٩٥

القول في تأويل قوله تعالى: {لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ}: لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل اللّه من أهل الإيمان باللّه وبرسوله، المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الأسفار والسير في الأرض ومشقة ملاقاة أعداء اللّه بجهادهم في ذات اللّه وقتالهم في طاعة اللّه ، إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل اللّه والمجاهدون في سبيل اللّه ، ومنهاج دينه، لتكون كلمة اللّه هي العليا، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء اللّه وأعداء دينهم بأموالهم، إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان باللّه وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة اللّه العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة.

واختلفت القراء في قراءة قوله: {غيرَ أُولي الضّرَرِ}¹ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة ومكة والشام: {غيرَ أُولي الضّرَرِ} نصبا، بمعنى: إلا أولي الضرر. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة: {غيرُ أُولي الضّرَرِ} برفع (غيرُ) على مذهب النعت للقاعدين.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (غيرَ أُولي الضّرَرِ) بنصب غيرَ، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ) نزل بعد قوله: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ} استثناء من قوله: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ}. ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك:

٨١٨٠ـ حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ائْتُونِي بالكَتِفِ وَاللّوْحِ)! فَكَتبَ: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ} وعمرو بن أمّ مكتوم خلف ظهره،

فقال: هل لي من رخصة يا رسول اللّه ؟ فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو كبر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} جاء ابن أمّ مكتوم وكان أعمى،

فقال: يا رسول اللّه كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله: (لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ) قال: لما نزلت جاء عمرو بن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وكان ضرير البصر،

فقال: يا رسول اللّه ما تأمرني، فإني ضرير البصر؟ فأنزل اللّه هذه الاَية،

فقال: (ائتُونِي بالكَتفِ والدّوَاةِ، أوِ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ).

حدثني محمد بن إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن المغيرة، قال: حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء أنه لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} كلمه ابن أمّ مكتوم، فأنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبو إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الاَية: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } قال: فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيدا، فجاء بكتف فكتبها، قال: فشكى إليه ابن أمّ مكتوم ضَرَارَتَهُ، فنزلت: (لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضّرَرِ).

قال شعبة: وأخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد في هذه الاَية: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ} مثل حديث البراء.

٨١٨١ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان الشيباني، عن ابن إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } جاء ابن أمّ مكتوم،

فقال: يا رسول اللّه مالي رخصة؟ قال: (لا)قال: ابن أمّ مكتوم: اللهمّ إني ضرير فرخّص! فأنزل اللّه : (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ)، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكتبها، يعني الكاتب.

٨١٨٢ـ حدثني محمد بن عبد اللّه بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد، قال: رأيت مروان بن الحكم جالسا، فجئت حتى جلست إليه، فحدثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنزل عليه: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمِجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } قال: فجاء ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ،

فقال: يا رسول اللّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت! قال: فأنزل عليه وفخذه على فخذي، فثقلت، فظننت أن ترضّ فخذي، ثم سُرّي عنه،

فقال: (غَيْرَ أُولي الضّرَرِ).

٨١٨٣ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة ابن ذؤيب، عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (اكْتُبْ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللّه )! فجاء عبد اللّه بن أمّ مكتوم،

فقال: يا رسول اللّه إني أحبّ الجهاد في سبل اللّه ، ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيد: فثقلت فخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يرضها، ثم قال: (اكْتُبْ: لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ).

٨١٨٤ـ حدثنا الحسن بن يحيـى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم: أن مقسما مولى عبد اللّه بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره، قال: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر.

٨١٨٥ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا حسين، قال: ثني حجاج، قال: أخبرني عبد الكريم أنه سمع مقسما يحدّث عن ابن عباس أنه سمعه

يقول: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر. لما نزلت غزوة بدر، قال عبد اللّه بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي: يا رسول اللّه ، إننا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فنزلت:

(لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ فَضّل اللّه المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً).

٨١٨٦ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ} فسمع بذلك عبد اللّه بن أمّ مكتوم الأعمى، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: يا رسول اللّه ، قد أنزل اللّه في الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد، فهل لي من رخصة عند اللّه إن قعدت؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما أُمِرْتُ فِي شأْنِكَ بِشَيءٍ وَما أدْري هَلْ يَكُونُ لَكَ ولأصحَابِكَ مِنْ رُخْصَةٍ!) فقال ابن أمّ مكتوم: اللهمّ إني أنشدك بصري! فأنزل اللّه بعد ذلك على رسوله صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّه )... إلى قوله: {على القاعِدِينَ دَرَجَةً}.

٨١٨٧ـ حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد، قال: نزلت: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه } فقال رجل أعمى: يا نبيّ اللّه فأنا أحبّ الجهاد ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَرَ).

٨١٨٨ـ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عبد اللّه بن شداد، قال: لما نزلت هذه الاَية في الجهاد: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} قال عبد اللّه بن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إني ضرير كما ترى! فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

٨١٨٩ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر} عذر اللّه أهل العذر من الناس،

فقال: (غَيْرَ أُولي الضّرَر) كان منهم ابن أمّ مكتوم، {وَالمجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّه بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ}.

٨١٩٠ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدّي: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّه }.. إلى قوله: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى} لما ذكر فضل الجهاد، قال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إني أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل اللّه فيه: (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

٨١٩١ـ حدثني المثنى، قثال: حدثنا محمد بن عبد اللهالنفيلي، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: (ادْعُ لي زَيْدا وَقُلْ لَهُ يَأْتِي ـ أوْ يَجِيـىءُ بالكَتِف والدّوَاة ـ أو اللّوْح والدّواة، الشكّ من زهير اكتب: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّه }) فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إن بعينيّ ضررا! فنزلت قبل أن يبرح (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد اللّه بن رجاء البصري، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه، إلا أنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ادْعُ لي زَيْدا وَلْيَجِئْني مَعَهُ بِكَتفٍ وَدَوَاةٍ، أو لَوْحٍ وَدَوَاةٍ).

٨١٩٢ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن، قال: لما نزلت: {لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ} قال عمرو بن أمّ مكتوم: يا ربّ ابتليتني فكيف أصنع؟ فنزلت: (غَيْرَ أُولي الضّرَر).

وكان ابن عباس يقول في معنى: (غَيْرَ أُولي الضّرَر) نحوا مما قلنا.

٨١٩٣ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قا: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله: (غَيْرَ أُولي الضّرَر) قال: أهل الضرر.

القول في تأويل قوله تعالى: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً} فضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة، يعني فضيلة واحدة، وذلك بفضل جهاد بنفسه، فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان. كما:

٨١٩٤ـ حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك أنه سمع ابن جريج يقول في: {فَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً} قال: على أهل الضرر.

القول في تأويل قوله: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعدِينَ أجْرا عَظيما}.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى}: وعد اللّه الكلّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى. ويعني جل ثناؤه بالحسنى: الجنة¹ كما:

٨١٩٥ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {وكُلاّ وَعَدَ اللّه الحُسْنَى} وهي الجنة، واللّه يؤتي كلّ ذي فضل فضله.

٨١٩٦ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: قال: الحسنى: الجنة.

وأما قوله: {وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما} فإنه يعني: وفضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما. كما:

٨١٩٧ـ حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: {وَفَضّلَ اللّه المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه وَمَغْفِرَةً} قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.

﴿ ٩٥