١٠٦

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ...}.

يعني جل ثناؤه بقوله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }: إنا أنزلنا إليك يا محمد الكتاب، يعني القرآن، {لتَحْكُمَ بَيْنَ النَاسِ} لتقضي بين الناس، فتفصل بينهما {بِما أرَاكَ اللّه } يعني: بما أنزل اللّه إليك من كتابه. {وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصيما}

يقول: ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله، خصيما تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه. {واسْتَغْفِرِ اللّه } يا محمدُ وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره. {إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما}

يقول: إن اللّه لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنن بتركه عقوبتهم عليها، إذا استغفروه منها، رحيما بهم، فافعل ذلك أنت يا محمد، يغفر اللّه لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن. وقد قيل إن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه همّ بذلك، فأمره اللّه بالاستغفار مما همّ به من ذلك. وذكر أن الخائنين الذين عاتب اللّه جل ثناؤه نبيه صلى اللّه عليه وسلم في خصومته عنهم بنو أُبَيْرِق.

واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه فوصفه اللّه بها،

فقال بعضهم: كانت سرقة سرقها. ذكر من قال ذلك:

٨٣١٠ـ حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول اللّه : {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }.. إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّه } فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق ودرعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبيّ: اعذره في الناس بلسانك! ورمَوا بالدرع رجلاً من يهود بريئا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

٨٣١١ـ حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني، قال: حدثنا محمد بن سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بِشر وبُشَير مبشّر، وكان بشير رجلاً منافقا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم

يقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشعر،

قالوا: واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث،

فقال:

أوَ كُلّما قالَ الرّجالُ قَصِيدَةًأضِمُوا وقالُوا ابنُ الأبَيْرِقِ قالَهَا

قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام بالدّرمك، ابتاع الرجل منهم، فخصّ به نفسه، فأما العيال: فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك، فجعله في مشرَبة له، وفي المشربة سلاح له: درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فَعُدي عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعّلمْ أنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا

قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم

قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهم! رجل منا له صلاح وإسلام. فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق فقال: واللّه ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة!

قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فواللّه ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشكّ أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول اللّه ، إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (سأنْظُرُ في ذلك). فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقالوا: يا رسول اللّه ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثَبَت. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمته،

فقال: (عَمَدْتَ إلى أهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بالسّرِقَةِ على غيرِ بَيّنَةٍ وَلا ثَبَتٍ!)

قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة،

فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: اللّه المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} يعني: بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِر اللّه } أي مما قلت لقتادة، {إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} أي بني أبيرق {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ}.. إلى قوله: {ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّه ، يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما}: أي أنهم إن يستغفروا اللّه يغفر لهم، {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا} قولهم للبيد: {وَلَوْلا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ} يعني أسيرا وأصحابه. {وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}.. إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}، فلما نزل القرآن أتِيَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسلاح، فردّه إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً¹ فلما أتيته بالسلاح، قال: يا ابن أخي، هو في سبيل اللّه

قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سهل، فأنزل اللهفيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}.. إلى قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ باللّه فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا}. فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر. فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمته بالأبطح، ثم قالت: أهديت إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير.

٨٣١٢ـ حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }

يقول: بِمَا أنزل اللّه عليك وبيّن لك، {وَلا تَكُنْ للْخائِنِينَ خَصِيما} فقرأ إلى قوله: {إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}. ذكر لنا أن هؤلاء الاَيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما همّ به نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عذره، وبين اللّه شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه صلى اللّه عليه وسلم وحذّره أن يكون للخائنين خصيما. وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار، ثم أحد بني ظَفَر، سرق درعا لعمه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهوديّ كان يغشاهم، يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبيّ اللّه عليه الصلاة والسلام قد همّ بعُذره، حتى أنزل اللّه في شأنه ما أنزل،

فقال: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {ها أنْتُمْ هؤلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يُجادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ} يعني بذلك قومه، {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَريئا فَقَد احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}، وكان طعمة قذف بها بريئا. فلما بين اللّه شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل اللّه في شأنه: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِينَ نُوَلّه ما تَوَلىّ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَساءَتْ مَصِيرا}.

٨٣١٣ـ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاس بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما} وذلك أن نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأَظَنّ بها رجلاً من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأُتي به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما رأى السارق ذلك، عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً،

فقالوا: يا نبيّ اللّه إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أُحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك! فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل اللّه : {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما}

يقول: احكم بينهم بما أنزل اللّه إليك في الكتاب، {واسْتَغْفِرِ اللّه إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}... الاَية،

ثم قال للذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلاً: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه }... إلى قوله: {أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين بالكذب. ثم قال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا} يعني: السارق والذين يجادلون عن السارق.

٨٣١٤ـ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }.. الاَية

قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وطرحه على يهوديّ، فقال اليهوديّ: واللّه ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيران يبرّئونه ويطرحونه على اليهوديّ ويقولون: يا رسول اللّه ، إن هذا اليهوديّ الخبيث يكفر باللّه وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه اللّه عزّ وجلّ في ذلك،

فقال: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما واسْتِغْفِرِ اللّه } بما قلت لهذا اليهوديّ، {إنّ اللّه كانَ غَفورا رَحِيما}.

ثم أقبل على جيرانه فقال: {ها أنُتمْ هؤُلاءِ جادَلُتمْ عنهُمْ في الحياةِ الدّنيَا} فقرأ حتى بلغ: {أمّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.

قال: ثم عرض التوبة فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّه يَجِد اللّه غَفُورا رَحِيما وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه. {وكانَ اللّه عَلِيما حَكِيما وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْم بِهِ بَرِيئا} وإن كان مشركا. {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا} فقرأ حتى بلغ إلى قوله: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى}

قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض اللّه له. وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتا ليسرقه، فهدمه اللّه عليه فقتله¹ فذلك قوله: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسولَ مِنْ بَعِدِ ما تَبِيّنَ لَهُ الهُدَي} فقرأ حتى بلغ: {وَساءَتْ مَصِيرا}. ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلاً في بني ظفر.

وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف اللّه بها من وصفه بقوله: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصيما} جحوده وديعة كان أُودِعَها. ذكر من قال ذلك:

٨٣١٥ـ حدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السديّ: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما}

قال: أمّا (ما أراك اللّه ): فما أوحي اللّه إليك¹ قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، واستودعه رجل من اليهود درعا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها، فخالف إليها طعمة، فاحتفر عنها، فأخذها. فلما جاء اليهوديّ يطلب درعه كَافَرَهُ عنها، فانطلق إلى ناس من اليهود من عشيرته،

فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف وضع الدرع! فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلما تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه، فسبوه، وقال: أتخوّنونني؟ فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليل. وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي، فإني إن أُكّذب كذب على أهل المدينة اليهودي. فأتاه أناس من الأنصار

فقالوا: يا رسول اللّه جادل عن طعمة وأَكْذِب اليهودي! فهمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل، فأنزل اللّه عليه: {وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِر اللّه } مما أردت {إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحِيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنّ اللّه لا يُحِبّ مَنْ كانَ خَوّانا أثِيما}. ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه،

فقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ}

يقول: يقولون ما لا يرضى من القول، {ها أنُتمْ هؤلاء جَادلتمْ عَنهمْ في الحياة الدّنيْا فمنْ يجادِلُ اللّه عَنهمْ يومَ القيامةِ}. ثم دعا إلى التوبة،

فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِر اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما}.

ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليل فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ... وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وإثْما مُبِينا}.

ثم ذكر الأنصار وإتيانهم إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله: {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَك مِنْ شَيْءٍ وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}

يقول: النبوّة.

ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة،

فقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاس}. فلما فضح اللّه طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه. ونزل على الحجاج بن علاط السلمي، فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقة جلود كانت عنده، فنظر فإذا هو بطعمة،

فقال: ضيفي وابن عمي وأردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرّة بني سليم كافرا، وأنزل اللّه فيه: {وَمَنْ يُشاقِق الرّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبيّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيل المُؤْمِنِنَ نُوَلّه ما تَوَلى}.. إلى: {وَساءَتْ مَصِيرا}.

٨٣١٦ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشرُبه له فيها درع، وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاريّ فتح مشربته فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمي بها رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين. فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه¹ فلما رأى ذلك قومه أتوا النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقّ لِتَحْكُمْ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه وَلا تَكُنْ للخائِنِينَ خَصِيما وَاسْتَغْفِرِ اللّه إنّ اللّه كانَ غَفُورا رَحيما وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ}

يعني طعمة بن أبيرق وقومه، {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فَمَنْ يِجادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أمّنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً} محمد صلى اللّه عليه وسلم وقوم طعمة.

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُورا رَحِيما} محمد وطعمة وقومه، قال: {وَمَنْ يَكْسِبْ إثْما فإنّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ}.. الاَية، طعمة.

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْما ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئا} يعني: زيد بن السمين، {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانا وَإثْما مُبِينا} طعمة بن أبيرق.

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمتُهُ} يا محمد، {لَهَمّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أنْ يُضِلّوكَ وَما يُضِلّونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَضُرّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} قوم طعمة ابن أبيرق.

{وأنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيما} محمد صلى اللّه عليه وسلم.

{لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ} حتى تنقضي الاَية للناس عامة.

{وَمَنْ يُشاققِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَي وَيَتّبِعْ غيرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ}.. الاَية

قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهزيّ ثم السلمي حليف لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فَلِحجَ. فلما أصبح أخرجوه من مكة، فخرج فلقي ركبا من بهراء من قضاعة، فعرض لهم،

فقال: ابن سبيل منقطع به! فحملوه حتى إذا جنّ عليه الليل عدا عليهم فسرقهم، ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات. قال ابن جريج: فهذه الاَيات كلها فيه نزلت إلى قوله: {إنّ اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} أنزلت في طعمة بن أبيرق، يقولون: إنه رَمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد اللّه الخزرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان.

٨٣١٧ـ حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: {لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }

يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الاَية في رجل من الأنصار استودع درعا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، و

قالوا: خوّنوا صاحبنا وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبيّ اللّه وازجر عنه! فقام نبيّ اللّه فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه، فأنزل اللّه بيان ذلك فقال: {إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ لِتَحْكُمَ بينَ النّاسِ بِمَا أرَاكَ اللّه }.. إلى قوله: {أم مّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} فبين اللّه خيانته. فلحق بالمشركين من أهل مكة، وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُ الهُدَى} إلى قوله: {وَساءَتْ مَصِيرا}.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الاَية قول من قال: كانت خيانته التي وصفه اللّه بها في هذه الاَية جحوده ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب¹ وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل أولى من غيره.

﴿ ١٠٦