٤٦القول في تأويل قوله تعالى: {مّنَ الّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ ...}. ولقوله جلّ ثناؤه: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون معناه: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا يحرّفون الكلم. فيكون قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا} من صلة (الذين). وإلى هذا القول كانت عامة أهل العربية من أهل الكوفة يوجهون. قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ}. والاَخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يحرّف الكلم عن مواضعه. فتكون (من) محذوفة من الكلام اكتفاء بدلالة قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا} عليها، وذلك أن (مِن) لو ذكرت في الكلام كانت بعضا لـ (مَنْ)، فاكتفى بدلالة (مِنْ) عليها، والعرب تقول: منا من يقول ذلك، ومنا لا يقوله، بمعنى: منا من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله، فتحذف (من) اكتفاء بدلالة من عليه، كما قال ذو الرمة: فَظَلّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُوآخَرُ يُذْرِي دَمْعَةَ العْينِ بالمَهْلِ يعني: ومنهم من دمعه. وكما قال اللّه تبارك وتعالى: {وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}، وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجهون تأويل قوله: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ} غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك (القوم)، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة: كأنّكَ مِنْ جِمالِ بني أُقَيْشٍيُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيهِ بِشَنّ يعني: كأنك جمل من جمال أقيشٍ. فأما نحويو الكوفة، فينكرون أن يكون المضمر مع (مِن) إلا (مَن) أو ما أشبهها. والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك قول من قال قوله: {مِنَ الذِينَ هادُوا} من صلة الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، لأن الخبرين جميعا والصفتين من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصف اللّه صفتهم في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ}. وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام إذ كان الأمر كذلك إلى أن يكون فيه متروك. وأما تأويل قوله: {يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فإنه يقول: يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله، والكلم جماع كلمة. وكان مجاهد يقول: عنى بالكلم: التوراة. ٧٧٤٩ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}: تبديل اليهود التوراة. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأما قوله: {عَنْ مَوَاضِعِهِ} فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه. وأما تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا يا محمد قولك، وعصينا أمرك. كما: ٧٧٥٠ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد، في قوله: {سَمِعْنا وَعَصَيْنا} قال: قالت اليهود: سمعنا ما تقول، ولا نطيعك. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٧٧٥١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {سَمعنا وَعَصَيْنا} قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك. القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}. وهذا خبر من اللّه جل ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالى مهاجَر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عصره، أنهم كانوا يسبون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يسبه: اسمع لا أسمعك اللّه . كما: ٧٧٥٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة ما يقول الإنسان: اسمع لاسمعت، أذى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وشتما له واستهزاء. ٧٧٥٣ـ حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: يقولون لك: واسمع لاسمعت. وقد رُوي عن مجاهد والحسن أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك. ولو كان ذلك معناه لقيل: واسمع غير مسموع، ولكن معناه: واسمع لاتسمع، ولكن قال اللّه تعالى ذكره: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم والطعن في الدين بسبّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم. وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} يقول: غير مقبول ما تقول، فهو كما: ٧٧٥٤ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: غير مستمع. قال ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ}: غير مقبول ما تقول. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٧٧٥٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} قال: كما تقول: اسمع غير مسموع منك. ٧٧٥٦ـ وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: كان ناس منهم يقولون: {وَاسمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ} كقولك: اسمع غير صاغ. القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ}. يعني بقوله: {وَرَاعِنا}: أي راعنا سمعك، افهم عنا وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في سورة البقرة بأدلته بما فيه الكفاية عن إعادته. ثم أخبر اللّه جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} يعني: تحريكا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، واستخفافا منهم بحقّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم {وَطَعْنا فِي الدّين}. كما: ٧٧٥٧ـ حدثني الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم: راعنا سمعك! يستهزئون بذلك، فكانت اليهود قبيحة، فقال: راعنا سمعك ليّا بألسنتهم¹ والليّ: تحريكهم ألسنتهم بذلك، {وطَعْنا في الدّينِ}. ٧٧٥٨ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {رَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك! يلوي بذلك لسانه، يعني: يحرّف معناه. ٧٧٥٩ـ حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {مِنَ الّذِينَ هادُوا يُحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}.. إلى: {وَطَعْنا فِي الدّينِ} فإنهم كانوا يستهزئون ويلوون ألسنتهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويطعنون في الدين. ٧٧٦٠ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وَرَاعِنا لَيّا بألْسِنَتِهِمْ وَطَعْنا فِي الدّينِ} قال: (راعنا) طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه ويكذبوه قال: والراعن: الخطأ من الكلام. ٧٧٦١ـ حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، أبو روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله: {لَيّا بألْسِنَتِهِمْ} قال: تحريفا بالكذب. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ وأقُوَمَ}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف اللّه صفتهم قالوا لنبيّ لله: سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند اللّه ، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا، {لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وأَقْوَمَ} يقول: لكان ذلك خيرا لهم عند اللّه وأقوم، يقول: وأعدل وأصوب في القول. وهو من الاستقامة من قول اللّه : {وَأقْوَمَ قِيلاً} بمعنى: وأصوب قيلاً. كما: ٧٧٦٢ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَلَوْ أنّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وَاسمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْرا لَهُمْ} قال: يقولون: اسمع منا فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا فلا تعجل علينا. ٧٧٦٣ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد، قوله: {وَانظُرْنا} قال: اسمع منا. ٧٧٦٤ـ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: {وَانْظُرْنا} قال: أفهمنا. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَانْظُرْنا} قال: أفهمنا. قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة من توجيههما معنى: {وَانْظُرْنا} إلى: اسمع منا، وتوجيه مجاهد ذلك إلى: أفهمنا، ما لا نعرف في كلام العرب، إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى أفهمنا: انتظرنا نفهم ما تقول، أو انتظرنا نقل حتى تسمع منا، فيكون ذلك معنى مفهوما وإن كان غير تأويل الكلمة ولا تفسير لها، فلا نعرف (انظرنا) في كلام العرب إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا، فأما (انظرنا) بمعنى انتظرنا، فمنه قول الحطيئة: وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ لَوْ أنّ دِرّتَكُمْيَوْما يَجِيءُ بِها مَسْحِي وَإبْساسِي وأما انظرنا بمعنى: انظر إلينا، فمنه قول عبد اللّه بن قيس الرقيات: ظاهِرَاتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْنَ كمَا يَنْظُرُ الأرَاكَ الظّباءُ بمعنى كما ينظر إلى الأراك الظباء. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً}. يعني بذلك: ولكن اللّه تبارك وتعالى أخزى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الاَية فأقصاهم وأبعدهم من الرشد، واتباع الحقّ بكفرهم، يعني بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات {فلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً} يقول: فلا يصدّقون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرّون بنبوّته إلا قليلاً، يقول: لا يصدّقون بالحقّ الذي جئتهم به يا محمد إلا إيمانا قليلاً. كما: ٧٧٦٥ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً} قال: لا يؤمنون هم إلا قليلاً. وقد بينا وجه ذلك بعلله في سورة البقرة. |
﴿ ٤٦ ﴾