٢٩

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} صَدّقوا اللّه ورسوله، {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ}

يقول: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم اللّه عنها، إلا أن تكون تجارة. كما:

٧٣٧٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ، إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنكُم} نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم، إلا أن تكون تجارة، ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع.

٧٣٧٧ـ حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا خالد الطحان، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ} قال: الرجل يشتري السلعة، فيردّها ويردّ معها درهما.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا بعد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب، ف

يقول: إن رضيته أخذته، وإلا رددته ورددت معه درهما، قال: هو الذي قال اللّه : {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ}.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الاَية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء، فأما قِرًى فإنه كان محظورا بهذه الاَية، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: {لَيْسَ على الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَلا على أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ}.. الاَية. ذكر من قال ذلك:

٧٣٧٨ـ حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيـى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرمة والحسن البصريّ، قالا في قوله: {لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضِ مِنْكُمْ}.. الاَية، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الاَية، فنسخ ذلك بالاَية التي في سورة النور،

فقال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتَكُمْ أوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أوْ بُيُوتِ أُمّهاتِكُمْ)... إلى قوله: {جَمِيعا أوْ أشْتاتا} فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجل من أهله إلى الطعام، ف

يقول: إني لأتجنح ـ والتجنح: التحرّج و

يقول: المساكين أحقّ مني به. فأحلّ من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه، وأحلّ طعام أهل الكتاب.

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي: وذلك أن اللّه تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا، فإن اللّه لم يحلّ قَطّ أكل الأموال بالباطل، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهيا عن أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الأمة جميعا وجها لها أن قرى الضيف، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام، التي حمد اللّه أهلها عليه وندبهم إليها، وإن اللّه لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل ندب اللّه عباده، وحثهم عليه، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخا أو منسوخا بمعزل، لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخا بالإباحة. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه، من أن الباطل الذي نهى اللّه عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله، أو على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم، وشذّ ما خالفه.

واختلفت القراء في قراءة قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فقرأها بعضهم: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجاَرةٌ} رفعا بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو تقع تجارة عن تراض منكم، فيحلّ لكم أكلها حينئذٍ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه (أن تكون) تامة ههنا لا حاجة بها إلى خبر على ما وصفت¹ وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة. وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قراء الكوفيين: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً} نصبا، بمعنى: إلا أن تكون الأمْوَلُ التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم، فيحل لكم هنالك أكلها، فتكون الأموال مضمرة في قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ} والتجارة منصوبة على الخبر. وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما، لاستفاضتهما في قراءة الأمصار مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إليّ من قراءته بالرفع، لقوّة النصب من وجهين:

أحدهما: أنّ في تكون ذكرا من الأموال¹ والاَخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة، كان فصيحا في كلام العرب النصب، إذ كانت مبنية على اسم وخبر، فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر:

إذَا كانَ طَعْنا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقا

ففي هذه الاَية إبانة من اللّه تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات، واللّه تعالى

يقول: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}: اكتسابا أحلّ ذلك لها. كما:

٧٣٧٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطلِ إلاّ أنْ تَكُون تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} قال: التجارة رزق من رزق اللّه ، وحلال من حلال اللّه لمن طلبها بصدقها وبرّها، وقد كنا نحدّث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة.

وأما قوله: {عَنْ تَراضٍ} فإن معناه كما:

٧٣٨٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه تبارك وتعالى: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحدا.

٧٣٨١ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، قال: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (البَيْعُ عَنْ تَراضٍ، وَالخيارُ بَعْدَ الصّفْقَةِ، وَلا يَحِلّ لُمسْلمٍ أنْ يَغُشّ مُسْلِما).

٧٣٨٢ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: المماسحة بيع هي؟ قال: لا، حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع، إن شاء أخذ وإن شاء ترك.

واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة،

فقال بعضهم: هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ. ذكر من قال ذلك:

٧٣٨٣ـ حدثنا ابن بشار قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثنى أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان، باع أحدهما من الاَخر بُرْنُسا،

فقال: إني بعت من هذا برنسا، فاسترضيته فلم يرضني. فقال: أرضه كما أرضاك! قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرض

قال: أرضه كما أرضاك! قال: قد أرضيته فلم يرض. فقال: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد اللّه بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح، قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريج، مثله.

٧٣٨٤ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا شعبة، عن جابر، قال: ثنى أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا

قال: قال أبو الضحى: كان شريح يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بنحوه.

٧٣٨٥ـ وحدثني الحسن بن يزيد الطحان، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون، قال: اشتريت من ابن سيرين سابريّا فسام عليّ سَوْمَة، فقلت: أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما زنت الثمن وضع الدراهم،

فقال: اختر إما الدراهم وإما المتاع! فاخترت المتاع فأخذته.

٧٣٨٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرّقا، فإذا تصادر فقد وجب البيع.

٧٣٨٧ـ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا سفيان بن دينار، عن طيسلة، قال: كنت في السوق، وعليّ رضي اللّه عنه في السوق، فجاءته جارية إلى بَيّعِ فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا! فأعطاها إياه. فقالت: لا أريده أعطني درهمي! فأبي، فأخذه منه عليّ فأعطاها إياه.

٧٣٨٨ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذونا ووجب له، ثم إن المبتاع ردّه قبل أن يتفرّقا، فقضى أنه قد وجب عليه. فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا قضى في مثله أن يرده على صاحبه، فرجع الشعبي إلى قضاء شريح.

٧٣٨٩ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا ادعى المشترى أنه قد أوجب له البيع، وقال البائع: لم أوجب له، قال شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما (ما) افترقتما عن بيع ولا تخاير.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: كان شريح

يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه باللّه ما تفرّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان

يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير.

وعلة من قال هذه المقالة ما:

٧٣٩٠ـ حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيـى بن سعيد، عن عبد اللّه ، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال:

(كُلّ بَيّعَيْنِ فَلا بَيْعَ بَيْنَهُما حتى يَتَفَرّقا إلاّ أنْ يَكُونَ خِيارا).

٧٣٩١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: ثنى يحيـى بن أيوب، قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً يقو له: خيّرني! ثم

يقول: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يَفْتَرِقُ اثْنانِ إلاّ عَنْ رِضا).

٧٣٩٢ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يا أهْلَ البَقِيعِ!) فسمعوا صوته، ثم قال: (يا أهْلَ البَقِيعِ!) فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: (يا أهْلَ البَقِيعِ لا يَتَفَرّقَنّ بَيّعانِ إلاّ عَنْ رِضا).

٧٣٩٣ـ حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ، قال: حدثنا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم بايع رجلاً ثم قال له: (اخْتَرْ!) فقال: قد اخترت،

فقال: (هَكَذَا البَيْعُ).

قالوا: فالتجارة عن تراض هو ما كان على بينه النبي صلى اللّه عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق، أو ما تفرّقا عنه بأبدانهما، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.

وقال آخرون: بل التراضي في التجارة تواحب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.

وعلة من قال هذه المقالة: أن البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما، الذي جرى ذلك فيه

قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأوّلوا قول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (البَيّعانِ بالخيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا) على أنه ما لم يتفرقا بالقول. وومن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين: ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه¹ لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما:

٧٣٩٤ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

(البَيّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرّقا، أوْ يَكُونَ بَيْعُ خِيارٍ) وربما قال: (أوْ يَقُولُ أحَدُهُما للاَخَرِ اخْتَرْ).

فإذ كان ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صحيحا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه، ما لم يكن له مالكا، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه، فيقال له: أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء. أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع، ومعنى التخيير في تلك الحال، نظير معنى التخيير قبلها، لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم. أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذا فسد هذان المعنيان. وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن المعنى الاَخر من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أعني قوله: (ما لَمْ يَتَفَرَقّا) إنما هو التفرّق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده، وإذا صحّ ذلك، فسد قول من زعم أن معنى ذلك: إنما هو التفرّق بالقول الذي به يكون البيع. وإذا فسد ذلك صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال: معنى قوله: {إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم، أو يخير بعضكم بعضا.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ إنّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيما}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} ولا يقتل بعضكم بعضا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

٧٣٩٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {وَلا تَقْتَلُوا أنْفُسَكُمْ}

يقول: أهلَ ملتكم.

٧٣٩٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: {وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ} قال: قتل بعضكم بعضا.

وأما قوله جل ثناؤه: {إنّ اللّه كانَ بِكُمْ رَحِيما} فإنه يعني أن اللّه تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه، ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضا قتلاً وسلبا وغصبا.

﴿ ٢٩