٤٠القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ اللّه لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }. يعني بذلك جلّ ثناؤه: وماذا عليهم لو آمنوا باللّه واليوم الاَخر، وأنفقوا مما رزقهم اللّه ، فإن اللّه لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة {مِثْقَالَ ذَرّةٍ} أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن، ولكنه يجازيه به، ويثيبه عليه. كما: ٧٦١٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أنه تلا: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها} قال: لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها. ٧٦٢٠ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان بعض أهل العلم يقول: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعا. وأما الذرّة، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها، كما: ٧٦٢١ـ حدثني إسحاق بن وهب الواسطي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: {مِثْقالَ ذَرّةٍ} قال: رأس نملة حمراء. قال لي إسحاق بن وهب: قال يزيد بن هارون: زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن. وبنحو الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ٧٦٢٢ـ حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: (إنّ اللّه لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا وُيجْزَى بها فِي الاَخِرَةِ¹ وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بها فِي الدّنْيا، فإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةً). ٧٦٢٣ـ حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا هشام بن سعد، قال: أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: (وَالّذِي نَفْسي بِيَدِهِ ما أحَدُكُمْ بِأشَدّ مُناشَدَةً فِي الحَقّ يَرَاه مُصيبا لَه، مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي إخْوَانِهِمْ إذَا رأوْا أنْ قَدْ خَلَصُوا مِنَ النّار يَقُولُونَ: أيْ رَبّنا إخْوَانُنا كانُوا يُصَلّونَ مَعَنا وَيَصُومُونَ مَعَنا وَيحُجّونَ مَعَنا ويُجاهِدُونَ مَعَنا، قَدْ أخَذَتْهُمُ النّارُ! فَيَقُولُ اللّه لَهُمْ: اذْهَبُوا فَمَنْ عَرَفْتُمْ صورَتَه فأخْرِجُوه! ويحَرّمُ صورَتهُمْ على النّارِ، فَيَجِدونَ الرّجُلَ قَدْ أخَذَتْه النّارُ إلى أنْصَاف ساقَيْهِ وإلى رُكْبَتَيْهِ وإلى حَقْوَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ، فَ يَقُولُ: اذْهَبُوا لِمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ قِيرَاطِ خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ! فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ، فَلا يَزَالُ يَقولُ لَهُمْ ذَلِكَ حتى يَقُولَ: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ ذَرّةٍ فأخْرِجُوهُ!) ـ فكان أبو سعيد إذا حدّث بهذا الحديث، قال: إن لم تصدّقوا فاقرءوا: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عظيما} فيقولون: (رَبّنا لم نَذَرْ فيها خَيْرا). وحدثني محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: ثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنحوه. وقال آخرون في ذلك. بما: ٧٦٢٤ـ حدثني به المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا صدقة بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، قال: أتيت ابن مسعود، فقال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأوّلين والاَخرين، ثم نادى مناد من عند اللّه : (ألا من كان يطلب مظلمة، فليجىءْ إلى حقه فليأخذه!) قال: فيفرح واللّه الصبيّ أن يذوب له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه وإن كان صغيرا. ومصداق ذلك في كتاب اللّه تبارك وتعالى: {فإذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} فيقال له: (آت هؤلاء حقوقهم) أي أعطهم حقوقهم. ف يقول: أي ربّ من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول اللّه لملائكته: أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة، وأعطوهم منها! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها: يا ربنا أعطيْنا كلّ ذي حقّ حقه، وبقي له مثقال ذرّة من حسنة. فيقول للملائكة: ضعّفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة! ومصداق ذلك في كتاب اللّه : {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}: أي الجنة يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك: إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته، وبقي طالبون كثير! فيقول اللّه : ضعوا عليها من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النار! قال صدقة: (أو صكّا إلى جهنم)، شكّ صدقة أيتهما قال. ٧٦٢٥ـ وحُدثت عن محمد بن عبيد، عن هارون بن عنترة، عن عبد اللّه بن السائب، قال: سمعت زاذان يقول: قال عبد اللّه بن مسعود: يأخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأوّلين والاَخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له حقّ فليأت إلى حقه! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحقّ على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: {فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} فيغفر اللّه تبارك وتعالى من حقه ما شاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصب للناس ف يقول: آتوا إلى الناس حقوقهم! ف يقول: ربّ فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ ف يقول: خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مظلمته، فإن كان وليا لله، ففضل له مثقال ذرّة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة! ـ ثم قرأ علينا: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ} وإن كان عبدا شقيا قال الملك: ربّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير. ف يقول: خذوا من سيئاتهم، فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكّوا له صَكّا إلى النار. قال أبو جعفر: فتأويل الاَية على تأويل عبد اللّه هذا: إن اللّه لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرّة قِبَل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه، ولكنه يأخذه منه له، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ. {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها} يقول: وإن توجد له حسنة يضاعفها، بمعنى: يضاعف له ثوابها وأجرها. {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} يقول: ويعطه من عنده أجرا عظيما. والأجر العظيم: الجنة على ما قاله عبد اللّه . ولكلا التأويلين وجه مفهوم، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة. وإنما اخترنا التأويل الأوّل لموافقته الأثر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الاَية التي قبلها، التي حثّ اللّه فيها على النفقة في طاعته، وذمّ النفقة في طاعة الشيطان، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}. واختلفت القراء في قراءة قوله: {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً}. فقرأت ذلك عامة قرّاء العراق: {وَإنْ تَكُ حَسَنَةً} بنصب الحسنة، بمعنى: وإن تك زنة الذرّة حسنة يضاعفها. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة: (وَإنْ تَكُ حَسَنَةٌ) برفع الحسنة، بمعنى: وإن توجد حسنة على ما ذكرت عن عبد اللّه بن مسعود من تأويل ذلكوأما قوله: {يُضَاعِفْها} فإنه جاء بالألف، ولم يقل: (يضعفها)، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية: يضاعفها أضعافا كثيرة¹ ولو أريد به في قوله يضعف ذلك ضعفين لقيل: (يضعّفها) بالتشديد. ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم اللّه بهذه الاَية ما وعدهم فيها، فقال بعضهم: هم جميع أهل الإيمان باللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم. واعتلوا في ذلك بما: ٧٦٢٦ـ حدثنا الفضل بن الصباح، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن مبارك بن فضالة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، قال: لقيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة لتضاعف ألف ألف حسنة! قال: وما أعجبك من ذلك؟ فواللّه لقد سمعته ـ يعني النبيّ صلى اللّه عليه وسلم يقول: (إنّ اللّه لَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ ألْفَيْ ألْفِ حَسَنَةَ). وقال آخرون: بل ذلك المهاجرون خاصة دون أهل البوادي والأعراب. واعتلوا في ذلك بما: ٧٦٢٧ـ حدثني محمد بن هارون أبو نشيط، قال: حدثنا يحيـى بن أبي بكير، قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن عبد اللّه بن عمر، قال: نزلت هذه الاَية في الأعراب: {مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فَلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا} قال: فقال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: (ما هُوَ أعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ: {إنّ اللّه لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} وإذَا قال اللّه لشيءٍ عَظِيمٌ فهَوُ عَظِيم). قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بهذه الاَية المهاجرين دون الأعراب. وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار اللّه أو أخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضا، فإذا كان صحيحا وعد اللّه من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له، وكان الخبران اللذان ذكرناهما عنه صلى اللّه عليه وسلم صحيحين، كان غير جائز إلا أن يكون أحدهما مجملاً والاَخر مفسرا، إذ كانت أخباره صلى اللّه عليه وسلم يصدّق بعضها بعضا. وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن خبر أبي هريرة معناه: إن الحسنة لتضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألف حسنة، وللأعراب منهم عشر أمثالها، على ما رَوَى ابن عمر عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم¹ وأن قوله: {مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا} يعني: من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم يضاعف له، ويؤته اللّه من لدنه أجرا، يعني: يعطه من عنده أجرا عظيما، يعني: عوضا من حسنته عظيما. وذلك العوض العظيم: الجنة¹ كما: ٧٦٢٨ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا صدقة بن أبي سهل، قال: حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، عن ابن مسعود: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما}: أي الجنة يعطها. ٧٦٢٩ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عباد بن أبي صالح، عن سعيد بن جبير، قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} قال: الأجر العظيم: الجنة. ٧٦٣٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما} قال: أجرا عظيما: الجنة. |
﴿ ٤٠ ﴾