزحزحا عما يكره.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {مُرَاغَما كَثيرا} قال: متزحزحا عما يكره.

وقال آخرون: مبتغَى معيشةٍ. ذكر من قال ذلك:

٨٢٣٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِيرا}

يقول: مبتغى للمعيشة.

وقال آخرون: المراغم: المهاجر. ذكر من قال ذلك:

٨٢٣٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {مُرَاغَما} المراغم: المهاجر.

قال أبو جعفر: وقد بينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل.

واختلفوا أيضا في معنى السّعَة التي ذكرها اللّه في هذا الموضع فقال: {وَسَعَة}¹

فقال بعضهم: هي السعة في الرزق. ذكر من قال ذلك:

٨٢٣٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً} قال: السّعة في الرزق.

٨٢٣٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: {مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً} قال: السعة في الرزق.

٨٢٣٩ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَسَعَةَ}

يقول: سعة في الرزق.

وقال آخرون في ذلك ما:

٨٢٤٠ـ حدثني بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً}: أي واللّه من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن اللّه أخبر أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطربا ومتسعا¹ وقد يدخل في السّعة، السعة في الرزق، والغنى من الفقر¹ ويدخل فيه السعة من ضيق الهمّ، والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان باللّه من المشركين بمكة، وغير ذلك من معاني السّعة التي هي بمعنى الرّوْح والفرج من مكروه ما كره اللّه للمؤمنين بمقامهم بين ظهري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع اللّه دلالة على أنه عنى بقوله: (وسعة) بعض معاني السعة التي وصفنا، فكل معاني السّعة هي التي بمعنى الروح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش وغمّ جوار أهل الشرك وضيق الصدر، بتعذّر إظهار الإيمان باللّه وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والاَلهة، داخل في ذلك.

وقد تأوّل قوم من أهل العلم هذه الاَية، أعني قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ على اللّه } أنها في حكم الغازي يخرج للغزو فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلاً فيموت، أن له سهمه من المغنم وإن لم يكن شهد الوقعة. كما:

٣٥١٨ حدثني المثنى، قال: حدثنا يوسف بن عديّ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن يزيد ابن أبي حببب، أن أهل المدينة يقولون: من خرج فاصلاً وجب سهمه¹

وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّه وَرَسُولِهِ}.

١٠١

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}: وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ}

يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم، {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: يعني أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا، اثنتين، في قول بعضهم. وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض، أشار إلى واحدة في قول آخرين.

وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة اللّه وإخلاص التوحيد له. ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال: {إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا} يعني: الجاحدون وحدانية اللّه كانوا لكم عدوّا مبينا،

يقول: عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم باللّه وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.

واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع اللّه الجناح فيه عن فاعله،

فقال بعضهم: في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين. ذكر من قال ذلك:

٨٢٤١ـ حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد اللّه بن بابيه، عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة إنْ خِفْتُمْ} وقد أمن الناس! فقال: عجبت مما عجبت منه حتى سألت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك،

فقال: (صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّه بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ).

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد اللّه بن بابيه عن يعلى بن أمية، عن عمر، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا محمد بن أبي عديّ، عن ابن جريج، قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمار يحدّث عن عبد اللّه بن بابيه، يحدث عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا، وقد قال اللّه تبارك وتعالى: {أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ حِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا}! فقال عمر: عجبت مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّه بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ).

٨٢٤٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلي ركعتين، فلقيني قرّاء من أهل هذه الناحية،

فقالوا: كيف تصلي؟ قلت: ركعتين،

قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كل ذلك سنة وقرآن، قلت: صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين،

قالوا: إنه كان في حرب! قلت: قال اللّه : {لَقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شاءَ اللّه آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمْقَصّرينَ لا تخافونَ} وقال: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} فقرأ حتى بلغ: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ}.

٨٢٤٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن هاشم، قال: أخبرنا يوسف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن عليّ، قال: سأل قوم من التجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا رسول اللّه إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل اللّه : {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحَوْل، غزا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم! فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل اللّه تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}.. إلى قوله: {إنّ اللّه أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِينا} فنزلت صلاة الخوف.

قال أبو جعفر: وهذا تأويل للاَية حسن لو لم يكن في الكلام (إذا)، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها، ولو لم يكن في الكلام (إذا) كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق: إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم يا محمد، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، الاَية. وبعد، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب: (وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا).

٨٢٤٤ـ حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا الثوري، عن واصل بن حيان، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: (أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا)، ولا يقرأ: (إنْ خِفْتُم).

٨٢٤٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بكر بن شرود، عن الثوريّ، عن واصل الأحدب، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: (أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم)، قال بكر: وهي في الإمام مصحف عثمان رحمه اللّه : {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا}.

وهذه القراءة تنبىء على أن قوله: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} مواصل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، وأن قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ} قصة مبتدأة غير قصة هذه الاَية. وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا)، فحذفت (لا) لدلالة الكلام عليها، كما قال جلّ ثناؤه: {يُبَيّنُ اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلّوا} بمعنى: أن لا تضلوا. ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.

وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته. ذكر من قال ذلك:

٨٢٤٦ـ حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري، قال: حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد، قال: ثني عمر بن عبد اللّه بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال: سمعت أبي،

يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتّموا صلاتكم!

فقالوا: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين؟ فقالت: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟.

٨٢٤٧ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدثنا ابن أبي فديك، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد، أنه قال لعبد اللّه بن عمر: إنّا نجد في كتاب اللّه قصر الصلاة في الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد اللّه : إنا وجدنا نبينا صلى اللّه عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به.

٨٢٤٨ـ حدثنا عليّ بن سهل الرملي، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين.

٨٢٤٩ـ حدثنا سعيد بن يحيـى، قال: ثني أبي، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يتمّ الصلاة في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص.

وقال آخرون: بل عنى بهذه الاَية: قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة،

قالوا: وفيها نزل. ذكر من قال ذلك:

٨٢٥٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: يوم كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بُعْسفان والمشركون بَضجَنَان، فتواقفوا، فصلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا، شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا. فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل اللّه عليه: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى العصر، فصفّ أصحابه صفين، ثم كبر بهم جميعا، ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام، ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فتقدم الصفّ الاَخر، واستأخر الأوّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ} قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجَنَان، فتواقفوا، فصلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه صلاة الظهر ركعتين ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعا، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فصلى بهم صلاة العصر، فصفّ أصحابه صفين، ثم كبر بهم بهم جميعا، ثم سجد الأوّلون بسجوده والاَخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ثم كبر بهم وركعوا جميعا، فقدّم الصفّ الاَخر واستأخر الصفّ المقدّم، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرّة، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين.

٨٢٥١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد

قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غِرّة، لأصبنا غفلة. فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاح، وصفّوا خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلَهُمْ، فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكبروا جميعا، ثم ركع وركعوا جميعا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه وقام الاَخرون يحرسونهم، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء. ثم نكص الصفّ الذي يليه وتقدّم الاَخرون فقاموا في مقامهم، فركع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فركعوا جميعا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه، وقام الاَخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم، سجد هؤلاء الاَخرون، ثم استووا معه، فقعدوا جميعا، ثم سلم عليهم جميعا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، عن شيبان النحويّ، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي. وعن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعسفان، ثم ذكر نحوه.

٨٢٥٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري، أنه سأل جابر بن عبد اللّه عن إقصار الصلاة، أيّ يوم أنزل؟ أو أيّ يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشأم، حتى إذا كنا بنَخْل، جاء رجل من القوم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد! قال: (نَعَمْ)، قال: هل تخافني؟ قال: (لا)، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: (اللّه يَمْنَعُنِي مِنْكَ)

قال: فسلّ السيف ثم هدّده وأوعده. ثم نادى بالرحيل وأَخْذِ السلاح، ثم نُودي بالصلاة، فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطائفة من القوم، وطائفة أخرى يحرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصافّ أصحابهم، ثم جاء الاَخرون فصلى بهم ركعتين والاَخرون يحرسونهم، ثم سلم، فكانت للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل اللّه في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.

وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة.

قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة،

قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمام في السفر، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف ركعة. ذكر من قال ذلك:

٨٢٥٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا}.. إلى قوله: {عَدُوّا مُبِينا} إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة، يقوم الإمام، ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القهقرى، ثم تأتى الطائفة الأخرى، فتصلى مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة، والناس يقولون: لا، بل هي ركعة واحدة، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا، تجزئه ركعة الإمام، فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة، فذلك قول اللّه : {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}.. إلى قوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}.

٨٢٥٤ـ حدثني أحمد بن الوليد القرشي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي، قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ قال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة.

٨٢٥٥ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى، قال: حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: كيف تكون قصرا وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة.

٨٢٥٦ـ حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا المسعودي، قال: ثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: صلاة الخوف ركعة.

٨٢٥٧ـ حدثني أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثني عمي عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، قال: ثني بكر بن سوادة أن زياد بن نافع حدثه، عن كعب ـ وكان من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطعت يده يوم اليمامة : أن صلاة الخوف لكل طائفة ركعة وسجدتان.

واعتلّ قائلو هذه المقالة من الاَثار بما:

٨٢٥٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: ثني أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان،

فقال: أيكم يحفظ صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فأقامنا خلفه صفّا وصفّ موازي العدوّ، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة.

٨٢٥٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى وعبد الرحمن، قالا: حدثنا سفيان، عن الركين بن الربيع، عن القاسم بن حسان، قال: سألت زيد بن ثابت عنه، فحدثني بنحوه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، عن حذيفة بنحوه.

٨٢٦٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثني يحيـى، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى بذي قَرَد، فصفّ الناس خلفه صفين: صفّا خلفه، وصفّا موازي العدوّ¹ فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أبي بكر بن صخير، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه ، عن ابن عباس، مثله.

٨٢٦١ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا يعقوب بن ماهان، قال: حدثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.

٨٢٦٢ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد اللّه : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صفّ بين يديه وصفّ خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم، فكانت للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة.

٨٢٦٣ـ حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثني عمي عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة، حدثه عن زيادة بن نافع، حدثه عن أبي موسى، أن جابر بن عبد اللّه حدثهم: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، لكل طائفة ركعة وسجدتين.

٨٢٦٤ـ حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا سعيد بن عبد الهنائي، قال: حدثنا عبد اللّه بن شقيق، قال: حدثنا أبو هريرة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فميلوا عليهم ميلة واحدة! وإن جبريل أتى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وأمره أن يقسم أصحابه شطرين، فيصلي بعضهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتين.

وقال آخرون: عَنى به القَصْر في السفَر، إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه.

قالوا: فذلك معنى قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا}. ذكر من قال ذلك:

٨٢٦٥ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ}.. الاَية، قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر اللّه وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الاَية قول من قال: عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، وهي الحالة التي قال اللّه تبارك وتعالى: {فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْانا} وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله: {وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} لدلالة قول اللّه تعالى: {فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف.

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من اللّه باتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له: إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته. وإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه، أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها على ما بينا.

١٠٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك يا محمد الخائفين عدوّهم أن يفتنهم، {فأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}

يقول: فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوّهم وتزاحف بعضهم على بعض، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها، {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} يعني: فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك، وليكن سائرهم في وجوه العدوّ. وترك ذكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلية مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يفعله لدلالة الكلام المذكور على المراد به والاستغناء بما ذكر عما ترك ذكره. {وَلْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ}.

واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح،

فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: ومعنى الكلام: {ولَيْأْخُذُوا}

يقول: ولتأخذ الطائفة المصلية معك من طوائفهم {أسْلِحَتَهُمْ}، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم كالسيف يتقلده أحدهم والسكين والخنجر يشدّه إلى درعه وثيابه التي هي عليه ونحو ذلك من سلاحه.

وقال آخرون: بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم، الطائفة التي كانت بازاء العدوّ ودون المصلية مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم¹ وذلك قول ابن عباس.

٨٢٦٦ـ حدثني بذلك المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فإذَا سَجَدُوا}

يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلي بصلاتك، ففرغت من سجودها.

{فلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}

يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مصافي العدوّ في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصلّ معك ولم تدخل معك في صلاتك.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}

فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلوا ففرغوا من صلاتهم فليكونوا من ورائكم.

ثم اختلف أهل هذه المقالة،

فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة، سلمت وانصرفت من صلاتها حتى تأتي مقام أصحابها بازاء العدوّ ولا قضاء عليها، وهم الذين

قالوا: عنى اللّه بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ}: أن تجعلوها إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم ركعة. ورووا عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه صلى بطائفة صلاة الخوف ركعة ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه.

وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة التي أمرها اللّه بالقيام مع نبيها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدوّ إذا فرغت من ركعتها التي أمرها اللّه أن تصلي مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه أن تقوم في مقامها الذي صلت فيه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتصلى لأنفسها بقية صلاتها وتسلم، وتأتي مصافّ أصحابها، وكان على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أن يثبت قائما في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلت معه مما يجوز قصر عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصافّ أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافة عدوّها، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها.

ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون، فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إذا فرغ من ركعتيه ورفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوّها أن تقوم فتقضى ركعتها الفائتة مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وعلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم انتظارها قاعدا في تشهده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم.

وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم للتشهد أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده، فإذا فرغ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من تشهده سلم، ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ، فقضت ركعتها الفائتة. وكلّ قائل من الذين ذكرنا قولهم روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبارا كما قال فعل.

ذكر من قال: انتظر النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الطائفتين حتى قضت صلاتهما ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما:

٨٢٦٧ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات، عمن صلى مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وطائفة وجاه العدوّ، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالسا، فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.

٨٢٦٨ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: ثني عبيد اللّه بن معاذ، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، قال: صلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه في خوف، فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدم وتخلف الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم.

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف:

(تَقُومُ طائِفَةٌ بينَ يَدَيِ الإمامِ وَطائِفَةٌ خَلْفَهُ، فَيُصَلّي بالّذِينَ خَلَفَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ثُمّ يَقْعُدُ مَكانَهُ حتى يَقْضُوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ يَتَحَوّلُونَ إلى مَكانِ أصحَابِهِمْ، ثُمّ يَتَحَوّلُ أُولَئِكَ إلى مَكانِ هَؤُلاءِ، فَيُصَلّي بِهِمْ ركْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، ثُمّ يَقْعُدُ مَكانَهُ حتى يُصَلّوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ثُمّ يُسَلّمُ).

ذكر من قال: كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم حتى يفرغ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من صلاته، ثم تقضي ما بقي عليها بعد:

٨٢٦٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيـى بن سعيد، قال: سمعت القاسم، قال: ثني صالح بن خوّات بن جبير أن سهل بن أبي حثمة حدثه: أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلي ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة أخرى مواجهة العدوّ فيصلي، فيركع الإمام بالذين معه، ويسجد ثم يقوم، فإذا استوى قائما ركع الذين وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا فانصرفوا والإمام قائم فقاموا إزاء العدوّ، وأقبل الاَخرون فكبروا مكان الإمام، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم، فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين ثم سلموا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا يحيـى بن سعيد، عن القاسم بن محمد أن صالح بن خوّات أخبره عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، ثم ذكر نحوه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد وسأله، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد الأنصاريّ، عن القاسم بن محمد، عن صالح، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه وطائفة من قبل العدوّ وجوههم إلى العدوّ، فيركع بهم ركعة، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم، ويذهبون إلى مقام أولئك ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين¹ فهي له ركعتان ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين.

قال بندار: سألت يحيـى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بمثل حديث يحيـى بن سعيد، وقال لي: اكتبه إلى جنبه، فلست أحفظه، ولكنه مثل حديث يحيـى بن سعيد.

٨٢٧٠ـ حدثنا نصر بن عليّ، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوّات: أن الإمام يقوم فيصف صفين، طائفة مواجهة العدوّ، وطائفة خلف الإمام، فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة، ثم يقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون، ثم ينطلقون فيصفون، ويجيء الاَخرون فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم فيقومون، فيصلون لأنفسهم ركعة.

٨٢٧١ـ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد اللّه ، عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوّات، عن رجل من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: صلاة الخوف أن تقوم طائفة من خلف الإمام، وطائفة يلون العدوّ، فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة، ويقوم قائما فيصلي القوم إليها ركعة أخرى، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم، ويجيء أصحابهم والإمام قائم، فيصلي بهم ركعة فيسلم، ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى، ثم ينصرفون. قال عبيد اللّه : فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئا هو أحسن عندي من هذا.

٨٢٧٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} فهذا عند الصلاة في الخوف يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم، ويقفون بازاء العدوّ، فيصلي الإمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية والإمام جالس، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم، فيقفون موقفهم، ثم يقبل الاَخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية¹ فهكذا صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم بطن نخلة.

وقال آخرون: بل تأويل قوله: {فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبيّصلى اللّه عليه وسلم حين دخل في صلاته، فدخلت معه في صلاته السجدة الثانية من ركعتها الأولى فليكونوا من ورائكم، يعني: من ورائك يا محمد ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدوّ.

قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بازاء العدوّ وعليها بقية صلاتها.

قالوا: وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بازاء العدوّ حتى تدخل مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في بقية صلاته، فيصلي بهم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه.

قالوا: وذلك معنى قول اللّه عزّ ذكره: {وَلْتَأْتِ طائفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأسْلِحَتَهُمْ}.

ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان يبقى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها بعد فراغ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته على قول قائلي هذه المقالة ومتأوّلي هذا التأويل¹

فقال بعضهم: كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها إذا سلم النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من صلاته فقامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في مقامها بعد فراغ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدوّ بعد لم تتم صلاتها، فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مضت إلى مصافّ أصحابها بإزاء العدوّ، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضت بقية صلاتها. ذكر الرواية بذلك:

٨٢٧٣ـ حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا خصيف، قال: حدثنا أبو عبيدة بن عبد اللّه ، قال: قال عبد اللّه : صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف فقامت طائفة منا خلفه، وطائفة بإزاء ـ أو مستقبلي العدوّ. فصلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بالذين خلفه ركعة، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم، وجاء الاَخرون فقاموا خلف النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فصلى بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعة، ثم سلم رسول اللّه ، ثم قام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أصحابهم مستقبلي العدوّ، ورجع الاَخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه ، قال: صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر نحوه.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، نحوه.

وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يسلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقف أصحابها الذين صلوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركعة الأولى، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول اللّه فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها،

فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة.

وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة، فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هنالك وسلمت مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدوّ، وأقبلت الطائفة التي صلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلت فيه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الركعة الثانية من صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقضت الركعة الثانية من صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت انصرفت إلى أصحابها. ذكر من قال ذلك:

٨٢٧٤ـ حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في صلاة الخوف، قال: يصف صفّا خلفه وصفّا بازاء العدوّ في غير مصلاه، فيصلي بالصفّ الذي خلفه ركعة، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك الذين بازاء العدوّ فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم عليهم، وقد صلى هو ركعتين، وصلى كلّ صفّ ركعة، ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدوّ، فقاموا مقامهم، وجاءوا فقضوا الركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بازاء العدوّ، وجاء أولئك فصلوا ركعة. قال سفيان: فيكون لكل إنسان ركعتان ركعتان.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، وحدثني عليّ، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفيان، قال: كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف، فذكر نحوه.

٨٢٧٥ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن عمر بن الخطاب، مثل ذلك.

وقال آخرون: بل كلّ طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها من غير تضييع منهم بعضها. ذكر من قال ذلك:

٨٢٧٦ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها، قال: فصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس، فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة وخلفهم الاَخرون، فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقامت كلّ طائفة فصلت ركعة.

حدثنا عمران بن موسى القزّاز، قال: حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي موسى، بنحوه.

٨٢٧٧ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي العالية ويونس بن جبير، قالا: صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بأصبهان، وما بهم يومئذ خوف، ولكنه أحبّ أن يعلمهم صلاتهم، فصفهم صفين، صفّا خلفه وصفّا مواجهة العدوّ مقبلين على عدوّهم، فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهبوا إلى مصافّ أصحابهم، وجاء أولئك فصفهم خلفه، فصلى بهم ركعة، ثم سلم فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، فكانت للإمام ركعتين في جماعة ولهم ركعة ركعة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن أبي موسى مثله.

٨٢٧٨ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في صلاة الخوف: يصلي طائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس، ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم، ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة.

حدثنا نصر بن عليّ، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه.

حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيـى بن صالح، قال: حدثنا ابن عياش، قال: حدثنا عبيد اللّه عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف، فذكر نحوه.

حدثنا سعيد بن يحيـى الأموي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه كان يحدّث: أنه صلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، بنحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن عبد اللّه بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في صلاة الخوف: (يَقُومُ الأمِيرُ وَطائِفَةٌ مِنَ النّاسِ فَيَسْجُدُونَ سَجْدَةً وَاحِدَةً، وَتَكُونُ طائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ وبينَ العَدْوّ) ثم ذكر نحوه.

حدثنا محمد بن هارون الحربي، قال: حدثنا أبو المغيرة الحمصي، قال: حدثنا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، ثم ذكر نحوه.

٨٢٧٩ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}.. إلى قوله: {فَلْيُصَلّوا مَعَكَ} فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح فيقبلون على العدوّ، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة ثم يأخذون أسلحتهم، فيستقبلون العدوّ، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة فيكون للإمام ركعتان ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى، وهذا تمام الصلاة.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية في صلاة الخوف، والعدوّ يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف، إذ كان العدوّ بين الإمام والقبلة. ذكر الأخبار المنقولة بذلك:

٨٢٨٠ـ حدثنا أبو كريب، قال: ثني يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزاة، فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم، قال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى هي أحبّ إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها! فأنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}.. إلى آخر الاَية، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة فجعل المسلمين خلفه صفين فكبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكبروا جميعا، ثم ركع وركعوا معه جميعا¹ فلما سجد سجد معه الصفّ الذين يلونه، وقام الصفّ الذين خفلهم مقبلين على العدوّ¹ فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سجوده وقام، سجد الصفّ الثاني، ثم قاموا وتأخر الذين يلون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقدّم الاَخرون، فكانوا يلون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما ركع ركعوا معه جميعا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصفّ الثاني مقبلين على العدوّ، فلما فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سجوده، وقعد الذين يلونه سجد الصفّ المؤخر ثم قعدوا، فتشهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جميعا، فلما سلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلم عليهم جميعا، فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعضهم ينظر إليهم،

قالوا: لقد أخبروا بما أردنا!

٨٢٨١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمر بن ذرّ، قال: ثني مجاهد، قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بعُسفان، والمشركون بضَجنان، بالماء الذي يلي مكة، فلما صلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الظهر فرأوه سجد وسجد الناس،

قالوا: إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه! فحذّره اللّه ذلك، فقام النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في الصلاة، فكبر وكبر الناس معه، فذكر نحوه.

٨٢٨٢ـ حدثني عمران بن بكار، قال: حدثنا يحيـى بن صالح، قال: حدثنا ابن عياش، قال: أخبرني عبيد اللّه بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلقينا المشركين بنَخْل، فكانوا بيننا وبين القبلة، فلما حضرت الظهر صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحن جميع، فلما فرغنا تذامر المشركون

فقالوا: لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون،

فقال بعضهم: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الاَن هي أحبّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلوا فميلوا عليهم! قال: فجاء جبريل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخبر وعلمه كيف يصلي، فلما حضرت العصر قام نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما يلي العدوّ، وقمنا خلفه صفين، فكبر نبيّ اللّه وكبرنا معه جميعا، ثم ذكر نحوه.

حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن هشام بن أبي عبد اللّه ، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحوه.

حدثنا مؤمل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر نحوه.

٨٢٨٣ـ حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزّرَقي، قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعُسفان، فصلي بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الظهر وعلى المشركين خالد بن الوليد، فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غرّة! ولقد أصبنا منهم غفلة! فأنزل اللّه صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة العصر، يعني فرقتين: فرقة تصلى مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وفرقة تصلى خلفهم يحرسونهم، ثم كبر فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد بالذين يلون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قام فتقدم الاَخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعا، ثم سجد بالذين يلونه حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصافّ أصحابهم، ثم تقدم الاَخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم¹ فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرّة أخرى في أرض بني سليم.

قال أبو جعفر: فتأويل الاَية على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، ورووا هذه الرواية: وإذا كنت يا محمد فيهم، يعني في أصحابك خائفا، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك¹ يعني ممن دخل معك في صلاتك، {فإذَا سَجَدُوا}،

يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رءوسها من سجودها {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}

يقول: فليصر من خلفك، خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك. {ولْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لم يُصَلّوا} يعني الطائفة الحارسة التي صلت معه غير أنها لم تسجد بسجوده، فمعنى قوله: {لَم يُصَلّوا} على مذهب هؤلاء: لم يسجدوا بسجودك: {فَلْيُصَلّوا مَعَكَ}

يقول: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى. {وَلْيأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأسْلِحَتَهُمْ} يعني الحارسة.

وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الاَية قول من قال معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها، {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} يعني من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصلّ معك الركعة الأولى بإزاء العدوّ بعد فراغها من بقية صلاتها، {ولْتَأْتِ طَائِفةٌ أُخْرَى} وهي الطائفة التي كانت بازاء العدوّ لم يصلوا،

يقول: لم يصلوا معك الركعة الأولى {فلْيُصَلّوا مَعَكَ}

يقول: فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك. {ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وأَسْلِحَتَهُمْ} لقتال عدوّهم بعد ما يفرغون من صلاتهم¹ وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه فعله يوم ذات الرقاع، والخبر الذي رَوَى سهل بن أبي حثمة.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية، لأن اللّه عزّ ذكره قال: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ} وقد دللنا على أن إقامتها إتمامها بركوعها وسجودها، ودللنا مع ذلك على أن قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا} إنما هو إذن بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف. فإذا صحّ ذلك كان بينا أن لا وجه لتأويل من تأوّل ذلك أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها، لقوله: {فإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرت قبل، ولأنه لا دلالة في الاَية على أن القصر الذي ذكر في الاَية قبلها عنى به القصر من عدد الركعات. وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال: أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة على نحو صلاة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بعسفان أبعد، وذلك أن اللّه جل ثناؤه

يقول: {وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا مَعَكَ} وكلتا الطائفتين قد كانت صلت مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان، ومحال أن تكون التي صلت مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم هي التي لم تصل معه.

فإن ظنّ ظانّ أنه أريد بقوله: {لَمْ يُصَلّوا}: لم يسجدوا، فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني الصلاة، وإنما توجه معاني كلام اللّه جل ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوههما ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك ولم يكن في الاَية أمر من اللّه عزّ ذكره للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته، ولا على المسلمين الذين بازاء العدوّ في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر، لم يكن لأمرها بتأخير ذلك وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها معنى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة لصحة الأخبار بكلّ ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأنه من الأمور التي علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمته ثم أباح لهم العمل بأيّ ذلك شاءواوأما قوله: {وَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكُمْ وأمْتِعَتِكُمْ} فإنه يعني: تمنى الذين كفروا بالله، لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم،

يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. {فَيَمِيُلونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}

يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم جملة واحدة، فيصيبون منكم غرّة بذلك فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم.

يقول جلّ ثناؤه: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدوّ، فتمكنوا عدوّكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم ولكن أقيموا الصلاة على ما بينت لكم، وخذوا من عدوّكم حذركم وأسلحتكم.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ كانَ بِكُمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} وَلا حرج عليكم ولا إثم، {إنْ كانَ بِكُمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ}

يقول: إن نالكم من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوّكم. {أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى}

يقول: جرحى أوْ أَعِلاّء. {أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ} إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوّكم حذركم،

يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارّون. {إنّ اللّه أعَدّ للكافِرِينَ عَذَابا مُهِينا} يعني بذلك: أعدّ لهم عذابا مذلاً يبقون فيه أبدا لا يخرجون منه، وذلك هو عذاب جهنم. وقد ذكر أن قوله: {أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحا. ذكر من قال ذلك:

٨٢٨٤ـ حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {إنْ كانَ بِكُمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ أوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} عبد الرحمن بن عوف كان جريحا.

١٠٣

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإذا فرغتم أيها المؤمنون من صلاتكم، وأنتم مواقفو عدوّكم التي بيناها لكم، فاذكروا اللّه على كلّ أحوالكم قياما وقعودا، ومضطجعين على جنوبكم بالتعظيم له، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوّكم، لعلّ اللّه أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيُتمْ فِئَةً فاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرا لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وكما:

٨٢٨٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {فاذْكُرُوا اللّه قِياما}

يقول: لا يفرض اللّه على عباده فريضة إلا جعل لها جزاءا معلوما. ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن اللّه لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله،

فقال: فاذكروا اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البرّ والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرّ والعلانية، وعلى كلّ حال.

وأما قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله،

فقال بعضهم: معنى قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ}: فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم، {فأقِيمُوا} يعني: فأتموا {الصّلاةَ} التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض. ذكر من قال ذلك:

٨٢٨٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد في قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} قال: الخروج من دار السفر إلى دار الإقامة.

٨٢٨٧ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ}

يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم فأتموا الصلاة.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا استقررتم فأقيموا الصلاة، أي فأتموا حدودها بركوعها وسجودها. ذكر من قال ذلك:

٨٢٨٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} قال: فإذا اطمأننتم بعد الخوف.

٨٢٨٩ـ وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} قال: فإذا اطمأننتم فصلوا الصلاة لا تصلّها راكبا ولا ماشيا ولا قاعدا.

٨٢٩٠ـ حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} قال: أتموها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الاَية، تأويل من تأوّله: فإذا زال خوفكم من عدوّكم وأمنتم أيها المؤمنون واطمأنت أنفسكم بالأمن، فأقيموا الصلاة، فأتموها بحدودها المفروضة عليكم، غير قاصريها عن شيء من حدودها.

وأنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاَية، لأن اللّه تعالى ذكره عرّف عباده المؤمنين الواجب عليهم من فرض صلاتهم بهاتين الاَيتين في حالين: إحداهما شدة حال خوف أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بينت من قصر حدودها عن التمام، والأخرى حال غير شدّة الخوف أمرهم فيها بإقامة حدودها، وإتمامها على ما وصفه لهم جل ثناؤه من معاقبة بعضهم بعضا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضا من عدوّهم وهي حالة لا قصر فيها، لأنه يقول جل ثناؤه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في هذه الحال: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. فمعلوم بذلك أن قوله: {فإذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ} إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحالة التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم فأقيموها، وتلك حالة شدة الخوف، لأنه قد أمرهم باقامتها في حال غير شدة الخوف بقوله: {وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ}.. الاَية.

القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. ذكر من قال ذلك:

٨٢٩١ـ حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} قال: فريضة مفروضة.

٨٢٩٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، قال: ثني عليّ عن ابن عباس: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} قال: مفروضا، الموقوت: المفروض.

٨٢٩٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: أما كتابا موقوتا: فمفروضا.

٨٢٩٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد: {كِتابا مَوْقُوتا} قال: مفروضا.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا واجبا. ذكر من قال ذلك:

٨٢٩٥ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} قال: كتابا واجبا.

٨٢٩٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {كِتابا مَوْقُوتا} قال: واجبا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٢٩٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن معمر بن سام، عن أبي جعفر في قوله: {كِتابا مَوْقُوتا} قال: مُوجَبا.

٨٢٩٨ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} والموقوت: الواجب.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا معمر بن يحيـى، قال: سمعت أبا جعفر

يقول: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} قال: وجوبها.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا منجما يؤدونها في أنجمها. ذكر من قال ذلك:

٨٢٩٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} قال: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتا كوقت الحجّ.

٨٣٠٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن زيد بن أسلم في قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤمِنِينَ كِتابا مَوْقُوتا} قال: منَجّما، كلما مضَى نَجم جاء نجم آخر،

يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم بمثله.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض، لأن ما كان مفروضا فواجب، وما كان واجبا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجم. غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة قول من قال: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضا منجما، لأن الموقوت إنما هو مفعول من قول القائل: وَقَتَ اللّه عليك فرضه فهو يَقِتُهُ، ففرضُه عليك موقوت، إذا أخبر أنه جَعل له وقتا يجب عليك أداؤه. فكذلك معنى قوله: {إنّ الصّلاةَ كانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتابا مَوْقوتا} إنما هو كانت على المؤمنين فرضا وقت لهم وقت وجوب أدائه، فبّين ذلك لهم.

١٠٤

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلا تَهِنُوا}: ولا تضعفوا، من قولهم: وَهَنَ فلان في هذا الأمر يَهِنُ وَهُنا ووُهوناوقوله: {فِي ابْتِغاءِ القَوْمِ}: يعني في التماس القوم وطلبهم، والقوم هم أعداء اللّه وأعداء المؤمنين من أهل الشرك باللهك {إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ}

يقول: إن تكونوا أيها المؤمنون تَيْجَعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا. {فإنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُون}

يقول: فإن المشركين ييجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى، مثل ما تيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها. {وتَرْجون} أنتم أيها المؤمنون {مِنَ اللّه } من الثواب على ما ينالكم منهم، {ما لا يَرْجُونَ} هم على ما ينالهم منكم.

يقول: فأنتم إذ كنتم موقنين من ثواب اللّه لكم على ما يصيبكم منهم بما هم به مكذّبون، وأولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم منهم على قتالكم وحربكم، وأن تجدّوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما يهنون هم فيه ولا يجدّون، فكيف على ما جَدّوا فيه ولم يهنوا؟.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٣٠١ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ القَوْمِ إنْ تَكُونُوا تَأْلُمونَ} منهم، {فإنّهُمْ يَأْلُمونَ كمَا تَأْلمُونَ}

يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من اللّه من الأجر والثواب ما لا يرجون.

٨٣٠٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلا تَهِنُوا في ابْتِغَاءِ القَوْمِ إنْ تَكُونُوا تَأْلُمونَ فإنّهُمْ يَأْلَمُونَ كمَا تَأْلُمونَ} قال:

يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإن تكونوا تيجعون من الجراحات، فإنهم ييجعون كما تيجعون.

٨٣٠٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ}: لا تضعفوا.

٨٣٠٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: {وَلا تَهِنُوا}

يقول: لا تضعفوا.

٨٣٠٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ} قال:

يقول: لا تضعفوا عن ابتغائهم، {إنْ تَكُونُوا تَأْلُمونَ} القتال، {فإنّهُمْ يَأْلمُونَ كمَا تَأْلمُونَ} قال: وهذا قبل أن تصيبهم الجراح إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه فإنهم يألمون كما تألمون، {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه ما لا يَرْجُونَ}

يقول: فلا تضعفوا في ابتغائهم مكان القتال.

٨٣٠٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {إنْ تَكُونُوا تَأْلمُونَ}: توجعون.

٨٣٠٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} قال: توجعون لما يصيبكم منهم، فإنهم يوجعون كما توجعون. {وتَرْجُونَ} أنتم من الثواب فيما يصيبكم {ما لاَ يَرْجُونَ}.

٨٣٠٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما كان قتال أُحد، وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد لا جرح إلا بجرح، الحرب سجال، يوم لنا ويوم لكم! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: (أجِيبُوهُ)!

فقالوا: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: عزّى لنا ولا عزّى لكم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قُولُوا لَهُ: اللّه مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ). قال أبو سفيان: أُعْلُ هبل! أُعْلُ هبل! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (قُولُوا لَهُ: اللّه أعْلَى وأجَلّ). فقال أبو سفيانُ: موعدنا وموعدكم بدر الصغرى. ونام المسلمون وبهم الكلوم. قال عكرمة: وفيها أنزلت: {إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثلُهُ وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بينَ النّاس}، وفيهم أنزلت: {إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنّهُمْ يَأْلَمُونَ كمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه ما لا يَرْجُونَ وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما}.

٨٣٠٩ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: {إنْ تَكُونُوا تَأْلُمونَ فإنّهُمْ يَأْلُمونَ كمَا تَأْلُمونَ} قال: ييجعون كما تيجعون.

وقد ذكرنا عن بعضهم أنه كان يتأوّل قوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه ما لا يَرْجُونَ}: وتخافون من اللّه ما لا يخافون، من قول اللّه : {قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّه } بمعنى: لا يخافون أيام اللّه . وغير معروف صرف الرجاء إلى معنى الخوف في كلام العرب، إلا مع جحد سابق له، كما قال جلّ ثناؤه: {ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقارا} بمعنى: لا تخافون لله عظمة، وكما قال الشاعر الهذلي:

لا تَرْتجِي حِينَ تُلاقي الذّائِدَاأسَبْعَةً لاقَتْ مَعا أمْ وَاحِدَا

وكما قال أبو ذؤيب:

إذا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَهاوخالَفَها في بَيْتِ نُوَبٍ عَوَاسِلِ

وهي فيما بلغنا لغة أهل الحجاز، يقولونها بمعنى: ما أبالي وما أحفل.

القول في تأويل قوله تعالى: {وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما}:

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولم يزل اللّه عليما بمصالح خلقه، حكيما في تدبيره وتقديره، ومن علمه أيها المؤمنون بمصالحكم عرّفكم عند حضور صلاتكم، وواجب فرض اللّه عليكم، وأنتم مواقفو عدوّكم ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض اللّه عليكم، والسلامة من عدوّكم ومن حكمته بصركم بما فيه تأييدكم، وتوهين كيد عدوّكم.

١٠٥

انظر تفسير الآية: ١٠٦

١٠٦

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }: إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب، يعني القرآن، {لتَحْكُمَ بَيْنَ النَاسِ} لتقضي بين الناس، فتفصل بينهما {بِما أرَاكَ اللّه } يعني: بما أنزل اللّه إليك من كتابه. {وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصيما}

يقول: ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله، خصيما تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه. {واسْتَغْفِرِ اللّه } يا محمدُ وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره. {إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما}

يقول: إن اللّه لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنن بتركه عقوبتهم عليها، إذا استغفروه منها، رحيما بهم، فافعل ذلك أنت يا محمد، يغفر اللّه لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن. وقد قيل إن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه همّ بذلك، فأمره اللّه بالاستغفار مما همّ به من ذلك. وذكر أن الخائنين الذين عاتب اللّه جل ثناؤه نبيه صلى اللّه عليه وسلم في خصومته عنهم بنو أُبَيْرِق.

واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه اللّه بها،

فقال بعضهم: كانت سرقة سرقها. ذكر من قال ذلك:

٨٣١٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }.. إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه } فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبيّ: اعذره في الناس بلسانك! ورمَوا بالدرع رجلاً من يهود بريئا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

٨٣١١ـ حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني، قال: حدثنا محمد بن سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بِشر وبُشَير مبشّر، وكان بشير رجلاً منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم

يقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشعر،

قالوا: واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث،

فقال:

أوَ كُلّما قالَ الرّجالُ قَصِيدَةًأضِمُوا وقالُوا ابنُ الأبَيْرِقِ قالَهَا

قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدّرمك، ابتاع الرجل منهم، فخصّ به نفسه، فأما العيال: فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك، فجعله في مشرَبة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فَعُدي عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعّلمْ أنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا

قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم

قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهم! رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: واللّه ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة!

قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فواللّه ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول اللّه ، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سأنْظُرُ في ذلك). فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا رسول اللّه ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثَبَت. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمته،

فقال: (عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بالسّرِقَةِ على غيرِ بَيّنَةٍ وَلا ثَبَتٍ!)

قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة،

فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: اللّه المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} يعني: بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِر اللّه } أي مما قلت لقتادة، {إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} أي بني أبيرق {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ}.. إلى قوله: {ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه ، يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما}: أي أنهم إن يستغفروا اللّه يغفر لهم، {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا} قولهم للبيد: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ} يعني أسيرا وأصحابه. {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}.. إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}، فلما نزل القرآن أتِيَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسلاح، فردّه إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً¹ فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي، هو في سبيل اللّه

قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل، فأنزل اللهفيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}.. إلى قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ باللّه فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا}. فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر. فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالأبطح، ثم قالت: أهديت إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير.

٨٣١٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }

يقول: بِمَا أنزل اللّه عليك وبيّن لك، {وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصِيما} فقرأ إلى قوله: {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}. ذكر لنا أن هؤلاء الاَيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما همّ به نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عذره، وبين اللّه شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه صلى اللّه عليه وسلم وحذّره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار، ثم أحد بني ظَفَر، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهوديّ كان يغشاهم، يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبيّ اللّه عليه الصلاة والسلام قد همّ بعُذره، حتى أنزل اللّه في شأنه ما أنزل،

فقال: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {ها أنْتُمْ هؤلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يُجادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ} يعني بذلك قومه، {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَريئا فَقَد احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}، وكان طعمة قذف بها بريئا. فلما بين اللّه شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل اللّه في شأنه: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَساءَتْ مَصِيرا}.

٨٣١٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاس بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} وذلك أن نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأَظَنّ بها رجلاً من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأُتي به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما رأى السارق ذلك، عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً،

فقالوا: يا نبيّ اللّه إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أُحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك! فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل اللّه : {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما}

يقول: احكم بينهم بما أنزل اللّه إليك في الكتاب، {واسْتَغْفِرِ اللّه إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}... الاَية،

ثم قال للذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه }... إلى قوله: {أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب. ثم قال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا} يعني: السارق والذين يجادلون عن السارق.

٨٣١٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }.. الاَية

قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وطرحه على يهوديّ، فقال اليهوديّ: واللّه ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرّئونه ويطرحونه على اليهوديّ ويقولون: يا رسول اللّه ، إن هذا اليهوديّ الخبيث يكفر باللّه وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه اللّه عزّ وجلّ في ذلك،

فقال: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما واسْتِغْفِرِ اللّه } بما قلت لهذا اليهوديّ، {إنّ اللّه كانَ غَفورا رَحِيما}.

ثم أقبل على جيرانه فقال: {ها أنُتمْ هؤُلاءِ جادَلُتمْ عنهُمْ في الحياةِ الدّنيَا} فقرأ حتى بلغ: {أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.

قال: ثم عرض التوبة فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّه يَجِد اللّه غَفُورا رَحِيما وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه. {وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَرِيئا} وإن كان مشركا. {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا} فقرأ حتى بلغ إلى قوله: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى}

قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض اللّه له. وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتا ليسرقه، فهدمه اللّه عليه فقتله¹ فذلك قوله: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسولَ مِنْ بَعِدِ ما تَبِيّنَ لَهُ الهُدَي} فقرأ حتى بلغ: {وَساءَتْ مَصِيرا}. ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلاً في بني ظفر.

وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف اللّه بها من وصفه بقوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصيما} جحوده وديعة كان أُودِعَها. ذكر من قال ذلك:

٨٣١٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما}

قال: أمّا (ما أراك اللّه ): فما أوحي اللّه إليك¹ قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، واستودعه رجل من اليهود درعا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها، فخالف إليها طعمة، فاحتفر عنها، فأخذها. فلما جاء اليهوديّ يطلب درعه كَافَرَهُ عنها، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته،

فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف وضع الدرع! فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه، فسبوه، وقال: أتخوّنونني؟ فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليل. وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي، فإني إن أُكّذب كذب على أهل المدينة اليهودي. فأتاه أناس من الأنصار

فقالوا: يا رسول اللّه جادل عن طعمة وأَكْذِب اليهودي! فهمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل، فأنزل اللّه عليه: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِر اللّه } مما أردت {إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}. ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه،

فقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ}

يقول: يقولون ما لا يرضى من القول، {ها أنُتمْ هؤلاء جَادلتمْ عَنهمْ في الحياة الدّنيْا فمنْ يجادِلُ اللّه عَنهمْ يومَ القيامةِ}. ثم دعا إلى التوبة،

فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما}.

ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ... وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}.

ثم ذكر الأنصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله: {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَك مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}

يقول: النبوّة.

ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة،

فقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاس}. فلما فضح اللّه طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه. ونزل على الحجاج بن علاط السلمي، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده، فنظر فإذا هو بطعمة،

فقال: ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرّة بني سليم كافرا، وأنزل اللّه فيه: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِنَ نُوَلّه ما تَوَلى}.. إلى: {وَساءَتْ مَصِيرا}.

٨٣١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشرُبه له فيها درع، وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاريّ فتح مشربته فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمي بها رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين. فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه¹ فلما رأى ذلك قومه أتوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِرِ اللّه إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}

يعني طعمة بن أبيرق وقومه، {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يِجادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أمّنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً} محمد صلى اللّه عليه وسلم وقوم طعمة.

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما} محمد وطعمة وقومه، قال: {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ}.. الاَية، طعمة.

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا} يعني: زيد بن السمين، {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا} طعمة بن أبيرق.

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمتُهُ} يا محمد، {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} قوم طعمة ابن أبيرق.

{وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيما} محمد صلى اللّه عليه وسلم.

{لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ} حتى تنقضي الاَية للناس عامة.

{وَمَنْ يُشاققِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَي وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}.. الاَية

قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهزيّ ثم السلمي حليف لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فَلِحجَ. فلما أصبح أخرجوه من مكة، فخرج فلقي ركبا من بهراء من قضاعة، فعرض لهم،

فقال: ابن سبيل منقطع به! فحملوه حتى إذا جنّ عليه الليل عدا عليهم فسرقهم، ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات. قال ابن جريج: فهذه الاَيات كلها فيه نزلت إلى قوله: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} أنزلت في طعمة بن أبيرق، يقولون: إنه رَمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد اللّه الخزرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان.

٨٣١٧ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }

يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الاَية في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، و

قالوا: خوّنوا صاحبنا وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبيّ اللّه وازجر عنه! فقام نبيّ اللّه فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه، فأنزل اللّه بيان ذلك فقال: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }.. إلى قوله: {أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} فبين اللّه خيانته. فلحق بالمشركين من أهل مكة، وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى} إلى قوله: {وَساءَتْ مَصِيرا}.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الاَية قول من قال: كانت خيانته التي وصفه اللّه بها في هذه الاَية جحوده ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب¹ وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره.

١٠٧

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّه لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَلا تُجادِلْ} يا محمد فتخاصم {عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} يعني: يخوّنون أنفسهم، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرق،

يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم. {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}

يقول: إن اللّه لا يحبّ من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره، مما حرّمه اللّه عليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد تقدّم ذكر الرواية عنهم.

٨٣١٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {وَلا تُجادلْ عَن الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} قال: اختان رجل عمّا له درعا، فقذف بها يهوديا كان يغشاهم، فجادل عمّ الرجل قومه، فكان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عذره، ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مَنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى}.. الاَية.

١٠٨

القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه ... }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ} يستخفى هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أوتوا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية من الناس الذي لا يقدرون لهم على شيء إلا ذكرهم بقبيح ما أوتوا من فعلهم وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطلعوا عليه حياء منهم، وحذرا من قبيح الأحدوثة. {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه } الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب، وهو أحقّ أن يستحيا منه من غيره، وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه {وهُوَ مَعَهُمْ} يعني: واللّه شاهدهم، {إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ} يقول حين يسوّون ليلاً ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه، ويكذبون فيه. وقد بينا معنى التبييت في غير هذا الموضع، وأنه كلّ كلام أو أمر أصلح ليلاً. وقد حكي عن بعض الطائيين أن التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل:

وَبَيّتَ قَوْلِيَ عَبْدَ المَلِيــكِ قاتَلَكَ اللّه عَبْدا كَنُودَا

بمعنى: بدلت قولي. ورُوي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله: (يبيتون): يؤلفون.

٨٣١٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين: {إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ} قال: يؤلفون ما لا يَرْضَى من القول.

حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، قال: حدثنا أبو يحيـى الحماني، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين، بنحوه.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي رزين، مثله.

قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه، وذلك أن التأليف هو التسوية والتغيير عما هو به وتحويله عن معناه إلى غيره.

 عني بقوله¹{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه }: الرهط الذين مشوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسألة المدافعة عن بني أبيرق والجدال عنه على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره. {وكانَ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطا} يعني جلّ ثناؤه: وكان اللّه بما يعمل هؤلاء المستخفون من الناس فيما أوتوا من جرمهم حياء منهم من تبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم محيطا محصيا، لا يخفي عليه شيء منه، حافظا لذلك عليهم، حتى يجازيهم عليه جزاءهم.

١٠٩

القول في تأويل قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ ... }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا} ها أنتم الذين جادلتم يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا. والهاء والميم في قوله: {عَنْهُمْ} من ذكر الخائنين. {فَمَنْ يُجادِلُ اللّه عَنْهُمْ}

يقول: فمن ذا يخاصم اللّه عنهم يوم القيامة: أي يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، فيدافع عنهم ما اللّه فاعل بهم، ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك أنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الاَخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلّ بهم من أليم العذاب ونكال العقابوأما قوله: {أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلاً يوم القيامة: أي ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة. وقد بينا معنى الوكالة فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له.

١١٠

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُوراً رّحِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل ذنبا، وهو السوء، أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحقّ به عقوبة اللّه ، {ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه }

يقول: ثم يتوب إلى اللّه بانابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه اللّه من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جُرمه، {يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما}

يقول: يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه، رحيما به.

واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية،

فقال بعضهم: عني بها الذين وصفهم اللّه بالخيانة بقوله: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}.

وقال آخرون: بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين، الذين قال اللّه لهم: {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا} وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر اللّه أمرهم في الاَيات قبلها.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٣٢٠ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال: قال عبد اللّه : كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض، فقال رجل: لقد أتى اللّه بني إسرائيل خيرا. فقال عبد اللّه : ما آتاكم اللّه خيرا مما أتاهم، جعل اللّه الماء لكم طهورا، وقال: و{الّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما}.

٨٣٢١ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: جاءت امرأة إلى عبد اللّه بن مغفل، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها، فقال ابن مغفل: ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها، ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما} قال: فمسحت عينها ثم مضت.

٨٣٢٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما} قال: أخبر اللّه عباده بحلمه وعفوه وكرمه، وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب صغيرا كان أو كبيرا، ثم يستغفر اللّه ، يجد اللّه غفورا رحيما، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.

١١١

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَكَانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يأت ذنبا على عمد منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضرّه وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق اللّه ،

يقول: فلا تجادلوا أيها الذين تجادلون عن هؤلاء الخونة، فانكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة وجيرانا برآء مما أتوه من الذنب ومن التبعة التي يُتْبَعون بها، فإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم، ولا تخاصموا.

وأما قوله: {وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما} فإنه يعني: وكان اللّه عالما بما تفعلون أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها. {حَكِيما}

يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه. وقيل: نزلت هذه الاَية في بني أبيرق، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل.

١١٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب، أو إثما، وهو ما لا يحلّ من المعصية. وإنما فّرق بين الخطيئة والإثم، لأن الخطيئة قد تكون من قبل العمد وغير العمد، والإثم لا يكون إلا من العمد، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما،

فقال: ومن يأت خطيئة على غير عمد منه لها، أو إثما على عمد منه ثم يرم به بريئا، يعني بالذي تعمده بريئا، يعني ثم يصف ما أتى من خطئه أو إثمه الذي تعمده بريئا مما أضافه إليه ونحله إياه {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}

يقول: فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذبا وإثما عظيما، يعني وجرما عظيما على علم منه وعمد لما أتى من معصيته وذنبه.

واختلف أهل التأويل فيمن عنى اللّه بقوله: {بَرِيئا} بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريء من الإثم الذي كان أتاه ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل.

فقال بعضهم: عنى اللّه عزّ وجلّ بالبريء رجلاً من المسلمين يقال له لبيد بن سهل.

وقال آخرون: بل عنى رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. وممن قال كان يهوديا، ابن سيرين.

٨٣٢٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين: {ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا} قال: يهوديا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا بدل بن المحبر، قال: حدثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله.

وقيل: {يَرْمِ بِهِ بَرِيئا} بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن من هو بريء مما رماه به، فالهاء في قوله (به) عائدة على الإثم، ولو جعلت كناية من ذكر الإثم والخطيئة كان جائزا، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعل.

وأما قوله: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا} فإن معناه: فقد تحمل هذا الذي رمي بما أتى من المعصية وركب من الإثم والخطيئة من هو بريء مما رماه به من ذلك بهتانا، وهو الفرية والكذب، وإثما مبينا، يعني وزرا مبينا، يعني أنه يبين عن أمر عمله وجراءته على ربه وتقدمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمره.

١١٣

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ... }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} ولولا أن اللّه تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحقّ عن حقهم قبله¹ {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ}

يقول: لهمت فرقة منهم، يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، {أنْ يُضِلّوكَ}

يقول: يزلوك عن طريق الحق، وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى اللّه عليه وسلم وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادّعى عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال اللّه تبارك وتعالى: وما يضلّ هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره، إلا أنفسهم.

فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسهم؟ قيل: وجه إضلالهم أنفسهم: أخذهم بها في غير ما أباح اللّه لهم الأخذ بها فيه من سبله، وذلك أن اللّه جل ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان والأمر بالتعاون على الحقّ، فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف اللّه أمرهم بقوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} معاونة من ظلموه دون من خاصمهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في طلب حقه منهم، فكان سعيهم في معونتهم دون معونة من ظلموه، أخذا منهم في غير سبيل اللّه ، وذلك هو إضلالهم أنفسهم، الذي وصفه اللّه فقال: {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} وما يضرّك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلوك عن الحقّ في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء، لأن اللّه مثبتك ومسدّدك في أمورك ومبين لك أمر من سعوا في ضلالك عن الحقّ في أمره وأمرهم، ففاضحه وإياهم.

وقوله: {وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}

يقول: ومن فضل اللّه عليك يا محمد مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك الكتاب، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء، وهدى وموعظة، {والحِكْمَةَ}: يعني وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملاً ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده ووعيده. {وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خبر الأوّلين والاَخرين، وما كان، وما هو كائن قبل، ذلك من فضل اللّه عليك يا محمد مذ خلقك، فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك بالتمسك بطاعته، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن اللّه هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن، ولا أحد من دونه ينقذك من سوء إن أراد بك إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه واتبعت هوى من حاول صدّك عن سبيله. وهذه الاَية تنبيه من اللّه نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم على موضع حظه، وتذكير منه له الواجب عليه من حقه.

١١٤

القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ ... }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}: لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. {إلاّ مَنْ أمَرَ بصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ} والمعروف: هو كل ما أمر اللّه به أو ندب إليه من أعمال البرّ والخير. {أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاسِ} وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح اللّه الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن اللّه وأمر به. ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك،

فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}

يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة اللّه ، يعني طلب رضا اللّه بفعله ذلك¹ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}

يقول: فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما، ولا حدّ لمبلغ ما سمى اللّه عظيما يعلمه سواه.

واختلف أهل العربية في معنى قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ} فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم إلا في نجوى من أمر بصدقة. كأنه عطف (من) على الهاء والميم التي في (نجواهم). وذلك خطأ عند أهل العربية لأن إلا لا تعطف على الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد

وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون (مَن) في موضع خفض ونصب¹ وأما الخفض فعل قولك: {لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلا فيمن أمر بصدقة، فتكون النجوى على هذا التأويل هم الرجال المناجون، كما قال جلّ ثناؤه: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} وكما قال: {وَإذْ هُمْ نَجْوَى}وأما النصب، فعلى أن تجعل النجوى فعلاً فيكون نصبا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا، لأنه من خلاف النجوى، فيكون ذلك نظير قول الشاعر:

............... وَما بالرّبْعِ مِنْ أحَدِ

إلاّ أُوَارِيّ لاَءْيا مَا أُبَيّنُها..........

وقد يحتمل (من) على هذا التأويل أن يكون رفعا، كما قال الشاعر:

وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِها أنِيسُإلاّ اليَعافِيرُ وَإلاّ العِيسُ

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، أن تجعل (من) في موضع خفض بالردّ على النجوى، وتكون النجوى بمعنى جمع المتناجين، خرج مخرج السكرى والجرحى والمرضى، وذلك أن ذلك أظهر معانيه، فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين يا محمد من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير.

١١٥

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ}: ومن يباين الرسول محمدا صلى اللّه عليه وسلم معاديا له، فيفارقه على العداوة له¹ {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى} يعني: من بعد ما تبين له أن رسول اللّه ، وأن ما جاء به من عند اللّه يهدى إلى الحقّ، وإلى طريق مستقيم. {وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}

يقول: ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر باللّه ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم. {نُوَلّهِ ما تَوَلىّ}

يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام، وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب اللّه شيئا ولا تنفعه. كما:

٨٣٢٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {نُوَلّهِ ما تَوَلى} قال: من آلهة الباطل.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. {وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ} يقوله: ونجعله صِلأ نار جهنم، يعني نحرقه بها، وقد بينا معنى الصّلَى فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. {وَساءَتْ مَصيرا}

يقول: وساءت جهنم مصيرا: موضعا يصير إليه من صار إليه. ونزلت هذه الاَية في الخائنين الذين ذكرهم اللّه في قوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الأبيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدّا مفارقا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودينه.

١١٦

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: إن اللّه لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه باللّه ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به¹ {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}

يقول: ويغفر ما دون الشرك باللّه من الذنوب لمن يشاء، يعني بذلك جلّ ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك باللّه ومات على شركه لكان في مشيئة اللّه على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى اللّه أمره في عذابه والعفو عنه. وكذلك حكم كل من اجترم جرما، فإلى اللّه أمره، إلا أن يكون جرمه شركا باللّه وكفرا، فإنه ممن حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه، فإذا مات على شركه، فقد حرّم اللّه عليه الجنة، ومأواه النار.

وقال السديّ في ذلك بما:

٨٣٢٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {أنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشَرَكَ بِه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لَمِنْ يَشاءُ}

يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين.

وأما قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ باللّه فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا} فإنه يعني: ومن يجعل لله في عبادته شريكا، فقد ذهب عن طريق الحقّ، وزال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا وزوالاً شديدا. وذلك أنه باشراكه باللّه في عبادته، فقد أطاع الشيطان وسلك طريقه وترك طاعة اللّه ومنهاج دينه، فذاك هو الضلال البعيد والخسران المبين.

١١٧

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مّرِيداً }.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزّى ومناة، فسماهنّ اللّه إناثا بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث. ذكر من قال ذلك:

٨٣٢٦ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا} قال: اللات والعزّى ومناة، كلها مؤنث.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك بنحوه، إلا أنه قال: كلهنّ مؤنث.

٨٣٢٧ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط عن السديّ: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا}

يقول: يسمونهم إناثا: لات، ومناة، وعُزّى.

٨٣٢٨ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا} قال: آلهتهم: اللات، والعُزّى، ويِساف، ونائلة، هم إناث يدعونهم من دون اللّه . وقرأ: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا}.

وقال آُخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه. ذكر من قال ذلك:

٨٣٢٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا}

يقول: مَيْتا.

٨٣٣٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا}: أي إلا مَيْتا لا روح فيه.

٨٣٣١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا} قال: والإناث: كل شيء ميت ليس فيه روح خشبة يابسة، أو حجر يابس، قال اللّه تعالى: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا}.. إلى قوله: {فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ}.

وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون: إن الملائكة بنات اللّه . ذكر من قال ذلك:

٨٣٣٢ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا} قال: الملائكة يزعمون أنهم بنات اللّه .

وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم إناثا، فأنزل اللّه ذلك كذلك. ذكر من قال ذلك:

٨٣٣٣ـ حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: كان لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم يسمونها أنثى بني فلان، فأنزل اللّه : {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحِدّاني، قال: سمعت الحسن

يقول: كان لكل حيّ من العرب، فذكر نحوه.

وقال آخرون: الإناث في هذا الموضع: الأوثان. ذكر من قال ذلك:

٨٣٣٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهاد في قوله: {إناثا} قال: أوثانا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٣٣٥ـ حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان في مصحف عائشة: (إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا).

قال أبو جعفر: رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (أن يدعون من دونه إلا أُثُنا)، بمعنى جمع وثن، فكأنه جمع وَثَنَا وُثُنا، ثم قلب الواو همزة مضمومة، كما قيل: ما أحسن هذه الأجوه، بمعنى الوجوه، وكما قيل: {وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ} بمعنى: وُقّتت. وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: (إن يدعون من دونه إلا أُنُثا)، كأنه أراد جمع الإناث، فجمعها أُنُثا، كما تُجمع الثمار ثُمُرا. والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها قراءة من قرأ: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاّ إناثا} بمعنى جمع أنثى، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك.

وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت، تأويل من قال: عنى بذلك الاَلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون اللّه ، ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزّى ونائلة ومناة، وما أشبه ذلك.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه، وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الاَية: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نولّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا، إن يدعون من دونه إلا إناثا،

يقول: ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون اللّه بعد اللّه وسواه، إلاّ إناثا، يعني: إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزّى وما أشبه ذلك.

يقول جلّ ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا باللّه وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا. والإناث من كلّ شيء أخّسه¹ فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا}: وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون اللّه بدعائهم إياها إلا شيطانا مريدا، يعني متمرّدا على اللّه في خلافه فيما أمره به وفيما نهاه عنه. كما:

٨٣٣٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإنْ يَدْعُونَ إلاّ شَيْطانا مَرِيدا} قال: تمرّد على معاصي اللّه .

١١٨

القول في تأويل قوله تعالى: {لّعَنَهُ اللّه وَقَالَ لأتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مّفْرُوضاً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {لَعَنَهُ اللّه }: أخزاه وأقصاه وأبعده. ومعنى الكلام: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا قد لعنه اللّه وأبعده من كل خير

وقال: {لاَءَتّخِذَنّ} يعني بذلك أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه: {لأَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوضا} يعني بالمفروض: المعلوم¹ كما:

٨٣٣٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك : {نَصِيبا مَفْرُوضا} قال: معلوما.

فإن قال قائل: وكيف يتخذ الشيطان من عباد اللّه نصيبا مفروضا؟ قيل: يتخذ منهم ذلك النصيب باغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه إياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلال والكفر، حتى يزيلهم عن منهج الطريق¹ فمن أجاب دعاءه واتبع ما زينه له، فهو من نصيبه المعلوم وحظه المقسوم. وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الاَية بما أخبر به عن الشيطان من قيله: {لاَءَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوضا} ليعلم الذين شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى أنهم من نصيب الشيطان الذي لعنه اللّه المفروض، وأنه ممن صدق عليهم ظنه. وقد دللنا على معنى اللعنة فيما مضى، فكرهنا إعادته.

١١٩

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاُضِلّنّهُمْ وَلاُمَنّيَنّهُمْ وَلأمُرَنّهُمْ ...}.

يعني بقوله جل ثناؤه مخبرا عن قيل الشيطان المَريد، الذي وصف صفته في هذه الاَية: ولأضلهم ولأصدنّ النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال، ومن الإسلام إلى الكفر. {ولأُمَنّيَنّهُمْ}

يقول: لأزيغنهم بما أجعل في نفوسهم من الأماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي، والشرك بك. {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ}

يقول: ولاَمرنّ النصيب المفروض لي من عبادك بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد، حتى يَنْسُكوا له، ويحّرموا، ويحللوا له، ويشرعوا غير الذي شرعته لهم فيتبعوني ويخالفونك. والبَتْك: القطع، وهو في هذا الموضع: قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها بحيرة. وإنما أراد بذلك الخبيث أنه يدعوهم إلى البَحيرة فيستجيبون له ويعملون بها طاعة له.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٣٣٨ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} قال: البَتْك في البَحيرة والسائبة، كانوا يُبَتّكون آذانها لطواغيتهم.

٨٣٣٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: {ولاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} أما يبتكنّ آذان الأنعام: فيشقونها فيجعلونها بحيرة.

٨٣٤٠ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني القاسم بن أبي بزّة، عن عكرمة: {فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ} قال: دين شرعه لهم إبليس كهيئة البحائر والسوائب.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }.

اختلف أهل التأويل في معنى قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }

فقال بعضهم: معنى ذلك: ولاَمرنهم فليغيرنّ خلق اللّه من البهائم باخصائهم إياها. ذكر من قال ذلك:

٨٣٤١ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، أنه كره الإخصاء، وقال: فيه نزلت {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }.

٨٣٤٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد اللّه بن داود، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس، أنه كره الإخصاء، وقال: فيه نزلت {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك، قال: هو الإخصاء، يعني قول اللّه : {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، قال: ثني رجل، عن ابن عباس، قال: إخصاء البهائم مُثْلَهةٌ، ثم قرأ: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }.

٨٣٤٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: من تغيير خلق اللّه الإخصاء.

٨٣٤٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، قال: أخبرني شبل، أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الاَية: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الخِصَاء، قال: فأمرت أبا التياح، فسأل الحسن عن خصاء الغنم،

فقال: لا بأس به.

٨٣٤٥ـ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عمي وهب بن نافع، عن القاسم بن أبي بزّة، قال: أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } فسألته،

فقال: هو الخصاء.

٨٣٤٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن عبد الجبار بن ورد، عن القاسم بن أبي بزة، قال: قال لي مجاهد: سهل عنها عكرمة: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } فسألته،

فقال: الإخصاء. قال مجاهد: ماله لعنه اللّه ! فواللّه لقد علم أنه غير الإخصاء. ثم قال: سله! فسألته، فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول اللّه تبارك وتعالى: {فِطْرَةَ اللّه الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه }؟ قال: لدين اللّه . فحدثت به مجاهدا فقال: ما له أخزاه اللّه !

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن ليث، قال: قال عكرمة:{فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الإخصاء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هارون النحوي، قال: حدثنا مطر الورّاق، قال: سئل عكرمة، عن قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: هو الإخصاء.

٨٣٤٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيـى بن يمان، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: الإخصاء.

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: منه الخصاء.

حدثنا عمرو، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، بمثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة أنه كره الإخصاء، قال: وفيه نزلت: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولاَمرنهم فليغيرنّ دين اللّه . ذكر من قال ذلك:

٨٣٤٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

٨٣٤٩ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد، قالا: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: ثني قيس بن مسلم، عن إبراهيم مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.

٨٣٥٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عمي، عن القاسم بن أبي بزة، قال: أخبرت مجاهدا بقوله عكرمة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

٨٣٥١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا هارون النحوي، قال: حدثنا الوراق، قال: ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه }،

فقال: كذب العبد {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

٨٣٥٢ـ حدثنا ابن وكيع وعمرو بن عليّ، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بَزّة، عن مجاهد وعكرمة، قالا: دين اللّه .

٨٣٥٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي وحفص، عن ليث، عن مجاهد، قال: دين اللّه ، ثم قرأ: {ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ}.

حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الفطرة دين اللّه .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الفطرة: الدين.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد اللّه بن كثير، أنه سمع مجاهدا

يقول: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

٨٣٥٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } أي دين اللّه ، في قول الحسن وقتادة.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

٨٣٥٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن عثمان بن الأسود، عن القاسم ابن بَزة في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

٨٣٥٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: أما خلق اللّه : فدين اللّه .

٨٣٥٧ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه ، وهو قول اللّه : {فِطْرَةَ اللّه الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه }

يقول: لدين اللّه .

٨٣٥٨ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه ، وقرأ: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه } قال: لدين اللّه .

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا قيس بن مسلم، عن إبراهيم: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: دين اللّه .

حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا معاذ، قال: حدثنا عمران بن حُدَير، عن عيسى بن هلال، قال: كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } فكتب: إنه دين اللّه .

وقال آخرون: معنى ذلك: ولاَمرنهم فليغيرُنّ خلق اللّه بالوشْم. ذكر من قال ذلك:

٨٣٥٩ـ حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الوشم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن نوح، عن قيس، عن خالد بن قيس، عن الحسن: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الوشم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني هشيم، قال: أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره، عن الحسن: {فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } قال: الوشم.

٨٣٦٠ـ حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا أبو هلال الراسبيّ، قال: سأل رجل الحسن: ما تقول في امرأة قشرت وجهها؟ قال: ما لها لعنها اللّه ! غَيّرت خلق اللّه .

٨٣٦١ـ حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: قال عبد اللّه : لعن اللّه المتفلّجات والمتنمّصات والمستوشمات المغيّرات خلق اللّه .

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه ، قال: لعن اللّه الواشرات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق اللّه .

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد اللّه ، قال: لعن اللّه المتنمّصات والمتفلّجات ـ قال شعبة: وأحسبه قال : المغيرات خلق اللّه .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال: معناه: ولاَمرنهم فليغيرنّ خلق اللّه ، قال: دين اللّه ، وذلك لدلالة الاَية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: {فِطْرَةَ اللّه الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ}. وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى اللّه عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه ووَشْره، وغير ذلك من المعاصي، ودخل فيه ترك كلّ ما أمر اللّه به، لأن الشيطان لا شكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي اللّه ، وينهى عن جميع طاعته، فذلك معنى أمره نصيبه المفروض من عباد اللّه بتغيير ما خلق اللّه من دينه¹ ولا معنى لتوجيه من وجه قوله: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } إلى أنه وعد الأمر بتغيير بعض ما نهى اللّه عنه دون بعض، أو بعض ما أمر به دون بعض. فإذ كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره، إنما فعل ذلك لأن معناه: كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام، فإنّ في قوله جل ثناؤه إخبارا عن قِيل الشيطان: {وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّه } ما ينبىء أن معنى ذلك غير غير ما ذهب إليه، لأن تَبْتيك آذان الأنعام من تغيير خلق اللّه ، الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وعد الأمر بتغيير خلق اللّه من الأجسام مفسرا، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملاً، إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر وبالخاصّ عن العامّ دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعامّ عن الخاص، وتوجيه كتاب اللّه إلى الأفصح من الكلام وأولى من توجيه إلى غيره ما وجد إليه السبيل.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتّخِذِ الشّيْطانَ وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّه ...}.

وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن حال نصيب الشيطان المفروض من الذين شاقّوا اللّه ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى، يقول اللّه : ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية اللّه ، وخلاف أمره، ويواليه فيتخذه وليّا لنفسه ونصيرا دون اللّه ، {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا}

يقول: فقد هلك هلاكا، وَبخَس نفسه حظها فأوبقها بَخْسا مبينا يبين عن عطبه وهلاكه، لأن الشيطان لا يملك له نصرا من اللّه إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمَره، بل يخذله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيّا ممهلاً بالعقوبة،

١٢٠

كما وصفه اللّه جل ثناؤه بقوله:

{يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا} يعني بذلك جلّ ثناؤه: يَعِد الشيطان المَريدُ أولياءه، الذين هم نصيبه المفروض أن يكون لهم نصيرا ممن أرادهم بسوء، وظهيرا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمينهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج عليهم.

ثم قال: {وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا}

يقول: وما يعد الشيطان أولياءه الذين أتخذوه وليا من دون اللّه إلا غرورا، يعني: إلا باطلاً. وإنما جعل عدّته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم غرورا، لأنهم كانوا يحسبون أنهم في اتخاذهم إياه وليا على حقيقته من عدَاته الكاذبة وأمانيه الباطلة، حتى إذا حصحص الحقّ وصاروا إلى الحاجة إليه،

قال لهم عدوّ اللّه : {إنّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكُتُمُونِ مِنْ قَبْل}،

وكما قال للمشركين ببدر، وقد زين لهم أعمالهم: {لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاس وَإنّى جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ}

وحصحص الحق، وعاين حدّ الأمر، ونزول عذاب اللّه بحزبه {نَكَسَ عَلى عَقِبَيْهِ وقَالَ إنّى بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّى أرَى ما لا تَرَوْنَ إنّى أخافُ اللّه وَاللّه شَدِيدُ العِقابِ}،

فصارت عداته عدوّ اللّه إياهم عند حاجتهم إليه غرورا {كَسَرَابٍ بِقِيَعةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا وَوَجَد اللّه عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ}.

١٢١

القول في تأويل قوله تعالى: {أُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {أُولَئِكَ}: هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون اللّه ، {مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ} يعني: مصيرهم الذي يصيرون إليه جهنم، {وَلا يَجِدُونَ عَنْها مْحيصا}

يقول: لا يجدون عن جهنم إذا صيرهم اللّه إليها يوم القيامة، معدلاً يعدلون إليه، يقال منه: حاص فلان عن هذا الأمر يَحِيص حَيْصا وحُيُوصا: إذا عدل عنه، ومنه خبر ابن عمر أنه قال: بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية كنت فيهم، فلقينا المشركين فحِصْنا حَيْصَةً¹ .

وقال بعضهم: فجاضوا جيضة، والحيص والجيض متقاربا المعنى.

١٢٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ}: والذين صّدقوا اللّه ورسوله، وأقّروا له بالواحدانية ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم بالنبوّة وعملوا الصالحات،

يقول: وأدّوا فرائض اللّه التي فرضها عليهم. {سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحْتِها الأنْهارُ} يقوله: سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى اللّه جزاء بما عملوا في الدنيا من الصالحات جنات: يعني بساتين تجري من تحتها الأنهار. {خالدِينَ فيها أبَدا}

يقول: باقين في هذه الجنات التي وصفها أبدا دائما.

وقوله {وَعْدَ اللّه حَقّا} يعين: عدة من اللّه لهم ذلك في الدنيا حقا، يقينا صادقا، لا كَعِدَة الشيطان الكاذبة التي هي غرور من وعدها من أوليائه، ولكن عِدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب ولا يخلف وعده.

وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحقّ في هذه لما سبق من خبره جلّ ثناؤه، عن قول الشيطان الذي قصه في قوله، وقال: {لاَءَتّخِذَنّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيبا مَفْرُوضا وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ووَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ}

 ثم قال جلّ ثناؤه: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا} ولكن اللّه يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وعدا منه حقا، لا كوعد الشيطان الذي وصف صفته.

فوصف جل ثناؤه الوعدين والواعدين وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما تنبيها منه جل ثناؤه خلقه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والعطب، لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته، فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه.

ثم قال لهم جلّ ثناؤه: {وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللّه قِيلاً}

يقول: ومن أصدق أيها الناس من اللّه قيلاً: أي لا أحد أصدق منه قيلاً، فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، وتكفرون به، وتخالفون أمره، وأنتم تعلمون أن لا أحد أصدق منه قيلاً، وتعملون بما يأمركم به الشيطان، رجاء لإدراك ما يعدكم من عِداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، وقد علمتم أن عداته غرور لا صحة لها ولا حقيقة، وتتخذونه وليا من دون اللّه وتتركون أن تطيعوا اللّه فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فتكونوا له أولياء؟ ومعنى القِيل والقول: واحد.

١٢٣

القول في تأويل قوله تعالى: {لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ ...}.

اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}

فقال بعضهم: عُني بقوله {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} أهل الإسلام. ذكر من قال ذلك: ٨٣٦٢ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم¹ قال: فأنزل اللّه : {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: لما نزلت: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}

قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الاَية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.

حدثني أبو السائب وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}قال: احتجّ المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، فأنزل اللّه : {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: ففلج عليهم المسلمون بهذه الاَية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.. إلى آخر الاَيتين.

٨٣٦٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى باللّه منكم.

وقال المسلمون: نحن أولى باللّه منكم، نبيّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله. فأنزل اللّه : {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.. إلى قوله: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا} فأفلج اللّه حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.

٨٣٦٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: التقى ناس من اليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا.

وقالت النصارى مثل ذلك. فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فردّ اللّه عليهم قولهم،

فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} ثم فضل اللّه المؤمنين عليهم،

فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا ممّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا}.

٨٣٦٥ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابُنا أوّل كتاب وخيرها، ونبينا خير الأنبياء

وقال أهل الإنجيل نحوا من ذلك

وقال أهل الإسلام: لا دين إلا دين الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأُمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم. فقضى اللّه بينهم،

فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}. ثم خير بين أهل الأديان، ففضل أهل الفضل،

فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}.. إلى قوله: {وَاتّخَذَ اللّه إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.

٨٣٦٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.. إلى: {وَلا نَصِيرا} تحاكم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير من الكتب، أنزل قبل كتابكم، ونبيّنا خير الأنبياء

وقال أهل الإنجيل مثل ذلك.

وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأُمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا. فقضى اللّه بينهم فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} وخير بين أهل الأديان فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا واتّخَذَ اللّه إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.

٨٣٦٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يعلى بن عبيد وأبو زهير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل. فأنزل اللّه : {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}،

ثم خصّ اللّه أهل الإيمان فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}.

٨٣٦٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور وأهل الإيمان، فتفاخروا، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وهؤلاء: نحن أفضل. فأنزل اللّه : {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا}.

٨٣٦٩ـ حدثنا يحيـى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: افتخر أهل الأديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على اللّه ، ونبينا أكرم الأنبياء على اللّه موسى، كلمه اللّه قَيَلاً، وخلا به نجيّا، وديننا خير الأديان

وقالت النصارى: عيسى بن مريم خاتم الرسل، وآتاه اللّه التوراة والإنجيل، ولو أدركه موسى لاتّبَعَهُ، وديننا خير الأديان

وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان وخيرها

وقال المسلمون: محمد نبينا خاتم النبيين، وسيد الأنبياء، والفرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند اللّه ، وهو أمين على كلّ كتاب، والإسلام خير الأديان. فخير اللّه بينهم،

فقال: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.

وقال آخرون: بل عنى اللّه بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}: أهل الشرك به من عبدة الأوثان. ذكر من قال ذلك:

٨٣٧٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: قريش قالت: لن نُبعث ولن نُعذّب.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} قال: قالت قريش: لن نُبعث ولن نُعذّب، فأنزل اللّه : {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.

٨٣٧١ـ حدثني يعقوب ابن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَية، قال: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذّب وقالت اليهود والنصارى: {لَنْ يَدخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أو نَصَارَى}، أو قالوا {لَنْ تمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً} شكّ أبو بشر.

٨٣٧٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} قال: قريش وكعب بن الأشرف¹ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.

٨٣٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتابِ}.. إلى آخر الاَية، قال: جاء حيـى بن أخطب إلى المشركين، فقالوا له: يا حُيَـيّ إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: أنتم خير منه.

فذلك قوله: {ألَمْ تَرَ إَلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}.. إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيرا}.

ثم قال للمشركين: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} فقرأ حتى بلغ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا}.

قال: ووعد اللّه المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم يَعِد أولئك، وقرأ: {وَالّذِين آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ}.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزّة، عن مجاهد في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: قالت قريش: لن نُبعث ولن نُعذّب.

وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصة. ذكر من قال ذلك:

٨٣٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي أسيد، قال: سمعت الضحاك

يقول: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ}.. الاَية، قال: نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد من أنه عنى بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الاَي قبل قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} وإنما جرى ذكر أمانيّ نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله: {وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ}

وقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} فإلحاق معنى قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} بما قد جري ذكره قبل أحقّ وأولى من ادّعاء تأويل فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ولا أجماع من أهل التأويل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الاَية إذن: ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه التي يمنيكموها وليكم عدوّا لله من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء، ونصرتكم عليه، وإظفاركم به، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا باللّه وبحلمه عنهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، فإن اللّه مجازي كل عامل منكم جزاء عمله، من يعمل منكم سوء، أو من غيركم يجز به، ولا يجد له من دون اللّه وليا ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.

ومما يدلّ أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ} مشركو العرب كما قال مجاهد: إن اللّه وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه، وأخبر بحال وعده، الصادق بقوله: {وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْ خِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدا وَعْدَ اللّه حَقّا}

وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، وتمنيته إياهم الأماني بقوله: {يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ} كما ذكر وعد إياهم، فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عدّته إياهم به من الصفة.

وإذ كان ذلك كذلك صحّ أن قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.. الاَية، إنما هو خبر من اللّه عن أمانيّ أولياء الشيطان وما إليه صائرة أمانيهم مع سيـىء أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرة أعمال أولياء اللّه من حسن الجزاء.

وإنما ضمّ جلّ ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله: {وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ولاَمُرْنّهُمْ}.

القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: عنى بالسوء كلّ معصية لله، و

قالوا: معنى الاَية: من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي اللّه ، يجازه اللّه بها. ذكر من قال ذلك:

٨٣٧٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن زياد بن الربيع سأل أبيّ بن كعب عن هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبة والعود والخدش.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا غندر، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا قتادة، عن الربيع بن زياد، قال: قلت لأبيّ بن كعب، قول اللّه تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} واللّه إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا! قال: واللّه إن كنت لأراك أفقه مما أرى! لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب، وما يعفو اللّه عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة.

٨٣٧٦ـ حدثنا القاسم بن بشر بن معرور، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصوّاف، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الاَية: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا.

٨٣٧٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: يجز به في الدنيا، قال: قلت: وما تبلغ المصيبات؟ قال: ما تكره.

وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءا من أهل الكفر يجز به. ذكر من قال ذلك:

٨٣٧٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: الكافر. ثم قرأ: {وَهَلْ نُجازي إلاّ الكَفُورُ} قال: من الكفار.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل، عن حميد، عن الحسن، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو همام الأهوازيّ، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، أنه كان

يقول: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} و{وهَلْ نُجازي إلاّ الكَفُورُ} يعني بذلك: الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة.

٨٣٧٩ـ حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: واللّه ما جازى اللّه عبدا بالخير والشرّ إلا عذّبه، قال: {لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنَى} قال: أما واللّه لقد كانت لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم بها، إن اللّه لا يجازي عبده المؤمن بذنب، إذًا توبقه ذنوبه.

٨٣٨٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: وعد اللّه المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، يعني المشركين.

٨٣٨١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: إنما ذلك لمن أراد اللّه هوانه¹ فأما من أراد كرامته فإنه من أهل الجنة {وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانوا يُوعَدُونَ}.

٨٣٨٢ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك : {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} يعني بذلك: اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب، ولا يجدون لهم من دون اللّه وليا ولا نصيرا.

وقال آخرون: معنى السوء في هذا الموضع: الشرك.

قالوا: وتأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}: من يشرك باللّه يجز بشركه ولا يجد له من دون اللّه وليا ولا نصيرا. ذكر من قال ذلك:

٨٣٨٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}

يقول: من يشرك يجز به، وهو السوء، {ولا يَجِدْ له مِنْ دُونِ اللّه وَلِيّا ولا نَصِيرا} إلا أن يتوب قبل موته، فيتوب اللّه عليه.

٨٣٨٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: الشرك.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الاَية، التأويل الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب وعائشة، وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر، جوزي به. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية، لعموم الاَية كل عامل سوء، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد، فهي على عمومها إذ لم يكن في الاَية دلالة على خصوصها ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

فإن قال قائل: وأين ذلك من قول اللّه : {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره؟ قيل: إنه لم يعد بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} ترك المجازاة عليها، وإنما وَعَد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهل الشرك والنفاق.

فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ليوافوه ولا ذنب لهم، يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفي لهم بما وعدهم بقوله: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ} وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: {والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنْدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر الأخبار الواردة بذلك:

٨٣٨٥ـ حدثنا أبو كريب، وسفيان بن وكيع ونصر بن عليّ وعبد اللّه بن أبي زياد القَطَواني،

قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} شقّت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء اللّه أن تبلغ، فشكَوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (قَاربوا وسَدّدُوا، ففي كل ما يُصَابُ به المسلم كَفّارَةٌ، حتّى النّكْبَة يُنْكَبُها، أو الشوكة يُشَاكّها).

٨٣٨٦ـ حدثني عبد اللّه بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي، قالا: حدثنا يزيد بن حيان، قالا: حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي، قال: حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر، قال: لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول اللّه ، كلّ ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال: (يا أبا بَكْرٍ ألَيْس يُصِيبُك كَذَا وكَذَا؟ فَهُوَ كَفّارتُهُ).

٨٣٨٧ـ حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن عليّ بن زيد، عن مجاهد، قال: ثني عبد اللّه بن عمر، أنه سمع أبا بكر

يقول: سمعت النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول (مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ في الدّنْيا).

٨٣٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا نبيّ اللّه كيف الصلاح بعد هذه الاَية؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أيّةُ آيَةٍ؟) قال: يقول اللّه : {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فما عملناه جزينا به؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم:

(غَفَر اللّه لكَ يا أبا بَكْرٍ! ألَسْتَ تَمْرَضُ، ألَسْتَ تَحْزَنُ، ألَسْتَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ؟) قال: (فَهُوَ ما تُجْزَوْنَ بهِ).

حدثنا يونس، قال: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: أظنه عن أبي بكر الثقفي، عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: كيف الصلاح؟ ثم ذكر نحوه، إلا أنه زاد فيه (ألَسْتَ تُنْكَبُ؟).

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير، أن أبا بكر قال للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم: كيف الصلاح؟ فذكر نحوه.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أبو الجنبيّ، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر ابن أبي زهير الثقفي، قال: قال أبو بكر: يا رسول اللّه ، فذكر نحوه، إلا أنه قال: فكلّ سوء عملناه جزينا به؟ وقال أيضا: (ألَسْتَ تَمْرَضُ، ألَست تنصَب، ألَسْتَ تَحْزَنُ، ألَيْسَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ؟) قال: بلى

قال: (هُوَ ما تُجْزَوْنَ بهِ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي، قال: لما نزلت هذه الاَية: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: قال أبو بكر: يا رسول اللّه ، وإنا لنجزى بكلّ شيء نعمله؟ قال:

(يا أبا بَكْرٍ ألَسْتَ تَنْصَبُ، ألَسْتَ تَحْزَنُ، ألَسْتَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ؟ فَهَذَا مِمّا تُجْزَوْنَ بِهِ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، قال: حدثنا ابن أبي خالد، قال: ثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبي بكر، فذكر مثل ذلك.

٨٣٨٩ـ حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: قال أبو بكر: يا رسول اللّه ، ما أشدّ هذه الاَية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ}! قال: (يا أبا بَكْرٍ إنّ المُصِيبَةَ فِي الدّنْيا جَزَاءُ).

٨٣٩٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا أبو عامر الخراز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت: إني لأعلم أيّ آية في كتاب اللّه أشدّ! فقال لي النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (أيّ آية؟) فقلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال: (إنّ المؤمِنَ ليُجَازَى بأَسْوَإ عَمَلِهِ في الدّنْيا)، ثم ذكر أشياء منهنّ المرض والنصب، فكان آخره أن ذكر النكبة،

فقال: (كُلّ ذِي عمل يُجْزَى بِعَمَلِهِ يا عائِشَةُ، إنّهُ لَيْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ يُعَذّبُ). فقلت: أليس يقول اللّه : {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابا يَسِيرا}؟ فقالَ:

(ذَاكِ عِنْدَ العَرْض، إنّهُ مِنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذّبَ)، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت.

٨٣٩١ـ حدثني القاسم بن بشر بن معرور، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن أمية، قالت: سألت عائشة عن هذه الاَية: {وَإنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه }، و{لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها،

فقال: (يا عائِشَةُ ذَاكِ مَثابَةُ اللّه العَبْدَ بمَا يُصِيبُهُ مِنَ الحُمّى والكِبَرِ، وَالبِضَاعَةِ يَضَعُها فِي كُمّه فَيَفْقِدُها، فَيَفْزَعُ لَهَا فَيَجِدُها فِي كُمّهِ، حتى إنّ المُؤمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كمَا يَخْرُجُ التّبْرُ الأْحمَرُ مِنَ الكِيرِ).

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو عامر الخراز، قال: حدثنا ابن أبي مليكة عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول اللّه ، إني لأعلم أشدّ آية في القرآن،

فقال: (ما هِيَ يا عائشة؟) قلت: هي هذه الاَية يا رسول اللّه : {مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فقال: (هُوَ ما يُصِيبُ العَبْدَ المُؤْمِنَ، حتى النّكْبَةَ يُنْكَبُها).

٨٣٩٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن الربيع بن صبح، عن عطاء، قال: لما نزلت {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: يا رسول اللّه ، ما أشدّ هذه الاَية! قال: (يا أبا بَكْرٍ أنّكَ تَمْرَضُ، وَإنّكَ تَحْزَنُ، وَإنّكَ يُصِيبُكَ أذًى، فَذَاكَ بذَاكَ).

٨٣٩٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح، قال: لما نزلت، قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إنّمَا هِيَ المُصِيباتُ فِي الدّنْيا).

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيّا وَلا نَصَيرا}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَلا يَجِدِ} الذي يعمل سوءا من معاصي اللّه وخلاف ما أمره به، {مِنْ دُونِ اللّه } يعني: من بعد اللّه وسواه، {وَلِيّا} يلي أمره، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة اللّه ، {وَلا نَصِيرا} يعني: ولا ناصرا ينصره مما يحلّ به من عقوبة اللّه وأليم نكاله.

١٢٤

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: الذين قال لهم: {لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ} يقول اللّه لهم: إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الاَخرة، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم، وذكور عبادي وإناثهم وهو مؤمن بي وبرسولي محمد، مصدّق بوحدانيتي، ونبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم وبما جاء به من عندي، لا أنتم أيها المشركون بي المكذّبون رسولي، فلا تطمعوا أن تحلوا وأنتم كفار محلّ المؤمنين بي وتدخلوا مداخلهم في القيامة وأنتم مكذّبون برسولي. كما:

٨٣٩٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ انْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.

وأما قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا} فإنه يعني: ولا يظلم اللّه هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثواب عملهم مقدار النقرة التي تكون في ظهر النواة في القلة، فيكف بما هو أعظم من ذلك وأكثر. وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عباده أنه لا يبخسهم من جزاء أعمالهم قليلاً ولا كثيرا، ولكن يوفيهم ذلك كما وعدهم.

وبالذي قلنا في معنى النقير قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٣٩٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا} قال: النقير: الذي يكون في ظهر النواة.

٨٣٩٦ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرة، عن عطية، قال: النقير: الذي في وسط النواة.

فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول (مَنْ) في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ}، ولم يقل: ومن يعمل الصالحات؟ قيل: لدخولها وجهان: أحدهما أن يكون اللّه قد علم أن عباده المؤمنين لن يطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات، فأوجب وعده لمن عمل ما أطاق منها ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزت عن عمله منها قواه. والاَخر منهما أن يكون تعالى ذكره أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدّى الفرائض، وإن قصر في بعض الواجب له عليه، تفضلاً منه على عباده المؤمنين، إذ كان الفضل به أولى، والصفح عن أهل الإيمان به أحرى. وقد تقوّل قوم من أهل العربية أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف، ويتأوّله: ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. وذلك عندي غير جائز، لأن دخولها المعنى، فغير جائز أن يكون معناها الحذف.

١٢٥

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً ...}.

وهذا قضاء من اللّه جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها، يقول اللّه : {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا} أيها الناس، وأصوب طريقا وأهدى سبيلاً¹ {مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ}

يقول: ممن استسلم وجهه لله، فانقاد له بالطاعهة، مصدّقا نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يعني: وهو عامل بما أمره به ربه، محرّم حرامه، ومحلل حلاله. {وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا} يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به نبيه من بعده وأوصاهم به¹ حنيفا، يعني: مستقيما على منهاجه وسبيله. وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى الحنيف والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وممن قال ذلك أيضا الضحاك .

٨٣٩٧ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك ، قال: فضل اللّه الإسلام على كلّ دين،

فقال: {وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}.. إلى قوله: {وَاتّخَذَ اللّه إبْرَاهيمَ خَليلاً} وليس يقبل فيه عمل غير الإسلام، وهي الحنيفية.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتّخَذَ اللّه إبْرَاهيمَ خَليلاً}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: واتخذ اللّه إبراهيم وليّا.

فإن قال قائل: وما معنى الخُلة التي أعطيها إبراهيم؟ قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام العداوة في اللّه والبغض فيه، والولاية في اللّه والحبّ فيه، على ما يُعرف من معاني الخلةوأما من اللّه لإبراهيم، فنصرته على من حاوله بسوء، كالذي فعل به إذا أراده نمروذ بما أراده به من الإحراق بالنار، فأنقذه منها، وأعلى حجته عليه إذ حاجه، وكما فعل ملك مصر إذ أراده عن أهله، وتمكينه مما أحبّ، وتصييره إماما لمن بعده من عباده وقدوة لمن خلقه في طاعته وعبادته، فذلك معنى مخالّته إياه. سماه اللّه خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل ـ .

وقال بعضهم: من أهل مصر في امتيار طعام لأهله من قبلَه فلم يصب عنده حاجته، فلما قرب من أهله مرّ بمفازة ذات رمل،

فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أغمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون! ففعل ذلك، فتحوّل ما في غرائره من الرمل دقيقا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله، ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا، فعجنوا منه وخبزوا، فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا،

فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فعلم،

فقال: نعم هو من خليلي اللّه .

قالوا: فسماه اللّه بذلك خليلاً.

١٢٦

القول في تأويل قوله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللّه بِكُلّ شَيْءٍ مّحِيطاً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: واتخذ اللّه إبراهيم خليلاً لطاعته ربه، وإخلاصه العبادة له، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، لا من حاجة به إليه وإلى خلته، وكيف يحتاج إليه وإلى خلته، وله ما في السموات وما في الأرض من قليل وكثير ملكا، والمالك الذي إليه حاجة ملكه دون حاجته إليه، فكذلك حاجة إبراهيم إليه، لا حاجته إليه، فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلاً، ولكنه اتخذه خليلاً لمسارعته إلى رضاه ومحبته.

يقول: فكذلك فسارعوا إلى رضاي ومحبتي لأتخذكم لي أولياء. {وكانَ اللّه بِكُلّ شَيْءٍ مُحِيطا} ولم يزل اللّه محصيا لكل ما هو فاعله عباده من خير وشرّ، عالما بذلك، لا يخفى عليه شيء منه، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة.

١٢٧

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَآءِ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} ويسألك يا محمد أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهنّ وعليهنّ. فاكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهنّ، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه. {قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قل لهم يا محمد: اللّه يفتيكم فيهنّ، يعني في النساء. {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ الّلاتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ}.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}

فقال بعضهم: يعني بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قل اللّه يفتيكم فيهنّ، وفيما يتلى عليكم،

قالوا: والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض، التي في أوّل هذه السورة. ذكر من قال ذلك:

٨٣٩٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة¹ فلما كان الإسلام قال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} في أوّل السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب اللّه لهن.

٨٣٩٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلهم أن تكون شريكته، في ماله، وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها.

٨٤٠٠ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: كانوا لا يورّثون في الجاهلية النساء والصبيّ حتى يحتلم، فأنزل اللّه : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ} في أوّل سورة النساء من الفرائض.

٨٤٠١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كانوا في الجاهلية لا يورثون اليتيمة ولا ينكحونها ويعضلونها، فأنزل اللّه : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ}.. إلى آخر الاَية.

٨٤٠٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: أخبرني الحجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللّه بن كثير أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}.. الاَية، قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، لا يرث الرجل الصغير، ولا المرأة¹ فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء، شقّ ذلك على الناس، و

قالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث،

قالوا: لئن تمّ هذا إنه لواجب ما منه بدّ، ثم

قالوا: سلوا! فسألوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} في أوّل السورة: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}. قال سعيد بن جبير: وكان الولي إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحْها.

٨٤٠٣ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها عن التزويج حتى تموت، فيرثوها، فأنزل اللّه هذا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قال: كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه ولها مال، قال: فلا يتزوّجها ولا يزوّجها حتى تموت فيرثها، قال: فنهاهم اللّه عن ذلك.

٨٤٠٤ـ حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه ، عن إسرائيل، عن السديّ، عن أبي مالك: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها حبسها أن لم يتزوّجها ولم يدع أحدا يتزوّجها.

٨٤٠٥ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا، كانوا يقولون: لا يغزون ولا يغنمون خيرا، ففرض اللّه لهنّ الميراث حقا واجبا، ليتنالفس أو لينفس الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

٨٤٠٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} يعني الفرائض التي افترض في أمر النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهن، {وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل، فيرغب أن ينكحها، أو يجامعها ولا يعطيها مالها، رجاء أن تموت فيرثها، وإن مات لها حميم لم تعط من الميراث شيئا، وكان ذلك في الجاهلية، فبين اللّه لهم ذلك.

٨٤٠٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} حتى بلغ: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دمامة ولها مال، فكان يرغب عنها أن يتزوّجها ويحبسها لمالها، فأنزل اللّه فيه ما تسمعون.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة، فيرغب عنها أن ينكحها، ولا يُنكحها رغبة في مالها.

٨٤٠٨ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}.. إلى قوله: {بالقِسْطِ} قال: كان جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ ثم السلميّ له ابنة عمّ عمياء، وكانت دميمة، وكانت قد ورثت عن أبيها مالاً، فكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك. وكان ناس في حجورهم جوار أيضا مثل ذلك، فجعل جابر يسأل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، أترث الجارية إذا كانت قبيحة عيماء؟ فجعل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول (نعم)، فأنزل اللّه فيهنّ هذا.

وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء، قل اللّه يفتيكم فيهنّ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب في آخر سورة النساء، وذلك قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة}.. إلى آخر السورة. ذكر من قال ذلك:

٨٤٠٩ـ حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا سلام بن سليم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن حبير قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الولدان حتى يحتلموا، فأنزل اللّه : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} إلى قوله: {فَأنّ اللّه كانَ بِهِ عَلِيما} قال: ونزلت هذه الاَية: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}.. الاَية كلها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء، قل اللّه يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب، يعني في أوّل هذه السورة، وذلك قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}. ذكر من قال ذلك:

٨٤١٠ـ حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، عن قول اللّه : {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليْتَامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ} قالت: يا ابن أختي هيْ اليتيمة تكون في حجر وليها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذه الاَية فيهنّ، فأنزل اللّه : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قالت: والذي ذكر اللّه أنه يتلى في الكتابِ الاَية الأولى التي قال فيها: {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليْتَامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، مثله.

فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها (ما) التي في قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في موضع خفض بمعنى العطف على الهاء والنون التي في قوله: {يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} فكأنهم وجهوا تأويل الاَية: قل اللّه يفتيكم أيها الناس في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب.

وقال آخرون: نزلت هذه الاَية على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوم من أصحابه سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم اللّه فيما سألوا عنه وفيما تركوا المسألة عنه. ذكر من قال ذلك:

٨٤١١ـ حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع، قال سفيان: حدثنا عبد الأعلى، وقال ابن المثنى: ثني عبد الأعلى قال: حدثنا داود، عن محمد بن أبي موسى في هذه الاَية: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} قال: استفتوا نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النساء، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه، فأنزل اللّه : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه

قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق، فنزلت: {قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي النّساءِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: والمستضعفين من الولدان

قال: كانوا يورثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر، ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه،

فقال: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ أعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْرٌ}، ولفظ الحديث لابن المثنى.

قال أبو جعفر: فعلى هذا القول الذي يتلى علينا في الكتاب الذي

قال اللّه جل ثناؤه: {قُلِ اللّه يُفْتيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}.. الاَية، والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء اللاتي كانوا لا يؤتونهنّ ما كتب اللّه لهنّ من الميراث عمن ورثنه عنه.

وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معنى قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}: وما يتلى عليكم من آيات الفرائض في أوّل هذه السورة وآخرها.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الصداق ليس مما كتب للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَلَ أحَد، وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحد لم يكن مما كتب لها، وإذا لم يكن مما كتب لها، لم يكن لقول قائل عني بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}: الإقساط في صدقات يتامى النساء وجه، لأن اللّه قال في سياق الاَية مبينا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء أمر اليتيمة المحول بينها وبين ما كتب اللّه لها، والصداق قبل عقد النكاح ليس مما كتب اللّه لها على أحد، فكان معلوما بذلك أن التي عنيت بهذه الاَية هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب اللّه . فإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه اللّه لهن في كتابه. فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى، فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل، بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أنه زعم أن الذي عنى اللّه بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} هو {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}، وإذا وجه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله صار الكلام مبتدأ من قوله: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} ترجمة بذلك عن قوله {فِيهِنّ} ويصير معنى الكلام: قل اللّه يفتيكم فيهن في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ، ولا دلالة في الاَية على ما قاله، ولا أثر عمن يعلم بقوله صحة ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ما وجد إليه سبيل. فإذا كان الأمر على ما وصفنا، فقوله: {فِي يَتامَى النّساءِ} بأن يكون صلة لقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أولى من أن يكون ترجمة عن قوله: {قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} لقربه من قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}، وانقطاعه عن قوله: {يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ}. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الاَية: ويستفتونك في النساء، قل اللّه يفتيكم فيهنّ، وفيما يتلى عليكم فِي كتابِ اللّه الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهنّ ما كتب لهنّ، يعني: ما فرض اللّه لهنّ من الميراث عمن ورثنه. كما:

٨٤١٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: لا تورثونهن.

٨٤١٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قوله: {لاَ تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: من الميراث، قال: كانوا لا يورثون النساء، وترغبون أن تنكحوهن.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}

فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهنّ. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم.

٨٤١٤ـ حدثنا حميد بن مسعدة الساميّ، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا عبيد اللّه بن عون، عن الحسن: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: ترغبون عنهنّ.

حدثنا يعقوب وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، مثله.

٨٤١٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، قال: قالت عائشة في قوله اللّه : {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}: رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، يعني ابن صالح، قال: ثني الليث، قال: ثني يونس، عن ابن شهاب، قال: قال عروة، قالت عائشة، فذكر مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهنّ. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم.

٨٤١٦ـ حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا ابن عون عن محمد، عن عبيدة: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: وترغبون فيهن.

حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: قلت لعبيدة: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: ترغبون فيهنّ.

٨٤١٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: {فِي يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدا، فإن كانت جميلة وهويها تزوّجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها، فحرّم اللّه ذلك ونهى عنه.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الاَية قول من قال: معنى ذلك: وتَرْغَبُونَ عَنْ أنْ تَنْكِحُوهُنّ، لأن حبسهم أموالهن عنهنّ، مع عضلهم إياهنّ إنما كان ليرثوا أموالهن دون زوج إن تزوّجن. ولو كان الذين حبسوا عنهنّ أموالهنّ إنما حبسوها عنهنّ رغبة في نكاحهنّ، لم يكن للحبس عنهنّ وجه معروف، لأنهم كانوا أولياءهن، ولم يكن يمنعهم من نكاحهنّ مانع فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ليتخذ حبسها عنها سببا إلى إنكاحها نفسها منه.

القول في تأويل قوله: {وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وأنْ تَقُومُوا لليَتامَى بالقِسْطِ}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ويستفتونك في النساء، قل اللّه يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب، وفي المستضعفين من الولدان، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى، والذي أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت، وأمرهم أن يقسطوا فيهم فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم اللّه لهم في كتابه. كما:

٨٤١٨ـ حدثنا محمد بن السحين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قوله: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ} كانوا لا يورثون جارية ولا غلاما صغيرا، فأمرهم اللّه أن يقوموا لليتامى بالقسط. والقسط: أن يعطى كلّ ذي حقّ منهم حقه، ذكرا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير.

٨٤١٩ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} قال: لا تورثونهنّ مالاً، {وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} قال: فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث، ونسخت المواريث ذلك الأوّل.

٨٤٢٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} أمروا لليتامى بالقسط: بالعدل.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٤٢١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن السديّ، عن أبي مالك: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الِولْدَانِ وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} قال: كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر.

٨٤٢٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدانِ} فكانوا في الجاهلية لا يورّثون الصغار ولا البنات، فذلك قوله: {لا تُؤْتُوَنَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} فنهى اللّه عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه،

فقال: {للذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَيينِ} صغيرا كان أو كبيرا.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: {والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ، وأنْ تَقُومُوا للْيَتامَى بالقِسْطِ} وذلك أنهم كانوا لا يورّثون الصغير والضعيف، شيئا، فأمر اللّه أن يعطيه نصيبه من الميراث.

٨٤٢٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليّ اليتيمة فإن كانت حسنة غنية قال له عمر: زوّجها غيرك، والتمس لها مَن هو خير منك! وإذا كانت بها دَمامة ولا مال لها، قال: تزوّجها فأنت أحقّ بها!.

٨٤٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب،

فقال: يا أمير المؤمنين ما أمري، وما أمر يتيمتي؟ قال: في أيّ بالُكما؟ قال: ثم قال علي: أمتزوّجها أنت غنية جميلة؟ قال: نعم والإلهِ! قال: فتزوّجها دميمة لا مال لها! ثم قال عليّ: تزوّجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير.

قال أبو جعفر: فقيامهم لليتامي بالقسط كان العدل فيما أمر اللّه فيهم.

القول في تأويل قوله: {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنّ اللّه كانَ بِهِ عَلِيما}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومهما يكن منكم أيها المؤمنون من عدل في أموال اليتامى التي أمركم اللّه أن تقوموا فيهم بالقسط، والانتهاء إلى أمر اللّه في ذلك، وفي غيره، وإلى طاعته، فإن اللّه كان به عليما لم يزل عالما بما هو كائن منكم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حافظ له، حتى يجازيَكم به جزاءكم يوم القيامة.

١٢٨

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها}

يقول: علمت من زوجها {نُشُوزا} يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أَثَرَة عليها، وارتفاعا بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنها وكِبَرها، أو غير ذلك من أمورها. {أوْ إعْرَاضا} يعني: انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه، التي كانت لها منه {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} يقول فلا حرج عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضَه عنها، أن يصلحا بينهما صلحا، وهو أن تترك له يومها، أو تضع عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه، تستعطفه بذلك، وتستديم المُقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح،

يقول: {والصّلْحُ خَيْرٌ} يعني: والصلح بترك بعض الحقّ استدامة للحرمة، وتماسكا بعقد النكاح، خير من طلب الفرقة والطلاق.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٤٢٥ـ حدثنا هنّاد بن السريّ، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عُرْعُرة: أن رجلاً أتى عليا رضي اللّه عنه يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا،

فقال: قد تكون المرأة عند الرجل، فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو فقرها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حلّ له، وإن جعلت له من أيامها شيئا فلا حرج.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن خالد، عن عُرْعرة، قال: سئل عليّ رضي اللّه عنه: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} قال: المرأة الكبيرة أو الدميمة أو لا يحبها زوجها فيصطلحان.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص، كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عُرْعرة، عن عليّ رضي اللّه عنه بنحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي عن إسرائيل، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلاً سأل عليّا رضي اللّه عنه عن قوله: {فَلاَ جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} قال: تكون المرأة عند الرجل دميمة فتنبو عينه من دمامتها أو كبرها، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئا فليس عليه جناح.

٨٤٢٦ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال: جاء رجل إلى عمر، فسأله عن آية، فكره ذلك وضربه بالدرّة، فسأله آخر عن هذه الاَية: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} فقال: عن مثل هذا فسلوا! ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سِنّها، فيتزوّج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.

٨٤٢٧ـ حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر، فيريد أن يتزوّج عليها، فيتصالحا بينهما صلحا، عن أن لها يوما ولهذه يومان أو ثلاثة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس بنحوه، إلا أنه قال: حتى تلد أو تكبر، وقال أيضا: فلا جناح عليهما أن يصالحا على ليلة، والأخرى ليلتين.

٨٤٢٨ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها وكبرت، فيريد أن يستبدل بها فتكره أن تفارقه، فيتزوّج عليها، فيصالحا على أن يجعل لها أياما، وللأخرى الأيام والشهر.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يفارقها، فتكره أن يفارقها، ويريد أن يتزوّج، ف

يقول: إني لا أستطيع أن أقسم لكِ بمثل ما أقسم لها، فتصالحه على أن يكون لها في الأيام يوم، فيتراضيان على ذلك، فيكونان على ما اصطلحا عليه.

٨٤٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْرٌ} قالت هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله لا يكون يستكثر منها، ولا يكون لها ولد ولها صحبة، فتقول: لا تطلقني وأنت في حلّ من شأني.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة في قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: هذا الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد عجزت، أو هي دميمة لا يستكثر منها، فتقول: لا تطلقني وأنت في حلّ من شأني.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بنحوه، غير أنه قال: فتقول: أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الاَية في ذلك.

٨٤٣٠ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْراضا} فتلك المرأة تكون عند الرجل لا يرى منها كثير ما يحبّ، وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها، فيؤثرها عليها، فأمره اللّه إذا كان ذلك أن يقول لها: يا هذه إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي، وإن كرهت خليت سبيلك. فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخيرها فلا جناح عليه، وهوقوله: {والصّلْحُ خَيْرٌ} وهو التخيير.

٨٤٣١ـ حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: ثني ابن أبي الزناد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أنزل اللّه هذه الاَية في المرأة إذا دخلت في السنّ، فتجعل يومها لامرأة أخرى، قالت: ففي ذلك أنزلت: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلْحِا بَيْنَهُما صُلْحا}.

٨٤٣٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قول اللّه : {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: هي المرأة تكون مع زوجها، فيريد أن يتزوّج عليها فتصالحه من يومها على صلح

قال: فهما على ما اصطلحا عليه، فإن انتقضت به فعليه أن يعدل عليها أو يفارقها.

٨٤٣٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه كان يقول ذلك.

٨٤٣٤ـ حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن مجاهد أنه كان يقول ذلك.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}.. إلى آخر الاَية، قال: يصالحها على ما رضيت دون حقها، فله ذلك ما رضيت، فإذا أنكرت أو قالت: غرت، فلها أن يعدل عليها أو يرضيها أو يطلقها.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد، قال: سألت عبيدة عن قول اللّه : {وإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: هو الرجل تكون له امرأة قد خلا من سِنها، فتصالحه عن حقها على شيء، فهو له ما رضيت، فإذا كرهت، فلها أن يعدل عليها أو يرضيها من حقها، أو يطلقها.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا} فذكر نحو ذلك، إلا أنه قال: فإن سخطت فله أن يرضيها، أو يوفيها حقها كله، أو يطلقها.

٨٤٣٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: قال إبراهيم: إذا شاءت كانت على حقها، وإن شاءت أبت، فردّت الصلح فذاك بيدها، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها على حقها.

٨٤٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلْيِهما} قال: قال عليّ: تكون المرأة عند الرجل الزمان الكثير، فتخاف أن يطلقها، فتصالحه على صلح ما شاء وشاءت، يبيت عندها في كذا وكذا ليلة، وعند أخرى ما تراضيا عليه، وأن تكون نفقتها دون ما كانت¹ وما صالحته عليه من شيء فهو جائز.

٨٤٣٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيـى بن عبد الملك، عن أبيه، عن الحكم: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يخلي سبيلها، فإذا خافت ذلك منه فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، تدع من أيامها إذا تزوّج.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {وَإن امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}.. إلى قوله: {وَالصّلْحُ خَيْرٌ} هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فينكح عليها المرأة الشابة، فيكره أن يفارق أم ولده، فيصالحها على عطية من ماله ونفسه، فيطيب له ذلك الصلح.

٨٤٣٨ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ منْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} فقرأ حتى بلغ {فإنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيرا} وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خلا من سِنها وهان عليه بعض أمرها، ف

يقول: إن كنتِ راضية من نفسي ومالي بدون ما كنت ترضين به قبل اليوم، فإن اصطلحا من ذلك على أمر اللّه فقد أحلّ لهما ذلك، وإن أبت فإنه لا يصلح له أنْ يحبسها على الخَسْف.

٨٤٣٩ـ حُدثت عن الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أن رافع بن خديج كان تحته امرأة قد خلا من سنّها، فتزوّج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت امرأته الأولى أن تقيم على ذلك، فطلقها تطليقة، حتى إذا بقي من أجلها يسير، قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك. قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة! فراجعها. ثم آثر عليها فلم تصبر على الأثرة فطلقها أخرى، وآثر عليها الشابة

قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن اللّه أنزل فيه: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلحا بَيْنَهُما صُلْحا}. قال الحسن: قال عبد الرزاق: قال معمر: وأخبرني أيوب عن ابن سيرين، عن عبيدة بمثل حديث الزهري، وزاد فيه، فإن أضرّ بها الثالثة فإن عليه أن يوفيها حقها، أو يطلقها.

٨٤٤٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: قول الرجل لامرأته: أنت كبيرة، وأنا أريد أن أستبدل امرأة شابة وضيئة، فقرّي على ولدك، فلا أقسم لك من نفسي شيئا. فذلك الصلح بينهما، وهو أبو السنابل بن بعكك.

٨٤٤١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح: {مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} ثم ذكر نحوه، قال شبل: فقلت له: فإن كانت لك امرأة فتقسم لها، ولم تقسم لهذه؟ قال: إذا صالحته على ذلك فليس عليه شيء.

٨٤٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جبار، قال: سألت عامرا عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها فتقول: لا تطلقني، واقسم لي يوما، وللتي تزوّج يومين! قال: لا بأس به هو صلح.

٨٤٤٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا والصّلْحُ خَيْرٌ} قال: المرأة ترى من زوجها بعض الجفاء وتكون قد كبرت، أو لا تلد، فيريد زوجها أن ينكح غيرها فيأتيها، ف

يقول: إني أريد أن أنكح امرأة شابة أنسب منك، لعلها أن تلد لي وأوثرها في الأيام والنفقة. فإن رضيت بذلك وإلا طلقها، فيصطلحان على ما أحبّا.

٨٤٤٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قال: نشوزا عنها، عَرِضَ بها الرجل تكون له المرأتان ـ أو إعراضا بتركها {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُمَا صُلْحا} إما أن يرضيها فتحللها، وإما أن ترضيه فتعطفه على نفسها.

٨٤٤٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} يعني: البغض.

٨٤٤٦ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} فهو الجرل تكون تحته المرأة الكبيرة، فيتزوّج عليها المرأة الشابة، فيميل إليها، وتكون أعجب إليه من الكبيرة، فيصالح الكبيرة على أن يعطيها من ماله، ويقسم لها من نفسه نصيبا معلوما.

٨٤٤٧ـ حدثنا عمرو بن عليّ وزيد بن أخرم، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني على نسائك، ولا تقسم لي! ففعل، فنزلت: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}.

واختلفت القراء في قراءة قوله: (أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحا) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحا، ثم أدغمت التاء في الصاد فصيرتا صادا مشددة. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: {أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا} بضم الياء وتخفيف الصاد، بمعنى: اصلح الزوج والمرأة بينها. وأعجب القراءتين في ذلك إليّ، قراءة من قرأ: (إلاّ أنْ يَصّالَحا بَيْنَهُما صُلْحا). بفتح الياء وتشديد الصاد، بمعنى: يتصالحا، لأن التصالح في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى وأفصح وأكثر على ألسن العرب من الإصلاح، والإصلاح في خلاف الإفساد أشهر منه في معنى التصالح. فإن ظنّ ظانّ أن في قوله: {صُلْحا} دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك: {يُصْلِحا} بضمّ الياء أولى بالصواب، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أن الصلح اسم وليس بفعل فيتسدلّ به على أولى القراءتين بالصواب في قوله: {يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا}.

القول في تأويل قوله تعالى: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ وإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشحّ على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهن. ذكر من قال ذلك:

٨٤٤٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: نصيبها منها.

٨٤٤٩ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يمان، قالا: جميعا حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: في الأيام.

٨٤٥٠ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: {وأُحْضِرتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: في الأيام والنفقة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن مهدي وابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: في النفقة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا رَوْح، عن ابن جريج، عن عطاء قال: في النفقة.

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: في الأيام.

٨٤٥١ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية: {وأحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: نفس المرأة على نصيبها من زوجها من نفسه وماله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بمثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يمان عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير: في النفقة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن مهديّ، عن سفيان، عن الشيبانيّ، عن بكير بن الأخنس، عن سعيد بن جبير، قال: في الأيام والنفقة.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن مهديّ، عن سفيان، عن الشيبانيّ، عن سعيد بن جبير، قال: في الأيام والنفقة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: المرأة تِشحّ على مال زوجها ونفسه.

٨٤٥٢ـ حدثنا المثنى، قال: أخبرنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: جاءت المرأة حين نزلت هذه الاَية: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا} قالت: إني أريد أن تقسم لي من نفسك! وقد كانت رضيت أن يدعها فلا يطلقها ولا يأتيها¹ فأنزل اللّه : {وأُحْضِرَتِ الأنُفسُ الشّحّ}.

٨٤٥٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} قال: تطلع نفسها إلى زوجها وإلى نفقته

قال: وزعم أنها نزلت في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفي سدوة بنت زمعة كانت قد كبرت، فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يطلقها، فاصطلحا على أن يمسكها ويجعل يومها لعائشة، فشحت بمكانها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشحّ بحقه قبَل صاحبه. ذكر من قال ذلك:

٨٤٥٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: {وأُحْضِرَتِ الأنُفسُ الشّحّ} قال: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطفه عليها.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بذلك: أحضرت أنفس النساء الشحّ بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة. والشحّ: الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع: إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.

فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءهن من فرط الحرص على حقوقهنّ من أزواجهنّ، والشحّ بذلك على ضرائرهن.

وبنحو ما قلنا في معنى الشحّ، ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول.

٨٤٥٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} والشحّ: هواه في الشيء يحرص عليه.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من قول من قال: عني بذلك: وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشحّ، على ما قاله ابن زيد، لأن مصالحة الرجل امرأته باعطائه إياها من ماله جعلاً على أن تصفح له عن القسم لها غير جائزة، وذلك أنه غير معتاض عوضا من جعله الذي بذله لها، والجعل لا يصحّ إلا على عوض: إما عين، وإما منفعة. والرجل متى جَعَل للمرأة جُعْلاً على أن تصفح له عن يومها وليلتها فلم يملك عليها عينا ولا منفعة. وإذا كان ذلك كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال: عني بذلك: الرجل والمرأة. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك إذ كان حقا للمرأة، ولها المطالبة به، فللرجل افتداؤه منها بجعل، فإن شفعة المستشفع في حصة من دار اشتراها رل من شريك له فيها حقّ، له المطالبة بها، فقد يجب أن يكون للمطلوب افتداء ذلك منه بجعل، وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عوض غير جائز، إذ كان غير معتاض منه المطلوب في الشفعة عينا ولا نفعا، ما يدلّ على بطول صلح الرجل امرأته على عوض، على أن تصفح عن مطالبتها إياه بالقسمة لها. وإذ فسد ذلك صحّ أن تأويل الاَية ما قلنا. وقد أبان الخبر الذي تركناه عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، أن قوله: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}.. الاَية، نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوّج عليها شابة، فآثر الشابة عليها، فأبت الكبيرة أن تقرّ على الأثرة، فطلقها تطليقة وتركها، فلما قارب انقضاء عدتها، خيرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة، فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة، فراجعها وآثر عليها، فلم تصبر فطلقها. ففي ذلك دليل واضح على أن قوله: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشّحّ} إنما عني به: وأحضرت أنفس النساء الشحّ بحقوقهنّ من أزواجهن على ما وصفنا.

وأما قوله: {وَإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقُوا} فإنه يعني: وإن تحسنوا أيها الرجال في أفعالكم إلى نسائكم إذا كرهتم منهنّ دمامة أو خُلُقا، أو بعض ما تكرهون منهنّ بالصبر عليهنّ، وأيفائهنّ حقوقهنّ، وعشرتهنّ بالمعروف {وتَتّقُوا}

يقول: وتتقوا اللّه فيهنّ بترك الجور منكم عليهنّ فيما يجب لمن كرهتموه منهنّ عليكم من القسمة له والنفقة والعشرة بالمعروف. {فإنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}

يقول: فإن اللّه كان بما تعلمون في أمور نسائكم أيها الرجال من الإحسان إليهنّ، والعشرة بالمعروف، والجور عليهنّ فيما يلزمكم لهنّ ويجب {خَبِيرا} يعني عالما خابرا، لا يخفي عليه منه شيء، بل هو به عالم، وله محص عليكم، حتى يوفيكم جزاء ذلك المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

١٢٩

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ}: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسوّوا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، مما لا تملكونه. وليس إليكم. {وَلَوْ حَرَصْتُمْ}

يقول: ولو حرصتم في تسويتكم بينهنّ في ذلك. كما:

٨٤٥٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوح حَرَصْتُمْ} قال: واجب أن لا تستطيعوا العدل بينهن.

{فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ}

يقول: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهنّ كلّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم من حقّ في القسم لهنّ، والنفقة عليهنْ، والعشرة بالمعروف. {فَتَذَرُها كالمُعَلّقَةِ}

يقول: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها كالمعلقة، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ما قلنا في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوح حَرَصْتُمْ}:

٨٤٥٧ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءه وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال: بنفسه في الحبّ والجماع.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال بنفسه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن أشعث، وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: سألته عن قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فقال: في الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة،قال: في الحبّ والجماع.

٨٤٥٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل، عن عمرو، عن الحسن: في الحبّ.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: في الحبّ والجماع.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال: في المودة، كأنه يعني الحبّ.

٨٤٥٩ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}

يقول: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهنّ ولو حرصت.

٨٤٦٠ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان

يقول: اللهمّ أما قلبي فلا أملك، وأما سوى ذلك فأرجو أن أعدل.

٨٤٦١ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} يعني: في الحبّ والجماع.

٨٤٦٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم

يقول: (اللّه مّ هَذَا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ).

٨٤٦٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حسين بن عليّ، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الاَية في عائشة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ}.

٨٤٦٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: في الشهوة والجماع.

حدثنا ابن وكيع، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: في الجماع.

٨٤٦٥ـ حدثنا عليّ بن سهل، قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، قال: قال سفيان في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال: في الحبّ والجماع.

٨٤٦٦ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} قال: ما يكون من بدنه وقلبه، فذلك شيء لا يستطيع يملكه.

ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل}:

٨٤٦٧ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد، قال: قلت لعبيدة: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ} قال: بنفسه.

حدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، مثله.

٨٤٦٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ} قال هشام: أظنه قال: في الحبّ والجماع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله: {كُلّ المَيْلِ} قال: بنفسه.

حدثنا بحر بن نصر الخولاني، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: أخبرنا الأوزاعي، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قول اللّه : {فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ} قال: بنفسه.

٨٤٦٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ} قال: في الغشيان والقسم.

٨٤٧٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ}: لا تَعَمّدوا الإساءة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن مجاهد: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ} قال: يتعمد أن يسيء ويظلم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

٨٤٧١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل} قال: هذا في العمل في مبيته عندها، وفيما تصيب من خيره.

٨٤٧٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل}

يقول: يميل عليها فلا ينفق عليها، ولا يقسم لها يوما.

٨٤٧٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل} قال: يتعمد الإساءة،

يقول: لا تميلوا كل الميل، قال: بلغني أنه الجماع.

٨٤٧٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل و

يقول: (اللّه مّ هَذهِ قِسْمَتِي فِيما أمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد اللّه بن يزيد، عن عائشة، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، بمثله.

٨٤٧٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن همام بن يحيـى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال: (مَنْ كانَتْ لَهُ امْرأتانِ يَمِيلُ مَعَ إحْدَاهُمَا على الأُخْرَى جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ أحَدُ شِقّيْهِ ساقِطٌ).

ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ}:

٨٤٧٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} قال: تذروها لا هي أيّم، ولا ذات زوج.

٨٤٧٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيـى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} قال: لا أيما ولا ذات بعل.

٨٤٧٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن¹ {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} قال: لا مطلقة، ولا ذات بعل.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، مثله.

٨٤٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ}: أي كالمحبوسة أو كالمسجونة.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} قال: كالمسجونة.

٨٤٨٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ}

يقول: لا مطلقة، ولا ذات بعل.

حدثني المثنى، قال: ثني إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} لا مطلقة، ولا ذات بعل.

٨٤٨١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني عن مجاهد: {فَتَذَرُها كالمُعَلّقَةِ} قال: لا أيما، ولا ذات بعل.

٨٤٨٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} ليس بأيم، ولا ذات زوج.

٨٤٨٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: لا تدعها، كأنها ليس لها زوج.

٨٤٨٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقةِ} قال: لا أيّما، ولا ذات بعل.

٨٤٨٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} قال: المعلقة: التي ليست بمخلاّة ونفسها فتبتغي لها، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها، لا هي عند زوجها ولا مفارقة فتبتغي لنفسها، فتلك المعلقة.

قال أبو جعفر: وإنما أمر اللّه جل ثناؤه بقوله: {فَلا تَميلُوا كُلّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهنّ من القسمة بينهنّ والنفقة، وترك الجور في ذلك بإيثار أحداهنّ على الأخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن، مما في القلوب من المحبة والهوى.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ تُصْلِحُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن تصلحوا أعمالكم أيها الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم وما فرض اللّه لهنّ عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك. {وتَتّقُوا}

يقول: وتتقوا اللّه في الميل الذي نهاكم عنه، بأن تميلوا لإحداهنّ على الأخرى، فتظلموها حقها مما أوجبها اللّه له عليكم. {فإنّ اللّه كانَ غَفُورا}

يقول: فإن اللّه يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهنّ قبل ذلك بتركه عقوبتكم عليه، ويغطي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل. {رَحِيما}

يقول: وكان رحيما بكم إذا تاب عليكم، فقبل توبتكم من الذي سلف منكم من جورتكم في ذلك عليهنّ، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن، بصفحهن عن حقوقهنّ لكم من القسم على أن يطلقن.

١٣٠

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّه كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّه وَاسِعاً حَكِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن أبت المرأة التي قد نشز عليها زوجها، أو أعرض عنها بالميل منها إلى ضرتها لجمالها أو شبابها، أو غير ذلك مما تميل النفوس به إليها الصلح، لصفحها لزوجها عن يومها وليلتها، وطلبت حقها منه من القسم والنفقة وما أوجب اللّه لها عليه، وأبي الزوج الأخذ عليها بالإحسان الذي ندبه اللّه إليه بقوله: {وَإنْ تُحْسِنُوا وَتَتّقوا فإنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} وإلحاقها في القسم لها والنفقة والعشرة بالتي هو إليها، مائل، فتفرّقا بطلاق الزواج إياها {يُغْنِ اللّه كُلاّ مِنْ سَعَتِهِ} يقول يغن اللّه الزوج والمرأة المطلقة من سعة فضله، أما هذه فبزوج هو أصلح لها من المطلق الأوّل، أو برزق واسع وعصمة وأما هذا فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة أو عفة. {وكانَ اللّه وَاسِعا} يعني: وكان اللّه واسعا لهما في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه. {حَكِيما} فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الاَيات وغيرها وفي غير ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٤٨٦ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {وَإنْ يَتَفَرّقا يُغْنِ اللّه كُلاّ مِنْ سَعَتِهِ} قال: الطلاق يغني اللّه كلاّ من سعته.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٣١

القول في تأويل قوله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته السموات السبع والأرضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه بعقب ذلك قوله: {وَإنْ يَتَفَرّقا يُغْن اللّه كُلاّ مِنْ سَعَته} تنبيها منه خلقه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجته، وتذكيرا منه له أنه الذي له الأشياء كلها وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذّر عليه أن يغنيه، وكل ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كل ذي وحشة. ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعي في أمر بني أبيرق وتوبيخهم ووعيد من فعل ما فعل المرتدّ منهم،

فقال: {وَلَقَدْ وَصّيْنا الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإيّاكُمْ}

يقول: ولقد أمرنا أهل الكتاب وهم أهل التوراة والإنجيل وإياكم،

يقول: وأمرناكم وقلنا لكم ولهم: {اتّقُو اللّه }

يقول: احذروا أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه، {وإنْ تَكْفُرُوا}

يقول: وإن تجحدوا وصيته إياكم أيها المؤمنون فتخالفوها، {فإنّ لِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ}

يقول: فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم وحلول غضبه عليكم كما حلّ بهم، إذ بدلوا عهده ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش وأمن السّرْب، وجعل منهم القردة والخنازير¹ وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض لا يمتنع عليه شيء أراده بجميعه وبشيء منه من إعزاز من أراد إعزازه وإذلال من أراد إذلاله وغير ذلك من الأمور كلها، لأن الخلق خلقه بهم إليه الفاقة والحاجة، وبه قوامهم وبقاؤهم وهلاكهم وفناؤهم، وهو الغنيّ الذي لا حاجة تحلّ به إلى شيء ولا فاقة تنزل به تضطره إليكم أيها الناس ولا إلى غيركم، والحميد الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمد بصنائعه الحميدة إليكم وآلائه الجميلة لديكم، فاستديموا ذلك يها الناس باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه. كما:

٨٤٨٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن هاشم، قال: أخبرنا سيف، عن أبي روق عن عليّ رضي اللّه عنه: {وكانَ اللّه غَنِيّا حَميدا} قال: غنيّا عن خلقه {حَمِيدا} قال: مستحمدا إليهم.

١٣٢

القول في تأويل قوله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّه وَكِيلاً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته السموات والأرض، وهم القيم بجميعه، والحافظ لذلك كله، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يئوده حفظه وتدبيره. كما:

٨٤٨٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: {وكَفَى باللّه وَكيلاً} قال: حفيظا.

فإن قال قائل: وما وجه تكرار قوله: {ولِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وما فِي الأرْضِ} في آيتين إحداهما في إثر الأخرى؟ قيل: كرّر ذلك لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في الاَيتين، وذلك أن الخبر عنه في إحدى الاَيتين ذكر حاجته إلى بارئه وغنى بارئه عنه، وفي الأخرى حفظ بارئه إياه به وعلمه به وتدبيره.

فإن قال: أفلا قيل: وكان اللّه غنيا حميدا وكفى باللّه وكيلاً؟ قيل: إن الذي في الاَية التي قال فيها: {وكانَ اللّه غَنِيّا حَمِيدا} مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف اللّه بالغني وأنه محمود ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير، فلذلك كرّر قوله: {ولِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ}.

١٣٣

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيّهَا النّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللّه عَلَىَ ذَلِكَ قَدِيراً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {إنْ يَشَأْ} اللّه أيها الناس {يُذْهِبْكُمْ} أي يذهبكم باهلاككم وإفنائكم. {وَيأْتِ بآخَرِين}

يَقول: ويأت بناس آخرين غيركم، لمؤازرة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم ونصرته. {وكانَ اللّه على ذَلِكَ قَدِيرا}

يقول: وكان اللّه على إهلاككم وإفنائكم، واستبدال آخرين غيركم بكم قديرا، يعني: ذا قدرة على ذلك. وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الاَيات الخائنين الذين خانوا الدرع التي وصفنا شأنها، الذين ذكرهم اللّه في قوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} وحذّر أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، وأن يفعلوا فعل المرتدّ منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين، وعرّفهم أن من فعل فعله منهم فلن يضرّ إلا نفسه ولن يوبق بردّته غير نفسه، لأنه المحتاج مع جميع ما في السموات وما في الأرض إلى اللّه ، واللّه الغنيّ عنهم. ثم توعدهم في قوله: {إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها النّاسُ وَيأْتِ بآخَرينَ} بالهلاك والاستئصال إن هم فعلوا فعل ابن أبيرق طعمة المرتدّ، وباستبدال آخرين غيرهم بهم لنصرة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحبته ومؤازرته على دينه، كما قال في الاَية الأخرى: {وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدْل قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ}.

وقد رُوي عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم أنها لما نزلت، ضرب بيده على ظهر سلمان،

فقال: (هُمْ قَوْمُ هَذَا) يعني عجم الفرس كذلك.

٨٤٨٩ـ حُدثت عن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم.

وقال قتادة في ذلك بما:

٨٤٩٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: {إنْ يشأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها النّاسُ وَيأْتِ بآخَرِينَ وكانَ اللّه على ذَلِكَ قَدِيرا} قادر واللّه ربنا على ذلك، أن يهلك من يشاء من خلقه، ويأتي بآخرين من بعدهم.

١٣٤

القول في تأويل قوله تعالى: {مّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدّنْيَا فَعِندَ اللّه ثَوَابُ الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَكَانَ اللّه سَمِيعاً بَصِيراً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {مَنْ كانَ يُرِيدُ} ممن أظهر الإيمان لمحمد صلى اللّه عليه وسلم من أهل النفاق الذين يستبطنون الكفر وهم مع ذلك يظهرون الإيمان. {ثَوَابَ الدّنيْا} يعني: عرض الدنيا، بإظهار ما أظهر من الإيمان بلسانه. {فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدّنيْا} يعني: جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها، هو ما يصيب من المغنم إذا شهد مع النبيّ مشهدا، وأمنه على نفسه وذرّيته وماله، وما أشبه ذلكوأما ثوابه في الاَخرة فنار جهنم.

فمعنى الاَية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثواب الدنيا وجزاءها من عمله، فإن اللّه مجازيه جزاءه في الدنيا من الدنيا، وجزاءه في الاَخرة من العقاب والنكال وذلك أن اللّه قادر على ذلك كله، وهو مالك جميعه، كما قال في الاَية الأخرى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنيْا وَزِينَتَها نُوَفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَة إلاّ النّارُ وَحبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. وإنما عنى بذلك جل ثناؤه الذين سعوا في أمر بني أبيرق، والذين وصفهم في قوله: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاس وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّنُونَ ما لا يَرْضَى مِنَ القَوْل مِنَ القَوْلِ} ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم.

وقوله: {كانَ اللّه سَمِيعا بَصِيرا} يعني: وكان اللّه سميعا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لقوا المؤمنين وقولهم لهم آمنا. {بَصِيرا}: يعني: وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغشّ والغلّ الذي في صدورهم.

١٣٥

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ...}.

وهذا تقدّمٌ من اللّه تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمر بني أبيرق، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول اللّه لهم: {يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ}

يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني بالعدل. {شُهَدَاءَ لِلّهِ} والشهداء: جمع شهيد، ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله: (قوّامين)، من ذكر الذين آمنوا، ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم. {وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ}

يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا، فإن اللّه الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها. {فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا}

يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم اللّه بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.

فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط، وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ قيل¹ نعم، وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره، فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه.

وهذه الاَية عندي تأديب من اللّه جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح، فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها. إنها نزلت تأديبا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٨٤٩١ـ حدثنا محمد بن حسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} قال: نزلت في النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، واختصم إليه رجلان غنيّ وفقير، وكان ضلعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيّ، فأبي اللّه إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير،

فقال: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أو فَقِيرا فاللّه أوْلَى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا}.. الاَية.

وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من اللّه المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير. ذكر من قال ذلك:

٨٤٩٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: {كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْط شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أو الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ} قال: أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيا لغناه، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته، وذلك قوله: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا فاللّه أوْلى بِهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلوا} فتذروا الحقّ فتجورُوا.

٨٤٩٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة، قال: كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأوّلون في ذلك قول اللّه : {يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّه أوْلى بِهِما}.. الاَية، فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.

٨٤٩٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}.. إلى آخر الاَية، قال: لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة، قال: يقول هذا للشاهد.

٨٤٩٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}.. الاَية، هذا في الشهادة، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو أشراف قومك، فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن اللّه رضي العدل لنفسه والإقساط والعدل ميزان اللّه في الأرض، به يردّ اللّه من الشديد على الضعيف، من الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحقّ، وبالعدل يصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويردّ المعتدي، ويوبخه تعالى ربنا وتبارك، وبالعدل يصلح الناس. يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا، فاللّه أولى بهما،

يقول: أولى بغنيكم وفقيركم

قال: وذكر لنا أن نبيّ اللّه موسى عليه السلام قال: يا ربّ أيّ شيء وضعت في الأرض أقلّ؟ قال: (العدل أقلّ ما وضعت في الأرض، فلا يمنعك غني عنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك عليك من الحق)

وقال جلّ ثناؤه: {فاللّه أوْلى بِهِما}.

 {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا}.. الاَية، أريد: فاللّه أولى بغني الغنيّ وفقر الفقير، لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال (بهما)، ولم يقل (به).

وقال آخرون: إنما قيل (بهما) لأنه قال: {إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا} فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه، وهو مجهول، وإذا كان مجهولاً جاز الردّ عليه بالتوحيد والتثنية والجمع. وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبيّ: (فاللّه أوْلى بِهِمْ).

وقال آخرون: (أو) بمعنى الواو في هذا الموضع.

وقال آخرون: جاز تثنية قوله (بهما)، لأنهما قد ذكرا كما قيل: {ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فِلُكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}. وقيل: جاز لأنه أضمر فيه (مَنْ) كأنه قيل: إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا، بمعنى: غنيين أو فقيرين، فاللّه أولى بهما.

وتأويل قوله {فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا} أي عن الحقّ، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ. ولو وُجّه إلى أن معناه: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها. معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، كما يقال: لا تتبع هواك لترضي ربك، بمعنى: أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: عني: وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الاَخر أو تعرضوا، فإن اللّه كان بما تعملون خبيرا. ووجهوا معنى الاَية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السديّ من قوله: إن الاَية نزلت في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، على ما ذكرنا قبل. ذكر من قال ذلك:

٨٤٩٦ـ حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول اللّه : {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر.

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها، أو تعرضوا عنها فتتركوها. ذكر من قال ذلك:

٨٤٩٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا}

يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ}.. إلى قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا}

يقول: تلوي لسانك بغير الحقّ، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض الترك.

٨٤٩٨ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا}: أي تبدلّوا الشهادة¹ {أوْ تُعْرِضُوا} قال: تكتموها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَإنْ تَلْوُوا} قال: بتبديل الشهادة، والإعراض: كتمانها.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرضُوا} قال: إن تحرّفوا، أو تتركوا.

٨٤٩٩ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} قال: تلجلجوا أو تكتموا¹ وهذا في الشهادة.

٨٥٠٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} أما تلووا: فتلوي للشهادة فتحرّفها حتى لا تقيمها¹ وأما (تعرضوا): فتعرض عنها فتكتمها وتقول: ليس عندي شهادة.

٨٥٠١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَإنْ تَلْوُوا} فتكتموا الشهادة، تلوي: تنقض منها، أو تعرض عنها فتكتمها فتأبي أن تشهد عليه، تقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه فتقول: لا أقيم الشهادة عليه، وتقول: هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قَبِله فلا أشهد عليه، فذلك قوله: {إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا}.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وإنْ تَلْوُوا} تحرّفوا {أوْ تُعْرِضُوا}: تتركوا.

٨٥٠٢ـ حدثنا محمد بن عمارة، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا} قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها، {أوْ تُعْرِضُوا} قال: فتتركوها.

٨٥٠٣ـ حدثنا المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك ، في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} قال: إن تلووا في الشهادة، أن لا تقيموها على وجهها {أوْ تُعْرِضُوا} قال: تكتموا الشهادة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: حدثنا شيبان، عن قتادة أنه كان

يقول: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} يعني: تلجلجوا {أوْ تُعْرِضُوا} قال: تدعها فلا تشهد.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} أما تلووا: فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحقّ، يعني في الشهادة.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله: إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه¹ وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليهوأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لأن اللّه جل ثناؤه قال: {كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ} فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء، وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وَإنْ تَلْوُوا} فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى الكوفة {وَإنْ تَلْوُوا} بواوين من: لو أني الرجل حقي، والقوم يلوونني دَيْني، وذلك إذا مَطَلوه، لَيّا. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة: (وَإنْ تَلُوا) بواو واحدة¹ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها، ثم أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه، وبقيت واو واحدة، كأنه أراد: تلوؤا، ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ: {وَإنْ تَلْوُوا} بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب، وذلك أن الواو الثانية من قوله: {تَلْوُوا} واو جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصحّ همزها ثم حذفها بعد همزها، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة. والوجه الاَخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: إن تلوا، من الولاية، فيكون معناه: وإن تلوا أمور الناس، أو تتركوا. وهذا معنى إذا وجه القارىء قراءته على ما وصفنا إليه، خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتابعون تأويل الاَية. فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: {وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا} بمعنى الليّ: الذي هو مطل، فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها، فتغيروها، وتبدّلوا، أو تعرضوا عنها، فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دين الرجل، فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له، كما قال الأعشى:

يَلْوِينَنِي دَيْنِي النّهارَ وأقْتَضِيدَيْنِي إذا وَقَذَ النُعّاسُ الرّقّدَا

وأما تأويل قوله: {فإنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} فإنه أراد: فإن اللّه كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها، خبيرا، يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء باساءته،

يقول: فاتقوا ربكم في ذلك.

١٣٦

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: بمن قَبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند اللّه . {آمِنُوا باللّه وَرَسُولِهِ}

يقول: صدّقوا بالله، وبمحمد رسوله، أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم. {والكِتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِهِ}

يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله اللّه عليه، وذلك القرآن. {وَالكِتابِ الّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}

يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل اللّه من قبل الكتاب الذي نزّله على محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل.

فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان باللّه ورسوله وكتبه وقد سماهم مؤمنين؟ قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمهم مؤمنين، وإنما وصفهم بأنهم آمنوا، وذلك وصف لهم بخصوص من التصديق، وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذّبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات اللّه عليهما¹ وصنف أهل إنجيل وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذّبون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والفرقان.

فقال جل ثناؤه لهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل، {آمِنُوا باللّه وَرَسُولِهِ} محمد صلى اللّه عليه وسلم، {والكِتابِ الّذِين نَزّلَ على رَسُولِهِ} فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول اللّه تجدون صفته في كتبكم، {وَبالكِتابِ الّذِين أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذّبون، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}.

وأما قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّه وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيجحد نبوّته، فهو يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر، لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه¹ وذلك لأنه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره اللّه بالإيمان به، والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّه وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} بعقب خطابه أهل الكتاب، وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم تهديدا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانية اللّه والملائكة والكتب والرسل واليوم الاَخر سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به من الفرقانوأما قوله: {فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا} فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا، لأن كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين اللّه الذي شرعه لعباده، والخروج عن دين اللّه : الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال.

١٣٧

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }.

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك،

فقال بعضهم: تأويله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا} بموسى {ثُمّ كَفَرُوا} به {ثُمّ آمَنُوا} يعني النصارى بعيسى، {ثُمّ كَفَرُوا} به {ثُمّ ازدادوا كُفُرْا} بمحمد، {لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبيِلاً}. ذكر من قال ذلك:

٨٥٠٤ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَروا ثمّ آمنُوا ثمّ كفَرُوا ثمّ ازْدَادُوا كُفْرا} وهم اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة، ثم كفرت¹ وآمنت النصارى بالإنجيل، ثم كفرت¹ وكفرهم به: تركهم إياه، ثم ازدادوا كفرا بالفرقان وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فقال اللّه : {لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدَيهُمْ سَبِيلاً}

يقول: لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدى، وقد كفروا بكتاب اللّه وبرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم.

٨٥٠٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثمّ كَفَروا} قال: هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة، ثم كفروا. ثم ذكر النصاري، ثم قال: {ثمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا}

يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

وقال آخرون: بل عني بذلك: أهل النفاق أنهم آمنوا ثم ارتدّوا، ثم آمنوا ثم ارتدّوا، ثم ازدادوا كفرا بموتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك:

٨٥٠٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: ثَمّوا على كفرهم حتى ماتوا.

٨٥٠٧ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: ماتوا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: حتى ماتوا.

٨٥٠٨ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا}.. الاَية، قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرّتين، وكفروا مرّتين، ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك.

وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا، فلم تقبل منهم التوبة فيها مع إقامتهم على كفرهم. ذكر من قال ذلك:

٨٥٠٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية: {إنّ الّذِينَ آمنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} قال: هم اليهود والنصارى أذنبوا في شركهم، ثم تابوا فلم تقبل توبتهم، ولو تابوا من الشرك لقبل منهم.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال: عني بذلك أهل الكتاب الذين أقرّوا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذّب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والفرقان، فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.

وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الاَية، لأن الاَية قبلها في قصص أهل الكتابين، أعني قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللّه وَرَسُولِهِ} ولا دلالة تدلّ على أن قوله: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا} منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه بما قبله أَوْلَى حتى تأّي دلالة دالة على انقطاعه منه.

وأما قوله: {لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فإنه يعني: لم يكن اللّه ليستر عليهم كفرهم وذنوبهم بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه يفضحهم على رءوس الأشهاد. {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}

يقول: ولم يكن ليسدّدهم لإصابة طريق الحقّ فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها عقوبة لهم على عظيم جرمهم وجراءتهم على ربهم. وقد ذهب قوم إلى أن المرتدّ يستتاب ثلاثا انتزاعا منهم بهذه الاَية، وخالفهم على ذلك آخرون. ذكر من قال يستتاب ثلاثا:

٨٥١٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبيّ، عن عليّ عليه السلام، قال: إن كنت لمستتيب المرتدّ ثلاثا. ثم قرأ هذه الاَية: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا}.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن عليّ رضي اللّه عنه: يستتاب المرتدّ ثلاثا، ثم قرأ: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْداداوا كُفْرا}.

٨٥١١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر، قال: يستتاب المرتدّ ثلاثا.

وقال آخرون: يستتاب كلما ارتدّ. ذكر من قال ذلك:

٨٥١٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم، قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتد.

قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتدّ يستتاب المرة الأولى، الدليل الواضح على أن الحكم كل مرّة ارتدّ فيها عن الإسلام حكم المرّة الأولى في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حقن له دمه¹ لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الأولى ثم يكون دمه مباحا مع وجودها، إلا أن يفرق بين حكم المرّة الأولى وسائر المرّات غيرها ما يجب التسليم له من أصل محكم، فيخرج من حكم القياس حينئذٍ.

١٣٨

القول في تأويل قوله تعالى: {بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {وَبَشّرِ المُنافِقِينَ}: أخبر المنافقين، وقد بينا معنى التبشير فيما مضى بما أغني عن إعادته. {بأنّ لَهُمْ عَذَابا أليما} يعني: بأن لهم يوم القيامة من اللّه على نفاقهم، عذابا أليما، وهو الموجع، وذلك عذاب جهنم.

١٣٩

القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَتّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ ...}.

أما قوله جلّ ثناؤه: {الّذِينَ يَتّخذُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ} فمن صفة المنافقين. يقول اللّه لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء: يعني أنصارا وأخلاء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العزّةَ}

يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوّة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي. {فإنّ العِزّةِ لِلّهِ جَميعا}

يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزّة عندهم، هم الأذلاء الأقلاّء، فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند اللّه ، الذي له العزّة والمنعة، الذي يعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء فيعزّهم ويمنعهم؟ وأصل العزّة: الشدّة¹ ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة: عزاز، وقيل: قد اسْتِعزّ على المريض: إذا اشتدّ مرضه وكاد يُشْفِي، ويقال: تعزّز اللحم: إذا اشتدّ¹ ومنه قيل: عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا، بمعنى: اشتدّ عليّ.

١٤٠

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ...}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: بشر المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. {وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتابِ}

يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن. {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّه يُكْفَرُ بِها، وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيِرِه} يعني: بعد ما علموا نهى اللّه عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج اللّه وآي كتابه، ويستهزئون بها، {حَتّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْرِهِ} يعني بقوله: {يَخُوضوا}: يتحدّثوا حديثا غيره بأن لهم عذابا أليماوقوله: {إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ} يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات اللّه ، ويستهزىء بها وأنتم تسمعون فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم اللّه بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات اللّه ، فقد أتيتم من معصية اللّه نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية اللّه ، وإتيانكم ما نهاكم اللّه عنه. وفي هذه الاَية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كلّ نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم.

وبنحو ذلك كان جماعة من الأمة الماضية يقولون تأوّلاً منهم هذه الاَية، إنه مراد بها النهي عن مشاهدة كلّ باطل عند خوض أهله فيه. ذكر من قال ذلك:

٨٥١٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل، قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه، فيسخط اللّه عليهم

قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي،

فقال: صدق أبو وائل! أو ليس ذلك في كتاب اللّه : {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّه يُكفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.

٨٥١٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة، قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب، فضربهم وفيهم صائم،

فقالوا: إن هذا صائم! فتلا: {فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتى يَخُوضوا فِي حَدِيثٍ غيرِه إنّكُمْ إذا مِثْلُهُمْ}.

٨٥١٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آياتِ اللّه يُكْفَرُ بِها ويُسْتَهْزَأُ بِها} وقول: {وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}،

وقوله: {أقِيمُوا الدّينَ ولا تَتَفَرّقُوا فِيهِ}، ونحو هذا من القرآن، قال: أمر اللّه المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين اللّه .

وقوله: {إنّ اللّه جَامِعُ المُنافقينَ وَالكافرينَ فِي جَهَنّمَ}

يقول: إن اللّه جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين وتوازروا على التخذيل عن دين اللّه وعن الذي ارتضاه وأمر به أهله.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ) فقرأ ذلك عامة القرّاء بضمّ النون وتثقيل الزاي وتشديدها على وجه ما لم يسم فاعله. وقرأ بعض الكوفين بفتح النون وتشديد الزاي على معنى: وقد نزّل اللّه عليكم. وقرأ ذلك بعض المكيين: (وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْكُمْ) بفتح النون وتخفيف الزاي، بمعنى: وقد جاءكم من اللّه أن إذا سمعتم.

قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاثة وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام، غير أن الذي أختار القراءة به قراءة من قرأ: (وَقَدْ نُزّلَ) بضمّ النون وتشديد الزاي، على وجه ما لم يسمّ فاعله¹ لأن معنى الكلام فيه: التقديم على ما وصلت قبل، على معنى الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين¹ (وَقَدْ نُزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ أنْ إذَا سَمعْتُمْ آياتِ اللّه يُكْفَرُ بِها)... إلى قوله: {حَدِيثٍ غَيْرِه} {أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزّةَ}. فقوله: {فإنّ العِزّةَ للّهِ جَميعا} يعني التأخير، فلذلك كان ضمّ النون من قوله: (نُزّلَ) أصوب عندنا في هذا الموضع. وكذا اختلفوا في قراءة قوله: {والكتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِه والكِتابِ الّذِي أنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} فقرأه بفتح (وأنْزَلَ) أكثر القراء، بمعنى: والكتاب الذي نزّل اللّه على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة بضمه في الحرفين كلاهما، بمعنى: ما لم يسمّ فاعله. وهما متقاربتا المعنى، غير أن الفتح في ذلك أعجب إليّ من الضمّ، لأن ذكر اللّه قد جرى قبل ذلك في قوله: {آمِنُوا باللّه وَرَسُولِهِ}.

١٤١

القول في تأويل قوله تعالى: {الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ} الّذينَ ينتظرون أيها المؤمنون بكم. {فإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه } يعني: فإن فتح اللّه عليكم فتحا من عدوّكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم. {قَالُوا} لكم {ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم. {وَإنْ كانَ للكافرينَ نَصيبٌ} يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم بإصابتهم منكم. {قالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين: {ألَمْ نسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا. {فاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ} يعني: فاللّه يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه. {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} يعني: حجة يوم القيامة، وذلك وعد من اللّه المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة ولا المؤمنين مدخل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة، بأن يقولوا لهم: أن ادخلوا مدخلهم، ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار فيجمع بينكم وبين أوليائنا، فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو السبيل الذي وعد اللّه المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٥١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: {فإنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه } قال: المنافقون يتربصون بالمسلمين، فإن كان لكم فتح قال: إن أصاب المسلمون من عدوّهم غنيمة، قال المنافقون: ألم نكن معكم؟ قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون! وإن كان للكافرين نصيب يصيبونه من المسلمين، قال المنافقون للكافرين: ألم نستحوذ عليكم، ونمنعكم من المؤمنين؟ قد كنا نثبطهم عنكم!.

واختلف أهل التأويل في تأول قوله: {ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}

فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم. ذكر من قال ذلك:

٨٥١٧ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: {ألَمْ نَسْتْحْوِذْ عَلَيْكُمْ} قال: نغلب عليكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه. ذكر من قال ذلك:

٨٥١٨ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه.

قال أبو جعفر: وهذان القولان متقاربا المعنى، وذلك أن من تأوّله بمعنى: ألم نبين لكم إنما أراد إن شاء اللّه ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنّا معكم. وأصل الاستحواذ في كلام العرب فيما بلغنا الغلبة، ومنه قول اللّه جلّ ثناؤه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّه } بمعنى غلب عليهم، يقال منه: حاذ عليه، واستحاذ يحيذ ويستحيذ، وأحاذ يحيذ. ومن لغة من قال حاذ، قول العجاج في صفة ثور وكلب:

يَحُـوذُهُـنّ وَلَـهُ حُـوذِيّ

وقد أنشد بعضهم:

يَحُـوزهُـنّ وَلَـهُ حُـوزِي

وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال أحاذ، قول لبيد في صفة عَيْر وأُتُن:

إذَا اجْتَمَعْتْ وأحوذَ جانِبَيْهاوأوْرَدَها على عُوجٍ طِوَالِ

يعني بقوله: وأحوذ جانبيها: غلبها وقهرها حتى حاذ كلا جانبيه فلم يشذّ منها شيء. وكان القياس في قوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ} أن يأتي استحاذ عليهم، لأن الواو إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن، جعلت العرب حركتها في فاء الفعل قبلها، وحوّلوها ألفا متبعة حركة ما قبلها، كقولهم: استحال هذا الشيء عما كان عليه من حال يحول، واستنار فلان بنور اللّه من النور، واستعاذ باللّه من عاذ يعوذ. وربما تركوا ذلك على أصله، كما قال لبيد: (وأحوذ)، ولم يقل: (وأحاذ)، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ}.

وأما قوله: {فاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً} فلا خلاف بينهم في أن معناه: ولن يجعل اللّه للكافرين يومئذٍ على المؤمنين سبيلاً. ذكر الخبر عمن قال ذلك:

٨٥١٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ذرّ، عن يُشَيْع الحضرميّ، قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قول اللّه : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ: ادنه! ثم قال: {فاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} يوم القيامة.

حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوريّ، عن الأعمش، عن ذرّ، عن يُسَيْع الكندي في قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب،

فقال: كيف هذه الاَية: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً}؟ فقال عليّ: ادنه! {فاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه } يوم القيامة {للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن ذرّ، عن بُسَيْع الحضرميّ، عن عليّ بنحوه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، قال: سمعت سليمان يحدّث عن ذرّ، عن رجل، عن عليّ رضي اللّه عنه أنه قال في هذه الاَية: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً} قال: في الاَخرة.

٨٥٢٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن السديّ، عن أبي مالك: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً} يوم القيامة.

٨٥٢١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} قال: ذاك يوم القيامة.

وأما السبيل في هذا الموضع فالحجة. كما:

٨٥٢٢ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ في قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه للكافِرِينَ على المُؤمِنِينَ سَبِيلاً} قال: حجة.

١٤٢

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّه ... }.

قد دللنا فيما مضى قبل على معنى خداع المنافق ربه ووجه خداع اللّه إياهم، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع، مع اختلاف المختلفين في ذلك.

فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون اللّه باحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم، واللّه خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم، واعتقادهم الكفر، استدراجا منه لهم في الدنيا حتى يلقوه في الاَخرة، فيوردهم بما استنبطنوا من الكفر نار جهنم. كما:

٨٥٢٣ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّه وَهُوَ خادِعُهُمْ} قال: يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بالسور.

٨٥٢٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: {إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّه وَهُوَ خادِعُهُمْ} قال: نزلت في عبد اللّه بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان، وفي المنافقين¹ يخادعون اللّه وهو خادعهم، قال: مثل قوله في البقرة: {يُخادِعُونَ اللّه وَالّذِينَ آمَنُوا وَما يُخادِعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ}

قال: وأما قوله: {وَهُوَ خادِعُهُمْ} ف

يقول: في النور الذي يعطي المنافقون مع المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور سلب، وما ذكرا لله من قوله: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} قال: قوله: {وَهُوَ خادِعُهُمْ}.

٨٥٢٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن، أنه كان إذا قرأ: {إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّه وَهُوَ خادِعُهُمْ} قال: يُلْقَى على كلّ مؤمن ومنافق نور يمشون به، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين، ومضي المؤمنين بنورهم، فينادونهم: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}.. إلى قوله: {وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ} قال الحسن: فتلك خديعة اللّه إياهم.

وأما قوله: {وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النّاسَ} فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها اللّه على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى اللّه ، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة، قاموا كسالى إليها، رياءً للمؤمنين، ليحسبوهم منهم وليسوا منهم¹ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالي. كما:

٨٥٢٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى} قال: واللّه لولا الناس ما صلى المنافق ولا يصلي إلا رياء وسمعة.

٨٥٢٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى يُرَاءونَ النّاسَ} قال: هم المنافقون، لولا الرياء ما صلوا.

وأما قوله: {وَلا يَذْكُرونَ اللّه إلاّ قَلِيلاً} فلعلّ قائلاً أن

يقول: وهل من ذكر اللّه شيء قليل؟ قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، إنما معناه: ولا يذكرون اللّه إلا ذكرا رياء، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد اللّه مخلص له الربوبية، فلذلك سماه اللّه قليلاً، لأنه غير مقصود به اللّه ولا مُبْتَغَي به التقرّب إلى اللّه ، ولا مرادا به ثواب اللّه ، وما عنده فهو وإن كثر من وجه نَصَب عامله، وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٢٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب، قال: قرأ الحسن: {وَلا يَذْكُرونَ اللّه إلاّ قَلِيلاً} قال: إنما قلّ لأنه كان لغير اللّه .

٨٥٢٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وَلا يَذْكُرونَ اللّه إلاّ قَلِيلاً} قال: إنما قلّ ذكر المنافق لأن اللّه لم يقبله، وكلّ ما ردّ اللّه قليل وكلّ ما قبل اللّه كثير.

١٤٣

القول في تأويل قوله تعالى: {مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هَـَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هَـَؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّه فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {مُذَبْذَبِينَ}: مردّدين، وأصل التذبذب: التحرّك والاضطراب، كما قال، النابغة:

ألَمْ تَرَ أنْ اللّه أعْطَاكَ سُورَةًترَى كُلّ مَلْكٍ دُوَنها يَتَذبْذَبُ

وإنا عنى بذلك: أن المنافقين متحيرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحةٍ فهم لامع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارى بين ذلك، فمثلهم المثل الذي ضرب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذي:

٨٥٣٠ـ حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهبا، قال: حدثنا عبيد اللّه عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَله الشّاةِ العائِرةِ بَيَنَ الغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إلى هَذِهِ مَرّةً وَإلى هَذِهِ مَرّةً، لا تَدْرِي أيّتَهُما تَتْبَعُ).

وحدثنا به محمد بن المثنى مرّة أخرى عن عبد الوهاب، فوقفه على ابن عمر ولم يرفعه، قال: حدثنا عبد الوهاب مرْتين كذلك.

ثني عمران بن بكار، قال: حدثنا أبو روح، قال: حدثنا ابن عباس، قال: حدثنا عبيد اللّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٣١ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ}

يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك، وليسوا بمؤمنين.

٨٥٣٢ـ حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤُلاءِ}

يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك

قال: وذكر لنا أن نبيّ اللّه عليه الصلاة والسلام كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن، ناداه الكافر: أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك! وناداه المؤمن: أن هلمّ إليّ فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردّد بينهما حتى أتي عليه الماء فغرّقه، وإن المنافق لم يزل في شكّ وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك

قال: وذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان

يقول:

(مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ ثاغِيَةٍ بينَ غَنَمَيْنِ رأتْ غَنَما عَلى نَشَزٍ، فَأتَتْها فَلَمْ تُعْرَفْ، ثمّ رأتْ غَنما على نَشَزٍ فَأتَتْها وَشامّتْها فَلَمْ تُعْرَفْ).

٨٥٣٣ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {مُذَبْذَبِينَ} قال: المنافقون.

٨٥٣٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مُذَبْذَبينَ بينَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هُؤلاءِ}

يقول: لا إلى أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم، ولا إلى هؤلاء اليهود.

٨٥٣٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله: {مُذَبْذَبِينَ بينَ ذَلِكَ} قال: لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك.

٨٥٣٦ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {مذَبْذَبِينَ بينَ ذَلكَ}: بين الإسلام والكفر {لا إلى هَؤُلاءِ وَلا إلى هَؤلاءِ}.

وأما قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} فإنه يعني: من يخذ له اللّه عن طريق الرشاد وذلك هو الإلام الذي دعا اللّه إليه عباده،

يقول: من يخذ له اللّه عنه فلم يوفقه له، فلن تجد له يا محمد سبيلاً: يعني طريقا يسلكه إلى الحقّ غيره. وأيّ سبيل يكون له إلى الحقّ غير الإسلام؟ وقد أخبر اللّه جل ثناؤه: أنه من يتبع غيره دينا فلن يُقبل منه، ومن أضله اللّه عنه فقد غوى، فلا هادي له غيره.

١٤٤

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ ...}.

وهذا نهي من اللّه عباده المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه.

يقول لهم جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا باللّه ورسوله، لا توالوا الكفار فتوازروهم من دون أهل ملتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجب له النار من المنافقين.

ثم قال جل ثناؤه متوعدا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين إن هو لم يرتدع عن موالاته وينجر عن مخالته أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى اللّه عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابا أليما: أتريدون أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ممن قد آمن بي وبرسولي أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا،

يقول: حجة باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهل النفاق الذين وصف لكم صفتهم وأخبركم بمحلهم عنده {مُبِينا} يعني: عن صحتها وحقيتها،

يقول: لا تعرضوا لغضب اللّه بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهل الكفر به.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٣٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطانا مُبِينا} قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول عذرا مبينا قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول عذرا مبينا.

٨٥٣٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة، قال: ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة.

٨٥٣٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {سُلْطانا مُبِينا} قال: حجة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

١٤٥

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنع النّارِ}: إن المنافقين في الطبق الأسفل من أطباق جهنم. وكل طبق من أطباق جهنم درّك، وفيه لغتان: درَك بتسكينها، فمن فتح الراء جمعه في القلة أدراك، وإن شاء جمعه في الكثرة الدروك، ومن سكن الراء قال: ثلاثة أدرُك، وللكثير: الدروك. وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة: (فِي الدّرَكِ) بفتح الراء. وقرأته عامة قرّاء الكوفة بتسكين الراء. وهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، لاتفاق معنى ذلك واستفاضة القراءة بكلّ واحدة منهما في قراءة الإسلام. غيرأني رأيت أهل العلم بالعربية يذكرون أن فتح الراء منه في العرب أشهر من تسكينها، وحكموا سماعا منهم: أعطني دَرَكا أصل به حبلي، وذلك إذا سأل ما يصل به حبله الذي قد عجز عن بلوغ الركيّة.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٤٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد اللّه : {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: في توابيت من حديد مبهمة عليهم.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن سلمة، عن خيثمة، عن عبد اللّه قال: إنّ المنافقين في توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار.

٨٥٤١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيـى بن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن ذكوان، عن أبي هريرة: {إنّ المنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: في توابيت تُرْتجُ عليهم.

٨٥٤٢ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} يعني: في أسفل النار.

٨٥٤٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عبد اللّه بن كثير، قوله: {فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: سمعنا أن جهنم أدْراك، منازل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد اللّه : {إنّ المُنافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ} قال: توابيت من نار تطبق عليهم.

وأما قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} فإنه يعني: ولن تجد لهؤلاء المنافقين يا محمد من اللّه إذا جعلهم في الدّرك الأسفل من النار ناصرا ينصرهم منه، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليم عقابه.

١٤٦

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ ...}.

وهذا استثناء من اللّه جل ثناؤه، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا وأخلصوا الدين لله وحده وتبرّءوا من الاَلهة والأنداد، وصدّقوا رسوله، أن يكونوا مع المصرّين على نفاقهم، حتى يوفيهم مناياهم فِي الاَخرة، وأن يدخلوا مداخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يُحلهم مع المؤمنين محلّ الكرامة، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة، ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيل من العطاء،

فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّه المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيما}.

فتأويل الاَية: {إلاّ الّذِينَ تَابُوا} أي راجعوا الحقّ، وأبوا إلا الإقرار بوحدانية اللّه وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه، من نفاقهم. {وأَصْلَحُوا}: يعني وأصلحوا أعمالهم، فعملوا بما أمرهم اللّه به وأدّوا فرائضه، وانتهوا عما نهاهم عنه وانزجروا عن معاصيه. {واعْتَصمُوا بالله}

يقول: وتمسكوا بعهد اللّه . وقد دللنا فيما مضى قبل، على أن الاعتصام: التمسك والتعلق، فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه من طاعته وترك معصيته. {وأخْلَصوا دِينَهُمْ لِلّهِ}

يقول: وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله، فأرادوه بها، ولم يعملوها رئاء الناس ولا على شكّ منهم في دينهم وامتراء منهم، في أن اللّه محصٍ عليهم ما عملوا، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته¹ ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه وجزاء المسيء على إساءته، أو يتفضل عليه ربه فيعفو، متقرّبين بها إلى اللّه مريدين بها وجه اللّه ¹ فذلك معنى إخلاصهم لله دينهم. ثم قال جلّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ}

يقول: فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم باللّه وإخلاصهم له مع المؤمنين في الجنة، لا مع المنافقين الذي ماتوا على نفاقهم، الذي أوعدهم الدّرْكَ الأسفل من النار. ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّه المُؤْمِنِينَ أجْرا عَظِيما}

يقول: وسوف يعطي اللّه هؤلاء الذين هذه صفتهم على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم باللّه وإخلاصهم دينهم له على إيمانهم، ثوابا عظيما، وذلك درجات في الجنة، كما أعطى الذين ماتوا على النفاق منازل في النار، وهي السفلى منها¹ لأن اللّه جل ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك، كما أوعد المنافقين على نفاقهم ما ذكر في كتابه. وهذا القول، هو معنى قول حذيفة بن اليمان الذي:

٨٥٤٤ـ حدثنا به ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال حذيفة: ليدخلنّ الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد اللّه : وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحّى. فلما تفرّقوا مرّ به علقمة فدعاه،

فقال: أما إنّ صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ {إلاّ الّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا باللّه وأخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤتِي اللّه المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيما}.

١٤٧

القول في تأويل قوله تعالى: {مّا يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللّه شَاكِراً عَلِيماً }.

يعني جل ثناؤه بقوله: {ما يَفْعَلُ اللّه بَعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ}: ما يصنع اللّه أيها المنافقون بعذابكم، إن أنتم تبتم إلى اللّه ورجعتم إلى الحقّ الواجب لله عليكم، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادكم، بالإنابة إلى توحيده والاعتصام به، وإخلاصكم أعمالكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم فصدّقتموه وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به.

يقول: لا حاجة باللّه أن يجعلكم في الدرك الأسفل من النار إن أنتم أنبتم إلى طاعته وراجعتم العمل بما أمركم به وترك ما نهاكم عنه¹ لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرّا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه جزاء منه له على جراءته عليه وعلى خلافه أمره ونهيه وكفرانه شكر نعمه عليه. فإن أنتم شكرتم له على نعمة وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعة له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم فلم تبلغه آمالكم. {وكَانَ اللّه شَاكِرا} لكم ولعباده على طاعتهم إياه باجزاله لهم الثواب عليها، وإعظامه لهم العوض منها. {عَلِيما} بما تعملون أيها المنافقون وغيركم من خير وشرّ وصالح وطالح، محصٍ ذلك كله عليكم محيط بجميعه، حتى يجازيكم جزاءكم يوم القيامة، المحسن بإحسانه والمسيء باساءته. وقد:

٨٥٤٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {ما يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنْتُمْ وكانَ اللّه شاكِرا عَلِيما} قال: إن اللّه جل ثناؤه لا يعذّب شاكرا ولا مؤمنا.

تابع : تفسير سورة النساء

١٤٨

القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ يُحِبّ اللّه الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّه سَمِيعاً عَلِيماً }.

اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار بضمّ الظاء.

وقرأه بعضهم: (إلاّ مَنْ ظَلَمَ) بفتح الظاء. ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضمّ الظاء في تأويله

فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب اللّه تعالى ذكره أنيجهر أحدنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو الجهر بالسوء إلاّ مَنْ ظُلِم

يقول: إلا من ظُبم فيدعو على ظالمه، فإن اللّه جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك. ذكر مَن قال ذلك:

٨٥٤٦ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: لا يُحبّ اللّه الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ

يقول: لا يحبّ اللّه أنيدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظَلَمَه، وذلك قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ وإن صبر فهو خير له.

٨٥٤٧ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه ، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: لا يُحِبّ اللّه الجَهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلَمَ فإنه يحبّ الجهر بالسوء من القول.

٨٥٤٨ـ حدثنا بشر ين معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لايُحِبّ اللّه الجِهْرَ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ اللّه سَمِعَا عَليما عذر اللّه المظلوم كما تسمعون أن يدعو.

٨٥٤٩ـ حدثني الحرث، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: ثناهشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: هو الرجل يظلم الرجل، فلا يدْعُ عليه، ولكن ليقل: اللهمّ أعنيعليه اللهمّ استخرج لي حقي اللهمّ حل بينه وبين ما يريد ونحوه من الدعاء.

ف (مَنْ) على قول ابن عباس هذا في موضع رفع، لأنه وجه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه، فكان معنى الكلام على قوله: لا يحبّ اللّه أن يجهر بالسوء من القول، إلا المظلوم فلا حرج عليهخ في الجهر به. وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية، وذلك أن (مَنُ) لا يجوز أن يكون رفعا عندهم باجهر،لأنها في صلة (أنْ)، وأنْ لم ينله الجحد فال يجوز العطف عليه من الخطإ عندهم أن يقال: لا يعجبني أن يقوم إلا ريد. وقد يحتمل أن تكون (مَنْ) نصبا على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله: لا يُحِبّ اللّه الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ لاما تامّا، ثم قيل: إلاّ مَنْ ظُلِمَ فلا حرد عليه، فيكون (مَنْ) استثناء من الغعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال جلّ ثناؤه: لَسْتُ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.

إلاّ مَنْ تَوَلى وكَفَرَ وكقولهم: إني لأكره الخصومة والمراء، اللهمّ إلا رجلاً يريد اللّه بذلك. ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. و(مَنْ) على قول الحسن هذا نصب على أنه مستثنى من معنى الكلام، لا من الاسم كما ذكرنا قبلُ في تأويل اللّه خيرا فعل كذا وكذا.

وقال آخرون: بل معنىذلك: لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء من القول، إلا من ظُلم فيُخبر بما نيل منه. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٠ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد، قال: هو الرجل ينزل بالرجل، فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده، ف

يقول: أساء ضيافتي ولم يحسن.

٨٥٥١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: إلا من أثَر ما قيل له.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبي نجيع، عن مجاهد: لايُحِبّ اللّه الجِهْرَ بالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: هو الضيف المحوّل رحله، فإنه يجهر لصاحيه بالسوء من القول.

وقال آخرون: عنى بذلك الرجل ينزل بالرجل فلا يَقرِيه، فينال من الذب لم يَقْرِه. ذكر من قال لك:

٨٥٥٢ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد في قوله: إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: من ظُلم فانتصر يجهر بالسوء.

حدثني المثنى، قال: ثن أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيع، مثله.

٨٥٥٣ـ وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيع، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد. وعن حميد الأعرج، عن مجاهد: لا يُهِبّ اللّه الجَهْرَ بالسّوء مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ

قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه، فقد رخص اللّه له أنَ يقول فيه.

حدثنيأحمد بن حماد الدّولابيّ، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيع، عن إبراهيم بن أبي بكر،عن مجاهد: لا يُحِبّ اللّه الجَهْرِ بالسّوءِ منَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِمَ قال: هو في الضيافة يأتي الرجل القوم فينزل عليهم فلا يضيفونه، رخص اللّه له أن يقول فيهم. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الـمثنى بن الصبـاح، عن مـجاهد فـي قوله: لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ... الاَية، قال: ضاف رجل رجلاً، فلـم يؤدّ إلـيه حقّ ضيافته، فلـما خرج أخبر الناس،

فقال: ضفت فلانا فلـم يودّ حقّ ضيافتـي، فذلك جهر بـالسوء إلاّ مَنْ ظُلِـمَ حين لـم يودّ إلـيه ضيافته.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مـجاهد: إلا من ظلـم فـانتصر يجهر بسوء. قال مـجاهد: نزلت فـي رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض فلـم يضفه، فنزلت إلاّ مَنْ ظُلِـمَ ذكر أنه لـم يضفه، لا يزيد علـى ذلك.

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظُلـم فـانتصر من ظالـمه، فإن اللّه قد أذن له فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِـمَ

يقول: إن اللّه لا يحبّ الـجهر بـالسوء من أحدٍ من الـخـلق، ولكن من ظلـم فـانتصر بـمثل ما ظلـم، فلـيس علـيه جناح.

ف (مَنْ) علـى هذه الأقوال التـي ذكرناها سوى قول ابن عبـاس فـي موضع نصب علـى انقطاعه من الأول، والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد إلا فـي الاستثناء الـمنقطع فكان معنى الكلام علـى هذه الأقوال سوى قول ابن عبـاس : لا يحبّ اللّه الـجهر بـالسوء من القول، ولكن من ظُلـم فلا حرج علـيه أن يخبر بـما نـيـل منه أو ينتصر مـمن ظلـمه.

وقرأ ذلك آخرون بفتـح الظاء: (إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) وتأوّلوه: لا يحبّ اللّه الـجهر بـالسوء من القول، إلا من ظَلـم، فلا بأس أن يُجهر له بـالسوء من القول. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٥ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبـي يقرأ: (لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) قال ابن زيد:

يقول: إلا من أقام علـى ذلك النفـاق فـيجهر له بـالسوء حتـى ينزع

قال: وهذه مثل: وَلا تَنابَزُوا بـالألْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ أن تسميه بـالفسق بَعْدَ الإيـمانِ بعد إذ كان مؤمنا، وَمَنْ لَـمْ يَتُبْ من ذلك العمل الذي قـيـل له، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِـمُونَ قال: هو أشرّ مـمن قال ذلك له.

٨٥٥٦ـ حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: (لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) فقرأ: إنّ الـمُنافِقِـينَ فِـي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ حتـى بلغ: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّه الُـمؤْمِنِـينَ أجْرا عَظِيـما ثم قال بعد ما قال: هم فـي الدرك الأسفل من النار. ما يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُـمْ وآمَنْتُـمْ وكانَ اللّه شاكِرا عَلـيـما (لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) قال: لا يحبّ اللّه أن يقول لهذا: ألست نافقت؟ ألست الـمنافق الذي ظلـمت وفعلت وفعلت؟ من بعد ما تاب، (إلاّ مَنْ ظَلَـم)، إلا من أقام علـى النفـاق

قال: وكأن أبـي يقول ذلك له ويقرؤها: (إلاّ مَنْ ظَلَـمَ).

(مَنْ) علـى هذا التأويـل نصب لتعلقه بـالـجهر. وتأويـل الكلام علـى قول قائل هذا القول. لا يحبّ اللّه أن يجهر أحد لأحد من الـمنافقـين بـالسوء من القول (إلاّ مَنْ ظَلَـمَ) منهم، فأقام علـى نفـاقه فإنه لا بأس بـالـجهر له بـالسوء من القول.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك قراءة من قرأ: إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بضمّ الظاء، لإجماع الـحجة من القرّاء وأهل التأويـل علـى صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بـالفتـح. فإذ كان ذلك أولـى القراءتـين بـالصواب، فـالصواب فـي تأويـل ذلك: لا يحبّ اللّه أيها الناس أن يجهر أحد لأحد بـالسوء من القول إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بـمعنى: إلا من ظُلـم فلا حرج علـيه أن يخبر بـما أسيء إلـيه. وإذا كان ذلك معناه، دخـل فـيه إخبـار من لـم يُقْرَ أو أسيء قِرَاه، أو نـيـل بظلـم فـي نفسه أو ماله عَنوة من سائر الناس، وكذلك دعاؤه علـى من ناله بظلـم أن ينصره اللّه علـيه، لأن فـي دعائه علـيه إعلاما منه لـمن سمع دعاءه علـيه بـالسوء له. وإذ كان ذلك كذلك، ف (مَنْ) فـي موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قول: لَسْتَ عَلَـيْهِمْ بِـمُسَيْطِرٍ إلاّ مَنْ تَوَلـىّ وكَفَرَ.

وأما قوله: وكانَ اللّه سَمِيعا عَلِـيـما فإنه يعنـي: وكان اللّه سميعا لـمِا يجهرون به من سوء القول لـمن يجهرون له به، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم، علـيـما بـما تـخفون من سوء قولكم وكلامكم لـمن تـخفون له به، فلا تـجهرون له به، مـحصٍ كلّ ذلك علـيكم حتـى يجازيَكم علـى ذلك كله جزاءكم الـمسيء بـاساءته والـمـحسن بإحسانه.

١٤٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنّ اللّه كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه إنْ تُبْدُوا أيها الناس خيرا

يقول: إن تقولوا جميلاً من القول لـمن أحسن إلـيكم، فتظهروا ذلك شكرا منكم له علـى ما كان منه من حسن إلـيكم، أوْ تُـخْفُوهُ

يقول: أو تتركوا إظهار ذلك فلا تبدوه، أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ

يقول: أو تصفحوا لـمن أساء إلـيكم عن إساءته، فلا تـجهروا له بـالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تـجهروا له به. فإنّ اللّه كانَ عَفُوّا

يقول: لـم يزل ذا عفو عن خـلقه، يصفح لهم عمن عصاه وخالف أمره. قَدِيرا

يقول: ذا قدرة علـى الانتقام منهم. وإنـما يعنـي بذلك: أن اللّه لـم يزل ذا عفو عن عبـاده مع قدرته علـى عقابهم علـى معصيتهم إياه.

يقول: فـاعفوا أنتـم أيضا أيها الناس عمن أتـى إلـيكم ظلـما، ولا تـجهروا له بـالسوء من القول وإن قدرتـم علـى الإساءة إلـيه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته علـى عقابكم وأنتـم تعصونه وتـخالفون أمره. وفـي قوله جلّ ثناؤه: إنْ تُبْدُوا خَيْرا أوْ تُـخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فإنّ اللّه كانَ عَفُوّا قَدِيرا الدلالة الواضحة علـى أن تأويـل قوله: لا يُحِبّ اللّه الـجَهْرَ بـالسّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاّ مَنْ ظُلِـمَ بخلاف التأويـل الذي تأوّله زيد ابن أسلـم فـي زعمه أن معناه: لا يحبّ اللّه الـجهر بـالسوء من القول لأهل النفـاق، إلا من أقام علـى نفـاقه، فإنه لا بأس بـالـجهر له بـالسوء من القول. وذلك أنه جل ثناؤه قال عقـيب ذلك: إنْ تُبْدُوا خَيْرا أوْ تُـخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ومعقول أن اللّه جل ثناؤه لـم يأمر الـمؤمنـين بـالعفو عن الـمنافقـين علـى نفـاقهم، ولا نهاهم أن يُسَمّوا من كان منهم معلن النفـاق منافقا، بل العفو عن ذلك مـما لا وجه له معقول، لأن العفو الـمفهوم إنـما هو صفح الـمرء عما له قِبَل غيره من حقّ، وتسمية الـمنافق بـاسمه لـيس بحقّ لأحد قِبله فـيؤمر بعفوه عنه، وإنـما هو اسم له، وغير مفهوم الأمر بـالعفو عن تسمية الشيء بـما هو اسمه.

١٥٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّه وَرُسُلِهِ ... }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّه وَرُسُلِهِ من الـيهود والنصارى، وَيُرِيدُون أنْ يُفَرّقُوا بـينَ اللّه وَرُسُلِهِ بأن يكذّبوا رسل اللّه الذين أرسلهم إلـى خـلقه بوحيه، ويزعمون أنهم افتروا علـى ربهم، وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بـين اللّه ورسله، بنـحلتهم إياهم الكذب والفرية علـى اللّه ، وادّعائهم علـيهم الأبـاطيـل. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يعنـي أنهم يقولون: نصدّق بهذا ونكذّب بهذا، كما فعلت الـيهود من تكذيبهم عيسى ومـحمدا صلـى اللّه علـيهما وسلـم وتصديقهم بـموسى وسائر الأنبـياء قَبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبـياء قَبله بزعمهم. وَيُرِيدُونَ أنَ يَتّـخِذُوا بـينَ ذَلِكَ سَبِـيلاً

يقول: ويريد الـمفرقون بـين اللّه ورسله، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أن يتـخذوا بـين أضعاف قولهم: نؤمن ببعض الأنبـياء ونكفر ببعض، سبـيلاً: يعنـي طريقا إلـى الضلالة التـي أحدثوها والبدعة التـي ابتدعوها، يدعون أهل الـجهر من الناس إلـيه.

١٥١

فقال جل ثناؤه لعبـاده، منبها لهم علـى ضلالتهم وكفرهم: أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا

يقول: أيها الناس هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم هم أهل الكفربـي، الـمستـحقون عذابـي والـخـلودَ فـي ناري حقّا، فـاستـيقنوا ذلك، ولا يشككنكم فـي أمرهم انتـحالهم الكذب ودعواهم أنهم يقرّون بـما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل، فإنهم فـي دعواهم ما ادّعوا من ذلك كَذَبةٌ. وذلك أن الـمؤمن بـالكتب والرسل، هو الـمصدّق ببعض ذلك وكذّب ببعض، فهو لنبوّة من كذّب ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوّة نبـيّ فهو به مكذّب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوّة بعض الأنبـياء وزعموا أنهم مصدّقون ببعض، مكذّبون من زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم، فهم بـاللّه وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدّقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذّبون كافرون، فهم الـجاحدون وحدانـية اللّه ونبوّة أنبـيائه، حقّ الـجحود الـمكذّبون بذلك حقّ التكذيب، فـاحذروا أن تغترّوا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابـا مهينا.

وأما قوله: وَأعْتَدْنا للكافِرِينَ عَذَابـا مُهِينا فإنه يعنـي: وأعتدنا لـمن جحد بـاللّه ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم أيها الناس أمرهم من أهل الكتاب ولغيرهم من سائر أجناس الكفـار عذابـا فـي الاَخرة مهينا، يعنـي: يهين من عذّب به بخـلوده فـيه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٥٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بـينَ اللّه وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّـخِذُوا بـينَ ذَلكَ سَبِـيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقّا وأعْتَدْنا للْكافِرِينَ عَذَابـا مُهِينا أولئك أعداء اللّه الـيهود والنصارى، آمنت الـيهود بـالتوراة وموسى وكفروا بـالإنـجيـل وعيسى وآمنت النصارى بـالإنـجيـل وعيسى وكفروا بـالقرآن وبـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم، فـاتـخذوا الـيهودية والنصرانـية، وهما بدعتان لـيستا من اللّه ، وتركوا الإسلام وهو دين اللّه الذي بعث به رسله.

٨٥٥٨ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرّقُوا بـينَ اللّه وَرُسُلِهِ يقولون: مـحمد لـيس برسولٍ لله وتقول الـيهود: عيسى لـيس برسولٍ لله، فقد فرّقوا بـين اللّه وبـين رسله. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

٨٥٥٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بـاللّه وَرُسُلِهِ... إلـى قوله: بـينَ ذَلِكَ سَبِـيلاً قال: الـيهود والنصارى: آمنت الـيهود بعزير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعُزَير، وكانوا يؤمنون بـالنبـيّ ويكفرون بـالاَخر. وَيُرِيدُونَ أنْ يَتّـخِذُوا بـينَ ذَلِكَ سَبِـيلاً قال: دِينا يدينون به اللّه .

١٥٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّه وَرُسُلِهِ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: والذين صدّقوا بوحدانـية اللّه ، وأقرّوا بنبوّة رسله أجمعين، وصدّقوهم فـيـما جاءوهم به من عند اللّه من شرائع دينه ولَـمْ يُفَرّقُوا بـينَ أحَدٍ مِنْهُمْ

يقول: ولـم يكذّبوا بعضهم، ويصدّقوا بعضهم، ولكنهم أقرّوا أن كلّ ما جاءوا به من عند ربهم حقّ. أولَئِكَ

يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من الـمؤمنـين بـاللّه ورسله، سَوْفَ يُؤْتِـيهِمْ

يقول: سوف يعطيهم أُجُورَهُمْ يعنـي: جزاءهم، وثوابهم علـى تصديقهم الرسل فـي توحيد اللّه وشرائع دينه وما جاءت به من عند اللّه . وكانَ اللّه غَفُورا

يقول: يغفر لـمن فعل ذلك من خـلقه ما سلف له من آثامه، فـيستر علـيه بعفوه له عنه وتركه العقوبة علـيه، فإنه لـم يزل لذنوب الـمنـيبـين إلـيه من خـلقه غَفُورا رَحِيـما، يعنـي: ولـم يزل بهم رحيـما بتفضله علـيهم الهداية إلـى سبـيـل الـحقّ وتوفـيقه إياهم لـما فـيه خلاص رقابهم من النار.

١٥٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يَسْئَلكَ يا مـحمد أهْلُ الكِتابِ يعنـي بذلك: أهل التوراة من الـيهود، أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ.

واختلف أهل التأويـل فـي الكتاب الذي سأل الـيهود مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل علـيهم من السماء،

فقال بعضهم: سألوه أن ينزل علـيهم كتابـا من السماء مكتوبـا، كما جاء موسى بنـي إسرائيـل بـالتوراة مكتوبة من عند اللّه . ذكر من قال ذلك:

٨٥٦٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ قالت الـيهود: إن كنت صادقا أنك رسول اللّه ، فأتنا كتابـا مكتوبـا من السماء كما جاء به موسى.

٨٥٦١ـ حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، عن مـحمد بن كعب القرظي، قال: جاء أناس من الـيهود إلـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: إن موسى جاء بـالألواح من عند اللّه ، فأتنا بـالألواح من عند اللّه حتـى نصدّقك فأنزل اللّه : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ... إلـى قوله: وَقَوْلِهِمْ علـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما.

وقال آخرون: بل سألوه أن ينزّل علـيهم كتابـا خاصة لهم. ذكر من قال ذلك:

٨٥٦٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ أي كتابـا خاصة فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّه جَهْرَةً.

وقال آخرون: بل سألوه أن ينزّل علـى رجال منهم بأعيانهم كتبـا بـالأمر بتصديقه واتبـاعه. ذكر من قال ذلك:

٨٥٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، قوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ وذلك أن الـيهود والنصارى أتوُا النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: لن نتابعك علـى ما تدعونا إلـيه، حتـى تأتـينا بكتاب من عند اللّه إلـى فلان أنك رسول اللّه ، وإلـى فلان بكتاب أنك رسول اللّه

قال اللّه جلّ ثناؤه: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فقالُوا أرِنا اللّه جَهْرَةً.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزّل علـيهم كتابـا من السماء آية، معجزة جميع الـخـلق عن أن يأتوا بـمثلها، شاهدة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بـالصدق، آمرة لهم بـاتبـاعه. وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابـا مكتوبـا ينزل علـيهم من السماء إلـى جماعتهم، وجائز أن يكون ذلك كتبـا إلـى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولـى بظاهر التلاوة أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لـينزل الكتاب الواحد إلـى جماعتهم لذكر اللّه تعالـى فـي خبره عنهم الكتاب بلفظ الواحد، بقوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ ولـم يقل: (كتبـا).

وأما قوله: فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فإنه توبـيخ من اللّه جل ثناؤه سائلـي الكتاب الذي سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينزّله علـيهم من السماء فـي مسألتهم إياه ذلك، وتقريع منه لهم. يقول لنبـيه صلى اللّه عليه وسلم: يا مـحمد لا يعظمنّ علـيك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بـاللّه وجراءتهم علـيه واغترارهم بحلـمه، لو أنزلتُ علـيهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله علـيهم، لـخالفوا أمر اللّه كما خالفوه بعد إحياء اللّه أوائلهم من صَعْقتهم، فعبدوا العجل، واتـخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبـارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيـم سلطانه ما أراهم لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافلهم. ثم قصّ اللّه من قصتهم وقصة موسى ما قصّ، يقول اللّه : فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ يعنـي: فقد سأل أسلاف هؤلاء الـيهود وأوائلهم موسى علـيه السلام أعظم مـما سألوك من تنزيـل كتاب علـيهم من السماء فقالوا له أرِنا اللّه جَهْرَةً: أي عيانا نعاينه وننظر إلـيه. وقد أتـينا علـى معنى الـجهرة بـما فـي ذلك من الرواية والشواهد علـى صحة ما قلنا فـي معناه فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وقد ذكر عن ابن عبـاس أنه كان يقول فـي ذلك بـما:

٨٥٦٤ـ حدثنـي به الـحرث، قال: حدثنا أبو عبـيد، قال: حدثنا حجاج، عن هارون بن موسى، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن ابن عبـاس فـي هذه الاَية، قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، إنـما

قالوا: جَهْرَةً أرِنا اللّه قال: هو مقدّم ومؤخّر.

وكان ابن عبـاس يتأوّل ذلك أن سؤالهم موسى كان جهرة.

وأما قوله: فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ فإنه

يقول: فصعقوا بظلـمهم أنفسهم، وظلـمهم أنفسهم كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة، لأن ذلك مـما لـم يكن لهم مسألته. وقد بـيّنا معنى الصاعقة فـيـما مضى بـاختلاف الـمختلفـين فـي تأويـلها والدلـيـل علـى أولـى ما قـيـل فـيها بـالصواب.

وأما قوله: ثُمّ اتّـخَذُوا العِجْلَ فإنه يعنـي: ثم اتـخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة، بعد ما أحياهم اللّه ، فبعثهم من صعقتهم، العِجْلَ الذي كان السامريّ نبذ فـيه ما نبذ من القبضة التـي قبضها من أثر فرس جبريـل علـيه السلام، إلها يعبدونه من دون اللّه . وقد أتـينا علـى ذكر السبَب الذي من أجله اتـخذوا العجل وكيف كان أمرهم وأمره فـيـما مضى بـما فـيه الكفـاية.

وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَـيّناتُ يعنـي: من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا البـيناتُ من اللّه ، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا اللّه عيانا جهارا. وإنـما عنى بـالبـينات: أنها آيات تبـين عن أنهم لن يروا اللّه فـي أيام حياتهم فـي الدنـيا جهرة، وكانت تلك الاَيات البـينات لهم علـى أن ذلك كذلك، إصعاق اللّه إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة، ثم إحياءه إياهم بعد مـماتهم مع سائر الاَيات التـي أراهم اللّه دلالة علـى ذلك. يقول اللّه مقبحا إلـيهم فعلَهم ذلك وموضحا لعبـاده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم: ثم أقرّوا للعجل بأنه لهم إله، وهم يرونه عيانا وينظرون إلـيه جهارا، بعد ما أراهم ربهم من الاَيات البـينات ما أراهم، أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا فـي حياتهم الدنـيا، فعكفوا علـى عبـادته مصدّقـين بألوهته.

وقوله: فَعَفَوْنا عَنْ ذَلِكَ

يقول: فعفونا لعَبَدَة العجل عن عبـادتهم إياه، وللـمصدّقـين منهم بأنه إلههم، بعد الذي أراهم اللّه أنهم لا يرون ربهم فـي حياتهم من الاَيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك بـالتوبة التـي تابوها إلـى ربهم بقتلهم أنفسَهم وصبرهم فـي ذلك علـى أمر ربهم. وآتَـيْنا مُوسَى سُلْطانا مُبِـينا

يقول: وآتـينا موسى حجة تبـين عن صدقه وحقـية نبوّته، وتلك الـحجة هي الاَيات البـينات التـي آتاه اللّه إياها.

١٥٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطّورَ يعنـي: الـجبل، وذلك لـما أمتنعوا من العمل بـما فِـي التوراة، وقبول ما جاءهم به موسى فـيها. بِـمِيثاقِهِمْ يعنـي: بـما أعطوا اللّه الـميثاق والعهد: لنعملنّ بـما فـي التوراة. وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُـلُوا البـابَ سُجّدا يعنـي: بـاب حطة، حين أُمروا أن يدخـلوا منه سجودا، فدخـلوا يزحفون علـى أستاههم. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ يعنـي بقوله: لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ: لا تتـجاوزوا فـي يوم السبت ما أبـيح لكم إلـى ما لـم يبح لكم. كما:

٨٥٦٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُـلوا البـابَ سُجّدا قال: كنا نـحدّث أنه بـاب من أبواب بـيت الـمقدس.

وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ أمر القوم أن لا يأكلوا الـحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحلّ لهم ما وراء ذلك.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء أمصار الإسلام: لا تَعْدُوا فِـي السّبْتِ بتـخفـيف العين من قول القائل: عدوت فـي الأمر: إذا تـجاوزت الـحقّ فـيه، أعدو عَدْوا وعُدْوانا وعَدَاءً. وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الـمدينة: (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدّوا) بتسكين العين وتشديد الدال والـجمع بـين ساكنـين، بـمعنى: (تعتدوا) ثم تدغم التاء فـي الدال فتصير دالاً مشددة مضمومة، كما قرأ من قرأ: أمْ مّنْ لا يَهْدّي بتسكين الهاء. وقوله وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقا غَلِـيظا يعنـي: عهدا مؤكدا شديدا، بأنهم يعملون بـما أمرهم اللّه به وينتهون عما نهاهم اللّه عنه مـما ذكره فـي هذه الاَية ومـما فـي التوراة. وقد بـينا فـيـما مضى السبب الذي من أجله كانوا أمروا بدخول البـاب سجدا، وما كان من أمرهم فـي ذلك، وخبرهم وقصتهم، وقصة السبت، وما كان اعتداؤهم فـيه، بـما أغنى عن إعادته لفـي هذا الـموضع.

١٥٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مّيثَاقَهُمْ ...}.

يعنـي جلّ ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب ميثاقهم، يعنـي عهودهم التـي عاهدوا اللّه أن يعملوا بـما فـي التوراة. وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّه

يقول: وجحودهم بآيات اللّه ، يعنـي: بأعلام اللّه وأدلته التـي احتـجّ بها علـيهم فـي صدق أنبـيائه ورسله، وحقـية ما جاءوهم به من عنده. وَقَتْلِهِمُ الأنْبِـياءَ بغيرِ حَقَ

يقول: وبقتلهم الأنبـياء بعد قـيام الـحجة علـيهم بنبوّتهم بغير حقّ، يعنـي: بغير استـحقاق منهم ذلك لكبـيرة أتوها ولا خطيئة استوجبوا القتل علـيها. وقولهم: قُلُوبُنا غُلْفٌ يعنـي: وبقولهم: قلوبنا غلف، يعنـي يقولون: علـيها غشاوة وأغطية عما تدعونا إلـيه، فلا نَفْقَهُ ما تقول، ولا نعقله. وقد بـينا معنى الغلف، وذكرنا ما فـي ذلك من الرواية فـيـما مضى قبل. بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ

يقول جلّ ثناؤه: كذبوا فـي قولهم قلوبنا غلف، ما هي بغلف ولا علـيها أغطية ولكن اللّه جل ثناؤه جعل علـيها طابعا بكفرهم بـالله. وقد بـينا صفة الطبع علـى القلب فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته. فَلا يُؤْمِنونَ إلاّ قَلِـيلاً

يقول: فلا يؤمن هؤلاء الذين وصف اللّه صفتهم لطبعه علـى قلوبهم، فـيصدّقوا بـاللّه ورسله وما جاءتهم به من عند اللّه إلا إيـمانا قلـيلاً، يعنـي: تصديقا قلـيلاً. وإنـما صار قلـيلاً لأنهم لـم يصدقوا علـى ما أمرهم اللّه به، ولكن صدّقوا ببعض الأنبـياء وببعض الكتب وكذّبوا ببعض، فكان تصديقهم بـما صدّقوا به قلـيلاً، لأنهم وإن صدّقوا به من وجه، فهم به مكذّبون من وجه آخر. وذلك من وجه تكذيبهم من كذّبوا به من الأنبـياء وما جاءوا به من كتب اللّه ورسل اللّه يصدّق بعضهم بعضا، وبذلك أمر كلّ نبـيّ أمته، وكذلك كتب اللّه يصدّق بعضها بعضا ويحقق بعض بعضا، فـالـمكذّب ببعضها مكذّب بجميعها من جهة جحوده ما صدّقه الكتاب الذي يقرّ بصحته، فلذلك صار إيـمانهم بـما آمنوا من ذلك قلـيلاً.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٦٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ

يقول: فبنقضهم ميثاقَهم لعناهم وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ: أي لا نفقه، بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم حين فعلوا ذلك.

واختلف فـي معنى قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ... الاَية، هل هو مواصل لـما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه؟

فقال بعضهم: هو منفصل مـما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبـياء بغير حقّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَـيْها بكُفْرِهِمْ ولعنهم. ذكر من قال ذلك:

٨٥٦٧ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِـيلاً لـما ترك القوم أمر اللّه ، وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الـميثاق الذي أخذ علـيهم. طَبَعَ اللّه عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ ولعنهم.

وقال آخرون: بل هو مواصل لـما قبله

قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلـمهم، فبنقضهم ميثاقَهم، وكفرهم بآيات اللّه ، وبقتلهم الأنبـياء بغير حقّ وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة.

قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضا، ومعناه مردود إلـى أوّله. وتفسير ظلـمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بـما فسر به تعالـى ذكره مِن نقضهم الـميثاق، وقتلهم الأنبـياء، وسائر ما بـين من أمرهم الذي ظلـموا فـيه أنفسهم.

والصواب من القول فـي ذلك أن قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وما بعده منفصل معناه من معنى ما قبله وأنّ معنى الكلام: فبـما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات اللّه ، وبكذا وبكذا، لعنّاهم وغضبنا علـيهم، فترك ذكر (لعناهم) لدلالة قوله: بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَـيْها بِكُفْرِهِمْ علـى معنى ذلك، إذ كان مَن طبع علـى قلبه فقد لُعن وسُخط علـيه.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب، لأن الذين أخذتهم الصاعقة إنـما كانوا علـى عهد موسى والذين قتلوا الأنبـياء والذين رَمَوْا مريـم بـالبهتان العظيـم، و

قالوا: قتلنا الـمسيحَ، كانوا بعد موسى بدهر طويـل، ولـم يدرك الذين رَمَوْا مريـم بـالبهتان العظيـم زمان موسى ولا مَن صُعِق من قومه. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة لـم تأخذهم عقوبة لِرَميهم مريـم بـالبهتان العظيـم، ولا لقولهم: إنا قتلنا الـمسيح عيسى ابن مريـم. وإذ كان ذلك كذلك، فبـين أن القوم الذين قالوا هذه الـمقالة، غير الذين عوقبوا بـالصاعقة. وإذا كان ذلك كذلك، كان بـينا انفصال معنى قوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ من معنى قوله: فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْـمِهِمْ.

١٥٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىَ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم وَقَوْلِهمْ عَلـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما يعنـي: بفِريتهم علـيها، ورَمْيهم إياها بـالزنا، وهو البهتان العظيـم لأنهم رموها بذلك وهي مـما رموها به بغير ثبْت ولا برهان بريئة، فبهتوها بـالبـاطل من القول.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٦٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس : وَقَوْلِهِمْ علـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما يعنـي أنهم رموها بـالزنا.

٨٥٦٩ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط عن السديّ: قوله: وَقَوْلِهِمْ علـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما حين قذفوها بـالزنا.

٨٥٧٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد، عن جويبر فـي قوله: وَقَوْلِهِمْ علـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما قال: قالوا زنت.

١٥٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وبِقَوْلِهمْ أنّا قَتَلْنا الـمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ رَسُولَ اللّه . ثم كذّبهم اللّه فـي قِـيـلهم،

فقال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ يعنـي: وما قتلوا عيسى وما صلبوه، ولكن شبّه لهم.

واختلف أهل التأويـل فـي صفة التشبـيه الذي شُبّه للـيهود فـي أمر عيسى،

فقال بعضهم: لـما أحاطت الـيهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم، وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعا حُوّلوا فـي صورة عيسى، فأشكل علـى الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إلـيهم بعض من كان فـي البـيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى. ذكر من قال ذلك:

٨٥٧١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القميّ، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه، قال: أتـى عيسى ومعه سبعة عشر من الـحواريـين فـي بـيت، وأحاطوا بهم، فلـما دخـلوا علـيهم صوّرهم اللّه كلهم علـى صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتـمونا لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلَنّكم جميعا فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم الـيوم بـالـجنة؟ فقال رجل منهم: أنا. فخرج إلـيهم فقال: أنا عيسى وقد صوّره اللّه علـى صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثمّ شُبّه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع اللّه عيسى من يومه ذلك.

وقد رُوي عن وهب بن منبه غير هذا القول، وهو ما:

حدثنـي به الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن مَعْقِل، أنه سمع وهبـا

يقول: إن عيسى ابن مريـم لـما أعلـمه اللّه أنه خارج من الدنـيا جزع من الـموت وشقّ علـيه، فدعا الـحواريـين وصنع لهم طعاما،

فقال: احضُرونـي اللـيـلة، فإن لـي إلـيكم حاجة فلـما اجتـمعوا إلـيه من اللـيـل عَشّاهم، وقام يخدمهم، فلـما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضّئُهُمْ بـيده ويـمسح أيديهم بثـيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه،

فقال: ألا من ردّ علـيّ شيئا اللـيـلة مـما أصنع فلـيس منـي ولا أنا منه فأقرّوه، حتـى إذا فرغ من ذلك، قال: أما ما صنعت بكم اللـيـلة مـما خدمتكم علـى الطعام وغسلت أيديكم بـيدي، فلـيكن لكم بـي أسوة، فإنكم ترون أنـي خيركم، فلا يتعظّم بعضكم علـى بعض، ولـيبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكموأما حاجتـي التـي استعنتكم علـيها، فتدعون لـي اللّه وتـجتهدون فـي الدعاء أن يوخّر أجلـي فلـما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتـى لـم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم و

يقول: سبحان اللّه أما تصبرون لـي لـيـلة واحدة تعينونـي فـيها؟

قالوا: واللّه ما ندري ما لنا، لقد كنا نسمُر فنكثر السمر، وما نطيق اللـيـلة سمرا وما نريد دعاء إلا حِيـل بـيننا وبـينه فقال: يُذْهَب بـالراعي وتتفرّق الغنـم. وجعل يأتـي بكلام نـحو هذا ينعَي به نفسه، ثم قال: الـحقّ لـيكفرنّ بـي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرّات، ولَـيبـيعّنـي أحدكم بدراهم يسيرة، ولـيأكلنّ ثمنـي فخرجوا وتفرّقوا. وكانت الـيهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الـحواريـين،

فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد، وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه. ثم أخذه آخرون، فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك، فبكى وأحزنه. فلـما أصبح أتـى أحد الـحواريـين إلـى الـيهود،

فقال: ما تـجعلون لـي إن دللتكم علـى الـمسيح؟ فجعلوا له ثلاثـين درهما، فأخذها ودلّهم علـيه، وكان شُبّه علـيهم قبل ذلك، فأخذوه فـاستوثقوا منه وربطوه بـالـحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تـحيـي الـموتـى وتنتهر الشيطان وتبرىء الـمـجنون؟ أفلا تنـجى نفسك من هذا الـحبل؟ ويبصقون علـيه، ويـلقون علـيه الشوك، حتـى أتوا به الـخشبة التـي أرادوا أن يصلبوه علـيها، فرفعه اللّه إلـيه، وصلبوا ما شُبّه لهم، فمكث سبعا. ثم إن أمه والـمرأة التـي كان يداويها عيسى فأبرأها اللّه من الـجنون جاءتا تبكيان حيث كان الـمصلوب، فجاءهما عيسى،

فقال: علام تبكيان؟ قالتا علـيك،

فقال: إنـي قد رفعنـي اللّه إلـيه، ولـم يصبنـي إلا خير، وإن هذا شيء شُبّه لهم، فأْمُرا الـحواريـين أن يَـلْقَونـي إلـى مكان كذا وكذا فلقوه إلـى ذلك الـمكان أحد عشر، وفُقِد الذي كان بـاعه ودلّ علـيه الـيهود، فسأل عنه أصحابه،

فقالوا: إنه ندم علـى ما صنع، فـاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تاب لتاب اللّه علـيه ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يُحَنّا،

فقال: هو معكم فـانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدّث بلغة قوم، فلـينذرهم ولـيدعهم.

وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه فـي البـيت أن يُـلْقَـى علـى بعضهم شبهه، فـانتدب لذلك رجل، فأُلقـي علـيه شبه، فَقُتل ذلك الرجل ورُفع عيسى ابن مريـم علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:

٨٥٧٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: إنّا قَتَلْنا الـمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَـمَ رَسُولَ اللّه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ... إلـى قوله: وكانَ اللّه عَزِيزا حَكِيـما أولئك أعداء اللّه الـيهود اشتهروا بقتل عيسى بن مريـم رسول اللّه ، وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذُكر لنا أن نبـيّ اللّه عيسى ابن مريـم قال لأصحابه: أيكم يُقذف علـيه شبهي فإنه مقتول؟ فقال رجل من أصحابه: أنا يا نبـيّ اللّه . فقُتل ذلك الرجل، ومنع اللّه نبـيه ورفعه إلـيه.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ قال: أُلِقـي شبهه علـى رجل من الـحواريـين فقُتل، وكان عيسى ابن مريـم عَرَض ذلك علـيهم،

فقال: أيكم ألِقـي شبهِي علـيه وله الـجنة؟ فقال رجل: علـيّ.

٨٥٧٣ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: أن بنـي إسرائيـل حَصَروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الـحواريـين فـي بـيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتـي فـيُقتل وله الـجنة؟ فأخذها رجل منهم. وصُعِد بعيسى إلـى السماء، فلـما خرج الـحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى علـيه السلام قد صُعد به إلـى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فـيجدونهم ينقصون رجلاً من العِدّة، ويرون صورة عيسى فـيهم، فشكّوا فـيه. وعلـى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه، فذلك قول اللّه تبـارك وتعالـى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ... إلـى قوله: وكانَ اللّه عَزِيزا حَكِيـما.

٨٥٧٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن القاسم بن أبـي بزّة: أن عيسى ابن مريـم قال: أيكم يُـلقـي علـيه شبهِي فـيُقتل مكانـي؟ فقال رجل من أصحابه: أنا يا رسول اللّه . فأُلقـي علـيه شبهه، فقتلوه، فذلك قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ.

٨٥٧٥ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: كان اسم ملك بنـي إسرائيـل الذي بعث إلـى عيسى لـيقتله، رجلاً منهم يقال له: داود، فلـما أجمعوا لذلك منه لـم يَفْظَع عبدٌ من عبـاد اللّه بـالـموت فـيـما ذكر لـي فَظَعُه، ولـم يجزع منه جزعه، ولـم يدع اللّه فـي صرفه عنه دعاءه حتـى إنه لـيقول فـيـما يزعمون: اللهمّ إن كنت صارفـا هذه الكأس عن أحد من خـلقك، فـاصرفها عنـي وحتـى إن جلده من كرب ذلك لـيتفصد دَما. فدخـل الـمدخـل الذي أجمعوا أن يدخـل علـيه فـيه لـيقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى، فلـما أيقن أنهم داخـلون علـيه، قال لأصحابه من الـحواريـين وكانوا اثنى عشر رجلاً: بُطْرُس، ويَعْقُوب بن زَبْدِي، ويُحَنّس أخو يعقوب، وَأنْدَرَاوُس، وفِـيـلِبّس، وأَبْرَثَلْـمَا، وَمّتـى، وتُوماس، ويعقوب بن حَلْقـيا، وتُدّاوس، وفتاتـيا، ويُودُسُ زَكَرِيا يُوطا. قال ابن حميد: قال سلـمة: قال ابن إسحاق: وكان فـيهم فـيـما ذكر لـي رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلاً سوى عيسى جحدته النصارى، وذلك أنه هو الذي شبه للـيهود مكان عيسى

قال: فلا أدري ما هو من هؤلاء الاثنـي عشر، أم كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقرّوا للـيهود بصلب عيسى وكفروا بـما جاء به مـحمد صلى اللّه عليه وسلم من الـخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخـلوا الـمدخـل حين دخـلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كان اثنـي عشر فإنهم دخـلوا الـمدخـل حين دخـلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي رجل كان نصرانـيا فأسلـم أن عيسى حين جاءه من اللّه إنّى رَافِعُكَ إلـيّ قال: يا معشر الـحواريـين: أيكم يحبّ أن يكون رفـيقـي فـي الـجنة حتـي يشبه للقوم فـي صورتـي فـيقتلوه مكانـي؟ فقال سرجس: أنا يا روح اللّه قال: فـاجلس فـي مـجلسي. فجلس فـيه، ورُفع عيسى صلوات اللّه علـيه، فدخـلوا علـيه فأخذوه، فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبّه لهم به. وكانت عدتهم حين دخـلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم فأحصوا عدتهم، فلـما دخـلوا علـيه لـيأخذوه وجدوا عيسى فـيـما يرون وأصحابه وفقدوا رجلاً من العدّة، فهو الذي اختلفوا فـيه. وكانوا لا يعرفون عيسى، حتـى جعلوا لـيودس ركريايوطا ثلاثـين درهما علـى أن يدلهم علـيه ويعرّفهم إياه، فقال لهم: إذا دخـلتـم علـيه فإنـي سأُقَبّله، وهو الذي أُقَبّل فخذوه فلـما دخـلوا علـيه، وقد رُفع عيسى، رأى سَرْجِس فـي صورة عيسى، فلـم يشكّ أنه هو عيسى، فأكبّ علـيه فقبله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يُودُس ركَرِيايوطا ندم علـى ما صنع، فـاختنق بحبل حتـى قتل نفسه، وهو ملعون فـي النصارى، وقد كان أحد الـمعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم أن يُودُوس زكريايوطا هو الذي شُبّه لهم فصلبوه، وهو

يقول: إنـي لست بصاحبكم أنا الذي دللتكم علـيه واللّه أعلـم أيّ ذلك كان.

٨٥٧٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغنا أن عيسى ابن مريـم قال لأصحابه: أيكم يَنتدب فـيـلقـى علـيه شبهي فـيقتل؟ فقال رجل من أصحابه: أنا يا نبـيّ لله. فألقـي علـيه شبه فقُتل، ورفع اللّه نبـيه إلـيه.

٨٥٧٧ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: شُبّهَ لَهُمْ قال: صلبوا رجلاً غير عيسى يحسبونه إياه.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ فذكر مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: صلبوا رجلاً شبهوه بعيسى يحسبونه إياه، ورفع اللّه إلـيه عيسى علـيه السلام حيا.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب أحد القولـين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه، من أن شبه عيسى ألقـى علـى جميع من كان فـي البـيت مع عيسى حين أحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك، ولكن لـيخزي اللّه بذلك الـيهود وينقذ به نبـيه علـيه السلام من مكروه ما أرادوا به من القتل، ويبتلـى به من أراد ابتلاءه من عبـاده فـي قـيـله فـي عيسى وصدق الـخبر عن أمره. أو القول الذي رواه عبد العزيز عنه.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى القولـين بـالصواب، لأن الذين شهدوا عيسى من الـحواريـين لو كانوا فـي حال ما رفع عيسى، وألقـى شبهه علـى من ألقـى علـيه شبهه، كانوا قد عاينوا عيسى هو يرفع من بـينهم، وأثبتوا الذي ألقـى علـيه شبهه، وعاينوه متـحوّلاً فـي صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بـمـحضر منهم، لـم يخف ذلك من أمر عيسى، وأمر من ألقـي علـيه شبهه علـيهم مع معاينتهم ذلك كله، ولـم يـلتبس ولـم يشكل علـيهم وإن أشكل علـى غيرهم من أعدائهم من الـيهود أن الـمقتول والـمصلوب كان غير عيسى، وأن عيسى رفع من بـينهم حيا. وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك علـيهم، وقد سمعوا من عيسى مقالته: من يُـلْقَـى علـيه شبهي ويكون رفـيقـي فـي الـجنة؟ إن كان قال لهم ذلك، وسمعوا جواب مـجيبه منهم: أنا، وعاينوا تـحوّل الـمـجيب فـي صورة عيسى بعقب جوابه. ولكن ذلك كان إن شاء اللّه علـى نـحو ما وصف وهب بن منبه، إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى فـي البـيت الذي رفع منه من حواريه حوّلهم اللّه جميعا فـي صورة عيسى حين أراد اللّه رفعه، فلـم يثبتوا عيسى معرفة بعينه من غيره لتشابه صُوَر جميعهم، فقتلت الـيهود منهم من قتلت وهم يرونه بصورة عيسى ويحسبونه إياه، لأنهم كانوا به عارفـين قبل ذلك، وظنّ الذين كانوا فـي البـيت مع عيسى مثل الذي ظنت الـيهود، لأنهم لـم يـميزوا شخص عيسى من شخص غيره لتشابه شخصه وشخص غيره مـمن كان معه فـي البـيت، فـاتفقوا جميعهم أعنـي الـيهود والنصارى من أجل ذلك علـى أن الـمقتول كان عيسى، ولـم يكن به، ولكنه شبه لهم، كما

قال اللّه جلّ ثناؤه: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ. أو يكون الأمر فـي ذلك كان علـى نـحو ما روى عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، أن القوم الذين كانوا مع عيسى فـي البـيت تفرّقوا عنه قبل أن يدخـل علـيه الـيهود، وبقـي عيسى، وألقـي شبهه علـى بعض أصحابه الذين كانوا معه فـي البـيت بعد ما تفرّق القوم غير عيسى وغير الذي ألقـى علـيه شبهه، ورُفع عيسى. فقُتل الذي تـحوّل فـي صورة عيسى من أصحابه، وظنّ أصحابه والـيهود أن الذي قُتل وصلب هو عيسى لـما رأوا من شبهه به وخفـاء أمر عيسى علـيهم لأن رفعه وتـحوّل الـمقتول فـي صورته كان بعد تفرّق أصحابه عنه، وقد كانوا سمعوا عيسى من اللـيـل ينعي نفسه ويحزن لـما قد ظنّ أنه نازل به من الـموت، فحكوا ما كان عندهم حقا، والأمر عند اللّه فـي الـحقـيقة بخلاف ما حكوا، فلـم يستـحقّ الذين حكوا ذلك من حواريـيه أن يكونوا كذبة، أو حكوا ما كان حقا عندهم فـي الظاهر وإن كان الأمر عند اللّه فـي الـحقـيقة بخلاف الذي حكوا.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِـيهِ لَفِـي شَكَ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ وَما قَتَلُوهُ يَقِـينا.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِـيهِ الـيهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدّة من فـي البـيت قبل دخولهم فـيـما ذكر فلـما دخـلوا علـيهم، فقدوا واحدا منهم، فـالتبس أمر عيسى علـيهم بفقدهم واحدا من العدّة التـي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا علـى شكّ منهم فـي أمر عيسى. وهذا التأويـل علـى قول من قال: لـم يفـارق الـحواريون عيسى حتـى رُفع ودخـل علـيهم الـيهود.

وأما تأويـله علـى قول من قال: تفرّقوا عنه من اللـيـل، فإنه: وإن الذين اختلفوا فـي عيسى، هل هو الذي بقـي فـي البـيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدّة التـي كانت فـيه أم لا؟ لفـي شكّ منه، يعنـي: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخـلوا البـيت أكثر مـمن خرج منه ومن وجد فـيه، فشكوا فـي الذي قتلوه هل هو عيسى أم لا من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم

قالوا: قتلنا عيسى، لـمشابهة الـمقتول عيسى فـي الصورة. يقول اللّه جلّ ثناؤه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْـمٍ يعنـي: أنهم قتلوا من قتلوه علـى شكّ منهم فـيه واختلاف، هل هو عيسى أم غيره؟ من غير أن يكون لهم بـمن قتلوه علـم من هو، هو عيسى أم هو غيره؟ إلاّ اتّبـاعَ الظّنّ يعنـي جلّ ثناؤه: ما كان لهم بـمن قتلوه من علـم، ولكنهم اتبعوا ظنهم، فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى وأنه الذي يريدون قتله، ولـم يكن به. وَما قَتَلُوهُ يَقِـينا

يقول: وما قتلوا هذا الذي اتبعوه فـي الـمقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى يقـينا أنه عيسى، ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه علـى ظنّ وشبهة وهذا كقول الرجل للرجل: ما قتلت هذا الأمر علـما وما قتلته يقـينا، إذا تكلـم فـيه بـالظنّ علـى غير يقـين علـم فـالهاء فـي قوله: وَما قَتَلُوهُ عائدة علـى الظنّ.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٥٧٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِـينا قال: يعنـي: لـم يقتلوا ظنهم يقـينا.

٨٥٧٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد، عن جويبر فـي قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِـينا قال: ما قتلوا ظنّهم يقـينا.

وقال السديّ فـي ذلك، ما:

٨٥٨٠ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: وَما قَتَلُوهُ يَقِـينا: وما قتلوا أمره يقـينا أن الرجل هو عيسى، بل رفعه اللّه إلـيه.

١٥٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {بَل رّفَعَهُ اللّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللّه عَزِيزاً حَكِيماً }.

أما قوله جلّ ثناؤه: بَلْ رَفَعَهُ اللّه إلَـيْهِ فإنه يعنـي: بل رفع اللّه الـمسيح إلـيه،

يقول: لـم يقتلوه ولـم يصلبوه، ولكن اللّه رفعه إلـيه، فطهره من الذين كفروا. وقد بـينا كيف كان رفع اللّه إياه فـيـما مضى، وذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك والصحيح من القول فـيه بـالأدلة الشاهدة علـى صحته بـما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: وكانَ اللّه عَزِيزا حَكِيـما فإنه يعنـي: ولـم يزل اللّه منتقما من أعدائه، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلـمهم، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله: فَبِـما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّه حكيـما،

يقول: ذا حكمة فـي تدبـيره وتصريفه خـلقه فـي قضائه،

يقول: فـاحذروا أيها السائلون مـحمدا أن ينزل علـيكم كتابـا من السماء من حلول عقوبتـي بكم، كما حلّ بـاوائلكم الذين فعلوا فعلكم فـي تكذيبهم رسلـي، وافترائهم علـى أولـيائي. وقد:

٨٥٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مـحمد بن إسحاق بن أبـي سارة الرّؤَاسيّ، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: وكانَ اللّه عَزِيزا حَكِيـما قال: معنى ذلك: أنه كذلك.

١٥٩

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }.

اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك،

فقال بعضهم: معنى ذلك: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ يعنـي بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ يعنـي: قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلـى أن جميعهم يصدّقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الـملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الـحنـيفـية، دين إبراهيـم صلى اللّه عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

٨٥٨٢ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى ابن مريـم.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى.

٨٥٨٣ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك فـي قوله: إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: ذلك عند نزول عيسى ابن مريـم لا يبقـى أحد من أهل الكتاب إلا لـيومننّ به.

٨٥٨٤ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن حميد، عن الـحسن، قال: قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل أن يـموت عيسى ابن مريـم.

٨٥٨٥ـ حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن علـية، عن أبـي رجاء، عن الـحسن فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى، واللّه إنه الاَن لـحيّ عند اللّه ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.

٨٥٨٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ

يقول: قبل موت عيسى.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى إذا نزل آمنت به الأديان كلها.

حدثنا ابو وكيع قال: حدثنا أبـي، عن أبـي جعفر الرازيّ، عن الربـيع بن أنس، عن الـحسن، قال: قبل موت عيسى.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الـحسن: إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: عيسى ولـم يـمت بعد.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عيـينة، عن حصين، عن أبـي مالك، قال: لا يبقـى أحد منهم عند نزول عيسى إلا آمن به.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن حصين، عن أبـي مالك، قال: قبل موت عيسى.

٨٥٨٧ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: إذا نزل عيسى ابن مريـم فقتل الدجال لـم يبق يهوديّ فـي الأرض إلا آمن به، قال: وذلك حين لا ينفعهم الإيـمان.

٨٥٨٨ـ حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه عن ابن عبـاس ، قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يعنـي: أنه سيدرك أناس من أهل الكتاب حين يبعث عيسى، فـيؤمنون به، ويوم القـيامة يكون علـيهم شهيدا.

٨٥٨٩ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الـحسن أنه قال فـي هذه الاَية: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. قال أبو جعفر: أظنه إنـما قال: إذا خرج عيسى آمنت به الـيهود.

وقال آخرون: يعنـي بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا لـيؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابـي.

ذكر من كان يوجه ذلك، إلـى أنه إذا عاين علـم الـحقّ من البـاطل، لأن كلّ من نزل به الـموت لـم تـخرج نفسه حتـى يتبـين له الـحقّ من البـاطل فـي دينه:

٨٥٩٠ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس ، قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت يهوديّ حتـى يؤمن بعيسى.

٨٥٩١ـ حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا: حدثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا تـخرج نفسه، حتـى يؤمن بعيسى، وإن غرق، أو تردّى من حائط، أو أيّ ميتة كانت.

حدثنـي مـحمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قوله: إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ كلّ صاحب كتاب لـيؤمننّ به بعيسى قبل موته، موت صاحب الكتاب.

٨٥٩٢ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ كلّ صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته، قبل موت صاحب الكتاب

قال ابن عبـاس : لو ضُربت عنقه، لـم تـخرج نفسه حتـى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو تـميـلة يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن يزيد النـحويّ، عن عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: لا يـموت الـيهوديّ، حتـى يشهد أن عيسى عبد اللّه ورسوله، ولو عجل علـيه بـالسلاح.

٨٥٩٣ـ حدثنـي إسحاق بن إبراهيـم بن حبـيب بن الشهيد، قال: حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: هي فـي قراءة أبـيّ: (قبل موتهم). لـيس يهوديّ يـموت أبدا حتـى يؤمن بعيسى قـيـل لابن عبـاس : أرأيت إن خرّ من فوق بـيت؟ قال: يتكلـم به فـي الهُويّ. فقـيـل: أرأيت إن ضُربت عنق أحد منهم؟ قال: يتلـجلـج بها لسانه.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنـي أبو نعيـم الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفـيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عبـاس : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت يهوديّ حتـى يؤمن بعيسى ابن مريـم،

قـيـل: وإن ضرب بـالسيف؟ قال: يتكلـم به،

قـيـل: وإن هَوَى؟ قال: يتكلـم به وهو يَهْوي.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي مـحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي هارون الغنوي، عن عكرمة عن ابن عبـاس ، أنه قال فـي هذه الاَية: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لو أنّ يهوديا وقع من فوق هذا البـيت لـم يـمت حتـى يؤمن به يعنـي: بعيسى.

٨٥٩٤ـ حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الصمد، قال: حدثنا شعبة، عن مولـى لقريش، قال: سمعت عكرمة

يقول: لو وقع يهوديّ من فوق القصر، لـم يبلغ إلـى الأرض، حتـى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفـيان، عن أبـي هاشم الرّمانـي، عن مـجاهد: لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: وإن وقع من فوق البـيت لا يـموت حتـى يؤمن به.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو بن أبـي قـيس، عن منصور، عن مـجاهد: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت رجل من أهل الكتاب حتـى يؤمن به، وإن غرق، أو تردّى، أو مات بشيء.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن لـيث، عن مـجاهد فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا تـخرج نفسه حتـى يؤمن به.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، عن خصيف، عن عكرمة: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت أحدهم حتـى يؤمن به، يعنـي: بعيسى، وإن خرّ من فوق بـيت يؤمن به وهو يهوي.

٨٥٩٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك ، قال: لـيس أحد من الـيهود يخرج من الدنـيا حتـى يؤمن بعيسى.

٨٥٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن فرات القزاز، عن الـحسن فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت أحد منهم، حتـى يؤمن بعيسى، يعنـي: الـيهود والنصارى.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن فرات، عن الـحسن فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت أحد منهم، حتـى يؤمن بعيسى قبل أن يـموت.

٨٥٩٧ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا الـحكم بن عطية، عن مـحمد بن سيرين: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: موت الرجل من أهل الكتاب.

حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال:

قال ابن عبـاس : لـيس من يهوديّ ولا نصرانـيّ يـموت حتـى يؤمن بعيسى ابن مريـم. فقال له رجل من أصحابه: كيف والرجل يغرق، أو يحترق، أو يسقط علـيه الـجدار، أو يأكله السبع؟ فقال: لا تـخرج روحه من جسده حتـى يقذف فـيه الإيـمان بعيسى.

حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ

يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: لا يـموت أحد من الـيهود حتـى يشهد أن عيسى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٨٥٩٨ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا يعلـى، عن جويبر فـي قوله: لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: فـي قراءة أبـيّ: (قبل موتهم).

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا لـيؤمننّ بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل موت الكتابـي. ذكر من قال ذلك:

٨٥٩٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد، عن حميد، قال: قال عكرمة: لا يـموت النصرانـيّ والـيهوديّ حتـى يؤمن بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم يعنـي فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصحة والصواب قول من قال: تأويـل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا لـيؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب من غيره من الأقوال، لأن اللّه جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم بحكم أهل الإيـمان فـي الـموارثة والصلاة علـيه وإلـحاق صغار أولاده بحكمه فـي الـملة، فلو كان كلّ كتابـيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابـيّ إذا مات علـى ملته إلا أولاده الصغار أو البـالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بـالغ مسلـم، وإن لـم يكن له ولد صغير ولا بـالغ مسلـم، كان ميراثه مصروفـا حيث يصرف مال الـمسلـم، يـموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم الـمسلـمين فـي الصلاة علـيه وغسله وتقبـيره، لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بـمـحمد وبجميع الرسل وذلك أن عيسى صلوات اللّه علـيه جاء بتصديق مـحمد وجميع الـمرسلـين، فـالـمصدّق بعيسى والـمؤمن به مصدّق بـمـحمد وبجميع أنبـياء اللّه ورسله، كما أن الـمؤمن بـمـحمد مؤمن بعيسى وبجميع أنبـياء اللّه ورسله، فغير جائز أن يكون مؤمنا بعيسى من كان بـمـحمد مكذّبـا.

فإن ظنّ ظانّ أن معنى إيـمان الـيهوديّ بعيسى، الذي ذكره اللّه فـي قوله: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إنـما هو إقراره بأنه لله نبـيّ مبعوث دون تصديقه بجميع ما أتـى به من عند اللّه ، فقد ظنّ خطأ. وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبـا إلـى الإقرار بنبوّة نبـيّ من كان له مكذّبـا فـي بعض ما جاء به من وحي اللّه وتنزيـله، بل غير جائز أن يكون منسوبـا إلا الإقرار بنبوةّ أحد من أنبـياء اللّه لأن الأنبـياء جاءت الأمـمـم بتصديق جميع أنبـياء اللّه ورسله فـالـمكذب بعض أنبـياء اللّه فـيـما أتـى به أمته من عند اللّه مكذب جميع أنبـياء اللّه فـيـما دعوا إلـيه من دين عبـاد اللّه . وإذ كان ذلك كذلك، كان فـي إجماع الـجميع من أهل الإسلام علـى أن كل كتابـي مات قبل إقراره بـمـحمد صلوات اللّه علـيه وما جاء به من عند اللّه ، مـحكوم له بحكم الـمسألة التـي كان علـيها أيام حياته، غير منقول شيء من أحكامه فـي نفسه وماله وولده صغارهم وكبـارهم بـموته عما كان علـيه فـي حياته، أدلّ الدلـيـل علـى أن معنى قول اللّه : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاّ لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إنـما معناه: إلا لـيؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك فـي خاصّ من أهل الكتاب، ومعنىّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التـي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله. كالذي:

٨٦٠٠ـ حدثنـي بشر بن معاذ، قال: ثنـي يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبـي هريرة، أن نبـيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

(الأنْبِـياءُ إخْوَةٌ لِعَلاّتٍ أُمّهاتُهُمْ شَتّـى وَديِنُهُمْ وَاحِدٌ، وإنّى أوْلـى النّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ لأنّهُ لَـمْ يَكُنْ بَـيْنِـي وَبَـيْنَهُ نَبِـيّ. وَإنّهُ نازِلٌ، فإذَا رأيْتُـمُوهُ فـاعْرِفُوهُ، فإنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الـخَـلْقِ إلـى الـحُمْرَةِ وَالبَـياضِ، سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ رأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَـمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بـينَ مُـمَصّرَتَـيْنِ، فَـيَدُقّ الصّلِـيبَ، وَيَقْتُلُ الـخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الـجزْيَةَ، وَيُفِـيضُ الـمَالُ، وَيُقاتِلِ النّاسَ علـى الإسْلامِ حتـى يَهْلِكَ اللّه فِـي زَمانِهِ الـمِلَلَ كُلّها غيرَ الإسْلامِ، ويُهْلِكُ اللّه فِـي زَمانِهِ مَسِيحَ الضّلالَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ، وَتَقَعُ الأمَنَةُ فِـي الأرْضِ فِـي زَمانِهِ حتـى تَرْتَعَ الأُسُودُ معَ الإبِلِ والنّـمُورُ مَعَ البَقَرِ وَالذّئابُ مَعَ الغَنـمِ، وَتَلْعَبُ الغِلْـمانُ وَالصبْـيانُ بـالـحَيّاتِ لا يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا، ثُمّ يَـلْبَثُ فِـي الأرْضِ ما شاء اللّه ) وربـما قال: (أربعين سنة، ثم يُتوفـى ويصلـي علـيه الـمسلـمون ويُدفنونه).

وأما الذي قال: عنـي بقوله: لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لـيؤمننّ بـمـحمد صلى اللّه عليه وسلم قبل موت الكتابـي، فمـما لا وجه له مفهوم لأنه مع فساده من الوجه الذي دللّنا علـى فساد قول من قال: عنى به: لـيؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابـيّ، يزيده فسادا أنه لـم يجر لـمـحمد علـيه الصلاة والسلام فـي الاَيات التـي قبل ذلك ذكر، فـيجوز صرف الهاء التـي فـي قوله: لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ إلـى أنها من ذكره، وإنـما قوله: لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ فـي سياق ذكر عيسى وأمه والـيهود، فغير جائز صرف الكلام عما هو فـي سياقه إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها من دلالة ظاهر التنزيـل أو خبر عن الرسول تقوم به حجة فأما الدعاوي فلا تتعذّر علـى أحد. فتأويـل الاَية إذ كان الأمر علـى ما وصفت: وما من أهل الكتاب إلا من لـيؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وحذف (مَنْ) بعد (إلا) لدلالة الكلام علـيه، فـاستغنـي بدلالته عن إظهاره كسائر ما قد تقدمّ من أمثاله التـي قد أتـينا علـى البـيان عنها.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَيَوْمَ القِـيامَةِ يَكُونُ عَلَـيْهِمْ شَهِيدا.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وَيَوْمَ القِـيامَةِ يَكُونُ عيسى علـى أهل الكتاب شَهِيدا يعنـي: شاهدا علـيهم بتكذيب من كذّبه منهم، وتصديق من صدّقه منهم فـيـما أتاهم به من عند اللّه وبإبلاغه رسالة ربه. كالذي:

٨٦٠١ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج: وَيَوْمَ القِـيامَةِ يَكُونُ عَلَـيْهِمْ شَهِيدا أنه قد أبلغهم ما أرسله به إلـيهم.

٨٦٠٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وَيَوْمَ القِـيامَةِ يَكُونُ عَلَـيْهِمْ شَهِيدا

يقول: يكون علـيهم شهيدا يوم القـيامة، علـى أنه قد بلّغ رسالة ربه وأقرّ بـالعبودية علـى نفسه.

١٦٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فحرمنا علـى الـيهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات اللّه ، وقتلوا أنبـياءهم، وقالوا البهتان علـى مريـم، وفعلوا ما وصفهم اللّه فـي كتابه طيبـات من الـمآكل وغيرها كانت لهم حلالاً، عقوبة لهم بظلـمهم الذي أخبر اللّه عنهم فـي كتابه. كما:

٨٦٠٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: فَبِظُلْـمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا عَلَـيْهِمْ طَيّبـاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ... الاَية، عوقب القوم بظلـم ظَلَـموه وبَغْيٍ بَغَوه حرّمت علـيهم أشياء ببغيهم وبظلـمهم.

وقوله: وَبِصَدّهِمْ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه كَثِـيرا يعنـي: وبصدّهم عبـاد اللّه عن دينه وسبله التـي شرعها لعبـاده صدّا كثـيراٍ، وكان صدّهم عن سبـيـل اللّه بقولهم علـى اللّه البـاطل، وادّعائهم أن ذلك عن اللّه ، وتبديـلهم كتاب اللّه وتـحريف معانـيه عن وجوهه، وكان من عظيـم ذلك جحودهم نبوّة نبـينا مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وتركهم بـيان ما قد علـموا من أمره لـمن جهل أمره من الناس. وبنـحو ذلك كان مـجاهد يقول.

٨٦٠٤ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنـي أبو عاصم، قال: ثنـي عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : وَبِصَدّهِمْ عَنْ سَبِـيـلِ اللّه كَثِـيرا قال: أنفسهم وغيرهم عن الـحقّ.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد مثله.

١٦١

وقوله: وأخْذِهِمُ الرّبـا وهو أخذهم ما أفضلوا علـى رءوس أموالهم لفضل تأخير فـي الأجل بعد مَـحِلها. وقد بـينت معنى الربـا فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته. وقَدْ نُهُوا عَنْهُ: يعنـي عن أخذ الربـا.

وقوله: وأكْلِهِمْ أمْوَالَ النّاسِ بـالبـاطِلِ يعنـي: ما كانوا يأخذون من الرشا علـى الـحكم، كما وصفهم اللّه به فـي قوله: وَتَرَى كَثِـيرا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِـي الإثْمِ والعُدْوَانِ وأكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وكان من أكلهم أموال الناس بـالبـاطل ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التـي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند اللّه ، وما أشبه ذلك من الـمآكل الـخسيسة الـخبـيثة. فعاقبهم اللّه علـى جميع ذلك بتـحريـمه ما حرّم علـيهم من الطيبـات التـي كانت لهم حلالاً قبل ذلك. وإنـما وصفهم اللّه بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بـالبـاطل بأنهم أكلوه بغير استـحقاق وأخذوا أموالهم منهم بغير استـيجاب، فقوله: وأعْتَدْنا للكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابـا ألِـيـما يعنـي: وجعلنا للكافرين بـاللّه وبرسوله مـحمد من هؤلاء الـيهود العذاب الألـيـم، وهو الـموجع من عذاب جهنـم، عدة يصلونها فـي الاَخرة، إذا وردوا علـى ربهم فـيعاقبهم بها.

١٦٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّـَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ...}.

هذا من اللّه جل ثناؤه استثناء، استثنى من أهل الكتاب من الـيهود الذين وصف صفتهم فـي هذه الاَيات التـي مضت من قوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ ثم قال جل ثناؤه لعبـاده، مبـينا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده: ما كُلّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التـي وصفت لكم، لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ مِنْهُمْ وهم الذين قد رسخوا فـي العلـم بأحكام اللّه التـي جاءت بها أنبـياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا حقـيقته. وقد بـينا معنى الرسوخ فـي العلـم بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وَالـمُؤْمِنُونَ يعنـي: والـمؤمنون بـاللّه ورسله، وهم يؤمنون بـالقرآن الذي أنزل اللّه إلـيك يا مـحمد، وبـالكتب التـي أنزلها علـى من قبلك من الأنبـياء والرسل، ولا يسألونك كما سأل هؤلاء الـجهلة منهم أن تنزل علـيهم كتابـا من السماء، لأنهم قد علـموا بـما قرءوا من كتب اللّه وأتتهم به أنبـياؤهم، أنك لله رسول واجب علـيهم اتبـاعك، لا يسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلـى أن يسألوك آية معجزة، ولا دلالة غير الذي قد علـموا من أمرك بـالعلـم الراسخ فـي قلوبهم من أخبـار أنبـيائهم إياهم بذلك وبـما أعطيتك من الأدلة علـى نبوّتك، فهم لذلك من علـمهم ورسوخهم فـيه يُؤْمِنُونَ بِـما أُنْزِلَ إلَـيْكَ من الكتاب و ب بـما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من سائر الكتب. كما:

٨٦٠٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ مِنْهُمْ وَالـمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِـما أنْزِلَ إلَـيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ استثنى اللّه ثَنِـيّةً من أهل الكتاب، وكان منهم من يؤمن بـالله، وما أنزل علـيهم، وما أنزل علـى نبـيّ اللّه ، يؤمنون به ويصدّقون به، ويعلـمون أنه الـحقّ من ربهم.

ثم اختلف فـي الـمقـيـمين الصلاة، أهم الراسخون فـي العلـم، أم هم غيرهم؟

فقال بعضهم: هم هم. ثم اختلف قائلو ذلك فـي سبب مخالفة إعرابهم إعراب الراسخون فـي العلـم، وهما من صفة نوع من الناس،

فقال بعضهم: ذلك غلط من الكاتب، وإنـما هو: لكن الراسخون فـي العلـم منهم، والـمقـيـمون الصلاة. ذكر من قال ذلك:

٨٦٠٦ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا الـحجاج بن الـمنهال، قال: حدثنا حماد بن سلـمة، عن الزبـير، قال: قلت لأبـان بن عثمان بن عفـان: ما شأنها كتبت لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ مِنْهُمْ وَالـمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنونَ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والـمُقِـيـمِينَ الصّلاةَ؟ قال: إن الكاتب لـما كتب لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ مِنْهُمْ حتـى إذا بلغ قال: ما أكتب؟ قـيـل له اكتب والـمُقِـيـمِينَ الصّلاةَ فكتب ما قـيـل له.

٨٦٠٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، أنه سأل عائشة عن قوله: وَالـمُقِـيـمِينَ الصّلاةَ، وعن قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ، وعن قوله: إنّ هَذَانِ لَساحِرَانِ فقالت: يا ابن أختـي هذا عمل الكتاب أخطئوا فـي الكتاب.

وذكر أن ذلك فـي قراءة ابن مسعود: (والـمُقِـيـمُونَ الصّلاةَ).

وقال آخرون، وهو قول بعض نـحويـي الكوفة والبصرة: والـمقـيـمون الصلاة من صفة الراسخون فـي العلـم، ولكن الكلام لـما تطاول واعترض بـين الراسخين فـي العلـم والـمقـيـمن الصلاة ما اعترض من الكلام فطال نصب الـمقـيـمين علـى وجه الـمدح،

قالوا: والعرب تفعل ذلك فـي صفة الشيء الواحد ونعته إذا تطاولت بـمدح أو ذمّ خالفوا بـين إعراب أوّله وأوسطه أحيانا ثم رجعوا بآخره إلـى إعراب أوّله، وربـما أجروا إعراب آخره علـى إعراب أوسطه، وربـما أجروا ذلك علـى نوع واحد من الإعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك بـالاَيات التـي ذكرناهاا فـي قوله: والـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِـي البَأْساءِ والضّرّاءِ.

وقال آخرون: بل الـمقـيـمون الصلاة من صفة غير الراسخين فـي العلـم فـي هذا الـموضع وإن كان الراسخون فـي العلـم من الـمقـيـمين الصلاة

وقال قائلو هذه الـمقالة جميعا: موضع الـمقـيـمين فـي الإعراب خفض،

فقال بعضهم: موضعه خفض علـى العطف علـى (ما) التـي فـي قوله: يُؤْمِنُونَ بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويؤمنون بـالـمقـيـمين الصلاة.

ثم اختلف متأوّلو ذلك فـي هذا التأويـل فـي معنى الكلام،

فقال بعضهم: معنى ذلك: والـمؤمنون يؤمنون بـما أنزل إلـيك وما أنزل من قبلك، وبإقام الصلاة.

قالوا: ثم ارتفع قوله: (والـمؤتون الزكاة)، عطفـا علـى ما فـي (يؤمنون) من ذكر الـمؤمنـين، كأنه

قـيـل: والـمؤمنون يؤمنون بـما أنزل إلـيك هم والـمؤتون الزكاة.

وقال آخرون: بل الـمقـيـمون الصلاة: الـملائكة.

قالوا: وإقامتهم الصلاة: تسبـيحهم ربهم واستغفـارهم لـمن فـي الأرض.

قالوا: ومعنى الكلام: والـمؤمنون يؤمنون بـما أنزل إلـيك وما أنزل من قبلك وبـالـملائكة.

وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: والـمؤمنون يؤمنون بـما أنزل إلـيك وما أنزل من قبلك، ويؤمنون بـالـمقـيـمين الصلاة، هم والـمؤتون الزكاة، كما قال جلّ ثناؤه: يُؤْمِنُ بـاللّه وَيُؤْمِنُ للِـمُؤْمِنِـينَ. وأنكر قائلو هذه الـمقالة أن يكون الـمقـيـمين منصوبـا علـى الـمدح و

قالوا: إنـما تنصب العرب علـى الـمدح من نعت من ذكرته بعد تـمام خبره

قالوا: وخبر الراسخين فـي العلـم قوله: أُولَئِكَ سَنُؤْتِـيهِمْ أجْرا عَظِيـما

قال: فغير جائز نصب الـمقـيـمين علـى الـمدح وهو فـي وسط الكلام ولـما يتـمّ خبر الابتداء.

وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون فـي العلـم منهم، ومن الـمقـيـمين الصلاة.

وقالوا: موضع الـمقـيـمين خفض.

وقال آخرون: معناه: والـمؤمنون يؤمنون بـما أنزل إلـيك وإلـى الـمقـيـمين الصلاة.

وقال أبو جعفر: وهذا الوجه والذي قبله منكر عند العرب، ولا تكاد العرب تعطف لظاهر علـى مكنـيّ فـي حال الـخفض وإن كان ذلك قد جاء فـي بعض أشعارها.

وأولـى الأقوال عندي بـالصواب، أن يكون الـمقـيـمين فـي موضع خفض نسقا علـى (ما) التـي فـي قوله: بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وأن يوجه معنى الـمقـيـمين الصلاة إلـى الـملائكة، فـيكون تأويـل الكلام: والـمؤمنون منهم يؤمنون بـما أنزل إلـيك يا مـحمد من الكتاب وبـما أنزل من قبلك من كتبـي وبـالـملائكة الذين يقـيـمون الصلاة ثم يرجع إلـى صفة الراسخين فـي العلـم فـ

يقول: لكن الراسخون فـي العلـم منهم، والـمؤمنون بـالكتب، والـمؤتون الزكاة، والـمؤمنون بـاللّه والـيوم الاَخر. وإنـما اخترنا هذا علـى غيره، لأنه قد ذكر أن ذلك فـي قراءة أبـيّ بن كعب: (والـمقـيـمين)، وكذلك هو فـي مصحفه فـيـما ذكروا، فلو كان ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون فـي كل الـمصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ فـي كتابه بخلاف ما هو فـي مصحفنا. وفـي اتفـاق مصحفنا ومصحف أبـيّ فـي ذلك، ما يدلّ علـى أن الذي فـي مـحصفنا من ذلك صواب غير خطأ، مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الـخط، لـم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعلـمون من علـموا ذلك من الـمسلـمين علـى وجه اللـحن، ولأصلـحوه بألسنتهم، ولقنوه للأمة تعلـيـما علـى وجه الصواب. وفـي نقل الـمسلـمين جميعا ذلك قراءة علـى ما هو به فـي الـخطّ مرسوما أدلّ الدلـيـل علـى صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع فـي ذلك للكاتب.

وأما من وجه ذلك إلـى النصب علـى وجه الـمدح للراسخين فـي العلـم وإن كان ذلك قد يحتـمل علـى بعد من كلام العرب لـما قد ذكرنا قبل من العلة، وهو أن العرب لا تعدل عن إعراب الاسم الـمنعوت بنعت فـي نعته إلا بعد تـمام خبره، وكلام اللّه جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلـى الذي هو به من الفصاحة.

وأما توجيه من وجه ذلك إلـى العطف به علـى الهاء والـميـم فـي قوله: لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِـي العِلْـمِ مِنْهُمْ أو إلـى العطف به علـى الكاف من قوله: بِـمَا أُنْزِلَ إلَـيْكَ أو إلـى الكاف من قوله: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه علـى الـمدح لـما قد ذكرت قبل من قبح ردّ الظاهر علـى الـمكنـي فـي الـخفض.

وأما توجيه من وجه الـمقـيـمين إلـى الإقامة، فإنه دعوى لا برهان علـيها من دلالة ظاهر التنزيـل ولا خبر تثبت حجته، وغير جائز نقل ظاهر التنزيـل إلـى بـاطن بغير برهان.

وأما قوله: وَالـمُؤْتُونَ الزّكاةَ فإنه معطوف به علـى قوله: وَالـمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ وهو من صفتهم. وتأويـله: والذين يعطون زكاة أموالهم من جعلها اللّه له وصرفها إلـيه والُـمؤْمِنُونَ بـاللّه وَالـيَوْمِ الاَخِرِ يعنـي: والـمصدّقون بوحدانـية اللّه وألوهيته، والبعث بعد الـمـمات، والثواب والعقاب أولئك سَنُؤْتِـيهمْ أجْرا عَظِيـما

يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم سنؤتـيهم،

يقول: سنعطيهم أجرا عظيـما، يعنـي: جزاء علـى ما كان منهم من طاعة اللّه ، واتبـاع أمره، وثوابً عظيـما، وذلك الـجنة.

١٦٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ نُوحٍ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: إنّا أوْحَيْنا إلَـيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلـى نُوحٍ: إنا أرسلنا إلـيك يا مـحمد بـالنبوّة كما أرسلنا إلـى نوح وإلـى سائر الأنبـياء الذين سميتهم لك من بعده والذين لـم أسمهم لك. كما:

٨٦٠٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن منذر الثوريّ، عن الربـيع بن خُثَـيْـم فـي قوله: إنّا أوْحَيْنا إلَـيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلـى نُوحٍ وَالنّبِـيّـينَ مِنْ بَعْدِه قال: أوحى إلـيك كما أوحى إلـى جميع النبـيـين من قبله.

وذكر أن هذه الاَية نزلت علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لأن بعض الـيهود لـما فضحهم اللّه بـالاَيات التـي أنزلها علـى رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وذلك من قوله: يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ فتلا ذلك علـيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

قالوا: ما أنزل اللّه علـى بشر من شيء بعد موسى. فأنزل اللّه هذه الاَيات تكذيبـا لهم، وأخبر نبـيه والـمؤمنـين به أنه قد أنزل علـيه بعد موسى وعلـى من سماهم فـي هذه الاَية وعلـى آخرين لـم يسمهم. كما:

٨٦٠٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حيـمد، قال: حدثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: قال سُكَيْن وعديّ بن زيد: يا مـحمد ما نعلـم اللّه أنزل علـى بشر من شيء بعد موسى، فأنزل اللّه فـي ذلك من قولهما: إنّا أوْحَيْنا إلَـيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلـى نُوحٍ وَالنّبِـيّـينَ مِنْ بَعْدِه... إلـى آخر الاَيات.

وقال آخرون: بل

قالوا: لـما أنزل اللّه الاَيات التـي قبل هذه فـي ذكرهم ما أنزل اللّه علـى بشر من شيء، ولا علـى موسى، ولا علـى عيسى، فأنزل اللّه جلّ ثناؤه: وَما قَدَرُوا اللّه حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أنْزَلَ اللّه عَلـى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ولا علـى موسى، ولا علـى عيسى. ذكر من قال ذلك:

٨٦١٠ـ حدثنـي الـحرث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا أبو معشر، عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ، قال: أنزل اللّه : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَـيْهِمْ كِتابـا مِنَ السّماءِ... إلـى قوله: وَقَوْلِهِمْ علـى مَرْيَـمَ بُهْتانا عَظِيـما، فلـما تلاها علـيهم يعنـي علـى الـيهود وأخبرهم بأعمالهم الـخبـيثة، جحدوا كلّ ما أنزل اللّه ، و

قالوا: ما أنزل اللّه علـى بشر من شيء، ولا علـى موسى، ولا علـى عيسى، وما أنزل اللّه علـى نبـيّ من شيء

قال: فحل حُبْوَته، وقال: ولا علـى أحد فأنزل اللّه جلّ ثناؤه: وَما قَدَرُوا اللّه حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أنْزَلَ اللّه عَلـى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.

وأما قوله: وآتَـيْنا دَاوُدَ زَبُورا فإن القراء اختلفت فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء أمصار الإسلام غير نفر من قرّاء الكوفة: وآتَـيْنا دَاوُدَ زَبُورا بفتـح الزاي علـى التوحيد، بـمعنـي: وآتـينا داود الكتاب الـمسمى زبورا. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفـيـين: (وآتَـيْنا دَاوُدَ زُبُورا) بضمّ الزاي جمع زُبُر، كأنهم وجهوا تأويـله: وآتـينا داود كتبـا وصحفـا مزبورة، من قولهم: زَبَرْت الكتاب أَزْبُرُه زَبْرا، وذَبَرْته أَذْبُرُه ذَبْرا: إذا كتبته.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب عندنا، قراءة من قرأ: وآتَـيْنا دَاوُدَ زَبُورا بفتـح الزاي علـى أنه اسم الكتاب الذي أوتـيه داود، كما سمى الكتاب الذي أوتـيه موسى التوراة، والذي أوتـيه عيسى الإنـجيـل، والذي أوتـيه مـحمد الفرقان، لأن ذلك هو الاسم الـمعروف به ما أوتـي داود، وإنـما تقول العرب زَبور داود، وبذلك يعرف كتابه سائر الأمـم.

١٦٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إنا أوحينا إلـيك، كما أوحينا إلـى نوح، وإلـى رسل قد قصصناهم علـيك، ورسل لـم نقصصهم علـيك. فلعل قائلاً أن

يقول: فإذا كان ذلك معناه، فما بـال قوله: وَرُسُلاً منصوبـا غير مخفوض؟

قـيـل: نصب ذلك إذا لـم تعد علـيه (إلـى) التـي خفضت الأسماء قبله، وكانت الأسماء قبلها وإن كانت مخفوضة، فإنها فـي معنى النصب، لأن معنى الكلام: إنا أرسلناك رسولاً كما أرسلنا نوحا والنبـيـين من بعده، فعطفت الرسل علـى معنى الأسماء قبلها فـي الإعراب، لانقطاعها عنها دون ألفـاظها، إذ لـم يعد علـيها ما خفضها، كما قال الشّاعر:

لَوْ جِئْتَ بـالـخُبْزِ لَهُ مُنَشّرَاوالبَـيْضَ مَطْبُوخا مَعا والسّكّرَالـمْ يُرْضِهِ ذَلِكَ حتـى يَسْكَرَا

وقد يحتـمل أن يكون نصب الرسل، لتعلق الواو بـالفعل، بـمعنى: وقصصنا رسلاً علـيك من قبل، كما قال جلّ ثناؤه: يُدْخِـلُ مَنْ يَشاءُ فِـي رَحْمَتِهِ وَالظّالِـمِينَ أعَدّ لَهُمْ عَذَابـا ألِـيـما، وقد ذكر أن ذلك فـي قراءة أُبَـيّ: (وَرُسُلٌ قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَـيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلٌ لَـمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَـيْكَ) فرفع ذلك إذا قرىء كذلك بعائد الذكر فـي قوله: قَصَصْناهُمْ عَلَـيْكَ.

وأما قوله: وكَلّـمَ اللّه مُوسَى تَكْلِـيـما فإنه يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وخاطب اللّه بكلامه موسى خطابـا. وقد:

٨٦١١ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا نوح بن أبـي مريـم، وسئل: كيف كلّـم اللّه موسى تكلـيـما؟ فقال: مشافهة.

٨٦١٢ـ وقد حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن ابن مبـارك، عن معمر ويونس، عن الزهري، عن أبـي بكر بن عبد الرحمن بن الـحرث بن هشام، قال: أخبرنـي جزء بن جابر الـخثعمي، قال: سمعت كعبـا

يقول: إن اللّه جل ثناؤه لـمّا كلـم موسى، كلـمه بـالألسنة كلها قبل كلامه يعنـي كلام موسى فجعل

يقول: يا ربّ لا أفهم حتـى كلـمه بلسانه آخر الألسنة،

فقال: يا ربّ هكذا كلامك؟ قال: لا، ولو سمعت كلامي أي علـى وجهه لـم تك شيئا. قال ابن وكيع، قال أبو أسامة: وزادنـي أبو بكر الصغانـي فـي هذا الـحديث: أن موسى قال: يا ربّ هل فـي خـلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا، وأقرب خـلقـي شبها بكلامي، أشدّ ما تسمع الناس من الصواعق.

٨٦١٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة بن عبد اللّه بن عمر، قال: سمعت مـحمد بن كعب القُرَظيّ،

يقول: سئل موسى: ما شبّهتَ كلام ربك مـما خـلق؟ فقال موسى: الرعد الساكن.

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا عبد اللّه بن وهب، قال: أخبرنـي يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرنـي أبو بكر بن عبد الرحمن، أنه أخبره عن جزء بن جابر الـخثعمي، قال: لـما كلـم اللّه موسى بـالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق

يقول: واللّه يا ربّ ما أفقه هذا حتـى كلـمه بلسانه آخر الألسنة بـمثل صوته، فقال موسى: يا ربّ هذا كلامك؟ قال: لا، قال: هل فـي خـلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا، وأقرب خـلقـي شبها بكلامي، أشدّ ما يسمع الناس من الصواعق.

حدثنـي أبو يونس الـمكيّ، قال: حدثنا ابن أبـي أُوَيس، قال: أخبرنـي أخي، عن سلـيـمان، عن مـحمد بن أبـي عتـيق، عن ابن شهاب، عن أبـي بكر بن عبد الرحمن بن الـحرث بن هشام، أنه أخبره جَزْء بن جابر الـخثعمي، أنه سمع الأحبـار تقول: لـمّا كلـم اللّه موسى بـالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق موسى

يقول: أي ربّ، واللّه ما أفقه هذا حتـى كلـمه آخر الألسنة بلسانه بـمثل صوته، فقال موسى: أي ربّ، أهكذا كلامك؟ فقال: لو كلـمتك بكلامي لـم تكن شيئا

قال: أي ربّ هل فـي خـلقك شيء يشبه كلامك؟ فقال: لا، وأقرب خـلقـي شبها بكلامي، أشدّ ما يسمع من الصواعق.

حدثنا ابن عبد الرحمين، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا زهير، عن يحيى، عن الزهريّ، عن أبـي بكر ابن عبد الرحمن بن الـحارث بن هشام، عن جزء بن جابر، أنه سمع كعبـا

يقول: لـما كلـم اللّه موسى بـالألسنة قبل لسانه، طفق موسى

يقول: أي ربّ، إنـي لا أفقه هذا حتـى كلـمه اللّه آخر الألسنة بـمثل لسانه، فقال موسى: أي ربّ هذا كلامك؟ قال اللّه : لو كلـمتك بكلامي لـم تكن شيئا

قال: يا ربّ، فهل من خـلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا، وأقرب خَـلْقـي شبها بكلامي، أشدّ ما يسمع من الصواعق.

١٦٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {رّسُلاً مّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: إنّا أوْحَيْنا إلَـيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلـى نُوحٍ وَالنّبِـيّـينَ مِنْ بَعْدِه ومن ذكر من الرسل رُسُلاً فنصب به الرسل علـى القطع من أسماء الأنبـياء الذين ذكر أسماءهم. مُبَشّرِينَ

يقول: أرسلتهم رسلاً إلـى خـلقـي وعبـادي مبشرين بثوابـي من أطاعنـي واتبع أمري وصدّق رسلـي، وَمُنْذِرِينَ عقابـي من عصانـي وخالف أمري وكذّب رسلـي. لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ علـى اللّه حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ

يقول: أرسلت رسلـي إلـى عبـادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتـجّ من كفر بـي وعبد الأنداد من دونـي، أو ضلّ عن سبـيـلـي بأن يقول إن أردت عقابه: لَوْلاَ أرْسَلْتَ إلَـيْنَا رَسُولاً فَنتَبّعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أنْ نَذِلّ وَنَـخْزَى، فقطع حجة كل مبطل ألـحد فـي توحيده وخالف أمره بجميع معانـي الـحجج القاطعة عذره، إعذارا منه بذلك إلـيهم، لتكون لله الـحجة البـالغة علـيهم وعلـى جميع خـلقه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٦١٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ علـى اللّه حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ فـيقولوا: ما أرسلت إلـينا رسلاً.

وكانَ اللّه عَزِيرا حَكِيـما

يقول: ولـم يزل اللّه ذا عزّة فـي انتقامه مـمن انتقم من خـلقه علـى كفره به ومعصيته إياه بعد تثبـيته حجته علـيه برسله وأدلته، حكيـما فـي تدبـيره فـيهم ما دبره.

١٦٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّـَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىَ بِاللّه شَهِيداً }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن يكفر بـالذي أوحينا إلـيك يا مـحمد الـيهود الذين سألوك أن تنزل علـيهم كتابـا من السماء، وقالوا لك: ما أنزل اللّه علـى بشر من شيء فكذّبوك، فقد كذّبوا ما الأمر، كما

قالوا: لكن اللّه يشهد بتنزيـله إلـيك ما أنزله من كتابه ووحيه، أنزل ذلك إلـيك بعلـم منه بأنك خيرته من خـلقه وصفـيه من عبـاده، ويشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيب من كذّبك، وخلاف من خالفك.

وكَفَـى بـاللّه شَهِيدا

يقول: وحسبك بـاللّه شاهدا علـى صدقك دون ما سواه من خـلقه، فإنه إذا شهد لك بـالصدق ربك لـم يضرّك تكذيب من كذّبك. وقد

قـيـل: إن هذه الاَية نزلت فـي قوم من الـيهود دعاهم النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم إلـى أتبـاعه، وأخبرهم أنهم يعلـمون حقـيقة نبوّته، فجحدوا نبوّته وأنكروا معرفته. ذكر الـخبر بذلك:

٨٦١٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس، عن مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، قال: ثنـي سعيد بن جبـير، أو عكرمة، عن ابن عبـاس ، قال: دخـل علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة من يهود، فقال لهم: (إنّى واللّه أعْلَـمُ أنّكُمْ لَتَعْلَـمُونَ أَنّى رَسُولُ اللّه )

فقالوا: ما نعلـم ذلك. فأنزل اللّه : لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِـمَا أَنْزَلَ إلَـيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْـمِهِ وَالـمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفَـى بـاللّه شَهِيدا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: ثنـي مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة وسعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس ، قال: دخـلتْ علـى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عصابة من الـيهود، ثم ذكر نـحوه.

٨٦١٦ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِـمَا أَنْزَلَ إلَـيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْـمِهِ وَالـمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفَـى بـاللّه شَهِيدا شهود واللّه غير متهمة.

١٦٧

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّه قَدْ ضَلّواْ ضَلاَلاَ بَعِيداً }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين جحدوا يا مـحمد نبوّتك بعد علـمهم بها من أهل الكتاب الذين اقتصصت علـيك قصتهم، وأنكروا أن يكون اللّه جل ثناؤه أوحى إلـيك كتابه، وَصدّوا عن سَبِـيـلِ اللّه يعنـي عن الدين الذي بعثك اللّه به إلـى خـلقه وهو الإسلام. وكان صدّهم عنه: قـيـلهم للناس الذين يسألونهم عن مـحمد من أهل الشرك: ما نـجد صفة مـحمد فـي كتابنا، وادّعاءهم أنهم عهد إلـيهم أن النبوّة لا تكون إلا فـي ولد هارون ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك من الأمور التـي كانوا يثبطون الناس بها عن اتبـاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتصديق به وبـما جاء به من عند اللّه . وبـما جاء به من عند اللّه وقوله: قَدْ ضَلّوا ضَلالاً بَعِيدا يعنـي: قد جاروا عن قصد الطريق جَوْرا شديدا، وزالوا عن الـمـحجة. وإنـما يعنـي جل ثناؤه بجورهم عن الـمـحجة، وضلالهم عنها: إخطاءهم دين اللّه الذي ارتضاه لعبـاده وابتعث به رسله،

يقول: من جحد رسالة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم وصدّ عما بعث به من الـملة من قبل منه، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين اللّه الذي ابتعث به أنبـياءه ضلالاً بعيدا.

١٦٨

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ ...}.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إنّ الذين جحدوا رسالة مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، وكفروا بـاللّه بجحود ذلك وظلـموا بـمقامهم علـى الكفر، علـى علـم منهم بظلـمهم عبـاد اللّه ، وحسدا للعرب، وبغيا علـى رسوله مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، لَـمْ يَكُنِ اللّه لِـيَغْفِرَ لَهُمْ يعنـي: لـم يكن اللّه لـيعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم علـيها، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم علـيها. وَلا لِـيَهْدِيَهُمْ طَرِيقا

يقول: ولـم يكن اللّه تعالـى ذكره لـيهدى هؤلاء الذين كفروا وظلـموا، الذين وصفنا صفتهم، فـيوفقهم لطريق من الطرق التـي ينالون بها ثواب اللّه ، ويصلون بلزومهم إياه إلـى الـجنة، ولكنه يخذلهم عن ذلك، حتـى يسلكوا طريق جهنـم.

١٦٩

وإنـما كنـي بذكر الطريق عن الدين وإنـما معنى الكلام: لـم يكن اللّه لـيوفقهم للإسلام، ولكنه يخذلهم عنه إلـى طريق جهنـم، وهو الكفر، يعنـي: حتـى يكفروا بـاللّه ورسله، فـيدخـلوا جهنـم خالدين فـيها أبدا،

يقول: مقـيـمين فـيها أبدا. وكانَ ذَلِكَ علـى اللّه يَسِيرا

يقول: وكان تـخـلـيد هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم فـي جهنـم علـى اللّه يسيرا، لأنه لا يقدر من أراد ذلك به علـى الامتناع منه، ولا له أحد يـمنعه منه، ولا يستصعب علـيه ما أراد فعله به، من ذلك، وكان ذلك علـى اللّه يسيرا، لأن الـخـلق خـلقه، والأمر أمره.

١٧٠

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ ...}.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: يا أيّها النّاسُ مشركي العرب، وسائر أصناف الكفر. قَدْ جاءَكُمُ الرّسُولُ يعنى: مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، قد جاءكم بـالـحَقّ مِنْ رَبّكُمْ

يقول: بـالإسلام الذى ارتضاه اللّه لعبـاده دينا،

يقول: من ربكم: يعنـي من عند ربكم. فَآمِنُوا خَيْرا لَكُمْ

يقول: فصدقوه وصدقّوا بـما جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الإيـمان بذلك خير لكم من الكفر به. وَإنْ تَكْفُرُوا

يقول: وإن تـجحدوا رسالته، وتكذّبوا به وبـما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به لن يضرّ غيركم، وإنـما مكروه ذلك عائد علـيكم دون الذي اللّه أمركم بـالذي بعث به إلـيكم رسوله مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم، وذلك أن لِلّهِ ما فِـي السّمَوَاتِ والأرْضِ ملكا وخـلقا، لا ينقص كفركم بـما كفرتـم به من أمره، وعصيانكم إياه فـيـما عصيتـموه فـيه من ملكه وسلطانه شيئا. وكانَ اللّه عَلِـيـما حَكِيـما

يقول: وكان اللّه علـيـما بـما أنتـم صائرون إلـيه من طاعته فـيـما أمركم به وفـيـما نهاكم عنه ومعصيته فـى ذلك، وعلـى علـم منه بذلك منكم أمركم ونهاكم. حَكِيـما يعنـي: حكيـما فـى أمره إياكم بـما أمركم به وفـي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفـي غير ذلك من تدبـيره فـيكم وفـي غيركم من خـلقه.

واختلف أهل العربـية فـي الـمعنى الذي من أجله نصب قوله: خَيْرا لَكُمْ فقال بعض نـحويـي الكوفة: نصب خيرا علـى الـخروج مـما قبله من الكلام، لأن ما قبله من الكلام قد تـم، وذلك قوله: فَآمِنُوا، وقال: قد سمعت العرب تفعل ذلك فـي كل خبر كان تامّا ثم اتصل به كلام بعد تـمامه علـى نـحو اتصال (خير) بـما قبله، فتقول: لتقومنّ خيرا لك، ولو فعلت ذلك خيرا لك، واتق اللّه خيرا لك

قال: وأما إذا كان الكلام ناقصا، فلا يكون إلا بـالرفع كقولك: إن تتق اللّه خير لك، و وَأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ.

وقال آخر منهم: جاء النصب فـي (خير)، لأن أصل الكلام: فآمنوا هو خير لكم، فلـما سقط (هو) الذي هو مصدر اتصل الكلام بـما قبله، والذي قبله معرفة و(خير) نكرة، فـانتصب لاتصاله بـالـمعرفة، لأن الإضمار من الفعل: قم فـالقـيام خير لك، ولا تقم فترك القـيام خير لك فلـما سقط اتصل بـالأوّل

وقال: ألا ترى أنك ترى الكناية عن الأمر تصلـح قبل الـخبر، فتقول للرجل: اتق اللّه هو خير لك، أي الاتقاء خير لك

وقال: لـيس نصبه علـى إضمار (يكن)، لأن ذلك يأتـي بقـياس يبطل هذا، ألا ترى أنك تقول: اتق اللّه تكن مـحسنا، ولا يجوز أن تقول: اتق اللّه مـحسنا، وأنت تضمر (كان)، ولا يصلـح أن تقول: انصرنا أخانا، وأنت تريد: تكن أخانا. وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا فـي (أَفْعَل) خاصة، فتقول: افعل هذا خيرا لك، ولا تفعل هذا خيرا لك وأفضلَ لك ولا تقول: صلاحا لك. وزعم أنه إنـما قـيـل مع (أفعل)، لأن (أفعل) يدلّ علـى أن هذا أصلـح من ذلك

وقال بعض نـحويـي البصرة: نصب (خيرا) لأنه حين قال لهم: آمنوا، أمرهم بـما هو خير لهم، فكأنه قال: اعملوا خيرا لكم، وكذلك: انتهوا خيرا لكم، قال: وهذا إنـما يكون فـي الأمر والنهي خاصة، ولا يكون فـي الـخبر، لا تقول: أن أنتهي خيرا لـي، ولكن يرفع علـى كلامين لأن الأمر والنهي يضمر فـيهما، فكأنك أخرجته من شيء إلـى شيء، لأنك حين قلت له انْتَهِ، كأنك قلت له: أخرج من ذا، وادخـل فـي آخر واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبـي ربـيعة:

فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتـيْ مالِكٍأوِ الرّبـا بَـيْنَهُما أسْهَلا

كما تقول: واعديه خيرا لك

قال: وقد سمعت نصب هذا فـي الـخبر، تقول العرب: آتـي البـيت خيرا لـي وأتركه خيرا لـي، وهو علـى ما فسرت لك فـي الأمر والنهي

وقال آخر منهم: نصب (خيرا) بفعل مضمر، واكتفـى من ذلك الـمضمر بقوله: لا تفعل هذا وافعل الـخير، وأجازه فـي غير (أفعل)،

فقال: لا تفعل ذاك صلاحا لك

وقال آخر منهم: نصب (خيرا) علـى ضمير جواب: يكن خيرا لكم، وقال: كذلك كل أمر ونهي.

١٧١

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: يا أهْلَ الكِتابِ: يا أهل الإنـجيـل من النصارى، لا تَغْلُوا فِـي دِيِنِكُمْ

يقول: لا تـجاوزوا الـحقّ فـي دينكم فتفرِطوا فـيه، ولا تقولوا فـي عيسى غير الـحقّ، فإنّ قـيـلكم فـي عيسى إنه ابن اللّه قول منكم علـى اللّه غير الـحقّ، لأن اللّه لـم يتـخذ ولدا، فـيكون عيسى أو غيره من خـلقه له ابنا. وَلا تَقُولُوا علـى اللّه إلاّ الـحَقّ وأصل الغلوّ فـي كلّ شيء: مـجاوزة حده الذي هو حده، يقال منه فـي الدين قد غلا فهو يغلو غُلُوّا، وغلا بـالـجارية عظمُها ولـحمُها: إذا أسرعت الشبـاب، فجاوزت لذاتها، يغلو بها غُلُوّا وغَلاءً ومن ذلك قول الـحارث بن خالد الـمخزومي:

خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشّحُهارُؤْدُ الشّبـابِ غلاِ بها عَظْمُ

٨٦١٧ـ وقد حدثنا الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، قال: صاروا فريقـين: فريق غَلَوا فـي الدين، فكان غلوّهم فـيه: الشكّ فـيه والرغبة عنه. وفريق منهم قصروا عنه ففسقوا عن أمر ربهم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ رَسُولُ اللّه وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: إنّـمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمُ: ما الـمسيح أيها الغالون فـي دينهم من أهل الكتاب بـابن اللّه كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريـم دون غيرها من الـخـلق، لا نسب له غير ذلك. ثم نعته اللّه جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته،

فقال: هو رسول اللّه ، أرسله اللّه بـالـحق إلـى من أرسله إلـيه من خـلقه. وأصل الـمسيح: الـمـمسوح، صرف من مفعول إلـى فعيـل، وسماه اللّه بذلك لتطهيره إياه من الذنوب

وقـيـل: مسح من الذنوب والأدناس التـي تكون فـي الاَدميـين، كما يـمسح الشيء من الأذى الذي يكون فـيه فـيطهر منه، ولذلك قال مـجاهد ومن قال مثل قوله: الـمسيح: الصديق. وقد زعم بعض الناس أن أصل هذه الكلـمة عبرانـية أو سريانـية (مَشِيحَا) فعرّبت، فقـيـل الـمسيح، كما عرّب سائر أسماء الأنبـياء التـي فـي القرآن مثل إسماعيـل وإسحاق وموسى وعيسى.

قال أبو جعفر: ولـيس ما مثل به من ذلك للـمسيح بنظير وذلك أن إسماعيـل وإسحاق وما أشبه ذلك، أسماء لا صفـات، والـمسيح صفة، وغير جائز أن تـخاطب العرب وغيرها من أجناس الـخـلق فـي صفة شيء إلا بـمثل ما يفهم عمن خاطبها، ولو كان الـمسيح من غير كلام العرب ولـم تكن العرب تعقل معناه ما خوطبت به. وقد أتـينا من البـيان عن نظائر ذلك فـيـما مضى بـما فـيه الكفـاية عن إعادتهوأما الـمسيح الدجال، فإنه أيضا بـمعنى الـمـمسوح العين، صرف من مفعول إلـى فعيـل، فمعنى الـمسيح فـي عيسى صلى اللّه عليه وسلم: الـمـمسوح البدن من الأدناس والاَثام، ومعنى الـمسيح فـي الدجال: الـمـمسوح العين الـيـمنى أو الـيسرى كالذي رُوِيَ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي ذلك.

وأما قوله: وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ فإنه يعنـي بـالكلـمة: الرسالة التـي أمر اللّه ملائكته أن تأتـي مريـم بها، بشارة من اللّه لها التـي ذكر اللّه جل ثناؤه فـي قوله: إذْ قالَتِ الـمَلائِكَةِ يا مَرْيَـمُ إنّ اللّه يُبَشّرُكِ بِكَلِـمَةٍ مِنْهُ يعنـي: برسالة منه، وبشارة من عنده. وقد قال قتادة فـي ذلك، ما:

٨٦١٨ـ حدثنابه الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: وكَلِـمَتُهُ ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ قال: هوقوله: كن فكان.

وقد بـيّنا اختلاف الـمختلفـين من أهل الإسلام فـي ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضعوقوله: ألْقاها إلـى مَرْيَـمَ يعنـي: أعلـمها بها وأخبرها، كما يقال: ألقـيت إلـيك كلـمة حسنة، بـمعنى أخبرتك بها، وكلـمتك بها.

وأما قوله: وَرُوحٌ مِنْه فإن أهل العلـم اختلفوا فـي تأويـله،

فقال بعضهم: معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْه: ونفخة منه، لأنه حدّث عن نفخة جبريـل علـيه السلام فـي دِرْع مريـم بأمر اللّه إياه بذلك، فنسب إلـى أنه رُوح من اللّه ، لأنه بأمره، كان، قال: وإنـما سمي النفخ رُوحا لأنها ريح تـخرج من الروح، واستشهدوا علـى ذلك من قولهم بقول ذي الرمة فـي صفة نار نعتها:

فلـمّا بَدَتْ كَفّنْتُها وَهْيَ طِفْلَةٌبطَلْساءَ لَـم تَكْمُل ذِرَاعا وَلا شِبْرَا

وقُلْتُ لَهُ ارْفَعْها إلَـيْكَ وأحْيِهابُروحِكَ واقْتَتْهُ لهَا قِـيتَةً قَدْرَا

وظاهِرْ لها مِن بـائسِ الشّخْتِ واستعنعلَـيها الصّبـا واجْعَلْ يدَيْكَ لها سِتْرا

فَلَـمّا جَرَتْ للْـجَزْلِ جَرْيا كأنّهُسَنا البرْقِ أحدَثْنا لـخالقها شُكْرَا

وقالوا: يعنـي بقوله: أحيها بُروحك: أي أحْيها بنفخك.

وقال بعضهم: يعنـي بقوله: وَرُوحٌ مِنْهُ: أنه كان إنسانا بإحياء اللّه له بقوله: (كن)،

قالوا: وإنـما معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ: وحياة منه، بـمعنى: إحياء اللّه إياه بتكوينه.

وقال بعضهم: معنى قوله: وَرُوحٌ مِنْهُ ورحمة منه كما قال جل ثناؤه فـي موضع آخر: وأيّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ

قال: ومعناه فـي هذا الـموضع: ورحمة منه

قال: فجعل اللّه عيسى رحمة منه علـى من اتبعه وآمن به وصدّقه، لأنه هداهم إلـى سبـيـل الرشاد.

وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من اللّه خـلقها فصوّرها، ثم أرسلها إلـى مريـم، فدخـلت فـي فـيها، فصيرها اللّه تعالـى روح عيسى علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:

٨٦١٩ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن سعد، قال: أخبرنـي أبو جعفر، عن الربـيع، عن أبـي العالـية، عن أبـيّ بن كعب فـي قوله: وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِـي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ قال: أخذهم فجعلهم أرواحا، ثم صوّرهم، ثم استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التـي أخذ علـيها العهد والـميثاق، فأرسل ذلك الروح إلـى مريـم، فدخـل فـي فـيها فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى علـيه السلام.

وقال آخرون: معنى الروح ههنا: جبريـل علـيه السلام.

قالوا: ومعنى الكلام: وكلـمته ألقاها إلـى مريـم، وألقاها أيضا إلـيها روح من اللّه ، ثم من جبريـل علـيه السلام. ولكلّ هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: فَآمِنُوا بـاللّه وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ.

يعنـي بقوله جلّ ثناؤه: فَآمِنُوا بـاللّه وَرُسُلِهِ فصدّقوا يا أهل الكتاب بوحدانـية اللّه وربوبـيته، وأنه لا ولد له، وصدّقوا رسله فـيـما جاءوكم به من عند اللّه ، وفـيـما أخبرتكم به أن اللّه واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، ولا ولد له. وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعنـي: ولا تقولوا الأربـاب ثلاثة. ورفعت الثلاثة بـمـحذوف دلّ علـيه الظاهر، وهو (هم). ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنـما جاز ذلك لأن القول حكاية، والعرب تفعل ذلك فـي الـحكاية، ومنه قول اللّه : سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذلك كلّ ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه، ففـيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم. ثم قال لهم جل ثناؤه متوعدا لهم فـي قولهم العظيـم الذي قالواه فـي اللّه : انتهوا أيها القائلون اللّه ثالث ثلاثة عما تقولون من الزور والشك بـالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِـيـله، لـما لكم عند اللّه من العقاب العاجل لكم علـى قِـيـلكم ذلك، إن أقمتـم علـيه ولـم تنـيبوا إلـى الـحقّ الذي أمرتكم بـالإنابة إلـيه والاَجل فـي معادكم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: إنّـمَا اللّه إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ وكَفَـى بـاللّه وَكِيلاً.

يعنـي بقوله: إنّـمَا اللّه إلَهٌ وَاحِدٌ: ما اللّه أيها القائلون: اللّه ثالث ثلاثة كما تقولون، لأن من كان له ولد فلـيس بإله، وكذلك من كان له صاحبة فغير جائز أن يكون ألها معبودا، ولكن اللّه الذي له الألوهة والعبـادة، إله واحد معبود، لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك. ثم نزّه جلّ ثناؤه نفسه وعظمها ورفعها عما قال فـيه أعداؤه الكفرة به،

فقال: سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ

يقول: علا اللّه وجلّ وعزّ وتعظم وتنزّه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. ثم أخبر جل ثناؤه عبـاده أن عيسى وأمه، ومن فـي السموات ومن فـي الأرض، عبـيده، وملكه، وخـلقه، وأنه رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفـاقة إلـيه، احتـجاجا منه بذلك علـى من ادّعى أن الـمسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا لـم يكن ذا حاجة إلـيه، ولا كان له عبدا مـملوكا،

فقال: لَهُ ما فِـي السّمَوَاتِ وَما فِـي الأرْضِ يعنـي: لله ما فـي السموات وما فـي الأرض من الأشياء كلها، ملكا وخـلقا، وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم، فكيف يكون الـمسيح ابنا لله وهو فـي الأرض أو فـي السموات غير خارج من أن يكون فـي بعض هذه الأماكن

وقوله: وكَفَـى بـاللّه وَكِيلاً

يقول: وحسب ما فـي السموات وما فـي الأرض بـاللّه قـيـما ومدبرا ورازقا، من الـحاجة معه إلـى غيره.

١٧٢

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الـمَسِيحُ: لن يأنف ولن يستكبر الـمسيح أنْ يَكُونَ عَبْدا لله يعنـي: من أن يكون عبدا لله. كما:

٨٦٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الـمَسِيحُ أنْ يكُون عبدا لِلّهِ وَلا الـمَلائِكَةُ الـمُقّربُونَ: لن يحتشم الـمسيح أن يكون عبدا لله ولا الـملائكة.

وأما قوله: وَلا الـمَلائِكَةُ الـمُقَرّبُونَ فإنه يعنـي: ولن يستنكف أيضا من الإقرار لله بـالعبودية، والإذعان له بذلك رُسُله الـمقرّبون الذين قرّبهم اللّه ورفع منازلهم علـى غيرهم من خـلقه.

ورُوي عن الضحاك أنه كان يقول فـي ذلك ما:

٨٦٢١ـ حدثنـي به جعفر بن مـحمد البزوري، قال: حدثنا يعلـى بن عبـيد، عن الأجلـح، قال: قلت للضحاك: ما الـمقرّبون؟ قال: أقربهم إلـى السماء الثانـية.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَمَنْ يَسْتَنْكفْ عَنْ عِبـادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَـيهِ جَمِيعا.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: ومن يتعظم عن عبـادة ربه، ويأنف من التذلل والـخضوع له بـالطاعة من الـخـلق كلهم، ويستكبر عن ذلك، فَسَيْحُشُرُهُمْ إلـيه جَمِيعا

يقول: فسيبعثهم يوم القـيامة جميعا، فـيجمعهم لـموعدهم عنده.

١٧٣

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ ...}.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: فأما الـمؤمنون الـمقرّون بوحدانـية اللّه ، الـخاضعون له بـالطاعة، الـمتذللون له بـالعبودية، والعاملون الصالـحات من الأعمال، وذلك أن يردوا علـى ربهم، قد آمنوا به وبرسله، وعملوا بـما أتاهم به رسله من عند ربهم، من فعل ما أمرهم به، واجتناب ما أمرهم بـاجتنابه فَـيُوَفّـيهِمْ أُجُورَهُم

يقول: فـيؤتـيهم جزاء أعمالهم الصالـحة وافـيا تاما. وَيَزِيُدهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعنـي جلّ ثناؤه: ويزيدهم علـى ما وعدهم من الـجزاء علـى أعمالهم الصالـحة والثواب علـيها من الفضل والزيادة ما لـم يعرّفهم مبلغه ولـم يحدّ لهم منتهاه. وذلك أن اللّه وعد من جاء من عبـاده الـمؤمنـين بـالـحسنة الواحدة عشر أمثالها من الثواب والـجزاء، فذلك هو أجر كل عامل علـى عمله الصالـح من أهل الإيـمان الـمـحدود مبلغه، والزيادة علـى ذلك تفضل من اللّه علـيهم، وإن كان كل ذلك من فضله علـى عبـاده غير أن الذي وعد عبـاده الـمؤمنـين أن يوفـيهم فلا ينقصهم من الثواب علـى أعمالهم الصالـحة، هو ما حدّ مبلغه من العشر، والزيادة علـى ذلك غير مـحدود مبلغها، فـيزيد من شاء من خـلقه علـى ذلك قدر ما يشاء، لا حدّ لقدره يوقـف علـيه. وقد قال بعضهم: الزيادة إلـى سبعمائة ضعف.

وقال آخرون: إلـى ألفـين. وقد ذكرت اختلاف الـمختلفـين فـي ذلك فـيـما مضى قبل بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.

وقوله: وأمّا الّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فإنه يعنـي: وأما الذين تعظموا عن الإقرار لله بـالعبودة والإذعان له بـالطاعة، واستكبروا عن التذلل لألوهته وعبـادته وتسلـيـم الربوبـية والوحدانـية له. فَـيُعَذّبُهُمْ عَذَابـا ألِـيـما يعنـي: عذابـا موجعا. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّه وَلِـيـمّا وَلا نَصِيرا

يقول: ولا يجد الـمستنكفون من عبـادته والـمستكبرون عنها إذا عذبهم اللّه الألـيـم من عذابه سوى اللّه لأنفسهم ولـيا ينـجيهم من عذابه وينقذهم منه. ولا نصيرا: ولا ناصرا ينصرهم، فـيستنقذهم من ربهم، ويدفع عنهم بقوّته ما أحلّ بهم من نقمته، كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنـيا فـي الدنـيا بسوء من نصرتهم والـمدافعة عنهم.

١٧٤

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً }.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ: يا أيها الناس من جميع أصناف الـملل، يهودها ونصاراها ومشركيها، الذين قصّ اللّه جل ثناؤه قصصهم فـي هذه السورة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ

يقول: قد جاءتكم حجة من اللّه تبرهن لكم بطول ما أنتـم علـيه مقـيـمون من أديانكم ومللكم، وهو مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، الذي جعله اللّه علـيكم حجة قطع بها عذركم، وأبلغ إلـيكم فـي الـمعذرة بإرساله إلـيكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوّته وتـحقـيق رسالته.

وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا

يقول: وأنزلنا إلـيكم معه نورا مبـينا، يعنـي: يبـين لكم الـمـحجّة الواضحة والسبل الهادية إلـى ما فـيه لكم النـجاة من عذاب اللّه وألـيـم عقابه إن سلكتـموها واستنرتـم بضوئه. وذلك النور الـمبـين هو القرآن الذي أنزله اللّه علـى مـحمد صلى اللّه عليه وسلم.

وبنـحو ما قلنا فـي ذلك

قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

٨٦٢٢ـ حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول اللّه : بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ قال: حجة.

حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

٨٦٢٣ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ: أي بـينة من ربكم، وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا، وهو هذا القرآن.

٨٦٢٤ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنَ رَبّكُمْ

يقول: حجة.

٨٦٢٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج: برهان، قال: ببـينة وأنْزَلْنا إلَـيْكُمْ نُورا مُبِـينا قال: القرآن.

١٧٥

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّه وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مّسْتَقِيماً }.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: فأما الذين صدّقوا بـالله، وأقرّوا بوحدانـيته، وما بعث به مـحمدا صلى اللّه عليه وسلم من أهل الـملل وَاعْتَصَمُوا بِهِ

يقول: وتـمسكوا بـالنور الـمبـين الذي أنزل إلـى نبـيه كما:

٨٦٢٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج وَاعْتَصَمُوا بِهِ قال: بـالقرآن.

فَسَيُدْخِـلُهُمْ فِـي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ

يقول: فسوف تنالهم رحمته التـي تنـجيهم من عقابه وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، ويـلـحقهم من فضله ما ألـحق أهل الإيـمان به والتصديق برسله. وَيهْدِيهِمْ إلَـيْهِ صِرَاطا مُسْتَقِـيـما

يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به علـى أولـيائه، ويسدّدهم لسلوك منهج من أنعم علـيه من أهل طاعته، ولاقتفـاء آثارهم، واتبـاع دينهم. وذلك هو الصراط الـمستقـيـم، وهو دين اللّه الذي ارتضاه لعبـاده، وهو الإسلام. ونصب الصراط الـمستقـيـم علـى القطع من الهاء التـي فـي قوله (إلـيه).

١٧٦

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ...}.

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: يَسْتَفْتُونَكَ يسألونك يا مـحمد أن تفتـيهم فـي الكلالة. وقد بـينا معنى الكلالة فـيـما مضى بـالشواهد الدالة علـى صحته، وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـيه فأغنى ذلك عن إعادته، وبـينا أن الكلالة عندنا ما عدا الولد والوالد. إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فلَها نِصْفُ ما تَرَكَ يعنـي بقوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ: إن إنسان من الناس مات. كما:

٨٦٢٧ـ حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدّي: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ

يقول: مات.

لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ ذكر ولا أنثى وَلَهُ أُخْتٌ يعنـي: وللـميت أخت لأبـيه وأمه، أو لأبـيه. فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ

يقول: فلأخته التـي تركها بعده بـالصفة التـي وصفنا نصف تركته ميراثا عنه دون سائر عصبته، وما بقـي فلعصبته.

وذُكر أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هَمّهُم شأن الكلالة، فأنزل اللّه تبـارك وتعالـى فـيها هذه الاَية. ذكر من قال ذلك:

٨٦٢٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ فسألوا عنها نبـيّ اللّه ، فأنزل اللّه فـي ذلك القرآن: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ فقرأ حتـى بلغ: وَاللّه بِكُلّ شَيْءٍ عَلِـيـمٌ

قال: وذكر لنا أن أبـا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه قال فـي خطبته: ألا إن الاَية التـي أنزل اللّه فـي أوّل سورة النساء فـي شأن الفرائض أنزلها اللّه فـي الولد والوالد، والاَية الثانـية أنزلها فـي الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والاَية التـي ختـم بها سورة النساء أنزلها فـي الإخوة والأخوات من الأب والأم، والاَية التـي ختـم بها سورة الأنفـال أنزلها فـي أُوِلـى الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلـى بِبَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّه مـما جرّت الرحم من العَصَبة.

٨٦٢٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن الشيبـانـي، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن الـمسيب، قال: سأل عمر بن الـخطاب النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم عن الكلالة،

فقال: (ألَـيْسَ قَدْ بَـيّنَ اللّه ذَلِكَ؟) قال فنزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.

٨٦٣٠ـ حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام، قال: حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم، عن هشام الدّستوائيّ، قال: حدثنا أبو الزبـير، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لـي أو سبع أبو جعفر الذي يشكّ فدخـل علـيّ النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فنفخ وجهي، فأفقت وقلت: يا رسول اللّه ، ألا أوصي لأخواتـي بـالثلث؟ قال: (أحْسَنُ)، قلت: الشطر؟ قال: (أحْسَنُ). ثم خرج وتركنـي، ثم رجع إلـيّ فقال: (يا جابِرُ إنّـي لا أُرَاكَ مَيّتا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا، وَإنّ اللّه قَدْ أنْزَلَ فِـي الّذِي لاِءَخَوَاتِكَ فَجَعَلَ لَهُنّ الثّلُثَـيْنِ)

قال: فكان جابر

يقول: أنزلت هذه الاَية فـيّ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا ابن أبـي عديّ، عن هشام، يعنـي الدّستوائيّ، عن أبـي الزبـير، عن جابر، عن النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله.

٨٦٣١ـ حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا سفـيان بن عيـينة، عن ابن الـمنكدر، عن جابر بن عبد اللّه ، قال: مرضت فأتانـي النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم يعودنـي هو وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجدونـي قد أغمى علـيّ، فتوضأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم صبّ علـيّ من وَضوئه، فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه كيف أقضي فـي مالـي، أو كيف أصنع فـي مالـي؟ وكان له تسع أخوات ولـم يكن له والد ولا ولد

قال: فلـم يجبنـي شيئا حتـى نزلت آية الـميراث: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ... إلـى آخر السورة. قال ابن الـمنكدر: قال جابر: إنـما أنزلت هذه الاَية فـيّ.

وكان بعض أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يقول: إن هذه الاَية هي آخر آية أنزلت من القرآن. ذكر من قال ذلك:

٨٦٣٢ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الـحسين بن واقد، عن أبـي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: سمعته

يقول: إن آخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن ابن أبـي خالد، عن أبـي إسحاق، عن البراء، قال: آخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.

حدثنا مـحمد بن خـلف، قال: حدثنا عبد الصمد بن النعمان، قال: حدثنا مالك بن مِغْول، عن أبـي السّفَر، عن البراء، قال: آخر آية نزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.

٨٦٣٣ـ حدثنا هارون بن إسحاق الهمدانـيّ، قال: حدثنا مصعب بن الـمقدام، قال: حدثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن البراء، قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتـمة سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ.

واختلف فـي الـمكان الذي نزلت فـيه الاَية، فقال جابر بن عبد اللّه : نزلت فـي الـمدينة. وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فـيـما مضى بعضها فـي أوّل السورة عند فـاتـحة آية الـمواريث، وبعضها فـي مبتدإ الإخبـار عن السبب الذي نزلت فـيه هذه الاَية.

وقال آخرون: بل أنزلت فـي مسير كان فـيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه. ذكر من قال ذلك:

٨٦٣٤ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن حميد، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ والنبـيّ فـي مسير له، وإلـى جنبه حذيفة بن الـيـمان، فبلّغها النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم حذيفة، وبلّغها حذيفة عمر بن الـخطاب وهو يسير خـلفه. فلـما استـخـلف عمر سأل عنها حذيفة، ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: واللّه إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تـحملنـي أن أحدثك فـيها بـما لـم أحدثك يومئذ فقال عمر: لـم أرد هذا رحمك اللّه .

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين بنـحوه، إلا أنه قال فـي حديثه: فقال له حذيفة: واللّه إنك لأحمق إن ظننت.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن عُلَـية، قال: حدثنا ابن عون، عن مـحمد بن سيرين، قال: كانوا فـي مسير ورأس راحلة حذيفة

قال: ونزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ فلقّاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حذيفة، فلقاها حذيفة عمر. فلـما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة،

فقال: واللّه إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانـيها رسول اللّه فلقـيتكها كما لقانـيها، واللّه لاأزيدك علـيها شيئا أبدا قال: وكان عمر

يقول: اللهمّ إن كنت بـينتها له، فإنها لـم تبـين لـي.

واختلف عن عمر فـي الكلالة، فرُوي عنه أنه قال فـيها عند وفـاته: هو من لا ولد له ولا والد. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فـيـما مضى فـي أول هذه السورة فـي آية الـميراث. ورُوي عنه أنه قال قبل وفـاته: هو ما خلا الأب. ذكر من قال ذلك:

٨٦٣٥ـ حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبـابة، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن مَعْدان بن أبـي طلـحة الـيعمريّ، قال: قال عمر بن الـخطاب: ما أغلظ لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أو ما نازعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي شيء ما نازعته فـي آية الكلالة، حتـى ضرب صدري، وقال: (يَكْفِـيكَ مِنْها آيَةُ الصّيْفِ الّتـي أُنْزِلَتْ فـي آخِرِ سُوَرةِ النّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِـيكُمْ فِـي الكَلالَةِ) وسأقضي فـيها بقضاء يعلـمه من يقرأ ومن لا يقرأ: هو ما خلا الأب كذا حسب قال ابن عرفة قال شبـابة: الشكّ من شعبة.

ورُوي عنه أنه قال: إنـي لأستـحيـي أن أخالف فـيه أبـا بكر. وكان أبو بكر

يقول: هو ما خلا الولد والوالد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه فـيـما مضى فـي أوّل السورة. ورُوي عنه أنه قال عند وفـاته: قد كنت كتبت فـي الكلالة كتابـا وكنت أستـخير اللّه فـيه، وقد رأيت أن أترككم علـى ما كنتـم علـيه. وأنه كان يتـمنى فـي حياته أن يكون له بها علـم. ذكر من قال ذلك:

٨٦٣٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن حميد الـمعمري، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب: أن عمر بن الـخطاب كتب فـي الـجَدّ والكلالة كتابـا، فمكث يستـخير اللّه فـيه،

يقول: اللهمّ إن علـمت فـيه خيرا فأمضه حتـى إذا طُعِنَ دعا بـالكتاب فمـحي، فلـم يدر أحد ما كتب فـيه،

فقال: إنـي كنت كتبت فـي الـجدّ والكلالة كتابـا وكنت أستـخير اللّه فـيه، فرأيت أن أترككم علـى ما كنتـم علـيه.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن الـمسيب، عن عمر، بنـحوه.

٨٦٣٧ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن سفـيان، قال: حدثنا عمرو بن مرّة، عن مرّة الهمدانـيّ، قال: قال عمر: ثلاث لأن يكون النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم بَـيّنَهنّ لنا أحبّ إلـيّ من الدنـيا وما فـيها: الكلالة، والـخلافة، وأبواب الربـا.

٨٦٣٨ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا الأعمش، قال: سمعتهم يذكرون، ولا أرى إبراهيـم إلا فـيهم، عن عمر قال: لأن أكون أعلـم الكلالة أحبّ ألـيّ من أن يكون لـي مثل جزية قصور الروم.

٨٦٣٩ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا الأعمس، عن قـيس بن مسلـم، عن طارق بن شهاب، قال: أخذ عمر كتفـا، وجمع أصحاب مـحمد صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال: لأقضينّ فـي الكلالة قضاء تـحدّث به النساء فـي خدورهنّ فخرجت حينئذ حية من البـيت، فتفرّقوا،

فقال: لو أراد اللّه أن يتـمّ هذا الأمر لأتـمه.

٨٦٤٠ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا أبو حيان، قال: ثنـي الشعبـيّ، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر بن الـخطاب يخطب علـى منبر الـمدينة،

فقال: أيها الناس: ثلاث وددت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لـم يفـارقنا حتـى يعهد إلـينا فـيهنّ عهدا يُنتهَى إلـيه: الـجدّ، والكلالة، وأبواب الربـا.

حدثنـي يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَـية، عن سعيد بن أبـي عَروبة، عن قتادة، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن معدان بن أبـي طلـحة، أن عمر بن الـخطاب، قال: ما سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شيء أكثر مـما سألت عن الكلالة، حتـى طعن بأصبعه فـي صدري، وقال: (تَكْفِـيكَ آيَةُ الصّيْفِ التـي فـي آخِرِ سُوَرةِ النّساء).

حدثنا إبراهيـم بن سعيد الـجوهري، قال: حدثنا عبد اللّه بن بكر السهميّ، عن سعيد، عن قتادة، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن معدان، عن عمر، قال: لـم أدع شيئا أهمّ عندي من أمر الكلالة، فما أغلظ لـي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فـي شيء ما أغلظ لـي فـيها، حتـى طعن بأصبعه فـي صدري، أو قال فـي جنبـي،

فقال: (تَكْفِـيكَ الاَيةُ الّتـي أُنْزِلَتْ فـي آخِرِ النّسَاءِ).

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: حدثنا ابن عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن معدان بن أبـي طلـحة، أن عمر بن الـخطاب خطب الناس يوم الـجمعة،

فقال: إنـي واللّه ما أدع بعدي شيئا هو أهمّ إلـيّ من أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فما أغلظ لـي فـي شيء ما أغلظ لـي فـيها، حتـى طعن فـي نـحري وقال: (تَكْفِـيكَ آيَةُ الصّيْفِ الّتـي أُنْزِلَتْ فـي آخِرِ سُورَةِ النّساءِ)، وإن أعش أقض فـيها بقضية لا يختلف فـيها أحد قرأ القرآن.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالـم بن أبـي الـجعد، عن معدان بن أبـي طلـحة، عن عمر بن الـخطاب، بنـحوه.

٨٦٤١ـ حدثنا مـحمد بن علـيّ بن الـحسن بن شقـيق، قال: سمعت أبـي

يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن جابر، عن الـحسن بن مسروق، عن أبـيه، قال: سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لـي ورث كلالة،

فقال: الكلالة، الكلالة، الكلالة وأخذ بلـحيته، ثم قال: واللّه لأن أعلـمها أحبّ إلـيّ من أن يكون لـي ما علـى الأرض من شيء، سألت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (ألـم تسمع الاَية التـي أنزلت فـي الصيف؟) فأعادها ثلاث مرّات.

٨٦٤٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبـي إسحاق، عن أبـي سلـمة، قال: جاء رجل إلـى النبـيّ صلى اللّه عليه وسلم، فسأله عن الكلالة،

فقال: (ألَـمْ تَسْمَعِ الاَيَةَ الّتِـي أُنْزِلَتْ فِـي الصّيْفِ، وَإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً)... إلـى آخر الاَية.

٨٦٤٣ـ حدثنـي مـحمد بن خـلف، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبـي حبـيب، عن أبـي الـخير: أن رجلاً سأل عقبة عن الكلالة،

فقال: ألا تعجبون من هذا؟ يسألنـي عن الكلالة، وما عضل بأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة

قال أبو جعفر:

فإن قال قائل: فما وجه قوله جلّ ثناؤه: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولقد علـمت اتفـاق جميع أهل القبلة ما خلا ابن عبـاس وابن الزبـير، علـى أن الـميت لو ترك ابنة وأختا، أن لابنته النصف، وما بقـي فلأخته إذا كانت أخته لأبـيه وأمه أو لأبـيه؟ وأين ذلك من قوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وقد ورّثوها النصف مع الولد؟

قـيـل: إن الأمر فـي ذلك بخلاف ما ذهبت إلـيه، إنـما جعل اللّه جل ثناؤه بقوله: إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَـيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ إذا لـم يكن للـميت ولد ذكر ولا أنثى وكان موروثا كلالة، النصف من تركته فريضة لها مسماة فأما إذا كان للـميت ولد أنثى فهي مع عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها لو لـم تكن، وذلك غير مـحدود بحدّ، ولا مفروض لها فرض سهام أهل الـميراث بـميراثهم عن ميتهم. ولـم يقل اللّه فـي كتابه: فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه، فـيكون لـما رُوي عن ابن عبـاس وابن الزبـير فـي ذلك وجه يوجه إلـيه، وإنـما بـين جل ثناؤه مبلغ حقها إذا ورث الـميت كلالة وترك بـيان مالها من حقّ إذا لـم يورث كلالة فـي كتابه وبـينه بوحيه علـى لسانه رسوله صلى اللّه عليه وسلم، فجعلها عصبة مع إناث ولد الـميت، وذلك معنى غير معنى وراثتها الـميت إذا كان موروثا كلالة.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَهُوَ يَرِثُها إنْ لَـمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ.

يعنـي جل ثناؤه بذلك: وأخو الـمرأة يرثها إن ماتت قبله إذا وُرثت كلالة ولـم يكن لها ولد ولا والد.

القول فـي تأويـل قوله: فإنْ كانَتا اثْنَتَـيْنِ فَلَهُما الثّلُثانِ مِـمّا تَرَكَ وَإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فللذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ.

يعنـي جل ثناؤه بقوله: فإنْ كانَتا اثْنَتَـيْنِ: فإن كانت الـمتروكة من الأخوات لأبـيه وأمه أو لأبـيه اثنتـين، فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الـميت إذا لـم يكن له ولد وورث كلالة. وَإنْ كانُوا إخْوَةً يعنـي: وإن كان الـمتروكون من إخوته رجالاً ونساء. فللذّكَرِ منهم بـميراثهم عنه من تركته مِثْلَ حَظّ الأُنْثَـيَـيْنِ يعنـي: مثل نصيب اثنتـين من أخواته، وذلك إذا ورث كلالة، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبـيه وأمه، أو لأبـيه.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلّوا.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: يبـين اللّه لكم قسمة مواريثكم، وحكم الكلالة، وكيف فرائضهم أنْ تَضِلّوا بـمعنى: لئلا تضلوا فـي أمر الـمواريث وقسمتها: أي لئلا تـجوروا عن الـحقّ فـي ذلك، وتـخطئوا الـحكم فـيه، فتضلوا عن قصد السبـيـل. كما:

٨٦٤٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلّوا قال: فـي شأن الـمواريث.

٨٦٤٥ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا مـحمد بن حميد الـمعمري، وحدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قالا جميعا: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان عمر إذا قرأ: يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلّوا قال: اللهمّ من بـينتَ له الكلالة فلـم تبـيّن لـي.

قال أبو جعفر: وموضع (أن) فـي قوله: يُبَـيّنُ اللّه لَكُمْ أنْ تَضِلّوا نصب فـي قول بعض أهل العربـية لاتصالها بـالفعل، وفـي قول بعضهم خفض، بـمعنى: يبـين اللّه لكم بأن لا تضلوا، ولئلا تضلوا وأسقطت (لا) من اللفظ وهي مطلوبة فـي الـمعنى، لدلالة الكلام علـيها، والعرب تفعل ذلك، تقول: جئتك أن تلومنـي، بـمعنى: جئتك أن لا تلومنـي، كما قال القطاميّ فـي صفة ناقة:

رأيْنا ما يَرَى البُصَرَاءُ فِـيهافَآلَـيْنا عَلَـيْها أنْ تُبـاعَا

بـمعنى: ألا تبـاع.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: وَاللّه بِكُلّ شَيّءٍ عَلِـيـمٌ.

يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: وَاللّه بكُلّ شَيْءٍ من مصالـح عبـاده فـي قسمة مواريثهم وغيرها وجميع الأشياء عَلِـيـمٌ

يقول: هو بذلك كله ذو علـم.

آخر تفسير سورة النساء، والـحمد لله ربّ العالـمين.

﴿ ٠