٩٤القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ...}. يعني جل ثناؤه بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: يا أيها الذين صدّقوا اللّه صدّقوا رسوله، فيما جاءهم به من عند ربهم¹ {إذا ضَرَبْتُمْ فِي سبِيل اللّه } يقول: إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم {فَتَبَيّنُوا} يقول: فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله. {وَتَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ} يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم، {لَسْتَ مُؤْمِنا} فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا، يقول: طلب متاع الحياة الدنيا، فإن عند اللّه مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه، فهي خير لكم إن أطعتم اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه، فالتمسوا ذلك من عنده {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} يقول: كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمنا فقتلتموه، كذلك أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز اللّه دينه بتباعه وأنصاره، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذرا على نفسه منهم. إن معنى قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} كنتم كفارا مثلهم. {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} يقول: فتفضل اللّه عليكم باعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه. فمنّ اللّه عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام. {فَتَبَيّنُوا} يقول: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه، فلعلّ اللّه أن يكون قد منّ عليه من الإسلام بمثل الذي منّ به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان. {إنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} يقول: إن اللّه كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء اللّه وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم {خَبِيرا} يعني: ذا خبرة وعلم به، يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازي جيمعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسيء باساءته. وذكر أن هذه الاَية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما قال: إني مسلم، أو بعد ما شهد شهادة الحقّ، أو بعد ما سلم عليهم، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه. ذكر الرواية والاَثار بذلك: ٨١٦٣ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، أن ابن عمر، قال: بعث النبيّ صلى اللّه عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله. فجاء الخبر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول اللّه سُنّ اليوم وغيّر غدا! فقال عيينة: لا واللّه حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي! فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول اللّه ليستغفر له، فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (لا غَفَرَ اللّه لَكَ)فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض. فجاءوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال: (إنّ الأرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنّ اللّه جَلّ وَعَزّ أرَادَ أنْ يَعِظَكُمْ). ثم طرحوه بين صَدَفَيْ جبل، وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّه فَتَبَيّنُوا}.. الاَية. ٨١٦٤ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن القعقاع بن عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد اللّه بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعُود له معه مُتَيّع له ووَطْب من لبن. فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان وبينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتيّعه، فلما قدمنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّه فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لَمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا}.. الاَية. حدثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه بنحوه. ٨١٦٥ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً في غُنَيْمة له، فقال: السلام عليكم! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت هذه الاَية: {وَلا تَقولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنْيا} تلك الغُنيْمة. حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، بنحوه. حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو سمع عطاء، عن ابن عباس، قال: لحق المسلمون رجلاً، ثم ذكر مثله. ٨١٦٦ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في غنم له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا}.. إلى آخر الاَية. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبيد اللّه ، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، مثله. ٨١٦٧ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم بالإسلام ويؤمن باللّه والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سرّية محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبر بها حيه ـ يعني قومه ففرّوا، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم، فيلقى إليهم السلام، فيقول المؤمنون: لست مؤمنا! وقد ألقى السلام، فيقتلونه، فقال اللّه جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل اللّه فَتَبَيّنُوا}... إلى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا} يعني: تقتلونه إرادة أن يحلّ لكم ماله الذي وجدتم معه، وذلك عرض الحياة الدنيا، فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل اللّه . وهو رجل اسمه مرداس جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها رجل من بني ليث اسمه قليب، ولم يجامعهم إذا لقيهم مرداس، فسلم عليهم فقتلوه، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأهله بديته وردّ إليهم ماله ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. ٨١٦٨ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا}.. الاَية، قال: هذا الحديث في شأن مرداس رجل من غطفان¹ ذكر لنا أن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث جيشا عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك، وبه ناس من غطفان وكان مرداس منهم، ففرّ أصحابه، فقال مرداس: إني مؤمن وإني غير متبعكم! فصّبحته الخيل غدوة، فلما لقوه سلم عليهم مرداس، فتلقوه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتلوه، وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل اللّه جلّ وعزّ في شأنه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يحيـى بعضهم بعضا. ٨١٦٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياةِ الدّنْيا}.. الاَية قال: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلاً منهم يُدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ! فشدّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبّ أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدّثون النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ويقولون: يا رسول اللّه لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فشدّ عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: (كَيْفَ أنْتَ وَلا إلَهَ إلاّ اللّه )؟ قال: يا رسول اللّه إنما قالها متعوّذا، تعوّذ بها. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (هَلا شقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ إلَيْهِ؟) قال: يا رسول اللّه إنما قلبه بَضْعَة من جسده. فأنزل اللّه عزّ وجلّ خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا} فلما بلغ: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} يقول: فتاب اللّه عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا اللّه ، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه. ٨١٧٠ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} قال: بلغني أن رجلاً من المسلمين أغار على رجل من المشركين، فحمل عليه، فقال له المشرك: إني مسلم، أشهد أن لا إله إلا اللّه ! فقتله المسلم بعد أن قالها، فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقال للذي قتله: (أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ قَالَ لا إله إلا اللّه ؟) فقال وهو يعتذر: يا نبيّ اللّه إنما قالها متعوّذا وليس كذلك. فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (فَهَلاّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟) ثم مات قاتل الرجل فقبر، فلفظته الأرض، فذكر ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فأمرهم أن يقبروه، ثم لفظته الأرض، حتى فعل به ذلك ثلاث مرّات، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: (إنّ الأرْضَ أبَتْ أنْ تَقْبَلَهُ فَألْقوهُ فِي غارٍ مِنَ الغِيرَانِ). قال معمر: . وقال بعضهم: إن الأرض تقبل من هو شرّ منه، ولكن اللّه جعله لكم عبرة. ٨١٧١ـ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قوما من المسلمين لقوا رجلاً من المشركين في غُنَيْمة له، فقال: السلام عليكم إني مؤمن! فظنوا أنه يتعوّذ بذلك، فقتلوه، وأخذوا غنيمته قال: فأنزل اللّه جلّ وعزّ: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنيْا} تلك الغنيمة¹ {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُوا}. ٨١٧٢ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيّنُوا} قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: فمرّوا برجل في غُنَيمة له، فقال: أني مسلم! فقتله المقداد. فلما قدموا ذكروا ذلك للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الاَية: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا} قال: الغنيمة. ٨١٧٣ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء ـ فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً}، ثم قال في الخبر ـ : ونزل الفرقان: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا إلاّ خَطأً} فقرأ حتى بلغ: {لَسْتَ مُؤْمِنا تَبْتَغُونَ عَرَض الحَياةِ الدّنيْا} غنمه التي كانت عرض الحياة الدنيا، {فَعِنْدَ اللّه مَغانِمُ كَثِيرةٌ} خير من تلك الغنم، إلى قوله: {إنّ اللّه كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا}. ٨١٧٤ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} قال: راعي غنم، لقيه نفر من المؤمنين، فقتلوه وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه: (السلام عليكم، فإني مؤمن). ٨١٧٥ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمْ السّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنا} قال: حرّم اللّه على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا اللّه لست مؤمنا، كما حرّم عليهم الميتة، فهو آمن على ماله ودمه، ولا تردّوا عليه قوله. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {فَتَبَيّنُوا} فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين: {فَتَبَيّنُوا} بالباء والنون من التبين، بمعنى: التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح. وقرأ ذلك عظم قرّاء الكوفيين: (فَتَثَبّتُوا) بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة. والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ، لأن المتثبت متبين، والمتبين متثبت، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُم السّلام} فقرأ ذلك عامة قرّاء المكيين والمدنيين والكوفيين (السّلَمَ) بغير ألف، بمعنى الاستسلام، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: {السّلامَ} بألف، بمعنى التحية. والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السّلَمَ) بمعنى: من استسلم لكم مذعنا لله بالتوحيد مقرّا لكم بملتكم. وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك، فمن راوٍ روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحقّ وقال: إني مسلم¹ ومن راو روى أنه قال: السلام عليكم، فحياهم تحية الإسلام، ومن راو روى أنه كان مسلما بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه. وكل هذه المعاني يجمعها السلم، لأن المسلم مستسلم، والمحّيـي بتحية الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحقّ مستسلم لأهل الإسلام، فمعنى السّلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الاَية، وليس كذلك في السلام، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية، فلذلك وصفنا السّلم بالصواب. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفيا في قومه بدينه خوفا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرا على أنفسكم منهم، فمنّ اللّه عليكم. ذكر من قال ذلك: ٨١٧٦ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللّه بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: {كَذِلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تكتمون إيمانكم في المشركين. وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافرا كنتم كفارا، فهداه كما هداكم. ذكر من قال ذلك: ٨١٧٧ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} كفارا مثله، {فَتَبَيّنُوا}. وأولى هذين القولين بتأويل الاَية القول الأوّل، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين، مستخفيا بدينه منهم. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب، لأن اللّه عزّ ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلام، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوّذا منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركا، فيقال: كما كان كافرا كنتم كفارا¹ بل لا وجه لذلك، لأن اللّه جل ثناؤه لم يعاتب أحدا من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله. واختلف أيضا أهل التأويل في تأويل قوله: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} فقال بعضهم: معنى ذلك: فمنّ اللّه عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك. ذكر من قال ذلك: ٨١٧٨ـ حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} فأظهر الإسلام. وقال آخرون: معنى ذلك: فمنّ اللّه عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه. ذكر من قال ذلك: ٨١٧٩ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} يقول: تاب اللّه عليكم. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ما وصفنا قبل، فالواجب أن يكون عقيب ذلك: {فَمَنّ اللّه عَلَيْكُمْ} فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به، من توحيده وعبادته، حذرا من أهل الشرك. |
﴿ ٩٤ ﴾