٤٩

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرّئونها من الذنوب، ويطرونها.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها،

فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم: {نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُه}. ذكر من قال ذلك:

٧٧٨٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتيلاً} وهم أعداء اللّه اليهود زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه،

فقالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، و

قالوا: لا ذنوب لنا.

٧٧٨٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: هم اليهود والنصارى،

قالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ}

وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانع هُودا أوْ نَصَارَى}.

٧٧٨٤ـ وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك ، قال: قالت يهود: ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون، فإن كات لهم ذنوب، فإن لنا ذنوبا، فإنما نحن مثلهم، قال اللّه تعالى ذكره: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّه الكَذِبَ وكَفَى بِهِ إثما مُبِينا}.

٧٧٨٥ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: قال أهل الكتاب: {لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَن كانَ هُودا أوْ نَصَارَى}

وقالوا: {نَحْنُ أبْناءُ اللّه وأحِبّاؤُهُ}

وقالوا: نحن على الذي يحبّ اللّه . فقال تبارك وتعالى: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء اللّه وأحباؤه وأهل طاعته.

٧٧٨٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُم بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} نزلت في اليهود،

قالوا: إنا نعّلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كُفّر عنا بالليل.

وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإماتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم. ذكر من قال ذلك:

٧٧٨٧ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: يهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد، قال: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك تزكية. قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى.

٧٧٨٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ} قال: نزلت في اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم يقولون: ليست لهم ذنوب.

٧٧٨٩ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، في قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} قال: كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم، يقولون ليس لهم ذنوب، فأنزل اللّه : {ألَمْ تَرع إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ}.. الاَية.

وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم كات قولهم: إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩٠ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ} وذلك أن اليهود

قالوا: إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند اللّه ، وسيشفعون ويزكوننا. فقال اللّه لمحمد: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ}.. إلى {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.

وقال آخرون: بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩١ـ حدثني فيحيـى بن إبراهيم المسعودي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قال عبد اللّه : إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا، ف

يقول: واللّه إنك لذيت وذيت، ولعلّه أن يرجع، ولم يحل من حاجته بشيء، وقد أسخط اللّه عليه. ثم قرأ: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ}.. الاَية.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى تزكية القوم الذين وصفهم اللّه بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء وأحباء، كما أخبر اللّه عنهم أنهم كانوا يقولونه، لأنه ذلك هو أظهر معانيه لإخبار اللّه عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها.

وأما الذين قالوا: معنى ذلك: تقديمهم أطفالهم للصلاة، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلموأما قوله جلّ ثناؤه: {بَلِ اللّه يُزَكّي مَنْ يَشاءُ} فإنه تكذيب من اللّه المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرئيها من الذنوب، يقول اللّه لهم: ما الأمر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وإنكم برآء مما يكرهه اللّه ، ولكنكم أهل فرية وكذب على اللّه ، وليس المزكي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه اللّه ، واللّه يزكي من يشاء من خلقه، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معصاصيه إلى ما يرضاه من طاعته.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جلّ ثناؤه: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّه الكَذِبَ} وأخبر أنهم يفترون على اللّه الكذب بدعواهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وأن اللّه قد طهرهم من الذنوب.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.

يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولا يظلم اللّه هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه، فيوفقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه¹ كل ذلك إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلاً.

واختلف أهل التأويل في معنى (الفتيل)،

فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالأخرى. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩٢ـ حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الفتيل: ما خرج من بين أصبعيك.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التيمي، قال: سألت ابن عباس، عن قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: ما فتلت بين أصبعيك.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن زيد بن درهم أبي العلاء، قال: سمعت أبا العالية، عن ابن عباس: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} والفتيل: هو أن تدلك بين أصبعيك، فما خرج بينهما فهو ذلك.

٧٧٩٣ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: خبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: الوسخ الذي يخرج من بين الكفين.

٧٧٩٤ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ، قال: الفتيل: ما فتلت به يديك فخرج وسخ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما.

وأناس يقولون: الذي يكون في بطن النواة. ذكر من قال ذلك:

٧٧٩٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، قوله: {فَتِيلاً} قال: الذي في بطن النواة.

٧٧٩٦ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني طلحة بن عمرو، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول، فذكر مثله.

٧٧٩٧ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد اللّه بن كثير، أنه سمع مجاهدا

يقول: الفتيل: الذي في شقّ النواة.

٧٧٩٨ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفتيل: في النوى.

٧٧٩٩ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: الذي في شقّ النواة.

٧٨٠٠ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ

يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك

يقول: الفتيل: شِقّ النواة.

٧٨٠١ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الفتيل: الذي في بطن النواة.

٧٨٠٢ـ حدثني يحيـى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك ، قال: الفتيل: الذي يكون في شقّ النواة.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}: فتيل النواة.

٧٨٠٣ـ حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرّة، عن عطية، قال: الفتيل: الذي في بطن النواة.

قال أبو جعفر: وأصل الفتيل: المفتول، صرف من فمفعول إلى فعيل، كما قيل: صريع ودهين من مصروع ومدهون. وإذ كان ذلك كذلك، وكان اللّه جل ثناؤه إنما قصد بقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقلّ الأشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر، وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى، كالذي هو في شقّ النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له ولا قيمة، فواجب أن يكون كل ذلك داخلاً في معنى الفتيل، إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دلّ عليه ظاهر التنزيل.

﴿ ٤٩